لمن تكتب يا سامي؟

سامي الذيب
(Sami Aldeeb)

الحوار المتمدن-العدد: 3871 - 2012 / 10 / 5 - 22:40
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    

يوحنا المعمدان (يحيى) مثال الكاتب الملتزم
---------------------------
ينقل الطبري في تفسيره عن عائشة أن ملاكاً جاء إلى النبي محمد وهو في غار حراء واخبره بأنه جبريل وان محمد رسول الله، وبادره بالأمر: "إقرأ". فأجاب محمد: "ما أقرأ؟" فرد عليه الملاك. "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ". وتكون هذه الآية الأولى التي نزلت على النبي محمد وفقا للمصادر الإسلامية. وتذكر مصادر أخرى أن النبي أجاب: "ما انا بقارئ" فيكون المعنى بخلاف الرواية الأولى أن النبي لا يحسن القراءة. ومن هذه المقولة ومن بعض آيات القرآن التي تنعت النبي محمد بأنه أمي، استنتج المسلمون أن النبي محمد لا يقرأ ولا يكتب. وهو امر فيه خلاف عند بعضهم.
والغريب في الأمر اننا نجد في سفر أشعيا العبارتين. ففي الفصل 40 نجد: "صوت مناد في البرية: أعدوا طريق الرب وآجعلوا سبل إلهنا في الصحراء قويمة. كل واد يرتفع وكل جبل وتل ينخفض والمنعرج يقوم ووعر الطريق يصير سهلا ويتجلى مجد الرب ويعاينه كل بشر لأن فم الرب قد تكلم . صوت قائل : ناد. فقال: ماذا أنادي؟ كل بشر عشب وكل جماله كزهر البرية" (أشعيا 40 : 3-6).
كما نجد في الفصل 29 ما يلي: "صارت لكم جميع الرؤى كأقوال كتاب مختوم يناولونه لمن يعرف القراءة قائلين: إقرأ هذا فيقول: لا أستطيع، لأنه مختوم ثم يناول الكتاب لمن لا يعرف القراءة، ويقال له: إقرأ هذا، فيقول: لا أعرف القراءة" (أشعيا 29 : 11-12).
وفي نصي النبي أشعيا المذكورين استعملت نفس كلمة إقرأ بالعبرية، مرة بمعنى نادى ومرة بمعنى قرأ. ومن الواضح أن النص القرآني والروايتين الإسلاميتين اصلهما سفر النبي أشعيا. فلا وحي ولا ما يحزنون.
وقد بدأ القديس مرقص، الذي تنتمي اليه الكنيسة القبطية، إنجيله بإشارة إلى قول أشعيا: "بدء بشارة يسوع المسيح آبن الله: كتب في سفر النبي أشعيا: هاءنذا أرسل رسولي قدامك ليعد طريقك. صوت مناد في البرية: أعدوا طريق الرب واجعلوا سبله قويمة. تم ذلك يوم ظهر يوحنا المعمدان في البرية، ينادي بمعمودية توبة لغفران الخطايا. وكانت تخرج إليه بلاد اليهودية كلها وجميع أهل أورشليم، فيعتمدون عن يده في نهر الأردن معترفين بخطاياهم. وكان يوحنا يلبس وبر الإبل، وزنارا من جلد حول وسطه. وكان يأكل الجراد والعسل البري" (1 : 1-7).
ويذكر لنا القديس لوقا في إنجيله كلاما للسيد المسيح عن يوحنا: "ماذا خرجتم إلى البرية تنظرون؟ أقصبة تهزها الريح؟ بل ماذا خرجتم ترون؟ أرجلا يلبس الثياب الناعمة؟ ها إن الذين يلبسون الثياب الفاخرة ويعيشون عيشة الترف يقيمون في قصور الملوك. بل ماذا خرجتم ترون؟ أنبيا؟ أقول لكم: نعم، بل أفضل من نبي. فهذا الذي كتب في شأنه: هاءنذا أرسل رسولي قدامك ليعد الطريق أمامك. أقول لكم: ليس في أولاد النساء أكبر من يوحنا" (7 : 24-27).
وكلنا نعرف نهاية القديس يوحنا المعمدان حيث سجنه الملك هيرودوس لطول لسانه ثم أمر بقطع رأسه وأهداه إلى راقصة بناءً على طلب والدتها. ووفقا للتراث، فإن رأس القديس يوحنا موجود حاليا في الجامع الأموي في دمشق الذي كان سابقا كنيسة تحمل اسم يوحنا المعمدان. وكلنا نعرف المكانة الخاصة للقديس يوحنا المعمدان في القرآن الذي يسميه يحيى ابن زكريا. والصابئة تعتبر يوحنا آخر وأعظم الأنبياء. وبما أن الشيء بالشيء يذكر، لا اخفي عليكم اني أحمل اسم "حنا"، وهو الاسم الذي أدعى به في قريتي وقد أعطي لي عند عمادي في يوم ذكرى قطع رأس القديس يوحنا. وقد يكون قد أثر على بعض انفعالاتي في كتاباتي. فالإنجيل يذكر انه كان شديد في التعبير وقاسي في التبكيت. فكان يصف رجال الدين في زمنه بأولاد الأفاعي. وقال لهم متوعدا: "ها هي ذي الفأس على أصول الشجر، فكل شجرة لا تثمر ثمرا طيبا تقطع وتلقى في النار" (متى 3 : 7 و 10). والقرآن يقول عن يحيى: "يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ" (سورة مريم 19 : 12).
ويمكن أن نقول أن يوحنا المعمدان (يحيى) هو مثال الكاتب الملتزم، لا يخاف لومة لائم، حتى وإن كان في كثير من الأحيان يحس وكأنه يصرخ في البرية أو قصبة تهزها الريح. وهو يحمل باستمرار رأسه على كفه، لا يدري كيف ستكون نهايته بسبب طول لسانه. فقد يضحى به إرضاءً لراقصة في كل لحظة.

