أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - الغزّالي الجبوري - البعد الموسيقي بين الادراك السمعي وهيائم الحس الذهني عند الفنان سامر عينكاوي















المزيد.....



البعد الموسيقي بين الادراك السمعي وهيائم الحس الذهني عند الفنان سامر عينكاوي


الغزّالي الجبوري

الحوار المتمدن-العدد: 3859 - 2012 / 9 / 23 - 22:52
المحور: الادب والفن
    




يندرج الفنان المبدع سامر عينكاوي وإنتاجه وأنماط تلقيه ضمن سلسلة من البداهات التي غالبا ما يحتكم إليها الحس السليم من أجل تحديد حالات التطابق أو التشابه بينه وبين ما يقوم بتمثيله ببعده الموسيقي وإنتاج المعنى. فهو في العرف الفني، جزء من طبيعة المعطى الموضوعي، التواق، إلى وجود مضاف الحس الذهني، يقي الأشياء والكائنات عبث التحجر وصروفيه دأبتها من الهدم. فموهبة الفنان سامر عينكاوي الموسيقية – ضمن هذه البداهات أيضا- هي استعادة لجزئية من فضاء الابداع ممتد إلى الرقة والتحسس وفق معايير تلغي الزمان باعتباره مدى محسوسا أو تعاقبا في كل شيء، فموهبته الموسيقية هي في الأصل نفي للزمن من حيث هي تأبيد للحظة وتخليد للطاقة الكامنة بالابداع.

إن ما يأتي إلى السمع منه، عبر الاستماع والرسم الذهني للنغم والإيقاع، وفق الحس السليم والرؤية السديدة دائما يشدو به التمييز الابداعي، ليس شيئا آخر غير ما يمكن أن تُصَدِّق عليه معطيات واقع عتيد يثق في تجلياته وطموحه، لا فيما يمكن أن تقوله أذن وحس الفنان. بل إن الأمر يتعلق بتشابه أو بتماثل بين لحظة الحس الموسيقي في الطبيعة الانسانية، وسريان مطلق في الحس الموسيقي ورهافته. ووظيفة هذا التشابه محددة بدقة، إنه الرابط المشييد بين الصورة الذهنية والواقع المدرك بأنتاج المعاني، فهو لا يفترض سوى توافق بين حقل الرؤية وبين صورة الايقاعية التي تحل محله موسيقيا. إنه القاسم المشترك بين الحس السليم وبين واقعية تصويرية حسية في الخلق النغمي، تدعي القدرة التي يتمتع بها الفنان سامر عينكاوي، على استعادة عالمه الداخلي الممثل كليا أو جزئيا بذاته الانسانية.

وكما الحال أيضا، فالموسيقى لدى الفنان عينكاوي، شيء آخر غير استنساخ حرفي لواقع مرئي لا مراء فيه يعيشه الفنان بأنسانية فضاءاته. فما يأتي إلى الأذن منه هو -وجود نغمة تنتظر سامعها – تعبر بها إلى الأشياء/ لا / الأشياء ذاتها. إنها لحظة فنية يقوم بها الفنان سامر عينكاوي باستعادة ظلالها خفية، هي، ما يشكل الفواصل بين السمع والحس فضاءاً مبهماً بالابحار والرموز التي لا تراها إلا نغمة تبحث في الأشياء عن جوهرها لا عن تجلياتها المباشرة. إن صورة الهوية لدى الفنان ذاتها ليست، إلا في الظاهر التي يحاول ان يرتديها بمسامعنا، كمعادلا محايدا، لأصل لا يمكن أن تنكره مهارته الابداعية وهي تلف بنا كقوس المخيال والدرب الحسي الرفيع، وهو يتنقل بين الاوتار.. فحيادية النغمة هي لقطة لديه، بل ذاته السابحة التسامي المطلق،التي لا يمكن أن تلغيه تعبيرية النظرة/السمع/التبصر/الالهام/ الرموز الدفينة الشائكة...تعبيرية كما يمكن أن تتسلل إلى سياق وضعي، هو يأخذنا معه برفقة في الأصل كما هو، أسْر ومرتض لانفعالات بعينها سيّقها بتراجم ذائقته الحسيه، وهو ما يشير إلينا الدلالات الممكنة للوضعات الموسيقية وقواعد تربيته لتهذيب ذائقتنا الموسيقية بمقطوعات وأيقاعات مشهورة، يدفعنا بها الى الأمامية والخلفية والجانبية لذروة سماعها المعفف.

إن العالم الموسيقي في ذاته، لا في وعي ذاته، التي تلتقطه في كليته أو في تفاصيله. فالفنان سامر عينكاوي يرى عبر وسائط الثقافة والمخيال والمقطوعات. يستمع ما يود أن يسمعه لا ما يمثل أمامه، بل هو محكوم أيضا بنقد هشاشة الحس ذاتها، بما فيها حالات التماهي والتعب، واستنادا إلى هذا، فإن الأمر يتعلق، في محاولة تحديد العوالم المصورة موسيقيا، وبالفصل والتبيّن بين ما ينتمي إلى تخيله القادر على إستثارة صور من الواقع الموسيقي، وبين ما ينتمي إلى تجربة النظرة الحياتية التقليدية، إن يتصارع مع الفنان الحقيقي ليس بالضرورة أن يكون محتملا بذاته. وفي المقابل، يمكن للتخييل أن يكون محتملا بوجوده. فالعوالم الحسية الممكنة لدى الفنان سامر عينكاوي متصارعة دوما، باعتبارها بناءات ثقافية، تستقي صورها من واقع مرئي عاشه ودأب النضال به، ولكنه ينزاح عنه من خلال الإضافة والحذف والتعديل، والاستكانة، وأعصار التأمل المرهف، الشبيه في بنيته النغمة/ ببنية الإنسان لديه، ولكنه يختلف عنه، من حيث إن له اذن مستقبله والاخر له اللسان اللا مرئي، كما تعلمنا ذلك في أمسياته الدؤوبة كل اسبوع، في المنتدى الثقافي العراقي، بصحبة وادارة مديره د. خيرالله سعيد.

فما تستوعبه النظرة الى الفنان سامر عينكاوي، ليس واقعا بل معرفة بهذا الواقع، معرفة مصدرها النغمة ولا شيء سواها، لقد تخلدت فيه، وهي تتسلل إلى اصابعه العازفة، وهو يكشف عن ذات، عن (كينونات-ها)، لكي تصبح ظاهرا مرتشحة في أذنٍ حسية، تتأملها التفس وذائقاتها الرفيعه. وهذا الانفتاح على الظاهر المتلقي هو ما يعبر عنه بالالوان والانغام والوجد ولعبة التركيب في اللوحة الموسيقية الذهنية. وهذه الأشكال والألوان ذاتها، ليست في نهاية الأمر وبدايتها عنده، سوى معطى طبيعي استُنْبِت في ذاكرة رمزية مجّدها بموهبته، ومنها يستمد النغمة والشكل والايقاع بقيمته التعبيرية، بعزفه على (ألة العــود). ليس عابثا بأهتمام لوظائف تاريخية الوحدات والتركيبات الأخرى المتعددة، في الايقاعات واجناسها، بما فيها الوظيفة الزخرفية في المكوّن النصيّ، في التأليف الموسيقي، كما قد يوحي بذلك مظاهر الأشياء في تقديمه الرائع والمميز.

لذلك إن كل المعطيات، الموصوفة في النموذج الفني الموسيقي الابداعي المتميزة لديه، يمكن أن يتحول إلى كوة، نطل من خلالها على الأنساق الفنية غير الموسيقية، فالقواعد التي تتحكم، في اشتغال الأنساق الأخرى، مبنية، وفق القوانين القواعد والأسس الموسيقية، أهمية كبيرة للموسيقى في تحديد مفهوم الفن الإبداعي. فهي، أي الموسيقى، تعبر عن النبضات المباشرة للحياة الإنسانية الداخلية المشحونة بصراعات متنوعة وعنيفة أحياناً ناجمة عن المشاعر الذاتية.

