أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - ناصر بن رجب - نُبُوَّة وزِنَا (5)















المزيد.....



نُبُوَّة وزِنَا (5)


ناصر بن رجب

الحوار المتمدن-العدد: 3866 - 2012 / 9 / 30 - 17:26
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


من نصّ إلى آخر
 
تأليف : ألفريد - لويس دي بريمار
ترجمة وتعليق : ناصر بن رجب
 
مقال نُشر بالفرنسية تحت عنوان :
Alfred-Louis de Prémare
Prophétisme et adultère
D un texte à l autre
Revue des Mondes Musulmans et de la Méditerranée,
Année 1990, Volume 58, Numéro 1, pp. 101-135
 
ابن إسحاق، ابن هشام، العهدان القديم والجديد
كان ابن إسحاق بالفعل مُطّلعا على نصّ إنجيل يوحنّا مباشرة. ففي الوقت الذي يبدو فيه أنّه يروي قبل كلّ شيء حديثا بَلَغَهُ شفويّا [«وقد كان فيما بلغني»، يقول ابن إسحاق]، فهو يستشهد مرّة واحدة، بنصّ إنجيل يوحنّا نفسه، بالمقطع من خطاب يسوع حول البَرَقْليطِس [يوحنّا 15، 23 – 16، 1] لكي يُطبّقه على مَبعث محمّد. يُدرِج ابن إسحاق استشهاده كالآتي :
«وقد كان - فيما بلغني عمّا كان وضَع عيسى ابن مريم فيما جاءه من الله في الإنجيل لأهل الإنجيل – من صفة رسول الله (ص) ممّا أَثْبَتَ يُحَنّس الحواري لهم، حين نسخ لهم الإنجيل عن عهد عيسى ابن مريم عليه السلام في رسول الله (ص) إليهم أنّه قال :([56])
 

 

جدول مقارنة بين نصّي السيرة وإنجيل يوحنّا[57]

نصّ سيرة ابن إسحاق

نصّ إنجيل يوحنّا

«مَنْ أَبْغَضَنِي فقد أبغضَ الرّب، ولولا أَنِّي صنعتُ بحضرتهم صنائع لم يصنعها أحدُ قَبْلي، مَا كَاَنْت لَهُمْ خَطِيئَة، ولكن مِنَ الآنَ بَطِروا وظنّوا أنّهم يَعُزونني، وأيضا للرّب، ولكنْ لا بُدَّ مِنْ أن تَتُمَّ الكَلِمَة التي في النَّامُوس : أنّهم أبغضوني مَجَّانًا، أَيْ : بَاطِلاً. فلو قد جاء المنْحَمَنَّا هذا الذي يُرْسِلُه الله إِلَيْكُمْ مِنْ عِنْدِ الرّب، ورُوحُ القُدُس هَذَا الَّذِي مِنْ عِنْد الرَّب خَرَجَ، فَهْوَ شَهِيد عَلَيَّ وأنتم أَيْضًا؛ لأنّكم قَدِيمًا كُنْتُم معي في هذا، قُلتُ لكُم : لِكَيْمَا لا تَشُكُّوا» [السيرة، I، 251]

 

تعليق ابن إسحاق :

«والمُنْحَمَنَّا بالسريانيّة : مُحَمَّد: وهو بالروميّة : البَرَقْلِيطِس، صلى الله عليه وآله وسلّم» [نفس المصدر]

«الَّذِي يُبْغِضُنِي يُبْغِضُ أَبِي أَيْضًا، لَوْ لَمْ أَكُنْ قَدْ عَمِلْتُ بَيْنَهُمْ أَعْمَالاً لَمْ يَعْمَلْهَا أَحَدٌ غَيْرِي، لَمْ تَكُنْ لَهُمْ خَطِيَّةٌ، وَأَمَّا الآنَ فَقَدْ رَأَوْا وَأَبْغَضُونِي أَنَا وَأَبِي. لكِنْ لِكَيْ تَتِمَّ الْكَلِمَةُ الْمَكْتُوبَةُ فِي نَامُوسِهِمْ : إِنَّهُمْ أَبْغَضُونِي بِلاَ سَبَبٍ([58]). وَمَتَى جَاءَ الْمُعَزِّي الَّذِي سَأُرْسِلُهُ أَنَا إِلَيْكُمْ مِنَ الآبِ، رُوحُ الْحَقِّ، الَّذِي مِنْ عِنْدِ الآبِ يَنْبَثِقُ، فَهُوَ يَشْهَدُ لِي. وَتَشْهَدُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا لأَنَّكُمْ مَعِي مِنَ الابْتِدَاءِ»؛ «وَأَمَّا الْمُعَزِّي[59]، الرُّوحُ الْقُدُسُ، الَّذِي سَيُرْسِلُهُ الآبُ بِاسْمِي، فَهُوَ يُعَلِّمُكُمْ كُلَّ شَيْءٍ، وَيُذَكِّرُكُمْ بِكُلِّ مَا قُلْتُهُ لَكُمْ». [الإصحاح 15]؛ «قَدْ كَلَّمْتُكُمْ بِهذَا لِكَيْ لاَ تَعْثُرُوا[60]» [الإصحاح 16].

 

وهذه نسخة أخرى من يوحنّا :

«لَوْ لم أَكُن قَد جِئْتُ وكلَّمْتهُم، لم تكن لهم خطيَّةٌ، أمَّا الآن فليس لهم عُذْرٌ في خطيَّتهم. من يُبغضني يُبغض أبي أيضا. لو لم أَكُنْ قد عَملْتُ بيْنَهُم الأَعمال التي لم يعملها آخر، لَمَا كانت لهُم خطيَّة. أمَّا الآن فقد رأوني وأبغضوني أنا وأبي أيضا. لكن لكي تتم الكلمة المكتوبة في ناموسهم : إنهُم أبغضوني مَجَّانًا». [15، 22 – 25]

 


وهذه نسخة أخرى من يوحنّا :
«لَوْ لم أَكُن قَد جِئْتُ وكلَّمْتهُم، لم تكن لهم خطيَّةٌ، أمَّا الآن فليس لهم عُذْرٌ في خطيَّتهم. من يُبغضني يُبغض أبي أيضا. لو لم أَكُنْ قد عَملْتُ بيْنَهُم الأَعمال التي لم يعملها آخر، لَمَا كانت لهُم خطيَّة. أمَّا الآن فقد رأوني وأبغضوني أنا وأبي أيضا. لكن لكي تتم الكلمة المكتوبة في ناموسهم : إنهُم أبغضوني مَجَّانًا». [15، 22 – 25]


 
كما نلاحظ، فالأمر يتعلّق حقيقة باستشهاد. وهو ليس مجرّدَ شرحٍ بل ترجمة حرفيّة تذهب إلى حدّ التفاصيل في العبارات الخّاصة بنصّ العهد الجديد : فاللّفظ المُستعمل لترجمة الشريعة اليهودية هو اللّفظ اليوناني المُعرَّب [النَّامُوس =  ô Nômos]، وليس كلمة «التوراة» مثلما هي العادة الإسلامية وعادة ابن إسحاق الخاصّة به عندما يتحدّث عن اليهود؛ «مَجَّانًا» [جاءت هكذا في المزمور «إنَّهُم أَبْغَضُوني مَجَّانًا»] فابن إسحاق يستعمل العبارة القديمة التي يشرحها بجملة إعتراضية «أي باطلا»؛ وكذلك فهو يستخدم العبارة الآرامية «مَنْحَمَنّا» ليشير إلى البَرَقليطس وذلك بسبب تناغمها مع «محمّد». أخيرا، قبل أن يستشهد بالنّص المقتبس، يُلحُّ ابن إسحاق على نَسْخِ الحواري يوحنّا للإنجيل : «حِينَ نَسَخَ لَهُمْ الِإنْجيل». وهو نفس يوحنّا الذي سيقول عنه لاحقا [السيرة، IV، 280] أنّه أُرسِل إلى أَفْسُس، ذلك طِبقًا للتّراث المسيحي في القرون الأولى.
إلاّ أنّ ابن إسحاق يُدخل على هذا الإستشهاد تنْقيحَيْن شخصيَّين : «أَبِي» عَوَّضَهُ بـ «الرَّب»، والبرقليطس بعثه الله وليس يسوع. ييستطيع حينئذ أن يُضيف تعليقه : «والمُنْحَمَنَّا بالسريانيّة : محمّد : وهو بالروميّة : البَرَقْلِيطِس، صلى الله عليه وآله وسلّم»([61]).
يبدو أيضا أنّ ابن إسحاق كان يعرف «أعمال الرسل»، Actes des Apôtres، أو على أيّة حال كان مُطّلعا، سواء مباشرة أو غير مباشرة، على عناصر من التراث الكَنَسيّ. ففي مقطع آخر من السيرة، يُقدّم ابن إسحاق، دون أن يستشهد بنصّ، قائمة بأسماء رُسُل عيسى بن مريم مُشيرًا إلى إرسالهم إلى مختلف أنحاء الأرض [بطرس ومعه بولُس إلى رومية، وطوماس إلى أرض بابل، ويُحنَّس إلى أفسوس، وفيلبس إلى أرض قرطاجنّة، ويعقوبُس إلى أورشليم، وسيمُن إلى أرض البربر، الخ]([62]). قائمة الأسماء، المنقولة فيما يبدو عن اليونانيّة، متطابقة، باستثتاء اسم واحد، مع قائمة أعمال الرسل([63]). إلى جانب بُطرس يضيف في القائمة مَنَ أُرسِل معه إلى روما، بولس، مُدَقِّقًاا «وكان بولس من الأتباع، ولم يكن من الحواريين». أخيرا، بخصوص يُودِس، فهو يُلمّح إلى حقيقة أنّه وقع تعويض، ولكن بالمناسبة جُعِل مكانه «يهوذا، ولم يكن من الحواريين».
هذا المقطع، الذي هو لابن إسحاق، بدون واسطة، يأتي لكي يُبيّن حديثا سابقا أخذه عن شيخه الإسكندري يزيد بن أبي حبيب المصري [تـ 128 ه/745 م] وعن الزهري : هذا الأخير استلم من يزيد كتابًا «فيه ذِكْرُ مَنْ بَعَثَ رسول الله (ص) إلى البلدان وملوك العرب والعجم»؛ وهذا الكتاب فيه وصيّة محمّد لمن بعثه من أصحابه: «ولا تختلفوا عَلَيَّ كما اختلف الحواريون على عيسى بن مريم». وبالفعل، فقد «شكا عيسى ذلك منهم إلى الله»، وعلى إثْر ذلك «أصبحوا وكلّ رجل منهم يتكلّم بلغة القوم الذين وُجِّه إليهم» [السيرة، IV،279 - 280؛ قارن مع : Actes des Apôtres 1, 13-26 ; 2, 1-13]([64]).
الإهتمام «بالإنتحال» يبدو واضحا هنا أيضا : كما أنّ اليهود خالفوا «آية الرجم» المسطورة في التوراة، فإنّ حِواريّي يسوع خالفوا توصيّة المسيح لهم بالإتّحاد، والأمّة الإسلاميّة هي الوريث الحقيقي لهؤلاء وأولئك، حاملة للرّسالة الإلهية في صفائها ووحدتها. واقع أن كلُّ شعب «كَانَ يَسْمَعُهُمْ [الحواريّون] يَتَكَلَّمُونَ بِلُغَتِهِ»، «يَتَكَلَّمُونَ (بِلِسانِه) بِعَظَائِمِ اللهِ!»، فقد ذُكِر ذلك في أعمال الرسل [2، 11] كنتيجة لما وَهَبَه الروح القدس لحواريّي يسوع يوم الخَمْسين([65])، وهذا بمثابة مُصاحبة رمزيّة لِـ «بَلْبَلَة اللِّسَان» الناتجة عن محاولة البشر مُنافسة الرّب عند بِناء برج بابل [تكوين 11، 9]([66]). هذا الرمز قَلبتْه السيرة التي [على مِنْوال القرآن، البقرة، 253، ولكن بِبُعْدٍ جديد] تُعيد تأويل «تَنوّع» الألسن كَنتيجة لـ «اختلاف الحواريّين على عيسى بن مريم» ونتيجة انحرافهم عن الرسالة الأصلية التي كان عليهم أن يُبلِّغوها. لقد تكلّم ابن إسحاق مُطوّلا عن هذا الإختلاف على عيسى في قصّة الجدل مع نصارى نجران، مستشهدا بآيات قرآنيّة، بعد حديثه بقليل عن قصّة الجدل مع اليهود بخصوص رجم الزّانيّيْن [السيرة، II، 206 وما بعدها].
