أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح الانباري - محي الدين زنگنه الجبل الذي تفيأنا بظلاله الوارفة















المزيد.....



محي الدين زنگنه الجبل الذي تفيأنا بظلاله الوارفة


صباح الانباري

الحوار المتمدن-العدد: 3837 - 2012 / 9 / 1 - 10:59
المحور: الادب والفن
    




"هو الذي رأى كل شيء".. گلگامش.. ذلك الشقي المغامر المعذب بسر الخلود رأى كل شيء وعاد بعد رحلة عناء وشقاء طويلة إلى (أوروك).. عشبة الخلود التي سعى إليها قاطعا الفيافي، والقفار، والصحارى سرقتها أفعى النهر في غفلة منه فعاد بخفي حنين. وفي أوروك ذات الأسوار اهتدى إلى الجوهر الحقيقي لذلك السر فحقق للناس ما جعلهم يتغنون بذكره على مر الأزمان.

من ذلك السر انطلقت كتابات محي الدين زنگنه فكانت قريبة من الناس ومعاناتهم، ومن الفقراء وهمومهم، ومن الأطفال وتطلعاتهم، ومن المرأة ومكابداتها، ومن الشباب وجموحهم نحو عالم لا تسلب فيه الحريات، ولا يستَغِلُ فيه الإنسانُ أخاه الإنسان. منذ أول أعماله المنشورة لفت انتباه الجميع: نقاداً، وقراء، وباحثين.. رسخت صورة كتاباته في أذهانهم وستظل راسخة ــــ في اعتقادي ــــ إلى زمن لا أحد يستطيع تحديده بالضبط فكتاباته في بلادي كما هي كتابات شكسبير في بلاده. كثيرة، وغزيرة، وعميقة في التصاقها مع تراجيديا الواقع المعيش.

جمعتني به، وبالناقد العراقي الكبير ياسين النصير جلسة بعقوبية فريدة وكنت قد انتهيت من كتابة مسرحيتي الأولى (زمرة الاقتحام) وسلمت مخطوطتها له بتواضع جم.. لم تظهر على ملامحه اي علامة فرح أو احتفاء بمنجزي الدرامي الأول.. كانت ملامحه تشي بالجدية والوقار حسب، ولم اكن متأكدا من ارتقائها الى مستوى قراءاته الانتقائية.
أتذكر أنني حين سلمته المخطوطة ـــ أثناء جلوسنا في مشغل التصوير الذي كنت أديره في بعقوبة ـــ توقعت منه تعليقا ما.. دهشة ما.. خاصة وهو نصي المسرحي الأول.. ودعني مغادرا إلى بيته في الصوب الآخر من بعقوبتنا دون ان يقول شيئا أو يعلق على أي شيء.
في اليوم الثاني أطل علي بابتسامته الهادئة وكنت متلهفا لسماع ما سيقوله عنها لهفة مشوبة بقلق شديد.. لم يخفِ احتفاءه بها أو رغبته في الكتابة عنها رغبة لم يمنع تحققها سوى كونه بطلها المحوري. قال بصوت واثق:
عندما جلست في المركبة التي أقلتني إلى البيت فتحت النص، وبدأت بقراءته فشدتني أحداثه منذ السطر الأول، وعندما وصلت إلى موضوعة اختيار كاتب من بعقوبة كي يمرر (المخترع) من خلاله مخططاً لاحتلال المدينة قلت في سري ـــ اعتمادا على سياق النص ـــ لا بد أن صباح سيختارني أنا. وعندما تقدمت بالقراءة وجدتني واحدا من شخوصها بل بطلا محوريا لإحداثها.. مسرحيتك يا صباح جديرة بالقراءة.

لم تكن تلك الجلسة الثلاثية إلا فرصة سانحة كي يطلب من صديقه النصير ما لم يطلبه من أحد لا من قبل ولا من بعد. أتذكر انه قدمني له قائلاً بصوت وقور:
دعني أقدم لك "صباح" الذي لفت انتباهي مذ كان واحدا من طلبتي في مرحلة الدراسة الاعداية بأسئلة لم تخطر على بال أحد من مجايليه بل أنها لن تخطر على بالهم أبداً، وتنبأت منذاك أن طاقته الكامنة لا بد أن تتفتق يوما ما عن موهبة جديرة بالاهتمام. وهذه هي أول بادرة لنبوءتي.
سلمه مخطوطة النص، وقال له: أريدك أن تهتم بصباح كما لو انك تهتم بولدي الوحيد ثم سلمه نص مسرحيتي (زمرة الاقتحام).. طوى الضيف الصفحة الأولى، وقرأ في الصفحة الثانية بصوت مسموع: المكان والزمان: بعقوبة عام 2552 صمت كما لو انه يتأمل شيئا ما ثم نظر إلي نظرة أحسست أنها اخترقتني، وبهدوء قال: من أي المواليد أنت؟ قلت من مواليد عام 1952 قال قد عرفت هذا.. انك تلعب بمواليدك في هذه المسرحية.. مرة تستخدمها كما هي (52) ومرة تقلبها (25) ومن تكرار هذه الأرقام وقلبها جاء تحديدك لزمان المسرحية. دهشت لهذا الاستنتاج السريع الذي ما كان يخطر على بالي على الرغم من أنني أنا الذي وضعته أسفل عنونة المسرحية.. وتساءلت في سري إذا كان الناقد قد اكتشف منذ اللحظة الأولى سر الزمن فما بالك وهو يغور مرتحلا في مطبات النص وخفاياه! كنت متلهفا لمعرفة ما ستخطه أنامل ناقد متمرس في الكتابات النقدية، وخبير في الشؤون الدرامية على حاشية المسرحية، وازددت لهفة وانتظارا لقراءة مقالته عنها في العدد اللاحق من مجلة (الطليعة الأدبية) والذي لم يصدر حينها لشمول المجلة بقرار تقليص عدد المجلات التي تصدرها دائرة الشؤون الثقافية في بغداد. لقد كان وقع الخبر عليّ ثقيلا ومؤسفا فالنصير لم يحتفظ بمسودة المقالة أو بنسخة جاهزة للقراءة في ادراج مكتبته لكنني لم اقطع الأمل بعد.. ذهبت إلى مقر المجلة وبحثت مع من كان رئيساً لتحريرها عن المقالة في ركام هائل من المقالات، والدراسات، والنصوص التي تم فحصها أو التي لم تفحص بعد فباءت جهودنا بالفشل الذريع.. كنت ارغب في لفت الأنتباه الى نصي الأول عن طريق ما يكتبه ناقد كبير عن كاتب صغير ولم اعرف ان جودة اي نص لا تتحدد بحجم كاتبه وانها هي التي تجر الانتباه اليه ان عاجلا أو آجلا. هكذا تعلمت هذا الدرس وحفظته حتى يومنا هذا.
في عام 1993 عندما دعت مجلة الأقلام العراقية إلى مسابقة للنص المسرحي العراقي قدمتها لهيئة المسابقة التي شكلت من أعمدة الادب والفن العراقي آنذاك فحازت على الجائزة الأولى. كان زنگنه يعرف تماما ما أكنه من محبة أزلية له كشخصية لها ما يميزها عمن عرفتهم في حياتي، وكان يعرف أنني معجب بصفاته النادرة، ولا غرابة في اختياري له بطلا لمسرحيتي التي أكدت فيها انه أسطوري في قوته الفكرية، وفولاذي في صموده أمام سطوة (المخترع) وأساليب التعذيب التي مارسها بنذالة وانحطاط ضد ارادته التي لا تلين، وعلى عمق العلاقة التي بيننا وإنسانيتها. نقل لي القاص الكبير جهاد مجيد ــــ وكان واحدا من طاقم المجلة ـــ عن الناقد د. حاتم الصگر (رئيس التحرير) زعمه أن هذه المسرحية من تأليف زنگنه وأن زنگنه أخفى اسمه عنها بدافع الخجل من طرح شخصيته فيها بشكل صريح. وما كان من جهاد إلا أن أكد معرفته التفصيلية بقدرتي على الكتابة المسرحية، وعمق العلاقة التي تربط بيني وبين زنگنه.. هذا الكلام ـــ وعلى الرغم من تضمنه على تهمة لا أحبها ـــ دعم ثقتي من أن المستوى الذي حققته المسرحية كان كبيرا بما يكفي للشك في أنها واحدة من أعمال زنگنه الكبيرة. ترى هل قلَّدت زنگنه وأنا اكتب هذه المسرحية، وهل أردت أن أكون شبيها له فعلاً؟ لنقرأ هذا المختطف من صحيفة (الثورة) البغدادية المنشور بتاريخ 6 /2 / 1994 وهو أول حوار صحفي تجريه معي صحيفة رسمية وجاء فيه ما يأتي:
[على الرغم من تأكيدك المستمر على أهمية دور الكاتب المسرحي المعروف محي الدين زنگنه إلا أن نهجك في الكتابة المسرحية يختلف عنه.. فأين نقاط الاشتراك بينكما وأين نقاط الاختلاف؟
دعني أخبرك أولا لو سمحت أنني وضعت مؤلفا نقديا تناولت فيه بالدراسة والتحليل أدب محي الدين زنگنه ولكني نظرا لظروف الطبع القاهرة لم استطع إصداره بعد. وتركت أمره إلى اتحاد الأدباء الذي وعد بطبع ست مخطوطات لمحافظتنا آمل أن يكون "السهل والجبل" واحدا منها. لقد تكشفت لي ـــ بعد هذه الدراسة ـــ عوالم محي الدين زنگنه الجميلة فانبهرت بها، واستمتعت بأجوائها، وأطلت التأمل في تفاصيلها حتى قدحت في ذهني فكرة تمجيد هذا الكاتب المسرحي بنص مسرحي فكتبت (زمرة الاقتحام) ولكنني كتلميذ طموح، ومجد من تلاميذ زنگنه الأستاذ والصديق سعيت دوما إلى أن يكون لي أسلوبي الخاص، وطريقتي المتفردة في الكتابة، وان لا أكون نسخة أخرى لهذا الفنان الكبير.. سعيت إلى كينونة أخرى تميزني وتمنحني:
أولا ـ الحصانة ضد الامتزاج والانصهار في بوتقته ككاتب.