إذن هكذا أخضع وأعرب تصورها الفنان المبدع سـامـر عيـنكـاوي في السيمولوجيا، لموضوعة موهبته الموسيقية وتطورها، في موهبة أعماله وأساليبه، في الامكانيات المتاحة. ووفق هذا المنطق، حدد موضوعها وتخومها. فهذه المعطيات أيضا، رغم آلامها وبهجتها في وحدة فنيته فيها، تقدم، معرفة أولية قادت موهبته إلى الاستقلال بنفسها، والبحث في سياق هويتها، من خلال، تبني ما يوفره النموذج الموسيقي في وحدة ذاته، وتجمعها في عزفه على (ألة العـود) من أدوات ومعرفة مفاهيم وأساليب مختلفة، في التحليل والرؤية الاولية، للسماع والتمييز، بين النص الموسيقي ومؤلفيه. وهذا التمكن، هو تجسيد القلق في وحدة الهوية وإشكاليتها، في الموضوع الجديد لديه، والذي يجب عليه أن يحتضنه، ليمثل البعد الموسيقي المبُشِّر، بين مداركه السمعية ومبهج هيام حسه الذهني-الانساني، بل ويعيد تعريف عناصره وصياغة حدوده.

وعلى هذا الأساس، أن الموسيقى وحدها، كما يراها الفنان سامر عينكاوي، هي التعبير الأدهش للذائقة الإنسانية، والتمثيل السمعي للحس الروحي الرهيف، في إثارة الادراك وانتاج المعاني للأفكار. وعليه أعتزم بالوجوب والتمعن، إلى الموهبة لديه، كدلالة بأنساقه وأشكال تجليها، من خلال الحدود التي يوفرها النموذج الفني الموسيقي بذاته. فهذه الوقائع الجديدة شبيهة، من حيث الجوهر التواصلي ومن حيث البعد التدليلي في التحليل الحسي، بالوقائع الموسيقية. وما يصدق على الحس السمعي، حين يمكن أن يصدق عليها الامساك بالفن في مواجهة البحث بين الخيال/الحلم/ التبحر/التسامي وغور الذات الغريقه بالرموز والاشكال وهي تتشاطر بلغة تؤكد عظمة الموسيقى وسحرها، بأمتع وألذ جذل روحي، في الاخلاص لنعومة الدفء والاحلام المبدعة الشفيفة، في مخيالها المنتج.

فهي الأخرى تعد سنداً لإنتاج الدلالات له، ومحكومة في وجودها، شأنها في ذلك شأن الأذن، بمبدأ الاعتباطية. وهو المبدأ الذي أشترطه الابداع والضرورة، التي ولج بها الفنان سامر عينكاوي، في الوقائع الفنية الدلالية، إلى سيرورة ذاته بالفن الموسيقي، وعالمه الجديد في تسامي الحقيقة طامحة في ذاته، التي حققها بشقاء ووعد كظيم، متمثلا بملاحقة تفاصيل حقيقتها، وتمفصل فوصل أيقاعية، اشعلها بأذكاءه لها، ووصلت اليه بالتتابعية، والتمازج بين القلق والاضطراب، لكن، تجسد الأثر في الابداع، فتحقق النجاح بعافية.

مما عكست أثارها الجليلة التي لم يتجاهلها أو يتجنبها، في قراءته وتتبعة الفكري الإنساني، التي برزت آثارها في الفن والأدب والفلسفة والسياسة. التي أظهرتها الموهبة الموسيقية له، وعُدت من أقوى التعابير الفنية المبوصلة لحياته.

وأن موهبة الموسيقى الإبداعية لها مهارات كثيرة وكبيرة، منها، الاهتمام في اعتراف بعض الإبداعيين حينما يتوافقوا في تطور تجارب مهارة الاداء الذي أظهرها الفنان سامر عينكاوي، في تعيين بعض النقاط النقدية لديه، على ما كان يسمعه بأتحاف ما في بداياته للتعديل والارتقاء، عما تحلت به تجربته المتقدمة من أسلوب أعتراضي-نقدي، وفني ملتزم، مثل أداءه بالتراثيات والتنميقات التحويلية في الايقاعات للموسيقى العربية والمحلية العراقية خصوصا.

وهذا لا يمنع من ان نرى كذلك ابداعه في استعراضه البراعة الفنية، في الأداء النقدي للوقفات والتقطيعات النصية، يدل بها على انها شدة حرصة وتتبعه في اكتشافه، لبعض نقاط الضعف التي كانت سائدة عليها تجربته، لكن هذه البراعة تتطلب اتصالاً ذهنياً، وشداً واسعاً بالاهتمام، في حين يشد له أزره وهو يتنازع بذاته عن حث طاقته الإبداعية إلى الانطوائية الذاتية لكشف أغوار قدرة وطاقة تفجرها المتجدد،.

ولقد اتصف سامر عينكاوي بفرديته كما هي الآله الموسيقية – أله العود- وتركزه حول ذاته بها، عاصفا حرصه على أن تكون جذور جذوة فنه نابعة من وطن عمق جوهره. وتألق به الطموح والموهبة وبلغ بها الى الإبداع في عالم كان يسحره بولع ومودة. وبات واضحا أخيرا درجة التنظيم والتناسق في مباحث أمسياته واهتماماته، أن يبغض الكلل والخلل الذي يعتري الانسجام والانحراف عن القواعد في الايقاع بضرورة والتزام.

فكان إبداعياً، في منحى أتباعه منهج تنظيمي/أستراتيجي مُسبق في الإعداد والتنوع الذي يقوده. في حين أحيانا كان الفنان سامر عينكاوي نفسه، يظهر عليه كيف يمقت إتباع القواعد الصارمة المقيّدة، لكنه محشرج بها، وهذه تعبيرا عن طاقة كوامن المبدعين في مخاضهم مع المنتج الذهني المجهد، في البحث عن ادوات وأساليب تفانيه بأحضار الفكرة/النغمة المدهشة. وايضا تعبر عن ولع وتلاحم الإبداع لدى الفنان سامر عينكاوي في الكشف عن كافة المناطق القصيّة في ذاته التي تنتظر التحفيز والنهوض بالمجدد الحيوي الدائم، في حين يمر بالفنان المخاض الإبداعي كثورة يجيش فيها كل طاقاته للتحطيم على كل ما هو عالق او عاثر مانع من القديم في عدم تحررره، يمارس نضاله نحو تحرر نفسه من خلال العائق العابر، ولاسيما هذا إلحاحاً مثمراً دوماً على الاصرار بالشعور، والانفعالات الإنسانية على المثابرة للنجاح. لتحقيق التمثيل السمعي بين الإدراك وإنتاج المعنى الموسيقي.

وعلى هذا الأساس، لا يمكن أن يكون لدى الفنان سامر عينكاوي موضوع الإيقاع واقعا نغموياً مباشرا تدركه الأذن دون وسائط، فالمعطى موجود خارج الإيقاع وخارج الأذن التي تصوغها. إنها، على العكس من ذلك، تستثير، فيما وراء السمعي المباشر، سلسلة من الانفعالات، التي تهرب من الملموس، لتختبئ في الرمزي الذي يستعصي عادة على ضوابط العقل ومنطقه. وتلك حالة كل الانفعالات، فهي مشروطة في وجودها بغياب الخطاب الحسي. فالانفعال والتعليق، لا يحتكمان للعصب الجهازي العضوي نفسه. إنما الخطاب الايقاعي، يعلق على الأشياء من خارجها. أما الانفعال، فطاقة تعبيرية تجاهد الكلمات الموسيقية بشفراتها على ترويضها لدى الفنان بالامساك النغموي، فأحساس غامض في هذا الجانب لدى الفنان سامر عينكاوي وهو يحاول المطاردة للأمساك بها، وضبط مفهومها الروحي وتفكيك رموزها، ليعزل ويفصل ويصنف هرمونيا في جانب آخر من تأمله لكي تنساب حركته بين التأمل وأداء حركة أنامله في العزف على أله العود.

