جواد البشيتي - كاتب ومُفكِّر ماركسي - في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: التَّصوُّر المادي للكون....والنَّظريات الكوزمولوجية الحديثة.


جواد البشيتي
الحوار المتمدن - العدد: 3845 - 2012 / 9 / 9 - 16:59
المحور: مقابلات و حوارات     

من اجل تنشيط الحوارات الفكرية والثقافية والسياسية بين الكتاب والكاتبات والشخصيات السياسية والاجتماعية والثقافية الأخرى من جهة, وبين قراء وقارئات موقع الحوار المتمدن على الانترنت من جهة أخرى, ومن أجل تعزيز التفاعل الايجابي والحوار اليساري والعلماني والديمقراطي الموضوعي والحضاري البناء, تقوم مؤسسة الحوار المتمدن بأجراء حوارات مفتوحة حول المواضيع الحساسة والمهمة المتعلقة بتطوير مجتمعاتنا وتحديثها وترسيخ ثقافة حقوق الإنسان وحقوق المرأة والعدالة الاجتماعية والتقدم والسلام.
حوارنا - 87 - سيكون مع الأستاذ جواد البشيتي - كاتب ومُفكِّر ماركسي - حول: التَّصوُّر المادي للكون.. والنَّظريات الكوزمولوجية الحديثة.

التَّصوُّر المادي للكون..
 والنَّظريات الكوزمولوجية الحديثة

موضوع الحوار الذي أسْتَشْعِر أهميته، والذي قَلَّما طُرِق، هو التَّصَوُّر المادي (الجدلي) للكون في ضوء النَّظريات الكوزمولوجية (الكونية) الجديدة، كـ "الانفجار الكبير"، و"النقطة الكونية المُفْرَدة"، و"الثُّقْب الأسود"، و"انهيار المادة على نفسها (في النجوم العملاقة)"، و"تمدُّد الفضاء نفسه"، و"البُنْية الجسيمية الأوَّلية للكون"، و"نشوء وزوال الجسيمات الافتراضية"، و"النسبية الخاصة والعامة"، و"الخيوط (الأوتار)"، و"التعدُّدية الكونية"، و"المادة (والطاقة) الداكنة"، و"أصل الكتلة"، و"الحدود الفيزيائية للمعرفة الكونية".

ولقد توفَّر كثيرٌ من المفكِّرين الدِّينيين على تأويل هذه النَّظريات، أو بعضها، بما يُكْسِب العقائد الدينية "صِدْقيَّة كوزمولوجية"؛ وفي هذا الصَّدد، ذاع صيت الدكتور زغلول النجار بـ "اكتشافه" إشارات قرآنية إلى بعض الاكتشافات الكونية (والعلمية) الحديثة.

وبعض من علماء الكون الكبار أظْهَروا، في وجهات نظرهم العلمية، مَيْلاً إلى مفاهيم دينية، أو فلسفية (مثالية وميتافيزيقية).

وفي هذا الحوار، أوَدُّ أنْ أُدافِع عن التَّصَوُّر المادي للكون من طريق الاجتهاد في الإجابة عن أسئلة وتساؤلات كل من يَعْتَقِد بتهافُت وسقوط هذا التَّصَوُّر، أكان هذا المُعْتَقِد من المؤيِّدين العلميين لهذه النظريات أم من المؤوِّلين لها بما يُوافِق معتقداتهم الدينية والفلسفية.

إنَّني أُرحِّب بكل سؤال أو تساؤل يأتيني من المتشكِّكين في صدقية وصواب "التَّصوُّر المادي"، أو من المعارضين (والمعادين) له (عِلْميَّاً أو دينياً أو فلسفياً).

لا قَيْد على أيِّ سؤال؛ وإنِّي لألتزم بالحرص على إجابة الأسئلة جميعاً، إلاَّ المُكرَّر منها، أو الذي يَفْتَقِر إلى مقوِّمات السؤال الجاد؛ فالسؤال عِلْم وفَنٌّ وذكاء.

فرضيتي في الحوار هي أنَّ التَّصَوُّر المادي (الجدلي) للكون هو وحده التَّصوُّر السَّليم، وأنَّ "عِلْم الكون"، الخالِص من شوائب المفاهيم الدينية والفلسفية المثالية والميتافيزيقية، يأتي دائماً بما يقيم الدليل على صواب هذا التَّصوُّر.

هذه هي "الفرضية"، أو "الأطروحة" Thesis؛ وإنِّي في انتظار الأسئلة والتساؤلات والآراء التي تنتمي إلى "النقيض" Antithesis.

ما هو الكون؟

إذا كنتَ مِمَّن يعتقدون بـ "نظرية الانفجار الكبير" فإنَّ عليكَ أنْ تَعْتَقِد بالآتي: هذا الكون، بكل ما يشتمل عليه من "عناقيد المجرَّات"، كان قبل نحو 13.7 بليون سنة في حجمٍ (إذا ما افترضنا وجود حجم له) أصغر كثيراً من حجم نواة ذرَّة، أو من حجم البروتون؛ ومع ذلك كان في "الثقل" نفسه، أي أنَّ كل "كتلة" و"طاقة" الكون كانت مركَّزة (مُكَثَّفَة، مضغوطة) في حيِّزٍ متناهٍ في الصِغَر والضآلة، يمكن أن نسميه "البيضة الكونية". ولقد "انفجرت" هذه "البيضة"، فشرع حجم الكون هذا يتَّسِع ويكبر حتى أصبح الكون في حجمه الذي نراه اليوم؛ وما زال الكون في تمدُّد مستمر (ومتزايد).

في البدء، وبحسب نظرية "الانفجار الكبير" Big Bang، لم يكن من "وجود" إلاَّ لشيء واحد فحسب هو "البيضة الكونية" Cosmic Egg؛ ثمَّ كان "الانفجار الكبير" Big Bang.

إنَّه انفجار عظيم، ليس كمثله انفجار، فذاك "الشيء"، الذي هو، أيضاً، ليس كمثله شيء، والذي يسمِّيه بعض القائلين بتلك النظرية "البيضة الكونية"، "انفجر"، فَوُلِدَ من "انفجاره" كل شيء.

"شيءٌ" ليس كمثله شيء، "انفجر" انفجاراً ليس كمثله انفجار، فنشأ "كل شيء (نَعْرِف، أو يمكن أنْ نَعْرِف)".

ولكن، ما هو ذلك "الشيء"، أي "البيضة الكونية"، الذي منه جاء، أو انبثق، أو وُلِد، أو نشأ، الكون الذي نَعْرِف، قبل نحو 13.7 بليون سنة؟

في الإنكليزية، يسمُّونه "Singularity"؛ ومن المعاني اللغوية لهذا الكلمة: مُتَفَرِّد، فريد، مُنْفَرِد، فَرْد، مُفْرَد.

وهذه "النقطة المتناهية في الصِغَر"، أو "النواة المتفرِّدة"، أو "البيضة الكونية"، أو "الذرَّة الأوِّلية (أو البدائية)"، أو "البذرة"، أو "الحَبَّة"، هي "شيء نسيج وحده (لا مثيل له)"؛  وإذا كان للكون "نواته"، فإنَّ "الانفجار الكبير" يمكن وصفه بأنَّه "فالِق النواة"، أي "نواة الكون المتفرِّدة". وإنِّي لأُفضِّل الـ "فَرْد" تسميةً لذلك "الشيء"، الذي "تَعْجَز" الفيزياء عن وصفه، أو عن معرفة ماهيته، فـ "الفَرْد" هو الذي لا نظير له، ولا مثل، ولا ثاني؛ وهو في "صفات الله"، "الواحد الأحد".

تلك "النقطة (Singularity)"، التي منها جاء الكون، كانت في "حجمٍ"، إذا ما قُلْنا بوجود "حجمٍ" لها، يقلُّ كثيراً، وكثيراً جدَّاً، عن حجم "البروتون"؛ ومع ذلك كانت بـ "وزن" الكون كله، ففيها تركَّزت كل مادة الكون، أي كل كتلته وطاقته؛ وهي، بـ "معيار الكثافة"، النقطة ذات "الكثافة المطلقة"؛ إنَّها اجتماع "الحجم الصفري (أو المعدوم)" و"الكثافة المطلقة".

من أين جاءت تلك "النقطة"؟

مِمَّ تتألَّف أو تتكوَّن؟

ما هي خواصها؟

ما "القوانين الفيزيائية" التي عملت فيها إذا ما كان من وجود لتلك القوانين؟

كل هذه الأسئلة، وغيرها، لا إجابات عنها، لا في نظرية "الانفجار الكبير"، ولا لدى مؤسِّسيها، ومطوِّريها، وأنصارها، والقائلين بها، فهذه "النقطة" إنَّما هي الشيء الذي لا يمكن أبداً معرفة ماهيته، فـ "الكون"، الذي هو، في مُخْتَصَر تعريفهم له، "كل شيء"، لم يُوْلَد، وينشأ، إلاَّ بَعْد، وبفضل، "الانفجار الكبير" Big Bang، الذي هو في منزلة "الخالِق الجديد"، الذي مِنْ نَسْج "الميتافيزياء" كان، فأصبح (عَبْر نظرية "الانفجار الكبير") مِنْ نَسْج "الفيزياء"، أي مِنْ نَسْجِ "فيزياء" عاثت فيها "الميتافيزياء" فساداً، حتى غدت سنداً "عِلْمياً" لـ "قصة الخلق التوراتية" للكون، والتي منها اسْتُنْسِخَت قصص خَلْق دينية أخرى.

هذا "الانفجار"، الذي هو، أيضاً، ليس كمثله انفجار، هو الذي خَلَقَ "كل شيء"؛ لقد خَلَقَ "الزمان" و"المكان" و"الفضاء" وسائر الأشياء.

ولكن، ما معنى قولهم إنَّ "الانفجار الكبير" Big Bang هو الذي "خلق كل شيء"؟

معناه الذي لا يحتاج إلى شرح وتوضيح هو أنَّ هذا "الانفجار" هو "القوَّة (الأحجية في ماهيتها)" التي أخْرَجَت الكون (بكل ما فيه) من "العدم" Nothingness إلى "الوجود" Existence. إنَّ معناه هو أنَّ "كل شيء" نراه في كوننا لم يكن له من وجود في تلك "النقطة" Singularity.

في "البدء"، أي "قَبْل" خَلْق الزمان، كانت "البيضة الكونية"..

ومِنْ هذه "المسلَّمة"، يبدأ وينطلق التصوُّر الكوزمولوجي الذي جاءت به نظرية "الانفجار الكبير".

وهذه "المسلَّمة" هي "المجهول الأعظم"، الذي تخطته "النظرية"، وقفزت عنه، لتؤسِّس، من ثمَّ، لكل هذا "المعلوم"، ولكل هذا "اليقين (الديني الطابع)"؛ فأصحاب نظرية "الانفجار الكبير" يتحدَّثون، في دِقَّة وتفصيل، وكأنَّهم كانوا هناك، عن كل شيء، بدءاً من أصغر جزءٍ من الثانية الأولى (بعد "الانفجار").

أمَّا الأسئلة الكوزمولوجية والكونية الكبرى التي تُثيرها "فرضية (أو "مسلَّمة") البيضة الكونية" فلا جواب عنها؛ فكل ما يعلمونه عِلْم اليقين هو أنَّها، أي "البيضة الكونية"، كانت موجودة "هناك"، "قبل" وقوع "الانفجار الكبير".

من أين جاء هذا الكُلُّ من المادة والطاقة؟

من أين جاءت هذه "البيضة الكونية".. أو كيف أصبحت موجودة هناك؟

ما الذي جعلها "تنفجر".. أو ما الذي تسبَّب بـ "الانفجار الكبير"؟

كل هذه الأسئلة الكبرى، وغيرها، تبقى بلا جواب، فهذه "المعرفة" إنَّما هي "المعرفة المستحيلة" بحسب وجهة نظر أصحاب هذه النظرية وأنصارها، والذين يُحْيون فكرة "الشيء في ذاته" Thing in itself لكانط وهي رميم؛ فهذا الفيلسوف الألماني فَهِمَ الشيء، أي كل شيء، على أنَّه "جوهر" لا يمكننا أبداً معرفته وإدراكه، فالشيء "في جوهره" هو "المستحيل إدراكاً ومعرفةً"!

الخلل المنطقي في مفهوم "النقطة الكونية"!

هل من ضرورة فيزيائية لبقاء مفهوم "النقطة (الكونية)" Singularity، أو ما يسمَّى "البيضة الكونية"، جزءاً من نظرية "الانفجار العظيم" Big Bang؟

من وجهة نظر علمية، فيزيائية، كوزمولوجية، متصالحة ومنسجمة مع "المادية"، بمعناها الفلسفي، والماركسي على وجه الخصوص، أرى أنْ لا ضرورة فيزيائية لهذه الصِّلة بين هذه "النظرية" وذاك "المفهوم"، وأرى ضرورة فيزيائية لنفي وإلغاء هذه الصِّلة المصطنعة لدواعٍ فلسفية مثالية ودينية؛ فـ "الانفجار" إذا صَحَّ فلن يصح إلاَّ مع، وبفضل، تخليص وتنقية نظريته من مفهوم "النقطة".

و"المفهوم" الذي لا صلة له بالواقع والحقائق الموضوعية يمكن تقويضه من طريق تبيان تناقضاته المنطقية.

"النقطة (الكونية)" هي، بحسب مؤسِّسي مفهومها، والقائلين به، "الزمان ـــ المكان (أو "الزمكان")" Spacetime في انحنائه المُطْلَق؛ وهذا "الانحناء المُطْلَق" هو، في تعبير مرادِف، "الجاذبية المُطْلَقة".

إنَّ كل مادة الكون، بحسب هذا المفهوم، "تَمَوْضَعت" في نقطة عديمة الحجم؛ وليس ممكناً، من ثمَّ، وجود أي شبه بين هذه المادة وبين المادة التي نعرف، بأنواعها كافة.

وهذه "النقطة (الكونية)" يجب أنْ تختلف عن "النقطة" في "الثقب الأسود" Black Hole، في كَوْنِها "عارية" من هذا "الغلاف" الذي يسمَّى "أُفْق الحدث" Event Horizon.

إنَّها "النقطة" التي تمثِّل "الجاذبية المُطْلَقَة"، والتي فيها ما عاد ممكناً وجود "الزمان" و"المكان (والفضاء)"؛ لأنْ لا وجود لهما حيث ينحني "الزمكان" انحناءً "مُطْلَقَاً". ومع، وبفضل، "انفجارها"، خُلِق الزمان والمكان والفضاء..
لنسأل الآن السؤال الآتي: هل من وجود لـ "الجاذبية" في هذه "النقطة"؟

إذا كان جوابهم هو "كلاَّ، لا وجود لها"، فإنَّ عليهم أنْ يُبَيِّنوا ويشرحوا الحيثيات الفيزيائية لقولهم بعدم (وبضرورة عدم) وجود "الجاذبية" فيها.

إنَّهم يقولون، أو يميلون إلى القول، بوجود، وبوجوب وجود، "الجاذبية" في "النقطة (الكونية)"، مُعْتَبِرِينها "جاذبية مُطْلَقَة".

يقولون بذلك، مُصرِّين، في الوقت نفسه، على أنَّ "الفضاء" لا وجود له في هذه "النقطة"؛ لأنَّ خالقه "الانفجار العظيم" لم يكن قد وَقَع بَعْد.

لكن، ما هي "الجاذبية"، بحسب نظرية "النسبية العامة" لآينشتاين؟

إنَّها "الفضاء إذا انحنى"، أو "انحناء الفضاء"، أو "ما يعتري حركة الأجسام من تغيير بسبب انحناء الفضاء".

تأمَّلوا جيِّداً معاني هذا التعريف لـ "الجاذبية"، فتتوصَّلوا إلى استنتاج مؤدَّاه "أنْ لا وجود أبداً للجاذبية إذا لم يكن من وجود للفضاء نفسه"؛ فكيف لها أنْ تُوْجَد (وأنْ تكون "مُطْلَقَة") إذا لم يكن من وجود لفضاءٍ، ولانحناءٍ في هذا الفضاء؟!

إنَّ "النقطة (الكونية)" هي في معنى من معانيها، التي يشتمل عليها مفهومها الذي أسَّسوه، "انعدام الفضاء"؛ و"الجاذبية"، على ما بِتْنا نَعْرِف، تَفْتَرِض "وجود الفضاء"؛ ثمَّ "انحناء" هذا الفضاء.

إذا ظلُّوا يقولون بـ "نقطة (كونية)" لا وجود فيها لـ "الفضاء" فإنَّ عليهم أنْ يقولوا، في الوقت نفسه، وإذا ما أرادوا لفكرهم أنْ يتوافَق منطقياً مع نفسه، بـ "عدم وجود الجاذبية" في هذه النقطة؛ لأنَّ "الجاذبية" و"انحناء الفضاء" صنوان.

إنَّ عليهم أنْ يقولوا إنَّ "نقطتهم (الكونية)" هي في "معنى جديد لها" "الانعدام المُطْلَق للجاذبية" لا "الجاذبية المُطْلَقَة".

عندما يُسْأل أصحاب نظرية "الانفجار الكبير" عن وجود الزمن قبل "الانفجار"، يجيبون قائلين: إنَّنا لا نعرف الحالة التي كان عليها الكون عند "الانفجار"، أو قبله. إنَّ الإجابة عن هذا السؤال ليست ممكنة؛ لأن لا وجود للزمن حتى يصح استعمال كلمة "قَبْل"، فـ "قَبْل" إنَّما هي "ظرف زمان"، ولا وجود لـ "ظروف الزمان" ما دام الزمن نفسه غير موجود. إنَّ السؤال نفسه يصبح خاطئاً، وإنَّ من الخطأ، من ثمَّ، أن تسأله!

خَلْقُ "الانفجار الكبير" لـ "الفضاء" قادهم إلى القول بخلقه لـ "المادة" أيضاً، وفي اللحظة عينها؛ فالفضاء والمادة إنْ وُجِدا فيجب أنْ يُوْجدا معاً.

لقد قالوا أوَّلاً بخلق، وبوجوب خلق، "الانفجار الكبير" لـ "الفضاء"؛ ولكن، هل يمكن أنْ يُوْجَد فضاء إذا لم تكن "المادة" قد وُجِدَت، أو خُلِقَت، بعد؟

عن هذا السؤال أجابوا "كلاَّ، لا يمكن"، فكان "الحل" هو القول بخلق "الانفجار الكبير" لـ "الفضاء" و"المادة" معاً، أي في اللحظة عينها، فـ "الانفجار الكبير" هو، في معتقدهم، القوِّة المولِّدة للزمان والفضاء.. والمادة من رحم النقطة الكونية المتفرِّدة Singularity.

إنَّكَ يكفي أن تقول إنَّ "الزمن" قد خُلِق بـ "الانفجار الكبير" حتى لا تَجِدَ مهرباً من أنْ تقول، أيضاً، إنَّ هذا "الانفجار" هو "الله"؛ لأنَّ هذا "الانفجار" قد خَلَق "المادة كلها" من العدم، فليس من وجود للمادة إذا لم يكن من وجود للزمن.

القول بخلق الزمن إنَّما هو نفسه، لجهة المعنى، القول بخلق المادة، فإذا لم تخلق المادة من مادة قبلها، فهذا إنَّما يعني أنَّها قد خلقت من العدم؛ وليس من "قوَّة" تخلق شيئاً من لا شيء سوى "الله"، في الدين، أيْ "الانفجار الكبير"، في الفيزياء، أو الكوزمولوجيا!

أنتَ لا تستطيع أن تسأل "ماذا كان يُوْجَد قبل الانفجار الكبير، أو قبل البيضة الكونية؟"؛ لأنَّ الزمن لم يكن قد خُلِق بَعْد؛ ولكنَّكَ تستطيع أن تسأل السؤال نفسه إذا ما كان جوابكَ هو الآتي: "كان يُوْجَد الله"!

لا تَقُلْ أبداً "إلى الأبد"، فالزمان نفسه، على ما يزعمون، ليس بالأبدي؛ وإنَّ له عُمْراً، فهو وُلِدَ، ولسوف يموت، مهما عَمَّر.

إنَّ من السُخْف بمكان أن تَسْتَعْمِل "ظروف الزمان" في سؤالكَ عن أشياء وأحداث وُجِدَت، أو وقعت، قبل خَلْق "الانفجار الكبير" لـ "الزمان"، كأن تسأل "ماذا كان يُوْجَد قبل هذا الانفجار؟"؛ ولكن ليس من السُخْف في شيء إذا ما سألْتَ السؤال السخيف الآتي: "كم عُمْر الزمان؟"!

ولو سألْتَ أحدهم عن عُمْر الزمان لأجابكَ على البديهة قائلاً: "الزمان هو الآن في طور الشباب؛ إنَّ عُمْره 13.7 بليون سنة"!

كل مادة إنَّما تُوْجَد من مادة موجودة من قبل؛ و"الفيزياء" إنَّما هي "القول بخلق المادة من مادة (قَبْلية)"؛ أمَّا "الميتافيزياء" فهي "القول بخلق المادة من العدم"، وإنْ ألْبَسَ أصحاب نظرية "الانفجار الكبير" قولهم هذا لبوس مفردات وعبارات فيزيائية.

الكون، عند ولادته، لم يكن بحجم حبَّة "غريب فروت"؛ لقد كان في حجم يقل ببلايين المرَّات عن حجم نواة ذرَّة الهيدروجين؛ وهذا "الكون الوليد" سرعان ما تمدَّد بسرعة تزيد مرَّات عدة عن سرعة الضوء، وفق حساباتهم.

"البيضة الكونية" ليست بشيء (ليست بجسم أو جسيم) له "كتلة". إنَّها ليست كـ "الإلكترون"، أو "الكوارك"، أو "البروتون". إنَّها "طاقة" Energy تحوَّلت إلى "جسيمات" عند "الانفجار الكبير"؛ فانحناء، أو تقوُّس، الفضاء هنا، أي في "البيضة الكونية"، هو الذي زوَّدها "طاقة"، تحوَّلت، عند وقوع هذا الانفجار، إلى "جسيمات (مادية متضادة)".

هذا بعضٌ من الوصف، أو التعيين، لـ "البيضة الكونية"، بحسب بعض القائلين بنظرية "الانفجار الكبير" مِمَّن كانت لديهم الجرأة للتحدُّث عن هذا الشيء الذي كان موجوداً "قبل" وقوع "الانفجار الكبير".

ليس مهمَّاً أن يقولوا إنَّ تلك "البيضة" لم تكن على هيئة شيء له "كتلة"، أو أنَّها كانت من "الطاقة الخالصة"، فالمهم هو أن يفسِّروا لنا، ويعلِّلوا، "انحناء الفضاء" في "البيضة الكونية".

إذا قُلْنا إنَّ "البيضة الكونية" التي كانت موجودة هناك "قبل" وقوع "الانفجار الكبير" اتَّسَمَت بـ "انحناء فضائها (انحناءً لا مثيل له لجهة شدَّته)"، فكيف يمكننا، بعد ذلك، أنْ نقول إنَّ "الانفجار الكبير" هو الذي خَلَق الفضاء؟!

إنَّ "الفضاء المنحني" هو أيضاً "فضاء"، فإذا كانت "البيضة"، "قبل" وقوع "الانفجار"، ذات "فضاء منحنٍ (انحناءً في منتهى الشِدَّة أو القوَّة)"، فليس من المنطق في شيء أنْ يُزْعَم، بعد ذلك، وبسبب ذلك، أنَّ "الانفجار" هو الذي خَلَق "الفضاء (والمكان)".

أمَّا إذا قلنا إنَّ "البيضة" لم تكن بشيء على هيئة "كتلة"، وإنَّها كانت من "الطاقة الخالصة" فحسب، وإنَّ "الانفجار" هو الذي خَلَق "الفضاء (والمكان)"، فكيف يمكننا، عندئذٍ، تفسير وتعليل وجود هذه الطاقة المركَّزة تركيزاً لا مثيل له، لجهة شدَّته، مع الزعم، في الوقت نفسه، بأن لا وجود بَعْد لـ "فضاءٍ" حتى ينحني، ويتقوَّس، حَوْل هذه "البيضة الطاقيَّة"؟!

هل يحتالون، في إجابتهم، فيزعمون، مثلاً، أنَّ "الفضاء" يُوْلَد أوَّلاً، ثمَّ ينحني حَوْلَ "الكتلة"، أو "الطاقة شديدة التركيز".. وأنَّ "الطاقة الخالصة المركَّزة" في "البيضة الكونية" يمكن أن تُوْجَد حتى "قبل" وجود الفضاء نفسه؟!

آينشتاين، في "النسبية العامة"، لم يتحدَّث عن "استحالة واحدة"، وإنَّما عن "استحالتين اثنتين"، فإذا كان "الفضاء بلا مادة (أي بلا كتلة وطاقة)" هو شيء مستحيل الوجود، فإنَّ وجود "طاقة مركَّزة تركيزاً شديداً"، في تلك "البيضة"؛ ولكن بلا فضاء، لا يقل استحالة!

