أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رأفت عبد الحميد فهمي - النمس الألعوبان















المزيد.....



النمس الألعوبان


رأفت عبد الحميد فهمي

الحوار المتمدن-العدد: 3866 - 2012 / 9 / 30 - 01:10
المحور: الادب والفن
    


النمس الألعوبان
قصة قصـــــــــــــــــــــــــيرة
الفصل الأول
ها قد انبلج ضوء الصباح منفلتا من ربقة ليلة من ليالي الشتاء الطويلة .. ليلة ثقيلة الوطأة كثقل البطانية واللحاف الجاثمين فوق جسد الطفل عصام والذي مازال يغط في سباته العميق يسبح تحت غيمة الأحلام الباهتة لمشاهد اباحية غير مكتملة وطالما أطلقت أمه سراح مصراعي الشباك العتيق كي يغمر ضوء الصباح الباكر أنحاء الغرفة فلن يهنأ بنعيم الدفء اللذيذ بعد أن نزعت عنه الغطاء صائحة : هيا انهض قد حان وقت المدرسة الأن .
تضعضعت فوق جسده الصغير كثافة الدفء الوخيم منقشعة مع رفرفة الأحلام المتبخرة فنهض متورم الجفنين منكوش شعر رأسه الكستنائي وقبل أن يتثائب اغتالته مشاعر الخزي البغيضة عندما أدرك فداحة البلل الذي طوق بطنه متغلغلا في أنسجة ملابسه الداخلية حتي بيجامته الكستور لم تسلم من الفيضان .. وقبل أن يهرب من عملته المزرية إلى الحمام انكشفت لأمه خريطة البلل الناشع التي أفسدت قطن المرتبة فجعجعت بسيل من الشتائم المقذعة وقرصته في منطقة اللباليب من فخذه الضئيل قرصة مؤلمة يدوم أثرها الأزرق لأيام ...فانفجر في البكاء بينما جاهرت أمه بالدعاء عسى الله أن يراف بحالها وأن يرحمها من مشقة نتع المرتبة الضخمة والتي تقصم ظهرها قصما كي تضعها على الشباك عسى أن تمحو أشعة الشمس العملة الهباب ويتولى هواء الشارع تبديد رائحة العطانة ويزيل كمكمةالقطن السخام .ثم أنقضت على غضاريف أذنه الرقيقة بالإمساك تجرجره نحو حوض الحمام وفتحت صنبور الماء وتركته يشطف نفسه ببارد الماء فليس لديها ترف تسخين الماء على وابور الجاز .وبسرعة أنجز عصام المهمة متخلصا من أوضار عملته المنيلة بعد أن تكون أمه قد طرحت ثيابه المبتلة في الطشت النحاس وقد تصاعد عنف غضبها قائلة : لماذا لم تدخل الحمام قبل النوم يا قطران ... رد ردت المية في زورك .
ثم جففت جسده المرتعش بالبشكير وألبسته فانلة وسروال جديدين ثم أرغمته أن يتوضأ كما علمه شيخ الجامع عم عثمان . مازال جسده الصغير يرتجف من البرد اللعين فغمغم في قرارة نفسه : ما أهمية الوضوء في الشتاء السخيف ؟وخزته أوامرها بضرورة أن يصلي صلاة الصبح قبل الذهاب إلى المدرسة فانصاع مقهورا ووقف على سجادة الصلاة وقال الله أكبر بينما عيناه زائغتان في مكونات الأثاث التي تشغل أمامه أبعاد الغرفة المتواضعة .. هنا هدأت ثورة أمه قليلا ثم أخذته في حضنها بعد أن أنهى صلاته وقالت بقلب مفعم بالإيمان : من أجل أن يحبك الله وتنال عفوه ورضاه.. سألها بغتة : وأين هو الله يا أماه ؟ قالت بوجه عامر بالثقة : الله جل شأنه في علاه موجود هناك فوق في السماء .ربما أعتلت الدهشة حاجبيه ود لو يسألها أي سماء تلك التي تقصدينها يا أمــاه ؟ أهي الأولى أم السابعة ؟ لكنه أطرق رأسه والتزم الصمت ما وسعه الإلتزام .. وكان كلما جلس وحيدا في الشرفة راح يتأمل وجه السماء فلا تظفر عيناه برؤية يقينية لأي كائن من الكائنات سوى سرب من أسراب الطيور أو شاهد احدى الطائرات بل يرصد صفحة زرقاء لانهائية من الفضاء صفحة ملبدة بالغيوم الداكنة حاملة الأمطار و التي كانت تتفكك إلى أشلاء .. مكونة تشكيلات ضخمة وهائلة من السحب التي أتخذت ملامح شيخ وافر المشيب بالغ البياض.. لكنها سرعان ما تنحل ثم تتلاشى إلى غير رجعة فإذا عاود وكرر السؤال لماذا لا نرى الله في السماء ؟ أجابته أمه : لأنه يرانا وشاء لنا أن لا نراه .
ارتدى عصام المريلة القصيرة البيج ذات الأكمام الطويلة و لبس تحتها البنطال القصير وحشر الشراب الأبيض القصير في الحذاء الأسود الذي ابتاعته أمه من حانوت باتا الشهير. وقف يتأمل وجهه أمه التعيس وهي قابضه على خديه تمشط شعر رأسه الذهبي بالمشط والفرشاة .. ثم حمل حقيبته المدرسية وخرج مصحوبا بالتعليمات النظامية والدعوات الأثيرة : انتبه في الطريق من السيارات وأوتوبيسات النقل العام وانظر ذات اليمين وذات الشمال قبل أن تعبر الشارع الكبير ..واللهم احفظه وارعاه وابعد عنه أولاد الحرام .