إن غاية كل تواصل فني/سمعي هو استنفار لكَمٍ هائل من الأحاسيس التي تتوسل بالنظرة الباطنية للاعماق أكثر، مما تستدعي أستحظارالنغم اللفظي لإدراك مداها. إنها مبثوثة في الحجم واللون والشكل والامتداد والرمز والشيئيي المكور لولادة النغمة المدهشة، لذلك، فإن النغمة تحرمنا من الكلام لكي تعلمنا فن التأمل الايقاعي. كما أن الإستماع طاقة انفعالية تستوعبها دوائر وعوالم منغلقة التوليف الرمزي المنفعل والمنضبط مع الخطاب الداخلي المنفلت. فإن الفنان سامر يدرك ذلك جيدا وبعمق في ذاته، ولن يكون سوى صراع جهنمي شديد الحساسية بتفكيك محاولة في تدمير ذاته رمزيا، لكل أشكال السلطة وألواح النوته الداخلية لها، بما فيها سلطة الوجود السمعي للأشياء، وهي تتفاعل بسرعة الضغط الداخلي بالانفعال ومظاهره.

وهذا أمر دال على ممكنات التعبير الهائلة التي يتوفر عليها الفنان سامر عينكاوي. فالحواس عنده ليست منافذ محايدة مفتوحة على عالم مادي فحسب، إنها بالإضافة إلى ذلك، وربما (أوتار ألة العود) في المقام الأول، هي أدوات تعبيرية، شأنها في ذلك شأن المفاهيم التي يختص بها اللفظي وحده. فالفنان يتواصل، في البثق والاستقبال، عبر حركة التمرد التي تظهرها حركة وانسياب تموج جسد أصابعه وهي ترتدي ثوب النغمة الكرنفالي في تهدج وتبختر الحس، وتسري فتتسربل بتدلل بين اصابعه على الاوتار، من خلال إيماءاتها العاشقة، وتفحصات نظارتها الوثوقة، وجمالياتها الحسية المترفة، وأدوات اللمس والسمع الشاردة عنده، تقوم بذلك أيضا بالتداعب والتملص وهي تتمايل بذاته كراقصة متمردة وهي تتمفصل بقسمات جسدها البظ، وثوبها المخملي بين عضلات اصابعه العازفه تترنح، تثير ثمالتها الدافعة، بتنقل أطراف مخمل أنغامها المغرية، وتسترسله جنونا فنيا شفيفا بين القرار والخفيف والذاكرة والمكرر والمدى، تتصارخ فيها الروح، وترنو لترقص بكفاءة وعمق الصراخ الحبوس مع هذا الحس، وهو ينزلق صدفة ليظهر كيف يجاهشه الحس بالفرح والتراقص والتناغم مع هذا التدفق للرفيق الرفيع الراقي القادم، فوق مسارد (أوتار العود). إن كل قابلة لديه تتحول إلى أدوات للتواصل. إنها طاقة الفنان سامر عينكاوي، بالإيحاء وقدرته على نقل المساسية الذوقة والحساسة من بعدهما النغمي إلى ما يشكل دوائر المتعة، حيث يحل الرقص والمداعبة والإنصات والنظرة محل المشي واللمس والسمع والبصر. لذلك، فالموسيقى لا تكتفي بالتمثيل الصادق لتعكس تجربتنا السمعيه معه ونتشارك في الخلق الابداعي، بل أنه يستكملها، وهو يصر على ان تكون، حل وحقيقة وتفكيك حسي، يكشف عن الكامن في دواخلنا.

إن الفنان، من هذه الزاوية، والموهبة الضامنه، لا يستنسخ الواقع ولا يعيد إنتاجه، ولكنه، يأتي بما يغطي ويغلي على القطيعة فيه، إنه أسر لقوى مخيالية تستوطن الأشياء والكائنات بأشكالها وتنوع ألوانها. فاللوح/النوتة بطبعها بكماء لا تتكلم، او أنها تتحكم بيسر في الانفعالات أكثر من تحكمها في المفاهيم، فالمفاهيم الموسيقية وقواعدها الامبيريقية شأن لفظي فلسفي الدراسة في الفحص التنغيمي، غايتها تعميم تجارب السمع والحد من مغامراتها، لذلك فهي تميل إلى الكونية. أما المقطوعة فتمثيل لا يستند إلا إلى خصوصية النظرة التطبيقية الممنهجة. لذلك تصنف عادة ضمن الأدوات التعبيرية المولدة للأحاسيس والانفعالات والتداعيات، بتقانة/حرفنة، إنها وسيلة للاستثارة في الممارسة، وليس إحالة على مقولات مجردة. إنها ليست عقلا، بل هو ما يسهم في تحييدها، وتلك هي لمسة الامساك التدريبي في موهبة الفنان سامر عينكاوي اثناء تنمية وتطوير فحوصات خبرته لتناضج موهبته بالاعمال لعزف مقطوعة ما.

إن الأذن الموسيقية تروض وتضفي طابع الألفة على كل ما يحيط بها من أنغام. إنها تلتقط كيانا في خصوصيته، وتحوله إلى إيقاع، استنادا إليها لتعرف استقبالا على نسخها على السلّم الموسيقي. وهذا ما يفسر، في جزء كبير منه، في التشخيص/الألفة/المماثلة من خلال صورة ذهنية موسيقة، فذاك يقلص من واجهات حضور الفحص في ذهن المجهزّ الحسي. إن الأمر في حالة التشخيص يتعلق بنشاط إدراكي، والإدراك يفرض الشيء على الذاكرة، وبدوره يقلص من ممكنات بنيوية التمثل داخلها، من حيث كونه يفرض على الأذن نسخة لها لغة ما فوق-المألوف البنيوي. والحال أن التوصيف الذي تحضر من خلاله النغمات في الذهن، هي صورة الحدث الذهنية، إنها لغة مرنة الملامح، ولا يمكن أن تتجسد، في نسخنتها مباشرة كمادة ألية جاهزة. قد نلاحظ بالتالي هناك رفض بايلوجي، لانها فوق الأصنمية لأنها حسية، كما الرفض من خلال الفنان نلاحظه بالتصور ان مفردات الطبيعه كالآلهة، تظهر وتختفي، والنغمة لا تختفي لأنها أكبر من أن يحيط بها سمع إنساني. إنه لا يمكن أن يعرف النغمة من خلال حدودها المألوفة.

وللنظرة في عالم أماسية الفنان الموسيقي لها وقع خاص، فلا وجود لهاتهِ دون تلك. فخلف التمثَل بعزفه على (لألة العود) يُخبيئ الرؤى التي تسللتها الموهبة والأذن من جوهر الأشياء وتودعها في وضعيات لا تثير شبهة الطموح والسمع. فاللقطة الموسيقية/المقطوعة، هي خطوط الرسم الحسي وتقطيعات جنسنة وأشكال الإيقاع وألوانه، ليست سوى تجسيد لما يمكن أن تأتي به أفعال الفنان بدقة مهارته للسمع. لذلك، فإن تعايش الفنان الموسيقي لامسيته، هو تناغم الأنسياب الحسي ذاتها وهرمونيته. والتناغم لا تَرى وتسمع معا ولا تلتقط الشيء كي تضيفه إلى ما يؤثث أشياء الذاكرة، إنها مضاف طارئ يقوم الفنان بتحوّل الأذن إلى نافذة تلتقط المشهد الموسيقي الثقافي في الطبيعة المحيطة ويصنفه ضمن العوالم الرمزية في التحدث الذاتي.

فالحديث في الرمز المجرد منفرداً كأبهام ووهم، عقيم دائما، لأن الايقاع لا يمثل صوتا عن المحيط وليس للنغمة قوة المركز. وهذا ما يفسر أن أغلب الناس لا يستحسنون حوارا في الموسيقى، فلو كان استماع الحس السمعي في المحيط، غنيا عن مقابلة المركز لما يدعو الفنان أن يصاحبه الإقبال الحسي عليه من المحيط والإصغاء إليه من المركز.

