أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العمل المشترك بين القوى اليسارية والعلمانية والديمقرطية - بيرم ناجي - الجبهة الشعبية التونسية: أسئلة مصيرية. (رسالة ثانية )















المزيد.....



الجبهة الشعبية التونسية: أسئلة مصيرية. (رسالة ثانية )


بيرم ناجي

الحوار المتمدن-العدد: 3876 - 2012 / 10 / 10 - 09:06
المحور: العمل المشترك بين القوى اليسارية والعلمانية والديمقرطية
    


لقد توجهت اليكم سابقا، و من خلال موقع "الحوار المتمدن"، بورقة مساندة نقدية حاولت فيها دراسة البيان التأسيسي الأول للجبهة و مشروع ارضيتها السياسية و أرجو ان اكون قد افدت قبل 07 أكتوبر.
و اليوم ، و بعد الاجتماع الشعبي العام الذي انعقد في قصر المؤتمرات في العاصمة و الذي يمثل الاعلان الجماهيري عن بدء الانطلاقة الفعلية للجبهة، و بعد ملاحظتي بانه لم يقع لا تعديل النداء التاسيسي و لا مشروع الأرضية السياسية ،و بعد تأمل في فحوى الخطاب السياسي في الاجتماع ،فاني أقول لكم و من القلب انني سأكون ايجابيا كما كنت في الرسالة السابقة و سأحاول أن أدفع من الداخل باتجاه التنبيه الى مايجب أن تقترب منه الجبهة، حسب رأيي المتواضع،وأرجو ألا أفهم خطأ أو أبدو مجدفا ضد التيار أو مثبطا للعزائم أو مخربا من الداخل، الخ. و لكنني سأكون قاسيا هذه المرة لأن "الذي يحب جيدا يعاقب جيدا" كما يقول المثل الفرنسي.
***

كان موقفي منذ أواخر جانفي- بداية فيفري 2011،مع مجموعة من الأصدقاء المستقلين مثلي وقتها،ان المطروح في تونس هو جبهة ديمقراطية تقدمية واسعة تدافع عن الانتقال الديمقراطي نحو جمهورية ديمقراطية مدنية و لقد وصحت هذا الأمر في نصين سابقين في "الحوار المتمدن" هما:
- "تونس:قوة ثالثة جديدة صعبة و لكنها ممكنة"، دعوت فيه الى جبهة ثالثة توحد الجبهة الشعبية الحالية بما أمكن من قوى سياسية بما فيها من يقبل من "المسار" و "الجمهوري" و "التكتل" و "المؤتمر" أنفسهم و أحزاب أخرى أخص بالذكر منها "الاصلاح و التنمية" ذي التوجه الاسلامي الديمقراطي التقدمي.
- "نحو جبهة ديمقراطية تقدمية ..." وهو اعادة صياغة و تحيين لوثيقة تقدمنا بها –أنا و بعض الأصدقاء- منذ يداية فيفري 2011 لمكونات "حبهة 14 جانفي" وقتها.و فيه أرضية ديمقراطية جمهورية مدنية لا تطر ح نفسها كأرضية ثورية بل ان شئنا اصلاحية جذرية نسبيا بينا اسبابها وقتها.
ان موقفي الأساسي من الجبهة الشعبية ينبع من مرتكزين:
*الانتماء اليساري الديمقراطي المستقل تنظيميا عن كل التنظيمات اليسارية و القومية-البعثية.
* تقييم شخصي لما وقع في تونس و لامكانيات تطويره المقدور عليها عمليا و ليس المرغوب فيها نظريا .

أيها الرفاق و الأصدقاء و الاخوة
انني أجدد تكراري لما يلي:
1-ان ما وقع في تونس ليس ثورة اجتماعية بالمعنى العلمي و السياسي الجذري للكلمة.و هذا الموقف يكاد يتفق عليه الجميع من انصار الجبهة الشعبية – وأنا منهم- بدليل انهم يريدون "استكمال مهام الثورة" و يطرحون التصدي لقوى"الثورة المضادة" و يطرحون انفسهم كبديل ثوري للترويكا الحاكمة و لحزب "نداء تونس" ،الخ. انه لم يحدث تحول ثوري يقطع مع كل النظام الاجتماعي السابق بل ان ما وقع هو انتفاضة شعبية عميقة و عامة نسبيا امتزجت بتدخل الجيش،دون هدف انجاز انقلاب عسكري، أطاحا برأس النظام الاستبدادي وفتحا المجال لتغييرات سياسية بالأساس في اتجاه المزيد من الديمقراطية.
2-ان امكانيات تطوير ما حدث في تونس باتجاه ثوري جذري محدودة جدا ان لم نقل منعدمة بسبب غياب التنظيم الجماهيري الثوري وتدني مستوى الوعي و التنظيم السياسي لدى عموم الشعب الغاضب ، المتمرد’والمنتفض دائما ولكن الذي لا يطرح مشروع الثورة بمعناها الجذري تماما و هو يكاد ينقلب حتى على المنطق الاصلاحي الجذري باتجاه المنطق الانقاذي الذي تستغله القوى السياسية الدينية لتمرير مشروع "الانقاذ الديني" و القوى الليبيرالية الجديدة لتمرير مشروع "الانقاذ الوطني". بل ان البعض وصل بهم الأمر الى تمني "الانقاذ العسكري" تجنبا للفوضى و الخراب الأمني و الانحدار الاقتصادي وقرفا من النخبة السياسية الحاكمة العاجزة عن تقديم الحلول السريعة و النماذج المحترمة من المسؤولين و غضبا من النخبة المعارضة ،بما في ذلك الجبهة الشعبية، بسبب الخطاب السياسي الجاف ،المتعالي و المتعالم البعيد عن المستوى العام الحقيقي للشعب ، و لكن ليس عن فئات هامة من شبابه و فئاته المتوسطة المثقفة طبعا.

