أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - نصار إبراهيم - التحدي السوري ومأزق الديمقراطية الكولونيالية في دول - الربيع العربي-















المزيد.....



التحدي السوري ومأزق الديمقراطية الكولونيالية في دول - الربيع العربي-


نصار إبراهيم

الحوار المتمدن-العدد: 3872 - 2012 / 10 / 6 - 15:11
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    



تمهيد:
في كثير من النقاشات وتبادل الآراء مع العشرات من الأصدقاء والمثقفين والنشطاء والأكاديميين من أوروبا وغيرها من الدول الغربية، كنت أشعر بأن هناك مساحة غير واضحة في المقاربات وتحديد المواقف تجاه مفهوم الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، وذلك ارتباطا بما يجري في العالم العربي عموما وفي سوريا على وجه الخصوص. والمسألة هنا لا تتعلق بالنوايا، فهي في غالبيتها صادقة ونبيلة، ولكن كانت هناك دائما زاوية غير واضحة، الأمر الذي كان يضعنا في كثير من الأحيان أمام تناقض في المواقف رغم توحدنا حول المبادئ والقيم التي تتعلق بمفهوم "الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان".
فمفهوم الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان كمنظومة مبادئ وقيم وممارسة، يعاني في هذه الأيام من حالة التباس وتشوه خطير، وذلك نتيجة لما تعرض له من استخدام تعسفي في سياقات ما يسمى ب"الربيع العربي" عموما وفي الحالة السورية على وجه الخصوص من قبل قوى وجماعات ودول وأنظمة وإعلاميين وحتى أكاديميين أقل ما يمكن أن يقال بشأنهم أنهم في حالة عداء وتناقض طبيعي مع جوهر هذا المفهوم من حيث الوعي والممارسة.
عملية التشويه المنهجي والاستخدام التعسفي هذه، أدت إلى فقدان ذلك المفهوم جزءا مهما من بريقه، ودفعت به إلى دوائر الشك والالتباس، مما أفقده الوضوح، وبالتالي القدرة على الاستمرار في جذب المزيد من القطاعات الاجتماعية، التي أصبحت تقف حائرة وهي تتابع حالة التمزق والدماء والفوضى التي باتت تلف عملية التغيير في الدول العربية.
هذه الإشكالية تفرض طرح الأسئلة التالية: هل نعني بالديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان في العالم العربي (كشعوب ومواطنين) ما يعنيه بالضبط ذات المفهوم في وعي وممارسة الشعوب الأوروبية والمواطن الأوروبي؟ فإذا كنا نقصد ذات المعنى بالضبط، إذن لماذا نختلف في المواقف؟ أما إذا كنا نقصد معنى آخر فما هو هذا المعنى ومن أين جاء؟ والأهم كيف نعيد توحيد المواقف على ذات القيم المطلقة لمفهوم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، دون أن يضرب ذلك جوهر المفهوم من جانب، وفي ذات الوقت رؤية الخصوصيات وتأثيراتها على ترجمة تلك المفاهيم والقيم العامة من جانب آخر.
عادة ما يحذر علماء الاجتماع من خطورة استيراد أو تصدير المفاهيم من مجتمع إلى آخر، دون أن يعني ذلك قطع الطريق على تبادل التجارب والخبرات بين الأمم والشعوب، عل العكس من ذلك فتاريخ وتجارب البشرية رغم تنوعهما الهائل الممتد في الزمان والمكان هو تاريخ واحد! غير أن الخطورة تكمن عندما يتحرك المفهوم ( في موضوعنا نقصد الديمقراطية وحقوق الإنسان والحرية) الذي هو نتاج سياقات اجتماعية واقتصادية وثقافية ونفسية خاصة بالمجتمعات الأوروبية مثلا، لينتقل ويحاول أن يفرض نفسه بذات التجليات وبذات النسخة في سياقات وخصوصيات اجتماعية مختلفة كالمجتمعات العربية، دون الأخذ بعين الاعتبار خطورة تأثيرات هذا الفرض على أولويات تلك المجتمعات وأهدافها وثقافتها وبناها وتاريخها وما يواجهها من تحديات وما تسعى إليه من حقوق في كل المجالات.
ما يهمني في هذه المقالة ليس تصحيح أو تعديل مواقف وسياسات دوائر صنع القرار عند باراك أوباما أو كاميرون أو هولاند... وليس لفت نظر حمد بن جاسم وأمراء آل سعود، أو تصحيح زاوية النظر عند أردوغان، وليس أيضا كسب مواقف المجموعات السلفية والوهابية وغيرها من المجموعات الإرهابية المتطرفة، وذلك لسبب بسيط وواضح وهو أن تلك الدوائر ترفع راية "الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان" لأسباب ودوافع وأهداف مختلفة تماما عن تلك الموجودة في العقل الجمعي للأغلبية الساحقة من المواطنين الأوروبيين، إنها مجرد مدخل ووسيلة من أجل إبقاء عملية التغيير في المجتمعات العربية تحت سقف المصالح الاستراتيجية وسيطرة الدول الغربية وحلفائها.
ما يهمني هنا هم المواطنين الذين يؤمنون فعلا بالديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان ومستعدون للنضال من أجل كرامة الإنسان أينما كان، أولئك الذين يناهضون كل أشكال القمع والظلم والاحتلال والتمييز والاستغلال والاضطهاد، ويؤمنون بالعدالة وحقوق الآخر السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية كما يراها لنفسه كأفراد وجماعات وشعوب وأمم وأقليات إثنية أو دينية أو غيرها.
إذن، في ضوء هذه الإشكالية، كيف تحركت معادلات مفهوم الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان في سياق ما يسمى بالربيع العربي؟
خلفية سريعة:
منذ اتفاقيات سايكس – بيكو بين الدول الاستعمارية ( بريطانيا وفرنسا) عام 1916 والتي رسخت، مع نهاية الحرب العالمية الأولى، تقسيم العالم العربي وقيام أنظمة الدمى العربية، وخاصة دول وإمارات وسلطنات الخليج العربي التي تخضع لحماية الدول الاستعمارية التي تنطلق أولوياتها ولا تزال، من التحكم المطلق بحقول النفط العربي من كل الجوانب، منذ ذلك التاريخ والشعوب العربية تدفع ثمن هذه الهيمنة من حريتها واقتصادها وسيادتها وحقوقها في كل المجالات، ومنذ ذلك التاريخ أيضا والشعوب العربية تحلم وتناضل لاستعادة وحدتها وحريتها وكرامتها.
