أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم - عبد الحسين شعبان - جدارية الخلود وحضرة الغياب















المزيد.....

جدارية الخلود وحضرة الغياب


عبد الحسين شعبان

الحوار المتمدن-العدد: 3840 - 2012 / 9 / 4 - 15:57
المحور: اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم
    


في الذكرى السنوية الأولى لرحيل عبد الرحمن النعيمي
كلمـــة أصدقائــــه العــــــرب
جدارية الخلود وحضرة الغياب

لا أدري لماذا استعدت محمود درويش الذي رحل قبل ثلاث سنوات حين كان عبد الرحمن النعيمي يستغرق في غيبوبة طويلة لم يفق منها سوى إلى الموت، فقد أبى قلبه أن يطاوعه هذه المرّة، حيث ظلّ مسجّى، مثل طفل حالم بغدٍ سعيد، لكنه لا يستطيع أن ينهض لاستقبال ضيوفه أو أن يمدّ يديه ليرحّب بزوّاره ولا يتمكن من أن ينظر إليهم، ومع ذلك فقد بقيت ابتسامته البريئة مرتسمة على شفتيه لم تفارقه أبداً، وربما كان يستمع إلينا وإلى أحاديثنا، ويحاول أن يكون سباقاً كعادته إلى فرحنا وحزننا، إلاّ أن دماغه لم يسعفه من الحركة، ليشاركنا.
لم يأته الموت دفعة واحدة مثلما هي العادة، كما لم يأتِه مواجهة، بل تسلّل إليه واستوطن جسده وعاش معه ونضج فيه، بدرامية عالية، حيث كان يقضم روحه بالتدريج، وكانت رفيقة عمره السيدة مريم " أم أمل" تشهد ذلك، وتتألم بصمت وتكظم غيظها للقدر الغاشم، الذي نهش شريكها دون رحمة.
عندما لم يقوَ قلبه الكبير على حمل أثقال همومه، توقف بعد أن أرهقه التعب وطول الانتظار ومراوغة الموت، وكان هذا خَطبٌ جلل للبحرين التي ارتدت الحزن عنواناً للتقدير والاحترام والهيبة، لمن كان معه أو من كان ضدّه، فحتى خصومه، أوجعهم موته، لأن الجميع قدروا ما أصاب البحرين من خسارة وطنية كبيرة.
رحل النعيمي وهو في عزّ نضجه وحكمته، تلك التي نحتاج إليها، فقد علّمته السياسة وطول معاناة وعمق تجارب: الصبر والتروّي وعدم الاندفاع وبُعد النظر، وهو ما انعكس على سلوكه ولغته التي اكتسبت معنى ودلالة وامتلاء.
رحل "أبو أمل" بعد أن حقق وعده بالتخلّي عن مواقعه القيادية، تلك التي يتصارع عليها الكثيرون، فقد ظلّ يدعو للتداولية والتناوبية، مثلما هي دعواته للعقلانية والمدنية والتحضّر والديمقراطية والمشاركة والمساواة والتنوّع والتعددية، لدرجة أن أكثر من جيلين في البحرين تربّوا على تلك الأطروحات التي كان يدعو إليها هو ونخبة متميّزة من رفاقه وزملائه، وجاء الوقت المناسب ليختبروه، فسارع دون انتظار أو تبرير ليعلن ذلك، فلم تبهره المواقع أو المناصب في أي يوم من الأيام.
كأن النعيمي كان ينتظر أن تنتهي مرحلة الحزبية الضيقة التي سادت لعقود من الزمان ليرحل بعدها مطمئناً، فهذا العروبي، اليساري، الاشتراكي، كان تواصلياً وتفاعلياً مع محيطه اليساري، الديمقراطي، الإسلامي، ولم يفرّق في سنواته الأخيرة كثيراً بين الانتماءات المختلفة، بل كان يبحث عن القواسم المشتركة، معظّماً الجوامع الإنسانية، تلك التي تتشارك وتتجمع على الهم الوطني العام والموحّد، فقد كان نقطة جذب واستقطاب جامع، بملحمية خالدة، تتفجر مشاريع ومبادرات مستمرة.
لم يرتضِ لنفسه أن يكون "القائد" الدائم وكأنه زعيم قبيلة، فقرّر التنازل بهدوء، لينتقل إلى موقعه في القاعدة العريضة، ليقول رأيه ويقدم خبرته وعصارة فكره لزملائه وأصدقائه من "جمعية وعد" أو من القوى المتحالفة معها لا فرق لديه، مثلما كان يحاول أن يعرض وجهات نظره لدى المسؤولين في الدولة وسبل الاصلاح الدستوري المنشود، وهو ما عبّر عنه في كتابه " موضوعات الاصلاح الدستوري".