ان هذه الوضعية أعطت لنداء تونس الفرصة التاريخية للنمو الصاروخي في الأشهر القليلة السابقة و هو ما قد يتسبب في خطر مواجهة ثأرية – و يساعد الاسلاميين ان تبدو كذلك- بين الاسلاميين و أنصار "نداء تونس". ان نداء تونس يستفيد من هذه الوضعية العامة ويوظف كاريزما الباجي قائد السبسي و تجربته كمسؤول سياسي سابق منذ الاستقلال و كرئيس وزراء المرحلة الانتقالية السابقة و يوظف خطابه المرح وغير المتشنج ( وهذا مهم عند العموم في السياسة عند الأزمات الحادة فيبعث على الأمل و يبعد عن الايحاء بالتوتر و الصدام...) و ينتبه الى مسألة الانقاذ الوطني و يقدم نفسه كمنقذ جمهوري يحافظ على المكاسب التاريخية و على الجمهورية و كموحد وطني يحافظ على "النسيج الاجتماعي" الذي يضم الجميع.
ان الجبهة الشعبية تعترف جزئيا ،و لكن بتردد ،في ندائها الأول و أرضيتها السياسية، بمسألة المخاطر المحدقة بالمكاسب التاريخية و النسيج الاجتماعي و الجمهورية و السيادة الوطنية و لكنها تتردد مضيفة فكرة "اعادة انتاج نظام التبعية و الاستبداد و الفساد" التي تطلقها على النهضة و نداء تونس في نفس الوقت. ومع انه يمكن أن تكون صياغة البييان المختصرة من ناحية و كون أرضية الجبهة هي مقترح من أطراف بعينها ،و لا تزال مسودة على ما يبدو، هي التي ورطت الجبهة في هذه الثنائية الا اننا ننبه هنا الى ان الأمر غير متناقض كليا اذا فهمنا المسألة من باب حدود ما تحققه الحركة الوطنية الاصلاحية بعد الاستقلال . ولكننا نحذر من محاولة الخروج من الازدواجية بمجرد حل لفظي، صحيح جزئيا ، غير كاف بالقول مثلا ان التبعية لا تمنع من امكانية التحقيق النضالي لبعض المكاسب الوطنية في السياسة (اقرار الاستقلال و لو كان منقوصا و الجمهورية بدل الملكية) و في الاقتصاد (فرض منوال غير ليبيرالي متطرف) و في الاجتماع (حرية هامة للمرأة) و في الثقافة( نظام تعليمي مدني متطور نسبيا) الخ.
ان الجبهة الشعبية تتميز بأنها لا تزال مع الأسف غير مدركة لهذا الأمر بالذات و هي لذلك تضع نفسها في مطبات سياسية تندد بالتبعية التي تعني عندها فقدانا تاما للاستقلال و تنادي بالدفاع عن"السيادة الوطنية" و تندد بالتبعية التي تعتبرها استبدادا مطلقا ثم تنزعج لتهديد "روح الجمهورية" و تندد بالتبعية التي تعني عندها الخضوع للأجنبي ثم تطالب بحماية "النسيج الاجتماعي" التابع و تندد بالتبعية التي تماهيها بالفساد ثم تصيح مطالبة بالمحافظة على المكتسبات التاريخية.
و لكن ، و بعيدا عن الحجاج النظري، نحن نعتبر ان هذا التردد دليل هام على حس شعبي سليم من الجبهة بالمخاطر التي تهدد فعليا الشعب التونسي و كأن الواقع فرض عن الجبهويين الاحساس بما لم تمكنهم منه النظرية الجافة عن التبعية و شبه الاستعمار و لذلك يجب نقد الازدواج التحليلي و اعادة صياغته بصفة جديدة غير اقتصادوية، فهل تقوم الجبهة بهذا؟
نريد ان ننبه الآن لمسألة نظرية تبدو لنا هامة جدا هي مسألة "الشكل" تحديدا ثم سنرجع الى بقية النقاط لاحقا.
***

تطرح كل القوى المكونة للجبهة المسألة الوطنية/ القومية كمسألة جوهرية ،و لو بصياغات و مستويات مختلفة أحيانا، و لكن لا بد من الملاحظة التالية نسوقها للجميع.
في اطار التحليل و التحريض السياسي ورد اعتباركم الاختلاف بين نداء تونس و النهضة " مجرد اختلاف شكلي بين اليمين الليبيرالي و اليمين الديني" لا يغير شيئا و ردد بعضكم العبارة الشهيرة "فخار يكسر بعضه" على اعتبار ان جوهر" نظام التبعية و الاستبداد و الفساد " سيظل هو نفسه . ان هذه الرؤية خطيرة من الناحية النظرية و قد تصبح قاتلة من الناحية السياسية العملية بقطع النظر الآن عن الموقف من نداء تونس نفسه و الذي سنأتي اليه لاحقا.
حسب هذا المنطق يوجد بين الاستعمار المباشر و غير المباشر مثلا اختلاف شكلي فقط و يوجد بين الديمقراطية البورجوازية و الفاشية اختلاف شكلي فقط لأن جوهر التبعية في المثال الأول و جوهر الرأسمالية في المثال الثاني يبقى ثابتا و نفس السمات الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية ستبقى و لن تتغير الا شكليا ، مع تغيير في "الشكل السياسي".
هذا المنطق اليساري و القومي المتطرف خاطئ نظريا و كارثي عمليا. هذا جهل بأن اختلاف الشكل لا بد أن يرتبط باختلاف جزئي في المضمون نفسه و انتم تدافعون عن الجدل في أغلبكم.ان هذا هو التحليل الشكلاني نفسه و لكن مقلوبا لا غير، وهو التحليل الذي يتصور عملية اختلاف الشكل مستقلة عن تغيرات المضمون اما الكمية و اما العلائقية بين أجزائه – ( عذرا على خطابي هذا فأنا مدرس و لكن أرجوا الا تفهموا منه نزعة أستذة عليكم فكل ما في الأمر أنه لا حجة لي الا هذا و أغلب قياداتنا من التعليم و تفهم الأمر و أنا تلميذ بعضكم شخصيا.) كما يتصور المضمون و كأنه منفصل و مستقل تماما عن الشكل لا يتأثر به .
و لتوضيح المسألة سياسيا و عمليا يكفي ان نذكر بما يمكن ان يعنيه هذا للشعب التونسي لو قلتم له ان انتقالك من الاستعمار الفرنسي المباشر الى الاستقلال لا يعني سوى "مجرد تغير في الشكل" و سيجيبكم وقتها ان الاستقلال الشكلي الذي تتحدثون عنه هو الذي جاء بالجمهورية و النسيج الاجتماعي الجديد و المكاسب التاريخية التي انتم جزء منها وما كان لبعضكم ان يفك الحرف لولا هذا الاستقلال الشكلي.
و لو قلنا هذا للشعب الألماني أو للشعوب التي كانت رازحة تحت الفاشية لقال لكم ابسط مواطن لا يفهم السياسة ان حربا عالمية تمت و مات فيها عشرات الملايين و جرح أضعافهم و دمرت بلدان بكاملها أو قسمت بسبب هذا الذي تعتبرونه "مجرد شكل".
لا بد من الانتباه لخطورة مثل هذا النوع من التحليل "الاقتصادوي "القاتل الذي يميز اليسار و القوميين التونسيين حتى عن غيرهم من اليساريين و القوميين العرب( و سنذكر أمثلة عن ذلك لاحقا) و الذي يؤدي تاريخيا ، عندنا ، الى تجاهل دور الحركة الوطنية الاصلاحية التقدمي في التاريخ رغم محدوديته التي يجب تحليلها و نقدها و تجاوزها .
بالنتيجة لما سبق تطرح أغلب القوى القومية و اليسارية مسألة الديمقراطية السياسية كمسألة شكلية مقارنة بالمسألة الاقتصادية و الاجتماعية والثقافية التي هي الوحيدة الجوهرية عندهم. بذلك ينجرون الى تتفيه مسألة الحقوق و الحريات السياسية مقارنة بالحقوق و الحريات الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و هذه كارثة أخرى نظرية و سياسية.
نظريا هذا يؤدي الى اعتبار السياسي ثانويا مقارنة بكل من الاقتصادي و الاجتماعي والثقافي ، هذا في نفس الوقت الذي يقول فيه الجميع تقريبا" ان مسألة السلطة السياسية هي المسألة الأساسية في كل ثورة" . كما ان هذا الطرح يعني تلك الفكرة المنمطة القائلة ان الامبريالة تناقض الديمقراطية بالمطلق و لا داعي للنضال من اجل الحقوق و الحريات السياسية في بلد تابع فهي لن تتحقق و بالتالي يجب تحضير الثورة المسلحة وانتهى الأمر. ان هذا المنطق قد يوصل ،ضمنيا، الى مدح الاستبداد الحالي عله يساهم في انضاج الأزمة الثورية ونكتفي بهذا هنا.

