أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - طلعت رضوان - ربوة منصر القفاش - قراءة فى مجموعته نسيج الأسماء















المزيد.....


ربوة منصر القفاش - قراءة فى مجموعته نسيج الأسماء


طلعت رضوان

الحوار المتمدن-العدد: 3875 - 2012 / 10 / 9 - 20:05
المحور: الادب والفن
    



تـُثيرالمجموعة القصصية (نسيج الأسماء) للكاتب منتصرالقفاش مشكلة فنية بالغة الأهمية. وهى اختيارشكل القصة القصيرة للغوص بها داخل مجاهل الروح القلقة فى محاولة لاكتشاف الذات . وبلغة- فى الغالب – أقرب إلى كثافة الشعرمنها إلى لغة فن القص .
وبداية أقرّرأنّ للمبدع حق التجريب وله علينا حق التحاور. فى معظم قصص المجموعة (8 من 13قصة) يُجرّد منتصرالقصة من أية أطرمُتعارف عليها (يُشاركه بعض الكتاب مثل ناصر الحلوانى فى مجموعته "مدائن البدء" ) ثم يُطلقها هائمة كروح مُعذبة. فكان طبيعيًا أنْ تتوهج عينا الكاتب برغبة البحث المُجرّدة ، البحث فى الوجوه – بالرسم أوبالنقش على الجدران – ((رأيتُ وجه العجوزبين المراكب المُنتشرة أمامى ، يُشاركها عدم الاكتمال ، كلما ظننتُ أنّ رسمى شارف على النهاية. وجدتُ كل شىء فى داخلى يُمعن فى التخفى)) (قصة شطآن) ((عدتُ أبدأ بالوجه لعله يُفضى بى إلى مكامن الذكرى)) ومع أنّ البطل يبدوحذرًا من تداخل الوجوه ((أتوقف أمام الوجه أخشى من تعدده)) إلاّ أنّ عالم المراوغة يظل هوالمُهيمن على البطل والقارىء معًا ((من جديد أبدأ الرسم مُحاذرًا من أى خط يخوننى بإلتفاف أوإمتداد خادع . أرى الخطوط المُتشابكة شباكا ما إنْ تظن نجاحها فى اصطياد الوجه. حتى تراه يتماوج بعيدًا يروم الانطلاق)) وإذْ يُقرّرأنْ يبدأ برسم الصدروالوشم ليكونا مدخلا للتعرف على الوجه ، فإنه يخشى من مراوغة الوشم له ((كان لايستقرفى داخلى تمامًا . يستطع فجأة بظهورأظن أنه لن ينمحى أبدًا من ذاكرتى ، لكنه يعود ليخفت وتكثرحوله أطياف لاتنتهى))
وإنْ كان الكاتب مهمومًا بالبحث فى الوجوه ، فهويترك للقارىء البحث عن دلالة هذا (البحث) فالكاتب لايهتم بذكرأية تفاصيل عن طبيعة العلاقة بين البطل وصاحب الوجه. وعلى القارىء أنْ يستشفها وحده . ومشاركة القارىء – الطرف المُتفاعل فى العملية الإبداعية- حتمية يفرضها الأدب الرفيع . ولكن استشفاف القارىء ينبع من نسيج العمل وبإيحاء من مفرداته. وليس مُجرد تصورأو تمنٍ . ومنتصرالقفاش ضنين ببث شفرات ألغازه .