والاستنتاج الذي لا مفرَّ منه، بحسب "النسبية العامة" لآينشتاين، هو الآتي: لا وجود لـ "المادة" حيث لا وجود لـ "الزمان" و"المكان"، في وحدتهما التي لا انفصام فيها أبداً؛ ولا وجود لـ "الزمان" و"المكان" حيث لا وجود لـ "المادة".

الجاذبية هي التي باشتدادها "يتقلَّص" المكان، و"يتمدَّد"، أي يبطؤ، الزمان. والمكان الذي في منتهى التقلُّص هو أيضاً مكان؛ والزمان الذي في منتهى التمدُّد هو أيضاً زمان. المكان الذي في منتهى التقلُّص هو أحد أشكال وصور المكان؛ والزمان الذي في منتهى التمدُّد هو أحد أشكال وصور الزمان. وعليه، نقول "المكان الأكثر تقلُّصاً"، ويجب، من ثمَّ، ألاَّ نقول "المكان الصفري"؛ ونقول "الزمان الأكثر تمدُّداً"، ويجب، من ثمَّ، ألاَّ نقول "الزمان الصفري".

إنَّهم يحارون، ويختلفون، في ماهيته "البيضة الكونية"؛ فهل ينظرون إليها على أنَّه "ثقب أسود"؟

إنَّ بعضهم يجيب بـ "لا" قاطعة، معتبراً أنَّ النظر إلى "البيضة الكونية" على أنَّها "ثقب أسود" ليس من المنطق في شيء.

تلك "النقطة (أو "البيضة")" Singularity التي منها انبثق الكون بقوَّة "الانفجار الكبير"، ليست بـ "ثقب أسود"؛ لأنَّ ضآلة "نصف قطرها" لا تتناسب مع عِظَم كتلتها، فكيف لـ "نقطة" تشتمل على كل كتلة الكون أن تكون على هيئة "ثقب أسود" إذا ما كان "نصف قطرها" على هذا القدر من الضآلة والصِغَر؟!

وكيف لنصف قطر الكون، إذا ما كان "ثقباً أسود"، أن يتَّسِع من غير أن تزداد كتلته؟!

يقولون، وبحسب "النسبية العامة" على ما يزعمون، إنَّ الزمن نفسه، والفضاء نفسه، قد خُلِقا بـ "الانفجار الكبير". عندما وَقَعَ هذا "الانفجار" كانت عقارب ساعة الكون متوقِّفة تماماً عن الحركة، وكان "المكان" في منتهى الضآلة، وكأنَّه غير موجود. ومع تمدُّد الكون، وازدياد وتسارُع تمدُّده شرع الزمان يتقلَّص، أي أنَّ عقارب الساعة الكونية شرعت تتحرَّك، وبسرعة متزايدة. وشرع المكان يتمدَّد.

لو أنَّ مراقباً في خارِج كوننا شاهد هذا المشهد لقال إنَّ الساعة الكونية كانت متوقِّفة تماماً عن الحركة؛ ولكن هل يقول الشيء نفسه مراقِبٌ في داخل الكون، وعند وقوع "الانفجار الكبير"؟

كلاَّ، لن يقول ذلك، فهو يرى أنَّ الساعة الكونية في حركة مستمرة منتظَمة، لا تتباطأ عقاربها، ولا تتسارَع.

تخيَّل أنَّ كوكب الأرض تحوَّل إلى "ثقب أسود"، فهل يرى سكَّانه توقُّف عقارب الساعة الأرضية عن الحركة تماماً؟

هل يروا المكان وقد اختفى؟

كلاَّ، لن يروا هذا، ولا ذاك.

وتخيَّل أنَّ كوكب الأرض تحوَّل، بعد ذلك، من "ثقب أسود" إلى جرم يزداد حجمه في استمرار، فهل يرى سكَّانه أي اختلاف في الزمان والمكان؟

كلاَّ، لن يروا.

إنَّ "انعدام" الزمان والمكان والفضاء في "البيضة الكونية" هو ظاهرة لا يراها إلاَّ مراقِب في خارج كوننا، أي في "نظام مرجعي آخر"، يسمح له برؤية هذا "الانعدام".

إنَّ التاريخ الواقعي والحقيقي للكون، والذي تَضْرِب عنه صفحاً نظرية "الانفجار الكبير" مع مؤسِّسيها ومطوِّريها وأنصارها، إنَّما يُثْبِت ويؤكِّد أنْ لا مادة يمكن أنْ تُوْجِد إلاَّ من مادة وُجِدَت من قبلها.

"الثقب الأسود" في تصوُّرٍ آخر!

ليس من نظرية (أو مفهوم) أَفْسَد، ويُفْسِد، "عِلْمية" نظريتيِّ "الانفجار الكبير (Big Bang)" و"الثقب الأسود (Black Hole)"، ويَرْفَع فيهما منسوب "المثالية" و"الميتافيزيقيا"، أكثر من نظرية "النقطة المُفْرَدَة الفَريدة (Singularity)"، التي منها انبثق الكون، بقوَّة "الانفجار الكبير"، أو التي تَكْمُن في قَلْب "الثقب الأسود"، مهما كان حجمه، أيْ مهما كان طول "نصف قطره".

وما يزيد الطِّين بلَّة أنَّ هذه النظرية ("النقطة المُفْرَدَة") لا مُسوِّع، أو مُبرِّر، لها في الفيزياء، وقوانينها، ولا في سائر علوم الكون؛ فأين هو "القانون الفيزيائي" الذي يسمح لنا بافتراض أنَّ "انهيار المادة (ومهما كانت كتلتها) على نفسها (ومهما كان سبب الانهيار)" يمكن أنْ يستمر، وصولاً إلى "نقطة عديمة الحجم، مُطْلَقَة (لا نهائية) الكثافة"؛ ولعلَّ هذا هو ما يَدْعو القائلين بتلك "النقطة" إلى افتراضٍ آخر هو أنَّ قوانين الفيزياء جميعاً "تنهار" هي أيضاً مع هذا "الانهيار (للمادة على نفسها)"، ويغدو أمْراً مستحيلاً، من ثمَّ، فَهْم وتفسير وتعليل "النقطة نفسها"، مع كل ما تَشْتَمِل عليه، وتتضمنه، من طريق قوانين الفيزياء؛ وكأنَّ "النقطة" تنتمي إلى عالَم "ما وراء الطبيعة"، الذي لا يُدْرِكه عَقْل أو عِلْم، أو هي "البِنْت الفيزيائية" التي "أُمها الفلسفية" هي مقولة "الشيء في ذاته (Ting in itself)" للفيلسوف كانط!

أوَّلاً، دَعُونا نجتهد في إجابة السؤال الآتي: "هل من وجود لجسم (في الكون) سرعة الإفلات من سطحه (أيْ من الجاذبية عند سطحه) تَعْدِل (أو تَفُوق) سرعة الضوء (300 ألف كم/ث تقريباً)؟".

إنَّ "النجم الأعظم كتلةً (في الكون كله)" لا يمكنه أبداً أنْ يَحْتَجِز، أو يأسِر، الضوء، أو جسيم "الفوتون"؛ فمهما كانت الجاذبية عند سطحه شديدة وقوية فليس مُمْكِناً أنْ تَعْدِل سرعة الإفلات (من سطحه) سرعة الضوء (فإنَّها دائماً، ومهما عَظُمَت، تظلُّ دون سرعة الضوء).

لكنَّ جسماً يَعْدِل الشمس، أو كوكب الأرض، أو القمر، أو جزيء الماء، كتلةً، يمكنه أنْ يَمْنَع الضوء من الإفلات منه، أو من سطحه، إذا ما زِدْنا، ومضينا قُدُماً في زيادة، "كثافته"، من طريق تقليص "حجمه"، أيْ من طريق تقصير "نصف قطره"؛ فإنَّ تركيز كتلته في حيِّز من الصِّغَر والضآلة بمكان، وبما يَجْعَل "نصف قطره" من الصِّغَر والضآلة بمكان أيضاً، هو وحده ما يسمح بجعل الجاذبية عند سطحه أقوى وأشد وأعظم من أنْ يتمكَّن الضوء من التغلُّب عليها، والإفلات (من ثمَّ) من سطح هذا الجسم، الذي ما عاد  كأصله، ماهيةً ونوعاً وخواصَّ.

وحتى تتحوَّل شمسنا إلى جسمٍ بهذه الخاصية (أيْ إلى جسمٍ يمنع الضوء من الإفلات من سطحه) لا بدَّ لكتلتها من أنْ تتركَّز في حيِّز على هيئة كُرَة، نصف قطرها 3  كم؛ وكلَّما كانت "الكتلة" أعظم زاد "نصف القطر" هذا.

انهيار مادة، أو كتلة، نجم ضخم على نفسها إنَّما يُعْزى إلى "اشتداد ساعِد الجاذبية الباطنية" للنجم؛ وهذا "الاشتداد" يُعْزى إلى تضاؤل "القوى المضادة (في داخل النجم)" لهذه الجاذبية، أيْ القوى التي تُقاوِم وتَكْبَح وتُوازِن الانهيار، الذي هو دائماً العاقبة الحتمية لاشتداد الجاذبية، التي هي دائماً شَدٌّ (أو سَحْبٌ) للمادة إلى الداخل، أيْ نحو "المركز"؛ وكلَّما نَفَد الوقود النووي للنجم (والهيدروجيني في المقام الأوَّل) ضَعُفَت القوى المقاوِمة والكابِحة والموازِنة لانهيار مادته على نفسها (واشتدَّ، في الوقت نفسه، ساعِد الجاذبية).

"المادة" هي في مَيْلٍ دائمٍ (فِطْريٍّ) إلى "الانهيار على نفسها"؛ لكنَّ هذا "الانهيار"، ومهما كان عظيماً أو ضئيلاً، لا يمكن فهمه وتفسيره إلاَّ على أنَّه النُّتاج الحتميِّ لتغلُّب "الجاذبية" على "قوى مضادة لها"؛ وهذه "القوى"، ومهما اختلف نوعها ولونها وشكلها، تُلازِم دائماً الجاذبية، فهي والجاذبية في وحدة لا انفصام فيها أبداً؛ وهذه الوحدة هي وحدة "ضدَّيْن في صراعٍ دائم لا يتوقَّف".

"الانهيار" ليس نُتاجاً للجاذبية وحدها، أيْ ليس نُتاجاً لـ "جاذبية خالصة مُطْلَقة"، تعيش وتعمل وحدها، بلا قوى مضادة لها، تُقاوِمها وتَكْبحها وتُوازِنها. إنَّه، أيْ "الانهيار"، نُتاجٌ (حتمي) لـ "تَغَلُّب الجاذبية (في الصراع وبالصراع) على قوَّة ما مضادة لها"؛ فثمَّة شروط لـ "الانهيار"، هي: وجود القوى المضادة للجاذبية، والمقاوِمة لها؛ واشتداد الصراع بينها وبين الجاذبية؛ وتَغَلُّب الجاذبية (من ثمَّ) على هذه القوى؛ وبقاء هذه القوى بعد تَغَلُّب الجاذبية عليها، أيْ عدم فنائها؛ فكلا الطرفين لا يبقى إذا ما فَنِيَ الآخر.

وهذا إنَّما يعني أنَّ "انهيار المادة على نفسها" لا يمكن أنْ يستمر (مهما اشتدَّ ساعِد الجاذبية) إلى ما لا نهاية، أيْ لا يمكن أنْ يستمر، وصولاً إلى تلك "النقطة (Singularity)"؛ فلا بدَّ له من أنْ يُكْبَح ويُوْقَف ويُوازَن في آخر المطاف؛ ولا ريب في أنَّ هذا النمو (المتعاظِم) للجاذبية (أو لـ "انحناء الزمكان") هو الذي يُنْتِج (ويُنمِّي) في آخر المطاف القوى الكابحة والمُوازِنة له؛ فالمادة كلَّما ضُغِطَت اشتدت صعوبة ضغطها.

وهذا "التوازُن (النهائي)" يُنْتِج، أو قد يُنْتِج، "ثقباً أسود"، أو ما يشبه "الثقب الأسود"؛ لكن بماهية وخواص مختلفة عن ماهيته وخواصه المعروضة في نظرياته الشائعة؛ فلو تحوَّلت شمسنا، بكتلتها، إلى "ثقب أسود"، نصف قطر كُرَتِه 3 كم، لكانت ثمرة هذا التحوُّل نشوء جسمٍ لا يستطيع حتى الضوء الإفلات من سطحه.

لكنَّ هذا "الجسم الكروي" لا يشتمل في مركزه على تلك "النقطة عديمة الحجم، مُطْلَقَة الكثافة"، والتي بينها وبين "السطح (أو "أُفْق الحدث")" فراغ، أو "فضاء فارغ (Empty space)". إنَّه جسم، وإنْ كنَّا نجهل ماهية وخواص مادته، له حجم ضئيل، وكثافته هائلة، ونواته هي الأشد كثافة، وليس من "فضاء فارِغ" بين "نواته" و"سطحه"، وله هو أيضاً "زمكانه"؛ فـ "المكان" فيه، وبأبعاده الثلاثة، يتضاءل؛ لكن لا ينعدم أبداً؛ و"الزمان" فيه يبطؤ كثيراً (من وجهة نظر مراقب في خارجه) لكنَّه لا ينعدم أبداً.

هذا جسم، وبسبب "كثافته العظمى (لا المُطْلَقَة)"، لا يستطيع حتى الضوء الإفلات من الجاذبية عند سطحه؛ وهذا الذي نقول، ونقول به، لا يتعارَض، أو ربَّما لا يتعارَض، مع نظرية "إشعاع هاوكينج"، ولو من حيث الجوهر والأساس؛ فـ "الثقب الأسود" يمكن، لا بلْ يجب، أنْ "يتبخَّر" من طريق "إشعاع هاوكينج"، أو من طريق أخرى.

لا نَعْرِف مِمَّا يتكوَّن هذا الجسم؛ لكن، هل ثمَّة ما يمنع من افتراض أنَّه يتكوَّن من مادة من خواصها الجوهرية أنْ لا ضوء ينبعث منها؟!

إنَّ الضوء لا ينبعث من هذا الجسم؛ لأنَّه لا يستطيع الإفلات من الجاذبية الهائلة عند سطحه، أو لأنَّ هذا الجسم يتكوَّن من مادة لا ينبعث منها ضوء.

كَوْنٌ أم أكوان؟
هل من وجود لكون آخر، أو لأكوان أخرى؟

القائلون، أو بعضٌ من القائلين، بنظرية "الانفجار الكبير"، يعتقدون بإمكانية وجود كون آخر، أو أكوان أخرى. وهُمْ في تصوُّرِهم لهذه الإمكانية يأتون بمثال "ماءٍ يغلي فتَظْهَر فيه فقاقيع".

والكون الآخر، بحسب تصوُّرهم المؤيَّد بهذا المثال، هو "فُقَّاعة"، أو "نُفَّاخة"، تَظْهَر، أو تنشأ، من "لا شيء"، أو من "الفراغ" Vacuum، فتتمدَّد وتَكْبُر، فتنفقيء (أو تختفي، أو تزول) سريعاً. وإنَّ "فقاقيع"، أو "أكوان"، تنشأ، أو تُخْلَق، في استمرار، من "لا شيء".

وكثيرٌ من هذه "الأكوان (أو الفقاقيع)" لا يدوم إلاَّ زمناً قصيراً؛ وكلٌّ منها جاء به إلى الوجود "انفجار كبير" Big Bang؛ ولكنَّه سرعان ما أخرجه من الوجود (أي أعاده إلى الفراغ Vacuum الذي منه جاء) حادث آخر هو "الانسحاق الكبير" Big Crunch. وهذا إنَّما يعني أنَّ حادث "الانفجار الكبير" قد حدث من قبل غير مرَّة، ولسوف يظل يحدث دائماً وفي استمرار.

ولكن، مِمَّ تتألَّف تلك الأكوان الأخرى؟

إنَّ كثيراً منها يتألَّف، على ما يقولون، من "بحرٍ من جسيمات الإلكترون والنيوترينو والفوتون".

وكل كون، وبحسب بعض من تعريف "الكون"، لا بدَّ له من أن يكون منفصلاً انفصالاً فيزيائياً مُطْلَقاً عن سائر الأكوان، وله "زمكانه" الخاص به.

ومع أنَّ مثال "الفقاقيع التي تَظْهَر في الماء عندما يغلي" يخلو تماماً مِمَّا يشير إلى ما يشبه خَلْقاً للمادة من العدم، الذي يسمُّونه أحياناً "لا شيء"، أو فراغ Vacuum، فإنَّهم يأتون به لإظهار وتوضيح فكرة "خلق أكوان (فقاقيع) من لا شيء"!

لقد تصوَّروا تلك الأكوان، أو بعضها، على أنَّها تتألَّف من بحرٍ من بعض الجسيمات"، التي منها "الإلكترون"، وهو من الجسيمات الأوَّلية (أو الأساسية) التي لها كتلة.

ونحن لو أمعنا النظر في هذا التصوُّر لتأكَّد لنا أنْ لا سند له حتى في ما يسمَّى "عملية إشعاع هوكينغ"، والتي لا يُسْتَنْتَج منها، أي من النظرية التي تتحدَّث عنها وتشرحها، أنَّ "الخرق المؤقَّت (غير المحسوس)" لقانون "حفظ المادة" يمكن أن يغدو "دائماً (وظاهراً)".

في "الفضاء الفارغ"، أو الفراغ Vacuum، تُخْلَق، في استمرار، "أزواجٌ من المادة والمادة المضادة"، كالإلكترون والبوزيترون. ولكنَّ هذه الأزواج تختفي من الوجود سريعاً، وقبل أن يلحظها، أو يشعر بها، قانون "حفظ المادة". إنَّها جسيمات متضادة "غير حقيقية". إنَّها "شبحية"، أو "طيفية"، تشبه "الظلال"، ولا تظل على قيد الحياة إلاَّ زمناً متناهياً في الضآلة.

في حالة واحدة فحسب، يمكن أن يتحوَّل أحد الجسيمين (الشبحيين) المتضادين إلى جسيم "حقيقي"، هي أن يظهر هذان الجسيمان على مقربة من "ثقب أسود".

في هذه الحالة، قد يسقط أحدهما في عمق "الثقب الأسود"، بسبب جاذبيته الهائلة، فيكتسب الجسيم الآخر (الذي بقي في الخارج) مقداراً من طاقة هذا "الثقب الأسود"؛ وبفضل هذا المقدار من الطاقة يتحوَّل الجسيم الشبحي الذي بقي في الخارج إلى جسيم "حقيقي"، أي إلى جسيم له كتلة، من غير أن يطرأ أي تغيير (زيادة أو نقصان) على مقدار المادة الكلِّي في الكون.

وفي نظرية "الفقاقيع"، أو في طريقة خَلْق "الفقاقيع (أو الأكوان الأخرى)"، ليس ثمَّة ما يوافِق نظرية "إشعاع هوكينغ" في جانبها الخاص بـ "خلق الكتلة"، أو "الجسيم الحقيقي".

إنَّهم، في نظرية "الأكوان ـ الفقاقيع"، يتحدَّثون عن أكوانٍ تتألَّف من جسيمات كجسيم الإلكترون (الذي له كتلة) وكأنَّهم يتحدَّثون عن خَلْقٍ للمادة من "العدم".

لقد نشأ كوننا بـ "انفجار"، يسمَّى "الانفجار الكبير" Big Bang، فهل حدثت "انفجارات أخرى"، فانبثقت منها "أكوان أخرى"؟

إنَّ "الانفجار" لا يكون مُنْتِجاً لـ "كون" إلاَّ إذا كان "مُنْتَجَهُ" شيئاً منفصلاً تماماً من الوجهة الفيزيائية، أي لا يتفاعل، ولا يتبادل التأثير، مع أي شيء آخر، أي مع أيِّ كون آخر.

وثمَّة كوزمولوجيون يقولون بفرضية مؤدَّاها أنَّ "انفجارات كونية" كثيرة؛ ولكن أصغر من "الانفجار الكبير"، قد وقعت، فانبثقت منها "أكوان صغيرة".

كوزمولوجيون آخرون يعتقدون الآن بأنَّ "بذور" أكوان أخرى قد بُذِرَت، وتُبْذَر، في "أرض كوننا"، وبأنَّ الأكوان التي نمت، وتنمو، من هذه "البذور" قد انفصلت نهائياً عن كوننا، أي عن "الكون الأُم"، فليس ممكناً الاتِّصال بينها وبين كوننا. إنَّها أكوان لا يمكن أبداً ملاحظتها، أو اكتشافها، أو رؤيتها، وكأنَّها غير موجودة بالنسبة إلينا.

الكون، كل الكون، كل شيء، إنَّما يقع على "السطح" من البالون الكوني الضخم. كل ما يقع على هذا السطح يمكننا الاتِّصال به، والتفاعل وتبادل التأثير معه. كل ما لا يقع على هذا السطح ليس بجزء من كوننا، فلا يمكننا أبداً الاتِّصال به، أو التفاعل وتبادل التأثير معه.

الكون، وفي هذا المعنى، يجب أن يكون واحداً موحَّداً. ولكن، هل معنى هذا أنَّ "الشيء الموجود" هو فحسب الشيء الذي يمكننا الاتِّصال به، والتفاعل وتبادل التأثير معه؟

كلاَّ، فثمَّة، على ما أعتقد، أشياء، ومنظومات ونُظُم كونية، لا يمكننا أبداً الاتِّصال بها، أو التفاعل وتبادل التأثير معها؛ ومع ذلك فهي موجودة موضوعياً، فكل ما يمكننا الاتِّصال به إنَّما هو شيء موجود بالفعل؛ ولكن ليس كل ما هو موجود بالفعل يمكننا الاتِّصال به.

كل ما يؤثِّر فينا فيزيائياً يجب أن يكون موجوداً؛ ولكن ليس كل ما هو موجود (وجوداً حقيقياً، فعلياً، موضوعياً) يجب أن يؤثِّر فينا فيزيائياً، فالموجود من المادة، أو من العالم المادي، على نوعين: نوع يؤثِّر فينا فيزيائياً، ونوع لا يؤثِّر (أو لا يمكنه أبداً أن يؤثِّر) فينا فيزيائياً.

إنَّ عجزي الموضوعي (والفيزيائي) عن الاتِّصال بشيء ما لا يعني، ويجب ألاَّ يعني، أنَّ هذا الشيء ليس بموجود فعلاً. إنَّه موجود فعلاً؛ وإن كنتُ لا أملك من دليل محسوس على وجوده.

الكون من وجهة نظر فلسفية

"المستحيل" هو ما لا يُمْكِن وقوعه، أو حدوثه، أو تحقُّقه، أو ما لا يُمْكِن وجوده؛ ونقول في الشيء الذي لا يُمْكِن أبداً حدوثه، أو وجوده، "هذا من رابع المستحيلات"؛ فـ "المستحيلات"، عند العرب، كانت ثلاثة هي "الغول" و"العنقاء" و"الخِلُّ الوفي".

البشر، ومن طريق التجربة (العملية) والممارَسة، تعلَّموا أمْراً في منتهى الأهمية ألا وهو "أنْ ليس كلُّ شيءٍ مُمْكِناً"؛ فهذا أمْرٌ يُمْكِن أنْ يتحقَّق (أيْ أنْ يصبح حقيقة واقعة، أو يتحوَّل من إمكانية واقعية إلى واقع) وذاك أمْرٌ لا يُمْكن أنْ يتحقَّق "أبداً"، أو "الآن" على الأقل.

واكتشاف "أنْ ليس كل شيء مُمْكِناً" يعني، أيضاً، "أنْ ليس كل ما يريده الإنسان، أو يرغب فيه، يُمْكِن أنْ يتحقَّق"؛ وهذا الاكتشاف المشتق من الاكتشاف الأوَّل، أو الأُم، يَفِيد في شَرْح وتبيان جوهر الصِّلة بين "الذَّات" و"الموضوع"؛ ويكفي أنْ نتمثَّل جوهر الصِّلة هذه حتى نَجْعْل مقولة "الحُرِّيَّة هي وعيُ الضرورة" تقودنا في "الممارَسة".

و"المستحيل" يَكْمُن في معنى عبارة "ليس كل شيء مُمْكِناً"؛ فأنتَ يكفي أنْ تقول (أيْ أنْ تُؤمِن وتَعْتَقِد) بأنْ ليس كلُّ شيءٍ مُمْكِناً حتى تقول، أيضاً، بـ "المستحيل" من الأشياء (أيْ المستحيل حدوثاً، أو المستحيل وجوداً).

وإنِّي لأرى "مستحيلات ثلاثة" غير تلك التي كانت عند العرب، أو قال بها العرب؛ وهذه "المستحيلات" التي أراها هي: "استحالة خَلْق (أو أنْ تأتي) المادة من العَدَم"، و"استحالة خلقها بالوعي"، و"استحالة بقاء الشيء (أيُّ شيء) على ما هو عليه".

"المستحيل الأوَّل" ليس بالأمْر الذي يَسْهُل على المُؤمِن به (أو عليَّ، بصفة كوني من المؤمنين به) جَعْل غيره مُؤمِناً به؛ وهذا الاستصعاب له أسبابه التي في مقدَّمها، وأهمها، على ما أرى، أنَّ مفهوميِّ، أو مقولتيِّ، "المادة" و"العَدَم" ليسا واضِحَيْن (فيزيائياً وفلسفياً) بما يكفي لجَعْلِ "الآخر"، وما أكثر "صُوَرِه"، مُؤمِناً بـ "استحالة خَلْق المادة من العَدَم".