ثانيا ـ إمكانية اللحاق به ومن ثم تجاوزه كلما سنحت لي فرصة تجاوزه...
وهنا أود أن أريحك أكثر فأقول أنني سعيت إلى أن أكون شبيها لمحي الدين زنگنه في كل شيء إلا في الكتابة. هذه هي حدود التشابه والاختلاف بيننا على الرغم من إقراري السابق بأستاذيته.]
عندما نشر هذا الحوار في الصحيفة إبان مهرجان بغداد الرابع للمسرح العربي قرأه زنگنه بإمعان، وعندما التقينا في أروقة المهرجان قال بتأكيد كبير: "سأعتبر كلامك هذا عهدا قطعته على نفسك" قلت والخجل باسطا نفوذه علي من الجبل الذي يقف أمامي شاهقاً: نعم. ولم استطع إضافة أي كلمة أخرى.
علاقتي بزنگنه إذن تعود إلى تلك الأيام من الدراسة الإعدادية يوم كان الشعر شاغلي الكبير الذي تراجع بوقار أمام جنوني المسرحي، ومحبتي للخشبة التي سكنتني ولم استطع التخلص من سحرها الدرامي. منذ ذلك الوقت لم يكتب زنگنه مسرحية أو قصة أو رواية إلا وكنت قارئها الأول. ولم يمنحني فرصة لامتداح أي منها لأنه كان يريد أن يسمع مني ما لم يستطع الآخرون البوح به وجهاً لوجه إذ لم يكن في مدينتنا من هو قادر على تجاوز ضعفه وخجله أمام القامة السامقة، أمام محي الدين زنگنه.. وكان علي أن أدرب نفسي على شيء من الوقاحة كي أتسلح بها أمام خجلي البريء من الجبل الذي لم يسبق لأحد أن تصدى لقمته الشاهقة. كتبت متجاوزا خجلي أول مقالة عنه عام 1993 وساهمت بها في جلسة اتحاد الأدباء التي ضمت كلا من الناقدة المعروفة بمواقفها النقدية السديدة نازك الأعرجي، والناقد الموسوعي باسم عبد الحميد حمودي، والناقد الشمولي سليمان البكري، وأنا. كنت قد اخترت عنونتها من وحي شخصية زنگنه الفريدة وكتابته المتفردة (هذا هو محي الدين زنگنه) حين سردت ما جاء فيها أمام الحضور لم أكن أتوقع أنها ستكون مثار إعجاب بعض الأخوة من محبي النقد والأدب، وعندما أرسلتها إلى صحيفة (العراق) ونشرت على صفحتها الأدبية بتاريخ 21/ 7/ 1993 صارت مثار حديث أصدقائنا في الجلسات الليلية التي كانت شائعة بيننا وقتذاك.
لم تكن هذه المقالة هي الأولى التي نشرت لي في صحيفة رسمية لأنني سبقتها بمقالة عن شعر الستينات كنت قد نشرتها في العدد الخامس من مجلة (الثقافة) الصادرة في حزيران 1971 يوم كان يرأس تحريرها الدكتور الراحل صلاح خالص والتي قررت بعدها التوقف عن الكتابة إلى اجل غير مسمى لأسباب كنت احتفظ بها لنفسي على الرغم من تأكيد د. سعاد محمد خضر (سكرتيرة التحرير) على ضرورة الاستمرار وهذا هو ما نقله إلي بالضبط الأستاذ عبد الرحمن البكري.
عندما جمعتني بزنگنه جلسة من جلساتنا المستمرة في بيته الكائن في بعقوبة الجديدة قلت له: هل كانت المقالة بالمستوى المطلوب؟.. ابتسم قليلا وبهدوء قال: ألم تكن صالحة للنشر؟ قلت هي كذلك ولكنني اسأل زنگنه ـــ وهذه هي المرة الأولى التي تجرأت فيها فنحيت الكلفة بيننا ـــ عن صلاحيتها. قال لا خوف عليك الآن يا صباح.. أرى أن لك قدرات لا بأس بها في الكتابة.. ولم يحدثني عن المقالة وما جاء فيها لا لشيء إلا لأنه لا يحب الحديث عن نفسه أبداً.. وعندما ألححت عليه قال أنت اعرف مني بما كتبت.. هو هكذا دوما لا يحب الحديث عن نفسه أو عن نصوصه أو ما كتب عنه لاعتقاده أن النص الجيد هو الذي يتحدث عن نفسه بنفسه وانه لا يملك قولا أكثر مما قاله في نصه الفلاني وهو لهذا ولغيره لم يكن يرغب بأي حوار أو لقاء صحفي، وعندما انتهيت من (الببليوغرافيا) التي أعددتها بصبر أيوبي (حسب وصفه) عن كل صغيرة وكبيرة نشرت له هنا وهناك وجدت أن اللقاءات لم تدخل مفردات حياته الإبداعية.. خرجت من بيته وأنا أغبط نفسي على ما سمعت منه ولم أكن اعرف في البدء ما الذي حببني إليه فاختارني كواحد من أصدقائه المقربين القلائل على الرغم من الاثني عشرة عاما التي تفصل بين عمرينا وجيلينا فمعيار الصداقة عنده يرتبط بالأفكار وتقدميتها، وبالثقافة وفاعليتها، وبالحركة وديناميتها، وبالإنسان وتطلعاته، ولا يرتبط بالأعمار ومحدداتها.
من تلك المقالة التي سردتُ فيها ما تيسر لي من سيرته الإبداعية انطلقتْ أول الأفكار التأسيسية لـ(ببليوغرافيا محي الدين زنگنه) وعندما طرحت الفكرة عليه قال ادخل إلى غرفتي، واطلع على مكتبتي، وخذ منها ما يخدم مشروعك هذا.. لقد وضع المكتبة كلها تحت تصرفي، وصرت أتردد على بيته كثيرا. فكلما احتجت صحيفة ما رحت ابحث عنها في ركام من المجلات والصحف التي كانت تزدحم بها غرفة مكتبه في الطابق العلوي. وكم كنت اشعر بالحرج حين يطول بحثي عما أريد حتى أنني طلبت منه أن احمل كل تلك الصحف إلى بيتي لأرشفتها بالطريقة التي أريد. لم يشعر بالخوف على تاريخه الأدبي الموثق بتلك الصحف حين حملتها بعناية إلى داري.. نثرتها على الأرض، وطلبت معونة زوجتي في ترتيب التواريخ المتقاربة للنشر.. صنعت ألبوماً كبيرا وأنيقاً من الورق المقوى، وبدأت بقطع المقالات ولصقها على ذلك الألبوم حتى انتهيت منها جميعا وكانت في ثلاثة أجزاء: الأول والثاني تضمنا على ما كتب عن مسرحه وأعماله الروائية والقصصية بينما تضمن الثالث على مقالاته التي نشرها في المجلات والصحف. واستنادا إلى هذه الألبومات الثلاثة استطعت كتابة أضخم ببليوغرافيا عن كاتب عراقي.
لم تكن تلك المقالة لتأخذ شكلها النهائي، فكلما تعمقتُ في معرفته كلما صغرت مساحتها وبات من الضروري إعادة كتابتها مرة أخرى وأخرى. وكلما طلبت منه بيان وجهة نظره فيها كلما أمعن في صمته الجليل. كان يحدثني فقط عن جانبها الفني وربما اللغوي أيضا أما ما يتعلق به فذلك ما لا يطرق بابه أبداً. إن كل من عرف زنگنه عرفه بتواضعه الكبير. ذلك التواضع الذي أقلقني، وشوشني، وجعلني أتساءل دوماً: إذا كان زنگنه بكل عطائه الفذ يشعر بهذا القدر الهائل من التواضع فما بالنا نحن الذين نتفيأ بظلاله الوارفة.
عندما نشر مجموعته القصصية الأولى (كتابات تطمح أن تكون قصصاً) حرص على أن يقدمها ككتابات تطمح أن ترتقي إلى مصافي القصة القصيرة. وهذا تواضع آخر من كاتب قصصي لفتت كتاباته انتباه القاصي والداني من القراء والنقاد. لم يشعر يوما انه قدم منجزاً كبيراً، ولم اسمعه يوما يفاخر بنصه أو نفسه، وكثيرا ما كنت أحمل نصاً من نصوصه لأسلمه باليد إلى هذه المجلة أو تلك. لم يكن مهتما بالشهرة ولا بالأضواء لهذا احتاج فريق عمل من تلفاز بغداد بقيادة المخرج الفنان رضا المحمداوي إلى وساطتي، واصراري، وملحتي ليوافق على تسجيل حلقة خاصة به في برنامج (مبدعون من تلك المدن) وكانت حصتي من الحديث قد أظهرتني على الشاشة كما لو أنني ساهمت في إعداد البرنامج بقدر ملموس.