إن الإبلاغ السمعي الحسي لدى الفنان سامر عينكاوي، بأبعاده وأنماط تحققه، هو خلاف طاقات النص السمعي، فالأذن في هذا المجال المعقد التراكيب لا ينظر إليها باعتبارها عضوا للسمع، إنها مجرد سند للأصغاء التقليدي. بل يراها أنها من خلال وظيفتها تلك، هي بؤرة تنتهي عندها كل أشكال التحديدات الدالة على جوهر الحس الموسيقي للفنان وكينونته/ كما المتلقي. وقد أودع الفنان سامر عينكاوي لفهمه الموسيقي في هذه النظرة كل طاقاته الانفعالية، كما يمكن ملاحظته وهو يحاول أن يتحقق في علاقته بذاته وبالآخرين من خلالها، بما فيها علاقته بعالم الأشياء والكلمات. لذلك لا حدود له، في واقع الأمر لهذه الطاقة المتدفقة، رغم كل المحاولات المضنية التي يقوم بها البعد اللفظي/المنغمي/الحسي من أجل تسييج هيائمه بعضها، ضمن أحكام احتفظت بها الذاكرة التقديرية في تنمية تدريب وتطوير موهبته المقاسية، في بعدها التصويري الحسي للنغمة/اللحن/الغناء واستخداماته لها في بلورة سلسلة لا متناهية من الأحكام الذهنية والادراكية في جمع الحزم المنغمة في أطارها النسقي وهو يقوم بالاداء النغموي.

فاستنادا إلى الشكل الهندسي للأذن أو هيئة ألية السمع أو انطلاقا من التصنيفات الدلالية المسبقة المودعة في الأذن والذاكرة الصاغية الحادة/القاسية/الماهرة اللعوبة/المتوسلة/المتوعدة، يمكن تحديد التفاعل الممكن بين التذاوتات المفهرسة ضمن وقائع الإبلاغ بالنغمة الفردية أو الجماعية على حد سواء، تشكل شخصنة الحس النغمي من الايقاعات، وهي تتوالى بالمحاكاة، كيف تتحول إلى كلمات شفيفة طائرة، محلقة، سابحة في فضاء مطلق روحي، لم يطالها القانون المادي خارج الاعتراف بأمبيريقية الذات الهائمة، ودون إذن مسبق تحلق فوق كل تعليق وملاحظة لا تتجذل بمقلى الروح وهي تتسامى. ان نظرة كهذه لدى الفنان سامر عينكاوي نجدها ملازمة في الحس والتحليل التنغيمي للأصابع بدرجات الانتقال للسلم الموسيقي وتحكمة بسيميائية النغمة في خارطة امتداد الوتر الحسي وهو مثمر بين انامله يتدلى ويتلوى. من هذه الزاوية، هي تتجاوز الصفة الرمزية للشكل الهندسي للأذن الموسيقية بل التوغل اكثر الى روح عمق سمعة في أنطلاق ادراك المعنى للاشكال والكلمات بثقافة تختلف من ثقافة إلمدركات الاخرى، ومن فئة ذائقية تعبيرية يجمعها في أداء المقامات .

البنيويّة الموسيقيّة سندها، لتلك المقامات. فالفنان سامر عينكاوي مستلهما الملامح التعبيرية لها، إن لكل مقاما هوية مستقلة. وما تلتقطه الأذن، وما تحتفظ به الذاكرة، وما تحتفظ به أرشفة خلايا المدارك الحسية، لمعمورة المقامات. تمثل موطن اللغة وزمنها الموسيقي، وموطن نظام رمزي يستعيد نشاطه من خلال الحياة اليومية، بأمتداده وتوسعه في كل الجذوع المقامية، وجذورها العضوية. لذا فهي مادة رمزية لا تنضب، بل تتطور وتتحسن في الاداء والتنوع.

إلا أن الملامح التعبيرية للمقامات ذاتها ليس سوى ممر نحو ما يشكل النقطة التي تنتهي عندها كل صفات الهوية، إن الأمر يتعلق بالسمع الحسي الموسيقي، فبإمكاننا من خلال سلسلة من التبسيطات المتتالية أن نختصر الكائن الفني لدى الفنان سامر عينكاوي في شكل تحسسه بكل الطاقات التعبيرية فيهما، إنها النغمة الانسانية، في وحدته الانسانية. لذلك، فإن موقعه الانساني في هذا الفضائ الحسي الإبداعي الفريد جدا، اي السياق التشكيلي الموسيقي، أكثر من غيره في بنية النغمة المألوفة، للسمع الاستلهامي، بتعريف كيفية رسم شخوصية الامساك بنغمة ما؛ وذاك ما تؤكده الخبرة الموسيقية-الإنسانية في مجال التعرف على النغمة للمقام اللاحق الآخر. إن الفنان سامر عينكاوي الماثل أمام الابداع في الاداء ولحظة التواصل، وهو في يكون في هيئة المقام -الناغم الأول الشامل السمع والعازف، ببنية أخرى مألوفة، تتم داخله بتفضيل بعض السمات على أخرى، وخاصة الاذن الحسية. فالاذن الداخلية او العمق الادراكي الحسي، تقوم بأداء المرونة بالتقبل والمبادرة على هذا الأساس، هما بمعنى ما، مركز ينتظم حوله ما تبقى، و ما يتبقى بعد ذلك لن يحيل سوى على الوظائف البيولوجية المرتبطة بالنغم المكرر المتصارع في الفنان الموسيقي.

وكأن البعد السمعي في الإنسان أقوى من كل الحواس، فالاذن الموسيقية تردع وتتوسل وتنذر وتمكر وتتوعد، إنها مخزون استراتيجي كبير لسمع التصورات الممكنة، أو هي القدرة عندها على تقطيع فيها المدارك الحسية السمعية، استنادا إلى قيم دلالية مسبقة، وفقها يأتي المدرك الحسي السمعي في شكل مواقف لا في شكل أشياء تتحول الى كلمات لنص موسيقيّ.

وهذا ما تؤكده ذاكرة الفنان ذاتها، وتؤكده روابط الخلفية التاريخية أيضا. فمنذ أن بدأ الفنان سامر عينكاوي يعي ذاته من خلال نمو موهبته، ظهر في في كينونة ادراكه السمعي انفصال عن محيطه. بل تحولت الاذن عنده من السمع إلى الاستماع. حينها فقط بدأ يلتقط عبر الموهبه انفعالاته على جدران الصمت، كأولى أشكال الحميمية عنده، ويصممها على هيئة أنغام، وأدوات يصنعها من صفوات رنين الحقول الموسيقية، لكي تحميه من شروخات الاصوات الخوارق في الطبيعة أو في الكائنات النغموية، التي كانت تقتسم معه صفاء التأملية الذهنية، الممتدة في كل الآفاق وعوالم الهيائم الحسية، في الابحار لأغوار ذاته، حينها يكون قد انتزع هذا المحيط بقوة من الدفق الزمني ليودعه في ثبات مفاصل المقامات. تلك أولى انتصارات الفنان سامر عينكاوي على زمن لا يتوقف. أو كف لديه التأمل بالرؤية الموسيقية فقط بل أصبح ناظرا ولامسا ما تكشفه روحه من احاسيس تتدافق عنوة بالتبحر المتحرك، والسامع المتحدى بالاذن نفسها مع المستمع بذاته، إن الاستماع بالرؤية أخذت تشده إلى الشيء/الافق/ النغم المفعم المتطاير، بحكم وجوده الموضوعي مع الذاتي، لا غير الا وجود الثورة الحسية والتمرد الحسي يطوف أجواء ذاته بأفق خلاب نظير الموهبة، أما النظرة لذاته كموهوب موسيقي بعزف بالانتقاء لألة العود فخالقته فيه رموز للأشياء والكلمات والزمان والمكان بالعائدية. إن الفنان هو الشاهد الرائي والسامع والمتذوق التي يعاين فيها ما يمثل أمام اتجاهات تكوينه الموسيقي، أما الحس الباطني لذاته فيلتفت به عائدا إلى الحجم الإنساني المكثف فيه لدفعه الى الامام نحو فرص الابداع والتمييز التي اثبتها بوجوب الاصرار الذي نلاحظه وهو يسيطر على أفضل الدواخل في أستقطابها من دواخلنا-الماضوية بجدارة حضورها.