كانت أمه السيدة جلفدان قد ترملت منذ ثلاثة أعوام بعد أن رحل عنها زوجها المرحوم شاكر والد عصام إثر إصابته بورم سرطاني خبيث ضرب جهازه الهضمي في مقتل ولما يبلغ الأربعين عاما مكتفية بما يجود به عليها المجلس الحسبي من جنيهات قليلة لمعاش يكفي حياتها بالكاد . وكانت تتمتع بوجه ينطق بالطيبة والإسماح رغم سورة الغضب التي تنتابها إذا أعيتها الحيل ونقمت على حياتها رغم إيمانها القوي بالله وبما شاء فعل ولا راد لقضائه . كانت بيضاء البشرة ولها عينان زرقاوتان هادئة الملامح حسنة القسمات قد رفضت كل من تقدموا يطلبونها للزواج بعد أن ألت على نفسها أن تفني حياتها لوليدها الوحيد. وها هو عصام قد بلغ الثمان سنوات طالبا في الصف الثاني الإبتدائي له وجه مستديريبوح بالوسامة والجاذبية وله عينان عسليتان ضيقتان يلمع فيهما ألق السحر والمكر الممزوجان بنكهة الغموض السرمدية .. قد ورث عن أبيه طبع الحسن في ذقنه الدقيق وله شفتان كفصي الفراولة أما شعره الذهبي فكان يغطي نصف جبهته العريضة منسدلا حتى حاجبيه الطويلين .
.كم راقت وسامته للأنسة أمال مدرسة الموسيقى مما جعلها تغدق عليه اهتماما وحدبا فاق اهتمامها بسائر أقرانه داخل الفصل المزدحم والذي تجاوز عدد طلابه الستين طالبا فتحنو عليه وتشجعه بعد أن علمت أنه يتيم الأب وربما كافأت نبوغه في العزف على الكمان بالتصفيق المبالغ فيه كما كانت لا تقوى على مقاومة إغراء خده الأمرد الأسيل فتطبع عليه قبلة دافئة تنعش كيانه إيما انتعاش .. أما إذا وجد منها بعض الإنشغال عنه وقد انهمكت في كتابة ما يخص شؤونها تعمد النزول أسفل الطاولة الخشبية كي يختلس قليلا من نظرات الفضول لما هو تحت الفستان كي يتحرى المناطق المعتمة بين ساقيها البيضاوين كالزبد .. فلا يظفر بشئ ذا بال حتى تنتبه إلى ألاعيبه المفضوحة فتأمره قائلة : عد إلى مكانك يا عصام .
فيرضخ عائدا إلى طاولته متظاهرا بالطاعة والإنتباة فتمنحه نظرة مترعة بالإمتنان من عينيها النجلاوتين تبهج قلبه الصغير فيحدث نفسه : ترى هل تحبني الأبلة أمال كما أحبها؟ يظل هذا التساؤل يدور ويحوم في ذهنه غائما بلا إجابة تائها في البطلان .أما حين يندمج الأستاذ جمعة في حصة التاريخ ويأخذ في الإسهاب عن روعة و عظمة قدماء المصريين عصر بناة الأهرام يتبادل عصام وزميله البدين صلاح وضع الأيدي داخل السراويل في الخفاء من تحت الطاولة الخشبية يمسك كل منهما العضو التناسلي للأخر يعايشان امتاعا مبهما من جراء الضغط المتتابع لنتوء هدبة اللحم الزائدة بلا هياج ولا إنتعاظ بل لا يعبأن بتلوث أيديهما بعطانة البول بعد أن احتارا أين يصوب الأستاذ جمعه نظراته لأنه اخفى عينيه ذات الحول الشديد خلف نظارة قاتمة بالغة السواد فبدا وكأنه ضرير كالعميان ؟ ترى من أين واتتهما تلك الألاعيب الجنسية الرعناء؟. فإذا أنهى الأستاذ جمعة حديثه الشيق عن طرد القائد أحمس للرعاة الهكسوس قرع عم بدوي فراش المدرسة الناقوس فيسحب كل منهما يده ثم ينهضان ويلعبان في فناء المدرسة جريا ومطاردة لبعضهما البعض وكأن شيئا لم يحدث بل يتناولان السندوتشات حيث يعم الصخب في أرجاء الفناء حتى ينتهي وقت الفسحة فيمارس المدرسون سلطاتهم في الشخط والنطر كي يستعيدوا ما انفرط من النظام بعد أن ينفلت من حناجرهم الجعير والسباب حتى تتخذ أرتال الطوابير مسارها الصاعد كي ما تتبوأ ثانية تكدسها وحشرها داخل الفصول..
ترى هل اكتفى شيطان عصام بمفعول تلك الدغدغات الطفولية وأشبعته..؟. لا لم تهدأ ألاعيبه الجهنميةعند ذلك الحد بل تجاوزتها إلى ما هو أدهى وأمر سبيلا عندما راح يراود زميله جورج الطالب المترف صاحب الميوعة والدلال في سعي محموم منه للجري وراءه في الفسحة ثم عناقه بقوة من الخلف وقد حجب الرؤية عن عينيه الخضراوتين سائلا إياه : أنا مين .؟.تمهيدا منه كي يختلي به بعيدا عن عيون الرقباء وليكن داخل مرحاض من مراحيض المدرسة. وبعد طول تردد واغراء ومراودة أطاعه جورج أن يحتبسا معا داخل المرحاض واتفقا أن يتبادلا الأدوار لكن عصام الألعوبان بخبثه الشيطاني اهتبل دوره أولا والتصق به دون طعن دون إيلاج حاصدا لذة وهمية تنوء بالخواء لا طعم لها ولا مذاق ثم طالبه الشريك المترف بعدالة التوزيع في الإنبساط ..وقبل أن يهم جورج في الإلتصاق أفزعهما عم بدوي الفراش وهو يطرق عليهما الباب بشدة صائحا الطابور يا عيال.. الطابور ياولاد ستين في سبعين الطابور . فعدلا من ملابسهما ثم خرجا إلى الطوابير المصطفة يتأبطان ذراعيهما كعاشقين يتبادلان مشاعرالرضى والحب والإمتنان . ترى من أين نبتت تلك النوازع الشيطانية كي تفرض سطوتها هكذا وتسري في شرايين ذلك النمس عصام هل هو الأرث السحيق للإنقسام الشبق للخلايا الذي انحدر عبر القرون و الأزمان ؟ كي يستوطن سديم الغرائز مطبوعا في منظومة الجينات بينما العقل مازال يحبو نحو الوعي والمعرفة كالسلحفاة.