ولهذا، فإن الشاب التونسي محمد بو عزيزي عندما أشعل النار في جسده في 17 – 12 - 2010 ، فإنه موضوعيا لم يشعل النار في نفسه نتيجة للواقع الاقتصادي البائس الذي كان يعيشه فقط ، أو ردا على الإهانة التي تعرض لها من قبل الشرطة التونسية، إنه في الواقع كان بمثابة عود الثقاب الذي ألقي في الواقع العربي المثقل بالتمزق والمعاناة والفقر والفساد والتهميش والقمع والدكتاتورية وسلطة المخابرات وغياب الحريات وأبسط مظاهر حقوق الإنسان، كما أشعل بو عزيزي النار أيضا في وعي وواقع ما يقارب 300 مليون عربي يحلمون ويناضلون بدولة وطنية عصرية وديمقراطية، دولة ليست دمية أو مزرعة للدول الاستعمارية، دولة لها سيادتها الوطنية الكاملة، دولة تحافظ على الكرامة الوطنية وتملك قرارها، دولة محترمة، دولة لها كلمتها ودورها في المعادلات الدولية والإقليمة، دولة قادرة على مواجهة التهديدات والتحديات وأولها الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين وشعبها الذي يعاني ويقتل أمام أنظار العالم منذ قرن من الزمان.
إلى هذا الجذر العميق بالضبط تعود إشكالية ومأزق الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان في حلقات "الربيع العربي" المختلفة والمتقاطعة في ذات الوقت، كما تعود إلى ذات الجذر أيضا حالة الالتباس بين تجربة المجتمعات الغربية المتطورة والمجتمعات العربية.
ففي المجتمعات الأوروبية المتطورة ترتبط الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان بسياقات التجربة وتراكم الإنجازات التاريخي لتلك المجتمعات بما في ذلك بناء الدولة القومية العصرية ذات السيادة، التي تشكل اليوم الإطار الذي تجري تحت سقفه عملية الارتقاء بالديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان استنادا إلى حركة الواقع المتواصلة في تلك المجتمعات وبما يستجيب لطموحات المواطنين المتصاعدة، وتخطي الثغرات والسلبيات التي تفرزها التجربة وديناميات المجتمع وما تعكسه من حراك اجتماعي يشمل مصالح القوى الاجتماعية وموازين القوى وعلاقات القوة في داخل المجتمع، إلى جانب التحولات التي تتعلق بثروات الأمة ومصادرها الطبيعية ورأسمالها البشري.
عملية إرساء قيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان في المجتمعات الغربية، لم تأت بضربة واحدة، فتلك الحقوق لم تأخذ تجلياتها التي نراها اليوم إلا بعد نضالات وثورات اجتماعية وسياسية وثقافية طويلة وقاسية خاضتها الشعوب الأوروبية ضد القوى وأنظمة الحكم التي كانت تشدها إلى الخلف، إنها عملية تاريخية تراكمية طويلة، ومرت في مراحل تقدم وتراجع معقدة حتى استقرت على ما هي عليه.
وشأنها شأن أي عملية تغيير جذري في التاريخ البشري لم تقتصر هذه العملية على تطور الوعي فقط، بل كانت عملية تغيير فرضتها نضالات القوى الاجتماعية وتعبيراتها السياسية والثقافية، ذلك لأن مرجعياتها كانت ترتبط دائما بالواقع الملموس، الواقع الذي تفرضه التطورات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي تشهدها المجتمعات الأوروبية ودائما وفقا لخصوصيات كل مجتمع منها.
بهذا المعنى بالضبط لا يمكن الفصل بين تطور مفهوم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان في المجتمعات الأوروبية والتحولات والتحديات التي فرضتها الثورة الصناعية على المستويات السياسية والاقتصادية والثقافية، وكل ذلك ارتباطا بنشوء مفهوم المواطنة وعلاقته بالدولة القومية، الذي يشكل الإطار الذي تتحرك في سياقاته ومحدداته حقوق المواطن في مختلف المجالات، وهذه ليست مجرد عملية ذهنية أو حركة في الوعي، بل هي حركة مرتبطة بحركة الواقع ذاته.
إذن، منجزات الشعوب الأوروبية على صعيد الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، وتحولها إلى منظومة شاملة هو نتاج العلاقة الجدلية بين مستوى تطور المجتمع في مختلف المجالات وترجمات ذلك على صعيد بناء الدولة القومية ذات السيادة، الدولة القادرة على تلبية احتياجات مواطنيها في التنمية الشاملة بما تعنيه من تنمية اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية مستمرة ومستدامة، وبدون هذا التوازن ما بين البنية التحتية للمجتمع والبنية الفوقية ما كان لتلك الحقوق أن تتأمن، من هنا أيضا يمكن تفسير نشوء مفهوم المجتمع المدني في المجتمعات الأوروبية كنوع من الاستجابة الشعبية والاجتماعية في مواجهة دور الدولة القهري، إنها محاولة للتكيف وضبط أيقاع الدولة بهدف تخفيف التناقضات الاجتماعية وإبقاء الفرصة قائمة أمام الفئات والقطاعات والمجموعات الشعبية لكي تدافع عن مصالحها وحقوقها والارتقاء بتلك الحقوق ولكن ضمن معادلة احترام الدولة وسيادتها وحماية المنجزات المتحققة للمجتمع عبر التاريخ.
هذا بالمعنى التاريخي، ومع ذلك فإن ذات المنهج يجب أن يحكم مقاربة دور ووظيفة الدولة القومية في البلدان الأوروبية المتطورة حتى في العصر الراهن، عصر الثورة التكنولوجية، ثورة الديجيتال والهندسة الوراثية، أي باختصار عصر العولمة في مختلف المجالات، ذلك أنه من غير الممكن الفصل وبصورة ميكانيكية بين الدور الداخلي للدولة ودورها الخارجي، بين سياساتها الداخلية وسياساتها الخارجية، فمن غير المنطقي أن تكون الدولة ونظامها السياسي ديمقراطيا ويحترم منظومة الحرية وحقوق الإنسان على الصعيد الداخلي، بينما هي دولة كولونيالية وعدوانية تجاه مصالح وحقوق الشعوب الأخرى، فالديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان هي منظومة متكاملة لا يمكن تجزئة أو فصل مكوناتها وترجمتها إلا من حيث الشكل المنهجي بقصد البحث والدراسة، لأن تلك المنظومة في الواقع والممارسة هي بنية شاملة ومتفاعلة إلى أقصى الدرجات، وأكبر مثال على هذه المعضلة أو الإشكالية يتجلى في إرتداد الرأسمالية المتوحشة من الخارج نحو الداخل ( الأزمة المالية التي تعصف بالدول المتطورة منذ ثلاثة أعوام) فبعد أن تم تفريغ أو مصادرة دور الدولة القومية لصالح الاحتكارات الكبرى عبر خصخصة أكثر القطاعات حيوية في المجتمعات المتقدمة كالتعليم والصحة والمياه والكهرباء والنقل وغيرها، فقد انعكس كل ذلك وبصورة درامية على حقوق غالبية المواطنين الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وهو ما يضرب في العمق منظومة الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان التي أشرنا إليها أعلاه. على أية حال هذا الجانب ليس هو موضوع هذه الورقة فهو يحتاج لقراءة ومعالجة مختلفة ليس هنا مجالها.