وأخيرًا، يظهر في السيرة مَصْدَرٌ إخباري مُهمّ فيما يَخُصّ المسيحيّة : نصوصها، تاريخها أو خرافاتها. المقصود به هو وهب بن منبّه [تـ 110 أو 114 ه/728 أو 732 م]. فقد مرَّرَ قاضي صنعاء هذا، داخل أوساط الحديث والمُحدِّثين، أكثر بكثير ممّا رُوِيَ عن عبد الله بن سلام وكعب الأحبار وبصورة أكثر دقّة، أخبارًا كثيرة مُستقاة من قراءاته الغزيرة لمؤلَّفات اليهود والنصارى. في السيرة كما نقلها و «هذّبها» ابن هشام، لم يبق من مُساهمة وهب بن منبّه غير رواية واحدة حول انتشار النصرانيّة في نجران [السيرة، I، 30-33]. ولكنّنا نعرف، من استشهادات الطبري المتكرّرة في بداية تاريخه المأخوذة من كتاب ابن إسحاق عن طريق سَلَمه بن فضل، أنّ القسم الأول، المُتعلّق بما سبق محمّد منذ خَلْق العالم [المُبتَدَأ]، كان فيه مَدينا جدّا لوهب في كلّ ما يخصّ الموادّ الكِتابيّة (الكتاب المقدّس).
ابن هشام، وهو نفسه من أصل يمني، لكي يُنجز كتابه المخصَّص لتاريخ جنوب الجزيرة العربية القديم «كتاب التيجان في ملوك حِمْيَر»، اعتمد على مُؤَلَّف لوهب بن منبّه. فيما يخصّ كتابات اليهود والنصارى السّابقة يقدّم ابن هشام في كتابه، نَقِلاً عن وهب، قائمةً من الكتب التي قرأها هذا الأخير ويأخذ منه معلوماته المشروحة التي أخذها من بداية سفر التكوين [التيجان، ص. 9-33]([67]).
بالتّأكيد، ليست الإستشهادات، التي يقوم بها عادة وهب فيما يُروى عنه، استشهادات «حَرْفيّة» ولكنّها عبارة على شُروح غالبا مُسْهَبة ومُضخّمة بمعطيات شتّى ليست بالضرورة كتابيّة. غير أنّه يعرف أحيانا، على طريقته، كيف يكون قريبا جدّا من النصوص الكتابية الأصليّة مع ترتيبِ ما يرى أنّ عليه اقتباسه للإستعمال الإسلامي. وهذا ما يظهر خاصّة عند قراءةِ تفسير الطبري للآية 157 من سورة النّساء. يستشهد المُفسّر بالتّقديم الذي قام به وهب، انطلاقا من الأناجيل، لآخر لحظات المسيح مع حواريّيه وكلامه لهم. ربّما كان نُصبَ عَيْنيْ وهب تأليفٌ مسيحي من صنف «الأناجيل في إنجيل واحد les évangiles en un seul» كان مُتداولا في تلك الحقبة (؟).بالأحرى يبدو أنّه كان بحوزته الأناجيل الأربعة نفسها. على أيّة حال، فهو يُورد، بنفس العبارات التي نجدها في كلّ منها، بالتداول، غَسْلَ الأرجل ومَدْلُولَه [يوحنّا]؛ ونوم الحواريين العاجزين على السَّمَر مع يسوع [متّى، مرقس، لوقا]؛ الإعلان عن إنكار سِمعان بُطرس ليسوع ثمّ الإنكار نفسه [نفس المصدر]؛ خيانة يهودا [متّى]، وموت يهودا([68]) [نفس المصدر]. أمّا اعتقال يسوع، ومحاكمته، وشتمه والبصاق عليه وتحضير خشبة الصليب فكلّ ذلك قد لُخِّص بعجلة. وقد عُوِّض الصلبُ بالآية القرآنية موضوع تفسير الطبري «شُبِّهَ لَهُمْ» [بشخص آخر في صورة عيسى]، و «بل رَفَعَهُ اللهُ إليْه». ولكنّ القصّة تتواصل مُلخِّصة الروايات الإنجيليّة الأربع، ومشيرة على طريقتها إلى ذهاب المرأتين لا إلى القبر ولكن إلى مكان الصَّلْب، وحوارهما مع يسوع [«لماذا تَبْكيان؟»]، والوصيّة التي أُعطيت للحورايّين بواسطة المراتين لمُلاقاته في مكان كذا وكذا. الخ.
هذه القصّة الطويلة يرويها الطبري عن وهب بن منبّه عبر سلسلة إسناد لا تمرُّ هنا عن طريق ابن إسحاق. ولكنّ هذا الأخير يعرف جيّدا وهب، فقد استشهد به أكثر من مرّة. فنحن نرى ذلك، ودائما حسب ما يرويه عنه الطبري في تفسيره مثلا في تفسيره للآيات 13-25 من سورة ياسين. بهذا الخصوص، يروي الطبري في صورة أسباب النزول لهذه الآيات بعض معطيات القصص المسيحيّة عن الرسول الشهيد آغابوس الأنطاكي [أصل الإسم يوناني ومعناه «المحبوب» (المترجم)] التي وصلت إليه عن وهب بن منبّه بواسطة سيرة ابن إسحاق حسب رواية سَلَمة بن الفضل [يحمل آغابوس فيها اسم حبيب النجّار]. لنلاحظ هنا أنّ كعب الأحبار، العالم اليهودي اليمني الذي أسلم، هو طرف، في هذه المعطيات، من سلسلة الإسناد التي يستشهد بها الطبري. هذه القصّة غير موجودة في رواية ابن هشام.
من هذه العناصر جميعا بإمكاننا استخلاص نتيجتين : الأولى، أنّ ابن إسحاق كان يعرف مباشرة وعن طريق غير مباشر عبر وُسَطاء مثل وهب بن منبّه ومؤلَّفاته، عدّة معطيات نصّية من العهدين القديم والجديد، إلى جانب معطيات أخرى نابعة من الأدب اليهودي والمسيحي بصورة عامّة. الثانية، أنّه في كلّ مرّة يستشهد فيها ابن إسحاق نفسه أو وهب بهذه النصوص، فإنّها، حتّى ولو استشهدا بها حرفيّا، تكون موضوع ترتيبات طفيفة ظاهريّا ولكنّها تسمح للمؤلِّف بأن يحوّر في محتواها لصالح محتوى آخر يكون مضادًّا له.
 
من رواية إلى أخرى
ليس من الغريب إذًا أن تظهرَ بين سطور هذه الرواية بخصوص اليهوديّين الزانيين، روايةُ إنجيل متّى حول المسيح، والكَتَبة، والفرّيسيّين، والمرأة الزانية، ولكن هنا أيضا لكي تتميَّزَ عنها أكثر.
طريقة إعادة استعمال مَوادَّ قديمة في معنى جديد هو نهج معروف في كلّ التراث الكتابي المقدّس اليهوديّ والمسيحيّ. الأناجيل (العهد الجديد) تَسْتَخْدِم هي نفسها بكثرة، صراحةً أو ضمنًا، نصوصا أو مواضيع من العهد القديم تُطبِّقها على يسوع وعلى الإيمان الجديد. عموما، يظلّ هذا الإستعمال الجديد داخل استمراريّة النصوص المُقتبسة أو المواضيع الضمنيّة. وهذا ليس غريبا إذا ما اعتبرنا أنّ المجموعات المسيحيّة الأولى، التي صدرت عنها أولى النصوص الإنجيليّة، كانت يهوديّة مثل يسوع نفسه؛ وقد تغذّت بنصوصِ وثقافة الكتاب المقدّس، وكان أعضاؤها يُلبُّون دائما تعاليم الفرائض الدينية ويَذهبون للصّلاة في المعبد. يُمكن أن يُرمَز لهذا بصورة جيّدة من بواقع كون أنّه في داخل قصّة المرأة الزّانية هناك وحدةُ المكان وأنّ هذا المكان هو المعبد.
هناك نصّ كتابي يمكن أن يدور بخلدنا أن نربطه بنصّ إنجيل يوحنّا حول المرأة الزانية ألا وهو الإصحاح 13 من سِفر دانيال. بالفعل، فهذا السرد الطويل يُظهر لنا إمرأة، سَوسَنَة Suzanne، اتُّهِمت زُورًا بالزّنا من طرف شَيْخَيْن كانا قد حاولا عبثا مراودتها عن نفسها؛ وإذ كانت تُساق إلى الموت تدخّل الشّاب الحَدَث دانيال ونجّاها بعدما طلب إعادة المحاكمة واستطاع بذلك كشف حقيقة المُتَّهِمَيْن.
في الواقع، التراث المسيحي القديم يعرف هذه الواقعة ويُعيد استعمال عبارة دانيال الصادمة : «أنا بريء من دم هذه [المرأة]» ويضعها على لسان بِيلاَطُسَ الْبُنْطِيِّ([69])، بخصوص يسوع، أمام رؤساء الكهنة والشيوخ والشعب [متّى 27، 24]. لنلاحظ مع ذلك أنّ الإشارة إلى دانيال، هنا مثلما هو الحال في بقيّة النصوص المسيحية للقرون الأولى، ليست مُركَّزة على عقوبة الزّنا ولكن على شهادة الزور : فيسوع، بعد المرأة التي اتُّهِمت قديما زورا بالزّنا من طرف الشَّيْخيْن، هو الذي يجد نفسه في موقع المُتَّهَم حسب الشهادات المُزوَّرة التي وجّهها له رؤساء الكهنة والشيوخ، وهو أيضا بدوره الذي سَتُعْلَنُ براءتُه. يمكننا في قصّة المرأة الزانية أنّ نلاحظ كذلك أنّ الكَتَبَة والفَرّيسيّين جاؤوا بالمرأة أيضا «لِكَيْ يَكُونَ لَهُمْ مَا يَشْتَكُونَ بِهِ عَلَيْهِ». إجمالا، واستمرارا مع القصّة الكتابيّة، دانيال ليس هو الذي يُجسّد مُسبقا، في النصوص المسيحيّة الأوليّة، شخص يسوع؛ بل التي تجسّده هي سوسنة، المرأة ضحيّة شهادة الزور. ففي هذا المعنى تُعْقَد القرابات الأدبيّة وقرابة المواضيع دون تضارب حقيقيّ من حيث المحتوى([70]).
العلاقة التي يريد ابن إسحاق، من جهته، أن يُقيمها ضمنيًّا، بين روايته ومقطع الإنجيل بخصوص المرأة الزانيّة تتموضع مباشرة في الشغل الشاغل لأهل الحديث في عصره : ألا وهو حدّ الرّجم والشهادة المطلوبة لتطبيق الحدّ بالتّأكيد. ولكن أبعد من هذا الشاغل الفقهي ومن خلاله فإنّ ما هو محلّ الجدل هو الرؤية الدينية الإسلامية برُمَّتها. محمّد يُحيي أمر الله. واستمرارا مع شريعة موسى، فإنّه لا يجب على المسلمين أن يعتبروا أنفسهم فوق هذا الأمر الذي أحياه القرآن وأكّدته سنّة رسوله. كما أنّه لا يجب عليهم بالخصوص أن يتصرّفوا مثلما تصرّف النصارى الذين بالغوا في «إطراء عيسى بن مريم». وهذه «المبالغة في الإطراء» تشير غالبا في كتب الحديث إلى أنّ يسوع تحوّل من مجرّد «عبد الله ورسول » إلى «ابن الله» بالنسبة للنّصارى [موضوع تمّ التوسّع فيه لاحقا في الجدل مع وفد نجران]. ولكن هنا، وبصورة دقيقة أكثر، المقصود هو الموقف المتحرّر الذي اتّخذه يسوع تجاه الشريعة الموسويّة، بَلْه وحتّى تجاه الكتاب [التوراة (المترجم)] ومَكانته : فقول يسوع « وَلاَ أَنَا أَدِينُكِ»، يأتي مقابلا له الإستنتاج الأوّل : «فأمر بهما فرُجما عند باب مسجده»؛ والثاني الذي يُعزِّزه : «فكُنْتُ فيمن رجمهما»، المنسوب إلى عبد الله ابن عمر؛ وإلى كتابة يسوع غير الواضحة والمُندثرة التي خطّها على الأرض، تُقابلها عند محمّد الإحتكام إلى كتاب الشريعة وآية الرجم غير المنسوخة. فكلّ الكتابات ليست متساوية، هناك كتابة مقدّسة وكتابة أخرى بشريّة [Écriture et écriture]. فالنصّارى ليسوا «أهل كتاب». وهذا من ناحية أخرى ما كان يُقال في ذلك الوقت، عن حقّ، في بعض دوائر رُواة الحديث [المصنّف، VII، رقم 12.712]([71]).
هذا يفترض، بداهَةً، أنّ نصّ إنجيل يوحنّا ذاته كان نصب عيني ابن إسحاق، وأنّه كان يعرف قصّة المرأة الزانية. بخصوص يوحنّا، لا مجال للشّك في هذا، وقد سبق أن رأينا ذلك، وهذا ليس بغريب. فأهل الحديث يعرفون نصوص ومواضيع النصارى : فمن الأسكندريّة، مدينة مسيحيّة قديمة (ويهوديّة)، كان شيخه يزيد بن حبيب يُراسِل شيخَه الآخر الزُّهْري في المدينة بشأن إرسال يسوع حواريّيه إلى شعوب الأرض، مُقارنَة برسائل محمّد «إلى البلدان، وملوك العرب والعجم». المجموعات المسيحيّة كانت ما تزال متواجدة في العراق. وفي الحِيرَة أيضا، حيث كان ابن إسحاق على صلة بالخليفة أبي جعفر المنصور وشرع في تدوين السيرة لابنه المهدي. وفي بغداد نفسها، أين سيستقرّ نهائيًّا، وأين يتحاور المسيحيّون مع المسلمين حتّى أعلى مُستويات الخلافة العبّاسية تحت حكم المهدي ذاته([72]). ابن إسحاق، كما قال عنه ابن النّديم، وبعده ياقوت، «كان يَحْمِل [العِلْم] عن اليهود والنصارى ويسمّيهم في كتبه "أهل العلم الأوّل"»([73]).
ولكن إذا كان ابن إسحاق يعرف مُباشرة إنجيل يوحنّا، فهل كان يعرف قصّة المرأة الزانية؟ وهل كانت هذه القصّة موجودة في المخطوطات؟ يُعطينا هذا السؤال فرصةَ للإجراءِ مقارَنَةٍ جديدة سريعة.
 