روح الشاعرالمُعذبة تتخذ من الكلمات ، بل ومن الحروف ومن الرسائل داخل الزجاجات السابحة مع الموج وسائط للبحث عن خلاصها المُتفرد . فى قصة (ملء المدى) يُحاورالرسائل بعد أنْ ضجّتْ روحه من الشكوى ((أملكٌ لى الرسائل أم مالكة لى ؟)) وزجاجات البطل تبدوفى غموضها مثل بعض الألغازالكونية التى لم تتفتح بعد ((.. وعادتْ لتظهر وقد شغل كل فراغها الداخلى رسائل استحالتْ بها الزجاجات إلى حروف مُتماوجة. هممتُ بقراءتها فطوتْ نفسها وفردتْ أشرعتها فى سكون))
وقصة (نظم الأسماء) تتكوّن مفرداتها من ((أشطرالقصائد.. الكلمات.. أفق الكلام)) وكل ما يتصل بالشعرفى رحلة جديدة من رحلات البحث . ولعلّ ذكرالأسطرالأولى التى يستهل بها الكاتب قصته ، أنْ تـُعطى القارىء فكرة عن همْ الكتابة عند منتصر((قذفك بتلك الأوراق فى وجه الفضاء ، يُتيح لك رؤية إمتدادات خطوط كف تنظم السنين . تعبرك وتتبادل أمكنتها وتـُربك إسراءات تآلف جسدًا تمازجتْ معالمه بوقت يتهادى فى رحاب الذاكرة)) وكما أنّ الكتابة معاناة فإنّ القراءة أيضًا معاناة ، ولكنها معاناة التواصل لا الانفصال ، إذْ تفشل كل المحاولات – وفق قراءتى – فى العثورعلى إيماءة أوإيحاء بأننا أمام قصة تتحدث عن هموم البشر. ولعلّ السبب – فيما يذهب ظنى – يكمن فى اختياروسيط فى غيرموضعه. فى الفقرة الثالثة من نفس القصة يقول ((مُتاح لك أنْ تنتقل بين الفواصل والأسباب والأوتاد وأنت تـُبصرالكلمات نأتْ بمعانيها الأولى بعد تقطيعها وبدتْ لك آتية من كتاب مجهول موضعه)) حتى عروض الشعرلدى البطل لها دلالات أبعد وأعمق ومغايرة تمامًا لما إتفق عليه البشر((ما التمستُ العروض درسًا وعلمًا ، وإنما وجدته علامات تُرشدنى لطريق تلك الحياة)) فما هى تلك الحياة ؟ ((ما أبغيه هو حياة توزعتْ فى أزمنة مختلفة كشفتْ عن نفسها فى أشطرإستترتْ داخل القصائد)) وكلما أوغلنا فى كتابة من هذا النسيج كلما عمّ الظلام – فى ظنى – أوازدادتْ كثافة الشعر- فى ظن البعض – لنقرأ هذه الفقرة من نفس القصة ((فى أمكنة تدخلها دون معرفة. تُبادلك الأوراق أشطرها المُقطعة بخطوك تقرأ وأنت لاتروم المعنى . تتقدمك كلمة استودعتْ حروفـًا من جسدها فى كلمة ستدلف مثلها إلى نقطة المركز)) ولعلّ الفقرة التالية من نفس القصة تـُوضّح – فى ظنى – مدى الخلط الذى يُحدثه اختيار(شكل) القصة بوسيط الشعر، وعن هموم – هى أساسًا – لها خصوصية الشعر ((من خلال نافذة القطارألمح الوجوه. طالما حفرتها فوق حوائط لا أتذكرأمكنتها ولازمتنى صلابتها فى مواجهة الحفر)) عند الكلمة الأخيرة استشعرتُ أنّ ضوءًا سيُنيرظلام الغموض ، فها هوالبطل يتحدث عن وجوه يراها من خلال نافذة القطار، وإنْ كان لايتذكرفوق أية حوائط سبق أنْ حفرها . ولكن الكاتب يلجأ إلى كثافة الغموض بدلامن كثافة الإضاءة. فقال بعد الكلمة الأخيرة مباشرة ((وجوه تهجرالسفرقليلا لتقرأ المكان وتخلص من أيام تنثرالخلاء فى السبل . تشق الصمت لأبصرخطوط كف تتخلل سنين لاتنقضى تبدلاتها ومداهماتها لدوائرالذاكرة . أحدّد بين الخطوط إتجاهات تفضى إلى أزمان تـُبادلنى الحكايا وتهتف بى : ألكل منا السبيل لمعانقة ما تجسّد ويبقى من يقدرعلى أنْ يحياه ويسبرغوره ؟)) وإنْ كنتُ أعترف بموهبة منتصرفى صوغ العديد من أمثال هذا النثرالشاعرى البديع ، إلاّ أننى أبحث عن المحتوى الذى يضمه فلا أجده .