ما تقدم يؤشر إلى أصل التباين حول تجليات المفهوم الذي هو عنوان النقاش في السياسة والاجتماع والاقتصاد والممارسة، ذلك أن مفهوم الديمقراطية والحرية عند المجتمعات الأوروبية كأفراد وجماعات وأحزاب ونخب هو أمر يختلف في جوانب جوهرية عما يعنيه ذات المفهوم بالنسبة للشعوب والمجتمعات العربية وإن التقى حول ذات القيم والمبادئ العليا بشكل عام.

مأزق الديمقراطية في دول "الربيع العربي":
انطلاقا من هذا التوضيح الموجز نعود إلى السؤال المحوري؛ أين تلتقي وأين تفترق تجربة الشعوب العربية مع تجربة وفهم شعوب أوروبا لموضوع " الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان"؟
بالنسبة لواقع الشعوب العربية، تتجلى قيم ومباديء الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، وترجماتها المختلفة، في جانبين أساسيين:
الأول: يتعلق بحقوق المواطنين الأساسية في داخل الدولة، وهذا يشمل الحريات الفردية والجماعية والحريات السياسية وحرية التعبير واحترام التنوع وحرية المعتقد وفصل واحترام السلطات، ويشمل أيضا تكافؤ الفرص وتلبية الحقوق الأساسية للمواطنين على صعيد التعليم والعمل والصحة، وأيضا حقوق المرأة والمساواة بين الجنسين في مختلف المجالات واحترام حقوق الطفل والبيئة، أي بكلمة كل ما تنص عليه معاهدات واتفاقيات حقوق الإنسان في كافة المجالات، وهنا تلتقي المجتمعات العربية مع غيرها من الأمم والمجتمعات والشعوب من حيث ضرورة تأمين تلك الحقوق والنضال لتطويرها وفق طاقات وإمكانات المجتمع المحدد.
غير أن تأمين هذه الحقوق والحاجات الضرورية يعني ضرورة توفير الشروط اللازمة للنهضة السياسية والاقتصادية والثقافية في داخل المجتمع، وهذا بدروه مشروط بتوفر الحرية السياسية والاجتماعية بهدف امتلاك حرية تحديد أولويات المجتمع المعني في مختلف المجالات، بمعنى أن توفير الحقوق الاقتصادية يتطلب القدرة على تحديد إطار وجوهر العملية التنموية التي يجب أن يبادر إليها المجتمع، وأيضا القدرة على الاستفادة القصوى من الثروات الطبيعية والبشرية الموجودة، إذن نحن أمام عملية معقدة ومتداخلة، ومن يعتقد أن تحقيق الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان هو مجرد نقاش نظري ومجموعة إجراءات سطحية إنما يؤسس لعملية تشويه الوعي ويفقد هذه العملية البنيوية أساسها وشروطها المادية وبالتالي يفقدها مرجعيتها الوحيدة وهي الواقع الاجتماعي بكل مكوناته.
إن فهم واستيعاب وإدراك هذه النقطة تحديدا أمر في غاية الأهمية، لأن وعيها بصورة عميقة يقطع الطريق على محاولات فرض الديمقراطية أو الحرية من الخارج، كما يؤشر في كثير من الحالات إلى السبب وراء إخفاق تصدير الديمقراطية والحرية عبر التدخلات الخارجية، وإلى إخفاق عملية فرض نماذج تنموية على العالم الثالث عموما وفي الواقع العربي خصوصا تحت اشتراطات وضغوط البنك الدولي أو التبعية والاعتماد على التمويل الخارجي.
إذن، عملية الديمقراطية والحرية هما بالأصل خيار وفعل اجتماعي – سياسي داخلي بامتياز، خيار وفعل يشتق من ذات المجتمع ويستند إلى تاريخه وثقافته وإمكاناته المادية والبشرية، وهي أيضا عملية نضالية تحتاج إلى التنظيم وصياغة برامج التغيير وجذب أوسع القطاعات الشعبية لتحقيقها، ولكن ما نلاحظه في حالة الربيع العربي هو شراسة وثقل التدخلات الخارجية في الحراك الشعبي بحيث أصبحت عملية التغيير وكأنها مجرد عملية بروباغاندا إعلامية، وفرصة لفرض النموذج الغربي للديمقراطية وحماية المصالح الجيوستراتيجية للدول والقوى الخارجية التي تتناقض مع جوهر ومكونات الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان كما تراها الشعوب العربية لذاتها. هذا الواقع يفسر في بعض جوانبه سبب انحياز قطاعات مهمة من الشارع العربي للفكر الديني والسلفي كرد فعل على التدخلات الخارجية، وهو ما يفسر أيضا النقد والموقف السلبي من قبل الشارع العربي لدور العديد من المنظمات غير الحكومية التي ينظرون إليها ويتعاملون معها وكأنها أدوات لذلك التدخل.
هذا هو البعد الأول لترجمات وتجليات الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، غير أن هذا الجانب في الواقع العربي القائم لا يمكن فصله أو تحقيقه بعيدا عن تأمين وتحقيق جانب آخر لا يقل أهمية، والذي بدونه يستحيل تحقيق الجانب الأول أو على أقل تقدير سيجري تشويهه.
الثاني: ويتعلق بمبادئ وترجمات الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان ارتباطا بمفهوم الدولة القومية المستقلة ذات السيادة، الدولة القادرة على حماية ذاتها وقرارها المستقل، وحماية المصالح والثروات القومية والاستراتيجية العليا واستخدامها لصالح عموم شعبها بما في ذلك حقوق الأجيال القادمة، وأيضا حماية وحدة الشعب والأرض.