كما يؤدي هذا المنطق الى كارثة عملية تتمثل في ان كل الأنظمة الاشتراكية و القومية التاريخية ، رغم انجازاتها التاريخية العظيمة، كانت أنظمة استبدادية أعطت السلطة في النهاية للبيرقراطيات العسكرية و المخابراتية و الأمنية التي تتنفذ تدريجيا في الأحزاب القومية و اليسارية التقليدية و تبدأ بتصفية أعداء الداخل من الرفاق و الاخوة بحجة ان "القلاع الحصينة لا تؤخذ الا من الداخل" فتكون النتيجة متلخصة في نظام الحزب الواحد - الفعلي و الشكلي- ذي الخط الواحد و يتم البدء بازاحة أو تصفية تروتسكي و بوخارين في روسيا و محمد نجيب و عبد الحكيم عامر في مصر و نوري السعيد و عبدالكريم قاسم في العراق و ميشيل عفلق و صلاح البيطار في سوريا قبل تصفية الأعداء أحيانا.
بعد هذا ،كيف يمكن للجبهة الشعبية ان تقدم نفسها على انها المخول الوحيد لاستكمال مهام ثورة انطلقت ضد الاستبداد و سياسة الحزب الواحد الفعلي – وليس الشكلي- و طالبت بالحرية ضمن شعاراتها الأساسية دون أن تجدد جذريا تصوراتها النظرية و السياسية التقليدية ؟
و هل يكفي القول اننا أفضل اقتصاديا و اجتماعيا و ثقافيا عندما نناضل ضد الاستبداد السياسي الديني مثلا؟
نغلق هذا القوس النظري الخطير الذي يمثل "العلبة السوداء" لليسار الشيوعي و القومي العربي التاريخي و نعود الى النقاط السابقة ذات الصبغة التكتيكية لأن نقاش الواقع الضاغط قد يساعد أكثر، ربما، من نقاش النظريات في تحريك الأدمغة عند المناضلين السياسيين الصادقين.
***
ان حال الجبهة الشعبية بخطابها النظري التقليدي و سلوكها السياسي الراديكالي يبدو لي مجافيا لمستوى الوعي الشعبي العام ويخدم خصميها في نفس الوقت و بطرق مختلفة.

أولا: انها تعمم خطابها النقدي على الترويكا الحاكمة – ولو مع تركيز نسبي على حزب النهضة- باعتبارها في الحكم و بالتالي قد تخسر من قد يفكر في الانفصال عن النهضة من حليفيها و الالتحاق بالمعارضة ، ولو حصل ذلك فسوف يكون باتجاه تحالف نداء تونس و الحمهوري و المسار و ليس باتجاهها هي في الوقت الذي يعتبر فيه المؤتمر/المرزوقي أقرب الى التيار القومي الديمقراطي و التكتل/بن جعفر أقرب الى التيارالاشتراكي الديمقراطي ، مثلهما مثل الجمهوري و المسار تماما و قد جمعتهم بفصائل اليسار الشيوعي و القومي المكونة للجبهة محطات نضالية مشتركة عديدة.

ثانيا:كما ان الجبهة الشعبية تساعد النهضة على توثيق تحالفها مع بقية حلفائها من الترويكا و مع بقية الاسلاميين و ذلك باعطائها كل المبررات الكافية لاحتوائهم بحجة صمت الجبهة النسبي عن نقد نداء تونس و حليفيه و صمت نداء تونس وحليفيه النسبي أيضا عن نقد الجبهة الشعبية. و بهذا يساهم كل من نداء تونس و حلفاؤه و الجبهة الشعبية ، ولكن بدرجات متفاوتة، في اظهار النهضة و حلفائها ، و خاصة من الاسلاميين الآخرين، و كأنهم ضحايا الجميع فيستغلون ذلك لتقديم الاسلام نفسه كضحية و يبررون بالتالي فكرة "الانقاذ الديني" للبلاد من العلمانيين البورقيبيين و اليساريين و القوميين.
ان الجبهة الشعبية لا تكاد تعير أي اهتمام للاختلافات الفعلية القائمة داخل النهضة نفسها و بين النهضة و الترويكا الحاكمة و بين النهضة و بقية الاسلاميين و بينها و "نداء تونس" و حلفئه ،فهل هكذا تمارس السياسة؟

ثالثا: تتحدث الجبهة الشعبية عن المساواة بين "اليمين الليبيرالي" و "اليمين الديني" و تتناسى مثلا حزبي الجمهوري و المسار و كأنهما ، بتحالفهما مع نداء تونس، قد خانا الثورة و التحقا باليمين نهائيا فتخسر الجبهة حزبين كانا و لا يزالان ، ولو نسبيا و بدرجات متفاوتة ربما، أقرب الى اليسار و يسار الوسط منهما الى " اليمين الليبيرالي" و قد جمعهما بقوى الجبهة الشعبية من النضال المشترك ما يعرفه الجميع و هو رصيد مشترك لم يمت نهائيا رغم التموقعات المختلفة الآن. و بهذا الخطاب تخسر الجبهة مناضلي الجمهوري و المسار بل و قسم من مناضلي نداء تونس ذوي الأصول القومية و اليسارية و الديمقراطية التقدمية و من المستقلين.