كيف وأمه السيدة جلفدان متدينة بالفطرة مفرطة في سلوكها المحتشم تؤدي فروض صلواتها بكل همة ونشاط فالله دوما هو الحاضر في عقلها والقرأن لا يفارق يديها ..دوما تتوج مساعيها اليومية بالإبتهالات والتسبيحات مع الإكثارمن الإستغفار أناء الليل وأطراف النهار ..لا تمل من تكرار الحكايات فتحكي لأبنها قصص الأنبياء وقصص الصالحين الأتقياء كما تحكي عن نعيم الجنة وعذاب النار عن بطش الجبار وشي الجلود في سقر ونطق الأعضاء وهول مقامع الحديد والأنكال والأغلال تحكي عن قيم الحلال والحرام والأخلاق ...فمن أين تسلل الشيطان إلى الأطفال ما جعلهم جانحين نحو هتك المستور والإتيان بضلالات الجنس التي تنشد التحقيق والإرتواء؟ عجبا لقد طور إبليس وساوسه فليس البالغين هم فقط المستهدفون من مرمى قذائفه بل أضاف لقائمة غواياته أعداء جداد فقد بات الأطفال مستهدفين أيضا من شن غاراته فهنيئا لحزب الشيطان بعد أن توسعت أطياف وساوسه وانساحت أثام شروره حتى تطأ ممالك الأطفال قبل المحصنين الكبار.
الفصل الثاني
إذا توارت السيدة الجميلة بيلا عن الأنظار ولم تعد تظهر في الشرفة فهمت جارتها السيدة جلفدان أن زوجها بطرس أفندي قد عاد من عمله بالواحات ..عاد محملا بأكداس الأشواق المحتقنة لدرجة اللإلتهاب .. سوف يمضي أجازة العشرة أيام في أحضان السيدة بيلا يعوضها بقية أيام الشهر ويمحو عن قلبها ألم الفراق والحرمان . كانت السيدة بيلا في منتصف عقدها الرابع ذات جسد بارع في اكتماله الأنثوي البهيج وجهها الباسم ينطق بالجمال كأنها امرأة من نساء روما أو اليونان ..هي ودودة ومعطاءة تحب المزح و سماع النكات دوما تتبادل والسيدة جلفدان أطباق المهلبية بالقرفة و البليلة المزينة بالزبيب وسائر الحلويات .. كانت تتدلى بين ثدييها الناهدين سلسلة فضية تحمل صليبا ذو نحت بارز للمسيح على الصليب . ويحلو للسيدتين أن تتزاورا كثيرا طالما كان بطرس أفندي في الواحات. كما كان يطيب للسيدة بيلا أن تجلس عصام على حجرها الوثير الوافر بالدهون وتمنحه قبلة ريانة من شفتيها الممتلئتين مصرحة دوما برغبتها في انجاب أخ لإبنتها مادلين يشبه عصام . لكن النمس كان يتلذذ من تتحسس ذراعيها العاريين حتى تطاولت أصابعه يوما محاولا الإمساك مرة بالصليب الثاوي بين نهديها فضحكت وأبعدته برفق عنها وقالت : لقد أصبح ابنك عفريت يا جلفدان . فابتسمت أمه وقالت : بل هو خجول كالبنات .. فغطت السيدة بيلا الصليب بيدها وقالت : بل أصبح عكروت ألعوبان . لذا أمرته أمه أن يلعب مع بنت بيلا باللنش في الطشت النحاس. كانت بنت بيلا قد تجاوزت الخمس سنوات تشبه أمها في دقة الملامح و الجمال . لم تكن بنت بيلا تفهم ثقافة المرحاض الأفرنجي الكائن في حمام السيدة جلفدان فإذا عـنَ لها أن تتبول جلست فوق بلاط الحمام القرفصاء فهل غض عصام بصره عن التأمل بالطبع لا .. بل أخذ يتابع المشهد منذ اندفاع الماء حتى نزول أخر القطرات يحملق في زوايا و مخابئ جسدها النحيل حتى تتغطى ناهضة كي تستر نفسها قائلة : يلا شغل اللنش يا عصام ..وبدوره ترك الطشت يمتلئ حتى منتصفه بالماء ثم وضع نقطة من الزيت ثم أشعل الفتيل فانطلقت نفثات سوداء من الدخان المتقطع مصحوبة بصوت من الطقطقات جعلت اللنش يمخر صفحة الماء فعادت بنت بيلا إلى جلسة القرفصاء ثانية كي تتأمل اللنش وهو يغالب صغائر الأمواج منبهرة لا تكف عن الإبتسام بينما نظرات النمس تتفحص السوءة المستترة بسروال ..حتى نفذت قطرات الزيت فانطفئ الفتيل وكف اللنش عن الدوران فعادت بنت بيلا إلى حضن أمها المنهمكة في حواديت القيل والقال فتحسست شعرها الأملس وسألتها : هل سعدت بجريان اللنش في الماء ؟
ترى هل حاول عصام أن يضم بنت بيلا إلى صدره ويلثمها بقبلة بريئة مثلما قبل صفاء ابنة العسكري في الميدان .. صفاء التي شم من شعرها رائحة الطبيخ والجاز عندما قالت له وهي تتنهد بأحبك يا عصام . فرد عليها غير شغوف لا بالقبلة ولا بالعناق : وأنا كمان .. هي صفاء ذات الستة أعوام التي كان قد اختلى بها يوما في قبو بير السلم الخاص ببيته حين افتعل لنفسه دور طبيب الولادة حينها عكفت صفاء على أن تحشر في سروالها كومة من خرق الأقمشة البالية ثم رقدت أمامه على درجات السلالم تشكو وهم المخاض قائلة له: ولدني يا عصام.. فراح منهمكا يخرج من أحشائها جنين القماش بعد أن تملى بالنظر في سائر الأعضاء .. لم يكن يعي كيف تلد النساء فمن أين استمد تلك المشاهد و الخبرات و تليفزيون الأبيض والأسود لم يكن قد دخل البيوت حتى الأن؟ .