هذا الدور الواضح والمستقل للدولة القومية هو شرط ابتدائي لتأسيس الإطار الذي تجري في سياقاته عملية التغيير الديمقراطي، فعملية التنمية الشاملة للمجتمع تحتاج لقوة الدولة ومركزيتها عند التخطيط وتحديد الأولويات وتنظيم استخدام الموارد المادية والبشرية، وأيضا لضمان سيادة القانون، بمعنى أن التغيير الديمقراطي وتلبية حقوق الناس والعدالة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية لهم تستدعي ترسيخ مفهوم المواطنة ونشوء المجتمع المدني الذي ينتظم على أساس معادلة الحقوق والواجبات وسيادة القانون في الدولة القومية.
يشكل المبدأ المشار إليه حجر زاوية بالنسبة لجدية أي عملية تغيير ديمقراطي في المجتمعات العربية، فالمطلوب ليس الديمقراطية كعملية إجرائية وشكلية بل الديمقراطية التي تعيد صياغة العلاقات في المجتمع بناء على خصوصية الواقع وبما يضمن تلبية حقوق المواطنين من جانب، ومنع توحش الدولة أو مصادرة دورها لصالح الحاكم أو النظام أو العائلة من جانب آخر، من هنا يكتسب التركيز على مفهوم الدولة الوطنية المستقلة وذات السيادة قيمته، ذلك أن الوعي العربي لا زال مثقلا بكوارث الهيمنة والاستعمار، وبالتالي فإن محورا أساسيا من حقوقه ومطالبه يتجلى في بناء الدولة القومية والتصدي لسياسات التبعية والهيمنة والتدخلات الخارجية، لأن تلك التدخلات، كما تؤكد التجربة التاريخية، شكلت أحد العوامل الأساسية التي تقف وراء استمرار التخلف وإعادة إنتاجه، كما تقف وراء نهب ثروات الشعوب العربية وتعطيل ديناميات التحول والتطور الديمقراطي فيها، وأيضا لما مثلته القوى الخارجية عبر التاريخ من قوة حماية ودعم للدكتاتورات في العالم العربي لعقود وسنوات طويلة، كما لا تزال وحتى هذه اللحظة تدعم أكثر الأنظمة العربية تخلفا ودكتاتورية.
ضمن هذا السياق يتموضع الموقف من الاحتلال الإسرائيلي، فالموقف من هذا الاحتلال يشكل ثابتا في الوعي العربي الجمعي، وعليه فإن جدية أي عملية تغيير في أي دولة عربية والموقف الشعبي منها سيكون مرهون بعمق الموقف والممارسة الذي ستتخذه عملية التغيير والقوى التي تقودها تجاه الاحتلال الإسرائيلي، وهذه مسألة مبدئية، فقضية فلسطين ليست قضية عابرة في الوعي العربي، ذلك لأنها تعتبر قضية العرب القومية الأولى، إنها بمثابة المقدس الذي يعني تجاهله المساس بكرامة المواطن العربي في العمق، وبالتالي فإن أي تردد أو ميوعة او غموض تجاه هذه القضية يعني الحكم فورا على عملية التغيير باعتبارها عملية قاصرة ومشبوهة بحكم تخليها عن قضية فلسطين والشعب الفلسطيني التي تعتبر بالنسبة لكل مواطن عربي شأنا شخصيا مباشرا.
أهمية توضيح الموقف تجاه هذا الموضوع المحوري لا يعود فقط إلى الأسباب المعنوية المتعلقة بالكرامة والحقوق القومية العربية، أو فقط لمساندة الشعب الفلسطيني في نضاله من أجل الحرية والاستقلال على أهمية ذلك، بل وأيضا لأن دور ووظيفة الاحتلال الإسائيلي شكل وعلى مدار عقود الصراع قوة إعاقة لأي تغيير ديمقراطي وتقدمي في العالم العربي، فالصراع المتواصل مع المشروع الصهيوني منذ عقود طويلة كان بمثابة الثقب الأسود الذي يستنزف الثروات والموارد وتبديد فرص التطور ودفع المنطقة باستمرار نحو الحروب بما تحمله من كوارث إنسانية ومادية، بهذا المعنى يمكن القول ان الاحتلال الإسرائيلي يتناقض مع مفهوم التنمية والحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم العربي بصورة حاسمة، بل ويلعب دورا مباشرا في استمرار التخلف وتشجيع الانقسامات والتحالف بصورة معلنة أو مضمرة مع أكثر الأنظمة العربية رجعية ودكتاتورية.
لكل هذا فإن النضال ضد الاحتلال الإسرائيلي يصبح مكونا أصيلا من مكونات الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان في العالم العربي عموما وفي فلسطين على وجه الخصوص.
استنادا لما تقدم، فإن تركيز أو حصر عملية التغيير في الجانب الأول من هذا المفهوم فقط، وشطب أو تهميش الثاني، يعني بالضرورة السقوط في وهم الحرية والديمقراطية، بحيث يبدو المجتمع وكأنه حر وديمقراطي ويحتفل بصناديق الاقتراع بينما هو في الواقع كدولة خاضع وتابع ولا يملك من الحرية أو الديمقراطية شيئا، وهو ما يعني عمليا تبديد ثروات الشعب ونهبها ويشرع الفساد، حيث يصبح هدف النظام السائد هو الحفاظ على نظام الحكم أو العائلة على حساب مصلحة وحقوق الشعب والأمة، الأمر الذي يضع المجتمع في تناقض عميق بين حقوقه الفردية المباشره وحقوقه الجماعية كشعب في دولة مستقلة وذات سيادة.
هذه المعضلة الكبرى تشكل بالضبط جذر مشكلة ما يسمى بالأنظمة أو الدول أو الحكام أو الملوك الدمى، أو جمهوريات الموز في العالم العربي. إنها دول تبدو مستقلة شكلا ولكنها في أعماقها وجوهرها خاضعة للهيمنة الخارجية، الأمر الذي يجعلها دائما في حالة تناقض مع كرامة وطموح أغلبية شعوبها التي تكون مشدودة لثقافتها ومصالحها وكرامتها الوطنية وذاكرتها الجمعية التي تناهض أي شكل من أشكال التبعية والهيمنة على مصيرها وثرواتها.