وأبطال منتصرمولعون بالبحث فى الوجوه ، كأنما فى هذا البحث السبيل إلى الذات. فى قصة (يومض من بعيد) يعود البطل إلى بيت أبيه بعد انقطاع نحسه فى هذه الصياغة الموحية فى مُفتتح القصة ((كل شىء فى مكانه. هكذا أكدّ لنفسه بمجرد أنْ نظرنظرة واحدة)) هذا الإحساس يستنتجه القارىء من حوارالبطل مع جسد أبيه ((يبدأ فى فتح كتاب أبيه. لم تكن قراءة للكلمات بل قراءة للجسد)) ولكن إذْ يعود القارىء لمفتتح القصة فإنّ التشوش لابد وأنْ يُزاحم ماكاد أنْ يستقر، إذْ يقول الكاتب فى السطرالثانى ((هذه أول مرة يأتى فيها إلى هذا المكان)) وبالطبع من حق القارىء أنْ يسأل : ماهذا التناقض ؟ كيف يؤكد البطل لنفسه أنّ كل شىء فى مكانه- دلالة على المعرفة المُسبقة- وفى نفس الوقت يُقرّرالكاتب أنّ هذه هى أول مرة يأتى فيها إلى هذا المكان ؟ ومنتصريعى كل كلمة يكتبها ، وبالتالى يسد أية ثغرة ، فباقى الفقرة إجابة عن السؤال المُتوقع ، ولكنها إجابة بطريقة منتصر((لكنه يشعربه داخله. بل الآن يرى أنه كان يحمله ويحفظه داخل هذه المنطقة التى تغيب فى إنغمارضوء كثيف)) والبطل – كمعظم أبطال منتصر- تستوقفه الوجوه المنقوشة على الجدران ((يقترب من حائط نـُقشتْ عليه وجوه يعرفها)) هذه الوجوه على الحائط تـُغنى وتتداخل أصواتها وتبدوكجوقة تحرص على إخفاء إنشادها . والبطل يُبصرفى الصوت (يبدوأنه صوت أبيه) نافذة تنفتح فى الجدارالمواجه للمدخل . وبعدها فإنّ جسد الأب يتكلم ((طينة الأشياء أتتنى طيورًا إمتلأ بها البيت الذى ظنوا أنه يتصدّع كلما خفق مع رفرفة الأجنحة)) فى هذه القصة فإنّ الوسيط المُستخدم (لغة شاعرية شديدة الكثافة + المُحتوى الصوفى) إذْ يقول صوت الأب قبيل النهاية ((رغم هجرة الجميع عنى . وغضهم لبصرهم حينما يعبرون جوارجسدى . لكننى كنتُ سعيدًا لأنّ العراء أصبح الآن ملكى وبيتى)) وكذلك ما يُذيّل به الكاتب قصته بأنّ ((ما يُردّده الصوت مُـقتطف من المواقف والمخاطبات للنفرى)) كل ذلك جعلها أقرب إلى القصيدة – بناءً وعالمًا – منها إلى فن القصة.
