أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مؤمن سمير - كتاب - أَوْرَادُ النوستالجيا وقراءات أخرى -















المزيد.....



كتاب - أَوْرَادُ النوستالجيا وقراءات أخرى -


مؤمن سمير
شاعر وكاتب مصري

(Moemen Samir)


الحوار المتمدن-العدد: 3872 - 2012 / 10 / 6 - 00:57
المحور: الادب والفن
    


كتاب " أَوْرَادُ النوستالجيا وقراءات أخرى "
تأليف / مؤمن سمير

* صدرعن : الهيئة العامة لقصور الثقافة - إقليم القاهرة وشمال الصعيدالثقافي2011
* رابط تحميل الكتاب بي دي إف : http://www.4shared.com/document/PcFz3yVa/___online.html


فاتحة
هذه مجموعة من القراءات لا يجمع بينها إلا الاحتماء باتساع مفهوم النص وحيوية وعدم انغلاق وتعدد مناهج فعل القراءة ، بنفس قدر انتمائها لمفهوم الصداقة الذي يحتمل الحماس والالتباس والاختلاف في كنانةٍ واحدة . كُتبت في مدى زمني طويل نسبياً ونُشرت في دوريات مختلفة مثل " القدس العربي" ، " أدب ونقد" ، " الثقافة الجديدة " ، " الشِعر" , " القاهرة ".. وغيرها ، وأحسب أن كل واحدة منها تتعامل في طيات العمل المدروس مع سياق إيجابي أو سلبي يتعلق بقضية ما ولو لم تتم الإشارة الصريحة إليها .. وهي إن كانت قراءات تتغيا الموضوعية إلا أنها تَصْدُر – في الاختيار وطريقة التناول وزاويته ... الخ – عن منحى ذاتي وشخصي أقرب لفكرة المحبة والالتقاط الحر، والتحاور الهادف لمجرد التواصل والتشارك، منه إلى التحليل الأكاديمي الكاشف والمدقق.



أَوْرَادُ النوستالجيا..
بصائرْ وملاحظات أَوّليّة , من منجز محمود درويش
بعيداً عن الأحكام القيمية المرهونة حتماً بزمنها وبوعي مطلقها ورؤاه ، نستطيع بغير قليل من الاحتراز أن نؤكد من خلال المعايشة الفاحصة لتجربة الشاعر الفلسطيني محمود درويش الإبداعية وتتبع النتاج النقدي الذي عكف على هذه التجربة ممحصاً ودارساً ومحللاً ، على أنه من العسير تجاهل هذه الصفحة البراقة من دفتر الشعر العربي التي تمثلها مسيرة هذا الشاعر ، وعلى إمكانية القبول - عبر مبررات عدة – باعتباره في القلب من الممثلين الأكثر سطوعاً للشعرية العربية : تناميها واضطرادها وتجديدها الدائب للأنهار التي تمتح منها وتصب فيها في آن ، على مدى أكثر من أربعين عاماً ، هي الفترة ما بين إصداره ديوانه الأول " أوراق الزيتون" عام 1964 وانتقالاً لقصيدته/الديوان/المرثية "جدارية"عام 2000 وحتى آخر كتاباته التي ينحو فيها- وإن بقدرٍ من الحذر- نحو قصيدة النثر .
إن محمود درويش بغزارة إنتاجه، وانتقالاته النوعية في جسد الشعرية العربية – خاصة في العشرين عاماً الأخيرة – يصلح بقوة ليكون أحد الروافد الرئيسية التي تغذي وتكوّن فضاء النص العربي، أو بالأحرى مرجعية النص .
ينتمي محمود درويش إلى الجيل الثاني في الشعرية الحديثة بعد جيل الرواد ، وهو الجيل الذي عمل على تعضيد القصيدة التفعيلية – تمثل جُل أعمال درويش – لكن اللافت أن تجربته لم تستسلم أبداً أو تكتفي بدور " المعبر" الذي يوصل للقصيدة " الحداثية " العربية الحالية ، ولكنها فتحت الآفاق وأدلت بدلوها فيها أيضاً . ونستطيع أن نقول إن شعر محمود درويش يتمثل عدة ملامح بارزة أو حتى أسئلة مكوّنة وأساسية , يمكن البناء عليها أوحتى نقضها بعد ذلك ، نُلخِّصها في خمس لَبِنات :
أولاً : السيرة : سيرة المكان – سيرة الذات
هي سيرة بالأساس ترتبط بفكرة " الحُلم " ، حُلم المكان / الرحم في الانعتاق من واقع مشوه إلى واقع أكثر عدلاً وإنسانية ، هي فكرة الخروج والعودة ، من وإلى ذلك الرحم ، وحُلم ذات في التحرك عبر فضاء الزمن والروح. في سيرة المكان يرتبط التاريخ بالجغرافيا ، ينضغمان ، ليصنعا حالة فريدة من " اليوتوبيا" ، لكنها اليوتوبيا القلقة ، التي تحمل أساطيرها وواقعها وخوفها في آن واحد . وذات تهفو لإعادة تشكيل العالم المحيط بشروطها الخاصة، في إطار نوستالجيا ضاغطة وحالات وأسئلة وجودية دائبة التوتر: "كلما مرت خطاي على طريق
فرت الطرق البعيدة و القريبة
كلما آخيت عاصمة رمتني بالحقيبة
فالتجأت إلى رصيف الحُلم والأشعار
كم أمشي إلى حُلمي فتسبقني الخناجر
ثانياً : المرأة /الرحم/الأرض
تبرز المرأة كمعادل مقدس للشتات وأيقونة للحلم، تنقل اليومي ، العابر ، الحسي التجسيدي إلى فضاء الأسطورة. وبالعكس تجسد الأسطورة في فعل حسي تمتزج فيه الأسئلة الكبرى بالمطالب المشروعة بهويةٍ: هي من اللصائق بالجلد والروح :
قالت المرأة العاطفية :
كل شئ يلامس جسمي
يتحول
أو يتشكل
حتى الحجارة تغدو عصافير
، أنساكِ أحياناً ، لينساني رجال الأمن
يا امرأتي الجميلة
تقطعين القلب والبصل الطري
وتذهبين إلى البنفسج
فاذكريني قبل أن أنسى يدي
ثالثاً : ميكانيزم شعري طيّع ومتسع وفضفاض
ميكانيزم قصيدي يشرب نخب الحداثة ولكن بخصوصية درامية تتمحور حول جماليات الإنشاد والإصاتة، بنفس درجة فتح أفق المسرود وكسر كل قداسة زائفة حول تابوهات ماضوية تشكلت في أزمنة الردة . مع تحميل الكلمة بكل بذور الانفجار الديناميكية التي تستقي نورها من تراث إنساني وتاريخي وأسطوري شاسع وممتد عبر مونولوجات وديالوجات تراعي خطاب التلقي ولا تفرط في تعاليها ، ذلك المبرر عند آخرين ..
:أخي أحمد
وأنت العبد والمعبود والمعبد
متى تشهد
متى تشهد
متى تشهد
، سنخلي لك المسرح الدائري
تقدم إلى الصقر وحدك فلا أرض
فيك لكي تتلاشى ،
وللصقر أن يتخلص منك ،
وللصقر أن يتقمص جلدك
،سألتك : موتي
- أيجديك موتي ؟
- أصير طليقاً
لأن نوافذ حبي عبودية
رابعاً : حادي القبيلة / الشاعر النبي
إذا قسمنا تجربة محمود درويش إلى قسمين متمايزين ، الأول يمتد من الستينات إلى الثمانينات والثاني من الثمانينات إلى الصمت والصعود ، نرصد أن الذات الشاعرة في المرحلة الأولى تتقمص بجلاء دور المنشد، صاحب الصوت العالي الذي يقود القطيع ويخرج صوت الثورة من القلوب عبر حنجرته ويهدر في الآفاق شادياً . ولكن ما نؤكد عليه أنه حتى في المرحلة الأخيرة ، الأهدأ والأكثر تعقيداً شعرياً والأبلغ، استمر درويش يقوم بهذا الدور المتبصر وإن بتقنيات وآليات أقل زعيقاً وأكثر قرباً من العمق الإنساني ، إذ كبر المغني وامتلك بعداً رؤيوياً يبتعد شيئاً فشيئاً عن ضجيج الرحلة الطويلة الأولى التي مزجت الصوت الفردي بالصوت العام ، الجمعي:
لم يبق في تاريخ بابل ما يدل على
حضوري أو غيابي
باب ليحمل أو ليخرج
من يتوب ومن يئوب
إلى الرموز
باب ليحمل هدد بعض
الرسائل للبعيد
خامساً :مساءلة الشعري للسياسي
حيث الخلود في مواجهة الآنية ، وصنع الحلم في صراع ضارٍ مع قتل الحلم. ومن محاكمة القريب ، المتاح إلى محاورة السواحل .. وهو ما يبرز في المرحلة التي أعقبت خروج محمود درويش من الواجهة السياسية بعد اتفاقية "غزة وأريحا" فإذا كان جل المرحلة السابقة يقبع تحت مساءلة الشعري للهوية والوتر والذاكرة ولعدوٍ عام بقدر ما هو خاص بالنسبة لدرويش ، فإن ما أعقب تلك المرحلة هو السؤال السياسي الأدق والأخص والأعمق ، حيث ألاعيب وحيل وانطلاق الشعرية التي تحمل داخلها الوشائج الإنسانية التي تتجاوز مقولة " شاعر الكفاح المسلح " إلى " الشاعر الإنساني " ..



عن ألعاب الشاعر .. ومركزيته أيضاً
( شَجِن) لعلاء عبد الهادي
في السنوات الأخيرة، انقسم شعراء السبعينيات في مصر إلي فئتين: الأولى تبنت النص الذي ارتبط بالشعراء الجدد، إما عن شرعية جمالية تتأتى من حركية النصوص وانتقالاتها، وإما مجاراة لموجة شعرية سائدة، وتجديداً للشباب بالانضمام " للأشقياء الجدد" الذين يذكرونهم بوضعيتهم كأشقياء قدامى!! أما الفئة الثانية فواصلت مشروعها، بإصرار على القيم الجمالية التي ارتبطت بها طويلاً وبشكل مُطَّرد. من هذه الفئة الأخيرة يبرز علاء عبد الهادي كواحد من أصحاب المشاريع المتميزة داخل هذا السياق، بغزارة إنتاجه وإصراره على طرح تجربة تخصه وحده. علاء عبد الهادي يتحرك داخل نصوصه من منطق بدأ منذ أعماله الأولى، وهو التعامل مع اللغة بوصفها فضاء تنطلق الشعرية منه وعَبره في آن واحد، وذلك عند تحاورها مع العديد من القيم والآليات التي لا تصلح للوهلة الأولى، في حد ذاتها، لإنتاج الشعر. كذلك تنتظم أعماله طاقة تجريبية تشكل فضاء الصفحة بعلائقيات تصنع حواراً ديناميكياً يستند عليه النص كفعل رئيس.
في ديوانه " شَجِن" تبدو اللعبة الشعرية التي استخدمها لتفجير الدهشة وصنع تفاعل خلاق مع المتلقي أبسط كثيراً، حيث يقوم الشعر علي التوازي والتجاور بين الصورة الفوتوغرافية والمقطع الشعري ليطمح طول الوقت إلى الاندغام الكامل بين تجليات كل منهما، فتختلف التراتبية وتكون نقطة الابتداء متراوحة بين الكلمة والصورة في دائرة فعالة ونشطة. لكن الأمر لا يصمد كثيراً لهذا الانطباع، فعندما نحاول قراءة نصية للديوان، نلحظ أن محاولات المغايرة تبدأ من العنوان، فنجده " شَجِن" بكسر الجيم ثم تكون ترسيمة الغلاف الأول هكذا: [علاء عبد الهادي "بلون أخضر"/ شَجِن "بلون أحمر" / يطل على صورة قديمة مُنفذة فنياً وكأنها تخرج من قلب اللون الأخضر كذلك]. ويقول معجم مختار الصحاح في مادة (ش.ج.ن) أن الشجَن بفتح الجيم هو الحزن والجمع "أشجان" وقد شَجِنَ بكسر الجيم من باب طَرِب ، فهو شَجِنٌ أي أن الشاعر هو بالتحديد من يقع عليه فعل الشَجَن، فهو المَعني بالحزن، عند استحضاره لما فات أو تلبسه حالاً استعادياً لقيم بعينها سبحت لتتصدر مشاهد الذاكرة وقت الاصطدام بتجليات الصورة القديمة. أو هكذا يوهمنا الغلاف، أو يضع بإزائنا إشارةً أولى لمركزية الشاعر في هذا النص، تلك الإشارة التي سوف تتوالى وتتأكد بعد ذلك. أما في الغلاف الأخير فتتغير المواقع وتقبع الذات الشاعرة ـ عن طريق إعلانها الشعري ـ تحت الصورة، فتطل الفوتوغرافيا علي الشِعر، أي أنه بعد أن انتهت رحلة استخراج الصور من الذاكرة أو من العالم، وتم التفاعل مع تجلياتها، يظهر صوت الشاعر ليُعلن: "حتى المعجم، غير قادر علي هدم منزلي، لأنه ملآن بالصور، بالكنوز البسيطة" . إن مايجبرنا علي هذا التأويل - الذي قد يبدو مفرطاً - للغلاف باعثان، أولاهما: هذا الارتباط - الذي سيتأكد بعد ذلك - بين المَتن وتلك العَتَبة، مما يجعل زاوية النظر تتجه نحو اعتبار العمل كلاً متكاملاً. وثانيهما: هذا الإعلان الصريح، بعد ورقة واحدة: "تصميم الغلاف للشاعر". عندما نلج إلى صفحة الإهداء، نواصل التقاءنا بالشاعر، حيث نجد صورة باهتة له عندما كان طفلاً، ويكون الإهداء إلى: "مُهمَل تستدلين عليه بظل" . المُخاطَبَة هنا غير محددة، فقد تكون أنثى معينة كالحبيبة أو الأم، أو قد تكون قيمةً غير متعَينَة كالوطن والقصيدة.. إلخ، المهم أن الاستدلال - أو بالأحرى الالتقاء بينهما - لا يكون إلا بشكل شَبحي، فالظل بما يشير إليه من قيمة تجريدية للكائن، يجعل التلاقي في حال من التساؤل الدائم، فلا هو يتم بالفعل ولا هو لا يتم، فالظل يشي بالشخص ولا يؤكد لمسه والتعامل الفعلي معه، وهو ما يتساوق مع الظلال الباهتة للصورة وما تحققه من إشارة للماضي الذي غاب، لكنه لم يغب نهائياً بإشاراته النابضة بين الحين والآخر.
بعد ذلك يعمد الشاعر، وقبل الدخول الفعلي في عالم النصوص، إلى إعلان أكثر صراحة ووضوح، فيخاطب النصُ ـ أو الشعر أو القصيدة.. إلخ ـ الشاعرَ قائلاً: "لوّن حرفك واغمس فيه الفرشاة" ثم " ثم افتح نصك ، واعبر وحدك حين يمرون" إنه يصدّر فرادته وواحديته وكونه يطمح إلى تأكيد تلك الخصوصية عبر النصوص الآتية. إن اللغة عنده مادة خام، سائلة وممتدة، يغمس فيها الشاعر فرشاته ليظهر النص، الخاص، الذي لا يشبه أحداً، فاللغة لن تعطي أسرارها إلا لمن يقدر على الولوج لملكوتها العالي الأسوار، وقتها فقط، ستُهدي هالة التفرد التي تميز الشاعر وسط العالم أو وسط أقرانه..
تصل بنا سفينة الديوان - بعد الغلافين والإهداء والمقولة الشعرية السابقة - وهي عتبات التقينا معهم بالشاعر- إلى العتبة الرابعة، وهي متميزة في كونها واحدة من نصوص الديوان - إعتبرتُ اللوحة والقصيدة، هما معاً، ما يكونان كل نص من النصوص - لكن الشعر في هذا النص مكوّن من كلمة واحدة كبيرة هي كلمة "الشِّغَارُ" تعلو اللوحة ولا تكون أسفلها مثل كل نصوص الديوان، كذلك تفصل بينها وبين النصوص صفحة بياض، إنها متصلة ومنفصلة في آن: متصلة في كونها نصاً يمتح من نفس آليات النصوص، وإن كان متمايزاً، ومنفصلة في كونها عتبةً تُمَثِلُ تهديداً كاشفاً لما سيليها ومفتاحاً للتقنية التي سيجري استخدامها بعد ذلك. يقول "مختار الصحاح" في مادة ش.غ.ر إن "الشغار"( نكاح كان في الجاهلية، وهو أن يقول الرجل لآخر:" زَوِّجنِي ابنتك أو أختك على أن أزوجك ابنتي أو أختي على أن صَدَاق كل واحدة منهما، بُضع الأخرى")..يشير هذا النص إذن، إلى الزواج بين الصورة والكلمة، وكون الكلمة تمثل قيمة أعلى، رغم تصدر الصورة فيما سيلي من النصوص، ولكن بما أن الإسلام قد حرم هذا الزواج، فقد يكون في الأمر إشارة إلى استحالة الامتزاج، لأن التمايز واقع حقاً بين عالم الشعر المكتوب وعالم الشعر المُضمر في الصورة..
يبدأ الشاعر - أو بالأحرى يواصل - ألعابه الفنية، فينزع أرقام الصفحات من الكتاب وكأنما يتمايز كل نص في حد ذاته ولكن في نفس الوقت يكون جزءاً من دائرة واضحة السرعة وقابلة للتكرار والديمومة. إن النص الكلي - بهذا - يكون قابلاً للولوج من أي نقطة علي الدائرة، وكل النصوص يمكن أن تكون البداية.لعبة فنية أخرى تقابلنا وسط النصوص، هي ثبات القصيدة أكثر من مرة مع تغيير الصورة، أو العكس. فمثلا إذا كانت القصيدة "حتى جارتنا، ذات السمعة السيئة، تبدو ملاكاً هذا الصباح" فإن الصورة تكون مرة حالة عناق أمومي بين قردة كبيرة ووليدها، ومرة فتاة جميلة في حالة من الشجن. كذلك عندما تكون القصيدة "عندما تنضج الشجرة، ستُسقط ثماراً كثيرة، ويبدأ الغُصن في الدويّ" تكون الصورة مرة فتاة ذات شَعرٍ غزير ومرة فتاة عارية تغطيها خيوط شبكة صيد... وهكذا. كذلك تثبت الصورة وتتغير القصيدة، فإذا كانت الصورة لنساء منقبات تكون القصيدة مرة: "وقَفَت أمام اللوحة وسَأَلَتهُ: لماذا احتفظت بالضوء مثلما احتفظ به الأغبياء، في حجرة مظلمة"..ومرة أخرى: " أصدقوا أن طبيعتها هكذا! أم كانوا يعرفون أن باستطاعتها وبعلبة ألوان واحدة! أن تغير ملابسها كل يوم.." وهكذا. إنها مراوَغَة تهدف إلى إيصال قيمة: مركزية الكلمة ودوران العالم حولها. أو ثبات الصورة وانبعاث الكلمة منها، ثم قابلية نفس القصيدة أو نفس الصورة - بسبب من الزَخم الماثل في أَيِّهما - للتلاقي مع أكثر من سماء ودَرب وبحر. تتراوح لغة القصائد، بين لغة فخمة ومتعالية، تنتمي للمشهد البلاغي السبعيني مثل : "أحد عشر رجلاً، وإحدى عشرة صرخة غائرة" ، " الأنثى تحنو مثل ليل، هي صوت آذان، ونور" ، " فدلِّيني.. من أين يطلع المدى" .. إلخ.. ولغة أخرى أقرب للتداولية والمشهدية مثل: "هواء لا ينتهي، يمر داخلاً خارجاً دون إذني" ، "نافذة بيتي فارغة هذا الصباح" "بعد أن أَجَّلتني الأَزِقةُ، جاءَ مَوعدُ النوم" إلخ..
و قد تنزع بعض الجمل إلى الحكمية التي تأتي من الخبرة العلوية النِبوية للشاعر، العليم بما فات وما هو آت، مثل: "من الجهل أن تتحسسي بيديك سماءةً "، " الحياة مكيدةٌ "، " إنَّ لكل حقيقةٍ وهمَهَا" إلخ. في غالب الأحيان، يعتمد الشاعر تقنية المفارقة، وهي إما تأتي كنتيجة للتضاد بين جزئي القصيدة، مثل: " السحابة تريد أن تهبط الأرض دون جدوى " ثم " فالسماء يابسة ولا تشعر بالخجل " . وإما العلاقة بين الجملة الأخيرة والمقدمات السابقة عليها، مثل: " لم يدر لماذا بعد أن طعنها مرتين، شَعَرَ بدمها يسيل دافقاً" ثم ".. تحتَ جلده" . كذلك يعتمد الشاعر على السرد في البناء القصيدي فيقول:" بعد أن وَضَعَ العطر، ترك نبضه في المكان واختفي "، " عندما رموا غرفته بالغرباء، وتشاغلوا بالصراخ، مات " ، " وَجَّهَ اللوحة نحو حائطه ونام" إلخ..
وقبل أن يختم الشاعر ديوانه يواصل ألعابه، فيصنع علاقة دائرية بين أول قصيدة وآخر قصيدة، فتبدأ الأولى بجملة: "في مرآتي صَخَبٌ محبوس" ثم يكرر في مرآتي أكثر من مرة ليصنع بها معان مختلفة ولكنها متجاورة. وفي القصيدة الأخيرة نُفاجأ بمستطيل ـ أو بالأحرى يافطة ـ مكتوب فيه ـ أو فيها ـ " أنا لست مرآة " ، وكأنما يستأنف حواراً لم ينقطع، ثم نجد أسفل هذا المستطيل قصيدة تبدو وكأنها تجميع لروح كل القصائد السابقة وبألفاظ تشبهها. يفعل هذا ليؤكد ما ذَهَبت إليه المقالة من ارتباط التجربة ودائريتها.
إن روح الفقد والشجن والحنين الدافق لما فات والحزن والسخرية الُمرّة، تتناسب تماماً مع العنوان، الذي يشير لفردٍ مركزيّ، كل ما حوله وكل ما هو داخله، يصيب بالشجن. ولابد من الإشارة في النهاية لحسن اختيار الصور الفوتوغرافية حيث لا تقل الواحدة فيها، بلاغةً، عن الأخرى. بلاغةً في تثبيت لحظة مدهشة تصير غائرة في لحم الذاكرة، خاصة في المرات التي تنجح فيها، في الحوار الخلاق مع القصيدة، ليكوّنا نصَّاً موفقاً في دلالاته وأثره الروحي.



من تحولات الذات ,
أوعن مراياها البعيدة ......
-1- العالم في قارورة الذات :
ديوان ( نقوش معلقة ) لصفاء صلاح الدين
تبدو صفاء صلاح الدين في هذا العمل وكأنها تقيم في كوخ بعيد لتمارس التأمل وتصل إلى الحكمة. تتأمل حياتها وذكرياتها وحيوات الآخرين وديناميتهم لتملأ الفراغات وتعيد اكتشاف مناطق الدهشة وتنتصر لكونها الوحيدة الدائمة والحزينة الدائمة . ولكن هذا الموقع الذي هو موقع الراصد والمطل من علِ ، يمنعها من الاشتباك الحقيقي مع الحياة ، إنه يقدم الماضي والحاضر والذكريات والأحداث في هيئة شريط من الأفكار الباردة المنزوع منها الروح ، بهذا تقدم لنا الشاعرة كمية كبيرة من النصوص المكثفة وكأنها هي التقطير الناتج عن محايثة تلك الحياة والحقيقة أنها تأملات عن الحياة ، وفقط . تأملات تتزيا بزي الفلسفة وتتوهم كونها عصير الواقع والخيال ، وإن كان لتلك الطريقة للنظر للعالم من ميزة فهي منح الخيال قوة كبيرة ودوراً أكثر مركزية ، لأن بث الروح في النقوش والموتيفات وكذا الذكريات والأصوات والروائح يتطلب دفعاً أكبر للخيال وتعضيداً لدوره إلا أنه في المقابل يصل بالنصوص لأن تفتقد الحركة وتصير أقرب إلى " تصورات عن الماحوْل " وليس اشتباكاً حياً مع الوجود .
في جل هذه النصوص نقابل ذاتاً تبحث عن آخرها : الذات هنا أنثى والآخر هو الحبيب الإشكالي الذي يأخذ أكثر من صورة ، فهو حيناً القريب الواضح الذي يمنح الحنان والدفء وسط هذا الكون المرعب ، وحيناً هو البعيد الذي يُخيف هذه الذات بقربه من صورة الكبير الأناني الضاغط، وفي غالب الأحيان يكون محيراً يبتعد ويقترب ، يمنح ويمنع ، يجعلها توقن أنها امتلكت بامتلاكه كل شئ ثم خسرت في ثانية واحدة ماتوهمت اكتسابه . إنها اللعبة الأزلية ، ولكن هنا وعبر هذه النصوص تبدو مزينة بالكوابيس والجثث والقلق.
إن الحبيب يبدو في لحظات وكأنه مجرد "اقتراح" لتفهم هذه الذات القلقة نفسها وتتعرف على دواخلها الغامضة .. ولكن لأنه الاقتراح الأقرب والأكثر مساحة عبر الذاكرة فإنه يحظى بمساجلات وحوارات بل وأحلام مشتركة أكثر من كل الاقتراحات الأخرى . إن الذات التائهة ما زالت تظن أنها سوف تنير في مرآة ذلك الآخر الذي هو الحبيب ، والذي بتقلباته المتوالية يصبغ الآخرين والكون كله بوجوهه المتعددة الملتبسة وكأن العالم ما هو إلا صور لعدم وضوحه وتعصيه على الإدراك واليقين . وينسحب هذا الالتباس في وعي الكتابة على الكتابة ذاتها فنجد تراوحاً واضحاً في تقنيات تلك الكتابة : مقاطع مغرقة في رومانسية قديمة وغابرة ، وبعدها مباشرة مقاطع تقدم تفاصيلها وتداوليتها في أبسط وأقرب التعبيرات للواقع ، نجد مفردات في غير موضعها ثم نفاجئ بتماسك وتوفيق مقاطع وجمل كثيرة .. لكننا طول الوقت سوف نستطيع تلمس عالم ضبابي غامض ، يجرد الذكريات من أحداثها الكبيرة ويقدم تلابيب ما جرى عبر لغة تجنح للتشوش وكأنما لتكافئ وتناظر وتساوي عالمها الصعب ، المتناقض ، الذي هو بلا رحمة ولا إنسانية.