أما التركيز على الجانب الثاني وإغفال أو تهميش الأول فهو يقود إلى دولة استبدادية تمارس باسم السيادة الوطنية والحفاظ على المصالح العليا القمع والدكتاتورية، إنها دولة تخشى مواطنيها ولهذا تعاقبهم بمزيد من القهر ومزيد من القمع، الأمر الذي يضع غالبية الشعب فيها من جديد أمام ذات التناقض العميق، إذ يستحيل الحفاظ على الكرامة الوطنية والسيادة والثروات القومية في دولة يخشاها شعبها ولا ينال فيها حقوقه وحريته، وهذا حال الأنظمة البوليسية التي تخشى الشعب، حيث يحول النظام دور الدولة الوطنية من تأمين وحماية حقوق المواطنين في كل المجالات وحماية وحدة المجتمع والسيادة الوطنية إلى مجرد آلة قمع توجه قوتها نحو الداخل.
انطلاقا من هذه المقاربة يمكن وضع اليد على جوهر مأزق أو إشكالية الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان الذي تعاني منها دول "الربيع العربي" الذي بدأ منذ ما يقارب العامين، بحيث قاد هذا المأزق إلى حالة من الفوضى العارمة، حالة من عدم اليقين والشك بالمستقبل ومن جدوى كل هذا الحراك، مأزق فتح باب المجتمعات العربية على مصراعيه لكل أشكال وأنماط التدخلات الخارجية، الأمر الذي قاد في النهاية إلى حمامات من الدم الثمين الذي لا يزال يسيل حتى اليوم.
وبدون شك، لقد لعبت سياسات الدول الكولونيالية وتدخلاتها المستمرة دورا هائلا في تشويه هذا "الربيع" وحرفه عن مساراته، ذلك لأن تلك الدول لا تسعى ولا تستهدف تحقيق تحول ديمقراطي حقيقي للشعوب العربية، ولا تريد لها حرية حقيقية تجمع ما بين البعدين الأساسيين لمفهوم الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان كما أشرت لهما أعلاه، بحيث تصبح الشعوب العربية شعوبا حرة وديمقراطية وفي ذات الوقت لها دول قومية تحترم قرارها وسيادتها وتحافظ عل ثرواتها ومصالحها العليا، بما في ذلك رفض الهيمنة والتبعية لأي دولة خارجية.
لهذا ألقت الولايات المتحدة ومعظم دول الاتحاد الأوروبي بكل ثقلهما السياسي والإعلامي والاستخباراتي والاقتصادي وبحدود معينة العسكري لكي تفرض نموذجها، أي نموذج الديمقراطية الكولونيالية بحيث تحافظ على هيمنتها وسيطرتها على الدول العربية.
هذا ما حصل في تونس، حيث تم إسقاط صديق الغرب التاريخي زين العابدين بن علي في غفلة من الزمن، فقد انصب الجهد لاحقا على ضمان بقاء تونس ضمن دائرة الهيمنة الغربية، وذلك من خلال إعادة صياغة العلاقة مع تنظيم الإخوان المسلمين الذين استلموا السلطة في تونس، ومع فروعهم في عموم العالم العربي، وهنا لا مشكلة مع ظاهرة انتشار السلفية والمتطرفين في تونس، حتى ولو كان ثمن ذلك مثلا الارتداد على ما حققته المرأة التونسية عبر التاريخ من إنجازات وحقوق أو الانقضاض على حرية التعبير وغيرها.
أما في ليبيا، حيث كان الناتوهو قوة التغيير الحاسمة ، فقد كان الهدف من وراء هذا التدخل باسم الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان هو الحفاظ على النفط وإلحاق ليبيا بالفلك الغربي بعد إزاحة الدكتاتور الليبي المشاكس، ( وهذا ما جرى قبل أعوام بالنسبة لصدام حسين في العراق)، وبعدها لم يعد أحد يهتم أو يتذكر الديمقراطية والحرية أو حقوق الإنسان، كما لا يهتم أحد اليوم باقتتال المتطرفين والقبائل في ليبيا، ولا يتابع أحد مدى التزام النظام الجديد بشرعة حقوق الإنسان وحرية التعبير وتلبية حاجات الليبيين الأساسية، كل هذا لم يعد له معنى.
أما ذروة المساومة والخداع فقد كانت في مصر، بما تمثله من وزن سكاني ودور إقليمي ومكانة معنوية وثقافية في المنطقة وفي العالم. هنا جرت الصفقة الكبرى بين حركة الإخوان المسلمين والولايات المتحدة، حيث انقلبت المعادلة من حالة الخوف والتردد والتشكيك لتنتقل إلى التحالف والمساندة، لقد كانت الصفقة واضحة وبسيطة: ليحترم نظام الإخوان المسلمين في مصر المصالح والدور الأمريكي في مصر وفي المنطقة، وليحترم المعاهدات والعلاقات مع إسرائيل، وليضبط إيقاع فروع حركة الإخوان المسلمين في فلسطين وغيرها بحيث لا تتخطى الخطوط الحمر، وليتم التعامل مع إيران باعتبارها الخطر الداهم من خلال تعميم التناقض السني الشيعي في العالم الإسلامي، مقابل ذلك "إفعلوا ما شئتم على الصعيد الداخلي"، فالولايات المتحدة ستواصل التزامها بتقديم المساعدات الاقتصادية للنظام الجديد سواء على شكل هبات أو مساعدات من البنك الدولي، أو من خلال الإيعاز لقطر والسعودية بضخ المليارات على شكل ودائع أو استثمارات.
وتجربة اليمن أيضا لم تخرج عن هذا السياق، فقد جرى الإلتفاف على الحركة الشعبية من خلال مبادرة مجلس التعاون الخليجي التي اقنعت الرئيس على عبد الله صالح (حليف الولايات المتحدة) بالتنحي وترك السلطة مع الحفاظ على بنية النظام، وبالطبع باركت الولايات المتحدة هذه الخطوة كما باركتها دول أوروبا على الرغم من أن غالبية الشعب اليمني لا تزال في الشوارع مصرة على التغيير الجذري في الدولة اليمنية.
أما بالنسبة للبحرين، والتي تطالب غالبية شعبها بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وإسقاط نظام ملك البحرين، فقد اجتاحتها المدرعات السعودية فيما لم نسمع كلمة احتجاج جدية واحدة من الولايات المتحدة وأوروبا، بل صمت ومناشدات خجولة ليس لها أي معنى عملي.