فى تاريخ إصدارالمجموعات القصصية جرى العرف على أنْ يختارالكاتب عنوانـًا لمجموعته من بين احدى القصص داخل المجموعة. ولكن منتصريفعل شيئا مغايرًا ، فيختارلمجموعته عنوان (نسيج الأسماء) وتبحث فى المجموعة عن قصة بهذا الاسم فلا تجد . وإنما تجد أنّ (دلالة الأسماء) هى التى تلضم وتـُلملم هذا العالم الفريد لمعظم أبطال المجموعة. هذه الدلالة تتبدى فى رحلات متنوعة للكشف والاستكشاف . رحلات الروح المعذبة. رحلات تـُلخص الفارق الأساسى بين الإنسان وغيره من الكائنات الحية. فهوالكائن الوحيد الذى لايكل من رحلات البحث عن مغزى وجوده والبحث عن طبيعة العلاقة بينه وبين الكون والمجتمع . وهوالكائن الوحيد الذى لم تتوقف رحلات (التوق) لديه. وكلما ارتقى درجة سعى إلى (توق) جديد . والأسماء عند منتصر تعنى التوق إلى خلاص ما لعذابات الروح ، لذلك نجد أنّ الأسماء أحيانـًا تعنى أسماء الطرق من خلال البحث فى الخرائط (قصة وقع الخطى) وأحيانـًا مجرد قيمة تراثية (البحث عن الذات من خلال التراث القومى المصرى كما فى قصة نسيج المسافات) أوالموقف المتناقض من التراث (فى قصة ويوغلن فى الحفر) البطل يُحاول الاحتفاظ بتمثال لفتاة فرعونية ويخشى عليه من أنْ تـُهشّمه الفأس ، بينما الأب يتخذ موقفـًا مُعاديًا ولايهتم إلاّببناء البيت . وهكذا نجد أنّ (الأسماء) دلالات لمعانٍ ورموز- ذاتية وقومية- ولعلّ هذا ما قصده الكاتب من اختيارهذا العنوان الدال (نسيج الأسماء) وفى حين لانجد قصة تحمل هذا العنوان ، نجد قصتيْن تحمل كل منهما كلمة من كلمتىْ عنوان المجموعة هما قصة (نسيج المسافات) وقصة (نظم الأسماء) مما يوحى أنّ دلالة الأسماء تيارعام أوخيط أساسى يدخل فى (النسيج العام) لمعظم قصص المجموعة.
إنّ هذا الهم النبيل يُصاغ بلغة شاعرية بالغة الحساسية والتكثيف ، ولكن مشكلتها – قصصيًا – أنّ منتصرلايهتم كثيرًا – فى الغالب – بتفاصيل الواقع ومعطياته فى جدلية قصصه مع هموم أبطاله التى تبدوأقرب إلى مجال الكليات والتجريدات ، الأمرالذى يجعلها أكثرتجانسًا لمجال الفلسفة والشعرمنها لمجال القصة. الأمرالذى جعلنى أتساءل مع كل قراءة جديدة : لماذا اختار (شكل) القصة ولم يختر(شكل) الشعر؟ وهذا سؤال تتطلب إجابته الدخول فى بحث خاص عن الأسباب والدوافع التى تؤدى بالكاتب إلى أنْ يختارشكلا معينـًا للكتابة الإبداعية. وما يعنينى هنا هوهل منتصريفتقد تجارب من واقع الحياة ، فينحوهذا النحوالتجريدى مع المطلق والكلى ؟
إنّ معظم القصص تؤكد أنّ منتصريختزن رصيدًا كبيرًا وعميقـًا من تجارب الحياة والبشر. ولكن مشكلة الكتابة عنده هى التوغل والمغالاة فى الغموض .
فى قصة (العشق) علاقة حب باهرة بين امرأة ورجل . فى هذه القصة يغزل منتصرجديلة عميقة وجميلة بين العشق والموت . الرجل يرفض مهنة أهله (دفن الموتى) لحظة أنْ نظرإلى امرأة مُسجاة فى كفنها . لحظتها أيقن أنه لن يُكمل الطريق مع أهله الذين أرادوا تعليمه مهنتهم . أبصرأكفانـًا عديدة وصناديق مليئة بالكثير، لكن اليقين المُفاجىء لم يسكنه إلاّحين أبصرها . تسلل فى غيبتهم وأخذ أشياءً كان يُريدها ، لكنه عرف أنه لن يستطيع الخروج . اكتفى بما فى يديه وتركهم للأبد . هذه الأشياء تنتقل – بما يُشبه الوصية- إلى امرأة أخرى قبل أنْ يغرق الرجل فى النهر((عند موتى ضعى أشياءها فوق جسدى قبل أنْ أكفن . لن يؤنس وحشتى لحظتها غيرها . أعرف أنها ستـُكمل كل الأحاديث وأننى ربما أكونها فى النهاية)) والقصة تبدأ وتنتهى بهذه المرأة التى تلقتْ الوصية. وهى تتأمل وتتحاورمع أشياء المرأة الأخرى على جسد الرجل . كأنما تعيش عشقيْن : عشقها هى للرجل وعشق الرجل للمرأة التى رآها – أول وآخرمرة- مُسجاة فى نعشها .