إنَّكَ، وإذا ما كنتَ "مادِّيَّاً"، لا تستطيع أنْ تُقْنِع "الآخر" بـ "استحالة خَلْق المادة من العَدَم" قَبْل أنْ تجيبه عن سؤاليْن: "ما هو هذا الذي لا يُمْكِن خَلْقه من العَدَم؟"، و"ما هو هذا الذي لا يُمْكِن خَلْق المادة منه؟".

من "الملاحَظَة"، ومن "التجربة العملية" أيضاً، توصَّل الإنسان إلى "الفكرتين المثاليتين الكبيرتين": "فكرة خَلْق المادة من العَدَم"، و"فكرة خَلْقها بالوعي".

لقد لاحَظَ البشر أنَّ كلَّ شيءٍ "ينشأ"، أيْ له "لحظة نشوء"، وأنَّ كل ما ينشأ "يزول" حتماً، أي أنَّ لكل شيء "لحظة زوالٍ" أيضاً.

لا ريب في صِحَّة هذه "الملاحَظَة"؛ لكنْ لا ريب، أيضاً، في خطأ الاستنتاج الذي توصَّلوا إليه من تلك "المُقدِّمة الصحيحة".

البشر فَهِموا "العالَم المادي" على أنَّه "شيءٌ كسائر الأشياء"، فقالوا، من ثمَّ، بـ "نشوئه (وزواله)"؛ فإذا كان لكل شيء "لحظة نشوء" و"لحظة زوال"، فلا بدَّ لهذا "الشيء"، المسمَّى "العالَم المادي"، أو "المادة"، من أنْ يكون له هو أيضاً "لحظة نشوء" و"لحظة زوال".

ولسوف أُوْرِد مثالاً بسيطاً، أُوْضِح فيه "الصَّواب" و"الخطأ" في تلك "الملاحَظَة".

هذه "قطعة من الجليد" تحوَّلت إلى "ماء".

في هذا المثال، نرى "نشوءاً"، ونرى "زوالاً"؛ فـ "الماء" نشأ، و"الجليد" زال. لقد كان للماء "لحظة نشوء"؛ وهي عينها "لحظة زوال" الجليد.

وهذا هو "كلُّ الصَّواب" المرئي (حتى الآن) في هذا المثال البسيط.

لكنْ، ثمَّة جوانب من المثال نفسه لم يتوسَّعوا، ولم يتعمَّقوا، في رؤيتها؛ مع أنَّها الأكثر أهميةً.

الماء "نشأ"؛ فهل نشأ من "لا شيء"، أو من "العَدَم"؟

الجليد "زال (في اللحظة نفسها)"؛ فهل زال بما يَجْعَل زواله يَعْدِل "العَدَم" معنىً؟

"نشوء" الماء (في هذا المثال البسيط) إنَّما يعني، فحسب، "التحوُّل"، أيْ "تحوُّل الجليد إلى ماء"؛ و"زوال" الجليد إنَّما يعني "تحوُّله إلى ماء".

إنَّ "التحوُّل" من شيءٍ إلى شيءٍ هو، فحسب، معنى "النشوء" و"الزوال" معاً؛ فأين هو هذا الشيء الذي "نشأ" و"زال" بما يُخالِف هذا المعنى (أيْ معنى "التحوُّل")؟!

وفي هذا "النشوء ـ الزوال"، يكمن "شيء ثالث"، ليس بـ "شيء"؛ وهذا "الشيء الثالث (ثالث الشيئين، في مثالنا، وهما الجليد والماء)" هو "ثابِت التغيُّر"؛ هو "الثابِت في هذا التحوُّل"؛ هو الذي "لم ينشأ، ولم يَزُلْ".

إنَّه "المادة"، التي، وفي هذا المثال، رأيناها في شكلين، هما "الجليد" و"الماء".

و"جزيء الماء" نفسه يمكن أنْ يزول؛ ومعنى "زواله" إنَّما هو أنْ تَحِلَّ محله "ذرَّاتٍ ثلاث (ذرَّتا هيدروجين، وذرَّة أوكسجين) في حالة انفصال".

وفي هذا "التحوُّل (من "اتِّحاد" الذرَّات الثلاث إلى "انفصالها")"، بقي "الثالث"، وهو "المادة"، لا يَعْرِف نشوءاً، ولا يَعْرِف زوالاً.

"المادة" لا تَعْدِل أيَّ شيء؛ لا تَعْدِل أيَّ جسمٍ أو جسيمٍ؛ إنَّها لا تَعْدِل لا "الجليد"، ولا "الماء"؛ لا "جزيء الماء"، ولا "ذرَّات الهيدروجين والأوكسجين"؛ لا "الذرَّة"، ولا "البروتون"، ولا "النيوترون"، ولا "الإلكترون"، ولا "الكوارك"، ولا "النيوترينو"، ولا "الفوتون".

لكنَّها، أيْ "المادة"، هي جوهر كل تلك الأشياء، كل تلك الأجسام والجسيمات؛ هي "المشترَك بينها جميعاً"؛ فلا شيء، لا جسم، ولا جسيم، يمكن أنْ يُوْجَد، أو يظهر إلى الوجود، إلاَّ بصفة كونه "شكلاً (من أشكال لا عدَّ لها، ولا حصر)" لـ "المادة".

كان يكفي أنْ يَفْهَموا "المادة (أو "العالَم المادي")" على أنَّها "شيءٌ بعينه"، كالجليد أو الماء أو الإلكترون أو الكوارك..، حتى يقولوا بـ "نشوئها" و"زوالها"، وحتى يقولوا بـ "اللحظتين": "لحظة نشوء المادة" و"لحظة زوالها".

وبعدما اتَّخذوا من ذلك "مُسلَّمة"، قالوا بـ "العَدَم"؛ فإذا كان لـ "المادة" لحظة نشوء، فلا يُمْكِنها أنْ تنشأ، من ثمَّ، إلاَّ من "العَدَم"!

ومن "التجربة العملية"، وصَلوا إلى "الضلع الثالث" في "مُثَلَّث الخَلْق"؛ فالضلع الأوَّل كان "المادة المخلوقة (من العَدَم)"، والضلع الثاني كان "العَدَم الذي منه خُلِقَت المادة".

ولقد وصَلوا إليه من طريق "التجربة الإنسانية في الخَلْق والإنشاء"؛ فـ "المنزل"، مثلاً، وقَبْل أنْ يصبح حقيقة واقعة، كان على هَيْئَتيِّ "إرادة" و"فكرة"؛ فأنتَ، مثلاً، "أردتَّ" إنشاء (أو خَلْق) منزلٍ لكَ؛ ثمَّ "فكَّرتَ" في هيئته، ومُكوِّناته، وكيف يكون؛ وهذا إنَّما يعني أنَّ "أصل" المنزل كان "إرادة" و"فكرةً".

وتعميماً، قالوا إنَّ "أصل" العالَم المادي كان هو أيضاً "إرادةً"، هي إرادة الخالق، و"فكرةً"، هي فكرته.

البشر يَخْتَرِعون أشياء (أيْ يخلقونها). وإنَّ أحداً لا يُنْكِر أنَّ "المُخْتَرَع (من الأشياء)" كان (قَبْل أنْ يَظْهَر إلى الوجود) فكرة (أيْ "صورة ذهنية") في رأس الإنسان (المُخْتَرِع). وإنَّ أحداً لا يُنْكِر، أيضاً، أنَّ "الاختراع" كان كامناً في "إرادة" المُخْتَرِع؛ فالإنسان "يريد" أوَّلاً "إيجاد" الشيء؛ ثمَّ يُوْجِده (أيْ يتوفَّر على إيجاده وإنشائه وخلقه).

من هذه "التجربة العملية" توصَّلوا إلى أنَّ الشيء المُخْتَرَع هو "النتيجة (المادِّيَّة)" لـ "سبب مثالي"، هو "الفكرة" و"الإرادة"، أيْ فكرة وإرادة الكائن (أو الإنسان) الذي اخْتَرَع.

هذا هو "النِّصْف الأوَّل" من "تصوُّرهم"؛ ولا ريب في صِحَّته؛ لكنَّهم ضَرَبوا صَفْحاً عن "النِّصْف الآخر"؛ وكان ينبغي لهم أنْ يَنْظروا إلى هذا "السبب المثالي (الذاتي)" على أنَّه "نتيجة"، وأنْ يبحثوا عن "سببها المادي" الذي ليس ببعيدٍ عن أبصارهم وبصائرهم.

في "الإرادة"، نقول على سبيل المثال، لقد اخترع الإنسان "آلة للكشف عن الألغام المزروعة المضادة للأفراد" إذ "أراد" ذلك؛ فلتتأمَّلوا هذا المثال جيِّداً.

إنَّ أحداً لا يُمْكِنه إنكار أنَّ "الإرادة"، أيْ إرادة اختراع هذه الآلة، قد سبقت وجود الآلة؛ لكنْ أمعنوا النَّظر في هذه "الإرادة".

قَبْل اختراع "اللغم" هل كان ممكناً أنْ تُوْجَد هذه "الإرادة" عند البشر؟!

وهل كان ممكناً أنْ تُوْجَد قَبْل اشتداد وتعاظُم خطر "الألغام المضادة للأفراد"؟!

هذا "الواقع المادي (الموضوعي)"، بضغوطه المتعاظمة، وبما يُولِّده من حاجات تشتد وتعنف، هو أصل ومنشأ تلك "الإرادة"؛ هو الذي جَعَل البشر "يريدون" اختراع تلك الآلة؛ فـ "الحاجات (المادية) هي أُمُّ هذا الاختراع"؛ و"الحاجة (المادية)" أنتجت "الإرادة" التي أنتجت تلك "الآلة".

و"الفكرة"، أيْ فكرة الشيء المُخْتَرَع، والتي نُظِرَ إليها على أنَّها "السبب المثالي (الذاتي)" للاختراع، هي، أيضاً، مُنْتَج لـ "الواقع المادي (الموضوعي)"؛ فمهما بَحَثْتُم ونَقَّبْتُم في "رأس" الإنسان فلن تعثروا على "فكرة (أو صورة ذهنية)" لا أصل لها في "الواقع المادي (الموضوعي)"؛ فالفكرة إمَّا أنَّها "تُماثِل (أو تُشابِه)" شيئاً موجوداً (من قَبْل) في هذا الواقع، وإمَّا أنَّها "مُركَّبة (بقوَّة الخيال)"؛ لكنَّ كل جزء من هذا "المُركَّب (الفكري)" يُمثِّل شيئاً موجوداً في "الواقع المادي".

إنَّكَ، ومن مصادِر شتَّى في "الواقع المادي (الموضوعي)" كوَّنْتَ "فكرة" المنزل الذي أردت إنشاءه؛ فهذه الفكرة، والتي نَظَرْتَ إليها على أنَّها "السبب المثالي (الذاتي)" لوجود المنزل إنَّما هي مُنْتَج لـ "واقِع مادي (موضوعي) ما".

ولو توسَّعْتَ وتعمَّقْتَ أكثر في النَّظر (ضِمْن المثال نفسه) لوجدتَ أنَّ "فكرة المنزل (وكل فكرة)" لا يمكن أنْ تُوْجَد إلاَّ بوجود "العضو المادي للتفكير"، أيْ دماغ الإنسان الحي؛ ولوجدتَ، أيضاً، أنَّ "صاحب الفكرة" لم يَخْلِق "المنزل" من "العَدَم"؛ فلقد خلقه من "مواد أوَّلية موجودة في الطبيعة".

في هذا المثال، وعلى ما رأيْنا، لا يُمْكِن العثور على ما من شأنه تأييد فكرة "خَلْق المادة من العَدَم"، أو فكرة "خلقها بالوعي".

لكن، ما هي "المادة" التي لا يمكن خَلْقَها من "العَدَم"؟

إنَّنا يكفي أنْ نسعى (فكرياً وعلمياً وفلسفياً) في إجابة سؤال "ما هي المادة؟" حتى نَجِد أنفسنا في مواجهة ما يمكن تسميته "أزمة تعريف".

ونحن لو فكَّرْنا مليَّاً في "ما هو التعريف" لوَجَدْنا أنَّ كل "تعريف" يقوم على صلة بين "الخاص" و"العام"، ننسب فيها (بالضرورة) الخاص إلى العام؛ فما هو (أيْ ما هو تعريف) الإنسان؟

إنَّه حيوان..

وما هي الشمس؟

إنَّها نجم..

وما هو الإلكترون؟

إنَّه جسيم..

وما هو الأوكسجين؟

إنَّه غاز..

هل من "تعريف (لأيِّ شيء)" يشذُّ عن هذه القاعدة، أو الطريقة في "التعريف"؟

كلاَّ، لا وجود له.

إنَّنا نستهل تعريفنا للإنسان بعبارة "إنَّه حيوان"؛ وهذا إنَّما يعني، ويجب أنْ يعني، أنَّ كلَّ إنسان حيوان؛ لكن ليس كل حيوان يجب أنْ يكون إنساناً؛ فـ "الحيوان" مفهوم أعم وأشمل وأوسع.

هل من وجود في الواقع المادي الموضوعي لـ "الحيوان (أيْ للحيوان العام، أو للعام من الحيوان)"؟

كلاَّ، لا وجود له؛ فـ "الحيوان" هو الكامِن في الإنسان والقرد والحمار والأسد..؛ إنَّكَ لا ترى في الواقع "الحيوان"، ولا ترى "الأسد (العام)"؛ فأنتَ إنَّما ترى في الواقع "الفَرْد" من "الأسود"؛ ترى "هذا" الأسد.

في "التعريف المتسلسل"، تقول إنَّ الأسد حيوان؛ وإنَّ الحيوان كائن حي، وإنَّ الكائن الحي كائن، أو جسم؛ وإنَّ الجسم مادة؛ وإنَّ المادة.. ( ؟).

لقد وَصْلنا في "السلسلة" إلى "نهايتها"؛ فليس هناك ما هو أعم وأشمل وأوسع من "المادة" حتى ننسبها إليها.

لا تَقُلْ إنَّ المادة جسماً؛ لأنَّكَ في قولك هذا تخرق القاعدة في تعريف الأشياء؛ ففي "التعريف" ننسب "الخاص" إلى العام"، ولا ننسب (ولا يجوز أنْ ننسب) العام إلى الخاص.

لقد عَرَّفت "الجسم" على أنَّه "مادة"؛ وهذا إنَّما يعني، ويجب أنْ يعني، أنَّ كل جسم مادة؛ لكن هل كل مادة يجب أنْ تكون جسماً؟

كلاَّ، فهناك أشكال أخرى للمادة؛ هناك الجسيمات بنوعيها (الجسيمات التي لها كتلة سكونية، والجسيمات عديمة الكتلة السكونية). وهناك الطاقة، والقوى، والمجال، والمكان، والزمان، والحركة، والفضاء.

أُنْظروا مثلاً إلى "أزمة تعريف المادة" في الفيزياء؛ فالفيزياء عَرَّفت المادة، أوَّلاً، على أنَّها "كل جسم يشغل حيِّزاً، وله كتلة".

لكن المادة تشمل جسيمات أيضاً؛ وتشمل ما ليس له كتلة (سكونية). وإذا كانت المادة هي "كل جسم يشغل حيِّزاً"؛ فما هو "الحيِّز"؟

أليس "الحيِّز" هو "المكان بأبعاده الثلاثة"؟!

أليس "المكان" جزءاً من مفهوم "المادة"؟!

وإذا لم يكن "المكان (الحيِّز)" مادة، أو جزءاً من مفهومها، فماذا يكون؟!

و"أزمة تعريف المادة" رأيْناها، أيضاً، في عبارات فيزيائية من قبيل "المادة تتحوَّل إلى طاقة، والطاقة تتحوَّل إلى مادة"، و"جسيمات المادة، وجسيمات الطاقة".

ومع أنَّهم حسَّنوا عِلْمياً العبارة الأولى، إذ أوضحوا أنَّ "الكتلة" هي التي تتحوَّل إلى "طاقة"، وأنَّ "الطاقة" تتحوَّل إلى "كتلة"، فإنَّ "المادة" تظل (في مفهومها وواقعها) أعم وأشمل وأوسع من "الكتلة" و"الطاقة" معاً.

أنتَ في تعريفكَ للأوكسجين تقول إنَّه غاز..؛ فتأمَّل هذا التعريف؛ ثمَّ حاوِلْ أنْ تُعرِّف "المادة" بما يُوافِق الطريقة نفسها لتعريف "الأوكسجين"؛ فهل تنجح محاولتكَ؟

كلاَّ، لن تنجح؛ لأنْ ليس في الوجود من شيء يشبه "الغاز"، لجهة عموميته، فننسب إليه "المادة"؛ ومع ذلك دَعُونا نتخيَّل (أو نفترض) وجود شيء أعم وأشمل وأوسع من "المادة"، يُدْعى "X".

عندئذٍ، نقول، وينبغي لنا أنْ نقول، إنَّ كل "مادة" يجب أنْ تكون "X"؛ لكن ليس كل "X" يجب أنْ يكون "مادة"؛ ذلك لأنَّ هذا الكائن "X" يشمل، أيضاً، أشياء تختلف "نوعاً عن "المادة"!

إنَّ "المادة"، وفي ما يصلح دليلاً على أنَّها "مُطْلَقَة"، غير قابلة لـ "التعريف" بالمعنى "العِلْمي" لـ "التعريف"؛ لكنَّ عدم قابليتها للتعريف لا يعني أنْ ليس للمادة سماتها وخواصها الجوهرية، أي السمات والخواص التي يجب أنْ تكون موجودة في كل مادة.

والآن، سيسألونكَ، حتماً، عن "الوعي".

أوَّلاً، "الوعي" هو خاصية إنسانية صرف، لا وجود لها إلاَّ في الإنسان بصفة كونه كائناً اجتماعي وتاريخي الماهية.

وهذا "الوعي"، بأشكاله وصوره ودرجاته ومستوياته المختلفة ليس من "جنس المادة"، ليس بـ "مادة" في حدِّ ذاته، وإنْ كان أمْراً مستحيلاً أنْ يُوْجَد وجوداً مستقلاً منفصلاً عن المادة (عن الدماغ، وعن العالم المادي الموجود في خارج الذِّهن البشري).

ودرءاً لسوء الفهم، نقول، ويجب أنْ نقول، إنَّ المادة (أو الطبيعة) لا تَخْلق (لا تُنْتِج) وعياً، ولا تتحوَّل (هي نفسها) إلى وعي.

"المادة (أو الطبيعة)" إنَّما خلقت وأنتجت، في تطوُّرها، "عضو التفكير"، أيْ "الدماغ البشري"، أيْ "مادة مفكِّرة"، أيْ "مادة لديها القدرة على التفكير".

وثمَّة فَرْق، وفَرْق كبير، بين أنْ تقول إنَّ المادة خَلَقَت منها "مادة مفكِّرة"، أيْ لديها "القدرة" على التفكير، وبين أنْ تقول إنَّ المادة خَلَقَت "فكراً"، أو "وعياً"؛ فـ "الفكر"، أو "الوعي"، مع ما يرتديه من "لغة"، إنَّما هو من خَلْق "جماعة بشرية" تَعْمَل، أيْ تستخدم وتصنع "أدوات العمل"، مُحوِّلةً "مواضيع العمل"، في الطبيعة، إلى أشياء تلبِّي لها حاجات مادية مخصوصة.

و"المادة (أو الطبيعة)" لا تتحوَّل، في حدِّ ذاتها، إلى "وعي"؛ كما أنَّ "الوعي، في حدِّ ذاته، لا يتحوَّل إلى "مادة"؛ فـ "التحوَّل" إنَّما هو "تحوُّل شيء إلى نقيضه"؛ و"النقيضان (أو الضدَّان) هما طرفان متَّحِدان اتِّحاداً لا انفصام فيه، ويتصارعان في استمرار، فيُهَيْمِن كلاهما على الآخر، إذا ما تهيَّأت له أسباب الهيمنة".

وبهذا المعنى، لا يمكن النَّظر إلى "المادة" و"الوعي" على أنَّهما "وحدة وصراع ضدَّين"، وإنْ نَظَرْنا إلى "الوعي" على أنَّه شيء ليس من جنس المادة، التي هي، أيضاً، شيء ليس من جنس الوعي.

إذا نحن نظرنا إليهما على أنَّهما "ضدَّان متِّحِدان (اتِّحاداً لا انفصام فيه) ومتصارعان صراعاً مُطْلَقاً" فهذا إنَّما يعني أنْ لا وجود أبداً للمادة بلا وعي.

إنَّ "الوعي" هو "النُتاج غير المادي (المثالي)" لتأثير "الواقع المادي (الموضوعي)" في "مادة مخصوصة"، هي دماغ الإنسان الحي؛ وهذا التأثير يحدث من طريق "الحواس".

و"الوعي"، بهذا المعنى، هو شيء موجود؛ لكن وجوده كوجود "صورة" في "مرآة"؛ فأنتَ، مثلاً، ترى في "المرآة" صورة شجرة تُفَّاح؛ لكنَّ "شجرة التُّفاح نفسها" لا تُوْجَد في "المرآة".

وغنيٌّ عن البيان أنَّ "صورة شجرة التُّفاح" لا تُوْجَد، ولا يمكنها أنْ تُوْجَد، إلاَّ بوجود "شجرة التُّفاح" و"المرآة".

وغنيٌّ عن البيان أيضاً أنَّ "شجرة التُّفاح" موجودة قَبْل وجود "المرآة"، وفي خارج "المرآة"، ولا يتأثَّر وجودها أبداً بوجود (أو بعدم وجود) صورتها في المرآة؛ ولا بدَّ لصورتها من أنْ تتغيَّر بتغيُّر "أصْلِها"، أيْ بتغيُّر شجرة التُّفاح نفسها.

عندما تتفاعَل ذرَّة أوكسجين مع ذرَّتي هيدروجين في طريقة معيَّنة يَنْتُج من هذا التفاعُل "جزيء ماء"؛ فهذا التفاعُل المادي لا يُنْتِج إلاَّ مادة (هي جزيء الماء). أمَّا التفاعل (المادي) بين "الطبيعة" و"الدماغ" فيُنْتِج شيئاً غير مادي، هو "الوعي".

أُنْظُرْ إلى "شجرة التُّفاح" هذه.

لقد أثَّرت تأثيراً (مادياً) معيَّناً بـ "عَيْنِكَ".

وهذا "التأثير" إنَّما هو مادة انطلقت من الشجرة فاخترقت (أصابت) عَيْنِكَ.

وهذه المادة هي جسيمات (فوتونات) تسير بسرعة 300 ألف كم/ث.

ولَمَّا أصابت هذه الجسيمات عَيْنِك تفاعلت معها تفاعُلاً مادياً معيَّناً.

وهذا التفاعل شمل دماغكَ أيضاً.

الجسيمات نفسها لو أصابت ورقة الشجرة لتفاعلت معها في طريقة (مادية) مختلفة، ولرأيْنا نتائج هذا التفاعُل في عملية التمثيل الضوئي.

عَيْن الإنسان والشبكية والأعصاب والدماغ هي أشياء ليست بماهية وخواص ورقة الشجرة حتى نرى نتائج التفاعُل نفسها؛ فالجسيمات نفسها لا تُنْتِج فيك ما يشبه عملية التمثيل الضوئي؛ إنَّها تُنْتِج "صورة ذهنية (لا مادية)" هي "صورة شجرة التُّفاح".

وهذه الصورة (الذهنية، غير المادية، المثالية) موجودة الآن في "وعيكَ (ذهنكَ)"، وإنَّكَ تستطيع استحضارها (و"رؤيتها") إذا ما أغمضت عينيكَ.

ولهذه "الصورة" خاصية جوهرية هي أنَّها (أيْ الصورة) لا يمكن أنْ تُوْجَد في خارج "وعيكَ (أو ذهنكَ)"؛ أمَّا "أصلها"، أيْ شجرة التُّفاح، فيُوْجَد، ويجب أنْ يكون موجوداً، في خارج "وعيكَ"، ومستقلاً عنه (في وجوده، وتغيُّره).

إذا تغيَّر "الأصل" تغيَّرت "الصورة"؛ أمَّا تغيُّر "الصورة" بممحاة الزمن، أو بالخيال، فلا يتسبب بأيِّ تغيير في "الأصل".

وتأثير "الشجرة" في "دماغكَ" على هذا النحو لا يعني أبداً أنَّ الشجرة نفسها قد "تحوَّلت" إلى "فكرة"، أيْ إلى "صورة ذهنية"؛ لكن، هل تتحوَّل "الفكرة" إلى "مادة"؟

كلاَّ، لا تتحوَّل، إلاَّ بالمعنى غير الحرفي؛ فـ "الفكرة" التي في رأسكَ يمكنها أنْ تُحْدِث تغييراً ما في الواقع المادي (الموضوعي) لكن بواسطة "مادة"، بواسطة يدكَ مثلاً، أو بواسطة أداة مادية اخترعتها؛ فالمادة لا تتفاعَل إلاَّ مع مادة، ولا تتغيَّر إلاَّ بمادة؛ و"الفكرة في حدِّ ذاتها"، ومهما كانت قوية وحيوية، لا يمكنها أنْ تُحْدِث أقلَّ وأتفه تغيير في الواقع المادي (الموضوعي).