هنا يمكن القول أن ما انتهى إليه الحراك الشعبي في هذه الدول (تونس، مصر، ليبيا، اليمن، البحرين) يشير إلى استمرار التناقض واستمرار المأزق، حيث لا تزال في الواقع بنى الأنظمة السابقة هي السائدة، في حين أن الشعوب العربية لم تنتفض في تلك الدول من أجل مجرد الاحتفال بالانتخابات، إنها انتفضت من أجل حرية وديمقراطية حقيقية، حيث العدالة واحترام حقوق الإنسان وتأمين المتطلبات الأساسية للمواطن العربي على مختلف الصعد؛ السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وأيضا لكي تتحرر دولها الوطنية من التبعية والهيمنة الإمبريالية وشروط البنك الدولي، لتصبح فعلا دولا وطنية حقيقية مستقلة وذات سيادة، دول قادرة على مجابهة التدخلات الخارجية والتصدي لنهب الثروات الوطنية إلى جانب التصدي لسياسات إسرائيل العدوانية واحتلالها المستمر للشعب والأرض الفلسطينية. وبالتالي ما لم يتوفر التناغم بين هذين البعدين سيستمر التناقض بالدفع نحو تجذير عملية التغيير في المجتمعات العربية حتى تستقيم المعادلة.
التحدي السوري:
والآن، كيف نفهم تجليات هذا المأزق في الحالة السورية، التي تبدو وكأنها خارج المنطق، والمقصود هنا مأزق "الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان" وفق الطبعة الغربية الرسمية؟ لماذا تعثر "الربيع العربي" في سوريا رغم مرور ما يقارب العام والنصف على بدء الحراك فيها؟ ولماذا كل هذا الضغط الهائل لإسقاط النظام السوري أوبصورة أدق إسقاط الدولة الوطنية السورية وتحطيم سوريا بالكامل؟ حتى بات المشهد في اللحظة الراهنة أقرب إلى حرب كونية يدور رحاها في سوريا وعلى سوريا وصولا إلى مجلس الأمن ومعظم دول الشرق الأوسط؟
ولماذا لم تنجح كل وسائل التدخل والترغيب والتهديد الغربي والخليجي في جذب غالبية الشعب السوري لتذوق عسل الديمقراطية وحقوق الإنسان؟ وما علاقة الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان باستقطاب عشرات آلاف المسلحين الذين ينتمون لتنظيم القاعدة والسلفيين والوهابيين والتكفيريين من كل أنحاء العالم وتدريبهم وتمويلهم وتسليحهم ودفعهم إلى سوريا؟ وأخيرا لماذا لم تنجح كل هذه الحملات السياسية والإعلامية والمالية والعسكرية والاستخباراتية والحرب النفسية وسيل الدماء في تقويض تماسك وحدة غالبية الشعب السوري، وتماسك مؤسسة الجيش العربي السوري وتماسك السلك اليبلوماسي السوري في العالم؟
الإجابة على هذه الأسئلة بصورة موضوعية ومنطقية تفرض علينا رؤية الخصوصية السورية وبعمق، ذلك أنه وبالرغم من القواسم المشتركة للشعب السوري التي تجمعه مع غيره من الشعوب العربية، إلا أن هناك مجموعة من العوامل الأساسية التي تختلف فيها سورية عن غيرها، وهي بمجموعها وتفاعلها وضعت عملية التغيير في سورية أمام أسئلة وتحديات صعبة ومعقدة، ووضعت وصفة الديمقراطية الكولونيالية المحمولة على أجنحة النفاق والإرهاب وأموال الخليج أمام اختبار قاس وهزيمة واضحة سياسيا وثقافيا وأخلاقيا.
نقطة الإنطلاق الأهم لفهم ما يجري في سوريا هي ضرورة تذكر جدل العلاقة مابين جانبي الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، أي الجانب الداخلي والجانب المتعلق بالدولة الوطنية واستقلالها.
لا أحد ينكر بأن الحراك في سوريا قد بدأ في بعد رئيسي منه تحت ضغط الحاجة الداخلية للتغيير مدعومة بقوة الدفع العفوية لما جرى في الدول العربية الأخرى، وذلك بهدف التغيير والإصلاح وتحقيق الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان للشعب السوري بأفضل تجلياتها، وإنهاء مظاهر القمع والفساد وأي شكل من أشكال الدكتاتورية، وهذا حق وواجب طبيعي لأي شعب من الشعوب، غير أن الحراك الشعبي والاجتماعي في سوريا وهو يناضل للتغيير بقي محكوما بجملة من الشروط والضوابط التي يجب أن تجري في إطارها عملية التغيير كي لا تتحول في النهاية إلى عملية تدمير ذاتي للمجتمع والدولة السوريان.
أول هذه الضوابط: حرص ووعي غالبية الشعب السوري لضرورة أن لا تتناقض أو تضرب عملية التغيير مفهوم استقلال دولتهم الوطنية وسيادتها ووحدة أراضيها، فالذاكرة الجمعية للشعب السوري وثقافته السائدة لا يمكن أن تقبل باستبدال الدولة الوطنية المستقلة بدولة أو نظام دمية، هذه الحقيقة تستند إلى تجربة وذاكرة عميقة لا يزال حاضر فيها التضحيات الكبرى التي قدمها الشعب السوري لطرد الاستعمار الفرنسي من سوريا في النصف الأول من القرن الماضي، وقبله التضحيات الكبرى التي قدمها للتخلص من الاحتلال العثماني، كما لا يزال حاضرا في الوعي السوري وبقوة نتائج مخططات تقسيم سوريا من قبل الاستعمار البريطاني والفرنسي مع نهاية الحرب العالمية الأولى والتي أدت إلى اقتطاع لبنان من سوريا الطبيعية واقتطاع لواء الإسكندرون وإلحاقه بتركيا حتى اليوم، يضاف لذلك الاحتلال الإسرائيلي لمرتفعات الجولان منذ عام 1967، كل هذه الحقائق تلعب دورا محوريا في خيارات الشعب السوري، والتي بدون فهمها وفهم وزنها لا يمكن فهم سلوك الشعب السوري. هذا يعني أن أحد الثوابت الحاسمة في وعي وموقف الغالبية الساحقة من الشعب السوري هو رفض أي شكل من أشكال التدخل الإمبريالي في شؤونها وأيضا العداء الواضح وغير القابل للمساومة تجاه الإحتلال الإسرائيلي، وأي نظام بديل لما هو قائم لا يلتزم بهذا الثابت محكوم عليه بالفشل والسقوط منذ اللحظة الأولى.