لا تكن حياديا
---------
في نهاية عام 1970 حزمت أمتعتي للمجيء إلى سويسرا للدراسة بفضل منحة قدمتها لي مشكورة هيئة خيرية سويسرية. وذهبت إلى حلاق القرية لكي احلق شعري. فإذا برجل عجوز يدخل إلى دكان الحلاقة ودون مقدمات قال لي: سمعت انك رايح لسويسرا. صحيح هذا الخبر؟ قلت له صحيح. فأضاف: اسمع مليح اللي عايز اقوله لك. وسرد علي هذه القصة وخرج مثلما دخل:
رجل غريب راح بلد وزار المقبرة. فوجد ثلاثة قبور. فسال عن أصحابها. فقيل له:
- القبر الأول قبر رجل كان دائما يفعل الخير.
فرد عليهم الرجل الغريب: ادعوا له، فهذا رجل خير.
- القبر الثاني قبر رجل كان دائما يفعل الشر.
فرد عليهم الرجل الغريب: ادعوا له أيضا، فلولا أن الناس كانوا أشرار معه ما فعل الشر معهم.
- القبر الثالث قبر رجل لم يفعل لا خير ولا شر في حياته.
فرد عليهم الرجل الغريب: بولوا على قبره، فهذا رجل لم يستحق الحياة.
بقيت هذه القصة عالقة في ذهني حتى هذا اليوم وهي بمثابة نور ينير طريقي في كل ما افعل. لا تكن حياديا: لا تترك هذه الحياة دون أن تشترك في معركة على الأقل، ولكن عليك أن تختار أشرف المعارك، وهي التي تخوضها للدفاع عن الأبرياء.... ومن هنا جاء تمسكي بموضوع الختان الذي اعتبره جريمة في حق الأطفال الأبرياء.

درس من والدتي الفلاحة الأمية
---------------------------
كنت يوما جالساً مع أهلي أمام البيت. وإذا بوالدتي تقول لنا بصوت مليء بالقوة والتأثر: اسمعوا شو سمعت اليوم في الكنيسة. الكل دار وجهه اليها ليستمع للخبر الخطير الذي كانت تريد ان تقصه علينا: هاتي ما عندك. شو سمعتي؟ خبرينا.

وإذا بوالدتي تقص علينا ما قرأه الكاهن من انجيل في الكنيسة. واذكر لكم وفقا لما حفظته من كلام أمي الأمية. واحد غني سافر لبلد بعيد. ترك ثلاثة خدام في البيت وأعطى لكل واحد منهم مبلغ من المال وقال لهم استغلوا هذا المال. وبعد مدة رجع الرجل وسأل الخدام شو عملوا بالمبلغ اللي اوكلهم به. الأول قال: انت اعطيتني خمسة دنانير وانا تاجرت وكسبت خمسة دنانير عليهم. انبسط معلمه. والثاني قال: انت اعطيتني دينارين وانا تاجرت وكسبت دينارين عليهم. انبسط معلمه. والثالث قال: انت اعطيتني دينار وخفت منك وقلت هذا معلمي قاسي. احسن شيء أعمله اعمل ثقب واضعه فيه وارجعه له لما يعود. هذا دينارك اللي اعطيتني اياه. فغضب المعلم. وإذا بامي تشهق وتقول: أنا لما سمعت هذا الخبر إنجنّيت وكان بدي اشق ثيابي. دقيت إيدي على صدري حزن عليه. شو هذا الغبي عمل؟ كان عليه انه يعمل وينتج بدل ما يخبي الدينار في الثقب. (ومن يريد ان يقرأ النص يمكنه أن ينظر في إنجيل متى الفصل 25 الآيات 14 الى 30: http://st-takla.org/Bibles/BibleSearch/showChapter.php?book=50&chapter=25
كم مرة سمعت هذا النص ولكني لم افهم أثره على الناس البسيطين إلا عندما سمعته من والدتي الفلاحة الأمية. ومن المعروف أن السيد المسيح كان يتكلم لناس فقراء، ولذلك كانوا يفهموه ويتبعوه حتى يسمعوا كلامه البسيط.
في رقبة المثقفين أو من منَّت عليهم الحياة بشيء من الثقافة أن يجعلوا هذه الثقافة تنتج وأن لا يدفنوها في ثقب. عليهم أن يمرروا الشعلة. وكما قال السيد المسيح: مجانا أخذتم مجانا أعطوا.