لقد أظهر علينا الفنان عينكاوي مجموعة آلفة من المعزوفات العربية ومنها المحلية العراقية الجميلة، ألِف وجودها، كانت منذ سنين أمامه، حاضرة بذاكرته. ولكنه لم يدرك وجودها الرمزي إلا عندما يعلم وهو كيف يستبقها العزف، أي كيف يتداعب ويتمازج بروحه معها، ويعلم أيضا لمسات الاستعمال الرمزي لموضوعات محيطه. نلاحظه وهو يبدأ يلتقط الأشكال والألوان في الشيء النغمي لا الشيء ذاته. حينها يمنح الفضاء/الوجود السمعي للعزف شكلا مضافا، فيجَسَّد أشكال الحنين وحجمه ولونه، بل يجَسيّد أشكالا لحنين فلكلوري/اغنيات/ مقطوعات/حوارات، قراءة لنصوص أخرى. هي من أعادة انتاج صنع خياله المشترك الذي أرهقته بهواجس مصدرها المجهوله في الطبيعة الانسانية والعلاقات الاجتماعية وموروثاتها النابضه في حسه الزمني. ولم يكن ذلك، في جميع تحققاته، استنساخا لموجود واقعي كما يتوهم البعض، بل هي حالات تجريد لا يمكن أن تتحقق عنده، إلا من خلال إسقاطتها التصويرية لذاته لتناغم وجوده الفعلي.

وهذا ما أثبتته تجربته لربما ظاهرة أنعكاسها وهي تتمرغ في مرحلة ماقبل التهيؤ للظهور في بدأ الاداء بعزفه. فالشيء المؤكد عنده يظهر جليا كما في مدخل المقدمة للمعزوفة التي يشرع بأضمومة أمسيته. التعبير بالموسيقى يبدأ من خلالها الفنان بالتجريد لا من خلال التمثيلات الزمني الساذجة للواقع. ويأخذ الملمس الذهني يتجول في مسار الاذن/مسارد حركة اصابعه/ قراءة أوتار العود اللامنتمية، كممر ضروري نحو المجرد في الوعي النصيّ. فالمدرك بخطابه السمعي المتنوع بكل أشكاله، أن يحضر في الذهن من خلال تحيزه في الفضاء الموسيقي وتعاقبه في الزمان، ولا وجود له خارج هذين البعدين. ولذلك لا يمكن الحديث عن التجريد في الموسيقى بظاهر اداءه إلا من منظور المجاز، فما تقدمه المعزوفة/النص الموسيقي شيئا ملموسا هو وحده القادر على فتح أبواب التمثيل الرمزي المجرد.

إن العلامات او الصورة الذهنية تتداعب وتتلون تناغميا ضمنها. هي الأساس الذي تقوم عليه رمزية الفنان عينكاوي في الاداء. إنها الأداة التي مكنته من التخلص من العرضي والمتنافر والمتعدد واستعادته على شكل مفاهيم مجردة تكشف عن انسجامه ومعقوليته. إنها الأشكال الرمزية في مكنوناته واسراها الغامرة، فالتوسط الإلزامي الذي يأخذها اليه الفنان كا هو الا في حالات الشعور القصوى بين المستمع المحيطي والسامع الداخلي/المركزي. فنلاحظه حينا، كيف تتوسط العلامات على شكل رموز وكلمات لاشعورية وهو يتحكم في الأشياء عابرها كنص موسيقى مولد لعلامات جديدة مستحدثة، أو بواسطة أشياء يحولها إلى علامات شعورية قائمة وهي وتسابح في المخيال كصورة ملموسة. وهذا إمساك المبدع لديه يجعلنا إن نُخْضع العالم الذاتي لديه الى تقاطعات مجزءة النظر كما يخصنا لها عنوة لذلك للتقطيع المفهومي اللفظي السمعي، لنستطيع بعد ذلك انتقاء العلامات التي تمكننا من الإفلات منه إلى حلول وتراضيات ونزاعات متشاكسة ومودة بالان نفسة.

وهذا أمر بالغ الأهمية لدى الفنان سامر عينكاوي، بل ودال على مفارقات ليست كذلك إلا في الظاهر. فالمسك بجوهر التجريد لا يمكن أن يتم إلا من خلال إسقاط حالات الملموس الحسي السمعي التي تقود إليه، فيشّد العوالم رمزية للنص الموسيقي وعلامات رموزه المبهمة، ليجعل منها مترجمة ذاتية هائمة سابحة بعوالم التوليد اللاشعوري في منتجه المخيالي في الكمونيات، بل ايضا محاولة له إن تتحقق في ذواتنا عبرها الى أشياء محسوسة مفعمة. لذلك، فإن كل المحاولات للفنان سامر عينكاوي بتمدد الإرساليات السمعية التي تنحو نحو التجريد لا تخلو بدورها من ميل إلى الاستعانة بتوسط موضوعات العالم الخارجي، يشعرنا بالحاجة اليها للمشاركة. فالعالم الموسيقي للمقامات لا يحضرها في الذهن إلا من خلال وظيفة التمثيل النغمي، وكل تفكير فيها يفترض وجود سند لمقام ملموس، الذي هو يقوم بدور المجسّد في نهاية الأمر مواجهة الفكرة المجردة في نقل المنتصف الذهني الى تكامل زمني حسي بأنتظار لدورة متكاملة.

لهذا السبب، لم يكن غاية الوعي الزمني التاريخي للفنان سامر عينكاوي، من رسم ذاكرات موسيقية لمحيطه، وإعادة إنتاج أستنساخه منها، فذاك عمل لا طائل من ورائه، ولكنه كان يطمح إلى رؤيتها كما تأتي إلى مرمى مسمعه عبر منافذ القلق في ذاته. وتلك قصته جلية مع واقعيته السحريه في أنسجامها بين انامله والاوتار، لاشك هناك حقا فواصل بين ممارسات الواقعية السحرية ووعيه الزمني التاريخي/الفلكلوري الموسيقى، وبين عوالم الموسيقى كفنٍ حالم. أوليس الفنان يحمل وعي موهبة واقعيته السحرية وهي تتطارد بها الكلمات والألوان الموسيقية العربية والمحلية التراثية، كنسقا تاريخيا ممتزجا بمساحات تراثية أيضا؟ فلم تكن ممارسة وعيه الموهوب لواقعيته السحرية إلا دفئا/ أناقة/ ورمزا متفردا في الاداء بأنغامها، لتمثل عنده استجابة في الكشف عن المخبأ المحضور الرغبويّ لماوراء اللاسمعي، أو إنه على العكس من ذلك، يعبر عن إرادة التحكم في المحيط البنائي المباشر، ليخضّع ويرتهن بترويض للأشياء والكائنات الرامزة، في مسارات النغمة للمقامات، التي تتقافز به ذوبانا في وعيه التاريخي ومستقبل كينوته. هو يستعين بالوعي الزمني التاريخي في مسعاه راميا بالمقامات بذاته كعلامات وعيويّة داركة واقعها الحالي. مشفراَ بها عزفه وأمسياته وسعة تداركه في تحريرالاختيار لنوع المقام واحضاره اولا. لقد كانت تلك هي وسيلته في تمييز القوى الماضوية-الواقعية كلغة للتعبير عن سحريتها العفوية في مسامعه، التي يرغب في السيطرة عليها وبتوجيهاتها. إن الأمر يتعلق اذن في الواقعية السحرية لوعي الفنان الزمني التاريخي من خلال سردية المحاكاة المكانية على الاوتار، فمن خلال هذه العلامات يعيد إنتاج حركات قراءة المقامات، أو يرسم صورته بها على حروف نصية من ذاكرته الحية ومغارتها المشّفرة، لكي يراقب ذاته الطريدة التي يريد قنصها بين السلم الموسيقي. و يجعل منها الصورة الجوفية الملموسة لوعيه الشعوري، الذي افتتن بمعالم وزخرافية الوعي الموسيقي المرئي للتعبير عن المجرد الذي لا تدركه الاحداث المجردة في ممرات الوعي الزمني التاريخي لواقعيته السحرية من واقعه المكاني التاريخي، التي أثرت في مسيرة مواليدها وعنفوان هيجانها الابداعي بكل قرائحها.