"المادة"، ولا أقول هذا "تعريفاً" لها، وإنَّما على سبيل التعيين لسمة أو خاصية جوهرية لها، هي "واقع موضوعي"؛ فـ "المادي" يُوْجَد "في خارج" الوعي، ومستقلاًّ عنه (في وجوده وتغيُّره). أمَّا "الوعي" فهو "واقع ذاتي"؛ لأنَّه شيء (على وجوده) لا يُوْجَد "في خارج" المادة، كما لا يُوْجَد مستقلاًّ عنها.

و"المادة" تُوْجَد في أشكال عينية، ملموسة، محسوسة، لا عدَّ لها، ولا حصر؛ وإذا كانت "المادة" الموجودة في كل تلك الأشكال لا تتغيَّر، لا تنشأ، ولا تزول، لا تتحوَّل إلى نقيضها؛ لأنْ ليس لها من نقيض، فإنَّ كل شكل من أشكالها يجب أنْ يتغيَّر، يجب أنْ تكون له لحظة نشوء، ولحظة زوال، يجب أنْ يتحوَّل إلى نقيضه؛ لأنَّ له نقيض، ولأنَّه لا يُوْجَد، ولا يمكن أنْ يُوْجَد، من دون نقيضه.

.. ومن وجهة نظر دينية

يشتمل القرآن على كثيرٍ من الأفكار والتصوُّرات الكونية، فـ "خَلْقُ السَّماوات والأرض وما بينهما" شُرِحَ وفُصِّلَ في كثيرٍ من آياته، التي يُمْكِن أن نتصوَّرها، من ثمَّ، على أنَّها "كوزمولوجيا قرآنية"، وإنْ لَمْ نَعْثُرَ في القرآن على كثيرٍ من المفردات الكوزمولوجيَّة، كمفردات "الكون"، و"الطبيعة"، و"الوجود"، و"الفضاء"، و"العَدَم". وفي سورة "فُصِّلَت"، على وجه الخصوص، نرى من "الآيات الكونية" ما يَصْلُح لاتِّخاذه أساساً أو قاعدة لـ "الكوزمولوجيا القرآنية".

وبَعْدَ قراءة متأنِّية ومختلفة لـ "الآيات الكوزمولوجية (أو الكونية)" في القرآن، أستطيع القول إنَّ خَلْقَ الله لـ "الكون" لَمْ يَكُنْ "خَلْقاً للمادة من العَدَم"، مهما حاوَل "المؤوِّلون العلميون المعاصِرون"، المتأثِّرون بنظرية "الانفجار الكبير" Big Bang وغيرها من النظريات الكوزمولوجيَّة الحديثة، إظْهار وتصوير "الخَلْق القرآني للكون" على أنَّه خَلْقٌ للمادة Matter من العدم Nothingness.

ولَسْتُ بمُسْتَغْرِبٍ أن تبوء محاولاتهم بالفشل، فكيف لهم أن يُوفَّقوا وينجحوا وقد أخْفَقَ مؤسِّسو وأنصار نظرية "الانفجار الكبير" مِمَّن توفَّروا على غَرْس اللاهوت في صُلْب هذه النظرية في الإتيان بأيِّ دليل فيزيائي يُعْتَدُّ به على أنَّ "المادة" يُمْكن أن تأتي من "العَدَم"، مِثْلما أخفقوا في محاولتهم تصوير ذلك "الشيء (Singularity)" الذي منه جاء الكون على أنَّه "العَدَم"، أو ما يَعْدِله معنى؟!

إنَّ "فكرة الله"، الخالِق للكون، تَضْرِب "جذورها المعرفية" عميقاً في "صورة المادة" التي غُرِسَت في أذهاننا، فَلَقَد فَهِمْنا "المادة"، بمعونة تلك الصورة، فَهْماً فيه من "الذاتية"، أو من "الافتقار إلى الموضوعية"، ما حَمَلَنا، ويَحْمِلنا، على الاعتقاد بوجود، وبوجوب وجود، خالِق ميتافيزيقي للكون، وإنْ اختلفنا، دينياً وفلسفياً وعِلْميَّاً، في فَهْم طبيعته، وخواصِّه، وصفاته، وفي طريقة، أو أسلوب، خَلْقِهِ للكون.

وهذا الفَهْم "الذاتي"، أو "قليل الموضوعية"، لـ "المادة" إنَّما يشبه لجهة "عاقبته المعرفية" أنْ تتصوَّر طَيْراً لا يملك، بطبيعته، من القوى والقدرات والخواص (المادية والطبيعية) ما يُمَكِّنه من الطيران، فإذا رأيته يطير تقول، عندئذٍ، وبتأثير تلك "الصورة المعرفية الذاتية"، بوجود، وبوجوب وجود، "قوَّة خارجية"، ميتافيزيقية الأصل والماهيَّة، بفضلها أصبح في مقدوره أن يطير.

وأذْكُرُ، في هذا الصدد، "مقالة علمية ـ فلسفية" قرأتُها وأنا صغير السنِّ، وقد جاء فيها أنَّ القول بـ "مادِّيَّة الوجود"، أو بـ "المادة أساساً للوجود"، تداعى وانهار؛ لأنَّ الفيزياء أثبَتَت أنَّ "الذرَّة" Atom ليست بـ "المادة الأوَّلية"، التي منها بُنِيَ "عالَم الطبيعة"، فكاتِب هذه المقالة إنَّما فَهِمَ "المادِّيَّة" على أنَّها قَوْلٌ بوجود "مادة ما"، في حجم ما، وبخواص ما، كـ "الذرَّة"، أو "الإلكترون"، أو "الكوارك"، يُبْنى منها "عالَم الطبيعة".

ومع أنَّ كل تجاربنا الفيزيائية تُثْبِت لنا وتؤكِّد أنَّ "المادة الأوَّلية (أو غير المُرَكَّبة)"، أي المادة التي يتألَّف منها، ويُبْنى، كل شيء ولا تتألَّف هي ذاتها من شيء، ليست سوى خرافة، فثمَّة كثير من الناس، ومن الفيزيائيين، ومن كبار الفيزيائيين، يميلون إلى الاعتقاد بوجود، وبوجوب وجود، "مادة ديمقريطس"، التي ما أن نَعْثُر عليها، ونُمْسِك بها، حتى نَعْثُرَ على "الأصل المادي" للوجود، ونُمْسِكَ به، وكأنَّ "المادة البسيطة، غير المُرَكَّبة"، هي التي كانت في البدء، وهي التي منها نشأ وتكوَّن كل شيء، وإليها يجب أن ينتهي انحلال المُركَّبات المادِّيَّة جميعا.

ونحن لا نستطيع أن نُجيب عن سؤال "ما هي المادة؟" إذا لَمْ نُجِب قَبْلاً عن سؤال "كيف نعي الأشياء، ونُمَيِّز بعضها من بعض؟".

بالعين، نرى الشيء؛ وبالأُذن نسمع الشيء؛ وباليد (مثلاً) نلمس الشيء؛ وبالأنف نشم الشيء؛ وباللسان (مثلاً) نذوق الشيء. إنَّنا نملكُ خمس حواس، من خلالها نتأثَّر بالأشياء، أو بالمادة في صورها وأشكالها المختلفة؛ وهذا "التأثُّر" هو ما نسميه "الإحساس"، الذي يختلف نَوْعاً باختلاف "عضو الإحساس"، أو "الحاسَّة". وكل شيء يُمْكِن أن نراه، أو نسمعه، أو نلمسه، أو نشمه، أو نذوقه، يجب أن يكون "مادة (Matter)"، فـ "المادة" هي وحدها، أي هي لا "الوعي"، التي تُثير فينا وتُوَلِّد الأحاسيس، التي، بحدِّ ذاتها، أي في طبيعتها وماهيَّتها، ليست بـ "مادة".

وبالمقارنة بين ما ينتمي في طبيعته وماهيَّته إلى "المادة" وما ينتمي إلى "الوعي (الفكر والشعور..)"، نرى أنَّ "الوعي" هو الشيء الذي لا يُمْكننا أبداً أن نراه، أو نسمعه، أو نلمسه، أو نشمه، أو نذوقه، فهو "المثالي (أو اللا مادي)" من الأشياء. وهذا "المثالي" غير المحسوس، غير المُدْرَك حسِّياً عَبْر أي عضو من أعضاء الإحساس، هو "جزء من الواقع"، فـ "الواقع" بعضه "مادي موضوعي"، وبعضه "مثالي ذاتي".

بعضٌ من "الواقع المادي الموضوعي" يُمْكننا أن نُدْرِكه إدراكاً حسِّياً "مباشِرا".. بـ "العين المجرَّدة" مثلاً. وبعضٌ منه نُدْرِكه بـ "العين الاصطناعية" كـ "الميكروسكوب"، أو "التليسكوب". وبعضٌ منه لا يُمْكننا إدراكه حسِّياً بـ "حاسَّةٍ اصطناعية"، كـ "الميكروسكوب"، أو "التليسكوب"؛ لكننا يُمْكِن أن نُدْرِك حسِّياً ما يَدُلُّ على وجوده، وعلى كَوْنِه جزءاً من "الواقع المادي الموضوعي". الـ "لا مادي" من الوجود إنَّما هو "الفكر (العقل، الوعي، الشعور، "الروح")" الذي لَمْ يَكُنْ له من وجود قَبْلَ "الإنسان"، في معانيه البيولوجية، والاجتماعية، والتاريخية.

وإنَّنا لَنَسْأل، في مَعْرِض تأكيدنا "المستحيل الأوَّل (والأعظم والأكبر)"، وهو "خَلْق المادة من العَدَم"، أين هو ذلك الشيء (الجسم أو الجسيم) الذي يُمِكن إقامة الدليل الفيزيائي على أنَّه قد جاء إلى "الوجود" من "العَدَم"؟ هل لدى كل القائلين بخَلْق المادة من العَدَم من جوابٍ عن هذا السؤال الذي يتحدَّاهم أن يجيبوه قبل، ومن أجل، أن يقولوا بذلك، وأن نقول به معهم؟!

وأين هو ذلك الشيء، الذي لا ريب في وجوده، والذي ثَبُتَ لديهم وتأكَّد أنَّه قد نشأ وَوُجِد في "خارج الزمان"، فَلَمْ تَكُن له "لحظة نشوء"؟ وإذا كان قانون "حِفْظ المادة" يُنْتَهَك، على ما يَزْعُم بعض الفيزيائيين، "انتهاكاً غير محسوس بالنسبة إليه"، فكيف لهم أن يقولوا بنشوء "مادة" من "العَدَم"، وكأنَّهم يَشْعُرون بما يَعْجَز القانون نفسه عن "الشعور به"؟!

فكرة الخالِق الميتافيزيقي للكون تطوَّرت، تاريخياً، حتى غدا (هذا الخالِق) في كثير من العقائد (الدينية والفلسفية) شبيها بـ "الخالِص" من "الفكر (العقل، الوعي، الشعور، "الروح"). أقول "شبيهاً"؛ لأنَّ فكرة "خالِق الكون"، في الأديان، ظلَّت، على ما بلغته من "تجريد (فكري)"، محتفظةً بشيء من "التجسيم"، وكأنَّ هذا الخالِق لا يُمْكِن فَهْمه وتصوُّره إلاَّ على أنَّه "كائن روحي لَمْ يتحلَّلَ بما يكفي مِمَّا ينتمي إلى عالَم المادة"، فقد ظلَّ شيءٌ من المادة، ومن "الجُسْمانية"، راسِبٌ في قَعْر وسفل هذا "الفنجان" الممتلئ "روحاً".

وفي الأديان السماوية الثلاثة، بَلَغَت فكرة "خالِق الكون" الدرجة العليا من "التجريد" في الإسلام، وفي الآية القرآنية "فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ والأرض جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الأنعام أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ" على وجه الخصوص، فالله "ليس كمثله شيء". هنا، "الكاف" زائدة؛ لأنَّ الله "لا مِثْلَ له"، فهو لا يُشْبِهُ أيَّ شيء (أيَّ مخلوق أكان عاقلاً أم غير عاقل) وليس من شيء يُشْبِهُ الله. على أنَّ هذا الإفراط القرآني في تجريد فكرة "الخالِق" قد اقْتَرَن بما يُمْكِن أن يفهمه كثير من الناس على أنَّه "شيء من الجُسْمانية"، فالله من صفاته أنَّه "سميعٌ" و"بصيرٌ" و"عليمٌ"..؛ فإذا كان الإنسان "يَسْمَع"، فالله "سميع"، وإذا كان الإنسان "يُبْصِر"، فالله "بصير"، وإذا كان الإنسان "يَعْلَم"، فالله "عليم". وهذه الصفات الإلهية هي جميعا صفات على وزن "فَعيل"، وهو من صِيَغ المبالغة. والتنزيه القرآني لـ "الذات الإلهية"، والذي نراه على وجه الخصوص في نَبْذِ ورَفْض كل ما من شأنه أنْ يُفسَّر ويُفْهَم على أنَّه "شِرْكٌ بالله"، بدا في العبارة القرآنية "فَتَبَارَكَ اللَّه أَحْسَن الْخَالِقِينَ" أقل قوَّةً ووضوحاً؛ لأنَّ "أحْسَن الخالقين" عبارةٌ قد تُفْهَم على أنَّها إقرارٌ من "الواحِد الأحد" بوجود غيره من الخالقين، وإنْ كان هو "أحْسَنَهُم". وعليه، قال مُفَسِّرون إنَّ عيسى ابن مريم كان يَخْلُق، فأخبر الله عن نفسه أنَّه يَخْلُق أحْسَن مِمَّا كان يَخْلُق عيسى. وقال غيرهم إنَّ المعنى هو أنَّ الله "خير الصانعين"، فالبشر "يَصْنَعون (ولا يَخْلُقون)"؛ والله "يَصْنَع" أفْضَل وأحْسَن من البشر جميعا. وكانت العرب تُسمِّي كل صانع خالِقاً. وبدا كذلك في الآية "بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ.."؛ أي كيف يكون له وَلَد ولم تَكُن له صاحبة أو زوجة؟!

في التوراة، ظَهَرَ "خالِق الكون" على أنَّه من الصِّغَرِ بمكان، فهو إله بني إسرائيل فحسب، فضَّلَهم على سائر البشر، واتَّخَذَهم شَعْبَاً له، ومنحهم أرضاً ليست لهم، فَلَمْ أرَ إلهاً يَصْغُر بما قال، وبما عمل، كـ "إلههم"، فَهُمْ خلقوه على مثالهم الاجتماعي والتاريخي؛ ثمَّ جاء رَجُلٌ من بني إسرائيل يُدْعى "يسوع المسيح"، فَبَلَغَ به "التجسيد"، و"التجَسيم" و"التَمَثُّل" درجته العليا، فالله، "خَالِقُ الكون" انتقلَ ليستقر، على هيئة جنين بشري ذَكَر، في رَحْم امرأة (غير متزوِّجة) هي "مريم العذراء"، فنما هذا الجنين حتى وَلِدَتْهُ "أُمُّه" على هيئة ابن الله؛ وليس من فَرْق في النوع أو الماهيَّة بين الله وابنه. جاء "يسوع المسيح" إلى شعبه، أيْ إلى بني إسرائيل؛ لكنَّه لَمْ يَجئ ليؤكِّد أنَّهم "شعب الله المختار"، وإنَّما ليؤكِّد أنَّ الله ذاته قد "تَهَوَّد"، أي أصبح يهودياً، وإلاَّ ما معنى أن يكون "ابن الله"، الذي ليس من فَرْق في النوع أو الماهيَّة بينه وبين "الله"، "أبيه"، "يهودياً"؟!

ولقد ظَهَرَ "يسوع المسيح"، حتى في القرآن، على أنَّه يقوم بأعمال هي من اختصاص الله وحده، فهو كاد أن يَخْلُق كما خَلَقَ الله آدم من طين.. "وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ وَالأبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ". وقيل في تفسيرها "أَنِّي (أي المسيح) أَخْلُق لَكُمْ مِنْ الطِّين كَهَيْئَةِ الطَّيْر، فَأَنْفُخ فِيهِ، فَيَكُون طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّه. وَكَذَلِكَ كَانَ يَفْعَل يُصَوِّر مِنْ الطِّين شَكْل طَيْر، ثُمَّ يَنْفُخ فِيهِ، فَيَطِير عِيَانًا بِإِذْنِ اللَّه الَّذِي جَعَلَ هَذَا مُعْجِزَة لَهُ تَدُل عَلَى أَنَّهُ أَرْسَلَهُ". وهنا، نرى فِعْلَ "النَفْخ" في معناه الحقيقي غير المجازي، فالمسيح كان يقف أمام الناس، يَصْنَع من "الطين (الحقيقي لا المجازي)" كائناً على هيئة طير، ثمَّ يَنْفُخَ فيه نَفْخَاً حقيقيا لا مجازيا، فـ "يطير عياناً". وكان يَفْعَل كل ذلك "بإذن الله"، أي أنَّ الله أكسبه هذه القدرة التي هي له من دون سواه حتى يُقْنِع قومه بأنَّه مُرْسَلٌ من عند الله.

مبدعو ومُطوِّرو فكرة "الخالِق الميتافيزيقي" للكون حاروا في معرفة وتبيان وشرح أوجه العلاقة بين هذا الخالِق وبين "عالَم المادة"، و"كيف" خَلَقَ وأنشأ وأبدع الطبيعة.. وحاروا أكثر في معرفة السبب الذي حَمَلَه على خَلْق الكون، فـ "عَظَمَةُ الخالِق" تَبْهَت إذا ما خَلَق الكون لـ "غاية ما".. لغايةٍ مُعْلَنة أو مُضْمَرَة.

ونحن لا يُمْكِننا فَهْم فكرة "الخالِق الميتافيزيقي" للكون إلاَّ إذا تصوِّرْنا هذا الخالِق على أنَّه "روح خالصة"، لا أثر فيها لكل ما ينتمي إلى "عالَم المادة"، فنَبْذُ "الجُسْمانية"، أو "التشيؤ"، إنَّما هو الشرط (المعرفي) الأوَّلي للتأسيس لفرضية "الخالِق الميتافيزيقي" للكون؛ فَدَعُونا الآن نتصوَّر، أو نفتَرِض، وجوداً أزلياً ـ أبدياً لـ "الروح الخالصة" بهيئتها تلك، أيْ بهيئتها التي لا أثر فيها لـ "الجُسْمانية"، أو "التشيؤ".

هذه "الروح"، وبحسب ما نَفْتَرِض، كانت ولَمْ يَكُنْ من وجود لـ "المادة"، أو "الطبيعة". ونقول، إذا ما جاز القول منطقياً، كانت تلك "الروح" وكان معها "العَدَم" Nothingness.

لن نسأل "لماذا خَلَقَت تلك الروح الطبيعة؟"؛ لأنْ لا مَنْطِقاً في السؤال وإجابته؛ لكنَّنا يمكن ويجب أن نسأل "كيف خَلَقَتْها؟". فَكِّروا مَليَّاً في الإجابة لعلَّكم تتوصَّلون إلى ما يُثْبِتَ صِحَّة تلك "الفرضية".

هل نجيب قائلين "إنَّ الروح الخالصة خَلَقَت الكون إذ تَحَوَّلَت هي إلى طبيعة أو مادة" كتَحوُّل مقدار من الجليد إلى ماء؟ هذه الإجابة فاسدة منطقياً؛ لأنَّ "التحوُّل" هو تَحوُّل شيء من صورة إلى صورة، ولا يُمْكِن فَهْمه، من ثمَّ، إلاَّ على أنَّه "اجتماع الثابت والمتحوِّل"، فثمَّة "شيء مشترَك" بين "الجليد" و"الماء" ظلَّ "ثابتاً" إذ تحوَّل الجليد إلى ماء، وليس من "تحوُّلٍ" لا يستوفي شرطه المنطقي والواقعي الأوَّل والأهم وهو وجود هذا "الثابت" في العلاقة بين الطرفين، أو الصورتين. إنَّ الماء يظلُّ محتفظا بوجوده، أكان صَلْباً أم سائلاً أم غازاً، فهو إنَّما يُوجَد في صورة من صورٍ ثلاث (صَلْب، سائل، غاز) ويُمْكِنه أن يتحوَّل من صورة إلى صورة.

إذا تحوَّلَت "الروح الخالصة" إلى "طبيعة" فهذا إنَّما يعني وجود "شيء مشترَك" بينهما، ظلَّ ثابتاً لَمْ يَعْتَرِه تغيير في جوهره، فما هو هذا "الشيء الثالث المشترَك" الذي نراه تارةً على هيئة "الروح الخالصة"، وطوراً على هيئة "الطبيعة"؟!

يكفي أن نَفْهَم خَلْق الكون على أنَّه "الروح الخالصة وقد تحوَّلَت إلى طبيعة" حتى نَنْبُذَ تلك الإجابة، التي تَلِدُ لنا سؤالاً أكبر، والتي لَمْ تُمَكِّننا، من ثمَّ، من القول بصحَّة تلك "الفرضية"؛ فلْنَبْحَث عن إجابة أُخرى.

هل نجيب قائلين "إنَّ الروح الخالصة، في خَلْقِها للكون، لَمْ تتحوَّل هي إلى طبيعة، وإنَّما أنشأت وأبدعت الطبيعة من العَدَم"، فَلَبِسَت (أو لَمْ تلبس) هذا اللبوس المادي.. وإلى حين"؟ وهذا السؤال إنَّما يَلِدُ سؤالاً آخر هو "كيف خَلَقَت تلك الروح المادة من العَدَم؟"، فلْنُحاوِل، أوَّلاً، إجابة السؤال الوليد.

ليس بـ "الأمْر (أمْر كُنْ)" يمكن أن تَخْلُق الروح الخالصة المادة من العَدَم؛ فـ "الأمْرُ" إنَّما هو علاقة بين طرفين: "آمِر" و"مأمور". "الروح الخالصة" يمكن ويجب أن تكون هي "الآمِر"؛ لكن أين هو، وما هو، "المأمور"؟!

تَصوَّر أنَّكَ تريد أن تَخْلُق "طاولة" بما يشبه طريقة الخَلْق بـ "الأمْر كُنْ". إنَّكَ ستأمُر "شيئاً"، هو "لوحٌ من خَشَب"، بأنْ يكون (أي يُصبِح ويصير) طاولة، فإذا أمَرْته، وأطاع أمْركَ، ونشأت الطاولة من ثمَّ، فإنَّكَ لَمْ تَخْلُق الطاولة من العدم.. من لا شيء.

أمْرُكَ إنَّما هو أمْرٌ لـ "شيء" موجودٌ معكَ، بأنْ "يتحوَّلَ" من صورة إلى صورة.. من "لوح خشبي" إلى "طاولة"، فهذا الشيء، وهو "الخشب" كان على هيئة "لوح"، فغدا إذْ أمْرتهُ وإذْ أطاع أمْركَ، على هيئة "طاولة".

لِنَطْرَح جانباً الآن الخَلْق في طريقة "الأمْر كُنْ"، فهو كما أوضْحنا لا يُمْكنه أن يكون خَلْقاً من العَدَم، ولنُجِبْ عن السؤال نفسه قائلين: "إنَّ الروح الخالصة خَلَقَت الكون ليس بالأمْر كُنْ وإنَّما بالتصوُّر، وبطرائق ذهنية أُخْرى كالإرادة والاختيار والقرار". لقد تصوَّرت "الروح الخالصة" شيئاً (الكون) ورَغِبَت في وجوده، وأرادت وجوده، وقرَّرت أن يُوْجَد، فَوُجِد (من لا شيء، أو من العَدَم).

هذه الطريقة في الخَلْق (في خَلْق الكون، أو في خَلْق المادة من العدم) قد تبدو "الفضلى" بحسب منطق "الروح الخالصة"؛ لكن عيبها الجوهري هو "انتفاء الحاجة إليها"، فـ "المادة"، في تجربتنا، أي في تبادُلنا التأثير معها، إنَّما تُثْبِت لنا وتؤكِّد، في استمرار، أنْ ليس لها من "مبتدأ لا مبتدأ له" في عناصرها ومكوِّناتها، أو في قواها وخواصِّها، أو في "سلسلتها السببية".

لو ثبت لنا وتأكَّد، مثلاً، أنَّ جسيم "الكوارك" هو "المادة الأوَّلية البسيطة"، التي لا يُمْكنها أن تنشأ عن "مادة أُخْرى"، وأن ليس لها، من ثمَّ، من "تاريخ"، فعندئذٍ، لا بدَّ لهذا الجسيم من أن يُلِحَّ علينا بالسؤال الآتي: "كيف، ومن أين، ومتى، جاء؟". لِنَقُلْ إنَّ هذا الجسيم (الكوارك) موجود، وإنَّ وجوده لا ريب فيه، فهل توصَّلْنا، فيزيائياً، إلى ما يقيم الدليل على أنَّه لَمْ ينشأ، ولن ينشأ، ولا يُمْكنه أبداً أن ينشأ، عن "مادة أُخْرى" حتى نشرع نبحث عن "العِلَّة الميتافيزيقية" لوجوده؟!