أنت تنفخ في قربة مقطوعة
------------------------
كلنا نعرف هذا التعبير البليغ. وكثيرا ما اقرأه من المعلقين على ما اكتب، خاصة في موضوع الختان. فهم يشفقون علي: كم من مقال ستكتب عن هذا الموضوع؟ لقد أقلقت منامنا بكلامك الفارغ. انتقل إلى موضوع آخر. الناس مهما كلمتهم لن يقبلوا بكلامك فالختان عادة لها آلاف السنين وأنت تدّعي بأنك سوف تلغيها؟ أنت لن تزيد الناس إلا إسرارا على هذه العادة. الخ.....
وفي كثير من الأحيان ينتابني اليأس فأكف عن الكتابة في موضوع الختان ولكن أعود إليه مجبرا. فإذا لا أدافع عن الأطفال الأبرياء فمن سوف يدافع عنهم؟
ومن المؤكد أن كل كاتب في الحوار المتمدن وفي غيره يشعر بالإحباط. فنحن نريد أن نزرع الصباح وأن نحصد في المساء من نفس اليوم، وكل ما نراه هو ازدياد الوضع سواءً: فالأخبار تحمل إلينا كل يوم مصائب القوم الذي شاء القدر أن ننتمي إليه.... أمة ضحكت من جهلها الأمم... تفجير في العراق وتدمير في سوريا ومظاهرات في مصر وقتلى وجرحى في كل ربوع الوطن... ناهيك عن الأرامل والأيتام الذين يُعدون بالآلاف والذين لا يعرفون ماذا سوف يأكلون وأين سوف ينامون في هذه الليلة الدهماء بلا قمر.
ومهما كان الأمر، لا بد من الاستمرار. يقول الميثاق التأسيسي لليونسكو لعام 1974: "أن الحرب تبدا في عقول البشر... وفي عقول البشر أيضا لا بد وأن تنشا حصون السلام".
حروبنا في عالمنا العربي والإسلامي هو نتيجة عدم وجود ثقافة سلام.... ليس فقط سلام بين الدول ولكن بين أفراد المجتمع. وأول سلام هو بين الأهل والطفل الذي هو مستقبل المجتمع. فبالتعدي عليه يتم تكوين مجتمع مبني على العداء. وهذه دعوى لجميع قرائي لكي ينضموا إلى حملة إلغاء عادة الختان حتى نكوِّن مجتمع سليم.

كلمة أخيرة
-------
لقد جاء في بعض الأحاديث: إن الناس يجتمعون يوم القيامة، فينادى: أين أهل الفضل؟ فيقوم جماعة من الناس ويقولون: نحن أهل الفضل، فيقال لهم: ماذا كنتم تفعلون في الدنيا ؟قالوا: كنا نحب في الله ونبغض في الله فيقال لهم: ادخلوا الجنة بغير حساب.
قد يكون هذا هو سبيل لدخول المسلمين الجنة في الآخرة، ولكنه بالتأكيد سبيل لدخول البشرية في الجحيم على هذه الأرض. أين هذا التعليم البغيض من تعاليم السيد المسيح:
سمعتم انه قيل تحب قريبك وتبغض عدوك. وأما أنا فأقول لكم احبوا أعداءكم باركوا لأعنيكم احسنوا إلى مبغضيكم وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم. لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات فانه يشرق شمسه على الأشرار والصالحين ويمطر على الأبرار والظالمين. لأنه أن أحببتم الذين يحبونكم فأي اجر لكم أليس العشارون أيضاً يفعلون ذلك. وأن سلمتم على أخوتكم فقط فأي فضل تصنعون أليس العشارون (اي جامعو العشر = الضرائب) أيضاً يفعلون هكذا. فكونوا انتم كاملين كما أن أباكم الذي في السماوات هو كامل (متى 5 : 43 – 48

هذه دعوى للجميع لكي نعيد نظرتنا إلى العلاقات البشرية وفي مبادئنا الدينية.


----------------------
يمكنكم تحميل كتابي ختان الذكور والإناث عند اليهود والمسيحيّين والمسلمين
http://www.sami-aldeeb.com/articles/view.php?id=131&action=arabic
وطبعتي للقرآن بالتسلسل التاريخي مع المصادر اليهودية والمسيحية
http://www.sami-aldeeb.com/articles/view.php?id=315&action=arabic
اذا أردتم المناقشة أو وجدتم صعوبة في تحميل كتاب اكتبوا لي على عنواني التالي
[email protected]

#سامي_الذيب (هاشتاغ)       Sami_Aldeeb#          

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين	حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات