أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - يوسف يوسف المصري - حول ظاهرة الاسلام السياسي















المزيد.....


حول ظاهرة الاسلام السياسي


يوسف يوسف المصري

الحوار المتمدن-العدد: 3869 - 2012 / 10 / 3 - 09:17
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


المنظمات السياسية الدينية ليست ظاهرة تقتصر على المجتمعات الرأسمالية المتخلفة او "الجنوب" الذي لم تحدث فيه "ثورات اجتماعية" في مواجهة الشمال الذي انتقل بصورة اكثر اندفاعا وقوة في تطوير نظامه الرأسمالي. كما ان علاقة صعود تلك المنظمات بمفاهيم مثل "التحديث" و"العلمانية" و"التبعية" والهيمنة الامبريالية كل ذلك هو افتراضات مسبقة تتسم بالنمطية وتفتقد البحث الملموس للبرهنة على ما تقدمه من مسلسل قاطع من التأكيدات المجردة.
فنحن نشهد في الولايات المتحدة منذ الثمانينيات وبدرجة متزايدة مثلا منظمات مسيحية متطرفة تطوق ولايات كثيرة في الجنوب والوسط ولا يندر ان نجد مدنا بأكملها تعلق لافتات في كل مكان تذكر الناس بالعودة الى الرب وبالرجوع عن الكفر والضلال. والكنيسة الايفانجليكية توسع نفوذها في اوروبا الجنوبية كل يوم على الرغم من "حراسة" السلطة السياسية لسوق الافكار وارتباط تلك السلطة بالكاثوليكية كجزء من البناء الفكري والنظري للدولة الرأسمالية الحديثة هناك على الرغم من كل الاغلفة العلمانية. فضلا عن ذلك فان الكنيسة الاورثوذكسية عادت بقوة الى روسيا عقب انهيار السلطة السياسية التي كانت تضيق عليها الخناق وفي بولندا وشرق اوروبا بصفة عامة رجع الخراف الى الحظيرة بالملايين بعد انهيار آلة القمع "الاشتراكي". وفي اسرائيل حلت المنظمات الدينية التي ترتدي اردية بالغة الاختلاف محل مهاجرو الكيبوتزات ومدعي الاشتراكية منذ السبعينيات. وفي صربيا صعدت الاورثوذكسية القومية كما صعدت الاصولية في الهند وباكستان بل ان بعض الحركات ذات الطابع الثوري في اميركا اللاتينية ارتدت غلافا فكريا كنسيا ونجحت الثورة في ايران وتبلورت الهوية الدينية في تايلاند ومقاطعات من الصين ونيجيريا والجزائر وتركيا وافغانستان وغيرها. انها جميعا نماذج بالغة التنوع والاختلاف.
وفي حالة مصر يأتي هذا التحليل النمطي المصبوب في قوالب مسبقة من جذور فكرية متعددة منها ان اصحابه يعرفون الاسلام السياسي بهذا التعريف ذاته الذي يطلقه الاسلام السياسي على نفسه اي صفته كأسلام سياسي. ان الاسلام السياسي ليس حركة دينية في جوهرها. الدين ليس هو "جوهر" تلك المنظمات ولكنه شكلها فحسب. انها منظمات سياسية نشأت كنتيجة لواقع اجتماعي اي بوصفها تعبيرا سياسيا عن واقع اجتماعي يختلف من بلد الى بلد ويجد في الدين شكلا ملائما للتمثل او الظهور كما انه يجد في الاحكام الدينية مادة اولية مناسبة قابلة للتأويل دائما تساعده على تحديد موقفه الاجتماعي والسياسي والفكري. ومهما قال اصحاب هذا الرأي انهم يدركون ان هناك فارقا بين الاسلام والاسلام السياسي فانهم يقعون عادة في اخطاء بالغة عند عرض خصوصية ما نراه في مصر وعلاقته بظاهرة اوسع مدى واكثر شمولا. ذلك ان هذا ال"ما نراه" ليس "جنوبيا" الا في خصوصيته الظاهرة ولكنه جزء من موجة عامة شمالية وجنوبية وشرقية وغربية.
ويجوز بطبيعة الحال الكلام عن منظمات "الاسلام السياسي". فهي كذلك من حيث ظاهرها. الا ان اي باحث يبدأ من الخلط بين الكلمتين لن يصل الا الى تعميمات مجردة من قبيل انها نتيجة "لتطور رأسمالي غير مكتمل او مشوه". ليس ثمة تطور رأسمالي مكتمل من الاصل الا بالقياس على "تصور" مثالي مجرد عن مجتمع رأسمالي نموذجي.
ثم ان الحديث عن "الاسلام السياسي" في حالة مصر هو تعبير مجرد من حيث الشكل ايضا اذ انه لا يتسق كما نرى مع ما يحدث حقا. هناك سلفيون واخوان وجماعة اسلامية ومنظمات اخرى. فما الذي جمع الاخوان مثلا بالجماعة الاسلامية في السبعينيات غير اللافتة العامة التي يمكن ان يتبناها اي باحث لا ينظر الى ما اعمق من الاسماء التي تصف بها اي منظمة سياسية نفسها. ان اسماء الاحزاب في الغرب مثلا من "الاشتراكي" الفرنسي الى "الاشتراكي الديمقراطي" الالماني الى "العمال" في بريطانيا الى الجمهوريين او الديمقراطيين او غيرها لا علاقة لها بمحتواها الطبقي.
وحين يقول البعض ان الاسلام السياسي راجع الى علاقات التبعية والتخلف والخضوع للامبريالية والتشوه الرأسمالي فان هذا كله لا يفسر لماذا اذن توجد "مسيحية سياسية" او "يهودية سياسية". ان هذه الافتراضات قوالب مستمده من عالم التحليلات الخالصة التي ترسخت على نحو مبتذل نتيجة تأثير مناهج غير ماركسية في حقيقتها وانما تنتمي الى مرحلة "ما بعد ماركسية" كما يسمونها وكأن الماركسية تحولت الى موعد للتاريخ مرادف لما قبل ميلاد المسيح وما بعده. ان موجة الهجوم الفكري على الماركسية - باسمها في اغلب الاحيان – باتت تشوش بقدر هائل على الماركسية كمنهج عبر اتاحتها فرصة مواتية لكل من يريد ان يتفلسف و"يجدد" ليجرد الماركسية في طريق ممارسته لتلك الهوايات الى نصوص او "انماط".
وحين نتحدث عن الدين فان كثيرين غيري قرأوا الشرح الذي قدمه كارل ماركس عن الاغتراب وعن كون هذه "الفئة" هي في نهاية المطاف حالة انفصال المنتج عن انتاجه اي تحول جهد العامل (الذات الصانعة) الى منتج موضوعي خارج عنه وغير خاضع لتحكمه. ومع وجود هذا الانفصال يصبح لدى الانسان المنتج هذا الميل الى النظر الى العالم على نحو مقلوب باعتباره هو نفسه يعيش في علاقة يومية مقلوبة. ان هذا النزوع الى منح "الذاتي" صفة "موضوعية" حكم علاقة الانسان بعمله منذ وقت طويل. الا ان رؤية الطبقة المالكة لمنظومة الافكار الدينية باعتبارها اداة للحفاظ على سيادتها تختلف عن رؤية من لا يملكون لتك الافكار ذاتها باعتبارها "حلم" بالخلاص من سيادة من يملكون. فحين يحتج احد عمالنا على اجره المتهافت مثلا يقول احيانا "وهوا ده يرضي ربنا؟".
ان هذه العبارة العفوية تحمل فهما مختلفا لعدالة السماء وهو فهم يختلف عن فهم من يدفع الاجر الذي يجد في تقسيم العمل والمجتمع وما يعنيه ذلك من علاقات امرا متسقا تماما مع ارادة تلك السماء ذاتها. الا ان العامل نفسه مقتنع ايضا بقدر ما يتمكن الوهم الايديولوجي من رأسه بان لمالك ادوات الانتاج "حق" ما كما ان هذا العامل عاجز عن رؤية استلابه كأستلاب. ان اي نجار حاذق يقول بعد ان ينتج قطعة جميلة من الاثاث ان الخالق الهمه صنعها كما ان الفهم الشائع هو ان الناس خلقت على هذا النحو وان من يجتهد يجد وان ثورة 25 يناير كانت معجزة سماوية وما الى ذلك مما نسمعه كل يوم. ولكن الانسان الذي يعمل وينتج يتطلع الى عدالة غائبة يلوح بها الدين كمفهوم غامض ومجرد اما صاحب العمل فانه يرى ان العدالة هي فيما هو قائم بالذات الا اذا كان ينقص من ارباحه واعماله.
من هذه الزاوية فان رؤية الانسان للعلاقات الاجتماعية التي تضعه هنا او هناك في معادلة ملكية ادوات الانتاج هي في الحقيقة رؤية مغتربة تتخذ صورتين مختلفتين. ان موقف الانسان من الدين هو في نهاية المطاف ومن حيث الجوهر موقفه من تلك العلاقات الاجتماعية ذاتها. ولا يمكن بالتالي ان نقول ان عضو الاخوان المسلمين مثلا يتظاهر بخبث بانه متدين او ان العامل يتجه بلا وعي الى رفض الدين. ان موقف الاثنين يتسم بخصوصية تختلف كل منها عن الاخرى ولكنها تتوحد في صلتها بمجمل المرحلة التاريخية الملموسة التي يعيشها الاثنين اي مرحلة الملكية الخاصة كتعبير مادي عن شروط العمل المغترب. وبقدر ما تمضي هذه المرحلة على درب نهايتها بقدر ما تتسع الهوة بين الجانبين في رؤيتهما للدين وللخالق وللخلق. ذلك ان الافكار السائدة في اي مرحلة معينة هي افكار الطبقة المهيمنة بالذات. من هنا فان علاقة الانسان العامل بالاغتراب هي علاقة ممارسة عملية اما علاقة الانسان غير العامل بالاغتراب فانها علاقة نظرية الا ان الاثنين يوجدان معا داخل اطاره الموضوعي. من هذه الزاوية فان نهاية الوهم الايديولوجي لا ترتبط بالتنوير او بدحض الافكار المتخلفة بافكار غير متخلفة. انه ليس صراع في عالم العقل. ولكنه صراع من اجل انهاء هذه المرحلة التاريخية. وهو لا يعد الا مقدمة لتحول يستغرق وقتا طويلا من فجر التاريخ الانساني الى هذا التاريخ نفسه.
الا ان هذا الشرح النافذ الذي قدمه المفكر الثوري الكبير لا علاقة له بموضوع "الاسلام السياسي" في اي مجتمع الا بقدر استعدادنا للخلط بين الكلمتين. ان الثوري الكبير لم يكن يعرض رؤيته للدين السياسي. انه كان يعرض رؤيته لكل تعبيرات استلاب الوعي وتحويله في العقل الى قوة موضوعية. ان الاغتراب ليس اساس الدين السياسي الا بقدر ما هو ايضا اساس هيمنة الامبراطور والملك والليبرالية البورجوازية والبرلمانية والقانون والاخلاق ومالكي ادوات الانتاج الخ. من هذه الزاوية فان الاغتراب هو البساط الذي يتحرك فوقه اي وهم ايديلولوجي في المجتمعات الطبقية. كما ان الثوري الكبير لم يكتف بتحليل السمات العامة للاستلاب الا من منظور كونه "فئة" في تجريد مفيد وضروري لرؤية خصائصه المميزة في المراحل المختلفة منذ فجر تاريخ المجتمعات الانسانية اي ما نعيشه حتى الآن. لقد سعى عبر مداخل مختلفة ومتناثرة في كتاباته الى تحديد تلك السمات التاريخية المختلفة للاستلاب في المراحل التاريخية المختلفة على اساس من خصائصها الملموسة. ولا يمكن النظر للاسلام السياسي من هذه الزاوية التي لا تقول شيئا اكثر من ان جوهره هو جوهره اي انه وهم "ايديولوجي" آخر.
ولكن هل يعني ذلك ان علينا ان نتوقف عن دحض افكار الاخوان المسملين او السلفيين؟. السؤال ذاته ناتج كما هو واضح عن الخلط في فهم عبارة "الاسلام السياسي" بين "الاسلام" و"السياسي". اذ ان من الضروري دحض ونقد افكار المنظمات "السياسية" التي تسمي نفسها اخوانا او سلفا باعتبارها منظمات سياسية. فبقدر ما يمكن نقد القوى الرجعية غير الدينية والقوى الليبرالية والقوى اليسارية الطفولية بقدر ما يتعين ايضا نقد ومواجهة القوى الرجعية الدينية.
ويجب ان نلاحظ هنا ان الطبقات المالكة تروج للافكار الدينية من زاوية فهمها لها باعتبارها "حفاظ على الامر الواقع". وبما ان هذه الطبقات هي المسؤولة عن صنع الثقافة الاجتماعية التي يحملها ايضا من يعملون بقدر تقدمهم على درب وعيهم بذاتهم فانها عادة ما تصطدم بهذه الدرجة او تلك من مقاومة من يعملون للرؤية القائلة بان الدين هو حفاظ على الامر الواقع. فما يراه العاملون في الدين هو جانب مختلف. جانب عادل ومنصف وسعيد وخال من الفقر والمعاناة. وقد انتقل الاخوان المسملون في مصر بتوليهم السلطة من حيث كان الناس يرونهم – على نحو مشوش ومجرد – تعبيرا عن هذا العالم الخيالي الى حيث اصبحوا تعبيرا مباشرا وواضحا عن "الحفاظ على الامر الواقع". ويظل الانسان العامل على الرغم من ذلك متمسكا بفهمه – بهذا القدر او ذاك - للسعي نحو التخلص من الظلم "اللي ما يرضيش ربنا". اما الانسان المالك فانه يميل الى تفسيرات مفرطة في بعدها عن المعاناة في الارض. فالثروة وهبها الخالق للمالك ولم يهبها له عرق العاملين. والمسافة بين الانسان وسعادته هي نسبة عكسية للمسافة بينه وبين خطاياه وذنوبه. وما خلق الانسان الا ليشقى ويكابد ( ما عدا اولئك الذين يملكون بطبيعة الحال فانهم خلقوا لينعموا ).
فهل يعد الفهم السابق خلطا بين السلطة السياسية وطبيعة علاقات الانتاج في المجتمع؟. انه يمكن ان يفهم كذلك في نظر من يرى ان الاخوان كانوا دوما اصحاب شركات ومن ثم ملاكا وانهم بدوا من البداية في نظر العاملين باعتبارهم قوة الحفاظ على الامر الواقع. الا ان هذا الرد ينبع من خلط آخر هو الخلط بين الاخوان كقوة سياسية وبين موقع اعضائهم الطبقي. اننا حين نناقش الاخوان او السلفيين فاننا نناقشهم باعتبارهم قوة سياسية. ومع وصول تلك القوة الى السلطة فقد كفت بالتالي عن ان تتبدى في نظر من يعملون كوعد غامض بغد افضل. لقد اصبحوا هذا الغد الافضل ذاته وقد دخل امتحانه العملي الاول. ويقول المصريون في تبسيط ذلك "آدي الجمل وآدي الجمال". "فرجونا" اذن على ما يمكن ان يقدمه الاسلام السياسي للعاملين في مصر الذين يقعون في مساحة مختلفة على خريطة اغتراب العمل الاجتماعي غير تلك التي يقف فوقها الاخوان او قوى الاسلام السياسي بصفه عامة.