-2- انكماش الوجود وانفجار الذات :
ديوان (صمت المرايا ) لخالد سلام
بوعي يتراوح بين القبض على اليقين عبر الصراخ وترديد الشعارات وبين الهمس والتطلع للداخل ومساءلة الكون في مرآة الذات .. يبني خالد سلام قصائده أو لنلتمس الدقة ونقول يبوح بها ويثرثر معها ويخرجها للوجود ليرتاح من وطأتها حيناً ويتأملها حيناً آخر .. يتأمل ويشك ويبقى قلقاً ومعذباً ثم يعاوده العناد واستحضار الوعي الأول – الأساس – ذو الصوت العالي ، الذي لم يغب أبداً ، ولكنه تحول إلى قناع آخر، لا يظهر ولكنه يكمن في الخلفية مهما توارى .. هذا العناد يحدو به لعدم الاستسلام للعذاب والقلق والشك فينتفض ، ولكنها ليست انتفاضة التغيير أو عكس الحالة وإنما انتفاضة " الاقتراح ومحاولات التلمس " .. اقتراح يقينيات أخرى وتلمس أسباب تجعل الذات / البطل / المحرك / الراصد يبصق في وجه العالم ويخترع كوناً آخر على مقاس أفكاره وأحلامه بل وتشوشاته البريئة الفطرية لكن المفارقة أنه يعود ثانيةً للملل والإحساس بضغط الوجود ووطأته ومحاصرة الروح وثقلها فيعود يتألم ويحزن وينتفض إما بالصراخ أو بالموت ..
يدلف خالد سلام إلى الوجود عن طريق مرآته ، يقف أمامها .. وينشط نظره وروحه ليرى ويفتح بصيرته ليشوف. يغلق مفتاح السموات والأرض من خلفه ويقفز لقلب شبيهه الماثل دائماً، له ولنا ، يصير هو ، أو يصيرا هما ، مركز الكون الجديد الذي يظهر في سموات المرآة ، ويرفع ذراعيه لتتسرب الحشود : البسطاء ، الأصدقاء ، الحبيبات ، الأم ، الشياطين .. الخ يحيطون به ويشتبكون مع حيواته المتعددة أو يصيغونها ويصنعون ضجيجاً لا يستوعبه بفطرته الشاعرة ، ويتألمون ويحزن هو .. فيعيد رسم المصائر .. وفي نهاية تلك الدائرة الجهنمية للوجود .. يأتي – ذلك الذي اختار النفس موقع النبي أو البطل، وإن تخفى في زي الصديق أو الأخ المشارك – ليهدأ ويغمض عينيه ويبكي ، جوار أي حائط واطئ .. وقرب الأرض الصامتة دوماً .. والسماء البعيدة .. البعيدة .
يخلق خالد عالماً إنسانياً مواراً يضج بالحياة ويزدحم بالتفاصيل ، الحياة التي هي حياتنا الواقعية..يلعب معها ويحبها ويكرهها أو هي الحياة المتخيلة التي يصنعها بالكامل داخله .. ويضمّن هاتان الحياتان آراؤه وأفكاره وصياغاته وإعادة رسم ما هو كائن ، بصياغات لغوية تبدو أحياناً في غاية الغرابة وفي أحيان ، في غاية العادية والتداولية ، وينجح كثيراً في رسم المشاهد وبث الروح الدرامية في حركة البشر اليومية .. لكنه ، وفي خضم حماسته الدائمة لرفض كل شئ أو إعادة الخلق .. يستخدم لغة تبدو للناظر والسامع وكأنها " مادة خام" لم تتشكل بعد ، أي أنها تضمن عجيناً طازجاً بشرط أن يكون المزج متقناً .. لكن من يقوم بهذا ؟ لم يقم الشاعر بهذا وتخلى عنه ، ببساطة ، وأخبر منذ الوهلة الأولى إنه سيقول كل ما يخص الماضي أو الحاضر ، سيبوح ، وعليك أنت أن تنتقي ما يتلامس مع تجاربك وزاوية نظرك للوجود وتترك الباقي .. وهكذا في أغلب النصوص .. كمية ضخمة جداً من النصوص .. لا تومئ ولكن تصرح بأنها ستحاول أن تنقل لك الدنيا بكل تناقضاتها وعليك أن تشتبك .
يقدم الديوان حكياً مزدحماً لكنه جرئ وواضح الدرامية وساعٍ إلى الابتكار ، وإن اتفق على أن الفن يتوسل بالتكثيف ( ليس التكثيف الذي هو قلة عدد الكلمات ولكن تكثيف الحالة وتقطير الخبرة المعاشة) فإن الديوان استسلم للفهم البسيط لهذا الشكل فنجح في أحيان وأخفق في أحيان كثيرة ..
يفتح خالد سلام عينيه أو يغلقها .. يسمع صوته أو صوت العالم .. يلمس الصدى أو الصمت .. إلا أنه يظل دوماً يصارع شبيهه ويلعب معه لعبة الحياة ، الهادئة أو الدموية .. يبني وجوداً ويشتبك معه ثم يهدمه .. إلا أنه يحافظ طول الزمن على المرآة الضخمة التي شيدها داخله ، لنرى أنفسنا باتساع العالم ..

-3- ذات نائية.. تكتفي بتدشين العبث :
ديوان ( شتاء عجوز ليته يمر ) لسيد عبد الرحيم
لا تكتفي الذات بإعلان المسافة بينها وبين العالم في الإهداء فقط عندما أظهرت اكتفاءها بالجلوس على المقهى ومراقبة الوجود منحية قدر الامكان الاشتباك والتورط معه ولكن الديوان يضع مقدمه بعد الإهداء ويظهرها بألف ولام التعريف : رديف الإصرار والتحديد، فيقول "المقدمة" .. معلناً أنه سيقف عند حدود الحياة ، على التخوم والأعراف .. ليس لأن الدخول إلى المعترك فيه هلاك الذات ولكن لأن النتيجة معروفه سلفاً : الملل والانصهار في أتون العبث ..
إن تكرار المعنى في الإهداء والمقدمة يتفق مع الشك في التوصيل .. وشك الذات في كل القيم التي تحيط بها، وأخصص في القيم .. كل أنماط التلاقي مع الآخر .. وكذا الشك في اليقينيات .. في انضباط العالم وانتظامه وقبوله للتفسير .. اليقين الوحيد الذي تلتحف به الذات، مع نفورها الواضح والحقيقي من تجليات أي يقين : الثقة والتأكد والقبض على المعاني .. أقول إن اليقين الوحيد الذي تسمح تلك الذات المكتفية بكنهها، له أن يتسلل من نافذتها ذات الستائر السوداء هو العبث وعدم معقولية العالم وسخافته .. ولكنه يقين ليس كأي يقين لأنه يتيح لك الهروب ويبرره لكن لأن الذات لا تزال تذكر الأصدقاء والحبيبات والأشباه فإنها تستثير خيالاتها لتعوض عدم التواصل الفعلي .. فنجد الذات تطور إمكانيات الرقص في الظلام ثم تتماهى مع أبطال الروايات وتحبها وتكرهها وتعيش معها حيواتها الصاخبة وتذوق حرارة تجاربها .. هذه الذات لم تحسم للأبد إختيارها للعزلة ، لهذا فإنها تتوق لامرأة ، والمرأة رمز الحياة الملموسة والحقيقية ، ثم تصرح أنها تبحث عن روح تتمناها .. ولكن لماذا ..هل لإمدادها بقوة الحياة وبعدها يصل الاشتباك الحقيقي أم لإضفاء حياة على التشخيص الماثل في الشرنقة التي تقبع بها الذات ؟ يتراوح الأمر بين الاختيارين ومن تراوحهما ينطلق الشعر ويدلي بدلوه في التاريخ والسلطة والحرية والتفاصيل ، وإن بشكٍ لا يتزحزح في النتائج .. يبدأ الديوان بقصيدة "خطوة للحياة " وينتهي بقصيدة " آخر الخطوات " ليرسم في المنتصف أوراد الفقد المسيطرة طول الوقت والحزن والوحدة وتأجيل الحياة في انتظار مغامرة لا تأتي أبداً .إن الذات التي ترزح تحت ملل الوجود ، من الطبيعي ألا تثرثر .. لهذا جاءت اللغة غير مترهلة ومُحْكمة وتنفر من الزيادات البلاغية وإن شابتها المباشرة أحياناً .. هذه الذات تهمس فقط وتستخرج حروفها التي تصير كلمات لا تحمل العزاء ولا التطهير للذات المعذبة بل لا تزيد إلا الحيرة وتوكيد قيمة (لا فائدة) .. تستخرج كلماتها التي تصير معانيها المجهضة من بطن الصمت وبعد تردد يساوي مشهداً لإنسان يمد يده للسلام ثم يسحبها ليخفيها في جيبه حيث الأمان الكامل وكذلك حيث الملل....



أصداءُ السَحَرة..
من تَمثُّلات النموذج الشعري السبعيني , عند الأجيال اللاحقة..
على الرغم من أن أحد الادعاءات الرئيسة في مقولات جيل التسعينات الشعري في مصر ، هو أن منجزهم يقوم ، ليس على أنقاض المنجز السبعيني ، وإنما على النقيض من عاداته التي تبدت في اعتبار اللغة الأداة والمحرك والغاية وتفجير إمكانياتها للنهاية وكذا التشكيل البصري والاستفادة من فراغ الصفحة ..الخ ذلك المنجز وتلك الكتابة التي أقلقت – أو قلقلت – التربة الشعرية ورأى الكثيرون أنها مثلت النتوء الأكبر في مسيرة هذا الشعر ، كما رأى آخرون – كإدوار الخراط مثلاً – أن تجارب وإعلانات وإنجازات هذا الجيل تمثل البداية (الحقيقية) للكتابة الحداثية في مصر! إلا أنني لاحظت مؤخراً لدى العديد من تجارب الشباب الذي أنجز بشكل آخر عودة لتمثل الكتابة السبعينية سواء في الروح العامة التي تشيع في الكتابة أو عبر الأداء اللغوي ، وكأنهم قد تسرعوا فوضعوا أنفسهم في خانة الكتابة المتجاوزة للسبعنيين، أو على العكس من ذلك: أن تأثير تلك الكتابة وألعابها وما تثيره من فضول لدى الجميع أكبر مما نظن وأكبر مما بدأ مؤخراً من اقتراب بعض أصحاب المشاريع في ذلك الجيل المشاغب من كتابة الأجيال اللاحقة ، فنجد – والحال هكذا – نكوصاً ، بأشكال مختلفة ، عند الطرفين يجعلنا ، مبدئياً ، نحمد المحاولات الدائمة لكل شاعر حقيقي لأن يغير جلده كل فترة ، وكذلك يجعلنا نعجب ونراقب ! وفي النهاية تبقى الدواوين التي تصلنا ، باعتبارها تجارب ارتضى صانعوها أن تعبر عنهم في شكلها وصياغاتها وأداءاتها تلك ...
ولكي لا يظن أنني بحكم انتمائي الوعيي والفني لشعراء ما بعد السبعينيات أستنكر تلك التمثلات ، في حد ذاتها ، سوف أكشف عن مأربي الحقيقي من وراء هذا الرصد ، وهو محاولة إثبات ، أو الإشارة إلى، تهافت فكرة "الجيلية" التي تم اعتمادها منذ فترة طويلة لأسباب أظن أنها لا تبتعد كثيراً عن الاستسهال النقدي ! فمن الذي يجزم أن أعضاء الجيل الواحد ، القريبين بحكم السن وسنوات النشر أو الانتماء لجماعات وتجمعات معينة ، من الطبيعي والمنطقي أن يصنعوا مشاريع ، تحدو بنا لضمهم معاً في سلة واحدة ؟؟ ثم نطلق عليهم مسمى " الجيل الواحد " ، وكأننا لا نعتمد الشعر ولكن نعتمد السن والظروف ! وأنا أعي تماماً فكرة أن هناك بالفعل مشتركات كثيرة بين العديد من الشعراء لكني أنتمي لتصوّر قوامه أن كل شاعر حقيقي هو مشروع خاص و يجب النظر إلى تجربته وكأنها وحدة خاصة ومتميزة في مسيرة الشعر ، وبذلك تكون زاوية التناول ذات ترتيب أولوياتي مختلف عما هي عليه، فنبحث أولاً عن الشعرية ومناط تميز مشروع كل شاعر ثم بعد ذلك نراجع بنود تماثلاته وتشابهاته وانتماءاته للآخرين ومع الآخرين .
سوف أختار مَثَليْن فقط رغم اتساع مساحة ما رصدتُهُ من تمثلات عبر تجارب كثيرة ، وهما ديوانيْ "قمر يغامر باستدارته " للشاعر أسامة بدر و " مدد آخر للشوف " للشاعر وليد ثابت . (والديوانان صادران عن الهيئة العامة لقصورالثقافة مؤخرا) ..
الديوان الأول بعنوانه الموزون : " قمرٌ يُغَا ، مِرُ باستدا ، رَتِِهِِ " يمكن أن نقسمه إلى قسمين متمايزين من حيث مرجعيتهما الشعرية رغم انتمائهما لنفس التصنيف "قصيدة النثر" ، حيث أن مرجعية القسم الأول ، الأكثر اتساعاً ، هي اللغة ، اللغة هي المادة الخام التي عن طريقها يظهر هذا العالم الشعري المرتبط أساساً بجرس هذه اللغة وصوتيتها . إنه نثر محمل بإيقاع عنيف ومفردات تراثية ولغة وحشية .أما القسم الثاني ، الأقل اتساعاً ، فمرجعيته التفاصيل العابرة والسرد الحكائي ، فيبني الشاعر عالمه "عبر" اللغة ، بعد تصفيتها من كل ما يثقلها من الزخارف البلاغية والجمل المجازية المعقدة التركيب ، فيأتي الشعر من الحياة وتشابكاتها وعلاقاتها والمونولوجات الداخلية التي تكشف انتصارات الذات وتساؤلاتها واخفاقاتها ورؤيتها للوجود من خلال مرآة توازن بين "الجواني" وبين كل ما يقع تحت حيز الرصد والاكتشاف . ولنتأمل قول الشاعر " بلادٌ على مجزوم المحيطات .. ترعى فخاخاً من الرعد والنار وأوابد اللغة المحلاة " مقابل قوله " لابأس من الموت هذا العام ، يبدو صالحاً لذلك تماماً " لنلحظ الفرق في الأداء اللغوي بين القسمين .
"الحب" هو الشفرة الرئيسية في القسم الأول وتتفرع منه ثيمتان " الجنس " و " الوجد " ، لكنه قد يجتمع الفرعان وفق تراتبية طبيعية ، من الحب إلى الجنس الذي يطير إلى الوجد ، في حد ذات اللقاء وما يتلوه عبر استحضاره . وقد تتغير البداية أو النهاية وفق أداء تبادلي بين الدوال الثلاثة ، هذا الحب مكبوت وغير متحقق في طوره الجنسي ، وذات الأنثى المقابلة لذات الشاعر ، تشعله ثم تطفئه أو تجتمع المقادير والظروف والزمن أو حتى الخوف الوجودي لمنع اللقاء ، لكن كل هذا لا يمنع أن تتم التجربة باكتمالاتها وتجلياتها ووجوهها المختلفة ( الحب  الجنس  الوجد ) ، (الوجد  الجنس  الحب ) ، (الجنس  الوجد  الحب ) في مخيلة البطل الدرامي ، حيث تسكن المحبوبة اللاوعي وتصنع حيواتها معه ثم ينسكب منه بعد ذلك الأداء الشعري . ومن أبرز التقنيات هنا ، توظيف الأسطورة والتاريخ – خاصة التاريخ العربي بدواله المعروفة مثل : القبائل ، النخلة .. الخ – وكذلك توظيف التراث الديني العريض عبر الكتب المقدسة ، بالاشتباك أو التمثل أو التناص . ونلحظ بجلاء أن " الشرطة المائلة " التي أسرف في استخدامها شعراء السبعينات ، يستخدمها الشاعر بكثرة ومجانية هو الآخر دون أي مبرر دلالي، فهي لم تجمع متواليات أو حتى متناقضات ولا كسرت سياقات الجمل ولا فتت الأنساق ، فقط ملأت المشهد .
في القسم الثاني تعتمد القصائد تقنية المفارقة ، فتنتهي المقدمات أو اللحظات الشعرية بالانطفاء أو الموت، وتقنص شعريتها من خلال تلاقي الشاعر مع العالم عبر التبادل بيم موقعه الراصد وموقع المشارك الايجابي أو السلبي . لكن فضاء هذا القسم يكشف عن أن الفروق التي قد تكون واضحة بين الأدائين في القسمين خادعة إلى حد بعيد ، حيث أنه ينطلق أيضاً من وعي وذهنية ترى العالم باعتباره لعبة لغوية لابد أن نضاهيها بلغة أسمى حتى من التجربة ذاتها !! وحتى لو توسلنا بالتفاصيل البسيطة والعابرة .
الديوان الثاني هو " مدد آخر للشوف " للشاعر وليد ثابت ، الذي يعلن بدءاً من العنوان انحيازه للثورة على المستقرات والتساؤل الدائم حول مشروعية السائد من طرائق الكتابة وأساليبها ومستوياتها . إنه يقصد استفزاز المتلقي ، ذلك الاستفزاز الذي أراه إيجابياً ، يشارك فيه ذلك المتلقي بتكملة ما تركه مبدع النص عامداًَ . ولكن عندما يصبح استفزاز المتلقي هو القانون فإنك تجابه عدة مشكلات ، فمثلاً عندما نكتشف جملة شعرية تمتح من جمالية منطقية معتادة فإنها ستظلم لأنها ستُتلقى باعتبارها نغمة نشازاً أو باعتبارها أقل من السائد ثم إنه سريعاً سيتدخل ، بافتعال له مبرر عنده وهو الإدهاش ، لتخريب منطقها !! وبهذا تكون إيجابيتي كمتلق أن أقلب كيانها .. وهكذا لن يتبق لي بعد انتهاء القراءة إلا جهدي العقلي ، أما أن يسكنني الشعر أو بالأحرى تتسلل الجملة المسكينة إلى ذائقتي ، فهذا ما لن يحدث ! ثم ماذا لو حذفنا ثلاثة أرباع علامات التعجب الموجودة ؟ ولنختبر الأمر : هذه العلامات تأتي غالباً هي ذاتها تقوم في البناء القصيدي مقام علامات التعجب ، يقول مثلاً " ومساحات صمت " وبعدها علامتي تعجب ثم سطرين من النقاط ليس بآخرهما علامات تعجب ثم كلمة "هائلة " وعلامتي تعجب !! فإذا كان التأويل الأوّلي أنها مساحات صمت كبيرة ومتوالية ومتتالية ، فكانت تكفي مساحات النقاط والبياض ، وإن كان لابد أن نتعجب فليُترك لي الأمر كمتلق لأضع ما شئت من علامات التعجب " النفسية " ، لا أن تُلقى في وجهي ست علامات تذكرني بأن أدهش ، كأني نسيت !! ثم هذا التداعي والرغبة الكاسحة في أن يقول مبدع النص كل شئ ويفعل عنا كل شئ ، مع أن منطق النصوص أنها تسعى لإشراك المتلقي ، هذه الرغبة أظن أنها تصدر عن رؤية معينة لموقع الشاعر، يُناط به فيها أن يكون خالقاً للحياة والعالم ويتنبأ بما سيأتي ، لأنه الأعلم و الأقدر على " الرؤية " العيانية النافذة أو "الرؤيا" الوحيية النبوية !!
إن الشاعر يأتي بكلمات مجانية لا تصل إلا لكونها مجرد ثرثرة وهو ما أراه ضد الشعرية على طول الخط ، فيقول " فمت مستريحاً .. فأنت ميت لا محالة " ثم " تزرع البهو بلاداً تشنقك " ثم " وتعلق رمتك على صدور الحانات" ثم " فتموت " ثم علامات تعجب . أي أنه في فقرة كرر معنى الموت عدة مرات بأداءات مختلفة ثم في النهاية قال "فتموت" ثم لم ينس أن يذكرني بأن أتعجب ! إنها الرغبة الكاسحة في القول التي لا تأتي إلا من شك المبدع في أدواته ومدى قدرتها على التوصيل ، بهذا يحاول جاهداً أن يحاصر الدلالة أو يحاصرك بها فلا تفلت أبداً من دائرة دعواه .. وهناك أمر آخر يشيع في الديوان كله ، هو أن اعتماده بالأساس على تقنية المفارقة وصل به لنتيجة تختلف عما رتب وقصد ، فالمفارقة الحادة في نهايات القصائد تضمن إدهاشاً بالتأكيد لكن الكارثة أن العمد أو الإخلاص للإدهاش يجعل جملة المفارقة في حد ذاتها موفقة جداً ، لأنها ببساطة جملة خارج سياق القصيدة، فتُدهش ثم لا يتبق إلا هذا الاندهاش ، إذن ضاعت القصيدة ولم يبقى منها إلا جملة المفارقة، المصنوعة .
أعتقد أن السحر هنا انقلب على الساحر وكشف عن السحرة الكبار ...