رابعا: بهذا تخدم الجبهة الشعبية حزب نداء تونس بطريقتين: تدعيم تحالفه مع الجمهوري و المسار و سد الطريق أمام الهاربين من النهضة بحيث لا يبقى لهم سوى التوجه نحو نداء تونس ،أساسا، و حلفائه، ولكن جزئيا لأن مناضلين من المسار و الجمهوري أنفسهم التحقوا بنداء تونس. كل هذا بسبب كون الجبهة تبالغ في التطرف في أرضيتها السياسية و في سلوكها بحيث ان الهارب من الترويكا يجد نفسه أقرب الى برنامج نداء تونس و حلفائه من برنامج و سلوكيات الجبهة الشعبية بكثير، هذا دون الحديث طبعا عن الذين ينتقلون بين هذا و ذاك من باب المصلحة الشخصية في الحصول على المناصب المحتملة ، وهم كثر أيضا و لكننا لسنا في حاجة اليهم.
ان الجبهة تفكر وتتصرف بطريقة ستساعد على أظهار نداء تونس و حليفيه و كأنهما أكثر اعتدالا و يمثلون الخط السياسي الأمثل "للنسيج الاجتماعي "التونسي المعتدل و المنفتح و بالتالي خير نموذج يعبر عن البديل الاجتماعي و السياسي الأقرب الى الاستجابة لمزاج الشعب و لمطلب "الانقاذ الوطني" و بذلك ترتكب الجبهة الخطأ الذي يظهرها و كأنها الوجه الثاني المتطرف المقابل لليمين الديني المتطرف. الوجه اليساري المغامر الى الأمام و المقابل للساعين الى العودة الى الوراء.
ان "نداء تونس" يدير هذه اللعبة بشكل ذكي لأنه يدعو الجميع الى الحوار و التفاهم يسارا و يمينا و لا يوجه حرابه حتى ضد السلفيين الا بوصفهم "خارجين عن القانون" و يدعو النهضة و الترويكا و الجبهة الشعبية ،على السواء و مع اتحاد الشغل، الى الحوار و الانقاذ وفق خطة تتميز بالتركيز على الشرعية القانونية و المحافظة على الدولة و هيبتها و على النزعة الحوارية و التداولية، و ليس الاقصائية ،و كل ذلك حول خطوط عريضة تحاول أن تقترب من فكرة المحافظة على الدولة و المكتسبات التاريخية و القطع التام مع الاستبداد بحيث يبدو وكأن "نداء تونس" و حلفاؤه هم أقرب من يعبر عن انتظارات الشعب الاصلاحية.