منذ متى وخفافيش الخرافات تستأسد برأس السيدة جلفدان ..أكم هي الخزعبلات التي انحدرت من الموروث الشعبي لرحلة العنعنات الشفاهية من أمها وعماتها وخالاتها وسائر الجدود والجدات .. خرافات قد هضمتها بكل أريحية واقتناع كتشبعها بحليب الإيمان ..هو موروثات ترتع في خيال عائلات الجنوب والشمال بعد أن هبت رياحها من العهد الفاطمي البائد حتى عصور الإنحطاط ..نرتدي السروال بالمقلوب كي نفسد أفاعيل العكوسات ونضع المصحف تحت الوسادة فتفر منا الكوابيس.. وإذا صعد عصام فوق الدولاب نهرته بشدة : إياك ولمس السقف فهذا حرام .وتنصح السيدة بيلا بعدم الكنس في الليل بعد حلول الظلام ..وألا تصب الماء الساخن على أرضية الحمام ..أما إذا أصابت الحمى عصام فتحت له المندل واشترت من عم حسونة العطار البخور والمستكة وأعشاب لم ينزل الله بها من سلطان..بل لقد تكبدت مشاق الوصول إلى دير القديس قاهر التنين كي تضيف شمعة بين الشموع أو ربما رسمت على ورقة عروس شوهاء ثم تطعنها بدبوس ما عن لها من طعنات. . ..في عين فلانة وفي عين فلان ..وفي عين كل من لم يصل على النبي العدنان حتى يبرأ ولدها من حقن الطبيب فلتس برهان .
أما إذا فقدت مفتاح الدولاب لجأت إلى صنع عقدة من القماش وربطتها بإحكام فسألها عصام : ما سر تلك العقدة يا أماه؟ أجابته بكل ثقة واقتدار : هكذا عقدنا خصية الشيطان .ربما امتدت العقدة لأسابيع وأيام حتى إذا وجدت ضالتها صدقت أن الشيطان قد أعاد إليها المفتاح بعد أن اشتد الألم بالخصيان .. أهكذا كانت متاحة ودانية كثمار التفاح كي تؤذيها السيدة جلفدان ؟ أكم هي المرات التي اختفت فيها الأشياء لذا عانت خصيان الشيطان من الإلتهاب و عميق الإحتقان .لكن عصام سألها : هل الشيطان هو من أضاع المفتاح ؟ فأجابته بغضب : فمن هو إذن حامل الوزر يا زفت يا قطران.
ما أجملها سولاف قطة عصام الصغيرة منفوشة الشعر بالغة الذكاء كانت تبادله حبا بعشق كم حزن على فراقها بعد أن أماتتها حمى النفاس ..كم كانت تتمسح في ذقنه وخده بل تمصمص أرنبة أذنه بل تبعثر أقلامه وأدواته لكنها في المساء تندس جواره تحت البطانية واللحاف ..كان لسولاف حديثان أحدهما له معنى وهو المواء والثاني غامض هو همس الشخير لكن أمه قالت بتأكيد : هذا ليس شخيرا يابني بل هي تقرأ القرأن . إذا وقفت على النافذة في كبرياء تطلعت نحوها قطط الشارع تهفو إلى الوصال لكن هيهات .. عيناها البراقتان تشي بنقاء السريرة حين تتأمل عصام قد فهمت بخبث بدائي ألا تصدر صوتا إذا كذب على أمه وقت السؤال : هل أخرجت القطة سولاف ؟ فيجيبها : نعم يا أماه ..فهل صانت السر والتزمت بالإتفاق بالطبع لا .. ففي الهزيع الأخير من الليل تعلن رغبتها في الخروج بالخربشة والمواء فتنزعج السيدة جلفدان أشد الإنزعاج حين تنهض متثاقلة من دفء الشتاء كي تفتح الباب حانقة تسب النائم في أعماق السبات: ويلك مني في الصباح ألم اسألك قبل النوم يا هباب ؟مهما أجهش أمامها في البكاء سوف ينال قرصة اللباليب في فخذه الضئيل و التي يدوم أثرها لأيام .
منذ الفجر والصراخ والعويل مندلعان لا يتوقفان من الطابق الثالث للبيت المواجهه للسيدة جلفدان والتي أطلت من شرفتها وسألت السيدة بيلا : هل تعرفين من مات ؟ فأجابت : نعم أنه الشيخ عبد الفتاح صاحب الصلعة البرتقالية الملساء . نعم مات الشيخ المستبد تاركا ثلاثة من الزوجات ورهط من العيال كان قد أراد أن يضم إلى جوقة الحريم أم عصام لكنها رفضت . وليذهب أحدهم يفتح المقبرة حيث المثوى الأخير للشيخ عبد الفتاح .. لماذا يعجز الأطباء عن قهر الإنحلال ؟ وقف عصام متشبثا بذراع أمه وهي تؤدي واجب العزاء والعويل والنواح مازال يضرب الأجساد الثكلى والجدران . زوجاته يلطمن الخدود والصدور ينكشن شعورهن و يصبغن وجوههن بمادة النيلة الزرقاء وهن متشحات بالسواد سأل أمه : لماذا ترتدين السواد ؟ قالت : حزنا على فراق أبيك. سكت وأطرق رأسه ولم يفهم سر اختيار السواد .
في المساء نصبوا سرادق العزاء كي ما تصدح تلاوات المقرئين لأيات القرأن في الميكروفونات ويرتشف المعزون فناجين القهوة السادة مع نفثهم للسجائر التي توزع بسخاء . سأل عصام أمه : لماذا مات أبي ؟ قالت : هذا هو قضاء الله ولا راد لقضائه . ألح الطفل المبهوت في السؤال : لماذا شاء الله الموت لأبي بل ولسائر الكائنات .. لماذا ماتت قططي سولاف ؟ لماذا اغتالتها حمى النفاس ؟ ندت من عينيها دمعتان ولم تجد الإجابة التي تشفي فضول ابنها فضمته إلى صدرها وقالت : البركة فيك وهيا استذكر دروسك واحفظ سورة الفرقان ..