(ببليوغرافيا محي الدين زنگنه) فرضت علي قبل أن تأخذ شكلها النهائي قراءة كل ما كتب عنه في المجلات والصحف، وكل ما كتبه في المجلات والصحف، فضلا عن كتبه المطبوعة والمخطوطة حتى اعتبرني بعض الأخوة عرّاب زنگنه الأول. عندما شرع الأستاذ مؤيد عبد القادر بإعداد كتابه الموسوم (هؤلاء في مرايا هؤلاء) وهو كتاب اعتمد استكتاب المعروفين من النقاد للكتابة عن الشخصيات العلمية، والفنية، وذات الانجاز الإبداعي المتميز اخترت للكتابة عن زنگنه، ولم أكن حينها ناقداً معروفا ربما في بعقوبة فقط. عدت إلى الببليوغرافيا نفسها والى المقالة نفسها وبدأت بإضافة التفاصيل المهمة بعد أن غيرت عنوانها إلى (السهل والجبل) مستخلصا هذه العنونة من انتماء زنگنه الحقيقي البحت للعراق بعربه وأكراده فاستأثرت باهتمام المعد الأستاذ مؤيد عبد القادر فوضع مقدمة لها على غير عادته في هذا الكتاب أشار فيها إلى أهميتها والى الأسلوب الذي اتبعته في الابتعاد بهذا القدر أو ذاك عن السيرة الذاتية التقليدية التي حفل بها الكتاب فنشرها كاملة على الرغم من حجمها الذي فاق حجم المقالات الأخرى. جاء في تلك المقدمة ما يأتي:
"سيلاحظ المتابع لفصول هذا الكتاب أن الناقد صباح الانباري حاول في شهادته عن الروائي الكبير محي الدين زنگنه أن يعتمد أسلوب المقالة النقدية، مبتعدا بهذا القدر أو ذاك، عن أسلوب السيرة الذاتية التي درجنا عليها في هذا السفر. ولأهمية الروائي الكردي العراقي الكبير محي الدين زنگنه ولجهوده الإبداعية الثرة فلقد حرصنا على تثبيت هذه الدراسة النقدية دون أن نتدخل بأي قدر كان في تفاصيلها، موفرين لصديقنا الناقد الانباري حرية اختيار الأسلوب وبالطريقة التي يراها مناسبة، لسببين مهمين، الأول: هو أن كاتب الدراسة واحد من أدباء المحافظات ومن حق هؤلاء المبدعين علينا أن نفسح المجال أمامهم واسعا ليطلع القراء على إبداعاتهم الكبيرة، ذلك لأننا نعرف تماماً بان الأضواء تسلط عادة على الأدباء الأقرب إلى العاصمة ومؤسساتها الثقافية! أما الثاني فلخصوصية الروائي المبدع محي الدين زنگنه الذي قدم نفسه إلى الوسط الثقافي العراقي والعربي منذ وقت مبكر مبدعا كبيراً صنعته التجربة الصعبة دون أن تتدخل في (صناعته) أهواء ومصالح وأوهام...............
(المحرر)"

وعندما أزمع معد الكتاب مؤيد عبد القادر إقامة حفل توقيع لكتابه أرسل لنا دعوتين لحضور الحفل في العاصمة بغداد وبعد الانتهاء من الحفل توجهنا معاً إلى مقر اتحاد الأدباء لإكمال السهرة في ناديه الليلي. كان زنگنه مولعا بجلساتنا الليلية ففيها ننفتح على بعضنا بأحاديث الفن والأدب والمزاح الذي كان يتقن أساليبه وأحابيله ولكنه في الوقت نفسه يتخذ أقسى المواقف وأشدها تعصباً إن أحس أن وراء المزاح محاولة خبيثة للنيل منه أو من مجالسيه. في تلك الجلسة حاول شاعر صديق أن يسئ إليه بتلميح مقصود أو غير مقصود لا أدري بالضبط فلم أكن منتبها بشكل جيد بعد احتساء زجاجتين من البيرة الألمانية، وكان قد أهدى إليه إحدى مسرحياته الجديدة فما كان من زنگنه إلا أن استرجع هديته واقتطع من الكتاب الورقة التي كتب عليها الإهداء ومزقها وقذف بها إلى سلة المهملات. ولم ينفع اعتذار الشاعر له بعد ذلك ولا حتى تقبيل يده إكراما واحتراماً فعدنا إلى بعقوبة وقد سيطر علينا الإحساس العميق بالاكتئاب.
كان زنگنه كما هو في كتاباته لا يساوم على شيء، ولا يتراجع عن مواقفه السديدة، ولا يتنازل عن أفكاره ولا عن البوح بها لكنه في الوقت نفسه كان يحصن نفسه، وكتاباته ضد سياسة الرقيب، وسطوته، ونفوذه. ولهذا لم تستطع السلطة آنذاك أن تتهمه بشيء محدد مع علمها بحقيقة توجهه اليساري، وفكره التقدمي. أتذكر يوم وجهت له الدعوة من مصر لحضور عرض مسرحيته (السؤال) أو (ما حدث للطبيب صفوان بن لبيب من العجيب والغريب) أحيل طلب سفره على غير العادة إلى وزير الثقافة لطيف نصيف جاسم فما كان من وزير الثقافة إلا أن أحال طلبه إلى وزارة التربية والتعليم بحجة انه كان قبل احالته على التقاعد واحداً من منتسبي الوزارة كمدرس للغة العربية. وحين قدم الطلب لوزير التربية والتعليم أحاله بدوره إلى وزارة التخطيط خوفا من تعارض سفره مع خططها ابان الحرب العراقية الايرانية. وهكذا حرم زنگنه من مشاهدة عرض مسرحيته على الرغم من أنها عرضت في مصر مرتين مرة من قبل فرقة مسرح الإسكندرية من إخراج الأستاذ محمد غنيم، وأخرى من قبل فرقة المسرح الجامعي من إخراج الأستاذ صلاح مرعي. كما عرضت من قبلُ في الكويت وتونس وكانت من إخراج الفنان القدير المنصف السويسي فضلا عن عرضها في بغداد بإخراج متميز للفنان الراحل الكبير جعفر علي. لقد رفضت الوزارات طلبه في الوقت الذي لم تكن حاجة لغيره في الحصول على تلك الموافقات.

عندما قررت جامعة ديالى/ قسم اللغة العربية تدريس مسرحيته الموسومة (رؤيا الملك) أو (ماندانا وستافروب). كمادة لدرس النقد الأدبي فأنها اختارتني لأكون محاضرا فيها. كانت تلك التجربة لا تخلو من بعض الصعوبات غير المحسوبة فهي المرة الأولى التي أحاضر فيها داخل صف جامعي إلا أن ثقة رئيس القسم د. فاضل التميمي حالت دون وقوع غير المحسوب. جلست أمام طلاب القسم، وكان الى جانبي استاذ اللغة العربية الراحل الذي قتل مع زوجته غدرا على أيدي شلة من الإرهابيين د. مشحن الدليمي. قدمني د. فاضل لطلاب قسمه قائلاً: "من لا يعرف صباح الانباري لا يعرف محي الدين زنگنه" لقد جعل مني بوابة الدخول إلى عالم زنگنه الابداعي. وبعد محاضرتين فقط تولع الطلبة بحب الدراما وازدادوا إعجابا بزنگنه حتى أن بعضهم أختار أدب زنگنه الدرامي كبنية أساسية لرسالة الماجستير. وفي نهاية العام الدراسي قدمت مجموعة من البحوث عن زنگنه وكرم كواحد من اكبر المبدعين العراقيين.. كان التميمي يكن حبا خالصا لأبي آزاد، واهتماما كبيرا بمنجزه الابداعي المتميز ولهذا عمل جاهدا على جعل تلك الجلسة بمستوى رفيع يليق بمكانة زنگنه كمبدع كبير.
وعندما وضعت اللبنات الأولى لكتابي الأول (السهل والجبل) الذي درست فيه نصوص زنگنه المسرحية والقصصية كان ضخما ومكلفا فاضطررت الى تقسيمه على قسمين: جاء الأول تحت عنوان (البناء الدرامي في مسرح محي الدين زنكنه) وجاء الثاني تحت عنوان (المخيلة الخلاقة في تجربة محي الدين زنگنه الابداعية) اعتقدت أننى سأبيح لنفسي البوح بأسرار لم يستطع النظام الرقابي الوصول إلى جوهرها ومعرفة إلى من يشير رأس السهم فيها. كنت مأخوذا بفرحة الاكتشاف، والظفر بخفايا النصوص التي ظلت طوال ذلك الوقت كامنة وراء الكلمات، ومتسترة برموزها وإشاراتها الدلالية.
اضطررت ـــ أول الأمر ـــ إلى اللف والدوران حول الكثير منها، والدنو من مفخخاتها، وتفكيك أنظمتها الإشارية دون أن اترك آثارا وأضرارا على أحد.. لقد تعلمت وأنا أقرأ بوح محي الدين زنكنه المكتوم استخدام الأداة النقدية لتكون سلاحا قابلا للهجوم والدفاع في آن.. لست زاعما أننى خضت حربا نقدية ضروسا أو حققت تفردا في إسقاط النقاب عن وجه السلطة لأن ما فعلته كان دون جرأة زنكنه وشجاعته. ولا يعيبني أن اعترف بخوفي من الرقيب وتهوره، والنظام ودمويته.. لقد قمت بالتنويه والإشارة إلى البوح المكتوم دون الدخول فيه أو الخوض في تفاصيله حرصا على سلامة زنگنه، وحفاظا على شهادته، وإيمانا مني بنقل تلك الشهادة إلى أجيال ما بعد الاحتلالين الداخلي والخارجي.. قدمت الكتاب أول الأمر الى وزارة الثقافة والاعلام للحصول على موافقة رقابة المطبوعات وبعد شهر أو يزيد قليلا فوجئت بما فعله مقص الرقيب الذي قطع ثلث الكتاب فأرجأت الطبع.. درست خلال تلك الفترة آليات عمل مقص الرقيب فاعدت ما طاله مقصه بطريقة لم اترك له مجالا للقص مرة أخرى.. قدمت الكتاب لدار الشؤون الثقافية فتبنت طبعه على نفقتها الخاصة من دون ان تحذف منه أي شيء.. لقد كانت آليات الرقيب، وكيفيات قراءته لكتابي هو الدرس الثاني الذي تعلمته بوقت مبكر من تاريخ حياتي الأدبية.
الآن ـــ وبعد زوال الاحتلال الوطني فَرَضَت الأمانةُ التاريخية عليَّ أن أكون شاهدا على من كان شاهدا جريئا على زمن صودر فيه حق الإنسان في التعبير عن رأيه، وكاتبا صادقا افترشت الغامه المضادة للإرهاب الفكري حقولا لها بين طيات أعماله الأدبية منذ عام 1967 عندما كتب أولى قصصه القصيرة (الجراد) والتي تحولت فيما بعد إلى عمل مسرحي كبير لم يجرأ أحد وقتذاك على تقديمها من على خشبة المسرح العراقي ذلك لأنها تمس كبد الحقيقة متوغلة إلى أقصاها وكاشفة عن اقبح وجه لأشرس هجمة شهدها الوطن عام 1963. العام الذي تحول لون الوطن فيه إلى لون الدم.. دم الذين قتلوا غدرا، وتعذيبا، واغتصابا، أو الذين تركوا في الزنزانات معلقين بالمراوح أو تركت الأنابيب المطاطية لتملأ جوفهم بالماء من فتحاتهم السفلية أو.. أو .. الخ .. الخ ..