([56]) في النصوص البدائيّة لإنجيل يوحنّا، يسوع هو الفرقليط Paraclet، الروح القدس (أو الروح الحقّ) الذي يُدافع عن تلاميذه، عندما وقع اضطهادهم، ويُصاحبهم حتّى مجيء الساعة. أنظر  Didier Long, L’invention du Christianisme. Et Jésus devient Dieu, Paris, 2012, p. 125. (المترجم)
([57]) أضفت هذا الجدول في متن النّص لزيادة توضيح وجوه المقارنة بين النّصين وتأكيد أن ابن إسحاق كان يُترجم فعلاً نصّ الإنجيل. (المترجم)
([58]) استعمل المُترجِم هنا لفظ "بلا سبب"، وفي نُسخ أخرى استعمل المترجمون عبارة "مجّانا" مثل ابن إسحاق. (المترجم)
([59]) في ترجمات أخرى إستُعمِل لفظ "الْمُؤَيِّد". (المترجم)
[60]  بالفعل نلاحظ هنا دقّة ترجمة ابن إسحاق. فهو يستعمل لفظة "تَشكُّوا" في حين تستعمل الترجمة العربية الحديثة لإنجيل يوحنّا لفظة "تَعْثُروا"، وهذا اضطرّها لوضع هامش على هذه اللفظة لشرحها . "يدلُّ "العِثار" في اللغة الكتابيّة على ما يمتحِنُ الإيمان. فالمصاعب التي سيثيرها بُغْض العالَم على يسوع وتلاميذه من شأنها أن تكون لإيمان التلاميذ امتحاناًا شاقًّا ...". الكتاب المقدّس، إنجيل يوحنّا، ص 342. (المترجم)
([61]) أنظر A.-L. de Prémare, «Comme il est écrit», pp. 44-45.
[62])) قارن مع Eusèbe, Hist. Eccl., III, 1.1-3 (p. 97)
[63])) جاءت قائمة الرسل عند يوحنّا هكذا : «بُطْرُسُ وَيَعْقُوبُ وَيُوحَنَّا وَأَنْدَرَاوُسُ وَفِيلُبُّسُ وَتُومَا وَبَرْثُولَمَاوُسُ وَمَتَّى وَيَعْقُوبُ بْنُ حَلْفَى وَسِمْعَانُ الْغَيُورُ وَيَهُوذَا أَخُو يَعْقُوبَ» [أعمال الرسل، 1، 13]؛ ثمّ يأتي بعد ذلك ذكر إختيار خَلَفٍ ليهوذا : «ثمّ اقترعوا فأصابت القرعة متّياس، فانضمّ إلى الرسل الأحد عشر» [أعمال الرسل، 1، 26]. (المترجم)
([64]) «فامتلأوا كُلُّهم من الروح القدس، وأخذوا يتكلّمون بِلُغاتٍ غير لُغَتهم، على قدْر ما مَنَحهُم الروح القدس أن يَنْطِقوا» [أعمال الرسل، 2، 4]. (المترجم
 ([65])«وَلَمَّا حَضَرَ يَوْمُ الْخَمْسِينَ كَانَ الْجَمِيعُ مَعًا بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَصَارَ بَغْتَةً مِنَ السَّمَاءِ صَوْتٌ كَمَا مِنْ هُبُوبِ رِيحٍ عَاصِفَةٍ وَمَلأَ كُلَّ الْبَيْتِ حَيْثُ كَانُوا جَالِسِينَ، وَظَهَرَتْ لَهُمْ أَلْسِنَةٌ مُنْقَسِمَةٌ كَأَنَّهَا مِنْ نَارٍ وَاسْتَقَرَّتْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ» أعمال الرسل [2، 1-3] (المترجم)
([66]) «لِذلِكَ دُعِيَ اسْمُهَا «بَابِلَ» لأَنَّ الرَّبَّ هُنَاكَ بَلْبَلَ لِسَانَ كُلِّ الأَرْضِ» (المترجم)
([67]) نفس المصدر A.-L. de Prémare, pp. 49-56
 ([68])جاء اسمه عند الطبري هكذا :« يُودُسُ زكريا يوطا». (المترجم)
 ([69])«فَلَمَّا رَأَى بِيلاَطُسُ أَنَّهُ لم يَسْتَفِد شَيْئًا، بَلْ ازْدَادَ الإِضْطِراب، أَخَذَ مَاءً وَغَسَلَ يَدَيْهِ بِمَرْأَى من الجَمْع وَقَالَ :«أَنَا بَرِيءٌ مِنْ هذَا الدَّمِ! أَنْتُمْ وَشَأْنُكُم فِيه!». [متّى 27، 24] (المترجم)
[70])) أنظر : Matthieu 27, 24; Daniel 13, 46; Evangile de Pierre 46-48; Constit. Apost. II, 37.3, 49.3 et 51.2.
[71])) جاء في المصنّف هكذا : «عبد الرزاق عن ابن جريح قال : قال عطاء : ليس نصارى العرب أَهل الكتاب، إنّما أهل الكتاب بنو إسرائيل، الذين جاءَهم التوراة، والإنجيل، فأمّا من دخل فيهم من الناس، فليس منهم» (المترجم)
[72])) في هذا الموضوع، أنظر : R. Caspar، المصدر أسفله في قائمة المراجع.
 ([73])أنظر الفهرست، ص 105. (المترجم)