هكذا يأتي الموت عندما ينهار النظام عندما يختل البناء الحيوي للإنسان ترى هل تسلمنا أجسادا فاسدة التكوين سريعة العطب أمام اختراق أحقر الفيروسات ..لا يعلم أحد لماذا يموت الإنسان فالبشر يموتون مثلهم مثل سائر الحيوانات .. للخلايا قوانين لا تحيد عنها و لا تريم . مثلما هي تبني تنتج السموم والفضلات هي بندول للبناء والهدم تلك هي شفرة الحياة لكن الله سوف يحيينا يوم الحساب فهل ستعود سولاف إلى الحياة ؟ أجابته أمه : عسى وربما فالله علي كل شئ قدير ويحيي العظام وهي رميم .
الفصل الثالث
كان للمدرسة باب خشبي كبير مكون من ضلفتين صنعتا من تعامد الألواح الرأسية و الأفقية بينها فواصل ومسافات تسمح للقادم من الخارج أن يرى الممر الترابي العريض المؤدي إلى القصر المنيف الذي تحولت غرفه إلى فصول . الضلفة اليسرى مثبتة بأجنة حديد لا تفتح إلا في الطوارئ أما الضلفة اليمنى فحرة الحركة بواسطة المفصلات تتخذ مسارنصف قوس فتحا وغلقا فيعتليها عصام ويحركها ذهابا وإيابا كأرجوحة مجانية خاصة بعد أن تخلو المدرسة من الزحام ... حتى وجدها تقف وحيدة هي خادمة زميله هلال والتي تتولى مرافقته كل يوم إلى البيت .. لم تكن قد بلغت الثالثة عشرة من عمرها تطوق رأسها بمنديل بلدي مزركش بالألوان يلم شعرها الفاحم الغزيروترتدي جلبابا واسعا بينما وجهها النوراني الصبوح مشرق دون طلائه بالمساحيق لقد منحها الله جمالا عفويا بسخاء كانت رقيقة الحاشية لكن أهانها العوز والفقر ما جعلاها تخدم في البيوت .. كان يحلو لها أن تسأل عصام وهو يمتطي الباب عن اسمه وأين يسكن ومع من يعيش فيجيبها بتلقائية وهو منشغل بالأرجوحة . لم يفهم سر نظراتها المستغرقة في وسامة ملامحه طويلا ولا سر حرصها اليومي على أن تتبادل معه السلام وصوتها الرقيق يشدو : إزيك يا سي عصام .. فينتفش مغترا بنشوة النداء فيحكي لأمه عن سماعه عذب النداء فتداعبه قائلة : لك ما شئت يا سي عصام . مدت الخادمة يدها ومنحته لفافة من الورق فسألها والدهشة ارتسمت على وجهه : ما هذا ؟ فقالت بوجه يغالبه الحياء : تلك هدية مني إليك .. أخذها ودسها في حقيبته حتى جاء هلال وساروا ثلاثتهم حتى افترقوا عند ناصية الشارع الكبير ومضى وحيدا يدفع كريات الزلط الصغيرة مخترقا الطريق المؤدي إلى البيت . سألته أمه : ما تلك اللفافة الورقية التي بيمينك ؟ وضعها فوق طرف السفرة فأخذت تنزع عنها الغلاف حتى كشفتها فإذا هي قطعة من حلوى الكنافة . سألته : من أين أتيت بها و من منحك إياها ؟ قال بكل براءة : منحتني إياها خادمة هلال.. فتغيرت قسمات وجهها ولا حت نذر غضب مستشاط عندما تبدلت التساؤلات : وما المناسبة ولماذا أنت بالذات دون بقية الزملاء ؟ هز كتفيه نفيا وقال : لا أعرف يا أماه .. احتد صوتها وارتفعت نبرته وقالت : إياك وألف إياك أن تأخذ منها شيئا مرة ثانية . فتمتم بالموافقة حاضر يا أماه ..نهضت من أمامه كي تلبي داعي الصلاة فذهبت تتوضأ وهي تغمغم توابع تقريعاتها له : عشنا وشفنا تاخد هدية من الخدامة كمان .. غطت رأسها بالخمار الأبيض ثم مدت سجادة الصلاة نحو القبلة ورفعت تكبيرة الإحرام الله أكبر فأسرع عصام نحو التهام قطعة الكنافة بأسرع ما يمكن .