خامسا: تبدو الجبهة و كأنها نذرت نفسها لأن تخسر على كل الجبهات و على طول الخط و لا تفكر الا في ربح نفسها بحيث تبقى و فية لتصوراتها التقليدية و موحدة تنظيميا حتى لو خسرت بعض أنصارها تماما أو دفعت بعضهم الآخر للتشاؤل ، ان لم يكن التشاؤم ، مباشرة بعد حماس الفورة الأول- المرتبط بالتحريض و بمصداقية و حرارة الانتماء و الالتقاء في الاجتماعات الجماهيرية- و ذلك يظهر عند العودة الى الواقع أو الى الجهة ،الخ.
ان هذا الأمر يبدو مثلا في التحاق عدد من اليسارييين و القوميين (و لا أقول المحسوبين على اليسار و القوميين لأن المسألة معقدة فعلا و التعميم هنا خاطئ تماما و على الجبهة و مناضليها تجنبه) الى نداء تونس تحديدا و ليس حتى باتجاه الجمهوري ذي الميولات القومية أو المسار ذي الميولات اليسارية.
انه من الممكن التسرع في الحكم على اليساري أو القومي الذي انتقل الى نداء تونس و لم ينتقل الى الجمهوري أو المسار بأنه خان و انسلخ و ننهي الأمر ببساطة. لكن هذا الاستنتاج المريح ،و الذي به جرعة اخلاقية كبيرة ربما في الحكم على الأشخاص، لا يجب ان يلهي عن تفسير الظاهرة نفسها و ذلك لا يمكن ان يفصل عن فكر و برامج و تنظيمات اليساريين و القومين التي بقيت تقليدية و لم تعد تطاق عند الكثيرين الذين يرون أنفسهم تحنطوا و لا يريدون الموت الشخصي و السياسي الناتج عن عدم قدرة الجبهة و تنظيماتها على التأقلم و التطور مع التاريخ و يخافون حتى من المسار و الجمهوري صاحبي التجربة العروبية و اليسارية أيضا. كما يعود هذا الى مرونة "نداء تونس" التنظيمية بوصفه حزبا غير عقائدي على عكس اليسار و القوميين و الاسلاميين الذين قد يكون سهلا دخولك اليهم و لكن قد يصبح خروجك عنهم كارثة شخصية و عائلية .
و لكن و بعيدا عن الأشخاص أيضا نسأل السؤال التالي: أين حزب العمل الوطني الديمقراطي و الحزب الاشتراكي اليساري من الجبهة الشعبية؟ ألا يعني غيابهما و تردد حركة الشعب القومية الناصرية في الالتحاق بالجبهة شيئا يثير التساؤل السياسي و ليس الشخصي؟
***
هذه بعض الأسئلة المصيرية التي أطرحها على الرفاق و الأصدقاء و الاخوة و قد يكون حل المشكل في البدء بالتفكير السريع ، ولكن غير المتسرع، فيما يلي:
أولا : توضيح ما أذا كان هنالك ميل حقيقي نحو تهديد "النسيج الاجتماعي" التونسي من قبل النهضة و حلفائها الاسلاميين بحيث تحدث تراجعات خطيرة عن "المكتسبات التاريخية " للشعب التونسي في علاقة "بروح الجمهورية" و " السيادة الوطنية" و "الحقوق و الحريات الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية" و "مطالب الثورة". في هذه الحالة يجب اقراركون الحركة الاسلامية المحافظة تقوم بما يشبه ما فعلته الفاشية في أوروبا – مع كل الفوارق التاريخية و السياسية التي يجب توضيحها لأن عدم القيام بذلك سيخدم الاسلاميين أنفسهم- بحيث تهدد ليس فقط الانتقال الديمقراطي بل و كذلك المكتسبات التاريخية و الوضع الراهن في "النسيج الاجتماعي".
ثانيا: توضيح ما اذا كان هذا الميل لفعلي قابلا للتحقيق في صورة عودة النهضة للحكم أم انه يبقى بعيد المنال لو تحقق كبح حزب التحرير و السلفيين و عزلهم عن النهضة و عزل حليفيها في الحكم عنها أيضا بحيث تعجز عن الذهاب الى الاتجاه المحافظ المتطرف. ان التفريق بين نوايا النهضة و الاسلاميين البعيدة في "الخلافة" و قدرتهم المباشرة أو متوسطة المدى على تحقيق تلك النوايا مهم جدا في رسم ما يجب من خطط تكتيكية سياسية.
ثالثا: توضيح ما اذا كانت حركة النهضة الحالية هي نفس "الاتجاه الاسلامي" سنة 1981 أو ما اذا تطورت باتجاه حزب يقترب من الأحزاب المدنية رغم مرجعيته الدينية .و هذا التوضيح يتطلب أيضا دراسة التيارات الداخلية المتنوعة في النهضة و ايها الأقدر على الهيمنة الداخلية حسب الظروف التي ستمر بها البلاد بحيث لا تساعد الجبهة الشعبية التيار الأكثر تشددا داخل النهضة على أن يربح هو معركة "الداخل النهضاوي" نفسه. و هذا يتطلب تصورا تكتيكيا دقيقا في التعامل مع هذه الحركة يسمح للجناح المعتدل منها بالجرأة على اعلان تصوراته و كسب هيمنته داخل الحركة الاسلامية.
رابعا:توضيح ما اذا كان "نداء تونس" و حليفاه قادرين على كبح تطرف النهضة و حلفائها الاسلاميين نظرا لقوتهم الصاعدة نسبيا و تأثير ذلك على النقاط الثلاثة السابقة بحيث تأخذ الجبهة الوزن و الفعل السياسيين لنداء تونس و حليفيه بالحسبان في رسم خططها في التعامل مع الطرفين على السواء و استنتاج ما يجب استنتاجه في كيفية التعامل مع كل طرف بمفرده أما بوضعهما في نفس السلة ، و هذا سيكون حماقة كبرى، أو بتلمس الفوارق الحقيقية ،وليس الشكلية كما درجت الجبهة على التكرار حتى الآن، التي يجب ان تنعكس في التقييم النظري و السلوك السياسي اليومي للجبهة.
خامسا: توضيح ما اذا كان الظرف الدولي ، بكل مكوناته المتناقضة، يسمح فعلا بتحول النهضة الى أقصى اليمين أم لا بحيث تأخذ الجبهة بعين الاعتبار الصراعات الدولية ( أوروبا-الولايات المتحدة) و العربية الاسلامية ( الجزائر- قطر/السعودية/تركيا) في دراسة احتمالات تطور الحركات الاسلامية التونسية و في القريب العاجل سوف يكون للانتخابات الأمريكية ( و احتمالات عودة الجمهوريين المحافظين الى الحكم ) و لما يمكن أن يحدث في الجزائر ( حتى بمجرد وفاة بوتفليقة ناهيك ان حدث تحريك أخطر للساحة الجزائرية) تأثير وازن جدا في الساحة التونسية أكبر حتى من التجاذبات الداخلية نفسها.
سادسا: توضيح ما اذا كان خطر النهضة ، في حالة الاقرار بتهديدها الفعلي للجمهورية و السيادة الوطنية( في اتجاه أمريكي/تركي/ قطري ) و المكتسبات التاريخية للشعب يعادل خطر نداء تونس .وهذا قد يكون خطأ فادحا، اذ سيكون الحديث القائم على مبدأ "اعادة الانتاج" و المساواة بين "شكلي اليمين" الليبيرالي و الديني كارثيا من الناحية السياسية العملية بالنظر الى الاختلاف الكبير ، و ليس الشكلي المجرد، بين الليبيرالية الاصلاحية و بين اليمين الديني المحافظ.
سابعا: في الحالة السابقة يصبح من الضروري التفكير بجدية في الأمر التالي ، حتى على فرض القول ببقاء التبعية مع كل من النهضة و نداء تونس، الذي هو ما اذا كان من المشروع و الأفضل، من باب اختيار أقل الأضرار على البلاد على الأقل، " قبول" تونس كبلد تابع ( او شبه مستعمر) و لكنه مدني و ديمقراطي ليبيرالي نسبيا مع "نداء تونس" و رفض تونس البلد التابع ( او شبه المستعمر) المحافظ مع اليمين الديني و بالتالي الكف عن المحاججة السطحية وفق مبدأ "الفارق الشكلي" بينهما.
ان الفارق بين "الشكلين" سيكون شكل "النسيج الاجتماعي" الحالي أو نسيجا آخر يميني محافظ و بين"روح الجمهورية" المقابل ل"الدولة الاسلامية" وبين" السيادة الوطنية" الليبيرالية مقابل "سيادة" على الشاكلة القطرية - التركية و بين"المكاسب التاريخية" مقابل نموذج مجتمعي محافظ يهدد المكتسبات الحداثية بحجة "الانقاذ" القائم على تصور محافظ عن" الهوية الاجتماعية" للشعب و "مطالب الثورة" في الشغل و الحرية و الكرامة بالمعنى الليبيرالي الاجتماعي– مع نداء تونس- مقابل تصورات محافظة جديدة لسياسة التشغيل و لمفهوم الحرية و مفهوم الكرامة ستتقاطع مع الليبيرالية المتطرفة في بعض جوانبها و ستعتمد سياسة "البر والاحسان" الخيرية التقليدية مقابل سياسة دسترة و تقنين الحقوق و الحريات الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية على الطريقة العصرية،الخ.
سابعا: في هذه الحالة يصبح من الضروري التحلي بالجرأة و الشجاعة ( فالجانب النفسي هنا مهم جدا) لتغيير التصور الفكري و السياسي برمته و ذلك في اتجاهين اثنين:
-التفكير صراحة في العمل المشترك مع "نداء تونس" و الجمهوري و المسار من الناحية المبدئية و علنيا.
- التفكير في الصيغ العملية للتنسيق في جبهة واحدة سياسية انتخابية مؤقتة أو جبهتين سياسيتين مستقلتين بينهما تقاطعات مرحلية تترجم في تفاهمات انتخابية على الأقل. و من المهم التذكير ان "نداء تونس" ،رغم التحاق التجمعيين به بالآلاف، ليس "التجمع الدستوري الديمقراطي" ، مثلما ان "حركة الديمقراطيين الاشتراكيين" ( أحمد الخصخوصي ) العضوة في الجبهة الشعبية حاليا ليست نفس الحركة الأم التي كانت تساند بن على و نظامه المستبد الفاسد على طول الخط الى يوم سقوطه .
ثامنا:في الحالة الافتراضية المخالفة، الصعبة جدا في المدى المنظور و التي قد تتطلب مرحلة تاريخية بأكملها، و لكنها ليست مستحيلة في المطلق، و التي لن تشكل فيها النهضة خطرا تاما و داهما على الحياة السياسية التونسية، يجب توضيح ما اذا كانت نوايا النهضة (وليس بقية الاسلاميين الأكثر تطرفا) ، أو تحديدا نوايا جناحها الأقل تطرفا ، وخاصة قدراتها الفعلية السياسية تسمح بدفع الأمور ، ربما بالتعاون ، و لو غير المباشر و بدرجات مختلفة ، حتى مع "نداء تونس" و خاصة مع حليفيه و حزبي المؤتمر و التكتل و خاصة بالتعاون مع الاتحاد العام التونسي للشغل – الذي يطرح مبادرة للحوار الوطني- نحو الاقرار الواضح و النهائي بجملة من المبادئ السياسية الأساسية على شاكلة تلك التي كانت موجودة في "هيئة 18 أكتوبر" . و لكن لا بد أن يتم ذلك بشرط الاقرار الصريح و المفصل للقبول النهائي للنظام الجمهوري الديمقراطيي المدني و اعتباره النظام الذي طالبت به الثورة في عمومه والرفض المعلن و الصريح لأية نية لتحويله حتى الى "ديمقراطية اسلامية" محافظة و تقليدية ما ، باعتبار ان هذا النظام ليس مجرد آليات اجرائية انتخابية مثلا بل هو قائم على مبادئ كونية أساسها الاعتراف بالحقوق و الحريات الانسانية الأساسية العالمية التي لا تتجزأ بقطع النظر عن المجتمع الذي تطبق فيه و عن خصوصياته الثقافية أو الدينية أو غيرها. كما يتطلب هذا رفضا نهائيا للعنف السياسي و قطعا نهائيا مع الأنظمة الشمولية بحيث يجب على الحركة الاسلامية ان تتحول الى حركة ديمقراطية حديثة، من حقها اختيار المرجعية الدينية، تعلن القطع النهائي مع فكرة الدولة الدينية و العنف المقدس باسم الجهاد و تقبل باللعبة الديمقراطية على شاكلة الأحزاب الديمقراطية المسيحية الأوروبية مثلا.