هل زوال هذا الجسيم من الاستحالة بمكان؟ وإذا كانت الإجابة هي "كلا، ليس زواله بالأمر المستحيل" فهل يعنى زواله أنَّه لَمْ يتحوَّل إلى شيء آخر، أو أشياء أُخْرى، أو إلى مادة في صورة أُخْرى؟!

وعندما نتحدَّث عن "المادة" ينبغي لنا ألاَّ نَضْرِب صفحاً عن حقيقة أنَّ "الطاقة" هي صورة من صور "المادة".

تجربتنا في "عالَم المادة" إنْ عَلَّمتنا شيئاً في منتهى الأهمية فهذا الشيء إنَّما هو أنَّ "النشوء" و"الزوال" في عالَم الطبيعة ليسا سوى "التحوُّل".. تَحَوُّل لمادة من صورة إلى صورة، فـ "الشيء" إذا نشأ فإنَّه لا ينشأ من "لا شيء"، وإذا زال فإنَّه لا يزول بوصفه "مادة"، وإنَّما بوصفه صورة من صورها.

لقد اسْتَنْطَقْنا كل ما عَرِفْناه حتى الآن من ظواهر الطبيعة، فهل نَطَقَت بغير ما يؤكِّد أنْ لا شيء يُوْجَد، أو يُمْكننا تصوُّر وجوده، إذا ما أخْرَجْنا من جسده روحه الفيزيائية، أيْ القوى والقوانين والخواص الفيزيائية التي تَجْعَلَهُ على ما هو عليه، أو تَنْقله، في تطوُّره، من حال إلى حال، فأين هو هذا الشيء الذي كان ولَمْ يَكُنْ له من قواه وقوانينه وخواصِّه الفيزيائية شيئاً حتى نقول مع القائلين بوجود، وبوجوب وجود، "الروح العليا" التي أدْخَلَت فيه تلك "الروح الفيزيائية"، أو "تقمَّصَتْهُ"، فدَبَّت فيه "الحياة"؟!

وأين هي تلك الظاهرة الطبيعية التي وَقَفْنا على كل "أسبابها الفيزيائية"، فعَجِزْنا عن فَهْمِها وتفسيرها، أو عن "استنساخها (في المُخْتَبَر مثلاً)"، لِكَوْنِنا ضَرَبْنا صَفْحاً عن "عِلَّتها الميتافيزيقية"؟!

إنَّنا يكفي أنْ ننأى بعقولنا عن "الذاتية" في فَهْم "المادة"، وأنْ نفهمها في موضوعية، وبمزيدٍ من الموضوعية، حتى تنتفي لدينا الحاجة (المعرفية) إلى القول بوجود، وبوجوب وجود، "العِلَّة الميتافيزيقية"، التي تحتاج هي نفسها إلى تعليل، يكفي أن نتوصَّل إليه حتى نَنْبُذها.

"الكوزمولوجيا القرآنية" نراها في وضوح، وعلى حقيقتها، وبلا زيادة ولا نقصان، إذا نحن اجْتَنَبْنا "التأويل العِلْمي"، بوصفه رِجْساً من عمل "الشيطان" الذي يَظْهَر لنا على هيئة "المؤوِّل العِلْمي"، الذي يعيث في "اللغة"، وفي "النصِّ القرآني"، فساداً، "مُعَدِّداً" القرآن الواحد، وكأنَّ القرآن يُمْكِن أن يختلف (يتعدَّد) معنى وتفسيرا وفَهْما، مع اختلاف المكان والزمان، وكأنَّ المسلمين اليوم ينبغي لهم أن يفهموا معاني النصِّ القرآني ذاته بما يُخالِف ويناقِض فَهْم أسلافهم (من المسلمين)!

وكل الجهد الذي بذله "المؤوِّلون العِلْميون المعاصرون (المُغْرِضون)" إنَّما يشبه لجهة مَنْطِقه ونتائجه أن تَفْهَم الآية "وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ" على أنَّها "إشارة قرآنية" إلى "السَّيَّارة" التي نَعْرفها اليوم!

ولقد فعلوا ما يشبه ذلك إذ أعلنوا اكتشافهم "إشارة قرآنية" إلى "الذرَّة" Atom في الآية "وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ".

ولو لَمْ يَنْزِل القرآن "بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ" لَقُلْنا مع القائلين بوجوب وجود "العباقرة" من "المؤوِّلين العِلْميين" الذين يتوفَّرون على التدليس في "لغة" القرآن توصُّلاً إلى تفسير آياته للعامَّة من المسلمين بما يقيم الدليل، على ما يتوهَّمون، على أنَّ في آياته قد بُذِرَت بذور كل الاكتشافات الكونية المهمة، غير متورِّعين عن الإساءة إلى الدين والعِلْم معاً.

"الإيمان الديني" لا يقوم على "نصٍّ ديني" يحفظه المؤمن عن ظهر قلب من غير أن يَفْهَم معانيه الحقيقية ومراميه، فكيف لإيمان المسلم أن يَثْبُت ويتوطَّد إذا ما حَمَلوه، عبر "تأويلهم العِلْمي"، على أن يفهم الآية ذاتها وكأنَّها آيات مختلفة، متضاربة ومتناقضة، معنى وتفسيرا؟!

القرآن، وفي كثير من آياته، تَضَمَّن ما يمكن تسميته "كوزمولوجيا قرآنية"، فلنَقِفَ عليها، على أن نَنْبُذَ "التأويل العِلْمي المعاصر" الذي يبتنيه أصحابه من خلال إساءتهم إلى اللغة، والدين، والعِلْم، معاً.

"إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ". 

إنَّ أحداً من المسلمين لَمْ يُجادِل، من قَبْل، أي من قَبْل ظهور ما يسمَّى "التأويل العلمي" للقرآن، أو لبعضٍ من آياته، في "معنى" عبارة "سِتَّة أيَّام". ولَمْ نَقِفَ على أيِّ جِدالٍ في هذا الأمر في عهد النبي على وجه الخصوص، فكلُّ من اعتنق الإسلام كان يَفْهَم "سِتَّة أيَّام" على أنَّها "أيَّامٌ أرضية (دنيوية)". وقد جاء في "تفسير الجلالين": إنَّ رَبّكُمْ اللَّه الذي خَلَقَ السَّمَاوَات والأرض في سِتَّة أَيَّام من أَيَّام الدُّنْيَا، أَيْ في قَدْرهَا؛ لأنَّه لَمْ يَكُنْ ثَمَّ شَمْس. ولو شَاءَ لَخَلَقَ السَّماوات والأرض في لَمْحَة. و"الأحد"، بحسب "تفسير الجلالين"، كان أوَّلها، أي أوَّل أيَّام الخَلْق السِتَّة، و"الجمعة" كان آخرها.

والله بَعْدَ ذلك، أي بَعْدَ انتهائه من خَلْق السَّماوات والأرض، "اسْتوى على العرش"؛ لكن أين كان الله قبل ذلك، أي قبل أن يشرع يَخْلِق السَّماوات والأرض؟ هذا السؤال ليس من الكُفْر في شيء، فقد سُئِلَ النبي (من مسلمين) السؤال نفسه؛ وقد أجاب عنه.

"وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ".  

في "تفسير الجلالين" جاء: كان عرش الله على الماء "قَبْلَ أن يَخْلِق السَّماوات والأرض (في سِتَّة أيَّام)".

وجاء في "تفسير ابن كثير": يُخْبِر الله عَنْ قُدْرَته عَلَى كُلِّ شَيْء، وَأَنَّهُ خَلَقَ السَّمَاوَات والأرض فِي سِتَّة أَيَّام، وَأَنَّ عَرْشه كَانَ عَلَى الْمَاء. وقد قال النبي: اِقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا أَهْل الْيَمَن. قَالُوا قَدْ قَبِلْنَا، فَأَخْبِرْنَا عَنْ أَوَّل هَذَا الأمر كَيْف كَانَ؟ قَالَ النبي: كَانَ اللَّه قَبْل كل شَيْء، وَكَانَ عَرْشه عَلَى الْمَاء، وَكَتَبَ في اللَّوْح الْمَحْفُوظ كل شَيْء. وقَالُوا للنبي: جِئْنَاك نَسْأَلك عَنْ أَوَّل هَذَا الأمر، فأجاب قائلاً: كَانَ اللَّه وَلَمْ يَكُنْ شَيْء قَبْله. وَكَانَ عَرْشه عَلَى الْمَاء، وَكَتَبَ في الذِّكْر (اللوح المحفوظ) كل شَيْء، ثُمَّ خَلَقَ السَّمَاوَات والأرض. وسُئِلَ النبي: يَا رَسُول اللَّه، أَيْنَ كَانَ رَبّنَا قَبْل أَنْ يَخْلُق خَلْقه؟ فأجاب قائلاً: كَانَ فِي عَمَاءٍ (العَمَاء هو السَّحاب) مَا تَحْته هَوَاءٌ، وَمَا فَوْقَهُ هَوَاءٌ، ثُمَّ خَلَقَ الْعَرْشَ بَعْدَ ذلك (على الماء). وَقَالَ مُجَاهِد ووَهْب بْن مُنَبِّه وَضَمْرَة وَقَتَادَة وَابْن جَرِير: كان عَرْشه عَلَى الْمَاء قَبْل أَنْ يَخْلُق شَيْئًا.. قَبْل أَنْ يَخْلُق السَّمَاوَات والأرض، فَلَمَّا خَلَقَ السَّمَاوَات والأرض قَسَمَ ذَلِكَ الْمَاء قِسْمَيْنِ فَجَعَلَ نِصْفًا تَحْت الْعَرْش وَهُوَ الْبَحْر الْمَسْجُور (أي البحر الْمَمْلُوء). وَقَالَ مُحَمَّد بن إِسْحَاق: هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَات والأرض فِي سِتَّة أَيَّام، وَكَانَ عَرْشه عَلَى الْمَاء، فَكَانَ كَمَا وَصَفَ نَفْسه تَعَالَى، إِذْ لَيْسَ إلاَّ الْمَاء، وَعَلَيْهِ الْعَرْش، وَعَلَى الْعَرْش ذُو الجلال والإكرام وَالْعِزَّة وَالسُّلْطَان وَالْمُلْك وَالْقُدْرَة وَالْحِلْم وَالْعِلْم وَالرَّحْمَة وَالنِّعْمَة الْفَعَّال لِمَا يُرِيد. وسُئِلَ ابن عَبَّاس: عَلَى أَيِّ شَيْء كَانَ الْمَاء؟ قَالَ عَلَى مَتْن الرِّيح.

وفي "تفسير الطبري" جاء: قال وهب بن مُنَبِّه: إِنَّ الْعَرْش كَانَ قَبْل أَنْ يَخْلُق اللَّه السَّمَوَات والأرض, ثُمَّ قَبَضَ قَبْضَة مِنْ صَفَاء الْمَاء, ثُمَّ فَتَحَ الْقَبْضَة فَارْتَفَعَ دُخَان, ثُمَّ قَضَاهُنَّ سَبْع سَمَوَات فِي يَوْمَيْنِ..

وسؤالنا الآن إلى "المؤوِّلين العلميين للقرآن" هو الآتي: هل ما نُسِبَ إلى النبي من أقوال وإجابات، في "التفاسير الثلاثة"، قد جاء من مسلمين افتروا على النبي كذبا؟ إنَّه سؤالٌ ينبغي لهم إجابته قَبْل، ومن أجل، أن يصبح لـ "تأويلهم العلمي" مَنْطِقاً.

عرش الله، قَبْلَ الخَلْق، كان على "الماء"، فهل لهذا "الماء" من معنى غير الذي نَعْرِف؟!

هل هذا الماء غير الماء الذي يتألَّف الجزيء منه من ذرَّتي هيدروجين وذرَّة أوكسجين؟!

عندما سُئِلَ النبي "أَيْنَ كَانَ رَبّنَا قَبْل أَنْ يَخْلُق خَلْقه؟"، أجاب قائلاً: "كَانَ فِي عَمَاءٍ مَا تَحْته هَوَاءٌ، وَمَا فَوْقَهُ هَوَاءٌ، ثُمَّ خَلَقَ الْعَرْشَ بَعْدَ ذلك".

إلى أنْ يقيموا الدليل (ولن يقيموا) على أنَّ هذه الإجابة قد نُسِبَت إلى النبي زوراً وبهتاناً، لا بدَّ لنا من أن نستمسك بهذا "التصوُّر الكوزمولوجي"، فالله، قَبْلَ الخَلْق، كان في عَمَاءٍ، أي في سَحاب. ومِنْ حَوْل هذا السَحاب كان "هواء".. كان من فوقه، ومن تحته، "هواء"؛ ثمَّ قام الله بـ "خَلْق" عرشه.. وقد خَلَقَه على الماء، "وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ.."؛ وكان "اللوح المحفوظ" أيضاً.

إنَّ الله، وقَبْلَ أن يشرع يَخْلُق السَّماوات والأرض، أو قَبْل أَنْ يَخْلُق خَلْقه، كان في "عَمَاءٍ"، من فوقه ومن تحته، "هواء"؛ وكان "ماءٌ"، وكان "اللوح المحفوظ"؛ وقام الله من ثمَّ بخَلْق عرشه، فكان عرشه على الماء.

كان الله، ولَمْ يَكُن "العرش"؛ وكان، أيضاً، "العَمَاء"، و"الهواء"، و"الماء"، و"اللوح المحفوظ"؛ ثمَّ خَلَقَ الله عرشه، فكان عرشه على الماء، ثمَّ "بدأ الخَلْق"، أي خَلْق السَّماوات والأرض؛ وقد استغرق هذا الخَلْق "سِتَّة أيَّام" أرضية. وليس في القرآن، أو في تلك الأحاديث النبوية، ما يُشير إلى أنَّ الله قد خَلَقَ (قبل خَلْقِهِ السَّماوات والأرض وما بينهما) العَمَاء، والهواء، والماء، واللوح المحفوظ.

النبي قال: كَانَ اللَّه قَبْل كل شَيْء، وَكَانَ عَرْشه عَلَى الْمَاء..

وقال: كَانَ اللَّه وَلَمْ يَكُنْ شَيْء قَبْله. وَكَانَ عَرْشه عَلَى الْمَاء..

وقَوْلاه "كَانَ اللَّه قَبْل كل شَيْء"، و"كَانَ اللَّه وَلَمْ يَكُنْ شَيْء قَبْله"، لا يتعارضان مع القول القرآني، وقوله، "وَكَانَ عَرْشه عَلَى الْمَاء.."، فـ "الماء الذي عليه كان عرش الله" كان ولَمْ تَكْنْ السَّماوات والأرض وما بينهما؛ فـ "لَيْسَ إلاَّ الْمَاء، وَعَلَيْهِ الْعَرْش، وَعَلَى الْعَرْش ذُو الجلال والإكرام وَالْعِزَّة وَالسُّلْطَان وَالْمُلْك وَالْقُدْرَة وَالْحِلْم وَالْعِلْم وَالرَّحْمَة وَالنِّعْمَة الْفَعَّال لِمَا يُرِيد".

وقد قال مُجَاهِد ووَهْب بْن مُنَبِّه وَضَمْرَة وَقَتَادَة وَابْن جَرِير: كان عَرْشه عَلَى الْمَاء قَبْل أَنْ يَخْلُق شَيْئًا..

وجواباً عن سؤال "عَلَى أَيِّ شَيْء كَانَ الْمَاء؟"، قال ابن عبَّاس: "عَلَى مَتْن الرِّيح".

أمَّا وهب بن مُنَبِّه فقال: إِنَّ الْعَرْش كَانَ قَبْل أَنْ يَخْلُق اللَّه السَّمَوَات والأرض, ثُمَّ قَبَضَ قَبْضَة مِنْ صَفَاء الْمَاء, ثُمَّ فَتَحَ الْقَبْضَة فَارْتَفَعَ دُخَان, ثُمَّ قَضَاهُنَّ سَبْع سَمَوَات فِي يَوْمَيْنِ..

من هذا الماء، الذي كان "على متن الرِّيح"، والذي كان عليه عرش الله، ومن "الصافي النقي" منه، قبض الله قبضة، ثمَّ فتح القبضة فارتفع "دخان"، أي ظَهَرَ "بخار الماء"؛ ومن هذا "البخار"، أو "الدخان"، خَلَقَ الله، في يومين من أيَّام الخَلْق السِتَّة، سَبْع سماوات. وذاك "الصافي النقي" من الماء هو ما يُفَسِّر "صفاء وشفافية" السماء.

وهذا "البخار"، أو "الدخان"، يمكن ويجب فهمه على أنَّه "السماء الأولى، أو البدائية، أو الهُيُوليَّة" التي "سَبَّعها" الله، أي جَعَلها "سَبْع سماوات".

في "كتاب الله"، أو في "اللوح المحفوظ"، ويوم خَلَقَ الله السَّماوات والأرض، كَتَبَ الله وقرَّر أنَّ "عدد" الشهور عنده 12 شهراً. "إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ".

عدد الشهور عند الله 12 شهراً.. وعدد أيَّام الأسبوع عند الله يجب أن يكون 7 أيَّام؛ وهذه الأيَّام السبعة يجب أن تكون السبت، والأحد، والاثنين، والثلاثاء، والأربعاء، والخميس، والجمعة.

ويكفي أنْ نُمْعِن النظر في معاني هذه الآية حتى يتَّضِح لنا ويتأكَّد أنَّ الله قد خَلَقَ السَّماوات والأرض وما بينهما في سِتَّة أيَّام أرضية؛ فهل من "تأويلٍ" لعبارة "في سِتَّة أيَّامٍ" يَصحُّ بَعْدَ ذلك؟!

إنَّ "الخَلْقَ من العَدَم" ليس بالخَلْق الذي يقول به القرآن، فالله كان، وكان عرشه على "الماء"، ولَمْ تَكُن السَّماوات والأرض (وكان أيضاً "العَمَاء"، و"الهواء"، و"الريح"، التي على متنها كان الماء).

"أَوَلَمْ يَرَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ".

"السَّماوات" و"الأرض" كَانَتَا "رَتْقًا"، أَيْ كانتا متَّصلتين، مُتلاصقتين، مُلْتَزقتين، مُتَرَاكِمتين، في ابتداء الأمر، أي قَبْل أن يشرع الله يَخْلُق السَّماوات والأرض وما بينهما. ثمَّ "فَتَقَ" الله هذه مِنْ تلك، فَجَعَلَ السَّمَاوات سَبْعًا والأرض سَبْعًا؛ وَفَصَلَ بَيْن السَّمَاء الدُّنْيَا والأرض بِالْهَوَاءِ، فَأَمْطَرَتْ السَّمَاء، وَأَنْبَتَتْ الأرض؛ وَلِهَذَا قَالَ "وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاء كُل شَيْء حَي أفلا يُؤْمِنُونَ".

"الفتق"، لغة، هو "شقُّ" الشيء، أي فصل بعضه عن بعض. قال ابن منظور في "لسان العرب": "الرَّتْقُ هو ضد الفَتْق". وقال ابن سيده: "الرَّتْقُ هو إلحام الفتْقِ وإصلاحه. نقول: "رتقه، يرتقه، رتقا، فارتتق"، أي "التَأَم". ونقول: "فتقه يفتقه فتقا"، أي شقَّه"، فالفتق خلاف الرتق.

وقال الحسن وقتادة وسعيد بن جبير ورواية عكرمة، عن ابن عباس، إنَّ المعنى هو: كانتا شيئاً واحداً. كانتا ملتصقتين، ففصل الله بينهما، ورفع السماء إلى حيث هي، وأقرَّ الأرض. وهذا القول يوجب أنَّ خلق الأرض مقدَّم على خلق السماء؛ لأنَّ الله لمَّا فصل بينهما ترك الأرض حيث هي وأصعد الأجزاء السماوية.

وقال ابن عبَّاس: "كانت السَّماوات رتقا لا تمطر، وكانت الأرض رتقا لا تنبت، فلمَّا خلق للأرض أهلاً فتق السماء بالمطر، وفتق الأرض بالنبات".

وقال عطية العوفي: "كانت السماء رتقاً لا تمطر فأمطرت، وكانت الأرض رتقاً لا تنبت فأنبتت".

وقال إسماعيل بن أبي خالد: "كانت السماء واحدة، ففتق منها سبع سماوات، وكانت الأرض واحدة، ففتق منها سبع أرضين".

وقال أبو جعفر: أوْلى الأقوال، في ذلك، بالصواب، قول مَنْ قال إنَّ السَّماوات والأرض كانتا رتقاً مِنَ المطر والنبات، ففتقنا السماء بالغيث، والأرض بالنبات، لدلالة قوله "وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ..".

وقال كعب: "خلق الله السَّماوات والأرض بعضها على بعض، ثم خلق ريحاً في وسطها، ففتحها بها، وجعل السَّماوات سبعاً والأرضين سبعاً".

الآية، في ضوء كل تلك التفاسير، تفيد معنيين. الأوَّل هو أنَّ السَّماوات والأرض كانتا رتقاً مِنَ المطر والنبات، ففتق الله السماء بالغيث، والأرض بالنبات. والدليل على هذا المعنى قوله "وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ". والمعنى الثاني هو أنَّ السماء والأرض كانتا ملتصقتين، ففصل الله بينهما بالهواء، أو الريح، فالسماء رفعها عن الأرض بغير أعمدة (تأكيداً لقدرته) أي جعلها مُقبَّبة على الأرض مثل القُبَّة.

لقد بنى الله السماء، أي رفعها بغير عمد، وجَعَلَهَا سقفاً. فما معنى ذلك؟

معناه، الذي لا يختلف فيه اثنان يحتكمان إلى المنطق، هو أنَّ السماء كانت ملتصقة بالأرض، ففصلها عن الأرض إذ رفعها عنها بغير عمد، فصار بينهما هواء أو ريح.

الآية إنَّما خاطبت عقول الناس الذين أدهشتهم رؤية السماء مرفوعة عن الأرض كسقف لا أعمدة له، فقالت لهم إنَّ السماء كانت، مِنْ قَبْل، ملتصقة بالأرض، فرفعها الله بقدرته الخارقة بغير عمد ترونها. ولَمَّا فصلها ورفعها عن الأرض صار ممكنا أنْ تمطر السماء، وأنْ تنبت الأرض، وأنْ تكون حياة، فمِنَ الماء خلق الله كل الكائنات الحية.

إذا كان "الخَلْقُ" هو "الفَتْق" فغنيٌ عن البيان أنَّ "الأرض"، وعلى هيئة ما، كانت قبل "الخَلْق".. كانت "ملتصقة، ملتزقة، بالسماء (الهُيُوليَّة)"، فبدأ "الخَلْق"، من ثمَّ، بـ "فَصْل" كلتاهما عن الأخرى. كانت "الأرض" و"السماء" مُرْتتقتين؛ ثمَّ فَصَلَ الله بينهما إذ أصْدَر أمْر "الفَتْق".

إنَّكَ لا تَخْلُقَ من العَدَم الهيدروجين والأوكسجين "المُرْتتقين (أي المتَّحِدين)" في الماء، أيْ في جزيء الماء، إذا ما قُمْتَ بـ "فتقهما (أي فصلهما)". إنَّكَ تُغَيِّر فحسب حال وجودهما، فَهُما كانا (الهيدروجين والأوكسجين) متَّحِدين (اتِّحاداً كيميائياً) في جزيء الماء فَجَعَلْتُهُما (بالفتق الكيميائي) منفصلين.

وإنَّكَ لا تستطيع أن تَزْعُم أنَّكَ قد خَلَقْتَ الهيدروجين والأوكسجين من العَدَم إذ قُمْتَ بـ "فتقهما" فَتْقَاً كيميائياً.

خَلْقُ السَّماوات والأرض في سِتَّة أيَّام شُرِح على خير وجه في سورة "فُصِّلَت"، وإنْ لَمْ تأتِ هذه السورة على ذِكْر "الفَتْق".

في تلك السورة، نَقِف على جوهر "التصوُّر الكوزمولوجي القرآني"، فقد جاء فيها: "قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ. وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ. ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ. فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ".  

وبحسب "التفاسير القرآنية"، التي يسعى أصحاب "التأويل العِلْمي" للآيات الكونية القرآنية إلى تخطِّيها، تنطوي هذه الآيات على إِنْكَار من اللَّه عَلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ عَبَدُوا مَعَهُ غَيْره وَهُوَ الْخَالِق لِكُلِّ شَيْء؛ فكيف "تَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا" أَيْ نُظَرَاء، وشُركاء، وأمثالاً تَعْبُدُونَهَا مَعَهُ، وهو الذي "خَلَقَ السَّمَوَات والأرض فِي سِتَّة أَيَّام"؟!

وهنا، أي في تلك الآيات، ميَّزَ الله ما يَخْتَص بالأرض مِمَّا يَخْتَص بِالسَّمَاءِ. ولقد ذَكَرَ أَنَّهُ خَلَقَ الأرض أوَّلاً لأنَّها كالأساس؛ والأصل أَنْ يَبْدَأ الخَلْقَ أو البناء بالأساس، ثُمَّ بَعْده بِالسَّقْفِ كَمَا قَالَ "هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأرض جَمِيعًا ثُمَّ اِسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْع سَمَوَات".

