أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - مهدي بندق - محاولة لتجديد الخطاب الديني على خلفية الفيزياء الحديثة















المزيد.....



محاولة لتجديد الخطاب الديني على خلفية الفيزياء الحديثة


مهدي بندق

الحوار المتمدن-العدد: 3860 - 2012 / 9 / 24 - 22:15
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    



تسأل الفيزياء الحديثة : هل هذا الكون الذي نعرفه هو الكون ( بألف لام العهد ) أم هو أحد الأكوان المحجوبة عنا ؟ سؤال لاشك في أهميته المعرفية، لكن القليلين من يربطونه بأسئلة قد تبدو أكثر عملية وأكثر إلحاحا مثل: كيف السبيل لإيجاد حلول لمشكلاتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية المعقدة ؟ وما هو جوهر تلك المشاكل ؟ وما ضرورة أن نتفهم كيف نشأت وتفاقمت؟ وهل ثمة أمل في حلول ناجزة لها ؟
صفقة الأسئلة هذه قد تدعونا – قبل أن نتوجه لزيارة بيت التاريخ – أن نعرج على " كازينو" الفلسفة المعاصرة نتناول فيه "قهوة العقل" لنتيقن إن كوننا واحداً مبتداه العدمNonentity أم أكواناً متعددة . تبعا لفلسفة الكوانتم فإن هذا اللاوجود كان محتوما ً تعرّضُه لتقلبات كمية ٍ تؤدي لانبثاق ما أسمته العلوم ُ الرياضية ُ الحديثة بــ "المفردة" Singularity ( لاحظ المعنى ) وهي كرة مفترَضة ٌ بلا قطر ولا مكان أو زمان لها، ومع ذلك هي جمـّاع كل "الطاقة" ( سنحاول سبر غورها فيما بعد ) السالبة ونقيضها الموجب المحسوب "رياضيا ً" لرقم الصفر، فما كان عجيبا ً أن يحل بها الانفجارُ العظيم Big Bang لتولد منه قوى الجاذبية والمغناطيسية والحرارة فالسدم والنجوم والكواكب ، ومن بين الأخيرة انبرى كوكبنا الأرضي يتشكل في وحدة جغرافية هي القارات والمحيطات ، وفي الماء ُخلقت الحياة وانتقلت إلى اليابسة حاملة معها وحدتها البيولوجية (توليفات الكربون) وعلى سلم الأحياء تربع الإنسانُ القمة َ مؤطرَّاً بوحدة فيسيولوجية لا غش فيها، وهي حقيقة ٌ تقتضي النظر إلى التاريخ البشري – الممثل للكون الواحد – بحسبانه هو أيضا ً وحدة واحدة لا يعكر عليها اختلاف لون أو تمايز شكل، والدليل أن جميع البشر يصلحون للتزاوج فيما بينهم، وأما التعدد الظاهر لديهم فليس أكثر من تعدد للحوادث وليس للأنماط المحددة لمسيرة بدأت بالعبودية ولا بد أن تصل إلى غايتها : الحرية لكل إنسان . وبهذا الوعي " العقلاني" ذي الوحدة المعرفية نكون قد أقمنا علاقة زمالة مع وحدة التاريخ الذي يلعب فيه الدين دورا ً غاية في الأهمية .


وحدة الكون

فماذا يحدث لو أن الدين والفلسفة والفيزياء الحديثة تداخلت حقائقها ؟ إذن لصارت جديلة واحدة لا سبيل إلى تفكيكها . حينئذ تفقد مصداقيتها الاتجاهاتُ "العلماوية" التي تزعم أن " الفكر" محض انقداح عصبويات مصدره الطاقة المستخلصة من الطعام والشراب والأوكسجين!
تبرهن فلسفة العقل - سيما عند جون سيريل - أن الدلالة الرقمية للمدخلات يوجد بينها وبين المخرجات الشعورية فجوة ٌ Gap محال اجتيازها. غير أنني متخطيا ً سيريل أتصور أن اجتياز الفجوة ممكن، فقط بتوصيل من كائن أعلى هو وحده المؤلف والمترجم . وآية ذلك أن الحياة لو كانت مجرد تطور " مادي " للطبيعة للزم أن نكون كائنات " ماتركسية " Matrix لا تشعر ولا تفكر ، ولو قيل : بل الطبيعة أرادتنا مفكرين وشعراء ، لقلنا : إذن فالطبيعة كائن حي قيوم . فلماذا نعزو لها صفاتٍ لا ُتثبت إلا للإله ؟
للموت أن يستصفي الجسد َ الذي هو من تراب ليعيده إلى موطنه " التراب" ولا تثريب عليه إذ يفعل . تلك تجربة الجسد مع أمه الطبيعة ، وهي تجربة متسقة مع جبلتها . أما الروح التي تحب وتعشق وتكابد الشوق ، الروح التي تراها في لمعة العين حين تتذكر وحين تهفو ، الروح التي سُمـًيَ بها عيسى وجبريل والقرآن ، فلا مندوحة من أن نسأل عنها خارج أنساق الذرات والإلكترونات والفوتونوات والكوارك ( وهذه في التحليل الأخير محض تصورات ذهنية ) وحين يصل سؤالنا إلى نهاية رحلته ؛ نجد الجواب حاضرا ً مهيمنا ً معبرا ً أجمل وأحكم تعبير : قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا.
سل الحاسوب السوبر أن يترجم إلى اللغة الصينية قصيدة أمل دنقل عن الزهور التي تتمنى له العمر وهي تجود بأنفاسها الآخرة ، ولسوف يترجمها بدقة لو ُأعطى شفرة اللغتين العربية والصينية ، ولكنّ المحال هو أن يشعر الحاسوبُ بمعانيها أو يرق لها أو تدمع أمامها عيناه .
فما هو منبع هذا الشعور المنبثق من التجربة الروحية العابرة للفجوة .. والتي تشيح ببصيرتها عن الموت ؟ يقول يسوع : إن الخالق ليس إلهَ موتي ، بل هو إلهُ أحياء . وهو ما يعني أننا ما دمنا قد ُمنحنا نعمة الحياة فلا شك في أن المعطي كان كريما ً كرما ً مطلقا ً، ومن كانت هذه صفته فلا ُيتصور أن يضع لكرمه حدودا ً، خاصة ً مع مخلوقاته المحبة له والمعترفة بفضله ، وما دام هو قد متع تلك المخلوقات مرة بهذه النعمة ، بل وأضاف إليها نعمة "الأمل" في ألا تفنى ؛ فما من شك في أنه سوف يواصل نعماءه للأبد دون انقطاع .
لو كنت أنا مجرد حاسوب مبرمج فيزيقيا وبيولوجيا مزودا ً بنظام نيورولوجي فائق القدرة مما يسمح لي أن أفكر بهذا النحو؛ إذن لشكرتُ المبرمج على ما أوصلني إليه . بيد أن كلاماً عن حاسوب له هذه المشاعر الفياضة لا ريب يكشف عن تناقضات أقلها أنه هو نفسه لا يشعر بأنه حاسوب ، بل إنساناً يعي ويدرك ويألم ويحب ويعرف أن الاشتراكية هي أفضل الفلسفات الاجتماعية لحل التناقض بين رأس المال والعمل المأجور وإن احتاجت إلى جدلها بغايات دين النبوة ( وليس دين الدولة ) فأين يمكن العثور على دين النبوة ؟