والموسيقى أداة لعوالم سحرية، وموضوع للأفتتان أيضا. إنها امتلاك أبدي، لموضوع كائن عرضي، في أصرار بقاءه كجوهر للشيء. وهي بديل يمكن من خلاله التحكم في الدال عليه. وتمزيق للتذهن الصوري للفنان، لتجعل من نفسها تعبير صريح عن صراعها العلني تجاهه. وما زلنا نتعرف على الواقعية السحرية لمعارف الفنان عينكاوي وعالمه المتفت، بأدوات ساحريه مفاتيحه الفنية، يجعلنا به إلى الآن نستعيض عن الموضوع المسحور بصورة مسميات الالات المجردة، بل الدمج الروحي للفنان/النص/الأله الموسيقية/ الاداء. فإذا رَمَد الشعور أو زمجرها فيمنحنا الفنان لاشعورا اضافيا للتأمل او أحياء نشاط خامل لذلك المرَمّد للتصور والمرأى، يمنحنا الصوِّري العاقل الدفين الذي يتراوغ بخجله السؤدد الكظيم، في التعبير عما يمتزجه، ويعتريه، من تقاطعات حادة يتناوب حيالها الشعور، للحضور فيه تمثالا على صفة من تريد وان تستوحاه عليه المدارك مع منتخب المعنى والمجاز الرمزي.

إن الذات التي يتأمل منها الفنان سامر عينكاوي تلتقط صورا مموسقة وتستبطن أخرى لتوليدها من جديد، وتستبدل هذه بتلك ضمن تعاقب لا ينتهي. لذلك، فإن الخلاصة لا يمكن أن تأتي اليه من الأشياء، بالمثول الصوري الموسيقيي هو من صنع الاذن الحسية الموسيقية، لاهبة من واقعها العرضي أمثولات وعلامات تتقارن ببعضها فتولد انغاما حسية عميقة بحتة. واشتغال الفنان بالصورة السحرية دالة على ذلك، فهي لا تطمئن للممثل الموضوعي لديه، إنها تحفر خفيرة ماضوية في التصور الزمكاني المرئي وتقلق به النغمة وتسائل به الوعي الساذج للواقع وتشكله في الثقة المطلقة التي وضعها في الإدراك للمعنى. إنه في ذلك شبيهة بالطريقة التي يشتغل من خلالها بالحلم، فالحالم اثناء العزف يتحول الى كيان الادراك له للنغمة الى فكرة بالصورة، والصور وحدها قادرة على الكشف عن ميولاته الداخلي وأضطراب معالمها المحكية بصمت او المنوه عنها بين اصبعه لتستقر على احد المقامات كحنجرة معبره عن ذاته، كفكرة بالصورة لواقعيتها السحرية/الهادئة الهانئة بالتمرد . يحصر -الانا- التي تطارده ويحاصرها بالممنوعات والإحباطات من كل الجهات والمناخات والفصول، لذلك، لا مردودية للكلمات لديه في الحلم بين أصابعة والاوتار، فصورة المضمون الداخلي/المضمون الظاهر/ المضمون الثابت/المتحرك وهي وحدها ممر يقود نحو الانتفاض إلى الصورة الموسيقية بالكلمات والنصوص نحو العزف والترحال بالمضمون الكامن، كما ألح على ذلك في أمسياته وهو يستوحي مكامنه وأتباعه. وتلك هي طبيعة العلاقات بين الصورة للواقعية السحرية الموسيقية وبين الشيء الذي يقوم بتمثيله، فهي لا يحكي وجوده كواقعيا سحريا، بل الواقعية السحرية تستحضر من وعيه التاريخي كي يحكي غيابها. إنها شكل مرئي لجوهر الفنان سامر عينكاوي من طبيعة تجريدية لواقعه التأملي، وذاته كروح صديقة ملازمة في عالم طفوليته التي يعيش بحركاتها الفنية بالاداء في الايقاعات الموسيقية.

وهنا صاغ الفنان هذه الفكرة بطريقة قطعت الشك باليقين وحولت ممارسة العلامات وتشفيرات ايقاعاتها الموسيقية إلى ضابط وحيد لكل ما يحضر من خلال عزفه الموسيقي، في أستقلاله عن الواقع أو ضدا عليه في الكثير من الحالات. فقد أكد ذلك ذلك عندما تمكن من أن يشير بين الاوتار وهو يتجول لخلق من ألة العود صوتا من وراء كل لوحة تشخيصية موسيقية تحتاج الى عزف اخر بالاضافة الى الاوتار ولكزات لسانه في التوارد اللحني اثناء العزف كوجود تتكامل في ذهنه اللوحة المجردة في ايقاعها المجهول ليبنيه للمعلوم، ولا تشكل الأولى له فيما يبدو الا ذريعة للمرور إلى الثانية الممر نحو المقطوعة او المقام الاخر قبل الحؤول للتحول الى مقام اخر إن ما يثيرنا هو الحزن في العزف لا لون اختيار المقطوعة اثناء حشجرته وهو يتوقف ويستمر بتفريغ الحزن بين الاوتار ليمرر فيها الغضب دون دراية لوعي الاذن الاخرى التي استكنَّ كل حضورنا بها ليجعلنا نغيب عن مسامعها لحين مرور حشرجة الحزن للغز سرية كفاحه واصرار انسانيته في حمل الاخر نحو الطيف الوردي بثقافة السمع ضمن خلدية النفس المنبسطة التأمل في ذائقة الحب والتلمس بعبور قرار وتهمّس النغمة ومرونتها.

فلا حاجة لنا إلى التساؤل عن الفنان سامر عينكاوي، ودرجة الوفاء للواقع أو الانزياح عنه، فما هو أساسي في عمل الموسيقي هو الاستعمالات الرمزية الممكنة، التي تفتح وحدها الموسيقي، على محيطها القريب والبعيد، على حد سواء. فالمعنى/المعاني في الموسيقى ليس شيئا آخر سوى ما يؤثثها. وبعبارة أخرى، إن ما يشكل لغة الموسيقى هو ما يقود إلى إنتاج المعاني داخلها أيضا. فالوجود الإنساني، بكامل الوضعات ومجمل المواقف وأشكال السلوك المحتملة وخواصه، والألوان والأشكال والخطوط والإضاءة والايقاع والإعداد الفضائي والظلال الحسي، كلها مداخل أساسية لاستيعاب ممكنات التدليل داخل الفنان اثناء العزف الموسيقي.

استنادا إلى ذلك تم الفصل في مهارات موهبة الفنان الموسيقية بين قراءتين مختلفتين، من حيث وجودها، ومن حيث تطويرها ونماها. إنه التمييز بين ما ينتمي اليه بالتجربة المشتركة في التمثيل والإدراك، وبين ما ينزاح عنها، باعتباره مضافا ثقافيا لا يمكن تحديد مداه إلا من خلال ضبط دقيق للسياقات. فالسياقات ذاتها هنا، ليست سوى ذاكرة لامرئية لصورة نماء مهارات الموهبة الموسيقية، لا تتحكم فيها سوى الموسوعة. كل تنشيط لهذه الذاكرة، يقود إلى إسقاط المضمر والضمني والموحى به، عبر التناظر أو الإيحاء أو التداعيات الحرة اثناء العزف. فلا وجود لمهارة الموهبة الموسيقية تدل فقط على ما تقدمه الأذن، بشكل مباشر. فالأذن مستساغة بالتأويل للاصوات دائما، ولا شيء في الكون يمنعها، من أن تُنتشي لها معان ومفاهيم قد يهتز لها من في حرف له في القراءة.