ولكن، في الآية "أَأَنْتُمْ أَشَدّ خَلْقًا أَمْ السَّمَاء بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكهَا (أي سَقْفها) فَسَوَّاهَا وَأَغْطَشَ لَيْلهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا والأرض بَعْد ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَال أَرْسَاهَا مَتَاعًا لَكُمْ ولأنعامكم"، من سورة "النازعات"، نرى أنَّ دَحْو الأرض كان بَعْد خَلْق السَّمَاء، فَالدَّحْو هُوَ مُفَسَّر بِقَوْلِهِ "أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا". وَكَانَ هَذَا بَعْد خَلْق السَّمَاء.

قارِن الآن بين "التصوُّرين الكوزمولوجيين" في القرآن كما وردا في سورة "فُصِّلَت" وسورة "النازعات": في سورة "فُصِّلَت"، جاء "لقد خَلَقَ الله (للبشر) ما في الأرض جميعا (أي كل ما في الأرض) ثمَّ (أي بَعْدَ ذلك) استوى إلى السماء (أي قَصَدَها وتوجَّه وارتفع إليها، فهي كانت موجودة قبل أن يخلق منها، أو يجعلها، سبع سماوات) فسوَّاها (أي جعلها) سبع سماوات؛ وقد قال "سوَّاهُنَّ" ولم يَقُلْ "سوَّاها"؛ لأنَّ الضمير في "سوَّاهُنَّ" يرجع إلى السماء التي هي في معنى الجمع الآيلة إليه, فصيَّرها "سبع سماوات في يومين". و"سَوَّى"الشيءَ معناه: قَوَّمَه وعَدَّلَه وجَعَلَه سَويًّا؛ و"سَوَّى" العمل معناه: أَتَمَّهُ.

أمَّا في سورة "النازعات" فيقول الله إنَّه قد قام بـ "دحو (بَسْط)" الأرض، مُخْرِجاً منها ماءها ومرعاها، بَعْدَ خَلْق السماء. وهذا قد يُثير التساؤل الآتي: كيف يقوم الله بـ "دحو" الأرض مُخْرِجاً منها ماءها ومرعاها "بَعْد" خَلْق السماء، بحسب ما ورد في سورة "النازعات"، وهو الذي خَلَق (للبشر) ما في الأرض جميعا "قَبْل" أن يجعل السماء سبع سماوات، بحسب ما ورد في سورة "فُصِّلَت"؟!

إنَّ الأرض (أي كوكب الأرض) بحسب هذا "التصوُّر الكوزمولوجي القرآني"، الذي تضمَّنته سورة "فُصِّلَت"، هي أوَّل وأقْدَم شيء خلقه الله. وهي أيضا الشيء الذي اسْتَغْرَق خلقه كاملا الجزء الأعظم من مُدَّة الخَلْق (أربعة أيَّام من زمن الخَلْق الذي هو ستَّة أيَّام). ومن هذا لا بدَّ لنا من أن نَسْتَنْتِج أنَّ الأرض أقْدَم وجودا من الشمس ومن مجرَّتنا (مجرَّة درب التبَّانة) وأنَّها (أي الأرض) مهما شاخت تَظل الشمس (مع سائر الأشياء في الكون) أصغر منها عُمْراً، وبما لا يزيد عن بضعة أيَّام. ويكفي أن تَعْتَقِد بأنَّ الأرض هي أوَّل وأقْدَم شيء خلقه الله حتى تَعْتَقِد، أي حتى يجب أن تَعْتَقِد، أيضاً، بأنَّ الأرض والكون بأسره متساويان عُمْراً، وبأنَّ الفَرْق في العُمْر بين الأرض وبين سائر المخلوقات في الكون لا يتعدَّى، ويجب ألاَّ يتعدَّى، بضعة أيَّام فحسب.

والله، في سورة "النازعات"، يَنْسِب ظاهرتي "الليل" و"الضحى" إلى السماء، وليس إلى الأرض، فقد "أغْطَش (أي أظْلَم)" ليلها، أي ليل السماء، وأخْرَج (أي أظْهَر) ضحاها، أيْ ضحى السماء. و"الضحى" لغةً "ضوء الشمس"، أو "ارتفاع النهار وامتداده"، أو "وقت ارتفاع النهار وامتداده وانتصافه". لقد نَسَبَ "الضحى" إلى السماء، وإنْ قال في سورة "الشمس": "وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا".

لقد رأيْنا هنا فَصْلاً لظاهرتي "الليل (الذي أظْلَمَه)" و"الضحى (الذي أظْهَرَه)" عن الأرض؛ ثمَّ فَصْلاً لهما عن "الجبال" التي قام بإرسائها (أي تثبيتها) لئلا تميد بالبشر.

وفي سورة "الأنبياء" ورد "وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ". "يُغْشِي اللَّيْل النَّهَار". الله، هنا، يَذْكُر "الليل" و"النهار" مع "الشمس" و"القمر"، فَهُما، أي "الليل" و"النهار"، يدوران حَوْلَ الأرض (كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) كما تدور الشمس (في الظاهِر) والقمر. والليل (الدائر حَوْل الأرض) يُغْشي، أي يُغطِّي (بظُلْمَتِهِ) النهار.

"إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ..". النهار (أو الليل) يَجِيء، ثُمَّ يَذْهَب وَيَخْلُفهُ الليل (أو النهار) لا يَتَأَخَّر عَنْهُ لَحْظَة؛ كما قال "لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ ولا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَار وَكُلٌّ فِي فَلَك يَسْبَحُونَ". تَارَة يَطُول هذا، وطورا يَقْصُر ذاك. هذا يَأْخُذ مِنْ ذاك، ثُمَّ يَتَعَاوَضَانِ؛ كَمَا قال "يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَار وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْل"، أَيْ يَزِيد مِنْ هذا في ذاك، وَمِنْ ذاك في هذا".

الله، في سورة "النازعات"، أنْجَز، بَعْد خَلْق السماء، ثلاثة أعمال (في الأرض) هي: دحو الأرض، وإخراج الماء والمرعى منها، وتثبيت الجبال فوقها. و"دحو" الأرض ليس من معانيه (اللغوية) أنْ يُخْرِج منها ماءها ومرعاها. معناه فحسب هو "بَسْطها".

ولكن، أين كانت الأرض؟

بحسب فهمنا للرواية القرآنية، كانت الأرض على سطح الماء. وقد أَنشد ابن بري لزيد بن عمرو بن نُفَيْل:   

دَحَاها , فلما رآها اسْتَوَتْ                 على الماء , أَرْسَى عليها الجِبالا

وهذا إنَّما يعني أنَّ الأرض، بحسب "التصوُّر الكوزمولوجي القرآني"، تَعْدِل "اليابسة (من غير جبال)" فقط، وأنَّ "الماء" ليس بجزء من "كوكب الأرض"!

وفي تفاسير ابن كثير والجلالين والطبري والقرطبي جاء أنَّ الله خَلَق الأرض في يومين هما الأحد والاثنين.

وجاء في تفسير الطبري أنَّ اليهود أَتَتْ النَّبِي فَسَأَلَتْهُ عَنْ خَلْق السَّمَوَات والأرض, فقَالَ: "خَلَقَ اللَّه الأرض يَوْمي الأحد والاثنين ,وَخَلَقَ الْجِبَال يَوْم الثلاثاء, وَخَلَقَ يَوْم الأربعاء الشَّجَر وَالْمَاء وَالْمَدَائِن وَالْعُمْرَانِ وَالْخَرَاب, فَهَذِهِ أَرْبَعَة أيَّام. وَخَلَقَ يَوْم الْخَمِيس السَّمَاء, وَخَلَقَ يَوْم الْجُمُعَة النُّجُوم وَالشَّمْس وَالْقَمَر والملائكة.. وفي نهايته، أي في نهاية يوم الجمعة خلق آدَم وَأَسْكَنَهُ الْجَنَّة, وَأَمَرَ إِبْلِيس بِالسُّجُودِ لَهُ, وَأَخْرَجَهُ مِنْهَا فِي آخِر سَاعَة. قَالَتْ الْيَهُود: ثُمَّ مَاذَا يَا مُحَمَّد؟ قَالَ: "ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْش", فقَالُوا: قَدْ أَصَبْت لَوْ أَتْمَمْت قائلاً ثُمَّ اسْتَرَاحَ; فَغَضِبَ النَّبِي غَضَبًا شَدِيدًا, فَنَزَلَ: "وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَات والأرض وَمَا بَيْنهمَا فِي سِتَّة أَيَّام وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوب فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ".

وجاء أيضاً أنَّ اللَّه خَلَقَ يَوْمًا وَاحِدًا فَسَمَّاهُ الأحد, ثُمَّ خَلَقَ ثَانِيًا فَسَمَّاهُ الاثنين, ثُمَّ خَلَقَ ثَالِثًا فَسَمَّاهُ الثلاثاء, ثُمَّ خَلَقَ رَابِعًا فَسَمَّاهُ الأربعاء, ثُمَّ خَلَقَ خَامِسًا فَسَمَّاهُ الْخَمِيس; وقد خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ هما الأحد والاثنين, وَخَلَقَ الْجِبَال يَوْم الثلاثاء, وَخَلَقَ مَوَاضِع الأنهار والأشجار يَوْم الأربعاء, وَخَلَقَ الطَّيْر وَالْوُحُوش وَالْهَوَام وَالسِّبَاع يَوْم الْخَمِيس, وَخَلَقَ الإنسان يَوْم الْجُمُعَة, فَفَرَغَ مِنْ خَلْق كُلّ شَيْء يَوْم الْجُمُعَة. وفي تفصيل آخر، جاء أنَّ الله خَلَقَ التُّرْبَة يَوْم السَّبْت, وَخَلَقَ فِيهَا الْجِبَال يَوْم الأحد, وَخَلَقَ الشَّجَر يَوْم الاثنين, وَخَلَقَ الْمَكْرُوه يَوْم الثلاثاء, وَخَلَقَ النُّور يَوْم الأربعاء, وَبَثَّ فِيهَا الدَّوَابّ يَوْم الْخَمِيس, وَخَلَقَ آدَم بَعْد الْعَصْر يَوْم الْجُمُعَة.

الله "يُسَبِّع" الواحد، أي يجعله سَبْعاً، فالسماء الواحدة جعلها سَبْع سماوات؛ والأرض الواحدة جعلها سَبْع أرضين. "اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنْ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً".

"وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ". أي جَعَل في الأرض جبالا من فَوْقها (من فَوْق سطحها أو تربتها أو على ظَهْرِها). وباركَ فيها، أي أكْثَرَ خيرها بما جَعَلَ فيها من المياه والزروع والضروع. وقدَّر فيها أقواتها، أي قَدَّرَ أرزاق أهلها ومعاشهم، وخَلَق فيها ما يحتاج إليه البشر من الأرزاق، والأماكن التي تُزْرَع وتُغْرَس، والأنهار والأشجار والدواب.

في أربعة أيام، أي فِي تَتِمَّة أَرْبَعَة أَيَّام؛ وَمِثَاله قَوْل الْقَائِل: خَرَجْت مِنْ الْبَصْرَة إِلَى بَغْدَاد فِي عَشْرَة أَيَّام, وإلى الْكُوفَة فِي خَمْسَة عَشَرَ يَوْمًا; أَيْ فِي تَتِمَّة خَمْسَة عَشَرَ يَوْمًا.

في أربعة أيَّام من أيَّام الخَلْق الستَّة، وبحسب سورة "فُصِّلَت"، خَلَق الله الأرض (في يومين) وجَعَل فيها رواسي من فوقها، وجعلها صالحة للحياة (في يومين آخرين). وعليه استغرق "عمله الأرضي" هذا أربعة أيَّام. وفي اليومين الأخيرين (الخميس والجمعة) من أيَّام الخَلْق الستَّة، أنْجَز "عمله السماوي"، فاسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ.. فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ.. وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا، وزَيَّنَ السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ.

هنا، نرى في وضوح أنَّ الله لَمْ يَقُمْ في أثناء "عمله السماوي (الذي استغرق يومين هما اليومين الأخيرين من أيَّام الخَلْق الستَّة)" بـ "دحو" الأرض كما ذُكِرَ في الآية "أَأَنْتُمْ أَشَدّ خَلْقًا أَمْ السَّمَاء بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكهَا فَسَوَّاهَا وَأَغْطَشَ لَيْلهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا والأرض بَعْد ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَال أَرْسَاهَا مَتَاعًا لَكُمْ ولأنعامكم"، من سورة "النازعات".

لقد أخْرَجَ من الأرض ماءها ومرعاها، وقام بإرساء الجبال، "قَبْلَ" أن يبدأ "عمله السماوي"، فهو أنْجَزَ وأتَمَّ "عمله الأرضي" في أربعة أيَّام، ثمَّ أنْجَزَ وأتَمَّ "عمله السماوي" في يومين؛ ولم يَكُن من تداخُلٍ بين العملين. وقوام "عمله السماوي" كان الآتي: اسْتَوى إلى السماء وهي دخان، فَجَعَلَها سَبْع سماوات، مُزَيِّناً السماء الدنيا بمصابيح (أي نجوم). وفي آخر يَوْم الْجُمْعَة خَلَقَ اللَّه آدَم فِي عَجَل. ومعنى "اسْتوى إلى السماء وهي دخان" هو عمد إلى خلقها، وقصد إلى تسويتها، وهي بهيئة الدخان. و"الدخان"، بحسب تفسير ابن كثير، إنَّما هو "بخار الماء المتصاعِد من الأرض إلى السماء" حين خُلِقَت الأرض. 

وجاء في تفسير الطبري: عن ابْن عَبَّاس, عَنْ النبي، أنَّ الله فَرَغَ مِنْ خَلْق الأرض وَجَمِيع أَسْبَابهَا وَمَنَافِعهَا مِنْ الأشجار وَالْمَاء وَالْمَدَائِن وَالْعُمْرَانِ وَالْخَرَاب فِي أَرْبَعَة أَيَّام, أَوَّلهنَّ يَوْم الأحد, وَآخِرهنَّ يَوْم الأربعاء.

وفي أمْرِ الرواسي، أو الجبال، جاء في تفسير القرطبي: لَمَّا خَلَقَ اللَّه الأرض مَادَتْ عَلَى وَجْه الْمَاء; فَقَالَ لِجِبْرِيل ثَبِّتْهَا يَا جِبْرِيل. فَنَزَلَ فَأَمْسَكَهَا فَغَلَبَتْهُ الرِّيَاح, فقَالَ: يَا رَب أَنْتَ أَعْلَم لَقَدْ غُلِبْت فِيهَا، فَثَبَّتَهَا (الله) بِالْجِبَالِ وَأَرْسَاهَا.

وهذا إنَّما يعني أنَّ الأرض خلقها الله على وجه الماء، وأنَّها في اليومين الأولين (من أيَّام خلقها الأربعة) كانت عُرْضَة لـ "المَيَدان"، أي التحرُّك والاضطِّراب والتمايل، فهي تشبه لوح خشب على وجه الماء، تجري به الرياح، ولا بدَّ، من ثمَّ، من وسيلة لتثبيته. وهذه الوسيلة، بالنسبة إلى الأرض، كانت "الجبال"، أو "الرواسي".

لقد أتّمَّ الله خَلْق الأرض في أربعة أيَّام، وقَبْل خَلْق السماء (أو السماوات السبع) والنجوم والشمس والقمر.

ويُقرِّر "المؤوِّلون العِلْميون المعاصرون" أنَّ "كل ما في السماء الدنيا يقع في داخل باقي السَّماوات"، مستنِدين إلى الآية "أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا. وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا". هذا تأويل فاسِد من الوجهة المنطقية، فَوِفْقَهُ ينبغي لنا أن نَفْهَم "باقي السَّماوات (سِتُّ سماوات)" على أنَّها سماوات لا يُوْجَدُ فيها إلاَّ ما هو موجود في "سمائنا"، أي "السَّماء الدنيا". ولو كان لديهم أقلِّ قدر من الذكاء لسألوا أنفسهم، قبل أن يبتدعوا هذا التأويل، السؤال الآتي: "هل يُمْكِن أن يكون القمر "نوراً"، والشمس "سراجاً وهَّاجاً"، في "السماء السادسة (أو السابعة)" مثلاً؟ هذا القمر ليس بـ "نور" بالنسبة إلى "سكَّان كوكب يقع في نهاية مجرَّتنا، أي مجرَّة "درب التبانة"، التي هي "نقطة" في "بحر الجزء الذي نُدْرِك من السماء الدنيا"!

"السماء" في "صورتها القرآنية" إنَّما هي "السقف" بالنسبة إلى الأرض، التي هي كـ "الأرضية" بالنسبة إلى "البناء الكوني"؛ "وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا..". "اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ قَرَاراً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً..".

وهذا "السَقْف"، الذي هو هلى هيئة "قُبَّة"، يُمْكِن أن يَقَع كله، أو "كِسَفاً (أي قِطعاً) منه"؛ لكنَّ الله الرؤوف الرحيم بالناس "يُمْسِك السماء" من "أنْ"، أو لئلاَّ، تقع على الأرض إلاَّ بإذنه، فتَهْلكوا. "أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ". "أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمْ الأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنْ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ".

قدرة الله إنَّما تكون "بين الكاف والنون (كُنْ فيكون)"، فهل نَقِفُ هنا على معنى "الخَلْقُ من العَدَم"؟ "بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ". "قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ". "إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ". "إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ". "مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ". "إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ". "هُوَ الَّذِي يُحْيِ وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ". 

في أَيِّ حَال يَقُول الله للأمر الَّذِي يَقْضِيه (يُريده ويُقَرِّره) كُنْ؟ أفي حَال عَدَمه؟ تِلْكَ حَال لا يَجُوز فِيهَا أَمْره, إذْ كَانَ مُحالاً أَنْ يَأْمُر إلاَّ الْمَأْمُور, فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْمَأْمُور اسْتَحَالَ الأمر; وَكَمَا مُحَال الأمر مِنْ غَيْر آمِر, فَكَذَلِكَ مُحَال الأمر مِنْ آمِر إلاَّ لِمَأْمُورِ. أَمْ يَقُول لَهُ ذَلِكَ فِي حَال وُجُوده؟ تِلْكَ حَال لا يَجُوز أَمْره فِيهَا بِالْحُدُوثِ, لأنَّه حَادِث مَوْجُود.

هل أراد الله وقرَّر خَلْق الشمس، مثلا، فأمَر هذا المأمور، وهو الشمس، أو أصْل الشمس، بأنْ يكون على هيئة شمس، فكان، أيْ أصبح على هيئة شمس؟!

لا بدَّ أوَّلاً من وجود المأمور، فيأمره الله بأن يصبح في هيئة مختلفة. لقد أمَرَ الله بعض اليهود بأن يكونوا، أي أن يصبحوا، قردة، وما كان لهذا الأمر أنْ يتحقَّق لو لم يكن من وجود لهؤلاء اليهود.

الله إذا أراد خَلْق شيء فإنَّه يقول لهذا الشيء كُنْ فيكون، أيْ أنَّه يقول لشيء موجود كُنْ على هيئة أخرى، فيصبح عليها. "المأمور" يجب أن يكون موجوداً. والأمْر إنَّما يَجْعَل هذا الشيء الموجود، قبل الأمر، على هيئة مختلفة، فالخَلْقُ، على ما نرى، لا يكون من العَدَم. إنَّه فِعْلُ "تحويلٍ" لشيء من صورة إلى صورة. إنَّ الله يقول للمأمور "كُنْ"، فيكون (ذلك المأمور) على ما أمره الله أن يكون وأراده.  

"إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ". "إنَّ مَثَل عِيسَى"، أي شَأْنه الْغَرِيب، "عِنْد اللَّه كَمَثَلِ آدَم"، أي كشأن آدم. خَلَقَ الله آدم مِنْ تُرَاب، ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ بَشَرًا "فَيَكُون" أَيْ فَكَانَ؛ وَكَذَلِكَ عِيسَى قَالَ لَهُ كُنْ مِنْ غَيْر أَب فَكَانَ. في خلق آدم، كان "المأمور" هو "التمثال الطيني"، فالله أمَرَ هذا التمثال، بعدما صنعه، بأنْ يكون (بأن يغدو أو يصبح) بشراً، فكان.

"المادة"، وكما رأيْنا من خلال طريقة الخَلْق القرآني للسَّماوات والأرض، لَمْ تُخْلَق من العَدَم، فبعضٌ من المادة أخْبَرَنا القرآن بوجوده قَبْلَ أنْ يشرع الله يَخْلُق السَّماوات والأرض وما بينهما في سِتَّة أيَّام. وهذا الخَلْق الإلهي ـ القرآني لـ "الكون" إنَّما كان، بحسب الوصف القرآني له، يَعْدِلُ في معناه "خَلْق (أو صُنْع) شيء من شيء"، كصُنْع النجَّار لطاولة من لوح خشبي؛ لكن هل في القرآن ما يشير إلى "فناء المادة" يوم القيامة؟

إنَّكَ يكفي أن تقرأ ما وَرَدَ في القرآن من وصفٍ لـ "نهاية العالَم"، أيْ لـ "يوم القيامة"، ومن وصفٍ لـ "الجنَّة" و"النار"، وأنْ تَفْهَمَ ما قَرَأْت بمعانيه الحقيقية، أي بلا زيادة ولا نقصان، حتى تتأكَّدَ أنَّ "الإفناء الإلهي ـ القرآني" للعالم، أو لـ "الحياة الدنيا"، ليس فيه ما يشير إلى "فناء المادة"، أو إلى أنْ يَخْلِفَ العَدَمَ الوجود.

وتوصُّلاً إلى ذلك، أيْ إلى هذا الفَهْم، وهذا الاستنتاج، أمْعنوا النظر، واعْمِلوا التفكير، في معاني الآيات القرآنية الآتية:

"يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ".

"وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً".

"إِذَا وَقَعَتْ الْوَاقِعَةُ. لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ. خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ. إِذَا رُجَّتْ الأَرْضُ رَجّاً. وَبُسَّتْ الْجِبَالُ بَسَّاً. فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثّاً".

"فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ. وَحُمِلَتْ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً. فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتْ الْوَاقِعَةُ. وَانشَقَّتْ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ".

"يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتْ الْجِبَالُ كَثِيباً مَهِيلاً".

"إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ. وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ. وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ. وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ. وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ".

"كَلاَّ إِذَا دُكَّتْ الأَرْضُ دَكّاً دَكّاً".

"إِذَا زُلْزِلَتْ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا. وَأَخْرَجَتْ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا".

"يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ. وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ".

"فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ. خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ. وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ".

"فناء العالَم" إنَّما يعني، في القرآن، أنْ "تُبَدَّلَ الأرضُ غير الأرض.."؛ وقيل في الشرح والتفسير أنْ تصير الأرض التي نَعْرِف "أرضاً بيضاء كالفضَّة". وغنيٌّ عن البيان أنَّ عبارة "تُبَدَّلَ الأرض غير الأرض (وأن تُبَدَّل السَّماوات أيضا)" لا تنطوي على أيِّ معنى من معاني الفناء والزوال، فـ "الأرض التي بُدِّلَت" تظلُّ صورة من صور "المادة"، وكأنَّ انتقالها من حالٍ إلى حال هو جوهر معنى "الفناء الإلهي ـ القرآني" للعالَم يوم القيامة.

وفي هذا "الفناء"، يُسَيِّر الله الجبال، أي يَذْهَب بها عن وجه الأرض؛ فهي إنَّما جَعَلَها الله في الأرض رواسي، تُثَبِّت الأرض، وتَمْنعها من أن تميد بالبشر. وبِرَفْعِهِ تلك الرواسي تغدو الأرض بارزةً، أي ظاهرة، ليس عليها شيء من جَبَلٍ ولا غيره.

وفي "يوم الفناء (القارعة)"، يَرُجُّ الله الأرض رَجَّاً، أي يُحَرِّكها حركة شديدة عنيفة، ويَبُسُّ الجبال بَسَّاً، أي يُفَتِّتها، فتغدو "هباءً مُنْبَثَّاً"، أي غباراَ مُنْتَشِراً.

وفي "يوم النَفْخِ في الصُّور نفخةً واحدةً"، تُحْمَل الأرض والجبال، أي تُرْفعا، فَيَدُّكهما الله دَكَّاً، أي يَدُقُّهما. وَدَقُّ الشيء يعني كسره؛ وَدَقُّ الحَبَّ يعني جَعْله مسحوقاً ناعماً. وفيه، أيضا، تَنْشَقُّ السماء، فتبدو واهيةً ضعيفةً.