ثانيا: ترتب على العامل السابق عامل جديد ينعكس في حساسية الشعب السوري الهائلة لأي تدخل خارجي في شؤونهم، ليتقاطع هذا العامل مع الإحساس العميق عند الشعب السوري بقوميته العربية واعتزازه بها وإيمانه بضرورة توحيد الأمة العربية، وبهذا المعنى فإن سورية دائما وعبر التاريخ القديم والحديث كانت دولة محورية مقررة في العالم العربي ولم تكن في أي مرحلة دولة هامشية. هذا الواقع أطلق في الوعي السوري ثقافة المقاومة والممانعة لأية مشاريع أو مخططات تسعى لتهميش دور سوريا أو اغتصاب سيادتها.
ثالثا: حالة الإشباع الحضاري والتاريخي والثقافي والانفتاح التي يتسم بها الشعب السوري، وذلك استنادا إلى الدور الحضاري التاريخي لسوريا في الإقليم وموقعها الجيوستراتيجي الحساس ما بين الشرق والغرب، ولاحقا باعتبارها حاضرة الإمبرطورية الإسلامية الأقوى في التاريخ ( الخلافة الأموية) بكل إنجازاتها، كل هذا يجعل من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، أن يقبل الشعب السوري وببساطة أن تأتي قوى هامشية لكي تملي عليه شروطها وتصوراتها، فالوعي السوري الجمعي يستند إلى ثقافة سائدة تقوم على الانفتاح والتعايش بين موزاييك ومكونات الشعب السوري المختلفة، التي تتقدم فيها سورية كل مكون اجتماعي فرعي، مهما كان وزنه أو دوره، على المكونات الخاصة لذلك الفرع، وبهذا المعنى نفهم مقولة سوريا هي الأم الكبرى لكل السوريين (مسلمين، مسحيين، سنة، علويين، دروز، أكراد، تركمان، طبقات، مثقفين..وغيرها) إن سوريا ما كانت لتكون ما هي عليه لو لم تكن متصالحة مع ذاتها المتشكلة منذ الأبجدية الأولى للبشرية.
رابعا: تتعامل سوريا مع ذاتها باعتبارها مركزا ومرجعا للفقه الإسلامي، وبالتالي فإنها لا تقبل بأن يملي عليها أي مرجع إسلامي من خارجها كيف ترى الإسلام وترجماته الاجتماعية، هذه المسألة لا يعيها أصحاب الفكر السلفي والفكر الوهابي أو فكر القاعدة أو حتى حركة الإخوان المسلمين، وهذا ما يفسر التفاف ودعم الغالبية الساحقة من رجال الدين والعلماء المسلمين في سوريا حول الدولة والنظام، وهو ما يفسر أيضا عدم استجابة الغالبية السنية من الشعب السوري للفتاوي الدينية القادمة من وراء الحدود، وذات الشيء يمكن أن يقال عن رجال الدين والكنائس المسيحية التي لا مرجعية لها إلا ذاتها، وهذا يختلف مثلا عن العديد من الطوائف المسيحية في لبنان أو فلسطين، حيث غالبية مرجعياتها الدينية هي من خارجها، كالفاتيكان أو اليونان... (آمل هنا عدم تفسير هذا الالتفاف بصورة سطحية من نوع الخوف والمصالح وغير ذلك من الأسباب) فاللحظة أكثر من مناسبة في ظل كل هذه الإغراءات والحصار والضغوط للتخلي عن النظام لمن يريد.
خامسا: قناعة غالبية السوريين بسياسة ومواقف دولتهم الوطنية، فبقدر ما يرون السلبيات والثغرات في مختلف المجالات، فإنهم في ذات الوقت يرون الإنجازات التي حققتها هذه الدولة عبر العقود في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وأيضا على صعيد الحفاظ على مكانة ودور سوريا المركزي في المنطقة والعالم إلى جانب حماية سيادة سوريا وقرارها الوطني المستقل، إضافة إلى قناعتهم بمواقف سوريا القومية الداعمة لحركات المقاومة في المنطقة، فالشعب السوري يرى في ذاته قوة مقاومة، هذا يعني أن أي عملية تغيير ترتبط في وعي وسلوك الشعب السوري بضرورة الحفاظ على هذه المنجزات وعدم تبديدها، وفي مقدمة ذلك حماية الدولة السورية كمنجز وطني تاريخي للشعب السوري، وعليه فإن عملية التغيير يجب أن تكون في سياق تطوير الانجازات والمراكمة عليها، وبالتالي فإن أي بديل عن النظام الحالي لكي يكون مقنعا ومنطقيا يجب أن يكون على يسار ما هو قائم سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا واستراتيجيا.
بهذا المعنى يمكن القول أن دور الرئيس بشار الأسد وحزب البعث في الحالة السورية ليس دورا من خارج سياقات التاريخ السوري، بل على العكس إنه بصورة عامة منسجم مع الدور الذي تتطلبه خصوصية الشعب السوري دون إغفال الثغرات والأخطاء والسلبيات التي رافقت هذه التجربة، وبكلمات أخرى إن الشعب السوري هو الذي خلق تجربة حزب البعث وليس حزب البعث هو الذي خلق الشعب السوري بكل خصوصياته، وإلا كيف نفسر هذا الإلتفاف الشعبي الواسع حول الرئيس الأسد وحول الدولة السورية كل هذا الوقت، رغم هول وشراسة الهجوم الذي يتعرض له وما رافقه من ضغوط وحصار ودمار وحروب إعلامية واستخباراتية طالت حتى الدوائر الأكثر قربا من قلب النظام (إغتيال الجنرالات الأربعة وانشقاق رئيس الوزراء رياض حجاب).
أما من يرى بأن السبب في بقاء النظام حتى اللحظة يعود إلى الموقف الروسي والصيني والدعم الإيراني، فهذا تبسيط للأمور ولا يصمد أمام محكمة الواقع والمنطق، بالتأكيد أن الموقف الروسي والصيني والإيراني يلعب دورا في تعزيز مقاومة النظام، ولكن يجب رؤية هذا الدور آخذين بعين الاعتبار ملاحظتين أساسيتين:
الأولى: أن موقف روسيا والصين ما كان ليكون بهذا الحسم والقوة لو أن لديهما قناعة بأن الرئيس بشار الأسد والنظام السياسي والدولة الوطنية السورية ضعفاء، وأن غالبية الشعب السوري تقاتل من أجل رحيلهم، ذلك لأن دول بمستوى روسيا والصين لا تغامر ببساطة للوقوف إلى جانب رئيس ونظام هش ومهزوم مسبقا.