كان ما يسمى بالحرس القومي مصابا بالسعار، وربما كان السعار مصابا بالحرس القومي فراح يقضم عظام أبناء الوطن فرادا وجماعات، خفافا وثقالا.. كانوا ينهشون لحم من لم يتحول إلى صفهم الجرادي.. ثم أشاعوا نوعا جديدا من العلاقات أطلق عليها الكاتب الراحل الكبير يوسف عبد المسيح ثروة ـــ حين تناول موضوعة المسرحية ـــ بـ(العلاقات الجرادية) تلك العلاقات التي فرضت على الناس خيارات ثلاث: الدخول إلى معقل القومانية، أو دفع الفدية، أو الموت.. فدخل الكثيرون مكرهين، ودفع من كان ميسورا ثمن بقائه حيا، ومات الآخرون في دهاليز (العامة) أو في (الشعبة الخامسة) أو في أقبية (الحرس القومي)(1).
يقول زنكنه محرضا في الصفحة 72:
"أعلنوها حربا لا هوادة فيها على الجراد .. وكل الحشرات القذرة"(2)
ولكن ما فعلته سلطة الجراد هي إنها بدأت بمهاجمة أوكار المقاومة وإبادة المقاتلين والمقاومين لتتفرغ ـــ بعد ذلك ـــ لأبناء الوطن العزل.. كانت رشاشات (بور سعيد) مصرية الصنع تتجول في شوارع مدينتنا مهددة كل من يخرج عن جمعها الجرادي بالموت.. وقد جسد زنكنه هذا من خلال رموز لم تكن قراءتها مستعصية جدا. لقد عبر زنكنه عن آلامه وهو يرى ابشع غزو عفلقي ـــ إن جازت التسمية ـــ وما تركه من آثار الخراب، والدمار، والعنف، والابتزاز، والقتل، والإرهاب حد انك لا تصدق إن هؤلاء الموتورين هم من أبناء هذا الوطن الجريح.. لقد كانوا ناقمين ممتلئين بالأحقاد، والرغبات المهولة في الانتقام، ومثابرين بدأب على انتهاك اغلب إن لم نقل كل حقوق الإنسان العراقي.
يقول زنكنه في الصفحة في الصفحة 26:
"إن المرارة تنخر في عظامي وسحابة سوداء تغشي نظري، هذا الواقع الذي أحياه يعصرني عصرا.. يملؤني خجلا وعارا أحياهما حتى أطراف أصابعي.. آه.. لكم أنا خجل منه.. من نفسي.. منكم.. من زماني.. من عصري.. من كل شيء.. كل شيء.. ألا لعنة البشر كله على الجراد"(3)
لقد أعلن زنكنه موقفه من الطغاة بلا خوف وبلا وجل في الصفحة 128:
"لقد اتسخ العالم.. القذارة تدحر النظافة.. تنخر في الماء.. في الخبز.. في الهواء.. حتى النافذة العليا، التي عبرها يأتينا بين الحين نفحة هواء نقية.. قد اتسخت الآن.. أخذت تفوح برائحة الجثث.. الجثث الطافية فوق المياه.. كالجندول.. يا للسخرية.. الماء تغطيه الجثث.. الماء جثث.. وأنا هنا جثة وأنت أيضا جثة.. الكل جثث"(4)
وعلى الرغم من بساطة لغته ووضوح رمزيته لم يستطع أزلام الرقابة التعرف على وجوه نظامهم البوليسي المتخفية وراء هذه الكلمات الا بعد حين وكان الأوان قد فات على اتخاذ قرار سحبها من الأسواق أو إعلان الموقف منها أو من كاتبها، وبات الرقباء مثل (بالع الموسى) لكن شاعرا وطنيا مدّاحا بارزاً ونبيهاً ـــ انضى عنه ثوب اليسار والتقدمية، ولبس لبوسا قومانيا محولا نفسه الى بوق كبير من ابواق السلطة ـــ أمر بعد تسلمه منصبا راقيا في وزارة الثقافة والاعلام أن لا تتعامل (لجنة التعضيد والنشر) فيها مع هذا الكاتب وكان يعني مع محي الدين زنگه.
بمرور الوقت اشتدت الهجمات الجرادية شراسة وصار الحرس المسعور يمارس علانية هوايته في القتل. والذبح، وقطع الأعناق والارزاق حتى تحول الوطن إلى بركة دم حمراء دون أن يحرك العالم ساكنا فراح زنكنه يستصرخ الضمير متسائلا:
"ألا يهتز ضمير إزاء ما يجري .. ألا يحتج .. ألا يتحرك .. ؟"(5)
لقد كانت هجمات الجراد/ القومي شرسة إلى ابعد حد.. قاسية في مسخ الناس، وتشويه أفكارهم.. مستأسدة في افتراس البشر، وإيذائهم، وموجهة بأيد خفية لتطلق همجيتها دفعة واحدة على العراق.. أرادت أن تنال من الجميع وفوجئت بوجود من لم يرضخ لها.
في لقاء عابر لي مع المخرج البعقوبي الفنان ثامر الزيدي حدثني عن (الجراد) قائلاً: أن هذه المسرحية تحتاج الى خبرة هوليودية لاخراجها على خشبة المسرح ولم يسبق للمسرح في مدينتنا ان استخدم السينما أو المؤثرات الصورية بعد.
هرب زنگنه الى كردستان، وتخفى بين وديانها، وكانوا يلاحقونه من جبل الى جبل ومن قرية الى قرية.. عرف بأمره واحد من الكرد البسطاء وحين قدموا اليه وسألوه عن زنگنه قال لهم بثقة وتأكيد كبيرين لا وجود له في قريتنا ولا وجود لامثاله فيها فعادوا ادراجهم خائبين.. قال الرجل لزنگنه أنا اعرف انك من الشيوعيين، ولا اعرف لماذا احبكم حد انني امارس الكذب من اجل سلامتكم على حساب سلامتي، وسلامة عائلتي.. ويوم مررنا ونحن في طريقنا الى منتجع (مام جلال) اشار باصبعه الى المكان قائلاً هنا التقيت بذلك الرجل الذي لم يسلمني اليهم.
وصلنا المنتجع الذي ضيفنا فيه رئيس جمهورية العراق الجديد (جلال الطلباني) مع سائر الادباء العرب والكرد الذين حلو ضيوفا على مهرجان (گلاويش) السنوي.. كانت طاولة الرئيس الطلباني تضم عددا من الادباء الكبار ومن بينهم محي الدين زنگنه.. لم اتذمر لانه لم يبق الى جانبي.. ولم اشعر بالغبن لانني لم اجلس قريبا منه.. كدت احدس ما يريده مام جلال من زنگنه ولكنني ابقيت الامر طي الكتمان.. وليلة التقينا في بعقوبة قال لي زنگنه بصوت وقور وهاديء: مام جلال ارسل الى مبعوثيه ليبلغوني رسالته الشفهية، ورغبته الشديدة في أن اعمل كمستشار لغوي في مكتبه الخاص.. وربما بدافع اختباري قال لي زنگنه: ما رأيك في هذا فقلت له بالحرف الواحد ممازحاً: هل يوافق مام جلال على العمل في مكتب محي الدين زنگنه الخاص؟ ابتسم ابو آزاد، وطلب مني ان يظل الامر سرا بيننا.. وفي الزيارة الثانية لمبعوثي الرئيس اعتذر زنگنه لعدم قدرته على العمل بطريقة مهذبة غاية في الرفعة، والتواضع، والخلق الكريم.
استضافتنا في ذلك المنتجع جاءت بعد حضورنا الى السليمانية كمدعويين، ومشاركين في مهرجان (گلاويش) السنوي وكانت الدعوة قد وجهت الي لالقاء بحث عن بوح زنگنه المكتوم ضمن المهرجان في اليوم المخصص للغة العربية فذهبت برفقته الى هناك.. استقبلنا أحدهم وزج بنا في فندق بائس من الدرجة الثانية أو الثالثة لا اعرف على وجه التحديد في الوقت الذي نزل ادباء بغداد في فندق المدينة الكبير.. لقد شعر زنگنه باستغلالهم الواضح لتواضعه فما كان منه الا ان طلب حضور احدهم ليبلغه بمغادرة السليمانية ان لم يوفر لكلينا غرفة لائقة.. وعلى الفور تم الحجز في فندق المدينة الأنيق.. وكالعادة انهالت علينا دعوات الأدباء لمجالسهم المسائية التي يتألق فيها زنگنه بحضوره المهيمن، وبشخصيته الفريدة، وأحاديثه المشوقة، ونكاته اللطيفة. وكان من عادة المهرجان أن يسمي أيامه بأسماء الأدباء الكرد فأطلق على يوم القصة يوم محي الدين زنگنه.. في المساء جلست واياه في ناد كان الشاعر الكردي الكبير شيركو بيكس قد دعانا اليه.. وابتدأ النقاش كرديا كرديا.. اعتذرا مني وبمزاح لطيف قال زنگنه انتم العرب اضطهدتمونا زمنا طويلا فتحمل اضطهادنا لك بضع دقائق.. صبرت عليهما وعلى كرديتهما المحببة اليّ من ايام تعلمت الـ(بخير بي كاكه).. كنت مستمتعا بوقتي ولم اشعر قط بالممل ولو للحظة واحدة.. تحدثت الى شيركو عن زياراته لأكاديمية الفنون الجميلة يوم كنت واحدا من طلابها وكان هو منفيا ومبعدا عن جبال كردستان ونرجسها الزكي.