كان المساء قد تسيد الحارة وشاع بين ربوع المكان وقد وقف عصام داخل محل عم حسنين البقال يراقب يديه السميكتين وهي تقطع قالب الجبن الأبيض بنفس ذات السكين التي تشق قالب الحلاوة الطحينية يراقب فتافيت الجبن الزائدة حين يلحسها عم حسنين . عيناه تراقبان الرفوف خلفه وقد تراصت فوقها زجاجات الشربات وعلب النشا وأكياس الشاي والحبهان كما كان هناك شوالان ضخمان للأرز والسكر يسدان جانب المحل الشمال يجاورهما برميل الزيت وصفائح الزيتون والطرشي والمش والرنجة برائحتها النفاذة التي تشفي من الزكام .نصف أقة من الجبن الأبيض الأسطنبولي هو ما أوصت به السيدة جلفدان ابنها عصام ونظرات عم حسنين تطالع مؤشر الميزان وفجأة وعلى حين غرة انطلقت تعوي صفارة الإنذار التي تعلن حالة التأهب لقدوم الأخطار تعالت صيحات بعض المارة ..اطفؤوا الأنوار .. ياعم حسنين اطفئ النور وأنت يا عم شعبان الغارة قادمة من الأعداء غارة الكلاب الأنجاس .. وفي لحظات تفشت العتمة كالوباء أعطى عصام عم حسنين القرشين وأخذ الجبن وانطلق يجري بأقصى ما أوتي من سرعة كما الرهوان بعد أن خلع الشبشب مفضلا الجري حافيا متخذا المسار الأطول حول البيوت..يعدو وهو يلهث يكاد يميز بصعوبة البنايات كأنه يجري في نفق مظلم سحيق كأنه الكابوس. حتى سمع صوت أمه وهي تنادي عليه وسط غلالات الظلام : ها نحن يا عصام مجتمعون هنا في الطابق السفلي عند الحاجة أم حنان . تحولت السماء المعتمة في لحظة إلى نهار بسبب سقوط وابل المصابيح المشتعلة التي تنير الأسطح والعمارات تساءل لماذا يهاجمنا الأعداء في الظلام ؟ دانات المدفعية تدوي فترتج لها الحوائط والأبواب و تفريغ الهواء يهشم الزجاج " يا ساتر يا رب" تتوالى الدعوات تصول بين توجس القلوب فتتلاحم العبارات والأبدان و يعلو صراخ الأطفال تردد النسوة الدعوات وقراءات لسور من القرأن يتساءل الكهول : لماذا يضربون الأماكن الأهلة بالسكان؟ فتترى الإجابات من هنا وهناك : هؤلاء المعتدون الأوغاد هم ثلاثة من الدول تهاجم القاهرة ومدن القناة ..هم يريدون تدمير مضادات الطائرات ..يريدون تدمير المطار .".ارحمنا يا أرحم الراحمين" ..يغوص عصام في حضن أمه يسمع ضربات قلبها بوضوح بينما تتلو الأيات .." وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون "..يشم رائحة عطرها الأوحد كولونيا الخمس خمسات .. تلثم جبينه قائلة : الله معنا و سوف ينصرنا على القوم الظالمين . قال : لم أنجز بعد واجب الحساب . قطعت تلاوتها: بعدين يا ولدي بعدين .أخيرا بعد أن احتبست الأنفاس وبلغت القلوب الحناجر انطلقت صفار عودة الأمان وبدأت اللمبات الصفراء تضيئ هنا وهناك ها قد زال الحصار وأخذت الأسر بالعودة إلى بيوتها للإحتماء . كل منهم يتمتم "الحمد لله " لقد زالت الغمة ومرت الغارة بسلام..تلك كانت باكورة الحروب التي زلزلت كيان عصام . كم عانى الوطن من هجمات الأعداء الأنجاس ..كم هي الحروب التي خاضتها البلاد هل يمكن حصر غارات الطامعين في نهب الثروات فالوطن مستباح طوال القرون المديدة من الذئاب حاملي السيوف والسلاح ..منذ قمبيز والأسكندر منذ البطالمة والرومان من قبائل البدو الرعاع ..حتى العرب الأقحاح استباحوا لأنفسهم خيرات البلاد.. بعد الاحتلال توارثوا نهب الأراضي والضياع .. فرضوا الجزية والخراج ..بنوا القصور والقلاع. كانت قوافلهم تمتد من الفرما وبلبيس حتى الحجاز والشام بعد أن ساحوا في الأرض من غاشم إلى غشوم ومن طاغ إلى طاغوت ومن مجرم إلى أفاق..... أموي كان أو عباسي.. فاطمي كان أوأيوبي .. أخشيدي أو طولوني ومماليك مستجلبة من فرغانة وبلاد ما وراء النهر جراكسة برجية أو بحرية ..عثماني ومغول وتتار حتى بونابرت والأنجليز .جميعهم ناهشون للكنوز والخيرات.... كم طال الخنوع واستمرأنا الإذلال ..يلوحون في وجوهنا بأسواط العذاب بالمشانق والخوازيق من الحاكم بأمر الله من الوالي و من الخليفة و من قائد الجند و من السلطان ...كانت اللصوصية تسري في دمائهم بعد أن استحالت إلى جينات .. اللصوصية هي الأصل هي الأساس..حتى بعد النهضة والتحرر والثورات الوطنية ها هم حكامنا القوميين مصابون بنفس ذات المرض العضال أنه عين الداء داء اللصوصية والإستبداد ..اللصوصية هي أقوى الشهوات مهما صلوا في المساجد الجمع والأعياد وأدوا مناسك العمرة والحج وطافوا بالمقام مهما دعا الشيوخ لهم والفقهاء من فوق المنابر أعز الله السلطان وأبقاه ... فما زال الداء العضال اللصوصية هو القانون بينما العدل هو الإستثناء ..كيف ارتضى الفقهاء وأجازوا خلافة الغلب هكذا لكل من امتطى رقاب الناس بالقوة بالعنف بالدسائس بالسيوف والمشانق بالسحل بالقتل وسفك الدماء بالزج في السجون دوما نحن في قبضة أسافل الناس الرعاع .
نادت السيدة جلفدان على صغيرها : هل أنجزت واجب الحساب ؟ هل حفظت سورة الإنسان ؟ فإذا لم يرد عليها دخلت عليه غرفته فوجدته قد غلبه النعاس وسقط فاغرا فاه هائما في السبات والأحلام.