فكيف يمكن النظر اذن الى الاسلام السياسي؟.
علينا اولا ان نضع مسافة نسبية واضحة في الاذهان - في تجريد مفيد – بين الاسلام السياسي وبين الدين. وعلينا ان نضع ايضا مسافة نسبية واضحة في الاذهان – في تجريد مفيد بنفس القدر – بين موقع من يقودون منظمات الاسلام السياسي الطبقي والاجتماعي وبين موقفهم السياسي والفكري.
والسؤال الاساسي هنا هو ما الذي يجعل تلك القوى السياسية قوة مؤثرة على نحو ما نرى في بلادنا الآن؟. لمذا تزايد اعضاء الاخوان والسلفيون الآن بالمقارنة مع ما ما كان عليه هذا العدد في الستينيات او الاربعينيات. لقد شكل الاخوان تنظيمهم في الثلاثينيات من الوجهة العملية كما ان الحركة السلفية في المقابل لم يكن لها وجود يذكر قبل السبعينيات. الا ان القرآن والسنة كانا موجودين دائما. وفي اوروبا الغربية كان الانجيل والكنيسة موجودان دائما. كانا موجودان كما هما بنفس النصوص وبنفس البنايات الحجرية الضخمة للكاتدرائيات الشهيرة. كانا موجودان حين كانت الفتاة الى تفقد عذريتها دون زواج تصلب حية وحين لم يعد هناك عذروات فوق الرابعة عشرة. القرآن لم يتغير والانجيل لم يتغير ايضا. لقد كان ما تغير هو شئ آخر تماما.
لقد انتقلت مصر في السبعينيات من شكل معين لعلاقات الانتاج الرأسمالية المتخلفة الى شكل مغاير. الا ان ذلك لم يقتصر على حالة مصر. فقد انتقلت الولايات المتحدة في مطلع السبعينيات ايضا الى مرحلة من هيمنة رأس المال المالي واخضاع رأس المال "المنتج" لوضع ثانوي في الائتلاف الطبقي الحاكم. لقد كان متوسط احتفاظ الاميركي باي ورقة مالية في الستينيات 16 سنة اما في 2011 فقد اصبح اربعة اشهر. وانتقلت بورجوازيات المستعمرات السابقة من مرحلة المحاولة الى مرحلة الاستسلام. وانتقلت التجربة "الاشتراكية" فيما كان يسمى "الكتلة الشرقية" من مرحلة الصناعة الثقيلة الى مرحلة العجز الثقيل. وانتقل المنتجون والفقراء في العالم كله من مرحلة التعلق بالاحلام الوطنية والاوهام القومية وقمع "ديكتاتورية البروليتاريا" وما سمي بازمة الماركسية وافلاس افكار "الاستقلال الوطني" ونهاية مشروعات "التحرر الوطني الديمقراطي" الى مرحلة المواجهة الواقعية لمشكلات الجوع والفساد والفقر والقمع الوحشي والمعاناة اليومية ومن ثم البحث عن اطار فكري جديد يؤطر بحثها عن مستقبل افضل.
ولكن ما هي هذه القوة الغامضة التي جعلت ذلك يحدث متزامنا خلال عقدين تقريبا من الزمن هما سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي؟. ثم كيف تبدى نصيبنا نحن من هذه الظاهرة العامة؟.
سأقدم هنا بعض سمات تلك المرحلة التي شكلت نقطة تحول على نحو مختصر نسبيا على ان افصلها لاحقا في تناول اكثر افاضة.