تاسعا : لكن هذا ، مع الأسف ، لا ينطبق فقط على الاسلاميين وحدهم بل كذلك على أحزاب الجبهة الشعبية نفسها من اليساريين و القوميين. ان ما نلوم عليه النهضة و غيرها من الأحزاب السياسية الدينية من نية الانتقال بالديمقراطية نحو النظام الاستبدادي الديني هو ما نضمره نحن بتحضير الانتقال بالديمقراطية نحو الاستبداد القومي و الشيوعي، و هذا ما يعرفه المثقفون و قسم كبير من الشعب. هذا ما يعطي "نداء تونس" ( الليبيرالي الديمقراطي) وحلفائه من المسار الاجتماعي" الديمقراطي و " الجمهوري" الديمقراطي و كذلك "المؤتمر من أجل الجمهورية "الديمقراطي و "التكتل من أجل العمل و الحريات " الديمقراطي مصداقية ديمقراطية أكثر من الحركات الاسلامية و من أحزاب الجبهة الشعبية ( بسبب كون الأخيرين أحزابا عقائدية ولو من زوايا مختلفة) وذلك في كونهم لن ينقلبوا –نظريا على الأقل- على خيار الدولة الديمقراطية الحديثة.
انه من الواجب التفكير فورا في القبول بالديمقراطية و كل ما تعنيه من رفض العنف و الاكتفاء بالطرق الديمقراطية السلمية في النضال - و أقصاها العصيان المدني السلمي- و قبول مبدأ التداول السلمي على الحكم و الاستفادة مثلا من التجربة الوطنية و الاشتراكية الديمقراطية في أمريكا اللاتينية التي جعلت دانييل أورتيغا مثلا يقبل بتسليم السلطة لفيوليتا شامورو ثم يعود الى السلطة لا حقا عبر الانتخابات الديمقراطية نفسها ، ولعل المصريين مثلا بدأوا ، مع حمدين صباحي، التفكير في الأمر.
اما اذا كانت أحزاب الجبهة الشعبية لا تزال تعتقد ان الكفاح المسلح هو طريقها للوصول الى الحكم ، وبعضها من القوميين لاتزال تدغدغه حتى التصورات الانقلابية العسكرية التي تقصي حتى الجماهير الواسعة عن الفعل التاريخي، فانه من الأجدر وقتها مصارحة النفس و الأنصار و الشعب بذلك و عدم التذاكي الصبياني باخفاء المبادئ التي يعرفها الخصوم قبل الأنصار.و لكن عندها يجب التذكر ان النماذج التاريخية للثورات القومية و اليسارية أعطت كلها السلطة للبيرقراطيات العسكرية في النهاية و تساقطت كلها بسبب استبدادها "العادل "هذا رغم كل انجازاتها التاريخية في ميادين الحقوق الاقتصادية و الاجتماعية الثقافية.

باختصار اذن ، اذا لم تتحول الجبهة الشعبية الى جبهة شعبية ديمقراطية يقبل اليساريون و القوميون داخلها بالتحول الى القومية الديمقراطية و الاشتراكية الديمقراطية فاننا سنكون خارج التاريخ لأننا لم نستفد من تجاربه و دروسه و لا نعبر عن الطابع الديمقراطي العام الذي يميز ما نسميه الثورة التونسية نفسها.