فى هذه القصة يقترب منتصرمن فن القصة. فبالرغم من شاعرية اللغة واختفاء (الحدث) بل والاستاتيكية الظاهرة ، إلاّ أنّ القارىء يستطيع أنْ يستشف – من تحت السكون – تلك الدوامات التى تبتلع المرأة الضائعة بين جثتيْن وروحيْن وعشيقيْن . هذه شخصية قصصية من حيث اكتمال ملامحها الإنسانية. ومن حيث أنّ بناء القصة قائم على صراع الأضداد (الوحدة والتعدد) وعلى علاقة عشق فريدة بين ثلاثة أطراف (امرأتان ورجل) إلى أنْ يصل القارىء – بفضل هذا البناء – إلى كنه مأساة هذه المرأة التى تؤكد – بموقفها المُتفرّد – على أنه إذا كان للموت سطوة ، فللعشق مثلها .
ولكن المغالاة فى الغموض – فى هذه القصة البديعة- جعل قراءتها شيئا مرهقــًا . فهذه المرأة تبدوفى وفائها أقرب إلى حنان الأم وهى تتمثل وصية ابنها ((ضعى أشياءها فوق جسدى)) ولكن هذا الظن سرعان ما يتبدّد إذْ هى ((تـُحدّق فى جسده العارى . شعرتْ لحظتها أنّ عريه هذا ليس ما عرفه جسدها عنه لسنوات طويلة. بل هوعرى تعرفه فقط حياته مع هذه الأشياء)) وفى موضع آخرنراها تنظرإلى نفسها فى المرآة . يقول الكاتب ((كيف سيراها ؟ ترى عريها الآن فتشعربه يتشكل وفق أشيائها . هل حينما كاشفها برغبته كان يشعرأنّ النهاية ستأتيه فجأة ، وأنه كان يريد أنْ تـصبح رغبته رغبتها ؟)) وفى موضع ثالث كانت تتأمل أشياء المرأة المُسجاة فى كفنها . يقول الكاتب ((هل كانت تخشاها ، أم أنها كانت تتلمس الطريق إليها ، أم أنّ جسده العارى وقد امتزج بكل ما فى الكيس كان يأتيها من قرارة النهر، فتنشغل برؤياه ؟)) نحن إذن أمام علاقة عشق بين امرأة ورجل وليست علاقة حنان بين أم وابنها ، وهذا ماتؤكده النهاية. إذْ بعد أنْ تتمدّد المرأة على السرير، وتتوسّد ذراعيها ((أخذتْ تتسمّع لصوت قطرات الماء وهى تسقط على الأرض . وصاريأتيها ويُمعن فى البُعد . تحتضنه فيسكنها ويزول فى الصحو. عريهما يكشف الطريق ويزيد من العشق . وأكمل لها مانقص من المناجاة)) ورغم هذا التأكيد القاطع بأننا إزاء امرأة أخرى تعشق رجلها حتى بعد الموت ، وتعشقه بأشياء امرأة أخرى على جسده ، فإنّ منتصر- كعادته- يضن بإضاءة واحدة موحية عن الدافع وراء هذا السلوك الفريد لرجل يوصى امرأة تعشقه ويعشقها بأنْ تضع على جسده أشياء امرأة أخرى ، وعن الدافع الذى جعل البطلة تمتثل لهذه العلاقة التى تصل فى نهاية القصة إلى درجة ذوبان – أوقل انصهار- الثلاثة فى واحد.