الفصل الرابع
.مازالت الصبية سناء خادمة هلال يخامرها القلق وتعايش الحيرة والحرمان كلما عبرت جوار صينية الكنافة المهملة هناك في المطبخ لأيام تثير لعابها وهي امام الحوض تغسل الصحون والأطباق فالقطعة الوحيدة التي منحتها إياها السيدة امتثال لم تهنأ بها لأنها قدمتها هدية إلى حبيب القلب عصام فهل تتجاسر الأن وتطلب قطعتين وليست قطعة واحدة .. سرحت بخيالها وأكثرت من الدعاء عسى الله أن يلبي لها النداء و يهدي السيدة امتثال ويحنن قلبها وتحقق أطماعها التي فاقت الوصف .. أتأكلين قطعة يا سناء والثانية تهديها إلى المفعوص سي عصام . لقد بلغت أمرا أدا يا سناء .. مازال الخوف والخجل يعيقان شجاعتها كي تتجاسر وتطلب القطعتين .. أطالت التفكير ولم تجد بد من اللجوء إلى الحل الحرام سوف تسطو وتسرق القطعتين وليكن ما يكون ..فمازال عصام يزورها في الأحلام كم تتمنى لو تتأرجح خلفه فوق أرجوحة الباب .. سوف تتحين فرصة نوم السيدة امتثال صاحبة المنح والمنع وفي هدوء الليل تريثت طويلا حتى جاءها الإلهام فنهضت تمشي الهوينا على أطراف أصابعها الحافية ثم وقفت أمام صينية الكنافة تناضل انتزاع القطعتين..حتى تحققت الغنيمة حيث حشرت الأولى في فمها الصغير والتهمتها بسرعة ثم لفت الثانية بورقة ودستها تحت الوسادة التي تجود عليها بالأحلام .بعدها عادت إلى فرشتها لتنام قريرة العين وقلبها يرقص طربا رغم مشاكسة أوجاع ضميرها اللحوح وهو ينغص عليها بوازع الإيمان .. لكن السرقة حرام يا سناء ..
هكذا شاءت الأقدار أن ينصرف انتباه السيدة امتثال عن صينية الكنافة هذا الصباح فقد انشغلت مع زوجها في حسابات شراء شنطة جديدة وحذاء كعب عالي وستارة للحمام.
وقفت الخادمة سناء أمام باب المدرسة تتحرى حشود التلاميذ وهم خارجون حتى هل عليها عصام كالبدر وقت تمامه منهمكا في سرد الحكايات مع زميله البدين صلاح فإذا اجتاز الباب الخشبي الكبير نادته على استحياء: ازيك يا سي عصام ..قال بدون لف ولا دوران : كويس قالت سناء : نفسي أشوفك وحدينا ..قال جادا : عاوز أروح لأني جعان فمدت يدها نحوه قائلة : اتفضل قبل ما يأتي سي هلال ..لمح لفافة الورق وقال بضيق : كنافة تاني .. قالت : ألم تروق لك القطعة السابقة ؟ قال شبه مهموم : حذرتني أمي ألا أخذ منك شيئا .. قالت : إذن تناولها هنا الأن ..استهان بتحذيرات أمه أمام الإغراء أمام همس الغواية وأكلها كأنها التفاحة المحرمة . اقترب هلال منهما فبادرته بصوتها الناعم : لماذا تأخرت يا سي هلال ؟ نظر إلى زميله وبقايا الكنافة تتقلب بين فكيه بل لاحت بعض الندف على جانبي فمه فسأله بخبث : ماذا تأكل ؟ رد متحرجا : قطعة كنافة ... ثم تقاربوا ثلاثتهم وساروا معا وقد وضعت سناء الحقيبة فوق رأسها فإذا فارقهم عصام كي يعبر الشارع الكبير وقفت عند الناصية تلوح له بيدها مع السلامة .. إلا أن هلال لم يألو جهدا في سرد كامل المشهد الذي أغاظه على أمه والتي بدورها اكتشفت واقعة السرقة ولم تفهم أن خادمتها قليلة الأدب تحب المفعوص زميل هلال إلا بعد أن كشف لها المستور.. فقامت بكامل عزم يديها القويتين تقرص و تضرب وتصفع خادمتها مقصوفة الرقبة والتي علت ولولتها ونبا نشيج بكائها قائلة : والله المعبود حرمت خلاص ولن أكررها ثانية .. لكن دون جدوى حيث استمرت السيدة امتثال سادرة في عنفوانها وصياحها : إلا السرقة يا كلبة قطعتان من الكنافة مرة واحدة ومن أجل ماذا ..كي تحبي المفعوص أسامة ... فبادرها هلال مصححا : ليس أسامة بل عصام ...فقالت وسورة الغضب مشتعلة في وجهها : وما شكل هذا الزميل الدون جوان ؟.. فقال : هو ولد مثله كسائر الأولاد .. فقالت بعصبية : غدا سأصطحبك من المدرسة وتلك اللصة تأخذ حسابها وتتوكل على الله .
ها قد صدر الحكم بالإعدام وما الطرد الإ هو الطرد من جنة رضوان ألا رأفة وشفقة ألا قلب حنون يرق ويغفر .. ها قد انهارت الأحلام في قلب سناء المفجوع بينما جسدها الهزيل يرتجف من النشيج والنواح ثم نادت السيدة امتثال عم هريدي البواب وأمرته : خذ تلك اللصة إلى أهلها في أسيوط و لا دمياط فلم أعد أطيقها خلاص ..لملمت سناء أشيائها في صرة من القماش وغادرت المنزل غير مأسوف عليها مطأطة الرأس والدنيا أظلمت في عينيها فقد طفح اليأس وفاض القلب بالسخام ..أين الحب والرحمة بينما عم هريدي البواب يسوقها كشاة إلى القسوة و الظلم .
وضعت السيدة جلفدان الغداء طبق الفاصوليا و طبق الأرز بالفراخ بينما عصام يجلس أمامها شارد البال شبعان فسألته : ماذا بك يا ولد ؟ قال : شبعان فليس لدي شهية لتناول الطعام ..حملقت في وجهه وقالت : لست من عادتك عدم تناول الغداء .. فكرت قليلا ثم سألته بفطنة حدسها : إياك أن تكون قد أكلت كنافة الخدامة ثانية ؟.. فإذا لم ينطق جذبته من غضاريف أذنه بقوة حتى الإحمرار.. انطق يا ولد فقال مقهورا : نعم أكلت ... فضربته على وجهه الذي أجهش في البكاء وقالت : هل تعلم لماذا أضربك هل تعلم .. لأنك يا قطران لم تسمع الكلام هيا انهض غور من قدامي غوووووووووووووور .