الروح تصعد الجبل ..
( قبل ما يردمو البحيرة ) لمسعود شومان
يتميز مسعود شومان عن أفراد جيله من الشعراء الذين ارتبطت تجاربهم بما يسمى " بقصيدة نثر العامية " ، تلك الكتابة التي تبدت إرهاصاتها عند الرائديْن فؤاد حداد وصلاح جاهين ثم صياغتها النظرية والإبداعية عند الراحل مجدي الجابري ، بعدة خصائص منها اتساع دائرة تجربته وحراكها الدائم وطرقها للعديد من مسارب الخريطة الإنسانية عامة ، كذلك تقديمها للأسئلة الكبرى بنفس قدر محاولتها اقتفاء الشعرية المخبأة في كل الكائنات من جماد وحيوان ونبات .. الخ كما أن تجربته كباحث في الفلكلور يتضح صداها في اندغام القصيدة بالروح المصرية الثرية . إنه يقدم أجزاء في قصائده موقعة دون أن يعتبر ذلك انحرافاً في آليات إنتاج النثرية لأنه يصدر عن مفهوم أكثر اتساعاً للشعر ، مفهوم متجاوز يمتص كل ما حوله ثم يعيد إنتاجه مُشَعّراً ، دون أن أي تأطير يضيق أفق التجربة .
وفي ديوانه الخامس " قبل ما يردمو البحيرة " يواصل حلقات مشروعه التي تتواصل عبر مظاهر موضوعية أو شكلية .. فتأتي آخر قصيدة في كل ديوان ، مثلاً ، وهي تحمل مفتاحاً يفضي لتجربة الديوان التالي ، كما أنه يبرز (أو يضمر) شفرة أو علامة كبيرة في كل تجربة يمكن عن طريق التعلق بها الانسراب إلى عالم النصوص .
وفي هذا الديوان يبدأ الشاعر بتصدير جملة دالة هي " ماقصدتش اجرح الجبل اللي نايم بعيد " بعد اسميْ الإهداء ، وكأنما يود لنا أن ندخل الديوان من تلك العتبة بالذات ، أو لنقل يصنع معنا مدخلاً آخر بعد عتبة العنوان . هذه الجملة يظهر فيها الجبل كدال أساسي ، بعيد ، يتفاعل معه البطل بأن يجرحه دون قصد بدلاً من أن يتلقى هو الفعل منه ، أي أنه يعكس مصادر القوة فيغدو الإنسان فاعلاً والجبل متلقياًَ ،وهذا بالطبع إذا كان دال الجبل أحادياً وليس رمزاً للهموم أو الذكريات المتراكمة .. الخ ، مثلاً ، لكننا بعد ذلك نكتشف أن هذه الجملة جزءاً من قصيدة " كهف مهجور" التي يبدأها بنفي تحقق المقصود " مش كهف مهجور اللي رجلي راحت له ، ماقصدتش اجرح الجبل اللي نايم بعيد .. " إنه يفاجأ بأن هروبه ، المتخيل ، للمكان المجازي ، لا يتم وفق السيناريو المُعد سلفاً في ذهنه " كان نفسي أركن ضهري ع الصخرة .. " فتختلف نظرتنا لتلك العلاقة بين البطل والجبل حيث اللعبة كلها غير مقصودة لذاتها وإنما تتحرك في دائرة التمني الذي لم يتحقق حتى على مستوى المتخيل ، فتقل بالتالي فاعلية البطل في جرح الجبل أو بالأحرى جرح سكونه واستقراره في رمزيته المهيبة ، تلك الفاعلية التي وصلتنا من الإهداء .
إن الجبل هنا يختصر في مجرد كهف للذات تنكفئ فيه أو حتى تهرب منه في تبادلية تتراوح بين الانسحاب والجموح الذي يُضمر تفتتاً للذات فينقلب انكفاءً ، يقوم بالتخييل ليصير حراً .. ثم تأتي بعد ذلك قصيدة " رضيت بالجبل اللي ابتدت تطوله العتة أو الشاعر/ الكتابة " فيكون الإنسان وهو يلبس حال " الشاعر " ، هو من يرضى بقدرية علاقته بالكتابة ، ذلك الفعل الذي كان يشبه الجبل في عليائه ثم أضحى شموخاً ينهار من داخله .. تبدأ القصيدة بجملة " عن دودة فضلت طول عمرها القصير تعمل قز" ثم بعد عدة جمل تحمل عدة أفعال تقوم بها تلك الدودة يكمل " رضيت بالجبل اللي ابتدت تطوله العتة ويحاصره جيش البق " لتتحدد العلاقة الثنائية غير المتكافئة بين الدودة وجبل الخيوط ، الذي كلما ينهار تصير العلاقة متكافئة ، حيث من يقوم بالفعل هو الدودة التي " بتلم التراب والقش " أو كل أوهام اصطفاء فعل الكتابة واضطلاعها بدور راسم الأحلام والموصل للأمنيات على أي مستوى ، لكن العلاقة رغم كل هذا بينهما قدرية حتى وإن اتخذت شكل كون الشاعر هو الشاهد على انهيار نبوية تلك القيمة .
بعد هذا يأتي الجبل مرادفاً للوعي ، في قصيدة "الجبل اللي اتملا بالحكمة والأوهام " فيقول الشاعر "حاسب وانت بتطل ع الجثث ، هنا الجبل اللي ملاه بالحكمة والأوهام " لأنه " مش قادر يفهم معنى دبيب النمل وحفيف الورق .. " إن جبل وعي البطل الذي تراكم من المراقبة العيانية للعالم أو مقاربته عبر فعل الكتابة سيتضح في لحظات الانكشاف ، النضج أو الشيخوخة أو الصمت الايجابي المتأمل ، أنه لا يصلح لأن يكون المرفأ الذي يتكأ عليه ، بل هو جبل هش قابل للسقوط قطعة قطعة بإزاء العالم الذي هو أكبر من أي يقين و أي امتلاء " .. رمل بيسقط ببطء .." .
ثم ترتبط الخيانة بالجبل في قصيدة " جبل تلج عالي" وهي الجملة التي يقرر البطل أنه " قعد يرددها " بينما يتذكر " مش ده اللي باقي من صوتها" ثم يستدعي " منديلها الورق" مثلاً . إنه بطل ذو مسرح ضيق ومغلق عليه وحده بعد الحبيبة التي غابت لكنها تركت ذكرياتها معه لتربطه بها رغم الغياب ، فيلعب هو لعبة مراكمة اللحظات الرائعة ليصل بها إلى أن تصير جبلاً يعلم أنه سينكشف بمجرد الاكتمال ، مجرد " جبل تلج" قابل لأن يسيح إذا طلعت عليه شمس الكشف والحقيقة ! إنه يلعب لعبة يستعذبها وتزينها له وحدته ، لتشاركه فيها ، فتعود الحياة / الروح التي اختفت ، ولو على سبيل الوهم .
ويتزيا الجبل بالزي الأبدي للزمن في قصيدة "حجر تقيل اسود " هذا الزي الذي مهما ارتداه الإنسان لابد سيخعله أو بمعنى أدق سيتهدل عليه قبل أن يسقط منه وتستلمه الأرض .. " كل ما ينزل م الجبل يتكتل عليه النمل ويشيله " . تكون البداية عند النزول من الجبل / الرحم ثم تبدأ رحلة الحياة " ويبدأ الغُنا وتكتر الحواديت .." لكنه يصطدم بالأشباه " قد إيه ماتوا ، وهما طالعين" فيرتبط فيرتبط فعل النزول من الجبل بالحياة والصعود إليه بالموت وانتهاء الرحلة ، وهكذا يثبت الجبل في أبديته بينما يتحرك عليها البشر صعوداً وهبوطاً ، والنمل هو الوسيط " النمل يقدر ع اللي ماقدرتش عليه " ذلك الكائن الذي يبدو مشوشاً وهو الثابت الحقيقي الذي يكافئ ثباته ثبات الجبل ذاته ، ثابت في دوره وفي تأكيده الدائم على عجز الإنسان "وكل ما بيبيض شعرك ، يسوّد جواك ، ويدوب الحجر ويبقى خفيف على النمل " فكلما تآكل عمر الإنسان لوّح النمل منتظراً ومتأهباًَ .
واتساقاًَ مع كل ما سبق لا يكون اختيار عنوان "الجبل" للقصيدة الأخيرة مصادفة إنما هو اكتمال الدائرة التي بدأت بالجبل وانتهت به وبينهما كان البطل يجرب الحياة والحب والخطأ والموت ، فكان الجبل معادلاً للمتخيل ثم لفعل الكتابة ثم للوعي ثم للخيانة ثم للزمن ذاته . تقول القصيدة " كان فيه جبل " إنه يحن إلى جبله الخاص الذي " تحته حبة خضرة " كانت تسقي الطفولة والبراءة والأحلام وتتقاطع مع الاغتراب والحرب " كانوا بيسيبوا طابور تراب بيلف بالبيادات " أي أنه يحن للحياة ذاتها . إن الذي مضى حتى وإن امتلأ بكل ما يجثم على الروح ، يظل نابضاً تحت الجلد، كما الغياب لا ينسى أن يرمي بالحنين ، ذلك الذي لا تنمحي علاماته ....
وبهذا فإن دال الجبل في هذا الديوان ، بالموازاة مع دال "البحر" – حيث يشكلان معاً جناحي التجربة – يكتسب قيمة مركزية تصلح لأن تدور حولها وتتشابك معها الشعرية، وإذا رصدنا تجليات مفردة الجبل ، من أحجار وكهوف وحصى ورمال وطرق ..... الخ ستتأكد تلك المركزية وتثبت في مكانها ، القلب ، قلب النص وقلب الإنسان ، ذلك الذي يصعد ويهبط الجبل منذ الأزل ..


جسارة الجنون وجماله..
(كان لازم نرقصها سوا ) لمدحت منير
كنت قد أشرت سابقاً وفي أكثر من مقالة، لآفة تعمق فكرة المركز والهامش في الثقافة المصرية... ومن تجلياتها في الإبداع: شعر العامية المصرية الجديد، والذي يتقاسمه مركز يحظى بالضجيج وهامش يرضى بالقليل.. إلا أن المفارقة، أن الأمر في ذهن المتابع والراصد والمهموم غير ذلك... فتجارب شعراء مثل مدحت منير" الإسماعيلية" وحاتم مرعى" السويس" وعبد الرحيم طايع "قنا" وضاحي عبد السلام" دمياط" وغيرهم مركز...وفى القلب بالتأكيد...إذا حَكّمنا النص والقيمة لا الجغرافيا .. ومؤشر حقيقي ونابض لتطور ونضج ثورة قصيدة العامية الجديدة.
ومن الأصوات التي تشدك سريعا ثم يتأكد هذا الانطباع إلى أن يصير يقيناً...مدحت منير، لأنك تلتقط قلقه الإبداعي الذي لا يهدأ، وتسعد به، لأنه من أصعب الأمور، كون المبدع واعياً لفكرة الاختلاف... أن تحاول طبع بصمتك الخاصة التي لا تهنأ لفكرة أنها (قد) تتشابه مع غيرها، بل تنتفض من هذا..أن تتعامل مع وعي مبدع يخون يقينياته سريعاً ليصنع توتراً وأسئلة هى في ظني جوهر الإبداع وسؤاله السري ...، الأشقى والأكثر صعوبة أن تحافظ على اختيارك ذاك.... مدحت منير، من بداياته يفعل ذلك... والمتابع يلتقط ويحس ويمسك.
منذ اللحظة الأولى... كان أمام مدحت منير طريقان..طريق به وصفة جاهزة أغرت الأدعياء ..... قوامها اليومي والعادي والمعيش ونفى الأيديولوجيا والسرد البارد ....الخ، والطريق الآخر، الأصعب والحقيقي في العمق....أن يكتب نصاً يخطو به خطوات أبعد من ذلك، أن يستخدم إمكانات النثر المتسعة للنظر من جديد وللدخول من طرق أخرى..أن يكتب شعراً .. يقول المتلقي هذا نص فلان.... أن يقتفى خصوصيته ويدور حولها ويمزق ويمزق ثم يقبض على نصه هو.
وفى ديوان(كان لازم نرقصها سوا) يطيب له أن يلعب معنا أو بنا أولنا، لا فرق كبيراً ، إنه يوهمنا وما أن نتماهى معه...يضحك في النهاية قائلاً بلسان حاله أو بوعي نصه....لا تصدقوا الخارج سريعاً وابحثوا وراء الحافة وفى عمق المشهد...يصدر لنا طول الوقت انطباعاً بأنه يصنع جماليات الشر ويجعلنا نشم أزهار شر بودلير....نمارس العنف لكن بإيجابية الهدم، حيث هذا هو السبيل، لتخرج سماء أخرى من تحت الركام .. النص يفعل هذا ويقوله ويرسخه.. ولأنه ساحر حقيقي، يضمن أرواحنا فى كمه، الواسع، لكننا نفاجأ بعد جرعات الجمال الأولى...هذا إذا فرقنا بين قراءتين: واحدة جمالية للمتعة وأخرى نصية ، مثلاً، تبحث وتشارك وتلعب مع المبدع، الحقيقي بالطبع....تفاجأ، أن الأمر ليس هكذا بالضبط....وأن خلف العنف والشر والاغتصاب والقتل تكمن إعادة النظر....أو النظر بفتح الحدقات لنهايتها وإتاحة الفرصة للبصيرة كي تشرق وللوعي أن ينير بشمس أخرى.....
إنه منذ اللحظة الأولى يعلن أنه بصدد التخلص من ظلاله القديمة التي صاحبته طول عمره .... وبالإحراق....لأنه في قلب النار....وفى الأعماق ينام النور..فإذا ظننا أن التشابه بين البطل، الإنسان المحكي عنه، وبين الآخر: يؤدى إلى السكونية وإفراز صور متماثلة، نكون واهمين...لأن مدخل الأمر ومفتاحه يكمن في إمكانية القرب لحد العداوة وللملائكاتية حتى لدرجة توليد الشياطين.....
ينظر مدحت منير إذن للأمور من شريان آخر،من مدخل وزاوية أخرى، قد تكون مدهشة، وقد تكون مربكة للمتلقي.... ليحدث التفكر ومن ثم الصداقة بينهما..... لافكاك أبداً أبداً من الأسئلة المبذورة طول الديوان : عن حقيقة الحب في مرايا الذات ومرايا الوحدة ومرايا الموت ، وعن جماليات القتل التي تنتشي، الروح المقتولة طول السنين، بنكهتها....وعن الدنيا المتسعة/الضيقة... واللافت أنه وسط هذا الأتون...لا يغفل ولا ينسى أن يمنح وسط متاهته عالية الفكر تلك من الجماليات الشعبية ومن العلاقات الصغيرة ومن المونولوجات ومن الموسيقى...لكنه طول الوقت يسمح للشعر أن يتفجر من مسام أخرى :
" ماتخافش
الشعر هايهبط دايما من قلب الشتوية
يخربش كفك
وترفرف جناحاته بخفة موت
أول ما الدم يسيل
وتسلم أمرك لديسمبر"..
فى (كان لازم نرقصها سوا) يواصل مدحت منير مشروعه الخاص الباحث عن التفرد، وإن بجسارة أكبر وجنون أكثر اتساعاً...



القلب يلتقط الجوهرة..
(ريحة ملايكه ) لحاتم مرعي
من أهم ما يميز تجربة حاتم مرعي في ظني بحثه طوال الوقت عن الإنسان و عن لحظات إنسانية "حقيقية" .. يبدأ من الذات ليصادق بعدها أرواح الآخرين ثم يعود إلى تلك الذات ، التي هي منطلق الدراما والحكي والشعر ، يعود وهو محمل بالمصائر والأحزان والمباهج ولحظات الانكسار والأوقات التي تسقط فيها الأقنعة ويتقشر الجلد عن الطائر الممسك بالجوهرة .
يهمس حاتم ، ولن تستطيع التقاط هذا الهديل إلا إذا فتحت بوابة الإنسان فيك ، وقتها يتفجر التخييل وتتصادقا ويكب داخلك روحه ويتشربك و تنسرب أنت إليه، في نفس اللحظة ..
وفي ديوانه " ريحة ملايكه " يحدد لك – باعتبارك صديقه المفترض- بالمفتتح الخاص بأونجاريتى- ثم مفتتحه الشعري: مسرحه وميدانه الذي سيتجول فيه، وهو الذات، ولكنها الذات المكتنزة ، المحملة بالآخرين، ذات تهفو إلى الاندماج والتواصل، لكن إن عز القرب وصعب يكون البديل والمعوض هو الأحلام ، في التخييل والدراما، التي تسمح ببناء عوالم كاملة ويكون الإنسان هو الخالق وهو صاحب المصير إنها رحلات ماكرة فى الزمان والمكان قد يوهمنا النص بحرفيته ، بمدى واقعيتها وقد يومىء أنها متخيله ولا فرق بينهما كبيراً .
كأنه عجوز الماضي الصادق في صالة الديسكو البراقة، الخادعة، أو كأنه بائع الساكسونيا الوحيد في زحمة أشياءه، أو هو الممثل الذي تمر عليه كل الأدوار وهو متوحد على سرير تخيلاته ...
يلتقط حاتم مرعي الأحزان، من خلف أي مشهد ومن قلبه ومن أطرافه وينفخ لتطلع الأرواح وتبدأ الدهشة ، كما أنه يكتشف لنا ومعنا كل الحياة المخفية في الجمادات ويتعامل معها ببساطة وعادية وكأن كل الحواجز مابين أنماط الوجود هي مجرد حواجز وهمية صنعها مجرد التواطؤ ليس إلا . ليست المرآة إذن هي مجرد مرآة بل هي النور المجمد ، كاشفة الحزن ، بوابة الروح .. والحطام الناتج عن الحروب ليس مجرد حطام ، إنما هو أصوات وروائح وإيماءات وقبلات محطمة ومصائر موّارة طول الوقت .. القطار والكورنيش والإسفلت .. الخ كلها تختلف في النص عن صورتها فى المخيلة .
إن الخيال هو الكنز أو حائط الصد الوحيد المتبقي لهذا البطل، وهو يشبه تماما ذلك الفانوس ، الذي إن حككته ، وأنت ملىء بالرغبة فى الحياة وتشبه رعشة الفضول وطمعه وقدرته المخفية، يخرج المارد وينقلك على جناح قوتك المخيفة إلى ما تريد .. وهكذا في قصيدته " باضحك لأني خايف ": تحب المارد لأنه مثلنا ومثل مبدع النص يعانى من الوحدة والعزلة والاغتراب والموت ذو الوجوه المتعددة .
كم مره يستخدم النص دال الحزن ومشتقاته ، مرات كثيرة حقاً، وكم مرة يصرح ويقول " وحيد " أو " خايف "، مرات كثيرة كذلك، لكنه أيضاً يحتمي بدال " باحلم "، " باتخيل " ويكرره، إنه ملجأه الوحيد .. والجميل في نفس الآن .
تنجح نصوص الكتاب في صنع جملة حساسة تدخلك بلا معاظلة و بلا تكلف، وهي كذلك جملة على حبل مشدود دائماً، تضربك وتصادقك في نفس الوقت، كما تدل الكتابة على ثقافة كاتبها لكن دون تثاقف ، يجيد رسم المشهد ولكن دون أن يستغرقة ذلك فيهمش المردود الشعوري الخارج منه ويضيع في فخ البرودة، وبسهولة شديدة نلمح أن هناك فلسفة في النصوص هي فلسفة الاكتشاف وطزاجته واندهاشه وليس هناك "تفلسف" مجرد ينقل التجربة إلى الترف العقلي .
إن النص يفتح قوسه للنهاية فيستوعب الحرب والتاريخ والمشاعر الغفل والأحاسيس الملقاة دون أن ينتبه إليها أحد والحيوان والجماد ... الخ ويندغم كل هذا في دورة توازى دورة الحياة ، ولكنها الحياة الأخرى ، الحقيقية .. والكتابة تتراوح بين تهميش المجاز لصالح السرد وبين أن يتكون النص من مجازات جزئية : التقنيتان يلاحقان بعضهما لنصل إلى حيوية الكتابة التي تساءل الوجود وتتغياه من زاوية الروح السارية فيه ، عبرنا .....