لقد كانت السمة الابرز في عقدي السبعينيات والثمانينيات هو هذا القدر الكبير من التوحش الذي ابدته قوي رأس المال العالمي الكبير. فبعد حسم مرحلة الاقتسام والسيادة بين الامبراطوريات الاستعمارية القديمة واساليبها البالية في نهب ثروات الناس في كل بقاع الارض وصعود صيغة رأس المال المالي استقرت الامور ضمن معسكر واضح الملامح. ونشبت حرب فييتنام التي كان مقدار العنف فيها هائل بحق وحروب الشرق الاوسط وحرب باكستان والهند وغزو افغانستان وحروب جنوب شرقي آسيا وحروب اخرى امتدت نيرانها في كل قارات العالم الا انها كانت جميعا مرحلة مميزة من مراحل تطور النظام الرأسمالي في العالم.
لقد كانت الرسالة واضحة ومختصرة من رأس المال المالي الذي بدأ يتجمع في افق العالم كما تتجمع العاصفة السوداء : لم يعد هناك وقت للمزاح. وكانت "الكتلة الاشتراكية" منهمكة في بروفات جادة لانهيارها المقبل كما اتضح في شرق اوروبا وغزو موسكو العسكري لبعض بلدانها. وخلال ذلك كانت الضرورة الموضوعية تضغط بلا هوادة لتطوير ادوات الاتصال الحديث وما يسمى الثورة التكنولوجية التي تراكمت عناصر تطويرها بالفعل لتتيح بذلك – مع ما تلى ذلك من انهيار الكتلة الاشتراكية – الفرصة التاريخية لرأس المال المالي كي يهب على عالم بات بلا حدود او ايديولوجيات او احلام وطنية وقومية او نظريات للتحرر الوطني.
لقد كانت "العودة" الى الدين هي الدرب الاساسي المتبقي لكي تحافظ الجماعات الانسانية التي تواجه تلك العاصفة السوداء على ذاتها وقدرتها على البقاء وقدرتها على مواصلة الحلم بحياة افضل. واتخذت تلك السمة العامة التي شملت العالم في هذه المرحلة المتأخرة من تطور النظام الرأسمالي العالمي اشكالا خصوصية بالغة التباين بين المجتمعات المختلفة. الا ان النظر الى ما هو مشترك فيها يشير باصابع اليدين الى الحاجة للهوية والحلم بالحرية.
وفي حالتنا نحن بالذات فان الهجرة من الريف الى المدينة كاحد ثمار التحول الاجتماعي لعبت حسب تقديري الدور الاساسي في تغذية هذا النزوع الفكري الى الالتفاف حول منظمات الاسلام السياسي. لقد تبدل توزيع الارض في الريف وحجم حيازاتها ونسبة استيعابها للقادرين على العمل وحصتها من الناتج المحلي الاجمالي مما ادى الى تدفق لم ينقطع حتى اليوم من الريف الى المدينة. وكان هذا الانتقال لا يعني فقط مواجهة ضرورة الركض وراء لقمة العيش الصعبة ولكن ايضا تحطيم لا هوادة فيه لمنظومة كاملة من القيم حكمت مجتمعنا الريفي. لم يعد الجار هو نفس الجار ولم تعد الاسرة هي نفس الاسرة بل ولم يعد "ابن الحته" في المدن هو ابن الحته اذ تاه هذا الابن في دفق من الوجوه غير المعروفة التي تسكن ال"حته" نفسها. لقد ساهم هذا التدفق في تدمير منظومة القيم القديمة ونقلها الى مرحلة من الصراع الذي لا رأفة فيه على البقاء.