وفي وَصْفِ "يوم فناء العالَم"، أو "الحياة الدنيا"، تَرْجُفُ الأرض والجبال، أي تُزَلْزَل الأرض والجبال، وتكون الجبال رَمْلاً مُجْتَمِعاً، فيَشْرَع يتساقط. والسماء تَنْشَق، والأرض تُمَد، أي تزيد سعتها، ولا يبقى عليها بناء ولا جَبَل، وتُلْقي ما فيها من الموتى إلى ظاهرها، مُتَخَلَّيةً عنهم. وهذا هو ذاته معنى أنْ تُزَلْزَل الأرض، وتُخْرِج أثقالها. والسماء لا تَنْشق فحسب، وإنَّما "تُطْوى"، فالله، "يوم القيامة"، يطويها كطيِّ السِّجِل للكُتُب؛ أمَّا "النتيجة النهائية" فنراها في قوله "كما بَدَأْنا أوَّل خَلْق نُعيدهُ"، أي يَهْلَك كل شيء، أي يعود "الكون" إلى ما كان عليه من حالٍ عند، أو قَبْل، خَلْق الله للسَّماوات والأرض وما بينهما في سِتَّة أيَّام.

إنَّ "القيامة" تؤثِّر في السَّماوات بالانشقاق، وفي الأرض بالزلزلة، وفي الجبال بالدكِّ والنسف، وفي الكواكب بالانتثار، وفي الشمس والقمر بالتكوير والانكدار. وتكون الجبال، أيْ تصبح، "يوم القيامة"، كالعهن المنفوش؛ إنَّها تصير كالصوف المتطاير، تتفرَّق أجزاؤها وتتطاير في الجوِّ حتى تكون كالصوف المتطاير عند الندف.

وبَعْدَ هذا "الإفناء الإلهي ـ القرآني" للعالَم، أو لـ "الحياة الدنيا"، يَخْلُد المؤمنون في الجَنَّة "ما دامت السَّماوات والأرض إلاَّ ما شاء ربُّكَ"، ويَخْلُد الكافرون في النار، أو جهنَّم، "ما دامت السَّماوات والأرض إلاَّ ما شاء ربُّكَ".

وهذا إنَّما يعني أنَّ أهل النار وأهل الجنَّة يَدُومان (يَخْلُدان، يَبْقيان) فيهما (أي في النار والجنَّة) ما دامت (ما بَقِيَت، ما خَلُدَت) السَّماوات والأرض؛ فـ "القيامة" لا تعني زوال، وفناء، السَّماوات والأرض، وإنَّما اختلاف وتَبَدُّل حالهما. أمَّا عبارة "إلاَّ ما شاء ربُّكَ" ففيها معنى "الاستثناء"، فدوام أهل النار وأهل الجنَّة في ما هُمْ فيه من الجحيم أو النعيم ليس أمْراً واجباً بذاته، بل هو مَوْكول إلى مشيئة الله.

وَبَعْد كل هذا الذي شَرَحْنا وأوْضَحْنا هل يجوز القول بأنَّ الخَلْق الإلهي ـ القرآني لـ "الكون" كان خَلْقاً لـ "المادة" من "العَدَم"؟!

إنَّ "الكوزمولوجيا القرآنية" تؤكِّد بما لا يَدَع مجالاً للشك أنَّ الخَلْق الإلهي لـ "الكون" لا يتعارَض وإنَّما يتوافق مع مبدأ أو قانون "المادة لا تفنى ولا تُسْتَحْدَث (ولا تُخْلَق) وإنَّما تتحوَّل من شكل إلى آخر"، فـ "خالِق الكون" ليس بِمُبْدِعٍ لـ "المادة" من "العَدَم"، وإنَّما هو "مُحَوِّل لها" من صورة إلى صورة، ومن شكل إلى شكل.

شعوذة الدكتور زغلول النجار!

الدكتور زغلول النجار يريد، على ما يبدو، أنْ يكون "المُنْجِد" لكلِّ مؤمِن (من المسلمين) قد ينال "الشكُّ العلمي" من قوَّة إيمانه، فثمَّة كثيرٌ من النصوص الدينية ("الكونية"، أو "الكوزمولوجية" منها على وجه الخصوص) يشقُّ ويتعذَّر الآن أنْ تَجِدَ له سَنَداً قويَّاً في "الحقائق" من العلوم، ومن عِلْم الكون على وجه الخصوص، على ما يرى الدكتور النجار في باطِن تفكيره.

هذا "المُنْجِد" يحتاج أوَّلاً إلى ما ينْجِده، فـ "المهمَّة" التي انبرى لها ليست بالسهلة، وتكاد أن تَعْدِل، في صعوبتها واستعصائها، مهمَّة "تربيع الدائرة".

أمَّا ما يُنْجِدُ هذا "المُنْجِد" فهو "التأويل"، في منطقه الذي يناقِض "منطق التفسير (الحقيقي، الواقعي، التاريخي، الموضوعي)". إنَّ هذا "التأويل" هو في منزلة "قارب النجاة"، يَرْكبه "المُنْجِد"، أي الدكتور زغلول النجار، عندما تَسْتَنْفِد "المهمَّة" طاقته الثلاثية، أي الدينية والعلمية واللغوية.

ولكن، لماذا أُوْلي الدكتور النجار هذا الاهتمام الذي يبدو كبيراً إذا ما كان "إبداعه الفكري" يَفْتَقِر، على ما أرى وأعتقد، إلى الإبداع في معناه الحقيقي؟

السبب لا يكمن فيه، ولا في ما يُنْتِج من "فكر"، وإنَّما في ما يَمْلُك هذا "المُفَكِّر الإسلامي" من نفوذ واسع في عقول (وقلوب) الملايين من المسلمين، مع أنَّ "الشعبية"، في "عالم الفكر"، ليست بالمقياس السليم لأهمية وحيوية وقوَّة الفكرة، أو الفكر، فكم من فكرٍ عديم الوزن، إذا ما قسناه بـ "ميزان الحقيقة الموضوعية"، اكْتَسَب "وزناً شعبياً هائلاً".

ولطالما هاجمني المُعْجَبون بالدكتور النجار و"فكره" بقولٍ من قبيل "مَنْ أنتَ حتى تُقارِع هذا الراسخ في العِلْم.. في الدين، واللغة، والعلوم؟!"، فهو متضلِّع من الدين واللغة.. ومن العلوم؛ ذلك لأنَّه، أكاديمياً، "أُستاذ علوم الأرض". ومنهم من فسَّر انتقادي لفكره المتهافت على أنَّه محاولة لـ "الشُهْرة" أقوم بها.

وكم تمنَّيْتُ أن يكون لهم من الآراء ما يستحقُّ الاهتمام والنقاش، وأنْ ينبذوا عبادة الأوثان، من الرجال كانت أم من الأفكار، فليس من مكان في "عالم الفكر" لـ "البقرات المقدَّسة"!

لِنَعُدْ الآن إلى "المُنْجِد"، ولنَنْظُر بعيون مُجرَّدة من الأوهام إلى ما يرون فيه مَعْلَماً من معالم "عبقرية" الدكتور النجار.

لقد قرَّر هذا "المُبْدِع" أنْ يأتي بـ "تأويل جديد" لعقيدة "الخَلْق في ستة أيام"، لعلَّه يُوفَّق أخيراً في أن يقول مرَّة أُخرى: "ها هو العِلْم يَنْطُق أخيراً بالحقيقة التي نطق بها النص الديني منذ قرون من الزمان".

هذا "المُنْجِد"، أو "المُبْدِع"، لم يَرُقْهُ أن تُفْهَم "أيام الخَلْق الستة"، وأن تُفسَّر، على أنَّها "أيام الأسبوع (في كوكب الأرض)"، فهي ليست، على ما "قرَّر" و"أفتى"، أيام الأحد، والاثنين، والثلاثاء، والأربعاء، والخميس، والجمعة.

أمَّا السبب (القرآني) الذي حَمَلَه على نَبْذ هذا الفهم، أو التفسير، فقد "اكتشفه" في خُلوِّ كل آية من آيات "خَلْق الكون في ستة أيام" من العبارة القرآنية "مِمَّا تَعُدُّون".

مُكْتَشِف "الإشارات القرآنية (إلى كل الاكتشافات والحقائق العِلْمية من فيزيائية وكوزمولوجية وكيميائية.."، الدكتور النجار، الذي هناك مَنْ يرى فيه من "العبقرية" ما يَعْدِل عبقرية آينشتاين، إنْ لم يَفُقْها، اكتشف "إشارات قرآنية إلى عُمْر الكون".

وفي أمْر هذا "الاكتشاف" قال الآتي:

لقد ذكر القرآن الكريم في كثيرٍ من آياتـه أنَّ الله تعالى خلق الكون في ستـة أيام.. "وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (ق ـ 38)".

أمَّا عن الأيام فالمقصود بها مراحل أو حقب زمنية لخلق الكون وليست الأيام التي نعدها نحن البشر بدليل عدم وجود عبارة "مم تعدون " في جميع الآيات التي تتحدث عن الأيام الستة للخلق كما في قوله تعالى: "وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (هود ـ 7)". وقوله: "اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (السجدة ـ 4)".

وهنا نلاحظ أنَّ اليوم في سورة السجدة آية (4) يمثل مرحلة من مراحل الخلق، أما اليوم في الآية (5) فهو من آياتنا التي نعدها بطلوع الشمس كل يوم. والسؤال الآن هو ما هي هذه الأيام أو المراحل الستة وكيف يمكن تقسيمها كونياً؟ والعلم يقدر عمر الكون بين 10 ـ 20 مليار سنة .

الإشارة القرآنية: قال تعالى: "قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (فصلت ـ 9)".

طبقاً لهذه الآيات فإنَّ الأيام الستة للخلق قسمت كما أجمع المفسرون إلى ثلاثة أقسام متساوية كل قسم يعادل يومين من أيام الخلق بالمفهوم النسبي للزمن .

أولاً: يومان لخلق الأرض من السماء الدخانية الأولى:"قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (فصلت ـ 9)". و"أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (الأنبياء ـ 30)".

ثانياً: يومان لتسوية السماوات السبع: "ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (فصلت ـ 11)". وهذا يشير إلى الحال الدخانية للسماء بعد الانفجار الكوني العظيم بيومين حيث بدأ تشكل السماوات فقضاهن سبع سماوات في يومين .

ثالثاً: يومان لتدبير الأرض جيولوجياً وتسخيرها للإنسان. قال تعالى: "وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (فصلت ـ 10)"، مما يشير إلى جبال نيزكية سقطت واستقرت في البداية على قشرة الأرض فور تصلبها بدليل قوله "من فوقها"، و"بارك فيها أقواتها"، أي قدر أرزاق أهلها .

"في أربعة أيام سواء للسائلين"، أي تمام أربعة أيام كاملة متساوية بلا زيادة و لا نقصان للسائلين من البشر عن مدة خلقها وما فيها. و يرى جميع المفسرين أنَّ هذه الأيام الأربعة تشمل يومي خلق الأرض و يومي التدبير الجيولوجي لها.

ويتضح مما سبق:

1ـ تساوي الأيام زمنياً، وإلا لما أمكن جمعها وتقسيمها إلى ثلاثة مراحل متساوية.

2ـ التدبير الجيولوجي للأرض حتى وصول السائلين (الإنسان ) أستغرق يومين من أيام الخلق الستة، أي أستغرق ثلث عمر الكون. وحيث أن التدبير الجيولوجي للأرض منذ بدء تصلب القشرة الأرضية وحتى ظهور الإنسان قد استغرق زمناً قدره 4.5 مليار سنة طبقاً لدراسة عمر الأرض إذاً عمر الكون يساوي 13,5 (4,5 × 3) مليار سنة. وهذا الرقم يقارب ما توصلت إليه وكالة الفضاء الأمريكية ناسا مؤخراً و ذلك باستخدام مكوك فضائي مزود بمجسات متطورة جداً لدراسة الكون حيث قدرت عمر الكون بـ 13,7 مليار سنة.

انتهت "المقالة ـ الاكتشاف".

أوَّلاً، وقبل أن نبدأ، لا بدَّ من إظهار "السبب الخفي" الذي حَمَلَ الدكتور النجار على نَبْذ تفسير "أيام الخَلْق الستة" على أنَّها ستة أيام من الأيام الأرضية.

إذا وُلِدَ عشرة أطفال، مثلاً، في ستة أيام فإنَّ الولد الأخير، أو العاشر، ومهما كَبْر عُمْراً، يظلُّ أصغر من الولد الأوَّل بما لا يزيد أبداً عن ستة أيام، فإذا أصبح عُمْرُ الولد الأوَّل 100 يومٍ، مثلاً، فإنَّ عُمْر الولد الأخير لن يكون أبداً أكثر من 100 يومٍ، أو أقل من 94 يوماً. مهما كبر الولدان الأوَّل والأخير فإنَّ الفَرْق في العُمْر بينهما يظلُّ ثابتاً لا يتغيَّر، ويظلُّ دائماً أقل من ستة أيام؛ وهذا الفَرْق هو ما يسمَّى في الرياضيات "ثابت التغيُّر".

قياساً على ذلك، لا يُمْكِن أبداً أن يزيد الفَرْق في العُمْر بين كوكب الأرض والشمس، مثلاً، ومهما كبرا عُمْراً، عن ستة أيام، فإذا كان عُمْر الشمس الآن (والمخلوقة قبل كوكب الأرض بحسب علوم الكون) 5000 مليون سنة فإنَّ عُمْر كوكب الأرض يجب أن يكون أقل من 5000 مليون سنة بيومٍ، أو يومين، أو ثلاثة أيام، أو أربعة أيام، أو خمسة أيام؛ لكنَّه لن يكون أبداً أقلَّ من عُمْر الشمس هذا بسبعة أيام، أو بألف يوم، أو بمليون سنة، أو ببليون سنة.

وفي مثال آخر، يجب أن يكون كوكب الأرض أكبر عُمْراً من النوع البشري بيومٍ، أو يومين، أو ثلاثة أيام، أو أربعة أيام، أو خمسة أيام، فقط.

لقد أراد الدكتور النجار الخروج من هذه الورطة "الرياضية ـ الكوزمولوجية" فأوقع نفسه في ورطة أكبر.

والآن، لِنَبْدأ من الآية 38 من سورة "ق"، والتي جاء فيها: "وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ".

لو عُدْنا إلى "التفاسير القديمة"، أي إلى ما قبل "تفسير النجار"، لَمَا عَثَرْنا على أيِّ معنى من المعاني التي تَضَمَّنها "تفسير النجار"، ففي "تفسير الجلالين" على سبيل المثال وَرَدَ الآتي:

"وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَات وَالأرْض وَمَا بَيْنهمَا فِي سِتَّة أَيَّام" أَوَّلهَا الأحَد وَآخِرهَا الْجُمُعَة، "وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوب"، أي تَعَب، نَزَلَ رَدًّا عَلَى الْيَهُود فِي قَوْلهمْ: إنَّ اللَّه اسْتَرَاحَ يَوْم السَّبْت وَانْتِفَاء التَّعَب عَنْهُ لِتَنَزُّهِهِ تَعَالَى عَنْ صِفَات الْمَخْلُوقِينَ وَلِعَدَمِ الْمُمَاسَّة بَيْنه وَبَيْن غَيْره "إنَّمَا أَمْره إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُول لَهُ كُنْ فَيَكُون".

"الخالق" إنَّما هو الله؛ و"المخلوق" إنَّما هو "السماوات والأرض وما بينهما"؛ و"مُدَّة الخَلْق" هي "ستة أيام"، هي، في "التفاسير القديمة"، أيام الأحد، والاثنين، والثلاثاء، والأربعاء، والخميس، والجمعة.

أمَّا "يوم السبت" فـ "معناه القرآني" يختلف تماماً عن "معناه اليهودي (أو التوراتي)"، فالله لا يَتْعَب (لأنَّه الله) حتى يَصْدُقَ زَعْم اليهود أنَّه "استراح" في ذلك اليوم.

العبارة القرآنية "ولقد خَلَقْنا" إنَّما تعني أنَّ "الخَلْق"، الذي يعني "خَلْق السماوات والأرض وما بينهما"، فِعْلٌ إلهي انتهى وتمَّ، أي أنَّه، لغةً، "فِعْلٌ ماضٍ"، فهو ليس بـ "مضارع"، وليس بـ "مستقبل". لقد بدأ (بحسب "التفاسير القديمة") يوم الأحد، وانتهى مساء الجمعة.

وأنتَ يكفي أنْ تفهم "أيام الخَلْق الستة" في معناها هذا، أي على أنَّها من أيام الأسبوع الأرضي، حتى لا ترى من حاجةٍ إلى تضمين تلك الآية (وأشباهها) عبارة "مِمَّا تَعُدُّون"، فهل بَطُل "عَجَب" الدكتور النجار بعدما وَضُحَ "السبب"؟!

"المُنْجِد"، "المُبْدِع"، لم يَرُقْهُ هذا التفسير (القديم) فقد تناهى إلى سمعه أنَّ "ناسا" حَسِبَت "عُمْر الكون"، فتوصَّلت إلى أنَّه 13.7 بليون سنة (13700 مليون سنة).

الآن، اُنْظروا إلى ما قام به هذا "العبقري".

لقد أَخَذَ الرقم 13.7 بليون (سنة) وقَسَّمَهُ على الرقم 6 (أي أيام الخَلْق الستة) فكانت النتيجة هي الرقم 2.2 بليون (سنة).

ولو كان لهذا "العبقري" أنْ يعيد كتابة تلك الآية لكتبها على النحو الآتي: "وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي 13.7 بليون سنة وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ"!

وأنتَ يكفي أنْ تُتَرْجِم العبارة القرآنية "ستة أيام" بـ "الرقم النجَّاري" 13.7 بليون سنة حتى تَفْقِد العبارة القرآنية "وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ" معناها، فإنَّ هذه العبارة تَسْتَمِدُّ معناها ليس من "إطالة" مُدَّة الخَلْق، وإنَّما من "تقصيرها"!

إذا أنتَ كَتَبْتَ مقالة صحافية طويلة جدَّاً في ستة دقائق، فقد أسألكَ في دهشة قائلاً: "ألَمْ تتعب؟!"؛ أمَّا لو كتبتها في ستة أشهر فإنَّ الحاجة إلى هذا السؤال (المليء دهشةً) تنتفي!

اسْألْ الدكتور النجار الآن عن "مقدار كل يوم من أيام الخَلْق الستة" فيُجِبُكَ على البديهة قائلا: "2.2 بليون سنة أرضية".

أمَّا أنا فسأسأله السؤالين الآتيين:

ما مقدار كل يوم من أيام الخَلْق الستة إذا ما توصَّلت "ناسا"، أو غيرها، مستقبلاً، إلى أنَّ "عُمْر الكون" أكبر، أو أصغر، من 13.7 بليون سنة؟

إذا ما أطال الله بعُمْرِكَ أيَّها الدكتور النجار، وظللتَ على قَيْد الحياة إلى أنْ كَبُرَ الكون أكثر، وأصبح عُمْره، مثلاً، 50 بليون سنة، فكم يصبح مقدار كل يوم من أيام الخلق الستة؟

لا شكَّ في أنَّ السؤال الثاني قد صَعَقَكَ أكثر من السؤال الأول، فإذا ما أرَدتَ أنْ تجيب عنه، بما يوافِق منطقكَ المتهافت ذاته، فلا مناص لكَ من أنْ تجيب قائلاً: "إنَّ كل يوم من أيام الخَلْق الستة يَعْدِل 8.3 بليون سنة"!

أيُّها "المُنْجِد"، "المُبْدِع"، "العبقري"، الذي يُصَفِّق لكَ هذا الجمهور العريض الواسع من المُعْجبين، لقد خلطتَّ بين أمرين لا يخلط بينهما إلاَّ "رَجُل خَلْط"، فـ "مُدَّة الخَلْق (خَلْق الكون)" هي شيء، و"عُمْر الكون" هو شيء آخر مختلف تماماً. إنَّكَ لم تميِّز "عُمْر الكون" من "مُدَّة خَلْقِه"!

لقد ابتنى الدكتور النجار منزلاً فخماً له من اتِّجاره بالأوهام التي لها في مجتمعنا سوقاً واسعة مزدهرة. ابتناه في زمن مقداره 6 أشهر. وقد انتهى من بنائه سنة 2004.

لو سألْتَ هذا "العبقري" الآن (أي سنة 2012) عن "مُدَّة" خَلْقِه لمنزله لأجابكَ على البديهة قائلا: "نحو 8 سنوات"!

ولو سألته السؤال نفسه سنة 2014 لأجابكَ على البديهة قائلاً: "نحو 10 سنوات"!

إنَّه لا يُمَيِّز "عُمْر" منزله، والذي هو الآن (أي سنة 2012) نحو 8 سنوات، من "مُدَّة" خَلْقِه لهذا المنزل، والتي هي 6 أشهر؛ ولسوف تظلُّ إلى الأبد 6 أشهر!

إذا كان الرقم 13.7 بليون سنة يَعْدِل "عُمْر" الكون و"مُدَّة" خَلْقِه أيضاً، فهذا إنَّما يعني أنَّ الله قد انتهى من خَلْق الكون قبل بضعة آلاف من السنين، أو غداة مَوْلِد النجار!

وهذا المعنى إنَّما يعني أنَّ الله لَمْ ينتهِ بَعْد من خَلْق الكون؛ ذلك لأنَّ الكون مستمرٌ، يَكْبُر عُمْراً!

وفي مثالٍ افتراضي آخر نقول:

لقد ابتنى الدكتور النجار بناية مؤلَّفة من ثلاث طوابق، اسْتَغْرَق بناؤه لها 13.7 بليون سنة، فكم "عُمْرها"؟

بالله عليكم اسألوه هذا السؤال لعلَّه يجيب!

إذا انتهى من بنائها قبل 3 أشهر فَعْمرها الآن 3 أشهر؛ أمَّا إذا انتهى من بنائها (الذي اسْتَغْرَق 13.7 بليون سنة) قبل  13.7 بليون سنة، فَعْمرها الآن 13.7 بليون سنة.

بالله عليكم دعوه يجيب، ويَكْفينا، من ثمَّ، شرَّ "عبقريته"، التي لا يراها عبقريةً إلاَّ كل من خَتَم الله على قلبه.. وعلى سمعه، وجَعَلَ على بصره غِشاوة!

عُمْر الكون 13.7 بليون سنة.. وبحسب "اكتشاف" الدكتور النجار، اسْتَغْرَق "خَلْق" الكون 13.7 بليون سنة، تَعْدِل "الستَّة أيَّام"!

في سورة "السجدة"، وفي الآية 4 منها، نقرأ: "اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ".

أمَّا في الآية 5 منها فنقرأ: "يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنْ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ".

الدكتور النجار، وعن عمد، ضَرَب صفحاً عن الآية 5 من سورة "السجدة". وضَرَب صفحاً عن الآية 47 من سورة "الحج"، والتي نقرأ فيها: "وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ".

الله خَلَق "السماوات والأرض وما بينهما" في ستة أيام أرضية، هي (بحسب "التفاسير القديمة") أيام الأحد، والاثنين، والثلاثاء، والأربعاء، والخميس، والجمعة.

أمَّا في الآية 5 من سورة "السجدة" فثمَّة حَدَثٌ إلهي، إذا استغرق حدوثه يوماً واحداً، بحسب "الساعة الإلهية"، فإنَّ هذا اليوم الواحد يَعْدِل ألف سنة أرضية. وهذا "الحَدَث" تشير إليه العبارة القرآنية "ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ".

وإذا كان هذا "اليوم الواحد" هو "اليوم عند الله على وجه الإطلاق" فهذا قد يعني (أقول "قد") أنَّ الله خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام "إلهية" تَعْدِل 6000 آلاف سنة أرضية.

ولو فسَّرنا ذلك اليوم (الإلهي) الذي يَعْدِل ألف سنة أرضية (أو مِمَّا نَعُدُّ) بما يوافِق "نسبية الزمن" عند آينشتاين لتوصَّلْنا إلى استنتاج مؤدَّاه أنَّ "الزمن الإلهي" متمدِّد، أي بطيء، وأنَّ "الزمن الأرضي" متقلِّص، أي سريع، فـ "اليوم الإلهي" إنَّما يَعْدِل ألف سنة أرضية.

والزمن، بحسب نظرية آينشتاين، لا يتمدَّد، أي لا يتباطأ، إلاَّ في إحدى ساعتين: الساعة في جسم تسارع حتى قارب سرعة الضوء، والساعة في جسم كوني (كوكب أو نجم مثلاً) قوي الجاذبية.

أمَّا "الكاف" في عبارة "كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ" من الآية 47 من سورة "الحج" فتؤثِّر في معنى "اليوم" في العبارة القرآنية "وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ". وهذا التأثير قد يجعل لـ "اليوم" في هذه الآية معنى "اليوم عند الله على وجه الإطلاق"، فيجوز، من ثمَّ، أنْ نَسْتَنْتِج أنَّ الله خلق السماوات والأرض وما بينهما في 6000 آلاف سنة أرضية. وبسب "الكاف" يمكن أنْ نَقِفَ على معانٍ أُخرى.  

والتجاهل الأعظم كان تجاهل الدكتور النجار للآية 4 من سورة "المعارج"، والتي جاء فيها: "تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ"؛ فهنا، أيضاً، ليس من ذِكْرٍ لعبارة "مِمَّا تَعُدُّون"!