في اليوم المخصص للدراسات العربية ارتقيت المنصة ولم اكن اعرف ان الوقت محدد سلفا من قبل لجنة المهرجان.. وزع منسق الجلسة الادوار، والاوقات فابتدأت بطرح المكتوم في كتابات زنگنه.. كان المنسق ينبهني الى انتهاء الوقت المخصص لي بين فينة وأخرى حتى استجبت له مرغما فتوقفت عن البوح.. تحدثت عن (نثارات حلم تبحث عن حالم) التي نشرها عام 1992 في مجلة الأقلام وضمها ـــ فيما بعد ـــ الى مجموعته القصصية (الجبل والسهل) (6) عام 2002 وفيها يرفع الستار على معاناة الشعب العراقي وتشظياته، وعن وعيه وضياعه، واختناقه وموته البطيء.. كل هذا وضعه منذ اللحظة الأولى أمام السلطة غير هياب بالنتائج وما سيقرره المستبدون. إن معاينة سريعة لعنوان هذا النص تشي بجرأة تسبق الدخول إلى عالم أفكاره الجريئة فهي تشير بشكل واضح إلى تشظي الحلم إلى نثارات مبعثرة هنا وهناك، ومحاولة جمع شتاتها، والحفاظ على وحدتها (وحدة الحلم) عن طريق وسيط ما أو حالم ما.. وبدلا من بحث الوسيط عنها تنقلب المعادلة فتبحث هي عنه عبر سلسلة من الأفعال الادائية التي كلما اقتربت من هدفها بعثرتها أيد خفية ونثرتها على أرضية الضياع.. لقد زرع الطغاة الموت في كل شبر من ارض الوطن حتى حولوه إلى مقبرة وطنية ومارسوا ابشع أنواع الجينوسايد ضد أبناء الوطن حتى امتلأ الوطن بالمقابر الجماعية.. ولم يرق هذا لرجال الأمن فطلبوا مثوله بين ايديهم.. حدثني الاستاذ الشاعر موفق العاني وكان معروفا للجميع كسياسي اكثر منه شاعرا قال: ذهبت الى مدير الأمن في بعقوبة الجديدة، وحدثته عن زنگنه، وأصالته، وعراقيته، وقلت له ان اردت اي شيء منه فما عليك الا ان ترسل في طلبي أنا بدلا منه.. وكانت لهذا الرجل وقفة أخرى مساندة بقدر كبير لرئيس فرع اتحاد الادباء الأستاذ د. عبد الحليم المدني حين اراد رئيس اتحاد الادباء المركز العام تسليمي الى جهة امنية عقب قراءتي لنص مسرحي ـــ وصف بالجريء ـــ من مسرحياتي الصوامت في امسية من اماسي الأتحاد في بغداد.. كان العاني ومعه المدني يكنّان مودة خاصة لمحي الدين زنگنه جاوزت حدود الرسميات، وعلت على السياسيات ومحدداتها.. وقد منحني كل منهما مودة لا تقل عن مودتهما للجبل العراقي الشاهق محي الدين زنگنه الا قليلاً.. وبسبب عمق تلك المودة وصدق مشاعرهما الانسانية النبيلة لم ينجح رئيس الاتحاد في ارسالي الى (درب الصد ما رد).. كان زنگنه قد اعد مقالة تناول فيها صوامتي بهدف تقديمي للحضور، والتعريف باسلوبي المحدث في كتابة المسرحيات الصوامت الا ان طارئا منعه من الحضور فطلب مني تكليف واحد من الادباء لقراءتها الا ان الاستاذ المدني خيرني بين اثنتين: قراءة مقالة زنگنه أو قراءة صامتتي المسرحية. لقد كتب زنگنه في خاتمة تلك المقالة ما يأتي:
"الانباري وأنا أتابعه، منذ زمن طويل بشغف ومحبة قد كرّس جل كتاباته في هذا الاتجاه، أعنى المسرحية الصامتة، مستفيدا ومتعلما بتواضع كبير، من تجارب الذين سبقوه.. و.. مضيفا إلى جهود أولئك.. بثراء.. وأصالة.. وهو هنا.. بأقدامه على قراءة هذه النصوص لا يكتفي بقلب ما قيل ويقال بان المسرحية ليست للقراءة وإنما يسير خطوة أوسع وابعد.. إذ يدعونا إلى الاستماع إلى المسرحية.. والاستمتاع بهذا السماع.. والسماع عادة خارج الموسيقى والرسم لا يخلو من الملل فكيف بالمسرحية. إنها دعوة إلى الرؤية بالأذن، وإذا كان بشار قد جعل الآذان كالعين توفي القلب ما كانا. فاننا نأمل في قراءة صباح.. أن تستحيل آذاننا عيوناً.. توفي الحواس كلها.. ما كان.. أو يكون.. إننا أيها الإخوة بصدد رؤية سمعية إن صح التعبير وان لم يصح فأمام رؤية.. فلندعه يفتح عيوننا عفوا، آذاننا لنرى ونتخيل ونتصور، ويحقن قوانا الذهنية.. وأخيرا. أحببت أن لا أتحدث عن المسرحيات احتراما لصمتها الذي لاذت به، ومن الصمت ما هو ابلغ من الكلام فلم أعرها لساني لأني واثق أنها بالرغم من صحتها وربما بسبب صمتها تملك لساناً بل السنةً أطول من لساني واقدر على الحديث عن نفسها. وأيضاً. لأني لم أرد أن احرم المشاهدين ـــ عفوا المستمعين ـــ لا بل المشاهدين متعة المشاهدة والمعاينة.. بـ الأذن."
في جلسة مميزة بداره حدثني عن مدينة كركوك ـــ المدينة التي ولد فيها عام 1940ـــ وعن العنف الذي تعرضت له ايام (گاورباغي)، وكيف ظلت صورة الدم عالقة في ذاكرته كطفل، ومؤثرة في نفسه كأنسان.. وبينما ظل مسترسلا بالحديث عنها رحت افكر بجعلها مفتتحا لكتابي الموسوم (البناء الدرامي في مسرح محي الدين زنگنه).. لم ارغب وانا اضع اللمسات الاولى على الورق ان اكتب سيرة ذاتية تقليدية جدا لزنگنه المبدع والانسان ولهذا تناولتها كـ(سيرة قلم مداده نسغ الحياة) وافتتحتها بوصف للعنف الذي روع المدينة يومذاك قائلاً:
كان صوت الرصاص يلعلع في كل مكان .. يئز في سماء (كاور باغي) .. ينشر الرعب .. يخترق الصدور .. وكان عويل النسوة وصراخ أطفالهن نذير مأساة كبرى .. كان الرصاص يلتهم الساحة والرجال .. وكانت الجثث تتهاوى مضرجة بدم الشهادة .. رصاص، وعويل، ودم، وموت.. تلك هي (كاور باغي) كما حفظتها ذاكرة صبي نشأ في رحم مأساة كانت تكبر في ذاته مثل كائن حي.. تمور بها .. تتقد مثل جذوة ثم لا تني تبحث لها عن منفذ لوجود متحرر.. وكان لزاما عليه أن يحقق ذلك الوجود ليحقق توازنا بين ذاته وبين العالم فاكتشف الكتابة.. كتب كثيرا... ومزق كثيرا.. وجرب كثيرا.. وصمت بعد تلك (البدايات السعيدة) كما اسماها كثيرا حتى جاء عام 1967 ليبتديء الكتابة مجددا، بأشكال تعبيرية يوحدها منهج خاص هو منهج الرجل الذي حمل للعالم، على راحتيه، روح (كاور باغي) وأنفاسها المدماة.
لقد ظلت (گاورباغي) مجرد جرح لم يندمل بعد في ذاكرة محي الدين زنگنه، ولم تستطع الجروح التي أعقبتها ـــ على الرغم من فداحدتها ـــ ان تمحي أثرها من تلك الذاكرة.. قال مرة ان أغلب ما كتبته من النصوص يتنفس من رئة (گاورباغي) وفي ظني انها كانت بمثابة الصدمة الهائلة للبراءة الخالصة، ولم تكن الصدمة الوحيدة فقد اعقبتها صدمات دونها تلك الصدمة الصغيرة فها هو يكتب عن مدينته المستباحة ـــ مرة أخرى ـــ وكيف تستقبل القادم اليها من الشرق:
"بدلا من باقات الزهور.. مجموعة هائلة من القبور مجللة، إذ ترتدي المدينة ليلها بحمرة نيران بابا كركر الأزلية المشتعلة ليلا ونهارا وصيفا وشتاء، قبر لصق قبر.. قبر فوق قبر.. قبر تحت قبر.. قبور.. ولا شيء سوى القبور التي بات عددها يزداد على مر الأيام ومساحتها تتسع وهي تمضغ لحم المدينة وضحاياها يكثرون وهي تفتك بالأحياء"
فمن اباح لهذه المقابر ان تنمو وتتكاثر وتحتل المدينة؟ بجرأة ووعي وصدق يجيبنا زنكنه إن وجها واحدا أو قناعا واحدا يتجسد في آلاف الأقنعة أو إن آلاف الأقنعة تتجسد في وجه واحد هو وجه المستبد الأحد الأوحد هو الذي فعل ما فعل.. وزيادة في التأكيد يصفه زنگنه بالشكل الآتي:
"أقرا بمعونة بابا كركر.. لا أحد.. سوى أحد.. فانكفئ على نفسي مصعوقا.. آه إن الحياة تواصل مسيرة شقيقتها التوأم بكل تفاصيلها ووقائعها حتى لا تبقى ثمة غير حياته.. واحدة .. سوى حياة واحدة.. وحيثما تعددت صورها وأشكالها وتباينت ألوانها وخطوطها فلها وجه واحد.. هو وجه الأحد هو الوجه الواحد.. كثير التجاعيد كثير الأقنعة.. ولكن في النهاية كما في البداية هو، آه أين المفر.. أين المفر.. من الوجه المختبئ خلف آلاف الأقنعة؟ كيف الخلاص من آلاف الأقنعة التي تخفي الوجه الواحد؟ كيف؟ كيف كيف.. أين.. أين ؟؟؟"
ويستمر زنكنه ببث أفكاره المتدرعة بالحلم، ويستمر بوحه المكتوم عن أفعال الطاغية والخوف الذي زرعه في كل نفس، وفي كل بيت، ومحلة ومدينة ولا سبيل لقهره حتى بالخوف نفسه بعد أن صارت البلاد بلادا للخوف "الخوف يكاد يلاشيني وخوفا من أن يقضي علي الخوف ويلغي وجودي تماما.. وحرصا على نفسي ونوعي من الانقراض الأبدي يعزز تشبثي المشروع بالحياة"
فالخوف في (نثارات) متعدد الوجوه ومتشعب ومكدس بعضه فوق بعض، وان المقابر الجماعية لا بد وان تؤدي يوما ما بحكم زيادة مساحتها وعدد سكانها من الأموات إلى انقراض النوع ولكن أي نوع؟ طبعا النوع الذي على شاكلة الراوي الذي يشكل خطرا حقيقيا على وجود السلطة وازلامها الذين لا يتورع زنكنه عن تسميتهم وحوشا.. ويصل البوح المكتوم أقصاه حد أن الفواصل بين البوح وبين الكتمان تزول تماما إذ يتحول زنكنه إلى ما يشبه التصريح والمجاهرة بالرأي والموقف وتشبيه الحال الذي آل اليه الدكتاتور، والكيفية التي سلكها للوصول إلى دفة الحكم.