الا ان هذا البقاء لم يكن سهلا. لا للفلاحين المهاجرين قسرا بحثا عن البقاء ولا حتى لمن يسمون ابناء الطبقة الوسطى التي اعتمد عليها ملاك ادوات الانتاج في مرحلة ما بعد انهاء الاستعمار التقليدي. لقد كان وضع الطبقة الوسطى في مصر مستقرا نسبيا في مجتمع حكمته لفترة وجيزة علاقة هجرة طبقية خافتة. ابن الاسرة الريفية او الحضرية المتوسطة كان يتعلم ثم يتخرج ليعين بامر حكومي. وكان من المفهوم ان يغني الشباب آنذاك اهواك واتمنى لو انساك او اغاني ام كلثوم فقد كان اكثر ما يحرك المشاعر هو حب بنت الجيران وليس الانشغال بالبحث عن عمل او مسكن او فرصة للهجرة. لقد كانت انبة الجيران غير مضمونة فيما كانت الوظيفة مضمونة سلفا.
ولا يمكن باي حال التقليل من الدور الذي تلعبه الطبقة الوسطى لاسيما الشرائح المثقفة منها في صياغة "المزاج العام" والافكار والثقافة السائدة. انها قادرة على ان تفعل ذلك بحكم امتلاكها للادوات ثم بحكم حصولها دائما على تصريح من المنظومة الفكرية للملكية الخاصة لان هذه هي راية "المتوسطين" ايضا.
وادى كل هذا الى حالة من "التوهان" الاجتماعي. فلم تعد الطبقة الوسطى قادرة على ان تغني كما كانت تغني ولم تعد ترى الا ما تواجهه من خيار قاس بين الهبوط الى فقر مدقع او سرقة الجمرك وترديد اغاني سوقية تمثل علامة صعود السقوط ان جاز التعبير. وفي هذه الحالة الملموسة من الاغتراب الاجتماعي يقدم الدين عادة مرفأ للحفاظ على التوازن الداخلي وعلى القدرة على المواصلة والحلم.
ان اي نقاش مع "مولود مجددا" في مدن حزام الانجيل الاميركية او مع سلفي او مع ايفانجليكي يدعو الناس في المدن الفرنسية للعودة الى الرب يوضح بجلاء اننا ازاء ازمة اغتراب بالغة العمق للروح الانسانية وهو اغتراب عن "الجنس" الانساني في نهاية المطاف. فالعامل الذي فقد عمله في كرموز سيردد نفس العبارات التي يرددها العاطل الذي لا يجد عملا في أتلانتا او المهمش في ارض اللواء او من هجرته زوجته في مرسيليا وتركت له الاولاد. ان اللجؤ الى الدين السياسي يقدم لاولئك جميعا دربا محتملا للخلاص من آلام لا تطاق لا يفهمون سببها ولا يستطيعون تفسير لماذا نالتهم هم دون ان تنال من غيرهم ولا يعون باي الطرق يمكنهم التخلص منها.
وقد يستطيع الادباء وصف كل ذلك بأفضل كثيرا مما استطيع انا الا ان هذه الصورة ذات الملامح العامة تفيد في ان توضح على نحو عام ما ارغب في قوله.