***
خاتمة:
كان الاجتماع الجماهيري بقصر المؤتمرات بالعاصمة ناجحا جماهيريا و كان له صدى طيب نسبيا في وسائل الاعلام و أكثر في شبكات التواصل الاجتماعية .و كانت هنالك نشوة بالمولود الجديد و لكنها بلغت أحيانا حد الهستيريا تقريبا ،خاصة مع تدخل الرفيق عبدالناصر العويني، المحرض الجيد ، و لكن تأثير ذلك مس حتى زعماء الأحزاب السياسية الأكثر رصانة مثل الرفيق حمة الهمامي ، الذي أعتبره شخصيا ، بقطع النظر عن الاختلاف في الأفكار ،من خير من أنجبت تونس من مناضلين يساريين في تاريخها الحديث . انساق الرفيق حمة الى تصعيد اللهجة الخطابية بدوره .فبعد ان قال عبدالناصر العويني انه "لو توفرت لنا فرصة غدا لاسقاط الحكومة لأسقطناها غدا" و اننا لا نراهن على الانتخابات الا "اذا اجريت في وضع ثوري ...والا لن تجري" وكرر ان بن على "لم يهزم بانتخابات بل بالثورة"،الخ ،مما ألهب القاعة بشعارات منها " لالا للرجعية ...دساترة و اخواجية " ، الذي يقصد به "نداء تونس" و النهضة تحديدا في الوضع الجديد حسب علمي، وهو ما ذكرني بصباي و شبابي فاحسست وقتها انه لم يتغير شيء تقريبا فى الوعي القومي و اليساري العام خاصة عندما وقف كل زعماء الأحزاب السياسية تحية لعبد الناصر العويني يلهبهم الحماس العام كغيرهم من الحضور.
بعد ذلك واصل الرفيق حمة الهمامي ،الذي هو الناطق الرسمي باسم الجبهة ، مبدئيا ، فقال مثلا" ان الشعب لم ينجز ثورة شيوعية أو اسلامية أو قومية بل ديمقراطية" – وهذا جيد- و لكنه أضاف مثلا ،كما قال المتدخلون قبله ،ان "...الجبهة ليست جبهة احتجاج و معارضة بل جبهة بدائل و حكم و هي قادرة على ذلك" و راح يقارن بينها وبين الحكومة الحالية في القدرة على امتلاك البرناج و القدرة على التسييرمبينا طبعا ان الكفة لصالحنا و ليست لصالح الحكومة الحالية في هذا الأمر،الخ .

يبدو لي ان عدم تعديل النداء التاسيسي و مشروع الأرضية السياسية و الجو الحماسي لاجتماع العاصمة يكملون بعضهم لاعطاء صورة خاطئة و مبالغ فيها عن حجم الجبهة ، مع وعينا التام بأهمية التحريض و التحفيز التي يقوم بها القادة السياسيون في الاجتماعات الجماهيرية العامة.
بالتالي ، ولهذه الأسباب، أجد نفسي مضطرا في النهاية ، استكمالا لما سبق من نقاش نظري و تكتيكي ، أن أضيف بضعة مطالب جديدة أطلبها من الجبهة الشعبية حتى تبقى الأقدام على الأرض راسخة و لا تطير بنا الأحلام في الضباب.
اقول لرفاقي و أصدقائي واخوتي و بقسوة نسبية :
أولا : وهذا مواصلة للحديث عن الخطاب السياسي للجبهة . ان الجبهة يجب أن تقول لأنصارها من الشباب خاصة : كفوا عن اعتبار الاسلاميين تجار دين و عن اعتبارهم لا يمثلون "الاسلام الصحيح" فان ذلك غير علمي لأن الاسلاميين مسلمون و لكن لهم قراءتهم الخاصة للاسلام نختلف عنها لا غير.
كفوا عن اتهامهم بالتجارة بالدين لأن ذلك قد يصح على أشخاص محددين و لكنه لا يصح عن حركات سياسية بكاملها.
و كفوا عن تخوين كل من ينتمي الى" نداء تونس" و عن الانجرار أحيانا "وراء شبكات التواصل الاجتماعية" الى القدح الشخصي في قادة الأحزاب السياسية المخالفة و كبار المسؤولين السياسيين فان ذلك كله يضر بالخطاب السياسي و يؤدي الى كارثة سياسية لدى الشباب المتحمس و غير المثقف وغير المجرب سيا سيا والى قرف لدى عموم الشعب من العمل السياسي برمته.

ثانيا : أقول للمسؤولين في الجبهة : عودوا الى حواسيبكم وقوموا بالعمليات التالية : احسبوا عدد المنخرطين في صفحات النهضة و حلفائها في الشبكات الاجتماعية و احسبوا عددهم في صفحات نداء تونس و حلفائه و احسبوا منخرطينا في التنظيمات الاثنتي عشرة و اجمعوها و اطرحوا منها الأسماء المتكررة لأن الفرد الواحد منا ينخرط في صفحات كل أحزاب الجبهة و بعد ذلك قارنوا بين أحجام الكتل السياسية الكبرى ،مع معرفة الجميع ان هذا المقياس محدود طبعا، واستنتجوا ما يجب استنتاجه.
ثالثا: تذكروا كم حزبا من أحزابنا له جريدة دورية و كم يطبع و يوزع من نسخها و كم هي اعداد المنخرطين الحزبيين وكم حزبا يعجز عن دفع ايجار مقراته و كم مقرا عندنا أصلا و ما هي نوعية مقراتنا مقارنة بمقرات الآخرين ،الخ و استنتجوا ما يجب استنتاجه تنظيميا و ماليا و ما يعني ذلك في السياسة الآن.
رابعا: تذكروا ان الاتحاد العام التونسي للشغل منظمة نقابية و هي ليست سياسية و ليست عضوا في الجبهة الشعبية بل هي تدعو لطاولة حوار وطني بين الجميع وأولهم النهضة و "نداء تونس" و استنتجوا ما يجب استنتاجه.
خامسا: تذكروا ان الشارع المتمرد هنا و هنالك يشتعل و ينطفئ و هو "ليس شيوعيا و لا قوميا" و لا تغرنكم فوراته المباغتة مهما دامت و تكررت لأن الحركات الاجتماعية الكبرى التي تحقق التحولات الثورية ليست هكذا تكون.
سادسا: تذكروا حجم تأثير الجبهة الشعبية في الادارة التونسية و الأمن و الجيش و استنتجوا ما يجب استنتاجه لمن يتحدث عن الثورة.
سابعا :تذكروا ميزان القوى الدولي و تذكروا هل تساندنا دول ثورية أو قوى ثورية عالمية وازنة و تذكروا كيف ان الرسائل الوحيدة التي وصلتنا هي من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين و الحزب الشيوعي اللبناني بزيارة الرفيق خالد حدادة و هذا شرف عظيم ربما لا نستحقه أصلا لأن أغلب تنظيماتنا كانت تتهمهما بالتحريفية الخروتشوفية- اليسار- و بالعمالة للخارج- القوميون و البعثيون- و لولا الدم الذي قدموه في فلسطين و لبنان و لولا هامة الحكيم جورج حبش و شهداء و مساجين الجبهة و هامة فرج الله الحلو و حسين مروة و مهدي عامل و جورج حاوي لكان بعضنا ، ربما ،رفض تقبل مسانتدهما و هو الذي لم يراجع شيئا من تصوراته القديمة بعد.
ثامنا: تذكروا الشهداء و الجرحى و الهاربين في قوارب الموت و ما يعانيه الشعب من آلام و ما يؤديه ذلك من تأثير على المزاج الشعبي العام و على مستوى الوعي و التنظيم.