الثانية: أن الدور الروسي يكمن تأثيره الحاسم بالأساس في قطع الطريق على التدخلات الكولونيالية والرجعية الخارجية تحت غطاء مجلس الأمن ( تدخل الناتو على غرار التجربة الليبية، فرض مناطق حظر جوي أو مناطق عازلة)، والسؤال هنا لماذا يتم اللجوء لقوات الناتو لكي تتدخل بصورة مباشرة عسكريا لإسقاط النظام إذا كان صحيحا أن غالبية أل 23 مليون من الشعب السوري لا تريد هذا النظام وتسعى لإسقاطه، وإذا كان هذا صحيحا فما الحاجة لقوات الناتو، وما هي الحاجة لفضيحة استقدام آلاف المسلحين من كل العالم للقتال ضد النظام؟!
خلاصة القول، إن نقطة افتراق الخصوصية السورية عن بقية دول الربيع العربي تكمن وتتجلى بوضوح في اختلاف دور ومواقف وسياسات الدولة الوطنية السورية والنظام السوري والرئيس بشار الأسد عن غيره من أدوار وسياسات الدول الأخرى ( تونس، مصر، ليبيا، واليمن) فتلك الدول وأنظمتها السياسية ورؤسائها كانت مصنفة كدول حليفة للولايات المتحدة، إنها دول تابعة وخاضعة، وبالتالي فإنها كانت تفتقد للتعاطف الشعبي على المستويين، على مستوى السياسة الداخلية ومستوى السياسة الخارجية، أما في سوريا فبقدر ما أن هناك حاجة للتغير على مستوى السياسات الداخلية فإن غالبية الشعب السوري كانت تناهض أي مساس بمكانة ودور دولتهم الوطنية واستقلالها وسيادتها، وأيضا القناعة بالمقاربات الاستراتيجية لسياسة وخيارات الرئيس بشار الإقليمية والدولية بما يحافظ على سيادة الدولة وقرارها المستقل.
هذه الحقائق والوقائع جميعها هي التي وضعت مقولة الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان في سوريا أمام مأزق جدي وأسئلة مصيرية، يتجه خط سير حسمها في النهاية، رغم الأثمان الباهظة التي دفعها الشعب السوري من دمائه ومنجزاته، لصالح الخيار الحر والأصيل لغالبية شعب سوريا مقابل إنسداد الأفق أمام مشاريع ومخططات إسقاط سورية عبر فرض نسخة الديمقراطية الكولونيالية وتحطيم صورتها ودورها كدولة محورية في العالم العربي وفي الشرق الأوسط إن لم يكن على المستوى العالمي، ذلك أن الكثير من المعادلات والعلاقات والخيارات الإقليمية والدولية قد تغيرت أو أنها في طور التغير منذ الآن، والسبب الرئيس في ذلك هو صمود الحلقة السورية الحديدي أمام محاولات كسرها وإخضاعها لتلتحق ببقية حلقات الربيع العربي الأخرى.
ذات الحقيقة المشار إليها أعلاه، والمتمثلة بهذه الحرب الكونية على سوريا كدولة وشعب ودور ونظام ورئيس بسبب مواقفهم المناهضة للتبعية والهيمنة تحت شعار الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، هي ذاتها الحقيقة التي تقف وراء الصمت المطلق من قبل ذات الدول تجاه أنظمة الحكم الأكثر رجعية وتخلفا في العالم ( السعودية وقطر والبحرين وغيرها من مخلفات القرون الوسطى)، وهي ذاتها التي تفسر هذا الحب الغريب والمفاجيء من قبل الولايات المتحدة وغيرها من الدول الغربية للإخوان المسلمين وتنظيم القاعدة والحركات الوهابية والأصولية والسلفية المتطرفة بعد أن كانت بالأمس القريب هي العدو رقم واحد.
في النهاية، ليس هناك ما هو أكثر إهانة لراية الديمقراطية وحقوق الإنسان من أن ترفعها وتلوح بها الأنظمة الأكثر تخلفا ورجعية وديكتاوتورية في العالم ( آل سعود وقطر)، وليس هناك أكثر إهانة وبؤسا من أن ترفع تلك الراية الدول الاستعمارية التي امتهنت الحروب والدمار ( الولايات المتحدة والدول الغربية)، وليس هناك أكثر إهانة للديمقراطية وحقوق الإنسان من تحولها لراية تستقطب كل فلول الإرهاب الديني والثقافي والاجتماعي والذبح على الهوية الدينية أو الطائفية أو الاجتماعية ( السلفيون والوهابيون والتكفيريون والقاعدة...).
إذن لا يكفي أن نقول أننا مع الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، بل يجب أن نحدد بوضوح ودقة ماذا نقصد بالضبط بالديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، وكل ذلك ارتباطا بالواقع المحدد وبخصوصيات كل مجتمع وحقوق المواطنين الفردية والوطنية، وبما يشمل أيضا السياسات الداخلية والسياسات الخارجية للدولة، فغالبية زوار جهنم السابقين واللاحقين كانت نياتهم بالتأكيد طيبة ونبيلة.



#نصار_إبراهيم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الشعب السوري: هو البطل الملحمي وقوة الحسم..شيئ من السياسة وب ...
- التحولات في الشارع العربي.. هي ستنحج في استعادة الذات والقطع ...
- سورية: الصراع على المستقبل


المزيد.....




- فيديو غريب يظهر جنوح 160 حوتا على شواطىء أستراليا.. شاهد رد ...
- الدفاع الروسية تعلن القضاء على 1000 عسكري أوكراني خلال 24 سا ...
- أطعمة تجعلك أكثر ذكاء!
- مصر.. ذعر كبير وغموض بعد عثور المارّة على جثة
- المصريون يوجهون ضربة قوية للتجار بعد حملة مقاطعة
- زاخاروفا: اتهام روسيا بـ-اختطاف أطفال أوكرانيين- هدفه تشويه ...
- تحذيرات من أمراض -مهددة للحياة- قد تطال نصف سكان العالم بحلو ...
- -نيويورك تايمز-: واشنطن سلمت كييف سرّا أكثر من 100 صاروخ ATA ...
- مواد في متناول اليد تهدد حياتنا بسموم قاتلة!
- الجيش الأمريكي لا يستطيع مواجهة الطائرات دون طيار


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - نصار إبراهيم - التحدي السوري ومأزق الديمقراطية الكولونيالية في دول - الربيع العربي-