#ناصر_بن_رجب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نُبُوَّة وزِنَا (4) من نصّ إلى آخر
- نُبُوَّة وزِنَا (3)
- نُبوّة وزِنَا (2)
- نُبُوَّة وزِنَا (1)
- في أصول القرآن : مسائل الأمس ومقاربات اليوم (9)
- في أصول القرآن : مسائل الأمس ومقاربات اليوم (8)
- في أصول القرآن : مسائل الأمس ومقاربات اليوم (7)
- في أصول القرآن :مسائل الأمس ومقاربات اليوم (6)
- في أصول القرآن : مسائل الأمس ومقاربات اليوم (5)
- في أصول القرآن : مسائل الأمس ومقاربات اليوم (4)
- في أصول القرآن (3) مسائل الأمس ومقاربات اليوم
- في أصول القرآن : مسائل الأمس ومقاربات اليوم (2)
- في أصول القرآن، مسائل الأمس ومقاربات اليوم
- قراءات أفقية في السيرة النبوية


المزيد.....




- قوى عسكرية وأمنية واجتماعية بمدينة الزنتان تدعم ترشح سيف الإ ...
- أول رد من سيف الإسلام القذافي على بيان الزنتان حول ترشحه لرئ ...
- قوى عسكرية وأمنية واجتماعية بمدينة الزنتان تدعم ترشح سيف الإ ...
- صالة رياضية -وفق الشريعة- في بريطانيا.. القصة الحقيقية
- تمهيدا لبناء الهيكل المزعوم.. خطة إسرائيلية لتغيير الواقع با ...
- السلطات الفرنسية تتعهد بالتصدي للحروب الدينية في المدارس
- -الإسلام انتشر في روسيا بجهود الصحابة-.. معرض روسي مصري في د ...
- منظمة يهودية تستخدم تصنيف -معاداة السامية- للضغط على الجامعا ...
- بسبب التحيز لإسرائيل.. محرر يهودي يستقيل من عمله في الإذاعة ...
- بسبب التحيز لإسرائيل.. محرر يهودي يستقيل من عمله في الإذاعة ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - ناصر بن رجب - نُبُوَّة وزِنَا (5)