تكفي هذه النقاط لوحدها ، ربما، لجعلي أقول لكم : ان النوايا الصادقة و الاستعداد النضالي و حب الشعب وحدها لا تصنع التاريخ و ليست مقررة في رسم التكتيكات السياسية. ان السياسة هي فن القيادة و لا يكفي ان يحب القائد أبناء شعبه بل يجب ان يعرف كيف يحبهم و كيف يقنعهم و ينظمهم للسير معه الى حيث يريد أن يقودهم .ان هذا يتطلب أول ما يتطلب الانطلاق من مطالبهم و من مزاجهم العام ومن استعداداتهم التنظيمية و العملية للذهاب بعيدا الى الأمام.
فهل نحن واعون بهذا و هل تدل على ذلك برامجنا و تكتيكاتنا و هل نحن قادرون على ذلك بالمواصفات التي ذكرناها كلها؟
أول ما بدا لذهني و انا أفكر في اجابتي ، وعذرا على هذا فهو نابع من الألم الشخصي الذي يعتصرني و أنا أراقب أحوال البلد ، هو تخوفي من ان الجبهة الشعبية قد ينطبق عليها ذلك المثل الشعبي التونسي القائل " العزوزة هازها الواد و هي تقول العام صابة" .
أرجوا ألا أفهم خطأ مرة أخرى وحتى لا أبدو مثبطا للعزائم انهي بمثلين شعبيين آخرين معاكسين : " ما يبقى في الواد كان حجرو " و " الدوام ينقب الرخام" . فلنصمد بشعبنا و معه و لأجله ولكن علينا أن نقيم و ان نعدل أشياء كثيرة من أفكارنا و أدواتنا و الا فقد نعزل تماما و نتحنط ان لم ننقرض و لا ننسى انه ما لا يتجدد يموت.
عاشت الجبهة الشعبية التونسية.
عاشت تونس.



#بيرم_ناجي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مع علم الانسان التاريخي وضد المادية التاريخية : نحو منظور عل ...
- نقد الأصولية الحمراء ...ملحق حول رسائل أنجلز في المادية التا ...
- الجبهة الشعبية في تونس : مساندة نقدية. ( رسالة مفتوحة الى ال ...
- نقد الأصولية الحمراء : نحو تجاوز مادي و جدلي للماركسية.
- الاسلاميون و المقدس الديني:نقد الاستبداد المقدس ( تونس مثالا ...
- تونس : من أجل جبهة جمهورية ديمقراطية مدنية وتقدمية.
- حركة النهضة الاسلامية التونسية: دراسة نقدية.
- ضد التيار في تونس: قوة ثالثة جديدة صعبة و لكنها ممكنة ( رؤية ...
- الاسلام و علوم الاجتماع : محاولة في الدفاع عن العلم ضد -المن ...
- الاسلام و علوم الاجتماع : محاولة في الدفاع عن العلم ضد -المن ...
- الاسلام و علوم الاجتماع : محاولة في الدفاع عن العلم ضد -المن ...
- الاسلام و علوم الاجتماع : محاولة في الدفاع عن العلم ضد -المن ...
- الاسلام و علوم الاجتماع : محاولة في الدفاع عن العلم ضد -المن ...
- الاسلام و علوم الاجتماع : محاولة في الدفاع عن العلم ضد -المن ...


المزيد.....




- غايات الدولة في تعديل مدونة الاسرة بالمغرب
- الرفيق حنا غريب الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني في حوار ...
- يونس سراج ضيف برنامج “شباب في الواجهة” – حلقة 16 أبريل 2024 ...
- مسيرة وطنية للمتصرفين، صباح السبت 20 أبريل 2024 انطلاقا من ب ...
- فاتح ماي 2024 تحت شعار: “تحصين المكتسبات والحقوق والتصدي للم ...
- بلاغ الجبهة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة التطبيع إثر اجتماع ...
- صدور أسبوعية المناضل-ة عدد 18 أبريل 2024
- الحوار الاجتماعي آلية برجوازية لتدبير المسألة العمالية
- الهجمة الإسرائيلية القادمة على إيران
- بلاغ صحفي حول اجتماع المكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية ...


المزيد.....

- مَشْرُوع تَلْفَزِة يَسَارِيَة مُشْتَرَكَة / عبد الرحمان النوضة
- الحوكمة بين الفساد والاصلاح الاداري في الشركات الدولية رؤية ... / وليد محمد عبدالحليم محمد عاشور
- عندما لا تعمل السلطات على محاصرة الفساد الانتخابي تساهم في إ ... / محمد الحنفي
- الماركسية والتحالفات - قراءة تاريخية / مصطفى الدروبي
- جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية ودور الحزب الشيوعي اللبناني ... / محمد الخويلدي
- اليسار الجديد في تونس ومسألة الدولة بعد 1956 / خميس بن محمد عرفاوي
- من تجارب العمل الشيوعي في العراق 1963.......... / كريم الزكي
- مناقشة رفاقية للإعلان المشترك: -المقاومة العربية الشاملة- / حسان خالد شاتيلا
- التحالفات الطائفية ومخاطرها على الوحدة الوطنية / فلاح علي
- الانعطافة المفاجئة من “تحالف القوى الديمقراطية المدنية” الى ... / حسان عاكف


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العمل المشترك بين القوى اليسارية والعلمانية والديمقرطية - بيرم ناجي - الجبهة الشعبية التونسية: أسئلة مصيرية. (رسالة ثانية )