عندما تخرج الدهشة من الجراب..
(حكايات عادية لملء الوقت( لبهيجة حسين
فاجأت الروائية بهيجة حسين الواقع الأدبي بهذا النص الممتع وهذه الحكايات التي هي من فرط عاديتها وتآلفنا معها واعتيادنا على وجودها لم نعد ننتبه لها ، وبهذا تصير " غير عادية" بالمرة ، لأنها تقدم الذات المكتنزة بكل المشاعر من كل مناحيها وتشخص كل المعاني المجردة مثل الحب والخوف والاحتياج النفسي والجسدي والكراهية والافتقاد والرومانسية وتميؤ المشاعر والانتهازية والايجابية ......وما سواها ، عبر الحكي وعبر بوابة الذكريات التي تتفجر لتغير موقعها من الدفن في صندوق تحت السرير إلى صدارة المشهد..
تنفخ الراوية الروح في صورها لتتخلق الحياة بكامل أوجهها وتحولاتها وكذا تؤسس لأيدلوجيتها اليسارية بلا أي خطابة أو زعيق قد يمثلان نتوءا في انسيابية النص ..
ولو حاولنا أن نطلق على هذه الكتابة عبارة " رواية نسائية بامتياز ، أو كتابة بعين المرأة " فإننا نفعل ذلك ، لا لكون النص يبدو منشغلا بالأساس بالحكي الصادر عن أنثى متناولا نساء ،بالأساس وفي الصدارة ، ورجالا في الخلفية أو لكونه يعرض الأعم الأشمل من مظاهر قهر النساء ومشاكلهن العامة والخاصة في القرية والمدينة عبر فترة ممتدة من تاريخ مصر ..ولكن لأن الرؤية التي قدمتها هذه الرواية تجاوزت الرصد الخارجي والتشويق الضيق والإثارة ، إلى مرحلة النفاذ تحت جلد الأنثى والتعبير عن أدق النبضات والخلجات في حياة الكائن الثري دراميا والمكتنز بالحياة المسمى بالمرأة ، وعن طريقها ، أي عن طريق مركزيتها في حياتنا ومصائرنا .. يمكن لنا تعرية المجتمع كله .. فكون المرأة منطلقا للحكي ثم مادته الخام وكون كل بطلة هي كتلة سردية في حد ذاتها فيكتمل في النهاية المعمار الدرامي للنص الكبير الذي هو الرواية ...كون المرأة كذلك في العمل جاء بمشروعية وانسيابية وبساطة بدون ركوب لموجة الكتابات النسوية المنتشرة حاليا وبدون التعامل مع مصائر النساء الأبطال على أنها حواديت فقط لملء الوقت – كما يصرح العنوان بمكر فني – بل إن الحكايات تلك في حد ذاتها تصلح تماما لإنتاج الدراما .
وهناك بعد أساسي وملحوظ يبدو أنه كان ماثلا في أولويات مبدع النص وهو محاولة التصادق مع المتلقي عبر رؤية كل منا لذاته في جزء من الكتابة وبالتالي تصدير الإمتاع لذلك القارئ الذي سيصبح متورطا وهذا الأمر صار غائبا إلى حد ما في الكتابات الآنية وذلك لصالح فعل( الإدهاش) . نجحت الكاتبة في ذلك عن طريق حيوية السرد وحساسيته وسيطرة المبدع على الكتابة ...ما أود الإشارة إليه هنا هو أن هذه المتعة لا تعود بالأساس إلى الحكايات وهي منطقة مضمونة في تصدير الإمتاع وثابتة في الذائقة عبر نموذج " شهرزاد " وحواديت الجدات .. ولكن لأن مبدع النص مارس لعبة الكتابة وكأنه ممسك بحبل مشدود ، يخفف القبضة حينا ويشدها حينا آخر وهكذا تتبادل المناطق الساخنة التي تحمل توترا والمناطق التي تؤدي إليها أو تخرج منها بنجاح وسيطرة وإحكام.
يقدم النص مادة ثرية جدا من الأمثال الشعبية والمسرح (الحي) الذي تنتج فيه النصوص الشفاهية الدالة والموجزة والحكيمة والروائح والأصوات والممارسات الشعبية مثل طقوس ليلة الدخلة (البلدي) والتجاور بين البشر والحيوان في الريف ..الخ بشكل مبرر تماما وليس بشكل (سياحي) ، بارد وبلا روح ، فقط لاستدرار الترجمة أو حتى اقتناص نجاح مضمون ولكن كل تلك الطقوس جاءت كجزء حميم وأصيل من مصائر و حيوات المروي عنهن لهذا هو مسبوك تماما في لحم الحكي .
وبذكاء صدّرت الكاتبة النموذج الذي تفضله للمرأة، برهافة وبدون فرض على منطق السرد .فالراوية معجبة في كل شخصية تصدّرها بملمح إنساني معين ، لكن بالنسبة لنموذج الأم ، ينجح النص في جعل المتلقي يتلقاها بالتفضيل ، فهو نموذج راق ٍ، تقدمي ، أنيق ، عنده كبرياء ، مكتفٍ ولا يفرض آرائه على الآخرين ..تتسرب إليك هذه المحبة لتلك الشخصية عبر المقارنة مع أخريات في النص أو داخلك أنت ..
كذلك لابد وأن تتعاطف مع الراوية التي هي نتاج كل ما قدم من خلال السرد ومن أحداث كبيرة عبر الوطن أو صغيرة عبر المحيطين ثم لا تستكين لاتهامها بالسلبية لأنك تتذكر الأم طول الوقت في الخلفية حيث رسمت لها حياتها بهذا الشكل ، ثم تفيق على كون نموذج الراوية هو النموذج المناسب لتلخيص كل ما جرى لنا وليس فقط لهذا الجيل الذي تنتمي إليه، وهو التالي لجيل " الفعل " السابق عليه ، ما أقصده أن هذا الالتباس يتماهى تماما مع التباسنا إزاء ما كان واضحا فيما سبق .
السارد هنا متأرجح بين كونه راوياً خارجياً أو راوياً مشاركاً ، لكن اللافت أن هذا الراوي الخارجي لا يصح أن يكون خارجياً بنقاء لأن مصير هذه الشخصية مرتبط بطريق أو بآخر بمن تحكي عنهن أو عنهم سواء بالقرابة أو تشرّب النموذج وكذا رفضه . وهناك إشكالية أخرى وهو أن هذا الراوي ، الذي يخرج الصور التي هي مفتاح الحكي ومنطلقه ومسرحه، الساحر الذي يخرج الدهشة من الجراب ، يقدم السرد منطقاً ومبرراً لكونه راوياً عليماً ... نظراً لأنه حامل المفتاح وبادئ البهجة .
في هذا العمل هناك ملمحان بارزان هما :- الحنين ، التعبير عن نتيجة مفادها أن الجسد هو محل الذكريات عبر الجنس .. أما الحنين فينقسم إلى صورتين . الحنين الشفيف الذي يتسلل إلى الروح ، الصورة الأخرى هي النوستالجيا وهي الحنين المرضي الذي يتسلط ويؤثر في المصائر . يراوح العمل بين الصورتين ، وطول الوقت لا نصل أبدا إلى الدرجة العاطفية الفاقعة رغم ميلودرامية بعض الأحداث . أما الجنس ، فهو مركزي وأساسي ويظهر كمفجر للأحداث أو يصير هو اللاوعي الذي تتصرف الشخصيات وهو ماثل وموجود وضاغط . لكن الشخصية الوحيدة التي لا يطل الجنس عبر نوافذها بجلاء وإعلان كامل هي الراوية ، حيث ينضاف إلى قيم ومشاعر كثيرة تلتبس إزاءها مشاعر الراوية ويأخذ الجنس شكل ( الجنس المضمر) في حالة الأم ، حيث أومأت الكتابة إلى إمكانية حدوثه وبالتالي صار ينتج في ذهن المتلقي وفي النهاية صارت الحكايات هي حياة الراوية التي لم تعشها بعمق إلا من خلالها ، لقد عوضت كل ما كان يجب أن تحياه أو تتمثله أو تتمنى أن تختبره في حيوات الآخرين.. وتبقى الإشارة الأخيرة في العمل إشارة بليغة تصرح بأنها ستكمل هذا الدور لكنها ستنتقل من موقع المتلقي ، شبه المشارك إلى دور إعادة الخلق ، المتمثل في تجميع أجزاء الحكايات التي لم تكتمل بعد وجعلها صالحة لإثارة الدهشة .....




الطائر يثقب الدائرة..
( نجم وحيد في الأفق ) لمحمد جبريل
يمثل محمد جبريل ¬حالة مائزة بين المبدعين المصريين، بنشاطه الواسع والممتد ، والمتعدد الأوجه ، من صحافة وممارسات ثقافية تتضمن الرعاية وإفساح المجال لمن يتوسم فيهم الموهبة .. إلى النشاط الابداعي الذي بدأ مع مجموعته القصصية الأولى – تلك اللحظة عام 1970 - حتى وصلت كتبه إلى ما يتجاوز ال 55 كتاباً تشمل مجموعات قصصية وكتب دراسات وكتابيْ مقالات وسيرة ذاتية أسماها " حكايات عن جزيرة فاروس " ونص أسماه " تبقيعات نثرية " ، لكن انجازه الأكبر الذي يبدو أنه مشروع عمره ، هو الإضافة لمنجز الرواية العربية ، حيث يساهم بما يقارب ال35 رواية حتى الآن ..
ويمثل البحر والتاريخ فضائين كبيرين ينطلق منهما أغلب إبداعه .. لكن اتكاء محمد جبريل على البحر يمتاز باقتفاء الخصوصية ، فنستطيع أن نمايز بينه وبين كتابات الراحل " صالح مرسي " مثلاً ،وباقي الروائيين الذي استلهموا عالم البحر ، هذا العالم الذي يكمن في الحد ما بين الواقعي والأسطوري . إن محمد جبريل لا يستلهم هذا العالم فقط ، إنه يقدمه " كمنطلق روائي " مثلما يقدمه " كبطل " .. إن المكان ،هو واحد من أهم كلمات السر في أعماله، والمكان عنده ، يكون غالباً: الإسكندرية ، تلك المدينة الكوزموبوليتانية متعددة الروافد ، وخاصة حي بحري ، حيث لا ننسى إضافته المبهرة ، رباعية بحري- أبو العباس وياقوت العرش والبوصيري وعلي تمراز – التي عانق فيها مدينته الأثيرة وحيّه الخاص، بكل أبعادهما الشعبية والتاريخية، بكل صخبها وهدوءها ، والبشر الموشومين بالوشم الخاص .
وفي روايته " نجم وحيد في الأفق " يعود محمد جبريل إلى عالمه الخاص ، عبر بطل ، يشبه أبطاله ، المطاردون دوماً ، لكنه هذه المرة مطارد من نفسه ، من ملله ، من روتين الحياة ، وتساؤلات الوجود الضاغطة والمتكررة ، وصل البطل إلى أن ضاقت عليه الأرض ولم يعد يعتبر نفسه جزءاً من العالم المحيط ، الذي لم يعد له به صلة ، ولا شئ فيه يجذب انتباهه ، ولا شهوة في نفسه لأي أمر من أمور الدنيا .. فكان رد الفعل الطبيعي ، أن يحاول الهرب والانسحاب إلى الداخل ، هذا الانسحاب الذي زاد من الأزمة حتى قاربت من الانفجار ، الانفجار الذي يخرج به من نفسه ومن جلده ومن الكون الواسع / الضيق ، ومما فشل في أن يعرفه ومما يعرفه ولم يعد يحسه .
عند هذا الحد كان لابد أن يلجأ إلى من يتأكد من أنه يملك أكثر ، يملك صلات ما ورائية أكبر من هذا الوجود المادي المحدود ، دليل يعرف أكثر ، ويملك شفافية تخترق الحجب وهو "الشيخ" ، لكن هذا الدليل بمعرفته العميقة تلك ، أراد أن يعود به مرة أخرى إلى المنطق المادي ، ليكون هذا المنطق المتسق مع كون البطل مازال يرزح تحت أسر الواقع : منطلقه الطبيعي للخلاص . هذا المنطلق /الدليل الواقعي ، يتجسد في شخصية "الكابتن" التي تعرف أكثر ، أيضاً .. لتساعده وترشده ، لخلاص ، ترسم هي طريق الوصول إليه ، طريقة "واقعية" للوصول إلى "ما لا يدرك" ، قارب ، يصلح لأن يكون معبراً ، بين حياتين ومستويين من مستويات الوجود: الطرف الآخر، فيه أو من شخصية كل إنسان ، هو الجانب الروحي ، الأسطوري ، الذي يتنعم فيه الإنسان وينال ، ما يرى أنه كان يرفل فيه من قبل ، في بداية الخلق.
يكون هذا الحل إذن ، اكتمالاً لدائرة الحياة ودائرة وجود الإنسان وتاريخه ، لكن من قال أن لرحلة الوعي بداية ونهاية ؟ إن الملل يتجدد كلما اقترب الامتلاك ، والتوق لتغيير وجه العملة ، هو ديدن الوعي دائماً . حتى الموت ، بالمفهوم الديني ، ليس نهاية الرحلة ، إنه معبر لرحلة أخرى ، بقوانين أخرى ، أكثر عمقاً وخلوداً .
إن الروائي يتساءل ضمنياً عبر الكتابة ، عن ماهية الخلاص ، وأين يكمن ، وهل تمثل الجنة بالمفهوم الديني والأسطوري والشعبي نهاية لأحلام الإنسان على هذه الأرض . لكن الروائي يثبت قاعدة لا تتغير ولا تقبل التبديل ، هي المكان ، الإسكندرية وحي بحري، التي إن ابتعد عنه ، حتى للبحث عن خلاصه ، تنهشه النوستالجيا، إنه متغلغل في تكوينه ويجري منه مجرى الدم.
يسبح النص في جو روحاني ينبع من المجاهدة مجاهدة النفس والكون ، رحلة صوفية توازي رحلة (المريد) إلى (الإشراق) . هذا الجو يتعانق مع البحر ، بكل تجلياته، حيث تسمع روحك صوت تلاطم أمواجه أو مجاهدات البحر لذاته، فيصير البحر" معادلاً " و" معبراً " للخلاص في آن معاً .
يزاوج الروائي بين مستويين لحياة الإنسان ، المستوى الواقعي في حياة البطل الأولى ، التي نراها ونحسها من لحم ودم ، ثم المستوى الغرائبي أو الأسطوري ، في الجزيرة . ثم يربط بينهما "بالحنين" ، الحنين الذي يتحرك بين هذين المستويين ،إن الإنسان يتوق دائماً للم شمل جزئيْ روحه معاً ، ولكن هيهات .
المزاوجة تتم أيضاً عبر شخصيتي الشيخ والكابتن ، الشيخ الذي يجسد البعد الإشراقي الصوفي والغيبي ، والكابتن الذي هو علامة الطريق الواقعية، والرمزية أيضاً، بارتباطها بالبحر .
يرشد الشيخ ، أو صوت الماورائي ، البطل إلى نجمه أو حلمه في الإنعتاق من أسر المادية الضاغط ، هذا النجم ، الذي أعلن النص من قبل ، في عنوانه أو لافتته الأولى ، أنه وحيد في الأفق ، بما يتوازى مع وحدة كل إنسان ، حيث كل له نجمه ، الذي لا يظهر إلا بعد المجاهدة والإخلاص في محاولة الخلاص ، إنه حلم كل إنسان وأمله البعيد . وهنا تصل التجربة الروحية الإشراقية إلى بعد أو مستوى جديد تماماً حيث يصل النص بهذه التجربة الروحية ، إلى الجنة ذاتها ، الواقعية/الرمزية. فلا يكتفي من التصوف بالوجد والتهويم .. إنه يأخذ بيدك ويقول لك تذوق والمس .. هذه الجنة ، يتعانق فيها الإسلامي الواقعي مع الأسطوري النابع من الأشواق والأحلام . إن النص يقدم تأكيداً مباشرا ًوغير مباشر لتغلغل الدين في وعي ولا وعي البشر ، فحتى في أحلامهم العنيفة والمتجاوزة للسائد ، في الخلاص ، لا يتجاهلونه كطريق أو كحلم في الخلاص في حد ذاته ، إنه يقول للبشر اصبروا ، فهناك خلف برودة تلك الحياة وقسوتها يوتوبيا ، فيها العدل والحرية وكذلك كل ما يشتهيه الإنسان ولا يصل إليه ولن يصل ..
يقدم الروائي بنية معرفية هائلة عن المكان وعن البحر ، حيث نرى مسحاً شاملاً لحي بحري ، فلا يغفل معلماً ، معروفاً أو شعبياً إلا ويشير إليه ، إنه يعلن انحيازه من خلال هذا الرصد الذي ينساب بسلاسة ودون افتعال ، إنه يقدم أجزاء روحه عندما يقدم بنيات المكان : الشوارع والأسواق والميادين ثم الحواري والأزقة والطرق ثم الجوامع والقصور.... الخ ، بعدها يدهشنا ببنيته المعرفية الخارجة من البحر ، فنفاجأ مرة أخرى بروحه تفرز كل ما يتعلق بالصيد والطيور وكأنما نستمع إلى حكيْ شيخ من شيوخ الصيادين .. التفاصيل الدقيقة لصناعة المراكب ومواعيد وأسماء النوّات وأنواع وأشكال الأسماك والصخور وأسلوب حديث أهل البحر ، أو "السيم" الذي لا يعلمه غيرهم .. الخ .
كل هذا يختلف تماماً عن "موبي ديك" لملفيل أو "العجوز والبحر" لهمنجواي ، مثلاً . كل هذا مصري وسكندري وشعبي تماماً ، ينتمي لنا نحن خاصة بقدر انتماؤه للإنسان عامة .