وإذا كان (أو صحَّ أنَّ) اليوم عند الله يَعْدِل 1000 سنة "مِمَّا نعد نحن البشر"، أو 50000 سنة، فإنَّ اليوم (من أيَّام الخَلْق الستَّة) يَعْدِل عند الدكتور النجار 2200 مليون سنة أرضية؛ فاخْتاروا أحد "الحسابين للزمن".. "الحساب الإلهي" أو "حساب النجار"!

والآن، اسْتَعِرْ من هذا "العبقري"، الدكتور النجار، عقله حتى يَسْهُل عليكَ الاقتناع بأنَّ الله أنْفَق من وقته نحو 9 بلايين سنة (لا غير) في خَلْق وإتْمام خَلْق "كوكب الأرض"، وبأنَّ "ما بقي من الكون"، أي السماوات وما بينها وبين الأرض، والذي يَعْدِل 99.9999999999999999999 منه قد اسْتَغْرَق خَلْقه نحو 4.5 بليون سنة!

مجنون يحكي وعاقل يَسْمَع.. كوكب الأرض، الذي يَعْدِل قطرة في بحر، بل في محيط، الكون، اسْتَغْرَق خَلْقُه نحو 9 بلايين سنة؛ وسائر الكون اسْتَغْرَق خَلْقُه نحو 4.5 بليون سنة فحسب!

بالله عليكم جيئوني ولو بعالِمٍ كوني واحد يجرؤ على أن يقول ما قاله هذا "العبقري" الذي اسْتَكْثِرَ عليه أن يكون نجَّاراً!

أُنْظروا الآن في "خُطَّة الخَلْق (الإلهية)" كما بسطها لنا الدكتور النجار. بحسب هذه "الخٌطَّة"، بدأ الخَلْق بخَلْق "الأرض"؛ وقد اسْتَغْرَق هذا الخَلْق نحو 4.5 بليون سنة. وفي "المرحلة الثانية" من "الخُطَّة"، خَلَق الله "السماوات السبع"؛ وقد اسْتَغْرق هذا الخَلْق نحو 4.5 بليون سنة. وفي "المرحلة الثالثة (والأخيرة)"، عاد الله لـ "يِسْتَكْمِل" خَلْق "الأرض"؛ وقد اسْتَغْرَق هذا العمل الإلهي نحو 4.5 بليون سنة.

بالله عليكم جيئوني ولو بعالِمٍ كوني واحد يجرؤ على أن يُخْبِر طفلاً أنَّ "كوكب الأرض" هو أوَّل ما خُلِقَ من الكون (خُلِقَ حتى قبل أن تُخْلَق الشمس)!

"العبقري" النجار قال، وكأنَّ مستمعيه قَوْمٌ من الأغبياء، إنَّ الله، وفي يومين، "خَلَق الأرض من السماء الدخانية الأولى"؛ وهذه "السماء الدخانية الأولى" هي، بحسب "اكتشافه" هو أيضا، ما تَمَخَّضَ عنه "الانفجار العظيم" Big Bang. وهذا "الانفجار" يفهمه الدكتور النجار على أنَّه الأمر الإلهي بـ "الفَتْق".

في "آية الخَلْق الكبرى" نقرأ: "أَوَلَمْ يَرَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ".

إذا كان "الانفجار العظيم" هو "الفَتْق" فغنيٌ عن البيان أنَّ "الأرض" لم تُخْلَق من "السماء الدخانية الأولى"، التي جاء بها هذا "الانفجار".

وغنيٌ عن البيان أيضا أنَّ "الأرض" كانت قبل "الانفجار العظيم"، أي قبل "الفتق".. كانت "ملتصقة، ملتزقة، بالسماء، فبدأ "الخَلْق"، من ثمَّ، بـ "فَصْل" إحداهما عن الأخرى.

قبل أن يبدأ الخَلْق مع أيَّامه الستَّة، كانت "الأرض" و"السماء" مُرتتقتين؛ ثمَّ فَصَلَ الله بينهما إذ أصْدَر أمْر "الفَتْق"، الذي يفهمه الدكتور النجار على أنَّه "الانفجار العظيم".

ويتطرَّف الدكتور النجار في "عبقريته"، فـ "يكتَشِف" أنَّ "الجبال" في الأرض قد أسْقَطَها الله عليها من فَوْق، أي من السماء. وعليه يسمِّيها "الجبال النيزكية"!

ودليله على ذلك هو الآية "وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا..". ومعنى الآية الحقيقي، والذي لا يحتاج التوصُّل إليه إلى كل هذه "العبقرية"، هو أنَّ الله جَعَلَ فوْق الأرض (وليس تحتها) جبالاً؛ فإذا أنتَ جَعَلْتَ "منزلاً" فوق قطعة من الأرض قد يُفَسِّر الدكتور النجار وجود هذا "المنزل" فوْق الأرض على أنَّه "منزل نيزكي" أسْقَطَه الله على قطعة الأرض تلك من السماء!

بحسب الدكتور النجار انتهى الله من خَلْق السماوات السبع، بما فيها من مجرَّات ونجوم..، قبل نحو 9 بلايين سنة؛ ثمَّ شرع يَسْتَكْمِل خلق "الأرض"؛ وهذا "الاستكمال" استغرق، على ما يَزْعُم، نحو 4.5 بليون سنة.

لِنَعُدْ إلى "آيات الخَلْق الكبرى" في القرآن، ولنحاول فهم معانيها بمنأى عمَّا دسَّه فيها الدكتور النجار من معانٍ، في سعيه إلى إقامة الدليل على أنَّ بذور النظريات الكوزمولوجية الكبرى، وفي مقدَّمها نظرية "الانفجار العظيم"، كانت كامنة فيها حتى بعثه الله ليُظْهِر ما كان كامناً؛ ولنقارِن، من ثمَّ، أو في أثناء ذلك، بين فهمنا لتلك الآيات وبين تأويله لمعانيها، والذي قوامه التدليس بوجهيه اللغوي والعلمي.

"وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (ق ـ 38)".

"ولقد خلقنا..".. فِعْل "الخَلْق"، هنا، انتهى؛ ولقد انتهى منذ زمن طويل؛ وإتمامه وانتهاؤه مؤكَّدين، لغوياً، بـ "قد"؛ ومؤكَّدين، معنوياً، أي بحسب المعنى، هنا، بالعبارة "وما مسَّنا من لغوب"، فلو أنَّ فِعْل الخَلْق هذا لم ينتهِ بعد، أو لم ينتهِ عند نزول هذه الآية، لانتفت الحاجة إلى قوله "وما مسَّنا من لغوب".

أمَّا فِعْل الخَلْق هذا فقوامه "خَلْق السماوات والأرض وما بينهما". وأنتم لو أمعنتم النظر في هذه الآية، وفي سائر آيات الخلق لـ "الكون"، لَمَا رأيْتُم "الخَلْق الإلهي (القرآني)" مساوياً لفكرة "الخَلْق من العدم (Nothingness)"، أي خلق شيء من لاشيء.

الله خلق "الأرض"، مثلاً؛ لكنَّه لم يخبرنا "كيف"، وإنْ أخبرنا ضِمْناً أنَّ الأرض لم تُخْلَق من "لاشيء". وخلق الله لـ "الكون (مع أنَّ القرآن لم يأتِ على ذِكْر كلمة "الكون")" إنَّما هو خلق لـ "شيئين بينهما شيء ثالث"؛ وهذان الشيئان هما "السماوات" و"الأرض". و"التصوُّر الهندسي" لهذا "الخلق الثلاثي" إنَّما يقوم على "تحتٍ" هي "الأرض"، وعلى "فوقٍ" هو "السماوات". وبين "التحت الأرضي" و"الفوق السماوي" خلق الله أشياء كثيرة، منها، على سبيل المثال لا الحصر، القمر، والشمس، والنجوم.

و"السماوات" هنا إنَّما هي كل هذا "الفراغ"، أو "الفضاء"، الذي يعلو سطح الأرض، والتي (أي السماوات) يمكن أن نتصورَّها على أنَّها مشتملة على تلك "القُبَّة الزرقاء". ولمزيدٍ من الفهم الواضح والجلي لمعنى "السماوات" ينبغي لنا أن نفهم العبارة "وما بينهما" على أنَّها "عبارة مكانية"، فمخلوقات كالقمر والشمس والنجوم إنَّما هي مخلوقات تتوسَّط، أو تقع بين، "الفوق السماوي" و"التحت الأرضي".

و"الأرض (المخلوقة)"، هنا، إنَّما تعني، بحسب فهمنا لمعاني الآية، ولمعاني سائر الآيات التي تتحدَّث عن خلق "الأرض"، "اليابسة الأرضية". إنَّها لا تعني "الكرة الأرضية"، بيابستها ومحيطاتها وغلافها الجوي وجوفها. و"السبع أرضين" إنَّما هي أراضٍ تقع تحت "أرضنا"، أي تحت اليابسة التي عليها نعيش نحن البشر.

وخلق "السماوات"، كما يتضح في آيات أُخرى، إنَّما يشبه، أو يماثل، "تَعَدُّد الواحد"، ففي مبتدأ خلق "السماوات"، كانت "السماء الواحدة الأولى"، فجعلها الله "سبع سماوات"، "الدنيا" منها هي سماؤنا، أي السماء الأقرب إلى الأرض، أي إلى "اليابسة". وفي "التصوُّر الهندسي" يمكن ويجب فهم "السماوات السبع" على أنَّها كالطبقات تعلو بعضها بعضاً، أيْ تشبه بناءً (فراغياً، فضائياً، سماوياً) مؤلَّفاً من سبع طوابق، "الأرض"، أو "اليابسة"، هي "قاعدته".

وإذا كان خلق "السماوات والأرض وما بينهما" هو "فِعْلٌ"، أو "حَدَث"، فإنَّ لهذا "الفعل"، أو "الحدث"، "بداية" و"نهاية" في "الزمان"؛ ولقد استغرق "ستة أيام"، أجمعت التفاسير القرآنية السابقة على أنَّها أيام الأحد، والاثنين، والثلاثاء، والأربعاء، والخميس، والجمعة.

أمَّا إذا اعترض أحد المُحْدِثين، كالدكتور النجار، على هذا التفسير لـ "الأيام الستة" فإنَّنا نَعْتَرِض على اعتراضه قائلين إنَّ "اليوم" في تلك العبارة القرآنية، أي عبارة "الأيام الستة"، إمَّا أن يكون "يوماً من أيام الأسبوع الأرضي" وإمَّا أن يكون "يوماً من الأيام عند الله"؛ ولن نقبل أبداً "اليوم النجَّاري"؛ لأنْ لا القرآن يُقِره ولا علم الكون.

و"اليوم عند الله"، وبحسب النص القرآني، لا يقلُّ عن ألف سنة أرضية، ولا يزيد عن خمسين ألف سنة؛ أمَّا بحسب "علم الغيب" فإنْ اختلف مقداره عن هذين المقدارين فلن نعرف أبداً هذا "المقدار الافتراضي المُخْتَلِف"، فقد يكون أقل، أو أكثر، من يومٍ أرضي، أو من ألف سنة أرضية، أو من خمسين ألف سنة أرضية.

ومع ذلك، ها هو الدكتور النجار يجرؤ على الادِّعاء بأنَّه عرف شيئاً من "علم الغيب" في هذا الأمر، فهو زعم أنَّ الله قَصَدَ "مراحل زمنية (طويلة)" إذ قال "في ستة أيام"؛ ولقد أجاز لنفسه أن يقول إنَّ اليوم من تلك الأيام الستة يَعْدِل نحو 2200 مليون سنة أرضية، متَّخِذاً من "عدم وجود" العبارة القرآنية "مِمَّا تُعِدُّون" دليلاً على صدق زعمه، فما قوله في الآية 4 من سورة "المعارج"، والتي جاء فيها: "تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ"؟!

هنا، ذَكَر الله كلمة "يوم"، مُقَدِّراً إيَّاه إذ قال "كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ"؛ لكن من غير أن يقول "مِمَّا تُعِدُّون"!

إنَّني لا أعرف من ذا الذي أخبر الدكتور النجار أنَّ "اليوم" من "أيام الخلق الستة" يَعْدِل 2200 مليون سنة "مِمَّا نَعُدُّ"؟!

الله يُخْبِرنا أنَّه قد خلق "السماوات والأرض وما بينهما" في ستة أيام؛ ونظرية "الانفجار الكبير" تُخْبِرنا أنَّ هذا "الانفجار (السحري الغامض)" هو الذي خلق "كل شيء (المادة والكتلة والطاقة والقوى والمكان والفضاء والزمان والجسيمات..)" في زمن يُقاس بأجزاء من الثانية؛ أمَّا الدكتور النجار، الذي له أُفْق يَسَع كل شيء ولا يسعه شيء، فيُخْبِرنا أنَّ الله قد خلق الكون في زمن مقداره 13.7، هو ذاته "مقدار عُمْر الكون" بحسب خبر "ناسا" الذي تناهى إلى سمعه.

"اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (السجدة ـ 4)".

إنَّنا ندعو الدكتور النجار إلى أنْ يُفكِّر ملياً في العبارة القرآنية "ثمَّ استوى على العرش".

الفعل "استوى" إذا جاء بعده حرف الجر "على" فمعناه، عندئذٍ، هو استقرَّ، أو جلس، على العرش؛ أمَّا إذا جاء بعده حرف الجر "إلى" فمعناه، عندئذٍ، قَصَدَ الشيء، أو توجَّه إليه.

لقد انتهى، منذ زمن طويل، ذلك الفعل الإلهي، أي فعل "خلق السموات والأرض وما بينهما"، بدليل قوله "ثمَّ استوى على العرش"، فكيف لله أن يستوي على العرش إذا كان فعل الخلق لم ينتهِ بعد، أو إذا ما كانت "مُدَّة الخلق" هي ذاتها "عُمْر الكون"، الذي، على ما نعرف، وعلى ما يعرف الدكتور النجار، لم ينفد عُمْره بَعْد؟!

أنتَ يكفي أن تقول بالتماثل بين "مُدَّة الخلق" و"عُمْر الكون"، وبأنَّ "عُمْر الكون" لم ينتهِ بَعْد، حتى يقودكَ هذا "الإيمان" إلى "الكفر"؛ ذلكَ لأنَّ معنى قولكَ بهذا وذاك هو أنَّ الله لم يستوِ بَعْد على العرش!

وأنتَ يكفي أن تقول بهذا التماثل، وأن تزعم، من ثمَّ، أنَّ "أيام الخلق الستة" تَعْدِل 13.7 بليون سنة أرضية حتى لا تَجِد مفراً من أن تزعم عندما يصبح عُمْر الكون 50 بليون سنة، مثلاً، أنَّ "أيام الخلق الستة" ما عادت تَعْدِل 13.7 بليون سنة، وإنَّما غدت تَعْدِل 50 بليون سنة، أيْ أنَّ اليوم من تلك الأيام الستة، والذي كان حتى كتابة هذا السطر يَعْدِل 2200 مليون سنة، أصبح (إذ أصبح عُمْر الكون 50 بليون سنة) يَعْدِل 8300 مليون سنة؛ ولن ينتهي أبداً هذا التغيير في "المُعادِل الزمني الأرضي" لـ "يوم الخلق"!

"وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (هود ـ 7)".

في هذه الآية، نقف على بعضٍ من معاني "الخلق"، فالله الذي عرشه في السماء مُذْ انتهى من خلق "السماوات والأرض وما بينهما" كان عرشه "على الماء" إذ شرع يخلق "الكون".

إنَّ "الله الذي عرشه كان على الماء" قد شرع يخلق "السماوات والأرض وما بينهما، فهل من إشارة قرآنية إلى "الكيفية"، أي إلى كيفية خلق الله للسماوات والأرض وما بينهما؟

أجل، هناك إشارة في الآية 30 من سورة "الأنبياء": "أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ".

إذا كان الدكتور النجار يريد لنا أن نفهم خلق "السماوات والأرض وما بينهما" على أنَّه هو ذاته، أو ذاته تقريباً، "الانفجار العظيم" Big Bang، في لغة "الكوزمولوجيا"، فإنَّني أقترح عليه أن ينبذ نظرية "الانفجار العظيم" وأن يأخذ بنظرية "الفتق العظيم"، فـ "الخلق القرآني" لـ "الكون" إنَّما هو فعل "فَتْق" لشيئين كان (قبل الخلق) مرتتقين، ملتصقين، ملتزقين، هما "السماوات" و"الأرض".

هذه هي الآية التي يتَّخذها الدكتور النجار جسراً بين القرآن ونظرية "الانفجار العظيم"، فَلْنَدَعْهُ، أوَّلاً، يشرع في تأويلها بما يجعلها و"النظرية" في توافق تام في المعنى.

يرى الدكتور زغلول أنَّ خلق السماوات والأرض بدأ مِنْ "جرم ابتدائي واحد"، سمَّاه الله (بحسب تأويله) باسم "مرحلة الرتق". ثمَّ أمر الله بـ "فتق هذا الجرم الابتدائي فانفتق". وهذه المرحلة يسمِّيها القرآن باسم "مرحلة الفتق". وما أن انفتق هذا الجرم حتى تحوَّل إلى "سحابة من الدخان (مرحلة الدخان)"، الذي منه خلق الله الأرض والسماء، وما ينتشر بينهما من المادة والطاقة.  

ويمضي الدكتور زغلول قائلاً: "ثمَّ يأتي العِلْم المكتسَب، في منتصف القرن العشرين، ليكتشف شيئاً من معالم تلك الحقيقة الكونية، ويظل يجاهد في إثباتها حتى يتمكَّن من شيء مِنْ ذلك عند نهايات القرن المنصرم". وبحسب تأويل الدكتور النجار، دعا هذا العِلْم المكتسب "مرحلة الفتق"، نظرية "الانفجار العظيم".

ولكن، ما قول الدكتور النجار في مرحلة كونية افتراضية أُخرى تسمَّى "الانسحاق العظيم" Big Crunch والتي فيها تسود قوَّة الجاذبية الكونية سيادة "مطلقة"، فينكمش الكون ويتقلَّص، منهاراً على ذاته؟

لقد رأى في عبارة "طيِّ السماء" القرآنية مرادفاً لنظرية "الانسحاق العظيم".

ويَنْظُر الكاتب إلى مرحلة "الانسحاق العظيم"، وهي مرحلة "نهاية كوننا المتمدِّد"، على أنَّها عودة إلى "مرحلة الرتق"، التي سيعقبها "فتق"، أي انفجار كوني جديد، فسحابة من الدخان، يخلق الله منها أرضاً غير الأرض، وسماوات غير السماوات.

"يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ".

في هذه الآية، من سورة "الأنبياء"، اكتشف الدكتور زغلول الإشارات القرآنية إلى مرحلة "الانسحاق العظيم"، قائلاً: في هذه المرحلة سوف يطوي الله صفحة الكون، جامعاً كل ما فيها مِنَ المادة والطاقة والمكان والزمان على هيئة "جرم ابتدائي ثانٍ"، أي "رتق ثانٍ"، شبيه تماماً بـ "الجرم الابتدائي الأوَّل (الرتق الأوَّل)". وبأمر من الله ينفجر هذا الجرم الثاني كما انفجر الأوَّل، ويتحوَّل إلى "سحابة دخان"، يخلق الله منها أرضاً غير أرضنا الحالية، وسماوات غير السماوات التي تظلِّلنا.

وهنا، يقرِّر الدكتور زغلول، تبدأ "الحياة الآخرة"، التي من سننها وقوانينها "الخلود". إنَّ مرحلة "الانسحاق العظيم" هي، في تأويله، مرحلة "إفناء الكون"!


لقد قرَّر الدكتور زغلول أنَّ "الرتق" هو  "البيضة الكونية" Singularity التي منها انبثق الكون، وأنَّ "الفتق" هو "الانفجار العظيم" Big Bang.

وفي العودة إلى "البرنامج الزمني" لخلق "السماوات والأرض وما بينهما"، كما بسطه الدكتور النجار، يُخْبِرنا هذا "المُنْجِد" أنَّ للزمن مفهوماً "نسبياً"، ينبغي لنا وفقه أن نفهم "أيام الخلق الستة".

إنَّني لا أعرف عن أيِّ "نسبية زمنية" يتحدَّث الدكتور النجار؛ هل هو يتحدَّث عن "نسبية الزمن" التي بسطها آينشتاين؟!

إنَّنا لا نعرف من "نسبية زمنية" إلاَّ تلك التي جاء بها آينشتاين، ولا نعترف بغيرها؛ لكنَّ هذه النسبية الآينشتاينية تخبرنا أنَّ الزمن يتمدَّد، أو يبطؤ، حيث يُسْرِع ويتسارع الجسم، بالِغاً ضواحي "السرعة الضوئية"، أو حيث تشتد ونَعْظُم الجاذبية (أو انحناء الفضاء). وإنَّ الانحناء الأعظم للفضاء، وللمكان، نراه في "الثقب الأسود" Black Hole حيث "الثانية الواحدة" هناك تَعْدِل بلايين السنين مِمَّا نَعُدُّ.

وأحسبُ أنَّ قليلاً من الإيمان الديني يجب أن يردع صاحبه عن تفسير "اليوم عند الله" بما يوافق "نسبية الزمن" عند آينشتاين، ففي الحديث عن "الزمن الإلهي" يجب نبذ عاملي تمدُّد، أو تباطؤ، الزمن، وهما "السرعة" و"الجاذبية"!

يقول الدكتور النجار: "يومان كانا لخلق الأرض من السماء الدخانية الأولى..". أوَّلاً، من ذا الذي أجاز له استعمال حرف الجر "مِنْ"، أي من ذا الذي أخبره أنَّ "الأرض" قد خلقها الله "من" السماء الدخانية الأولى؟!

لقد كانت السماوات والأرض رتقاً ففتقهما الله. هذا هو جوهر مفهوم الخلق الإلهي للأرض. إنَّه فعل "فَصْلٍ" لكليهما عن الآخر، فَمِنْ أين جاء بفكرة خلق "الأرض" من "السماء الدخانية الأولى"؟!

و"الأرض"، بحسب النص القرآني، إنَّما خُلِقَت على مرحلتين، تتوسَّطهما "مرحلة ثالثة" هي مرحلة جَعْل السماء الواحدة الأولى سبع سماوات.

في "المرحلة الأولى"، والتي استغرقت يومين اثنين، خلق الله "الأرض"، أي أنشأ "اليابسة"؛ ثمَّ "استوى إلى السماء وهي دخان"، أي قَصَدَ السماء وهي دخان، أو توجَّه إليها، فجعلها، أو "قضاهن"، "سبع سماوات". وقد استغرقت مرحلة "خلق السماوات السبع من السماء الأولى" يومين اثنين.

ثمَّ استكمل الله وأتمَّ خلق "الأرض"، وخلق آدم، في اليومين الأخيرين من أيام الخلق الستة، فـ "جعل فيها رواسي من فوقها، وبارك فيها، وقدَّر فيها أقواتها".

وأنتَ يكفي أن تأخذ بـ "الجدول الزمني للخلق"، كما بسطه الدكتور النجار، حتى تتوصَّل إلى استنتاجات لا يقرها عقل أو عِلْم؛ ومن هذه الاستنتاجات أنَّ "الأرض" هي "أقْدَم" شيء في الكون، فهي وُجِدَت ليس قبل وجود الشمس فحسب، وإنَّما قبل وجود مجرَّتنا، مجرَّة "درب التبانة"، وقبل وجود كل ما في الكون من أجسام.

ومنها، أيضاً، أنَّ خلق "الأرض"، على مرحلتين، قد استغرق زمناً مقداره نحو 9 بلايين سنة، في حين لم يستغرق خلق سائر الكون، أي كله تقريباً، أكثر من 4.5 بليون سنة.

وما يسميه الدكتور النجار "التدبير الجيولوجي" للأرض (وهو "أُستاذ علوم الأرض") بدأ إذ "تصلَّبت القشرة الأرضية"؛ وقد استغرق هذا "التدبير الجيولوجي" زمناً مقداره، بحسب حساباته، 4.5 بليون سنة؛ أمَّا القشرة الأرضية فلم تتصلَّب، وبحسب حسابات "أُستاذ علوم الأرض"، إلاَّ بعد انقضاء 4.5 بليون سنة على خلق الله للأرض.

لو أنَّ "أُستاذ علوم الأرض" كتب في رسالته، التي بفضلها نال هذا اللقب الأكاديمي الرفيع، أنَّ خَلْق، أو تكوين، كوكب الأرض قد استغرق (في "مرحلتيه") زمناً مقداره 9 بلايين سنة (لا غير) لقرَّر مانحو هذا اللقب، أو تلك الدرجة، إعادته إلى المرحلة الابتدائية من التعليم المدرسي!

الله خلق آدم في الساعة الأخيرة من "زمن الخلق" الذي استغرق ستة أيام، فلو سُئِل "أُستاذ علوم الأرض" عن "عُمْر" كوكب الأرض عند خلق الله لآدم لاضطُّر، عملاً بمبدأ "اتساق الفكر مع نفسه"، إلى أن يجيب قائلاً: "كان عُمْره 13.7 بليون سنة"، فهل وَقَفْتُم الآن على معالم العبقرية في "فكر" الدكتور زغلول النجار، الذي يستحق عن جدارة لقب "أُستاذ الشعوذة" على مستوى الكوكب كله؟!