لقد أبى عبد الرحمن النعيمي، وهو خير مثال لنا جميعاً، أن يتمترس في مواقعه، فأخلاها بكل أريحية وممنونية، وأتذكّر أنه قال لي في طرابلس في الثمانينيات حين كنّا نحضر ندوة فكرية: لعل في داخل كل منّا يقبع دكتاتور صغير...يا رجل! وهو ما ذكرته يوم الاحتفال به عندما وقع صريعاً في الغيبوبة اللئيمة.
لقد ترك "أبو خالد" لنا منهجاً في التواضع الرفيع، فكان كلما ازداد علماً ازداد تواضعاً، وكلما تواضع أكثر سما فكراً وشأناً ومقاماً.
لقد غمّس النعيمي سلوكه الفكري والسياسي والثقافي بعمل الخير، مستدرجاً مكنونات الافصاح والجمال في النفس الإنسانية التوّاقة إليه، وكان يمارس ذلك بتلقائية كبيرة غير متكلفة أو متباهية، أقرب إلى عملية خلق شفيفة لغنائية مبهرة وإيقاع راق ورؤية سمحة مفتوحة.
كان النعيمي يوزّع اللؤلؤ البحريني الأصيل، ذات اليمين وذات اليسار، فهذا البحريني المتميز كان فلسطينياً بامتياز، بل مسكوناً بكل بفلسطين تضاريسها ومنعرجاتها، مثلما كان عربياً، لا فرق عنده بين البحرين، ومصر وسوريا والعراق واليمن والمغرب والخليج كلّه دون استثناء ولبنان، كان عربياً من المحيط إلى الخليج، بصدق ومحبة، عابراً للإقليمية والقطرية والطوائفية والمناطقية وغيرها.
وأستطيع القول أن همّه كان أوسع من ذلك كثيراً، حيث كان إنسانياً يسبح في هذا الفضاء ويحلّق في سماواته البعيدة، ليس على صعيد الفكر حسب، بل على مستوى الممارسة الشخصية، مؤمناً إيماناً عميقاً بقيم التسامح والتعايش والتواصل، بين الحضارات والثقافات والأديان والأمم والشعوب، فمعاناة البشر لديه واحدة والاستغلال واحد، وقيم الحرية والعدالة واحدة أيضاً.
إنسانيته تلك ومعه نخبة متميّزة من مثقفي البحرين ومن اتجاهات متنوعة أخرجت البحرين من محليتها، إلى ساحتها العربية، ومنها إلى مساحاتها الكونية الواسعة، حيث كان عبد الرحمن النعيمي يحمل البحرين معه وفي قلبه إلى أصقاع الدنيا، وكأنه كلما كان يأتي على ذكر البحرين كان ينظر إلى من لم تصله لؤلؤة، علامة محبة وصداقة، لتذكّره بالبحرين دائماً.
كان الوطن بالنسبة له يعني الحرية والكرامة والعدالة والمساواة والجمال والعمران والتسامح والخير والتنمية، المهم أن لا يتعرّض إنسان لانتهاك حقوقه سواءً على المستوى الجماعي أو الفردي، ولعلّه كرّس حياته لذلك، وكان أحد المبادرين الأوائل للتعاطي الإيجابي مع حملة الإصلاحات التي شهدتها البحرين بعد العام 2001، وعاد من منفاه، رافضاً أية امتيازات أو أفضليات، ضارباً "قوة مثل" عالية الرفعة، ستظل الأجيال تتحدث عنها.
وعلى الرغم من أنه واجه الموت مرّات عديدة وخرج من امتحانه ضافراً، في ظفّار وبيروت والمقاومة والسجن والمطاردات المختلفة، لكنه استسلم أخيراً مثل فراشة جميلة للضوء حين قرر الرحيل، فقد أعيته المراوغات الماكرة، وهكذا غادرنا بذات الابتسامة التي طبعت صورته، بل وشخصيته قبل أن يدخل الغيبوبة وحتى وفاته.
رحل النعيمي ولكنه لم يرحل، لأنه ترك فينا الكثير الذي يذكّرنا به، ويبقي عليه مقيماً فينا ومعنا وبيننا: فكره وكلامه وكتاباته وسلوكه، والأهم من كل ذلك إنسانيته وتواضعه، ولعلّنا بهذه المناسبة السنوية سنحيي خالدنا "أبو خالد" الذي أحب الحياة وعمل من أجل أن تكون أحلى وأبهى وأكثر حرية وعدلاً وسلاماً، وهكذا نحتفل في حضرة الغياب لاستعادة جدارية الخلود.