السبب الثانى الذى أحدثته المغالاة فى الغموض هودلالة الأشياء ، فالكاتب يختارأشياء بعينها مثل ((قلادة قطعة من الذهب منقوش عليها أيدٍ تمتد فاردة أصابعها حتى النهاية)) ، ((حزام جلدى نـُـقشتْ عليه رسومات دقيقة. تضم أكثرها ولاتنفرد سوى الطيورالصغيرة فاردة الأجنحة إلى آخرمدى)) ما دلالة هذا الوصف للأشياء وعلاقته بباقى مفردات القصة ؟ يكتفى الكاتب بقول الرجل للمرأة بأنّ ((كل مافى الكيس لايكشف سرحقيقته إلاّ بمرورالزمن))
كانت المرأة تلف الحزام حول خصرها بنفس طريقة الرجل (ولانعرف إنْ كان هذا الحزام ملكا للرجل أم هوضمن الأشياء المأخوذة من كفن المرأة المُسجاة) قبيل هذا الفعل مباشرة يقول الكاتب ((حدّثها أنها لغة تسكنها الدنيا وقادرة على الخلق)) هذه الإشارة الموحية تـُكثف المحتوى الشعرى والفلسفى للقصة. ومنتصريحفر- غالبًا – نحوالهدف ولايرتد إلى الأسباب والدوافع . وهذه الأسباب والدوافع إنْ كانت تختفى فى الشعر، فهى التى تـُضفى على الشخصيات ملامحها الإنسانية فى القصة.
من أجمل قصص المجموعة قصة (أفق الحرف) مجموعة من البشرداخل قبو. لانعرف هوية من حبسهم ولاهوية المحبوسين . تهتم القصة بإقامة بناء لتلك العلاقة الأزلية بين القيود التى تـُكبّل الإنسان وتسوقه إلى الخلاص والحرية. ويتمحورالصراع فى القصة حول ماهية الصمت وماهية الحوارمن جهة. وعن الجدلية المُفترضة بينهما من جهة ثانية. فحينما يتسلل شعاع من خلال الظلمة ((يُسرعون ليصطفوا على إمتداده . مُضفين بحركتهم على المكان سؤالا عن ماهية الصمت ونقيضه فى هذا الجزء من الحياة)) ثم يأتى الشعاع فيدخل كطرف ثالث فى هذه العلاقة. فبعد الفوضى التى كانت تجمعهم (( فإنّ ما خـُطّ فيهم – بفضله- يسرى بينهم ويكسبهم وصالا ممدودًا . علتْ أصواتهم فجأة وتداخلت ثم عادت لتسكن تمامًا . لكن الناظرإليهم لايخيب شعوره حينما يشعرأنّ كلا منهم يتفجّرداخله بالكلام ))
ويبدوالشعاع كنقطة ارتكازومحورتلاق فى علاقة على مستوييْن ، بينه وبين المحبوسين من جهة وبينهم وبين أنفسهم من جهة ثانية. فى مقطع دال يقول الكاتب ((فى البداية بمجرد أنْ أحسوا بدبيب الشعاع يشق الصمت ، بدأ كل واحد منهم يحكى . تركوا العنان للكلام دون أنْ يُفكروا أو يتوقفوا برهة. مايهمهم هوالحياة فى هذه اللحظة دون حدود وكأنهم يُريدون أنْ يخطوا على جسد هذا الشعاع مالم يكتب فيهم)) بعد ذلك نكتشف أنّ الشعاع يلعب دورًا مزدوجًا إلى حد التناقض ، فهوإذْ بدا أداة تواصل ومرتكزإلتقاء ومُفجّرالكلام والحكى والحوار، فإنّ هذا الحكى نفسه يتسبّب فى رحيل الضوء ، أى أنّ الشعاع يقوم بالفعل المزدوج : فهوسبب اشتعال الرغبة. وتحقق الرغبة (سبب) فى انسحابه بالرحيل (1) فماذا يفعلون ؟ إنهم يلتزمون الصمت ((واكتفى كل واحد منهم بالحديث إلى الشعاع فى نفسه)) ومع تصاعد همهمات المحبوسين – فى الحركة قبل الأخيرة – فى جدلية فائقة الجمال مع الضوء (( إذْ نراها تتمدّد على براحه. وتتعانق مع الحيوات الدقيقة السارية فى داخله والتى تستقرفى النهاية عند جدارالقبو)) فإننا نكون قد تهيّأنا للحركة الأخيرة – فيما يُشبه القصيد السيمفونى – التى تصحبنا إلى لحظة الخلاص (( عادتْ الهمهمات لتسكن ثم تصاعدت لاتـُفصح عن شىء مُحدد لكنها وفق لحن بعيد أنشدت أغنية تحس كلماتها فقط وتنفذ للخارج لتلتمس الرؤيا ))
ورحلة العبودية والتوق للحرية تتخذ من (أفق الحرف) ودلالة الكلام الوسيط المُعبّرعنها . والمحبوسون قد تتعامل معهم على أنهم بشريتحرّكون ويحكون وقد تتعامل معهم على أنهم ((رق وورق بردى وعظام جمال وجريد نخل)) وهذا ما أكده الكاتب فى مقطع آخر((ربما يحكون عما هومخطوط فيهم بالخطوط المختلفة : الإنبارى . النبطى . الكوفى . الثلث . الفارسى . الديوانى )) فهم – إذن – رمزلأزمنة مُتعددة وبلاد مختلفة. يقول الكاتب ((ربما يحكون عن أسفارهم بين البلدان المختلفة أوعن الوراقين)) عند هذه الحدود يمكن التعامل مع الرمز، ولكن المغالاة فيه أصاب القراءة – قراءتى – بالعنت والعسر، فمثلا فإنّ اللحظة التى تلى حبسهم فى القبويصفها الكاتب هكذا ((فى الوهلة بين حركة القذف (بهم فى القبو) وقبل أنْ يصلوا لأرضية المكان ، وبينما الفضاء يلفهم ، شعروا بأزمنة الحروف تنبجس . ولايبرزأمامهم سوى الألف . تنفرد حد السماء أوتسكن فتدورحولها الصحف)) ويأتى وصف – أوالغزل فى – الألف ليزيد الأمرصعوبة ((ألف جسدها مُفعم بالسؤال . والنقطة فى مدارها هى منتهى حلمها . فى هذه الوهلة كانت العبارة تبحث عن فاصلة))
ولعلّ سبب المغالاة – فى ظنى – أنّ القصة دارت على محورين لامحورواحد : محورالعتق والتوق للخلاص ((وفق لحن بعيد أنشدت أغنية تحس كلماتها فقط تنفذ للخارج لتلتمس الرؤيا)) والمحورالثانى هو(دبيب الحياة) الذى يُحدثه (الحرف) إذا عانق الورق ودلف إلى العقول ففى ظلمة القبوفى اللحظة التى ينفرد فيها كل بنفسه (سواء ورق بردى أوبشر) ماذا يحدث ؟ يقول الكاتب ((هذه اللحظة هى بداية رحلة الحرف داخله. جسده قبل هذا لم يكن يعرف غيرالريح أو التراب أوالماء . كانت الأشياء تدخله فلا تترك سوى صدى يضيع فى صمت وبمجرد أنْ لامسه الحرف تنبّه أنّ الآخريقدرعلى الولوج فى روحه. ويقدرعلى دفق الغناء فى العناق)) وفى المقطع التالى ((لم يكن كل واحد منهم يكتفى بالحرف المخطوط بل يستشف مكنونه ويُحيله لذرات تشيع فى جسده وتبدأ فى كتابة نفسها إلى آخرمدى)) أعتقد أنّ المغالاة فى رسم هذا الدورللحرف ، ثم بيان العلاقة بينه وبين الوسائط المُدوّن عليها ، تركت – أى المغالاة – غمامة داكنة جعلتنى أتخبّط كثيرًا ، حتى اهتديتُ إلى المحورالأول ، الذى أعتقد أنه المحورالأساسى .