التصوف كوسيلة لتنمية الإدراك

في الفتوحات المكية يقول ابن عربي عن الحضرة الإلهية إنها ذات وصفات ، أما الإنسان – بدون الإله - فالذات لديه ضد على الذات الإلهية التي هي وجود مطلق ، بينما الذات الإنسانية لابد وأن تبدو عدماً مطلقاً ، ولهذا ُتري الذات الإنسانية من دون الإله وكأنها ساكنة في العدم المطلق . لكن الإنسان من بعد خلقه ، قد يتشبه بصفات الإله فيماثله مماثلة الصورة للأصل عندئذ يصبح العدم ممتنعاً إطلاقا ً، من هنا يمكن القول بأنْ ليس ثمة عدم مع الله ، فالله هو الظاهر والباطن دون فصل بينهما ، ويتبدي الله ظاهراً في الطبيعة من نواة الذرة وما دونها إلى الإنسان الكامل ، وأما الباطن الإلهي فلا ُيعرف في حد ذاته وإن اطمأن إليه القلب وسلـّم بوجوده ، فالعلم والفكر واللغة وقوانين الكون جميعا ً لا تجد لها من مرجعية وتبرير سوي في الإيمان بالباطن.
ما سبب رفع فاعل الجملة ؟ وما سر الأعداد؟ ومن أين تأتي قوة الجاذبية ؟ ذلك ما يقودنا إلى الما وراء Meta ما الذي يجعل الخير أفضل من الشر؟ والحب أجمل من الكراهية ؟ وما سر الجمال في ذاته وليس في صفاته حسب ُ ؟
للفيزياء الحديثة أن تقول : هكذا الأشياء ( من دون تسمية لصانعها ) أما التصوف فيؤكد أنها نتاج مشيئة . ولكن ما دامت تلك المشيئة محجوبةً عنا أسرارُها فليس أمامنا غير الخيال الذي يقودنا عبر الجهل " الحكيم " إلى فضاءات الرضا والقبول . شاء الموجد أن كل من يولد يموت ، ففيم إذن الاعتراض علي صاحب الحق الذي أحيا وأمات ؟ بيد أن المشيئة الإلهية أيضا غرست فينا حب البقاء – الذي نعرف يقينا أنه محدود بزمن محدد – كما غرست فينا كذلك الأمل في البعث بعد الموت لنلقى الأحبة الذين سبقونا إلى الدار الآخرة . فهل جاء هذا الأمل من عدم ؟! لا شئ يأتي من لا شئ .
إن علمنا بالظاهر وحده لا يمنحنا اليقين بأن رغائبنا سوف تتحقق . اليقين يأتينا من الإيمان بأن وراء الظاهر ( أي عالم ما دون الذريّ بلغة الفيزياء الحديثة ) باطنا ً يعلو على السببية والحتمية والضرورة ، وبلغة الدين فالباطن كائن مطلق لا يطاله العبث فهو بالضرورة صادق الوعد . وهذا هو الفيصل بين الإيمان وبين الكفر . فالكفر يُثبَتُ حين يفصل المرء بين الظاهر والباطن ، مكتفيا بالأول معرضاً عن الثاني ، أما الإيمان فهو طوق النجاة للعقل الإنسانيّ ، لأنه يساير الحقيقة التي هي الوحدة بين الظاهر والباطن . وتتبدى مسألة الحرية في واقعة أن لكل إنسان الحق في أن يختار بين الموقفين بقدر ما هو مؤهل عقليا ً ووجدانيا ً لأيهما من دون أن يلومه أحد .

نيتشة وبوهم ومشكلة الحرية

تؤكد إحدى نظريات الفيزياء الحديثة ، وهي نظرية الأوتار الفائقة Super String ، بالمعادلات الرياضية أن الكون مؤلف من أحد عشر بعداً ، منها ستة أبعاد مطوياتImplicated فالعلم - بهذا التصور- لا يمكنه أن ينكر إمكانية إعادة بعث الكائن الذي اخترمه الموت في واحد من تلك الأبعاد المطوية ، بينما في الفلسفة سنرى نيتشة يتحدث عن العود الأبدي بواقع ما يقال عن الدورة الكبرى ، وتلك في الحقيقة رؤية مفزعة لأن معناها الرجوع إلى نفس الحياة وتكرار ذات الأخطاء وتجرع نفس الآلام . ونيتشة بذلك يكرس نفسه كاهناً للخلود ، لكنه الخلود الذي يعني العبثية وزوال الأمل .
في هذا السياق يرى "جاكوب بوهم" متابعاً الخط النيتشوي بتعديل خاص ، أن الموت يفضح توهم المرء بأنه حر " فلو أتيح لي – والقول هنا لبوهم - أن أختار بين توجهي للحياة وبين التوجه للموت لاخترت الحياة طبعا لأنها تبقيني بما أنا عليه ، ولكن بما أنني لست حرا ً فأنا لست حيا ً " وتلك رؤية إلحادية رائقة لا غش فيها ، بها تتساوى الحياة بالموت ، والوجود بالعدم ، والحرية بالجبرية . مقابلها ينطلق التصوف من اعتبار الموت عتبة لحياة تنقلهم أكثر امتلاء ، فالموت ليس عدواً بالضرورة ، فكم من موت خلـّـــد صاحبه ، والمثال الشهداء وطالبو الحق والعدل ، والذين يفتدون أحباءهم بحياتهم ، فضلا عن أصحاب الرؤى الصوفية ( مثل الحلاج والسهروردي وعماد الدين النسيمي ) هؤلاء الذين لا يرون في الموت عدوا ًبل صاحبا ً لكل لحظة من لحظات الحياة .
ربما لو ُعرض على امرئ نزيه العقل والضمير أن يخلد في هذه الدنيا بكل ما فيها من شرور وأمراض وبلاء لاختار الرحيل عنها في الوقت الذي يختاره له القدير ، بل يقينا ً سوف يختار أن يختار له الخالقُ ليس كمحض وكيل بل كمالك للنفس على الأصالة .
بهذا الوعي تحل مشكلة الحرية ، فالجبر لا يحيط إلا بالبدن بشهواته وأنانيته وأطماعه وجبنه . بينما الروح تتبدي حرة ً فقط حين ترتفع على الشهوات والأنانية والأطماع والجبن . وآية ذلك أن من يرتفعون عن تلك الدنايا يعتبرون أنفسهم أحرارا ً سياسيا ً واجتماعيا ً لهم كل صلاحيات الاختيار بين المواقف، قبولا ً لاستحقاقات الثورة ، ورفضاً للزائف من الخطابات ( خاصة ما يذيعه المتاجرون بالدين ) تلك التي تضلل الشعوب وتغطرش على الحقائق .
فما أشد حاجة العقل العربي والإسلامي إلى تجديد خطابه الديني في ضوء هذه المنجزات العلمية والعقلية والروحية لجنس الإنسان !


الإيمان لا يحتاج إلى إعلان

من نافلة القول أن عصرنا هذا قد أرسى دعائم حقوق الإنسان ومن بينها حرية العقيدة ، حتى بات من ينكر هذه الحرية محض همجي، ملحقاً لا يزال بعصور الظلام . وما من شك في أن الأديان جميعا – قبل أن يستخدمها الطغاة لأغراض دنيوية بحتة – لا غرو طفقت تؤكد على حق الناس في اعتناق ما يشاءون من عقائد . بيد أنه ولدواعي التنظيم الاجتماعي كان ضرورياً على المرء أن يوضح للآخرين ماهية ديانته ( وليس إيمانه ) ولهذا حين قالت الأعراب آمنا قال الله لهم بل قولوا أسلمنا ولمّا يدخل الإيمان في قلوبكم . فالإيمان نبض في الأفئدة لا يسمعه غير رب القلوب .
أردت بهذه المقدمة أن أراجع صديقي وزميلي الكاتب المثقف أ. أحمد موفق الذي نشر مقالا بتاريخ 9/9/2012 بجريدة نهضة مصر بعنوان " حوار مع صديقي المؤمن مهدي بندق " ومحل المراجعة هنا هو إشارته إلى الكراس الشهير للدكتور إسماعيل أدهم المعنون " لماذا أنا ملحد ؟ " وكان قد كتبه عام 1934 وقت أن كان التقدميون يحرصون على تقديم أوراق اعتمادهم مزينة بــ "شجاعة" رفض الأديان! وكان إعلان الإيمان وقتها يعني الإذعان للسلطة المجتمعية والثقافة السائدة . ولهذا كان منطقياً أن يرد عليه مفكر تقليدي هو أ. محمد فريد وجدي بمقال عنونه بــ " لماذا أنا مؤمن ؟ " وبهذا صار الإيمان سلعة يتبادلها المشترون والبائعون في سوق الحياة العامة ( كل حسب موقفه من السلطة ) بدلا من أن يكون علاقة خاصة بين المرء وخالقه .
والحق أن قضية الإيمان إنما هي من قضايا تاريخ الأفكار أنجز فيها الفكر الصوفي اليهودي والمسيحي والإسلامي والهندوسي الكثير، بينما أراد مقالي( المنشور بنفس الجريدة في 2/8ـ/2012 ) أن يسهم - على خلفية الفيزياء الحديثة - في توطين المعرفة على أرض الثقافة المصرية بغية تجديد الفكر الديني ( وأشدد على كلمة الفكر) في مواجهة الخطاب الديني الكلاسيكي الذي يرسخ خضوع العقل للنقل ، ويحجّم الإبحار الذهني إلى مياه الكون العميقة ، ويلزم الناس بالاستماع حسبُ لفقهاء السلطة وتوظيف الدولة للدين لأغراض محض سياسية .
فهل أدرك هذا المنحى الزميلُ موفق وهو يباشر نقده لمقالي نقداً أعترف بموضوعيته وسمو مقصده؟ المهم أنه طالبني بشرح مفهومين وردا بالمقال هما : نظرية أبعاد الكون المنطوية ، ونظرية الأوتار الفائقة . وهاأنذا أفعل ولعلي أضيف إليهما مغزى " قطة شرودنجر" الميتة الحية في نفس الوقت .


المادة في أقصى حالات الاحتمال

بداية ينبغي أن نقر بأن الفلسفة المادية لا تستطيع أن تبرهن على أنها صائبة ، ذلك إنها في التحليل الأخير مجرد آراء ، ولو كانت الآراء إنتاجاً " مادياً " للتفاعلات الكيميائية في الذهن لكانت محددة ً بالكيمياء لا بالمنطق، والكيمياء لا معيارية Non-normative فلا يمكنها الحكم بأن جزئ الماء الذي هو HO2 صواب أو خطأ ، جل ما تقول: هذا هو واقعه . إذن فالفلسفة المادية لن تفيدنا حين ندخل عالم ما دون الذرة حيث يتعطل قانون السببية وتبطل المعايير المحددة ، فتبدو مظاهر الكون الصغير "الميكرو " في أغرب أشكال الازدواجية .. فالضوء يتصرف أحيانا باعتباره جسيمات تشغل حيزا من الفراغ ، وأحيانا يتصرف كموجات لا حدود لها. لماذا ؟ الجواب : هكذا بدون سبب .
ومن هنا فقد استنتج الفيزيائي نيلز دي بور أن الجسيمات "الكمية " لا تتواجد على حالة واحدة معينة, لكن بحالات عدة محتملة في نفس الوقت، وإجمالي مجموع الحالات للشئ الكمىّ يسمى" دالة الموجة " wave function وحالة الشئ الموجود في كل حالاته الممكنة في نفس الوقت تسمى بالوضع الفائق superposition وعليه حين نقوم بملاحظة شئ كميّ فنحن نؤثر في سلوكه، إذ تقوم الملاحظةُ بكسر حالة الوضع الفائق للشئ وتجبره على اختيار حالة واحدة من دالة الموجة الخاصة به. وهو ما يفسر لماذا يحصل الفيزيائيون على قياسات متضاربة من نفس الشئ الكمى، فالشئ الكمى يختار حالة واحدة من حالات مختلفة أثناء عمليات القياس المتتالية، فأين ذهبت الحالات الأخرى ؟ أنها موجودة ولكن في أكوان موازية لكوننا .
يرى الفيزيائي "ايفريت هيو" أن قياساتنا تسبب تفرعا حقيقيا في الكون[ اضرب بعصاك البحر ] فيتم نسخ الكون إلى كونين, كل منهما يمثل نتيجة محتملة للقياس. لنفترض أن دالة الموجة لشئ ما هي جسيم وموجة ، فحينما يقوم الفيزيائي بقياس هذا الشئ, فهناك نتيجتان محتملتان: إما أن يلاحظ هذا الشئ كجسيم أو يلاحظه كموجة ، وفي الحالتين ينقسم الكون إلى كونين تلبيةً لكلا الاحتمالين. وعلى ذلك فالملاحظ الفيزيائي في أحد الكونين وجد أن الشئ تم قياسه على أنه موجة، أما الملاحظ الفيزيائي التوأم في الكون الآخر فقد قاس الشئ على أنه جسيم.


قطة شرودنجر
في هذا السياق تخيل الفيزيائي إروين شرودنجر أن قطةً حُبست داخل صندوق مقفل تماما . و الحدث الكمى داخل هذا الصندوق هو تفعيل خلية كهروضوئية لتوصيل تيار كهربائي وهذا التيار يؤدى إلى سقوط زجاجة بها سم قاتل . ومعلوم أن الخلية الضوئية تطلق إليكترونات " توصيل تيار كهربي " إذا سقطت عليها فوتونات ضوئية معينة . هناك إذن داخل الصندوق مصدر ضوئي والضوء المنبعث منه ينعكس على نصف مرآة ( هي مرآة تعكس نصف الأشعة الساقطة عليها و تمرر نصفها الآخر) وحسب معطيات ميكانيكا الكم فإن أي فوتون يسقط على نصف المرآة فإن دالته الموجية سوف تنقسم إلى دالتين ، أحداهما تصف " الفوتون المنعكس" و الآخر " الفوتون المار " (الفوتون الحقيقي هو مجموع الاثنين ) ينتج عن هذا أن الفوتون المنعكس يجعل الخلية الضوئية تطلق سُمًّاً يقتل القطة ، والفوتون المار خلال المرآة لا يؤثر على الخلية الضوئية مما يبقي زجاجة السم في مكانها فلا تموت القطة. ولكن نظرا لأن الحالة الكمية للفوتون هي فوتون مار + فوتون منعكس فهذا يعني أن السم سوف يصيب القطة + لا يصيب القطة ، بمعنى آخر: القطة ميتة + حية ! ودون كشف الغطاء فأنت أمام كلا الاحتمالين. والحقيقة أنهما معا قائمان فالقطة حية وميتة في نفس الوقت !
هذه الغرائب وغيرها ترصدها المعادلات الرياضية التي برهنت على ما يسمى بمتعدد الأكوان أو الـ Multiversity وهو عبارة عن المجموعة الافتراضية المكونة من عدة أكوان بما فيها الكون الخاص بنا ، تشكل معاً الوجود بأكمله ، وهذا يعنى أنك لو تعرضت لموقف يكون فيه الموت نتيجة محتملة ولم تمت , ففي كون مواز لنا أنت ميت بينما أنت حي في كوننا أو العكس.
أما نظرية الأوتار الفائقة String theory فتقول إن كتل البناء الأساسية لكل مادة وأيضاً لكل القوى الفيزيائية في الكون موجودةٌ في مستوى تحت الكم حيث تختفي السببية. وهذه الكتل البنائية تشبه أربطة مطاطية متناهية الصغر أشبه بالأوتار،هي التي تصنع الكواركات فالنيوترونات فالإلكترونات فالذرات فالخلايا وهكذا. وكل نوع من المادة يُنتج بواسطة تلك الأوتار حسب تذبذبها ومحددات سلوكها، وهو ما يؤدي إلى نشوء القوى المختلفة الحاكمة للكون، وبهذا النشوء تظهر السببية وتبدأ عملها .
الوجود بأكمله إذن عبارة عن عزفٍ موسيقىّ.. عزفٌ يحدث عبر أحد عشر بُعداً وربما أكثر، فالوجود كيان مركّب، الزمان فيه أشبه بزمن المسرحية .. واقعيٌّ بالنسبة لشخوصها متخيل عند المتفرجين . لذا فوجودنا على الأرض يجعلنا في آنٍ واحد أحياء وموتى ، فنحن نيام في الليل والنهار، نعيش داخل حلم [ داخله أحلام ] ولكنه حلم يشير إلى حقيقةِ أننا خالدون بمقدار ما نمارس النضال لأجل الأنفع والأرقى والأجمل.
فهل يحتاج "الإيمان" على خلفية هذا الوعي إلى إعلان أم إلى ممارسة Praxis جادة وفاعلة ؟




مرة ثانية : الإيمان لا يحتاج إلى إعلان

في القسم السابق حاولت أن أبين أن كتل البناء الأساسية لكل مادة وأيضاً لكل القوى الفيزيائية في الكون موجودةٌ في مستوى تحت الكم حيث تختفي السببية ويسمح للعناصر بشئ من التلقائية بما يتضمنه هذا المعنى من نتائج خطيرة [ ولهذا القول تفصيل في موضع قادم ]
ولأن مقالي الذي فتح باب الحوار حول هذه القضية والمعنون " تجديد الخطاب الديني على خلفية الفيزياء الحديثة " قد نشرته مواقع عديدة منها موقع "هدهد" وموقع "الحوار المتمدن" نقلا ًعن جريدة نهضة مصر ، فلقد كتب المفكر العربي" طه بن شيخة " نقدا مطولا ً لمضامينه بعنوان " لا بديل عن تبني النظام المعرفي العلمي الحديث " ملخصه أن الفكر الديني هو مجرد حدس شعوري يمضي على نحو لولبي نحو التعمق والاشتداد والتجذر في مسببات اللذة ، لأنه لا يعرف امتدادا غيره، بينما التعقل يميل لرسم العالم في شكل هندسي، يتجه نحو استيعابه نسقيا غير مبال بمطالب الشعور ورغباته . فالشعور يميل لامتلاك العالم حدسيا وشعوريا، بينما العقل يميل لتفسيره وفق مبادئ وقوانين. الشعور يتجه لامتلاك المواقف العقلية حال تشكلها ونضجها في مقولات لاهوتية بينما هو لا يمتد ولا يشتد إلا حين تكون المواقف العقلية موضع ارتياب. الفكر الديني يميل للتفسيرات الذاتية التي تعطيه امتدادا تخدم عملية امتداده واشتداده لكنه يرفض متابعة القضايا العقلية التي تنتهي بنتيجة لا تخدمه. بينما يشم في لمح البصر الأفكار التي تخدم انتشاره .
ثم ينهي الناقد مقاله موجها لي نصيحة ( أنا أعمل بها فعلا ً) قائلا : يا أخي لا جدوى من محاولة الحلم بزمن تُطبّق فيه المقولاتُ اللاهوتية بمعزل عن مجالها التداولي.
بالطبع أنا أوافق د. طه بن شيخة على نقده للفكر الديني بما هو عليه الآن، وأوافقه على أنه لا بديل عن تبني النظام المعرفي العلمي الحديث وهذا بالضبط ما أحاوله لأجل تجديد كل فكرويات - بما فيها الديني - ضمن ألوان الممارسات الإنسانية المختلفة، انطلاقا ً من جهود المفكرين المجددين سواء كانوا "إمبريقيين" يؤسسون المعرفة على التجربة الحسية ، أم كانوا "صوفيين" معارفهم تجليات للروح .
دعنا على سبيل المثال لا الحصر نستدعي تلميذ سيجمند فرويد الأشهر وصاحب مدرسة علم النفس التحليلي كارل يونج الذي تجاوز مفهوم فرويد عن الليبيدو ( اللذة الجنسية ) بإدخاله مفهوم اللاوعي الجمعي في مجاليْ المعرفة والدين ليبرهن على أن " الأنا " ليست هي التي تفسر الأحلام بل الأحلام هي التي تفسر "الأنا " ولأن الأحلام تقع في منطقة اللاوعي التي هي لا مشاحة متصلة بمناطق اللاوعي عند الغير، فيستنتج من ذلك أن ثمة ما يمكن تسميته باللاوعي الكلي أو الجمعي، وهو كيان سابق على وجود الفرد وتال لوجوده بعد تحلل البدن . وبجانب هذا فإن يونج يصّرُ على أن " الأنا" تبقى موجودة إذ لا يمكن اختزالها أو ردها إلى ما هو أقل منها . موجودة أين ؟ لا يجيب يونج ولكن المفكر الفرنسي تيار دي شاردان – متخطيا ً الماركسية التي تحصر وجود المرء في الأعمال التي يخلفها في هذا العالم بعد موته – يجيب بدلا من يونج قائلا : إنها موجودة في كيان مركّب لا يضيع فيه مثقال ذرة ، الزمان فيه أشبه بزمن المسرحية .. واقعيٌّ بالنسبة لشخوصها متخيل عند المتفرجين ( وهو التعبير الذي أشرنا إليه آنفا في هذا المقال ) وإلا فما قيمة أعمال الإنسان إذا لم تنشئ له مركزا ً مطلق الأصالة يعكس الكون بأسره وينعكس هو عليه بنحو متفرد لا يُحاكَى ؟
ربما نضيف نحن لما قاله تيار دي شاردان قولنا إن الماركسية – على فائدتها القصوى لمن يبتغون تغيير العالم بالممارسة Praxis – فأنها لا ُتشبع الروح ، لأن الأنا وهي تجلٍ من تجليات الذات العليا، إن هي أقرت بفنائها بات سيان عندها أن تترك أو لا تترك شيئاً في عالم مصيره الفناء مثلها ، ولو أن " الأنا " قبلت بهذا المنطق الماركسي لباخ حماسها وقل إبداعها ربما إلى درجة الصفر .
والحق أنه بجانب العلم الحديث فإن تنامي الحركات الاجتماعية الكبرى ومن بينها منتوجات فكر ما بعد الماركسية – خاصة لوي آلتوسير - إضافة إلى نظم الاتصال المتطورة وتضاعف سكان الأرض ؛ قد أوضح بجلاء أن البشر يملأهم اليوم الشعورُ بالحاجة إلى نظام كوكبي موحد لعل منظمة "الأمم المتحدة" الحالية جنين له اليوم ، الأمر الذي يؤسس لمنظومة حياتية جديدة تعمل داخل وحدة عضوية تثرى بكل منجزات التاريخ من علوم وفنون ونظم سياسية واجتماعية وأديان وفنون بل وأساطير ، فجميعها وجوه مختلفة لحقيقة واحدة قد لا يدركها الفرد ، وإنما تسعى الموجودات كادحة ً إلى إدراكها في ختام الرحلة . وها هو المتصوف الأكبر محيي الدين بن عربي يستشرف هذا الأفق المعرفي اللامحدود ببيتين من الشعر النبوءة :
منازلُ الكون في الوجودِ
منازل ٌ كلها رمــــــــــــــــوز ُ
منازل ٌ للعقول فــيــــــــــــــها
دلائلٌ كلها تـــــــــــــــــــــجوز ُ
فهل يحتاج الإيمان بعد هذا إلى أحزاب أو جماعات أو تنظيمات تقيمه في القلوب ؟

الفيزياء الحديثة ومسألة البعث
يتصور البعض أن العلم الحديث ليس له أن يبشر بنتائج تتجاوز فكر أرسطو – على المستوى الفلسفيّ – من حيث تأكيد المعلم الأول على رسوخ مبدأ السببية ، بما يعني أن كل أفعال البشر وغيرهم من المخلوقات خاضعة لجبرية مطلقة ، وبما يعني أيضاً قدم المادة واستغراقها، وآية ذلك - بحسب قول هذا البعض - أن البيولوجيا والفسيولوجيا المعاصرتين تعتبران الوعي وظيفة من وظائف المخ ، وهو تصور يعد تحديثاً Modernizing لما بيّنه أبيقور من أن ثنائية المادة / الروح لا يمكن إثباتها تجريبيا ً بالدليل " المادي " وهو قول صحيح وإن قاد إلى باطل ، من حيث أن الذين يطلبون دليلا ً ماديا ً على وجود شئ غير مادي إنما يمارسون نوعا ً من العنت والمصادرة على المطلوب أي تحصيل حاصل .
ومع ذلك ، وبعيدا ً عن أصحاب الفلسفات المادية الخالية من الروح أمثال أرسطو وأبيقور وجون لوك الزاعمين أن ما قالوه هو الكلمة النهائية في الموضوع ؛ فإن العلم التجريبي لم يتوقف لحظة عن البحث في طبيعة الكون الذي نعيش فيه ، بما في ذلك هذا الكيان الباحث نفسه والمسمى " العقل " . فكانت أولى النتائج البحثية ذات الاعتبار الإقرار بأن الكون وإن صنع من خامة واحدة إلا أنه لا يمكن اختزاله إلى مادة Matter خالصة أو إلى عقل Reason خالص . وتؤكد الفيزياء الحديثة هذا المعنى باعترافها بالطبيعة المزدوجة لظاهرة الضوء . وحين يبرهن علم النيورولوجيا على أن انقداح الضوء على خلايانا العصبوية الحاملة لطول الموجة هو ما يترجم في المخ إلى صورة للشئ الموجود بالخارج ؛ فإنه – أعني علم النيورولوجي – ليعجز عن تفسير الأثر النفسي والوجداني لهذه المعالجة العصبوية المخية . فمن أين تأتي إذن هذه مشاعر البهجة أو الدهشة أو الحزن ؟
هنا نرى أن جون سيريل الذي هو أكثر فلاسفة العلم تمسكاً بنظرية الخامة الواحدة ، يقف مبهوتاً أمام وجود الفجوةGap بين ما هو مادي صرف وما هو وجداني ، حتى أنه أعلن رفضه للقول بأن الشعور ليس أكثر من ظاهرة مصاحبة للمادة . وهكذا فإن سيريل الذي ألقي الضوء على المشكلة ولم يجد حلا ً نهائيا لها ، أبقى الباب مفتوحا ً على مصراعيه لمزيد من البحث والاستقصاء ، ليس أمام علماء البيولوجي والفسيولوجي والنيورولوجي فحسب ، بل ولفلاسفة الجمال وربما أيضا ً للقديسين والمتصوفة والشعراء .
في هذا الاتجاه يدفع العالم الفيزيائي ورئيس " Queens Collage " بول كنجهورن مؤكداً أننا شخصيات " مستديمة " تملك نفوسا روحية هي التي تؤدي أدوار التواصل بيننا وبين الآخرين ، ومحال أن نكون مجرد وسائل ملائمة لإطلاق الأحاديث ، كما لو كنا أجهزة حواسيب متطورة بُرمجت لتجيب على الأسئلة ! ولهذا فكنج هورن يلقي بالقفاز متحديا ً : فمن إذن المتحدث ؟!
وأنا أوافقه على ما طرحه بهذه الصيغة الاستنكارية ، فنحن لسنا مجرد أبواق ، بل كائنات بشرية تملك حرية أن تتحدث أو تصمت . ولكنني أمضي لما هو أبعد من سؤاله، الذي قصد به أن تكون " الأنا " إجابته الناجزة ، أعود لأسأل عمن يكون المتحدث الحقيقي ؟
إننا نرى على شاشة التليفزيون مثلا ً – بطريق البث المباشر – رئيس الدولة يوجه لنا خطاباً هاماً . ونحن نسلّم بأنه تحدث إلينا فعلا ً ، وفي الواقع لقد تحدثت إلينا صورته ، أما هو بذاته فموجود خارج الشاشة . هكذا أنا حين أحدثك .. صورة تكلم صورة . وليس في الأمر خداع من أي نوع ، بل حقيقة وان كانت نسبية ، فأنا صورة حقيقية لأصل خارج المشهد الفعلي ، ولو كنت أنا أصلا لذاتي لكنت خالقا ً لنفسي ، وهذا باطل واضح .
بهذا الإدراك ، ومستعيرا ً ابن عربي أقول : إن المتحدث على الأصالة هو الخالق ، ونحن - صور وجوده - نتحدث بحرية هي ملك لنا بحسبانها منحة من خالق كلي القدرة [ ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين ] ولأن هذا الخالق حر حرية مطلقة فلقد صار منطقيا ً أن تكون لمخلوقاته (= صُوَرِه ) نفس القدرة على التصرف بحرية وإن كانت حرية نسبية جراء حلولها في أبدان ، هي بلا ريب محكومة بقانون السببية ، القانون الذي يطبق على العالم المادي كله بما فيه أجهزة البدن بدء من عضلة القلب وانتهاء بالمخ مرورا ً بالجهاز العصبي والعضلات والأعضاء الحيوية و....الخ
فماذا عن الجانب المقابل من الفجوة ؟ ماذا عن الوعي ؟ ذلك هو السر الذي يتأبى على البدن أن يفض مغاليقه ، السر الذي تتعطل السببية إزاءه ، فهو مناط الحرية ، والسبيل الأوحد إلى المعرفة الحقة . أين مكانه ؟ إنه بلا مكان وأيضا ً بلا زمان ، فالكون الذي نعيش فيه ذو طبيعة مزدوجة : الأولي مكانية / زمانية ، أما الثانية فتعلو على التحدد حيث عالم الأزل الذي لا يطاله الفناء . ولأن الطبيعتين مرتبطتان ارتباطا ً وثيقا ً فلقد نرى البدن يتوق الي الخلود مثل صاحبه الوعي ، وله الحق في ذلك ( بحكم الغيرة والجوار ) فيطمح الناس إلى البقاء بأجسامهم بعد الموت .. فهل ثمة إمكانية لتحقيق المراد ؟
تؤمن الفلسفة المثالية بأسبقية الفكر على المادة ( كيف ؟! ) ، أما الفلسفة المادية فتؤمن بالعكس من ذلك تماما ً ( لاحظ تعبير " تؤمن " !!) وقد حاولت المادية الجدلية Dialectical materialism أن تجمع بين الاثنين في مركـّـب واحد ، ولكنها أصرت على وضع المادة َ في مرتبة المعطى الأول في العلاقة بينهما ( لماذا ؟! ) بيد أننا إذا شئنا أن نكون دياليكتيكيين حقاً فعلينا تجاهلُ ما يسمى بالمعطى الأول بحيث تكون الأشياء هي ظاهرها Phenomena دون إدخال متعسف لعنصر الترتيب في مكوناتها ، عندئذ لن ينظر إلى الروح بحسبانها غريبة على المادة أو العكس ، بل ُترى المادة ُ نسيجاً للوعي ( وبذلك تعد كياناً حياً ) وُيرى الوعيُ باطناً للمادة ، ومن ثم يمنحها الحياة .
خذ مثلا ً الكوارك أصغر الجسيمات المكتشفة حتى الآن وسل ماذا في داخله ؟ طاقة ؟ وما الطاقة ؟ في التعريف الكلاسيكي هي كيان مجرد لا يعرف إلا من خلال تحولاته . يقول ماكس بلانك إنها مقدرة نظام ما على إنتاج قوة Power أو نشاط خارجي ، ويقول آخرون إنها كمية فيزيائية تظهر على شكل حرارة أو كحركة ميكانيكية أو كعامل ربط في أنوية الذرة بين البروتون والنيترون . أما معادلة آينشتاين الشهيرة E=mc² فتبين أن الطاقة تعادل الكتلة مضروبة في مربع سرعة الضوء . من الواضح أن التعريفات السابق الإشارة إليها لا تتحدث عن " ماهية " الطاقة بل عن وظائفها، فتعريف ماكس بلانك فأقرب إلى تفسير الماء بالماء ، أما صيغة آينشتين فهي تعبير عن سمة من سمات الطاقة لكنها لا تبين كنهها . قد تسألني من هذا الرجل ، فهل حين أقول " وزنه مائة كيلوجرام " أكون قد أجبتك ؟!
إن أقصي ما يمكن قوله عن ماهية الطاقة إنها ليست مادة ملموسة ولا هي بجوهر Essence [ والجوهر هو ما لا يتغير ولا يقبل للانقسام ، بينما لا شئ عند علماء الفيزياء النووية لا يقبل الانقسام ] ومن ثم تكون – في حدود المعرفة البشرية - تصوراً ذهنياً ، لنقل إنها – كما نشعر بتأثيرها فينا - فعاليةٌ Agency وهي بما هي كذلك مصاحبةٌ للمادة من دون أن تكون مادية ، فهي كفعل دائم تمثل روح الأكوان التي لا تفنى ولا تستحدث من عدم . فإذا انتبهنا إلى أن العدم لا وجود له لعلمنا أن موت البدن إنما هو مرحلة من مراحل تحولات المادة ، لا يستبعد منها مرحلة لإعادة التشكيل خاصة حين نضع في الاعتبار النظرية الديناميكية للهيولى Dynamic Theory of Chaos حيث كل الأنظمة الكونية يمكن رؤيتها في حالة انتظام وحالة عدم انتظام في الآن نفسه ، وليس في هذا تناقض فالعلم لابد أن يأخذ في حسبانه ما هو غير معروف جنبا إلى جنب ما هو معروف ، وله في النقد الأدبي الأسوة ، فالنقد الأدبي الحديث قد استبان أن المقال Discourse لا يمكن سبر أغواره من دون التركيز على المنطوق بجانب المسكوت عنه ( ما بين السطور ) حيث المعرفة الحقة لا تتوفر بغير جهد جهيد ، وبغير استعلاء على الإسهامات البشرية من فنون وآداب وأساطير وأديان .
وعليه فأنت لا يمكنك لوم اليهود لتحوصلهم حول " المسيا " أي المسيح المنتظر ( وهو غير يسوع النصراني ) الذي سيحقق لهم الخلاص المآسي والشرور ، حتى أنهم اعتبروا ما حاق بهم في المحرقة الكبرى ( الهولوكست ) على يد النازيين في الحرب العالمية الثانية بشارة ً بقرب عودة المخلص المنتظر .
أيضا ً فأنت لابد ستفهم أنه حين تبشر المسيحية بالقيامة في شخص يسوع الذي عاد فعلا ً من الموت بعد أيام ثلاثة بشهادة والدته وحوارييه ، فإن من يجترح شهادة هؤلاء لن يكون سوى شخص دنيوي بحت محدود الأفق .
كذلك فإن الإسلام حين يشير صراحةً إلى قيامة كل فرد بذاته في الصورة التي تناسبه والتي يستحقها فعليا ً ، بناء على ما قدمت يداه في المرحلة المنصرمة ( الدنيا ) فإنه ليقدم بذلك رؤيةً تتسق ومتطلبات الوعي الذي يحمل مستقبله في داخله مثلما تكون الفراشة محمولة في بطن دودة القز .
وبهذه الرؤية الأوسع – وغيرها من الرؤى الدينية سماويةً كانت أم أرضيةً - تكتمل الدائرتان الوجودية والمعرفية . وعندئذ – وليس قبل ذلك - يمكن للخطاب الديني ( الإسلامي أو المسيحي أو غيرهما ) أن يجدد نفسه ، لكي يتعامل بجدية مع قضايا الواقع التاريخيّ المحدد ، والتي هي شكل من أشكال الحياة الكونية غير المحدودة .



#مهدي_بندق (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الخليفة القادر وتأسيسية الإرهاب الفكري
- الوعي في أقصى درجات الاحتمال
- هل يبقى الأخوان المسلمون أخوانا مسلمين ؟
- الإيمان لا يحتاج إلى إعلان (2)
- الإيمان لا يحتاج إلى إعلان
- تجديد الخطاب الديني على خلفية الفيزياء الحديثة
- الجيش المصري ليس فيلقا ً إيرانيا ً أو كتيبة أمريكية
- مصر بين سكة السلامة وسكة الندامة
- هل تطلب حماس سيناء كوطن بديل ؟
- أنور عبد الملك وتغيير العالم
- لماذا تجنبت ثورة يناير كلمة الاشتراكية ؟
- أيام البين السبعة
- أشباح الميلشيات بين القاهرة وبيروت
- الجذور المعرفية للفكر الفاشي
- ديمقراطية بلا ديمقراطيين
- إلى متى نتقبل ثقافة الأساطير ؟
- مصطلح الثورة مغترب في اللغة العربية
- المتحذلقون ونظرية المؤامرة التاريخية
- احذروا النموذج الباكستاني في مصر
- ازالة اسرائيل على الفيس بوك


المزيد.....




- طلاب يهود بجامعة كولومبيا: مظاهرات دعم فلسطين ليست معادية لل ...
- مصادر فلسطينية: أكثر من 900 مستعمر اقتحموا المسجد الأقصى في ...
- مئات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى تحت حراسة إسرائيلية مش ...
- سيبدأ تطبيقه اليوم.. الإفتاء المصرية تحسم الجدل حول التوقيت ...
- مئات المستوطنين يقتحمون باحات الأقصى في ثالث أيام عيد الفصح ...
- أوكرانيا: السلطات تتهم رجل دين رفيع المستوى بالتجسس لصالح مو ...
- “خليهم يتعلموا ويغنوا ” نزل تردد قناة طيور الجنة للأطفال وأم ...
- فيديو خاص عيد الفصح العبري واقتحامات اليهود للمسجد الأقصى
- “ثبتها الآن” تردد قناة طيور الجنة 2024 Toyor Aljanah لمشاهدة ...
- بعد اقتحامات الأقصى بسببه.. ماذا نعرف عن عيد الفصح اليهودي ا ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - مهدي بندق - محاولة لتجديد الخطاب الديني على خلفية الفيزياء الحديثة