#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بعض أوهامنا وصخرة الواقع
- مشروع الدولة الكردية المستقلة
- ويخلق من الشبه «البعثي» اثنين
- التعذيب والإفلات من العقاب
- سلطة الاعلام
- المشروعان الإيراني والتركي في العراق
- الطائفية: مقاربة قانونية وأكاديمية
- العراق: نصف لأميركا ونصف لإيران
- كي لا تطمس الحقيقة
- الربيع العربي وديناميات التأثير الإقليمي
- حكاية الدستور الثاني في العالم الحديث
- جدار برلين الثاني !
- من باليرمو إلى دوكان
- صبراً جميلاً وعزاءً حاراً لفقدان الراحل جاسم القطامي
- الثورة التونسية ومسار التغيير العربي
- المسيحيون والبيئة الطاردة
- النموذج الإسلامي
- يوسف سلمان يوسف ... فهد- الأخيرة
- الاتجار بالبشر
- يوسف سلمان يوسف ..(فهد)-( 2 – 3 )


المزيد.....




- هل تصريح نتنياهو ضد الاحتجاجات في الجامعات يعتبر -تدخلا-؟.. ...
- شاهد: نازحون يعيشون في أروقة المستشفيات في خان يونس
- الصين تطلق رحلة فضائية مأهولة ترافقها أسماك الزرد
- -مساع- جديدة لهدنة في غزة واستعداد إسرائيلي لانتشار محتمل في ...
- البنتاغون: بدأنا بالفعل بنقل الأسلحة إلى أوكرانيا من حزمة ال ...
- جامعات أميركية جديدة تنضم للمظاهرات المؤيدة لغزة
- القوات الإيرانية تستهدف -عنصرين إرهابيين- على متن سيارة بطائ ...
- الكرملين: دعم واشنطن لن يؤثر على عمليتنا
- فريق RT بغزة يرصد وضع مشفى شهداء الأقصى
- إسرائيل مصدومة.. احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين بجامعات أمريكية ...


المزيد.....

- الديمقراطية الغربية من الداخل / دلير زنكنة
- يسار 2023 .. مواجهة اليمين المتطرف والتضامن مع نضال الشعب ال ... / رشيد غويلب
- من الأوروشيوعية إلى المشاركة في الحكومات البرجوازية / دلير زنكنة
- تنازلات الراسمالية الأميركية للعمال و الفقراء بسبب وجود الإت ... / دلير زنكنة
- تنازلات الراسمالية الأميركية للعمال و الفقراء بسبب وجود الإت ... / دلير زنكنة
- عَمَّا يسمى -المنصة العالمية المناهضة للإمبريالية- و تموضعها ... / الحزب الشيوعي اليوناني
- الازمة المتعددة والتحديات التي تواجه اليسار * / رشيد غويلب
- سلافوي جيجيك، مهرج بلاط الرأسمالية / دلير زنكنة
- أبناء -ناصر- يلقنون البروفيسور الصهيوني درسا في جامعة ادنبره / سمير الأمير
- فريدريك إنجلس والعلوم الحديثة / دلير زنكنة


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم - عبد الحسين شعبان - جدارية الخلود وحضرة الغياب