هل كان الفنان سامر عينكاوي يريد من خلال أمسياته المتعددة في المنتدى الثقافي العراقي، أن يتعرف المتلقي على موهبته، أم كان يريد التعبير عن ذاته.؟ كما هل يمكن أن تتحقق في هذا المكان، الموهبة للفنان في صورة الموسيقي المتميز بهذه الطريقة ووفق هذه التقاليد الفنية للموسيقي-العازف وليس غيرها؟ ما قدمه المكان بأدارة د. خيرالله سعيد والمتابعة المشتركة له مع الفنان سامر عينكاوي يغني بواقعيته عن كل جواب. فهناك من رأى فيها كل شيء، الفكر والثقافة والتمثيل الموسيقي للزمن ذاته داخل اطار المنتدى وفاعلية حامله الانساني.

لذلك هناك في الموهبة للفنان عينكاوي وانتمائه الموسيقي على الأقل عاملان لنماءها وتطور مسارها: يحدد الأول ما يشير إلى العامل الموضوعي في انتمائه الموسيقي، أي ما يوجد خارج الاذان/أصوات/سمع وما سابق على وجودها. ويشير العامل الثاني إلى سلسلة المعاني والتفسير للكلمات والاشياء، التي لا يمكن أن توجد إلا في الذات الناظرة وقدرتها على الكشف عن سياقات جديدة، التي هي أصل التمثيل وغايته الأولى. يتكفل المعنى في نصاب العامل الأول بوصفه، المعطى او المانح الظاهر من خلال سند الاذان/السمع ذاتها، أما المعنى في نصاب العامل الثاني فيمثل، أسلوب وطرق الادوات المنهجية في نتاج التأليفات الجديدة التي تعد. وفي واقع الأمر، الضرورات اصبحت واقع مسقط هي من معالجة النغمة وحاصلها التعبيري. ولا وجود لفواصل قطعية بين الأول والثاني ، ان كان في المعاني الثانية. فالتوصيف للمنهج ذاته لا يمكن أن يتم إلا من خلال حدود تشتمل فيه الادوات واساليب بحثها، وهي ذاتها على تصنيفات بنيوية مسبقة، او كما هو حال كل كلمات التأمل ونصوص أشاراته الحسية في التعبير والحركة..

إن عمل المقامات الموسيقية يتوقف على قدرتها على استيعاب واستعادة النص الموسيقي لمجمل الأحكام والتصنيفات الاجتماعية، كما هي مودعة في الأشياء والكائنات. وبعبارة أخرى، يتوقف على الإغناء الدلالي للمقامات ذاتها وعلى قدرتها على الاستعانة بالخبرة الإنسانية، في كل أبعادها الرمزية. فالمعنى هنا ليس معطى سابقا ولا محايثا لما يتم تمثيله في النص الموسيقي، إنه وليد من خلفيات الممارسة الإنسانية في محيطها بأشياءها وكائناتها ومظاهرها، وتلك طبيعة كل المقامات التي تصنف ضمن النمط الموسيقي المحاكاتي. فالنسق السمعي الإيحائي للمقامات يتشكل بذاته، إما بأسلوبية رمزية كونية، وإما من ببلاغة نصية خاصة بمرحلة بعينها. إنه يتشكل عامة من خزين من المحفزات القبلية لزمن/مكان الذاكرة والألوان والطعم والإيماءات والتعابير الحسية البعيدة وهي تتوافد الى الحالى الانية لتثبت حضورها وتصر ببقاءها متنوعة المذاق والمخيال الحسي بالنص التخيلي اللامرئي.

ويستمد هذا الحكم كامل مبرراته من طبيعة الإيحاء ذاته للفنان فالتعبير الدال عليه لا يمثل إلزماً ان يكون طبيعيا ولا حتى بالضرورة ان يكون متصنعا بأستقابلها، وهذا ماقد نلاحظة عند الفنان سامر عينكاوي، يتشكل في ذاتيته، الحضور معيار الفنان إن يكون تاريخي، أو إن شئنا، إنه ثقافي؛ فالعلامات داخله هي إيماءات ومواقف وتعابير وألوان وآثار تتمتع بمعنى حسي للزمن والمكان السمعي الاخلاقي اثناء العزف، استنادا إلى التفاعل الاجتماعي. هذا لا يعني، لا لوجودها المادي. فليس غاية الالة الموسيقية أن تدل على الصلابة أو القسوة، كما لم تخلق الازهار لكي تكون رمزا للنعومة والترف، بل هي رغبة الذات الإنسانية للفنان في أن تسقط جزءا منها فيما هو موجود خارجها واستعادته بعد ذلك في أنسنتها واذابتها في أخلاقية نعومة الحس الانساني الرفيع للتبادل الاجتماعي ورقيه الحضاري.

وهو أمر لا يستنفد كامل ممكنات المقامات الموسيقية، فما يتسرب إلى الوجدان لا يمكن، إلا من باب التقريب، إفراغه في نسق ليس من طبيعة الحس الرفيع للموسيقى، ولا يشتغل وفق قوانينها الجاهزية، بل على أن يتدإرك ما لا يمكن أبدا أن يتم دون فهم مباشرة له.

والأمر ذاته يصدق على الروابط الممكنة بين الموسيقى والواقع. فالحديث عن هذه الروابط لا يقود إلا إلى طرح قضايا خاصة بأنطولوجيات الأشياء والكائنات، ما دام التشابه أو المماثلة أو الاستنساخ لا يمكن أن يتحقق إلا من باب التطويع بأداة الواقع الاجتماعي، وهي ما تحاول الموسيقي تجاوزها بوعيه. فما نبحث عنه في الموسيقى ليس واقعا، فالواقع في نهاية الأمر بين أيدينا وأعيننا، بل نبحث عن سلسلة من الدلالات التي لا يمكن الكشف عنها إلا من خلال التعرف على اللغة النصية، للخطاب الموسيقي وطريقتها في التأليف بين الوحدات المكونة للمقامات الموسيقية. فللنغمة الموسيقية مداخلها ومخارجها أيضا، رغم أن تنظيمها الفضائي يوهم بتزامنية في الإدراك الحسي وفي التلقي التحليلي.

ومحاضرات وامسيات الفنان سامر عينكاوي متميزة في مجال الفنون الموسيقية والغنائية، فقد أراد من خلال قراءته الموسيقية ، العربية والعراقية( للمقامات) الكشف عن كينونة المنتج من خلال ظاهره، كما يتسلل إلى التقطيع للمقامات والمقطوعات الغنائية في مسح عام، والحث من المتلقي في التمييز والتمحيص في الثقافة السماعية للاصوات وتمييز مصدرها النغمي بين الفرع/الاصل، لا كما هو موجود في الواقع، اي( سماع الموسيقى، كأنه واجب ضجيجي ملزم، السماع بها وبقاءها هامدة مبهمة في الذاكرة). وهذا التحول في هوية الشيء لا يمكن أن يقوم بها سوى الفنان. فالفنان سامر عينكاوي عنده ليس تمثيلا لشيء محدد ، بل هو يقوم بأمسياته كالدليا الارشادي في توصيلنا الى معرفة حقيقة الشيء.