التحليق للداخل...
(نورس وحيد بجناحين من ورق ) لمحمد الأقطش
عندما تقابل عيناك عنوان هذه المجموعة ، فإن مشاعرك سوف تنقسم بانقسام مقطعي هذا العنوان ، فعندما تقرأ "نورس وحيد" تستدعي على الفور كل الكتابات المرتبطة بالسواحل ، التي تبني عالمها متحاورة مع البحر ومتخذة له منطلقاً ومصباً. لكن عندما تكمل ".. بجناحين من ورق " يتخلخل يقينك الأول ، المتسرع ، لأن النورس بكل ما يرمز إليه من شاعرية ورومانسية عالم واضح وثابت في الذائقة ، ذلك الشاهد ، صار من ورق ، غير حقيقي ، يشير فقط إلى ما مضى ولا يمتلك ما يربطه بأصله بقدر ما يملك طاقة الانخلاع عنه والرسم من جديد . وتزداد مشروعية يقينك الجديد ذلك ، بقراءة المجموعة ، حيث تقابل نماذج تنتمي للإنسانية بشكل أساسي وتصلح للحياة واللعب على كل المسارح وليس قرب ذلك المنبع بالتحديد أو منه بالذات ، رغم أنك لا تستطيع أبداً - وهذه هي المفارقة ودليل تميز الكتابة في آن – إلا أن تقول هذه كتابة بورسعيدية بامتياز !! ورغم أن هذه المجموعة هي الأولى للكاتب إلا أنك تمسك سريعاً بنضج وثقة الكتابة ونجاحها في جذب حبل التصريح والإيماءة واللعب بينهما بمهارة المتمرسين.
هناك مجموعة من العلامات التي يمكن عن طريقها الولوج إلى عالم هذه النصوص أولها الاغتراب والوحدة والخوف ، وهو دال هام ورئيس لأنه يكاد أن يصل لدرجة كونه (مادة خام) تمتح من مفرداتها وعوالمها وكوابيسها هذه الكتابة وتتشكل بها . إن كل جملة في هذه النصوص لا تعبر إلا عن ذات مغتربة عن عالمها وتتكئ على ذاتها كبديل عن ابتعاد الذوات الأخرى، العجيب والمربك، أو قل كتعويض عن ذلك ، إنها خائفة ومتوترة وقلقة طوال الوقت ، تطلب الاقتراب وتخشى التورط ، دائماً . هذا الاغتراب يأخذ شكلين أو صورتين : الاغتراب إزاء البشر باعتبارهم (آخرين) منفصلين عن الذات ولا يعيرونها اهتماماً فتضطر الذات إلى صنع عوالم درامية موازية تعادل وتكافئ ما كان مفترضاً له أن يتم من أشكال التواصل ويظهر ذلك أكثر ما يظهر في قصص : ظل/ تحليق في فضاء قاعة بيضاء / إنهم يأتون ليلاً / نورس وحيد بجناحين من ورق .. وهكذا . تقول لنا الكتابة مثلاً في صفحة 35 : " تمدد الأعمدة ظله – بطول الشتاء – على الأرصفة .. يطارد ظله طيلة المساء و يرقص في صخب على إيقاعات أحذية المارة المتسارعة " .
أما الشكل الآخر من أشكال الاغتراب فهو الاغتراب إزاء الأشياء، لأن انعدام الحياة ، الظاهري ، في الأشياء التي تحيط بالذات يكون سبباً مضافاً للضغط على الروح مثل : الأصوات والضوء وزجاجة البيرة ... الخ ويظهر ذلك في قصص : نافذة /رقص/ الصفير لا ينقطع . تقول الكتابة : " سمع أوراقه تطير فمد ذراعيه ملوحاً بهما كمحاولة لالتقاط الطيور الهاربة " صفحة 25 ، صفحة 19 : " لاشك أن ضحكك بهذا الشكل غير طبيعي بالمرة ، لكنك كعادتك – دائماً – تستغرب طبيعة الأشياء ".
ثاني الدوال أو العلامات التي نستبصر بهاأو معها لسبر أغوار النصوص هي الحرب ، تلك المفردة المكتنزة بالتاريخ والمشاعر واستكناه الآتي في نفس الآن ، سواء كانت الحرب بمعناها الواسع ووطأتها حيث تسحب نقاط الحياة وتترك بدالها بثوراً سوداء لا تموت أبداً . أو كانت الحرب في صورة العسكر والجنود بآليتهم وتعبيرهم الدائم عن قمع الأحلام وبنفس الدرجة اعتبارهم شواهد دائمين على ضياع كل ما هو نبيل وإنساني وقريب من النفس . يظهر ذلك في نصوص : الصفير لا ينقطع / مارش /رأس صغير يطل من نافذة ضيقة / إنهم يأتون ليلاً / نورس وحيد بجناحين من ورق. يقول النص في صفحة 20: " تستعيد اللحظة : الصفير لا ينقطع وصوت الانفجارات يتوالى ، تنزع غطاءها وتقذف بها في جوفك فتشتعل ، يسقط فوقك أحدهم ، يعلو الصراخ ، يسقط آخر وآخر ، وأنت تحاول الزحف بجسد مشتعل ورأس بلا خوذة .. " وصفحة48 : " تخيل إذن جندياً يشهر بندقيته في وجهنا صباح مساء ... أي جمال في هذا ؟! " .. هذا السؤال يلخص الكثير من المسكوت عنه باتجاه ما ألمحنا إليه من قبل .
ثالث العلامات الكبيرة في هذه النصوص أو في هذا النص الكبير هي التعامل مع الأشياء باعتبارها فاعلاً واكتشاف أنساق الحياة المختفية أو المختنقة فيها مثل: المزهرية، الزجاج ، النافذة ، الطائرة ، الحجرة ، المقهى .... الخ فتكتسب الجمادات طاقة تجعلها تكشف عن الروح المخفية . إن النظرة المسطحة لهي طرف نقيض للنظرة المتبصرة ، المتجاوزة ، التي تحفر وتقشر وتتوسل بالخيال لتلمس وتشم وتقبض على القلب فالأشياء التي من المعتاد أن تستخدم فقط إذا بها تكون في حد ذاتها الأبطال والفاعلين ، إذا ما نزعت القشرة الخارجية انطلق الطائر وربت على مصائرنا .
رابع العلامات هي العلاقة الملتبسة مع آخر بعينه هو هنا الزوجة باعتبارها جِلْداً آخر للشخص أو ظلاً للذات ، مربوطاً به بحبل سري سميك أو خفيف لكنه موجودٌ أبداً ، هذه العلاقة تأخذ شكلين إما شكل الراصد والمراقب الدائم لمشاعر البطل والضاغط على الروح والمساعد والمحفز على انطلاق الكوابيس التي تحاصر الذات . ويبين ذلك في نصوص : أنهم يأتون ليلاً / رأس صغير يطل من نافذة ضيقة .. أو يأخذ شكل القيمة الضائعة التي يبكيها البطل ولا ينسى فقدها أبداً مثل نص :" وعي زائد قليلاً " .. تقول الكتابة في صفحة 58 : "هو لا يصدقني وكذلك زوجتي .. ألتصق بها وأدفن وجهي في شعرها فأراهم مختبئين بين خصلاته " وفي صفحة 47 : " أنا أيضاً لم أعد أستطيع التحمل أكثر من هذا ، إنها تشتكي مني كثيراً ، تشتكي للجميع ، تشتكي دون ملل وبشكل فظيع صرت لا أحتمله ". وفي صفحة 67 :".. فربما تعد لي فطوراً في الصباح وتجلس معي ، بدلاً من صعودها إلى إطارها الخشبي العتيق على الجدار، ومراقبتها لي وأنا أبكي فراقها " إن فقدانه لها يشير إلى افتقاده لنقيض ما يعاني منه في أحواله الأخرى . إن غيابها يظهر ما هو مفترض وغير متحقق في علاقة الزوجة بزوجها ويؤطره ويومئ إليه رغم الغياب .
أما خامس العلامات فهي ثنائية الضوء والعتمة .. وهي ثنائية منتشرة في أغلب النصوص ، ولكن ليس بالمعنى المعتاد ، فعندما يتحرك الوعي بين هذين الدالين نكتشف تبادلها الدائم للأدوار أو نكتشف الوجه الحقيقي الملتبس في رؤيتنا نحن ، فندرك أن الضوء هو الظلمة الحقيقية وأن الظلمة سوف تظل تستبطن الضوء داخلها لترعاه أو لتخنقه .. وهكذا . فالبطل الدرامي الذي يتأرجح دائماً بين هاتين القيمتين ويجعلنا ندرك التباس نفسيته واضطرابه الدائم ، إنما يشير لأبعاد خفية داخل النفس البشرية بصفة عامة ، إنه يكشفنا نحن ، أيضاً .. ويتفق معنا على أن نرى بشكل أوضح وأكثر قسوة بدءاً من الآن . يقول النص في صفحة 63 :" في كل مرة .. أقرر الضغط على مفتاح الكهرباء ليفضح الضوء هذه الأشياء اللعينة .."
أما آخر العلامات فهي الفقد وهي قيمة تسري وتنتشر عبر النصوص وتأخذ صورتين : فقد الأشخاص ، مثل نصوص : ربما يكون شخصاً آخر / وعي زائد قليلاً / مزهرية.. أو فقد الأشياء المرتبطة بقيمة ما مثل : الميدان، الشوارع ، المدينة ، البحر ... الخ وتعبير كل منهم عن جزء من حياة وذكريات الفاعل الدرامي يضيع بفقدهم . يقول النص في صفحة 40 :" كان كرسيها خالياً ، وكوبها ساكباً في ظل المزهرية. تتصاعد منه رائحة نفاذة للغياب .. فبكيت " وفي صفحة 63 :" بذاكرة مهترئة تتحسس خطواتي المكان محاولاً تفادي الاصطدام بالأشياء ، تلك التي لا أبصرها ولكني أعرف بوجودها متربصة دوماً .. " .
تتبقى ملاحظتان ، أن لغة هذه المجموعة وإن كانت شاعرية ويغلفها الشجن إلا أن شاعريتها لا تصدر عن وعي رومانسي بقدر ما تصدر عن واقعية تفرد دوراً للاستبطان ثم للتحليق . وأحياناً تكون الحالة النصية بأكملها كناية كبرى وأحياناً ما تكون العبارات بحد ذاتها هي التي تمثل اختيار اللغة الموشاة بهمس الخيال الذي يصل في صورة مجازات وأخيلة . ويلاحظ كذلك في هذه المجموعة من النصوص أن الديالوج قليل جداً والغالب هو المونولوجات الداخلية المناسبة للحالة المسيطرة على الراوي .
إن كل النصوص تأتي على لسان راوٍ أو سارد يتأرجح بين كونه راوٍ مشارك – وهو الأغلب – أو راوٍ راصد فقط إلا إنه دائماً راوٍ عليم يفطن للدواخل ويحصي الأنفاس ويتوقع ردة الأفعال .
إن هذه المجموعة دالة على تميز صاحبها بقدر دلالتها على ثراء وعمق وخصوصية ورهافة وواقعية المكان واكتنازه بالنور والنار معاً ..