كان زنگنه قد عرّفني على خياط في شارع السعدون ببغداد إن لم تخني الذاكرة وما اكثر خيانتها لي هذه الايام.. التقيت به عقب نشر الـ(نثارات). قال بجرأة هو الآخر ـــ ولم يكن احد يأمن جانب أحد يومذاك ـــ أن هذه القصة هي الأكثر جرأة في كتابات محي الدين زنگنه حتى هذه الساعة.. انظر لهذا الوصف الدقيق.. سحب من أحد الادراج مجلة الاقلام التي نشرت تلك الـ(نثارات) وراح يقرأ لي بصوت منخفض:
"من بعيد المح.. كبشا غريب الهيئة.. شاذ الخلقة متوجا بقرنين.. أشبه بحسامين يقطران دما.. يصعد الخرفان.. كما لو كان جسرا معبدا له، كاشفا بتعمد، أو زهو، عن أرجل مصبوغة من بدايتها إلى نهايتها بالدم، وهو يثغو بعواء متقطع، ويشير بظلفه الذي يسيل دما، إلى جسد خروف ممزق.. كأن مجموعة ذئاب غادرته للتو.. ويقول بكلام فصيح.. هذا عقابي.. ابسط عقاب واكثر رحمة.. أنزله بكل من يخرج على الإجماع الخروفي في عالمي الجديد" (8)
إن الانسياق وراء خطوات كبش كهذا صار أمرا مفروغا منه بعد أن تحول الكل إلى خراف وديعة طائعة مطيعة تصفق بحماس للكبش حتى تدمي اكفها من ضراوة التصفيق.. كيف لا وهي تدرك تماما إن من يصفق طويلا يعيش متنعما بهبات القدر (القائد) الذي يقود الجميع إلى (مجاهل مجهولة) أو إلى حتوفهم مباشرة.
لقد بث زنكنه كل معاناته في نثاراته مشخصا طبيعة النظام وواصفا كيفياته التي على وفقها تسلم السلطة وتربع على دست الحكم مقدما صورا واضحة بينة عن رأس تلك السلطة بطريقة فنية تمكن من خلالها البوح بشيء والتكتم على أشياء.
قد لا نتفق مع رأي صديقنا الخياط تماما في كون هذا النص هو الاجرأ دون غيره من نصوص زنگنه التي تصدى فيها لبطش السلطة، وارهابيتها. فقد اتصفت نصوص اخرى بالجرأة نفسها الا ان زنگنه لم يبح فيها قدر بوحه في هذا النص تحديدا.. كما أن شفافية الرمز سهلت للقارئ مهمة التوصل الى دلالته بأسرع مما توصل اليها في النصوص الأخرى او لهذا جاءت حماسته واضحة في إضفاء عبارة (الأكثر جرأة) على هذا النص.. وحقيقة الأمر ان زنكنه وهو يكتب نصه الإبداعي يأخذ في الاعتبار مدى تشدد الرقابة السلطوية في ظرف ما، ومدى ترهلها في ظرف آخر.. ولهذا لم يستطع ان يقدم نصه القصصي الطويل (الموت سداسيا) (9) على سبيل المثال لا الحصر إلا بعد ان منح هذا النص عنوانا ساهم بدرجة كبيرة في استغفال الرقيب واستبعاد مقصه عن الموضوعة التي حملها زنكنه كل معاناته وآلامه وحزنه على مدينته التي لم تعد كما كانت قبل استحواذ المستبدين عليها.. لقد اطمئن الرقيب لتأويله واعتقاده ان المستبدين في القصة إنما هم أولئك الذين اغتصبوا الأرض باسم..... ولم يفطن الى انهم أسياده المستبدون المتسلطون على رقاب الكرد بشكل خاص والعرب بشكل عام.. ولم يتوقف زنگنه عن بوحه هذا وهو ما قادني الى كتابة (البوح المكتوم في كتابات محي الدين زنگنه).
في بعقوبة كان لزنگنه قلة قليلة من الأصدقاء المقرّبين كالفنان التشكيلي الكبير منير العبيدي، والمسرحي السابق مجيد مبارك، وغيرهما من الأصدقاء. وعندما كتبت مسرحيتي الثانية (ليلة انفلاق الزمن) ــــ وهي من الخيال العلمي ــــ كان هؤلاء الأصدقاء إلى جانب زنگنه أبطالا لها. في هذه المسرحية جعلت الزمن ينفلق ليشكل زمنين الفرق بينهما 25 عاما حيث تتم المواجهة المباشرة بيننا (محي الدين زنگنه، منير العبيدي، وأنا) وبين من هم يمثلوننا فضلا عن الشخصيات الأخرى مثل الفنان الراحل عادل كوركيس، والفنان المسرحي الراحل مجيد مبارك، والفنانة المسرحية لميعه الناشئ، ونجل زنگنه آزاد محي الدين.. حيث نشأ بيننا صراع ضار لا هوادة فيه لإثبات من هو الحقيقي من المجموعتين نحن صباح ومحي ومنير أو الانباري وزنگنه والعبيدي.. وكيف وجدنا معا في آن واحد وبعمرين مختلفين يكبر أولهم الآخر بخمس وعشرين سنة.. لم يكن هدف المسرحية تقديمنا لاثبات شخصياتنا حسب بل لاثبات ما تقوم به قوة غريبة لتزييف شخصياتنا بعد ان تفشل في اقناع زنگنه للاحتفاء به ككاتب بارز على وفق طريقتها الديماغوغية.. المسرحية تبدأ من جلسة مسائية من جلساتنا المعتادة آنذاك لتنتهي بنا إلى السجن على ذمة التحقيق.. لم تكن هذه المسرحية أو التي سبقتها العمل الإبداعي الوحيد الذي احتفى بزنگنه فقد سبقهما فيلم تلفازي بعنوان (الكاتب الظريف) والذي أخرجه الفنان ناصر حسن لصالح تلفزيون بغداد.. وبعد هذا الفيلم جاءت قصيدة الشاعر إبراهيم الخياط الموسومة بـ(محي الدين زنگنه) عام 1993، لتشكل سبقا في الكتابة الشعرية عن زنگنه.. وفي عام 1998 كتب الشاعر إبراهيم البهرزي قصيدته الموسومة بـ(محي الدين زنگنه). وفي عام 2000 كتب الشاعر الكردي شيركو بيكس قصيدته الموسومة بـ(محي الدين زنگنه) أيضاً.
عندما ابتكرت وزارة الثقافة العراقية جائزة للإبداع تحت مسمى (جائزة الدولة للإبداع) نالها بجدارة عالية عن مسرحيته الموسومة (رؤيا الملك) عام 1999 ثم نالها ثانية عن مسرحية (شعر بلون الفجر) عام 2001 وكنت قد نلتها بعده عن مسرحيتي التجريبية (الصرخة) عام 2000. الغريب في الأمر أن المسرحيات الثلاث كشفت النقاب ـــ بشكل يكاد يكون واضحاً ـــ عن وجه السلطة القبيح والدموي ولكنهن على الرغم من هذا نلن جوائز الإبداع.. تناول زنگنه في الاولى ما يجره النظام الاستبدادي من ويلات على ابناء الشعب، وتناول في الثانية قرقوزية حكم والي بغداد الذي اوحت لنا افعاله بما فعله الطلفاح في بغداد، بينما تناولتُ في الصرخة حقارة الحرب، وسفالتها، والجرائم التي ارتكبت بحق الابرياء من ابناء الشعب البسطاء.. لقد فرضت نصوص زنگنه نفسها على المسرح العراقي في مواسمه المختلفة، ولم تدخل مسرحية من مسرحياته دورة من دورات مهرجان بغداد المسرحي إلا وفازت بجائزة أحسن نص في المسرح العراقي.. إن زنگنه وعلى الرغم من كل هذا لم يرغب في الظهور تحت الأضواء، وان الكثيرين ممن أحبوا مسرحه لم يسبق لهم رؤيته وجها لوجه.. عندما قدم منتدى المسرح مسرحيته التجريبية الموسومة بـ(القطط) ذهبنا إلى قاعة العرض بصحبة القاص شوقي كريم فوجدنا القاعة ممتلئة حتى آخرها بجمهور النظارة ،وهي قاعة صغيرة أو باحة لدار قديمة من دور كبار الشخصيات السياسية العراقية في شارع الرشيد على ضفاف دجلة، ولم نجد إلا ثلاث مقاعد شاغرة في الصف الأول فجلسنا عليها.. وما هي إلا لحظات حتى جاء أحدهم، وطلب من زنگنه إخلاء الكرسي لأنه كرسي الوزير.. ثارت ثائرة شوقي كريم وقال بصوت مسموع (والصوت المسموع في تلك الفترة العصيبة يؤدي إلى السجن..و..و..الخ):
"ابني هذا محي الدين زنگنه.. ليس للعراق منه غير واحد فقط.. أما الوزير فعندنا منه الكثير اذهب للوزير وقل له هذا"
ذهب الرجل خائفا وكأنه هو الذي نطق بغير المسموح من الكلام.. وعندما انتهى العرض وبدأت الجلسة النقدية وتحدث فيها من تحدث طلبوا من زنگنه أن يقول كلمة ما، فبدأ بالحديث من محله، ولكن جمهور النظارة ألحّوا على مدير الجلسة أن يتحدث زنگنه إليهم من المنصة مباشرة ليتعرفوا عليه، وليروا وجهه للمرة الأولى فحقق لهم ما أرادوا.