وهنا من نلاحظ محاولة الفنان سامر عينكاوي في الذهاب في أمسياته، إلى ما هو أبعد من تصنيف ثنائي للمعنى في فهمه للموسيقى بوعائها الانساني، أحيانا نراه مواكبا في الجانب الفني الإخباري، وتارة آخرى رمزي يلوذ بذاته داخل المقامات عنوة وهي ثنائية يعتمدها في تحليلاته بعد أن أشاعها ثقافة قراءاته في السرد النصي والعزف الفني. وسامر عينكاوي نفسه هو من يحاول إزاحتها من خلال الحديث عن معنى ثالث للمتلقي. فالسنحة التعبيرية الاولى يراودها بالدال على الإخبار، وهو ما يمكن أن يلتقطه السامع المتتبع خارج كل الشرودات القصدية الممكنة، وهناك جانب أخر حيوي رمزي يثيره بالعزف، بمحاولة إدراج المقامات ضمن سياقات تشيدها النغمة المؤولة لدى المتلقيّ، ثم هناك مستوى إشراك المتلقي في الحوار والاستفسار، الذي هو يصبح فيه نقيض مساره الأول، ولكنه ينزاح عن التصنيف الذي تماهى بطرحه في الثاني أيضا. ويدل على معنى الدلالة في طقس وحيوية البناء السمعي للتحسس النغمي، وهذه من الطبيعة الخاصة لدى المتمكنون من دارية توجههم. رغم إنه يختفي في جزئيات الأشياء والكائنات، في وجوهها وهيئتها ونظراتها التراكم والتجدد الحسي في أنضاج التجربة اليه ايضا. إنها عناصر تفلت من الأذن العادية ولا تلتقطها سوى الأذن العاشقة من السمع. إن هذا المعنى شبيه بما يمكن أن تحيل عليه العلامات النوعية في الهيائم والتطارب السمعي الدفين، التي يتحدث عنها في سميائياته، بحيث يمكن تسميتها ايضا الحافز لنوعي الذي يشتغل عليه باعتبارها علامة، أي حاملة لأنفعالاته في التأويل النصي لسمعه المقامات وحركاتها النغمية، باعتباره يثير معنى مضافا اليه يتجاوز الصرخة ذاتا المعبر عنها في الوتر للعود وهو يتناغم بين القرار والمتغير، إنها انفعالات لآثارة غير قارة ان يخفي طياتها الدفينه في زمنية ساحريته، أو أنفعالاته التي لا يمكن أن يحديد معرفة مصدرها.

لذلك ليس هناك في تصور الفنان سامر عينكاوي ما يصَدِّق على هذا المعنى، وليس هناك ما يدل عليه، وليس هناك مدلول بعينه، ولكنه موجود، ويشكل أفقا لسيرورة تأويلية لا يمكن للأذن أن تتجاهلها أو تتنكر لها. وهي حالة العزف الموسيقي على ألة العود بآماسية الاسبوعية لكل يوم جمعة في المنتدى الثقافي العراقي. فالمعنى في الموسيقى، وفي كل الأدوات التعبيرية السمعية يستند إلى معرفة سابقة، هي الدلالات التي منحتها الثقافة للأشياء وهيئات الطبيعة التكوينية لحساسية للانسان وكذالك في منح عوالم التشكيل السمعي للموسيقيّ. حالها اذن بما يتعلق بدلالات مكتسبة تثابر عليها الموسيقى بأنتشالها، من خلال التمثيل الحسي التعبيري التشخيصي، من بنيتها الأصلية وإدراجها ضمن بنية أخرى تمنحها خصوصية، لتغني وتغنى من أبعادها.

بل إن الوجود الإنساني ذاته للفنان سامر عينكاوي، ليس سوى مجموعة من المواقف والوضعات والإيماءات التي برمجتها الثقافة وحولتها إلى سلسلة من القواعد والاصول يؤول وفقها حلاته الحسيه والتعبيرية بووجدانه. إن هذه العناصر مجتمعة، تأتي إلى العزف الموسيقي معه محملة بدلالات لا تقوم الموسيقى او المقطوعة إلا بالتأليف ببعضها، من أجل خلق وحدتها وانسجام فضاءاتها الدلالية. وفي هذا السياق يظهر الفنان عينكاوي ترجمه حسه، الى موضعة للأشياء المركبة المتداخلة، لا عن وضع البناء الانساني فقط، فلا خلاص للأشياء خارج دوائر أبعاد المحتوى الإنساني، في التسمية والتصنيف والأفق الرمزي في المقامات. فحين يجمع الحالات تلك، أنما نجده يستمع الى دواخل عالم آخر، ويجعلنا نتسمع لاصوات بذات وداخل آخر كمقطوعات رمزية، ولكنها لا تمتلك بذات المعنى والوقت الخصائص الدلالية للغة الموسيقية، بل نجد إنها تشكل طفولة العلامة الضميرية للأنا. وإن طابعها الأصيل هذا بتفاعله معها يمنحها قوة تواصلية مبدعة اثناء العزف.

لذلك، فإن حالة الموسيقى والملتقى الاسبوعي مع الفنان، كما حاولنا معه رسم بعض مفاصلها، تاريخها ووضعها وموقعها في الذاكرة والوجدان، لتقتضي تحديد آليات اشتغالها وإنتاجها لمعانيها وطرقها في الإقناع والهيام.أيضا. كما ينبهنا الفنان على متابعة الحس السماعي للأذن الموسيقية وهي في دراستها السمعية للموسيقى، هي في واقع الأمر محاولة منه وأجتهاد، بتعدد طرق توصيله للمعلومة، للكشف عن القواعد اللامرئية التي تتحكم في السمع وحساسية التلقي للصوت والمعنى، أي الكشف عما يحدد مجمل آليات التمثيل والنقل الفني من عالم الأشياء إلى عالم النغمة. وبعبارة أخرى، الفنان سامر عينكاوي هو تشكيل فني يفعم بالحساسية اثناء تحديد الروابط الممكنة بين السمع والاستماع، أي بين الموسيقى كعزف وبين ما يلج عوالمها، لا بأعتبارها تمثيلا لشيء، وإنما باعتبارها كما يعتقد، أداة تعبيرية تقود إلى الكشف الطوعي التكيفيي عن الدلالات لا عن وضع الأشياء وحيازتها بالانزياحات.

وليس غريبا أن تكون الموسيقى لدى الفنان، استنادا إلى كل الأطر السابقة، أداة وأساليب بحثية للتحكم والتضليل والتوجيه. فكما يمكن أن تكون نافذة تطل من خلالها الذات على عوالمها الأكثر إيغالا وعمقا في البعد الموسيقى بين الإدراك السمعي وهيائم الحس الذهني عند الفنان سامر عينكاوي. يمكن أن تكون هذه المقالة المتواضعة، أداة لكل أشكال التفاعل الحسي الانساني الذي يحدد للذات أشكالا لردود أفعالها.

كما نود أن نشير هنا بالشكر والعرفان الى فريق ادارة المنتدى الثقافي العراقي، المدير التنفيذي له د. خيرالله سعيد على عزمه ودعمة ووقفته الجادة في أحتضان هذه التجربة للفنان سامر عينكاوي، وهو يتابع مواضبا على انجاح مستوى تقديمها بشكلها الاسبوعي، وعلى استمرار آلياتها في التفاعل مع الحضور، في خلق حاجة ورغبة أنسانية ضرورية ترافق الوعي والثقافة الانسانية هي مرافقة الوعي الحسي الموسيقي بشكليه الفعلي والرمزي. وأيضا الشكر موصولا، دون شك الى الفنان سامر عينكاوي وجهده المتميز بتفاعل الاداء. وكذلك الى الدور المهم الذي كرسته النخبه الفاضلة من رواد المنتدى. وأتقدم بالشكر والاحترام الخاص ايضا الى السيدة الفاضلة (منمن) على استقبالها الدائم واحتضان المتلقيين للامسية بفاتحة من الدفء الرقيق وعذوبة الاحساس ببهجة من الالحان والموسيقى الرائعة.


الغزّالي الجبوري- كمبيريدج




#الغزّالي_الجبوري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295


المزيد.....




- سمية الخشاب تقاضي رامز جلال (فيديو)
- وزير الثقافة الإيراني: نشر أعمال لمفكرين مسيحيين عن أهل البي ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- ألف ليلة وليلة: الجذور التاريخية للكتاب الأكثر سحرا في الشرق ...
- رواية -سيرة الرماد- لخديجة مروازي ضمن القائمة القصيرة لجائزة ...
- الغاوون .قصيدة (إرسم صورتك)الشاعرة روض صدقى.مصر
- صورة الممثل الأميركي ويل سميث في المغرب.. ما حقيقتها؟
- بوتين: من يتحدث عن إلغاء الثقافة الروسية هم فقط عديمو الذكاء ...
- -كنوز هوليوود-.. بيع باب فيلم -تايتانيك- المثير للجدل بمبلغ ...
- حديث عن الاندماج والانصهار والذوبان اللغوي… والترياق المطلوب ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - الغزّالي الجبوري - البعد الموسيقي بين الادراك السمعي وهيائم الحس الذهني عند الفنان سامر عينكاوي