ان صعود الاسلام السياسي في مصر او بالاحرى الاخوان المسلمين ثم وصولهم الى السلطة السياسية يفتح الباب امام مسارين مختلفين. الاول هو سقوط الاخوان وصعود الحركة السلفية بدلا منهم والثاني هو هزيمة كل منظمات الاسلام السياسي بكافة اشكالها. وليس ثمة حتمية مفترضة مسبقا لاي الطريقين ستسلك بلادنا. وقد قرات مؤخرا تعليقا لصديق قال فيه ان هزيمة الاخوان ستعني عودة العسكر. وقد يكون ذلك صحيحا وقد لا يكون. الا ان "عودة" العسكر تفترض اصلا انهم رحلوا على الرغم من ان ظلهم يخيم على الجميع ك"ضابط" اخير لمجتمع الاغتراب اذا ما فشلت المنظمات الدينية في ذلك. فضلا عن ذلك فان عودة العسكر لا تعني شيئا في سياق نقاشنا السالف. ذلك انهم في حقيقة الامر سيقدمون تبدلا في شكل السلطة وترويجا لنظرية الديكتاتور الصالح الذي لا يمكن لشئ ان ينضبط بدونه. ويتسق هذا بطبيعة الحال مع "رؤية" الناس في مجتمعات الملكية الخاصة لذاتهم باعتبارها شيئا خارجا عنهم او بالاحرى موضوعيا. اي انه يعد امتدادا للرؤية القائلة بان خلاص الناس هو في السماء. استبدل الديكتاتور الصالح بلحية وستجد الحل. وان لم يكن ذلك حلا فان عليك ان تستبدل اللحية مرة اخرى بالديكتاتور الصالح. ان الديكتاتور الصالح سواء كان باسم السماء او باسم الضباط الاحرار هو باختصار التعبير التاريخي عن هذه المرحلة من اغتراب العمل اي اغتراب الانسان عن جنسه خلال كفاحه ليبقى حيا.
اننا نمر بفترة معقدة من تاريخ الصراع الطبقي في مجتمعنا وفي عالمنا على حد سواء. وبقدر ما تشهد تلك الفترة اظلاما يبدو وكأنه يطبق على ما يحيط بنا من آفاق مع كل صباح جديد بقدر ما نتقدم نحو فجر جديد تتحول فيه معركة الانسان الى معركة سيطرته هو نفسه على مصيره. ولمن يعرفون شيئا من دروس التاريخ فان الانسان سينتصر في نهاية المطاف.



#يوسف_يوسف_المصري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رحلة -موت العمل- بين روبنسون كروزو و-ماد ماكس-
- سؤال لشباب اليسار : هل كان عصام العريان محقا؟
- الموقف من الانتخابات البرلمانية المقبلة
- ملاحظات على مداخلة الدكتور محمد عادل زكي عن القيمة الزائدة
- ملاحظات حول سلاح التظاهر في ضؤ 24 اغسطس
- الاخوان والليبراليون
- كلمتين لعمال مصر
- قصة قصيرة..حكاية العجوزان ومرسي
- في استكمال نقد تحليلات البعض للثورة المصرية ومهامها
- مفهوم مختلف – عن الماركسية – للثورة السياسية
- هل سيبقى مرسي في القصر الرئاسي اربعة اعوام حقا؟
- ملاحظات على مقال الدكتور شريف يونس عن المشهد الراهن
- تأملات حول الحيرة الانتخابية في مصر وغياب التنظيم الثوري
- لماذا يبدو شعار الجمهورية الديمقراطية الشعبية في طرح المثقفي ...
- في الرد على مقال خليل كلفت عن اسطورة المرحلة الانتقالية في م ...


المزيد.....




- ماذا قال الجيش الأمريكي والتحالف الدولي عن -الانفجار- في قاع ...
- هل يؤيد الإسرائيليون الرد على هجوم إيران الأسبوع الماضي؟
- كوريا الشمالية تختبر -رأسا حربيا كبيرا جدا-
- مصدر إسرائيلي يعلق لـCNN على -الانفجار- في قاعدة عسكرية عراق ...
- بيان من هيئة الحشد الشعبي بعد انفجار ضخم استهدف مقرا لها بقا ...
- الحكومة المصرية توضح موقف التغيير الوزاري وحركة المحافظين
- -وفا-: إسرائيل تفجر مخزنا وسط مخيم نور شمس شرق مدينة طولكرم ...
- بوريل يدين عنف المستوطنين المتطرفين في إسرائيل ويدعو إلى محا ...
- عبد اللهيان: ما حدث الليلة الماضية لم يكن هجوما.. ونحن لن نر ...
- خبير عسكري مصري: اقتحام إسرائيل لرفح بات أمرا حتميا


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - يوسف يوسف المصري - حول ظاهرة الاسلام السياسي