وأنا اكتب هذه السطور ذكر لي زائر كريم قطع مسافة غير قصيرة جواً ليصل من نيوزيلند الى (اديلايد) حيث وضعت رحلي بعد عناء طويل: أن زنگنه لا يجيد الكلام مثلما يجيد الكتابة وهو لهذا لا يريد إجراء لقاء، أو حوار مع الصحافة. قلت ليس هذا هو سبب رفضه للحوارات واللقاءات الصحفية مع أنني لا اجزم أن الكاتب ينبغي أن يكون متحدثا جيدا بالضرورة لكن زنگنه اثبت في مناسبات كثيرة فصاحة لسانه، وبلاغة نطقه، وطلاقة لغته، وقدرته الكبيرة على نطق الظاء والضاد والذال، وهي من الحروف التي يصعب على الاعجمي نطقها، ومكنته اللغوية في الكتابة الإبداعية، ولغة الحوار المباشر في آن واحد. فقط كان لا يرغب في أن تسلط الأضواء عليه لأنه يدرك فداحة الثمن الذي ينبغي دفعه للسلطة وقتذاك خاصة لمن تسلط عليهم الأضواء في الإذاعة، والتلفزيون، والصحف الرسمية.. هل يمكن نسيان كيف تم زج بعض الفنانين الكبار من غير السلطويين في اداء اغنية سلطوية تمجد الحرب و(القائد الضرورة)!؟ أليس هذا هو ابسط شكل لاذلال المبدع الأصيل؟.. ثم ألا ترى أن هذا هو بالضبط ما منعني من الكتابة عن نصوصه بطريقة تلفت أنظار السلطة إلى بوحه المكتوم؟ وهل فاتك ما ذكره زنگنه عن كيد السلطة في قصة (الموت سداسيا)؟ ألم يقل:
"انه.. من حق السلطة السماوية والأرضية، التي هي ظل للأولى.. ووجه من وجوهها المتعددة.. أن تضع كلتا يديها على الأموال المنقولة وغير المنقولة التي يرثها أفراد.. لا يؤهلهم القانون للتمتع بما يرثون" أو "إذا قيد رجل رجلا آخر، بسبب قضية لا يعرف عنها.. (المقيد) شيئا. ولم تثبت علاقته بها. فعلى الرجل الأول أن يتحمل أي جزاء يترتب على القضية"
لقد حاول زنگنه يا صديقي اطلاق صرخاته الصماء في وجوه الطغاة والبغاة محولا كلماته الى مرايا تعكس بشاعة وجوههم وسفالة أفعالهم.. والقدر الهائل من القذارة التي تغطي هاماتهم. ولم يفعل هذا الا بطريقة ذكية حصنت نصوصه ضد من يتحينون فرصة لاسقاطها في حبائلهم.. ألا ترى انه وعلى الرغم من إقراره ان القذارة انتصرت على النظافة الا انه يؤكد على ان من الزهو والخيلاء " ان يحتفظ المرء بضميره نظيفا في دنيا تفيض قذارة وتزداد اتساخا" وهذا برأيي هو أضعف الايمان.. لقد حاول على الرغم من جبروت السلطة الكشف عن وجهها القبيح وبشكل واضح حين قال:
"أنا محي الدين زنكنه مؤلف القصة.. وخالق أحداثها وشخوصها.. فقد استطعت بعد إجراء بحث دقيق.. مصنف طويل.. أن أتوصل الى جملة حقائق.. أضعها في خدمة التأريخ والحقيقة.. وكل من يهمه أمرهما تاجر الجملة هذا.. لم يكن اكثر من أحد الأشقياء.. ولكنه هنا حيث تتزمكن القصة اصبح فجأة صاحب بستان تفيض بالخير والعطاء.. دون أن تخترق قدمه شوكة.. أو يسكب جبينه قطرة عرق.. سوى أن حريته اخترقت العديد من الأجساد.. وسكينه سكبت سواقي من الدم" م. زنكنه
لقد فعل زنگنه الكثير الذي كان يمكن ان يقوده الى (محكمة الثورة) سيئة الصيت لكنه فعله بذكاء المبدع، وحنكة السياسي، وفطنة الكاتب، ودهاء العراقي الأصيل.. أليس في اشارته الى رجوع السلطة لاكثر القوانين قدما ورجعية كالقانون الذي ذكرته لك يا صديقي ـــ والذي كان مفعوله ساريا في العراق قبل أربعة آلاف عام وبمقتضاه لا يحق للراعي على سبيل المثال التساؤل عن لحم قطيعه لان لحمه لم يعد ملكا له وعليه أن يغلق فمه أو يغلقونه اغلاقته الأخيرة ـــ ما يعني انه ينبه الناس الى جوهر ما تفعله السلطة؟ ومع هذا لم يكتف زنگنه يا صديقي بفضح ظلم وظلامية السلطة وقسوتها وهرسها عظام الناس من الصغار والكبار بل تجاوز بوحه المكتوم الى البوح المعلن الصريح.

لقد احب زنگنه مدينة البرتقال (بعقوبة) اكثر من أي مدينة أخرى فقد امضى فيها ما يقارب 36 عاما تداخلت خلالها ذاكرته بذاكرتها، وفرحه بافراحها ومعاناته بمعاناتها، وآلامه بآلامها واتراحها، وفيها ابتنى مجده الابداعي الهائل ولهذا تراه يا صديقي يبكي لها ويتأوه من اجلها:
"آه.. آه أكاد أتقيأ أحشائي.. من رائحة الدم المتخثر التي اكتسحت الروائح الأخرى، كلها، في هذه المدينة، مدينتي، البرتقالية.. المشبعة.. برائحة القداح.. والأشجار.. اللعنة.. ما الذي يجري في مدينتي البائسة؟ لقد تسمم حتى الهواء وفسد.. ستخنقها العفونة." .
لقد خلت من أهلها، وافرغت بيوتها، وانتهكَ قداستَها الداعرون، والارهابيون، والمسيّسون.. ولكن على الرغم من هذا كله يظل ثمة أمل يلوح في الأفق البعيد الذي يبشر "بحمرة خفيفة.. أشبه بحمرة الفجر الوليد" كما يقول صديقنا الراحل الحميم محي الدين زنگنة
في بعقوبة ثمة امكنة كان يتردد عليها حيث تجمعه وبعض اصدقائه جلسات حميمة ما زلنا نحنٌّ اليها حتى بعد رحيله عنها.. ومنها ركن صغير في مؤخرة مكتب الصديق كريم الدهلكي (صديق الادباء والمثقفين والصحفيين) وهو المكتب الوحيد الذي يستلم ويوزع الصحف اليومية في بعقوبة والذي كان يوما ما مشغلا للتصوير الذي أديره بنفسي.. في هذا الركن الخفي الذي كنت قد شيّدته كغرفة مظلمة لطبع وتحميض الصور الفوتوغرافية فيما مضى كان الدهلكي يحتفل بذكرى الحزب الشيوعي في 31 آذار من كل عام قبل وبعد سقوط النظام البعثي السابق.. وكان يدعونا للاحتفاء بهذه الذكرى.. لم يزد عددنا على بضعة انفار من الموثوق بكتمانهم سر هذه الجلسات.. كان كل واحد منا يعرف مدى خطورة مثل هذه الاحتفالات في ظل نظام حرم العمل السياسي على كل من يعمل خارج حزبه الأوحد الوحيد.. كان الدهلكي يقدم لنا ما لذ وطاب من المزة التي يحسن صنعها بيديه الكريمتين.. وكنا نشرب نخب الذكرى، ونردد معا بعض الاغاني التي تمجد الانسان والوطن والحزب.. كان زنگنه يكنُّ للدهلكي محبة ومعزة كبيرتين كما لو انه واحد من ابنائه المخلصين.. وكان اعتماده عليه كبيرا في انجاز الكثير من مشاويره المهمة حتى ان اصدقاء الدهلكي أعابوا عليه ما كان يفخر به امام نفسه على الأقل كرجل قدم خدمات جليلة لزنگنه مثلما اعاب عليَّ بعض النقاد تمسكي بالكتابة عن اعمال زنگنه الدرامية وهم يتجاهلون اهميته ـــ عن قصد ـــ كمبدع ريادي كبير، وكقامة سامقة من قامات المسرح العراقي.
في آخر جلسة لي قبل التوجه الى عمان هربا من بطش الظلاميين التقيت في هذا الركن البهي بأبي ولاء (وهو واحد من اكثر الشيوعيين تهذيبا في بعقوبة كلها) للمرة الاخيرة قبل اغتياله.. ثم اسعفني وزنگنه الحظ برؤيته قبل موته متأثرا بجراحه على سرير في مستشفى مدينة الطب ببغداد.. عندما سافر ابو ولاء الى لبنان لانجاز مهمة سياسية اتصل بعض المتأسلمين باللجنة المحلية للحزب الشيوعي في بعقوبة مستغلين غيابه ليفرضوا على اللجنة ما قرروه من أمر الأديبين مؤيد سامي، وصلاح زنگنه، فما كان من اللجنة الا ان رضخت لمشيئتهم معلنة عدم مسؤوليتها عنهما كأديبين ماركسيين مستقلين في سابقة لم يعرف الحزب الشيوعي مثلها من قبل وهو المعروف باحتضانه لكل الطاقات العراقية الخيّرة.. وعندما عاد ابو ولاء من لبنان وسمع ما سمع حضر الى مقر اتحاد الادباء بنفسه ليعتذر للاتحاد وللأديبين عما بدر من اللجنة بحقهما فضرب مثالا يقتدى به للخلق الشيوعي الأصيل، والتزام قضايا المثقفين والادباء العراقيين وان كانوا خارج منظماته المهنية.. لقد كان اغتيال هذا الرجل الصديق المهذب أمرا مفروغا منه في ظل تلك الظروف التي اعقبت سقوط النظام البعثي، وايذانا باغتيالات أخر ستطول المبدعين، والمثقفين، والاساتذة الجامعيين.. وفعلا تم اغتيال عدد منهم وكان على رأسهم صديقي الهاديء هدوء نسمة ديالية مضمخة بقداح بساتين بعقوبة مؤيد سامي.. وفي جلسة اتحادية رأستها في بغداد ـــ بعد مرور اربعين يوما على اغتياله ـــ طرحت أجوبتي للسؤال الرثائي الملح الآتي:
• أتعرف لماذا اغتالوك يا أخي يا مؤيد؟
لأنك لا تعرف الحقد الذي يعرفون.. لأنك لا تشهر البغض بالوجوه كما يشهرون.. لأنك لا تتستر بالكلمات الزائفة كما يتسترون.. لأنك رائع ونقي كالشمس.. لذا صوبوا رصاص حقدهم عليك...