الفصل الأخير
ترى هل يكره العبيد الأسياد ؟ بالطبع يضمرون لهم كل مشاعر الغل والحقد والبغضاء لما يلقونه منهم حين يضربونهم بالسياط ..حين ينتهكون أدميتهم ويدوسون كرامتهم بالنعال فالقسوة والعنف تولد الثورة والتمرد وتشعل الرغبة في قتل الأسياد ..هكذا تولدت مشاعر الغل والبغضاء في قلب الصغير عصام تجاه أمه السيدة جلفدان لأنها تضربه بعنف وتقرصه في منطقة اللباليب قرصات مؤلمة تدوم زرقتها لإيام كما تسبه بأقذع الشتائم فكيف خدعوه بمقولة بر الوالدين ولا تقل لهما أف و لا تنهرهما كيف يحبها وهي تهين كبريائه كأنه العبد في حضرة سيده يفعل به ما يشاء .. إذا شتمته قال في قرارة نفسه بل أنتي ..فهل تتناسب العقوبات مع الأثام التي يقترفها الغلام تلك هي المعضلة .... كم تمنى أن تكون الأنسة أمال مدرسة الموسيقى هي أمه أو السيدة بيلا البشوشة دوما عذبة اللسان .انتصف النهار وقرع عم بدوي الناقوس إيذانا بالإنصراف فوضع عصام حقيبته جانبا ثم أعتلى ضلفة الباب وراح يدفعها جيئة و ذهاب لقد افتقد وجود الخادمة سناء لكن شاهد هلال يكلم سيدة أنيقة في مظهرها ممشوقة القد والقوام ..وضعت على عينيها نظارة كبيرة سوداء ومن أذنيها يتدلى قرطان دائريان عظيمان ..كانت المساحيق تزين وجهها وفمها مزدان بأحمر الشفاة ويفوح من أعطافها البارفان وتحمل يدها العارية شنطة صنعت من جلد الثعبان ..اقترب منه هلال وقال : تعال أمي تريد التحدث إليك الأن ..أوقف الأرجوحة ثم تقدم نحوها وهو يهمس في سره : محسود يا هلال محسود فهذه هي الأمهات ..مدت إليه يدها المكشوفة البيضاء وقالت : سلم على يا أسامة ..فأمسك يدها وقال مستغربا : أنا عصام ..لمحت جاذبيته وشعره المسدل على جبهته العريضة .. فأشفقت على خادمتها المطرودة سناء بعد أن التمست لها الأعذار..همهمت سبحان الله ماهذا إلا ملك كريم ..أنه الطفل الدون جوان .. للحظات أخذ المفعوص بقلبها بعد أن فجر في كيانها الأحاسيس والذكريات بل بعث في خيالها مشاهد وصور أيام المراهقة و زمن الفوران .. سألته بلا لزوم كأنه تحصيل الحاصل وبصوت رقيق مفتعل : هل أنت مع هلال في الفصل ؟ هز رأسه عجبا وقال : نعم معاه ..قالت : يجب أن تأتي تزور هلال بالبيت وتلعبان ... رد ها دئا : إن شاء الله ..ثم انحنت وطبعت قبلة على خده الأمرد تركت أثرا من أحمر الشفاة .ثم أخذت وليدها هلال وسارت في خيلاء الطاووس تتهادى في رونقها الأثير عندئذ وقف عصام يتأمها مرددا : هذه هي الأمهات ..بينما السيدة امتثال تهمهم في أعماق سريرتها : ماذا لو عاد بي الزمان إلى الوراء لعشقت هذا الغلام .. بؤسا لك يا أبو هلال.بؤسا لك ..
سار عصام حتى عبر الشارع الكبير مكملا اختراق الطريق يدفع كريات الزلط الصغيرة حتى وصل البيت فإستقبلته أمه بالغضب والهياج وهي تضرب يدها كفا بكف وهتفت به : وماذا بعد يا شيطان ماذا بعد يانمس يا ألعوبان ..نظر إلى وجهها العابس المكفهر غير واع بأسباب الحنق و السباب ترتعد فرائصه ووجهه مكسوا بالإندهاش حيث قال : ماذا هناك يا أماه ؟
فقالت بمنتهى العصبية : من أين جاء على خدك أحمر الشفاة ؟ انطق يازفت يا قطران ...........
انتهى



#رأفت_عبد_الحميد_فهمي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- خوازيق الخلافة العثمانية
- سفير القتل الإلهي ودعموص الجنة
- اللازم والملزوم وصوت الأطيط المنطقي
- الحكمة الكامنة وراء ثالوث الإنتحار والقتل والموت
- التزاوج الميمون بين الإستبداد والمشيخة الدينية
- الموسوعة الدينية لكشف الشياطين
- جدلية الجائز والضروري في الفكر الإنساني
- التشخصن الذكوري الغلاّب
- معضلة التعميم ( كل) معضلة مقدسة
- الإشكالية المنطقية في علة الخلق والخليقة
- أزمة السكن الإلهية
- طرائف عن مباهج العورة وهاجس السوءة
- الفضائل شأن إنساني محض
- باب تكليف الشياطين وحفظ أعمالهم
- هل للأصنام مسؤولية جنائية؟
- تأملات يوم الخندمة يوم فر صفوان وعكرمة
- عن التكتيك السماوي والتكتيك الأرضي
- البينة المفقودة والغائبة
- القضية المغلقة و الوقوع بين محالين
- الغيب المقروء هل يصمد الغيب طويلا


المزيد.....




- “أقوى أفلام هوليوود” استقبل الآن تردد قناة mbc2 المجاني على ...
- افتتاح أنشطة عام -ستراسبورغ عاصمة عالمية للكتاب-
- بايدن: العالم سيفقد قائده إذا غادرت الولايات المتحدة المسرح ...
- سامسونج تقدّم معرض -التوازن المستحدث- ضمن فعاليات أسبوع ميلا ...
- جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-
- “العيال هتطير من الفرحة” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- مسابقة جديدة للسينما التجريبية بمهرجان كان في دورته الـ77
- المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي: إسرائيل تعامل الفنانين كإرهاب ...
- نيويورك: الممثل الأمريكي أليك بالدوين يضرب الهاتف من يد ناشط ...
- تواصل فعاليات مهرجان بريكس للأفلام


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رأفت عبد الحميد فهمي - النمس الألعوبان