الجرح مش حزن وبُكا . الجرح شئ تاني
ألبوم ( زعلان شوية ) لوجيه عزيز
في السنوات الأخيرة بدا لافتاً للنظر أن هناك مجموعة من المطربين الشبان ، المستقلين نوعاً ما ، يحاولون أن يقدموا غناءً مختلفاً يرد الاعتبار ثانية للكلمة واللحن والأداء بعد أن صارت كلمة السر في عصر الخراب الملون المسمى بالفيديو كليب هي الصورة .
من هؤلاء أحمد إسماعيل, عهدي شاكر ، مصطفى رزق , كرم مراد, أحمد صالح ،علي إسماعيل ووجيه عزيز ... وآخرين ، وليست مصادفة أنهم جميعاً يلحنون أغانيهم ويعزفونها على العود ، وإن كان الأخير هو أكثرهم احترافاً وطرقاً لعدة مجالات منها الموسيقى التصويرية للأفلام والبرامج والتلحين لمطربين آخرين وعرض موسيقاه هنا وفي الخارج ، بينما يكتفي البعض بمقار و سرادقات الثقافة الجماهيرية ومسرحيات الأقاليم ، ولا عيب في المنهجيْن .
أصدر وجيه عزيز عدة ألبومات أقل ما يقال عنها إنها مختلفة سواء من حيث اختيار الكلمات أو الأداء الموسيقي أو هرمونية وتناغم أغنيات كل ألبوم في بوتقة واحدة وكأن كل تجربة حالة متكاملة متعددة الأوجه ، وهذا نادر لحد كبير ، فتكمل كل أغنية الأخرى سواء في الروح أو في الأثر أو في المعنى الواضح أو الكامن ، خلف الكلمات .
يحتوي ألبوم "زعلان شوية" على عشرة أغنيات كتب كلمات ثمانية منها شاعر يتميز بالخصوصية الشديدة ويعود جزء كبير من تميز الألبوم إلى كلماته الشاعرة المبهرة هو علي سلامة ، بعد الرائع أيضاً محمد ناصر علي في الألبومين السابقين لوجيه ، وأغنية لفؤاد حداد، وكذلك أغنية لناصر محمود ، وتقاسم التوزيع إيهاب حامد وهشام نياز وهشام نزيه ، والألحان بالطبع لوجيه عزيز .
تبدأ الأغنية الأولى " زعلان شوية " بسؤال من المجموعة " مالك " فيرد المطرب بطريقة تجمع بين البساطة والتطريب "زعلان شوية" ثم يستمر الحوار : " من إيه" ، " قلقان شوية " : " على إيه " ، " حيران شوية" : " طب ليه " بعدها يبدأ في الشكوى " أنا أصلي زي بقيت الناس، ماشي كده عايش وخلاص ، الضحك شكل البكا خالص ، يا منجة ليه طارحة في مارس " إنه يستخدم التوليفة المصرية المكونة من الشكوى المضمخة بالسخرية والأمثال الشعبية التهكمية ، ويضفي حوار المجموعة الإحساس بأن الهموم عامة ، ويستمر " أنا أصلي كنت زمان حبيّب ، وشِعر إيه وغنا ومكاتيب ، ليه كل ماامسك هي تسيب " ثم ينهي الأغنية بتلخيص حالته الإنسانية العامة " بتجنن واتحيّر واتلخبط واتغير واقول يا ناس" فترد عليه المجموعة ، أقصد الناس " مالك" ويعود هو لشكواه ويذكر أنه مازال " زعلان" ، " قلقان" ، " مبسوط " ، " حيران" ، " تعبان"، وسيظل متراوحاً بين كل هذا لأنه إنسان، ويغلف كل هذه المشاعر والأفكار ويساعد على صياغتها موسيقى يغلب عليها الشجن مع التساؤل مع الشقاوة المصرية اللاذعة . إن اختيار الأغنية تلك كمدخل معبر لهو دال موفق في بلاغته .
الأغنية الثانية أنشودة صعيدية حزينة يتشارك معه فيها المطربة جيهان مغاوري وهي " لو تروح " فتدخل الموسيقى بانسيابية وبطء ثم تتصاعد مع إيقاعات الغربة الشجنية " لو تروح وتقول مسافر ، مين يسأل علينا مين ؟" ثم يبدآن في سرد أحداث الحالة بعد غربة الأحباب " المسا زي الصباح ، واللي جاي زي اللي راح ، خدنا إيه غير الجراح " ، " خدت حسّك من بيوتنا ، مين يقول انك تفوتنا ، قلنا لما انبح صوتنا ، مين يسأل علينا مين " وكأنها عدودة تنعي كل من تركونا بحثاً عن قيم سطحية متناسين أرواحنا التي سيصيبها العطب من أثر الوحدة واليتم .. تفرد الأغنية مساحة كبيرة للعود الحزين ليعبر ببلاغته الموازية لبلاغة الكلمات عن وطأة الغربة على الجميع.
ثم تأتي الأغنية الثالثة بموسيقى شقية وحية تفرد مساحات للطبلة والأكورديون وحاملة معها رائحة الطزاجة والشباب والحياة، تقول أغنية " فساتين بناتنا" : " فساتين بناتنا مشجرة ، ناقله اللي فات بالمسطرة ومغيرة لون السكات " إنه لا يكتفي برصد حالة بدء تكون شمس الحياة مع البنات ولكنه يذكرنا بالليل الذي طال ، إنهن بتفتحهن لسن صوراً رائعة فحسب وإنما أمل دائم كذلك .. ويواصل: " ماشيه البنات مين قدها ، راميه البسيط من قلبها ، والتوب جميل لكن يشيط ، لو شم ريحة حزنها " إن هذه الصورة تتجاوز كونها جملة تعبيرية في أغنية إلى أن تكون "جملة شعرية"، بمجازها الموفق واللاذع ، إنها دعوة للحياة وانتصار على كل ما يحاصرنا من قبح أو "سكات".
الأغنية الرابعة واحدة من عدة أغنيات في الألبوم تقوم بمساءلة الواقع الحالي ولكن دون مباشرة فجة ،تبدأ أغنية " قول معايا" بمارش عسكري يتبعه نداء : " قول معايا قول بجد ، هي عيشه ولا موته ولا فوته في حارة سد ؟ قول لحد ، أي حد " بعدها تنقلب الموسيقى شعبية وكأنها تتراقص في قلب حارة مصرية " حد رايح ، حد غايب ، حد جاي ، حد لسه فينا فايق ، حد حي ؟!" وتعود الموسيقى متجهمة ويائسة " قول يا عم قول يا هَم ، قول لحد فينا لسه عنده دم !! " وتنتهي بالزغاريد ، أقصد بالأمل في غد .." قول معايا صوتي لسه منتهاش ، ليه بنرخص ، ليه بنرضى نبيع بلاش ؟" ويكررها وهو يرشق تساؤله الموجع في القلوب كلها .
"هيلا هيلا" هي أغنية العم فؤاد حداد ، ويبدأ الناي ليتسحب بنا إلى المشهد الذي ترتفع فيه أصوات الفواعلية وهم يزومون من التعب لكنهم يغنون دائماً " ياولاد بلد يا ولاد اعمام ، البرج بحري في الغرام ، والقلب من جوا الصعيد ، والنيل وطن . النيل وطن " بعدها يسيح اللحن وكأنه ماء النيل فيرقق قلوبنا" والشط لوّح من بعيد ، قال كل أيد تحتاج لأيد " ثم " والحلو شايل قلتين ، والشمس تحت النخلتين ، طول النهار تاه عقلي فين ؟ " وهنا نحس أن اللحن تناثر ليتوزع على ضوء النهار قبل أن يبتعد ، وكأن الصوت ينادي من على مركب بعيد عن الشط : " الدفة يا عبد السلام ، والقلع يا عبد الحميد " إنها الأغنية/الرسالة التي تبحث فينا عن وطن مازال حياً تحت الجلد وسيظل ، حتى ولو على صورة ضمير ..
ويعود الألبوم للغربة مرة أخرى في عدودة حديثة يبكي فيها العاشق عشقه وروحه التي سافرت مع فراق الهوى في أغنية " سلم يا عاشق " وهي التي تبدأ بكل الرقة الممكنة قبل أن يتلبس الصوت الشفافية وهو يقول " سلم يا عاشق عالهوا ولاّ هتنساني ، هو اللي ضيعنا سوا رجعله ليه تاني ؟ ، أنا عمري كان ضحك وغنا هوّ اللي قساني ، أنا جرحي مش حزن وبكا أنا جرحي شئ تاني " إنه ينعي زمن الإيمان بالهوى وبراءته وجماله ، وكلما كرر جملة "سلم يا عاشق " نحس أنه نداء من يشير بيديه لمن يسافر سفرة نعلم أنه لن يعود منها ، ويسأل " ليه بتلوموني هو انا اخترت الغياب ؟، أنا اللي صابر عالضنا وهوّ اللي غاب " ويقترب صوته من البكاء وهو يؤكد " اللي فِرح هوّ واللي جَرح هوّ " ، لكن الصوت يكتسب قوته ومقاومته " الحب للي يصون والهجر للي يخون والذكرى خليها ، لما الجراح تبتسم ، يمكن أغنيها " .
يعود الألبوم للصعيد بأغنية " شجر المشمش " التي تبدأ بالربابة : " انسى زماني وحكايتي معاك ، وانك ترجع واستناك ، أنا ايه جابني وايه وداك ، إبعد أحسن عن أحزاني " وتتباعد الموسيقى لتعطي الإحساس بتراخي الزمن " كل ما يطرح شجر المشمش روح وانساني ، وان مقدرتش يوم مايهمش حاول تاني " مرة أخرى يسترعي ترتيب الأغنيات الانتباه ، فحينما تنتهي الأغنية السابقة بالقدرة على مقاومة آثار وأحزان غياب من تركنا وغاب ، تجئ الأغنية التالية لتكمل ، ولكن مع تصعيد تلك القوة ، مع اللحن الصعيدي ، يقول " فاكر لما نسيت ورسمتك ، نظرة عينك كانت مغرورة ، ضاعت كل معاني غلاوتك ، قبل الحلم ما يصبح صورة " إن صوت القانون مع الزمارة الصعيدية يشيعان فينا تمثل النخيل القوي ، النخيل الواقف دوماً ..
الأغنية الثامنة تطرق ما يجري معنا وبنا من انعدام المعيارية وضبابية الرؤية ، تبدأ أغنية " هو حصل ايه " بمدخل متأورب ثم تدخل الطبلة والإيقاع العنيف مع سؤال المجموعة " هو حصل ايه ؟ طب يعني جرى ايه " فيرد هو" مش برضه فيه طريقة ، نعرف ايه الحقيقة، صاحبني ولو دقيقة وقولّي جرى ايه " وتعود المجموعة للسؤال ويشاركها هو " الجو مش مساعد ، خايف ماقدرش اساعد " ، " مش برضه لسه صاحي وفاكر فين جراحي ، خد عمري وهات صباحي وقولي جرى ايه ؟؟" وتنتهي بعلامة استفهام كبرى ، أقصد بموسيقى تتخبط لتعطي إيحاءاً باشتداد الحيرة بين الجميع ، السائل والمسئول ، لأن السؤال أكبر وأكثر تعقيداً .
عندما تقترب الرحلة / الألبوم من النهاية يصل اليأس المطبق ، فتأتي ترنيمة " لو موصوفلك " لترد على كل إمكانيات المقاومة السابقة ، تبدأ بمدخل غامض يوحي بأمر مخفي ثم يظهر الناي ليسبغ المشهد بالشجن" لو موصوفلك ترجع، روح وياريت ماتجيش"، " لو تختار في زمانك ، أحسن ما تنقيش " إنه يسأل بصوت خافض ويرد بصوت عالٍ وكأنه مونولوج داخلي ملئ بالسخرية المرة السوداء : " لو موصوفلك وصفة ، اسأل ناس مش عارفة " ، " لو موصوفلك تحلم ، قضي الليل بردان ، واعمل روحك ناسي انك إنسان " ويعلو الصراخ " لو موصوف ترتاح ، نادي وقول يا جراح ، مايغركش براح ، ساكت مايبكيش " ثم تأتي النهاية بوقفة مفاجئة وكأنها سحبة روح .
ينتهي الألبوم بأغنية قصيرة هي " كان نفسي " وهي لم تأتي في النهاية صدفة ، لكنها ترد على ما تم طرحه في الألبوم كله ، في حواراته وأفكاره ، إن الفنان يرد على نفسه ولا يترك جواره إلا العود ، " كان نفسي اقول غنوتي ناعمة رومانسية ، طلع الكلام ناشف ، كاشف هموم فيّ " ، " لا القلب نفس القلب ولا الحياة هيّ " وبعد فترة يخترق صوته العود وهو يكرر " طلع الكلام ناشف " ثم يصمت الاثنان ونصمت نحن ولكن بعد امتلأنا...

المؤلف :
• مؤمن محمد محمد علي .. الاسم الأدبي/ مؤمن سمير.
• مواليد : 15/11/1975 .
• عضو اتحاد كُتَّاب مصر.
• صـدر لـهُ:
1- بورتريه أخير ، لكونشرتو العتمة .
شعر ، دار سوبرمان 1998.
2- هواء جاف يجرح الملامح .
شعر ، الهيئة العامة لقصور الثقافة 2000.
3- غاية النشوة .
شعر، طبعة أولى : هيئة قصور الثقافة 2002.
طبعة ثانية : مكتبة الأسرة 2003 .
4- بهجة الاحتضار .
شعر ، الهيئة المصرية العامة للكتاب 2003.
5- السِريُّون القدماء .
شعر ، الهيئة المصرية العامة للكتاب 2003.
6- ممر عميان الحروب .
شعر ، هيئة قصور الثقافة 2005.
7- تفكيك السعادة .
شعر ، دار هفن 2009 .
8- تأطيرُ الهذيان .
شعر ، دار التلاقي للكتاب 2009 .
9- بقع الخلاص .
مونودراما ، هيئة قصور الثقافة ،
بيت ثقافة الفشن 2010 .
10- إضاءة خافتة وموسيقى .
مجموعة مسرحية ، الهيئة المصرية العامة للكتاب 2009 .
11- يُطِلُّ على الحَوَاس .
شعر ، كتاب اليوم . دار أخبار اليوم , 2010.
12- الهاتف .
مسرحية للأطفال ، الهيئة المصرية العامة للكتاب 2010 .
13- أورادُ النوستالجيا .
مقالات نقدية ، إقليم القاهرة الكبرى الثقافي 2011 .

* للتواصل : هاتف محمــول : 01003815130- 01116321147
بريد إلكتروني :
[email protected]

المحتوى
* فاتحة.
1- أوراد النوستالجيا.
2- عن ألعاب الشاعر .
3- من تحولات الذات.
4- أصداء السَحرة .
5- الروح تصعد الجبل.
6- جسارة الجنون وجماله.
7- القلب يلتقط الجوهرة.
8- عندما تخرج الدهشة من الجراب.
9- الطائر يثقب الدائرة .
10- التحليق للداخل .
11- الجرح مش حزن وبُكا.
* المؤلف .
* المحتوى .



#مؤمن_سمير (هاشتاغ)       Moemen_Samir#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مرفت يس تكتب عن ديوان - تأطيرالهذيان - لمؤمن سمير
- زينب الغازي تكتب عن ديوان - تأطيرالهذيان - لمؤمن سمير
- - المخبوءُ هُنَاكْ
- - نقوشُ السَطْوِ - شعر/ مؤمن سمير
- - رمل ..- شعر/ مؤمن سمير
- قصيدة وقراءة
- - حكايات شعبية من محافظة بني سويف - جمع / مؤمن سمير
- هل أفاد الفيسبوك والمدونات وما شاكلهم ..الابداع الأدبي والفن ...
- - أصواتٌ تحت الأظافر - شعر : مؤمن سمير
- - تحديات النص الراهن -


المزيد.....




- الأطفال هتستمتع.. تردد قناة تنة ورنة 2024 على نايل سات وتابع ...
- ثبتها الآن تردد قناة تنة ورنة الفضائية للأطفال وشاهدوا أروع ...
- في شهر الاحتفاء بثقافة الضاد.. الكتاب العربي يزهر في كندا
- -يوم أعطاني غابرييل غارسيا ماركيز قائمة بخط يده لكلاسيكيات ا ...
- “أفلام العرض الأول” عبر تردد قناة Osm cinema 2024 القمر الصن ...
- “أقوى أفلام هوليوود” استقبل الآن تردد قناة mbc2 المجاني على ...
- افتتاح أنشطة عام -ستراسبورغ عاصمة عالمية للكتاب-
- بايدن: العالم سيفقد قائده إذا غادرت الولايات المتحدة المسرح ...
- سامسونج تقدّم معرض -التوازن المستحدث- ضمن فعاليات أسبوع ميلا ...
- جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مؤمن سمير - كتاب - أَوْرَادُ النوستالجيا وقراءات أخرى -