والمجموعة تـُثيرمشكلة فنية بالغة الأهمية ، هى علاقة الشعربالقصة. لأنّ ظنى يذهب إلى أنّ منتصريقف على الحافة بين عالمىْ القصة والشعر. وتساءلتُ هل هوشاعرضلّ طريقه إلى القصة أم العكس ؟ ولكننى تراجعتُ عن إيمان بحرية المُبدع فى التجريب . بل وعن إيمان بحقه فى الحوار. لذلك يهمنى أنْ أسجّل أنّ كل كتابة تعكس أكثرمن صدى للقراءة . ومنتصرنسج عالمًا شديد التفرد والخصوصية- بناءً ولغة- فلا يستقيم التواصل إلاّ بقراءة على نفس المستوى حتى يتم التلاقى بين المُعانتيْن : معاناة الكتابة ومعاناة القراءة . وأعتقد أنّ المجموعة يمكن قراءتها على أنها قصيدة طويلة. ولكنها مُجزأة ومُوزعة على تنويعات عدة . فرغم وحدة البناء واللغة فإنه يسهل اكتشاف تعدد الرؤى كما قال بحق أ. إدوارالخراط . ولعلّ خيرختام هونقل تلك الفقرة من قصة (ملء المدى) لبيان طبيعة تلك الربوة التى يقف منتصرفوقها زائغ العينين . مُعذب الروح . فى رحلة من العشق الفريدة بين عالمىْ القصة والشعر، فيعكس ذلك العشق حجم ونوعية معاناة الكتابة. قال ((طريقى إلى الشاطىء حكايا من لبوا النداء ورحلوا تاركين حنين السبل . أسمعها كلما مضيتُ فوقه. وأجد راويها يسكن الخطوات . يهديها إلى المُلوّحين بأيديهم وينادون على كل من عبر. لم أرهم رؤية عين لعين . لكن أيديهم بدتْ شطآنـًا أرسوفوقها طول العمر))
ـــــــــــــــ
(1) أليس هذا أقرب إلى قانون نفى النفى ؟



#طلعت_رضوان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الشخصية المصرية وتعاملها مع القهر فى مجموعة (الحنان الصيفى)
- الأسطورة والواقع فى أطفال بلا دموع
- وصف اللغة بالفصحى غير علمى لأنّ الفصاحة للإنسان
- علم الآثار وغياب الحس القومى
- رؤية الواقع ورؤى الخيال فى (أغنية الدمية)
- أسماء المصريين بين المُعلن والمسكوت عنه
- قصة للمرحوم بيومى قنديل من مجموعته أمونه تخاوى الجان
- ميريت آمون - قصة قصيرة
- فى نص الليل - قصة قصيرة
- العودة إلى العتمة - قصة قصيرة
- سندريلا مصرية وليست أوروبية
- نقد الفن بالكلمة خيرٌ وأبقى
- أفغانستان بين الاستعماريْن الإنجليزى والروسى
- الليبرالية المصرية بين الفشل والنجاح
- لويس عوض و(إلحاد) الأفغانى
- جمال الدين الأفغانى فى الثقافة السائدة
- العلاقة بين الشعر والفلسفة
- شخصية فى حياتى : بورتريه للسيدة ن. ن
- الأصولية تلاحق الشاعر أحمد شوقى
- الدم العربى فى قصور الوحدة العربية


المزيد.....




- خرائط وأطالس.. الرحالة أوليا جلبي والتأليف العثماني في الجغر ...
- الإعلان الثاني جديد.. مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 الموسم ا ...
- الرئيس الايراني يصل إلي العاصمة الثقافية الباكستانية -لاهور- ...
- الإسكندرية تستعيد مجدها التليد
- على الهواء.. فنانة مصرية شهيرة توجه نداء استغاثة لرئاسة مجلس ...
- الشاعر ومترجمه.. من يعبر عن ذات الآخر؟
- “جميع ترددات قنوات النايل سات 2024” أفلام ومسلسلات وبرامج ور ...
- فنانة لبنانية شهيرة تتبرع بفساتينها من أجل فقراء مصر
- بجودة عالية الدقة: تردد قناة روتانا سينما 2024 Rotana Cinema ...
- NEW تردد قناة بطوط للأطفال 2024 العارضة لأحدث أفلام ديزنى ال ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - طلعت رضوان - ربوة منصر القفاش - قراءة فى مجموعته نسيج الأسماء