• أتعرف لماذا اغتالوك يا أخي يا مؤيد؟
لأن الرصاصات تستحي أن تضمك إلى صدرها الساخن.. الرصاصات الخجلى منك.. من فروسيتك، وشهامتك ونبلك.. الرصاصات التي يعرفون انها اكثر خجلا وحياء منك، وأنها لن تمس شعرة في جسدك الطاهر.. لذا استبعدوها وصوبوا رصاص حقدهم عليك...
• أتعرف لماذا اغتالوك يا أخي يا مؤيد؟
لأنك تساميت عندما انهاروا.. لأنك ترفعت عن الدنايا عندما هبطوا اليها.. لأنك شهرت في وجوه الناس الحب عندما شهروا البغض والحقد والكره في كل الوجوه.. لأنك كنت المؤيد منا.. لأنك المؤيد فينا.. لذا صوبوا رصاص حقدهم عليك...
• أتعرف لماذا اغتالوك يا أخي مؤيد؟
لأنك قلت الحق عندما قالوا الأباطيل.. لأنك قصدت الحقيقة عندما قصدوا الأكاذيب.. لأنك أمطرتنا بوابل من الحب بعد أن أمطرونا بوابل من الرصاص.. ولأن الحياة انتقتك دون الباطل والأكاذيب.. لذا صوبوا رصاص حقدهم عليك...
• أتعرف لماذا اغتالوك يا أخي يا مؤيد؟
لأنك واثق من طيبتك المطلقة ومن حبك للناس.. لأنك تحيا بشرف، ونزاهة، وضمير حي.. لأنك مخلص لقضية العراق، وأهل العراق، ولأنك تسكن في حدقات عيون بعقوبة، وتستقر في قلوب أهلها الثكالى.. لذا صوبوا رصاص حقدهم عليك...
• أتعرف لماذا اغتالوك يا أخي مؤيد؟
لأنك أسمى مؤيد في مدينتنا.. أسمى صديق وأخ قريب الى القلب لأنك مؤيد سامي.. ولأنهم يعرفون بأنك المؤيد السامي.. لذا صوبوا رصاص حقدهم عليك.. أمس.. عندما طرقت بابك اقتفيت آثار ثمان رصاصات همجية.. تصور يا أخي يا مؤيد ثمان رصاصات وباب واحد.. وتصور بابك وهو يملأ قلوب ثمان من قاتليك بالخوف والهزيمة.. أية معادلة مخجلة هذه؟ وأي رجال هؤلاء القتلة! بئس ما فعلوا وما كسبوا وليعلموا ان عنقاء بهرز ستقوم من النار مطالبة بثأرك ولا مرد لعنقاء بهرز.. إذ ذاك.. وإذ ذاك فقط لن يعاودني السؤال الملح.. لماذا اغتالوك يا أخي يا مؤيد؟
أما محي الدين زنگنه الذي احب مؤيدا وانزله من نفسه منزلة الابن البعقوبي البار فقد كتب مرثية طويلة جاء في مطلعها:
"من يعرف السامي مؤيدا.. يعرف السمو.. السمو في الخلق، والأخلاق، والأدب.. من يعرف مؤيدا.. يعرف الشفافية، والنزاهة في السلوك، والعمل، والفكر.. يعرف الإنسان في صفاء الروح ونقائها، ليس على مستوى الواقع الذي يرشح نواقص وعيوبا، وانما على مستوى الطموح الذي يكاد يخلو من شوائب الواقع الذي نعيشه وأدرانه. ولأني أعرف مؤيدا.. ما كان يدور في خلدي أن ثمة طلقة يمكن أن يبلغ بها الغدر حد الاقتراب من هذا الإنسان الأليف، ناهيك عن اختراق جسده وسفك دمه"
لم يكن زنگنه يحسن الغناء ولكنه كان يجيد الاصغاء، ويستمتع بكلمات تلك الأغاني، وبثوريتها، وصدقها.. صار حضوره للاحتفاء بيوم الحزب تقليدا ثابتا وكأن في حضوره حضور للحزب بكل تاريخه، ومجده، وقامته السامقة.. وكان الدهلكي حريصا على ان يكون زنگنه أول الحاضرين.. متطوعا لجلبه من بيته في بعقوبة الجديدة الى حيث الاحتفال السري.. فهل كان زنگنه شيوعيا كما كانت السلطة الشباطية تعتقد؟ لم يكن كذلك.. لكنها طاردته من مكان الى آخر بعد فراره منها الى كردستان واختبائه في احدى قراها النائية واذ اهتدى الشباطيّون اليه ودخلوا القرية التي اختبأ فيها سألوا احد رجالها المتنفذين هناك عنه فاجابهم بتأكيد ان زنگنه غير موجود في قريته وهو العارف بوجوده فيها.. قال ذلك الرجل لزنگنه بعد ان ولى ازلام النظام:
"ما اعرف ليش احبكم انتو الشيوعيين"
لقد منح الحزب الشيوعي العراقي عرفانا واعترافا منه بمآثر محي الدين زنگنه تكريما له بحضور اغلب مؤتمراته المركزية ان لم اقل كلها.
اليوم وفي هذه الذكرى التي طالما جمعتنا معا في مكتب الشيوعي الجميل كريم الدهلكي يملؤنا الأسى لاننا لم نعد قادرين على ان نحتفي مع زنگنه الكبير الذي غادرنا بشكل مفاجيء، ومع ابي ولاء الشيوعي الرائع الذي حرمتنا منه ايد خبيثة ظلامية وغادرة، ومع الدهلكي الكريم لأنني غادرت الى ابعد بقعة في الكرة الارضية على الرغم من اتصالي معه عبر خطوط الانترنت وتبادلنا التهنئة الآذارية كل عام.

لم ينقطع حديث المراثي فالراحلون كثر وزنگنه الذي رثا عددا منهم مثل: خليل المعاضيدي، مهدي عيسى الصقر، عوني كرومي، عادل گوركيس، جليل القيسي، جعفر علي، واخيرا مؤيد سامي لم ينتظر طويلا ساعة رحيله التي جاءت مبكرة ومسمرة ابواب قلوبنا بحزن عميق..
المكان الآخر الذي كان يتردد عليه في بعقوبة هو مكتب ابي ربيع.. كان هذا المكتب مقسوما على قسمين: الاول أمامي لاستقبال الزبائن، والآخر خلفي لاستقبال الاصدقاء وعلى رأسهم محي الدين زنگنه.. لم اتردد على هذا المكتب كثيرا ولكن كلما حضر زنگنه واحدة من جلساته المسائية كنت افرّغ نفسي لتلك الجلسة التي لا تختلف كثيرا عن جلساتنا في مكتب الدهلكي.. كان ابو ربيع اريحيا لا تفارقه الابتسامة، ولا يقل كرما عن صديقنا الدهلكي، وهو مثله يكن لزنگنه حباً جماً، واحتراماً كبيراً، وتقديراً يليق بزنگنه وبشخصيته الفريدة. ثمة أمكنة اخرى كان يتردد عليها بدافع الاشتياق او الاطمئنان على اصحابها من الاصدقاء كمحل الصديق صلاح وهابي أو الصديق حسين التميمي.. وفي اخر لقاء وهو اللقاء الذي ودعني فيه اصدقائي للمرة الأخيرة في بيت صديقي الشاعر العذب كماء ديالى بلاسم الضاحي كان زنگنه مهيمنا على الجلسة بحضوره الآسر وبحزنه الشفيف.. كنت اشعر بما يود البوح به بالضبط ولكن فضّل ان يكون بوحه مكتوما هذه المرة ايضا.. لقد حالت غصة الفراق الاجباري دون ان يقول ما يريد خاصة بعد ان عرف أنني مجبر على الرحيل ربما الى ابعد بقعة عن بلادي.. لم تترك مشاعر الاصدقاء النبيلة فرصة لنسيانهم.. فانا بعد سبعة اعوام منها ما زلت اتذكر دموع بلاسم الضاحي التي حفرت قطراتها في ذاكرتي اعمق أثر لأعمق مودة عرفتها في تاريخ صداقاتي. لقد قضيت وعائلتي الليلة الأخيرة في بيت الضاحي وعند الصباح وصلت المركبة التي ستقلنا الى عمان.. ودعنا الضاحي بدموع المحبة، وحزن الفراق، ولم يخطر على بال احد من اصدقائي انهم سيضطرون على الهجرة من بعدي.. لقد هجِّر زنگنه الى السليمانية، واستقر بعيدا عن بعقوبة التي احبها وأحبته، ثم أجبر الضاحي على اللجوء الى خانقين بعد ان ذبح شقيقه وابن شقيقه على قارعة الطريق من الوريد الى الوريد..
قال صديقي الذي حل عليَّ ضيفا لأربع ليال كأنهن اربع دقائق حسب اريد أن اقرأ ما كتبته عن صديقنا بعد رحيله المفاجئ.. قلت والألم يعتصرني سأقرأ أنا ـــ يا ابا احسان ـــ بدلا عنك فانا لا اريدك ان تتألم اكثر مما تألمت.. بدأت بقراءة ما كتبته تحت عنوان (رحيل جبل يدعى محي الدين زنگنه)(10) وعند السطر السابع أو الثامن على ما اظن انفجرنا معا ببكاء جعلنا نتوقف عن اكمال القراءة.

*
"هو الذي رأى كل شيء" قاس وعنيف في بلاده منذ (گاورباغي) وحتى زمن التهجير والتكفير.. ورأى ايد كثيرة ملطخة بالدماء البريئة.. ايد شاء القدر ان تتسلط على البلاد والعباد، وان تعيث في العراق فسادا حتى ثقلت موازينها بلحوم البشر، وعظامهم، وما تبقى لهم من دماء نبيلة.. رأى كيف تفرم، وتهرس تلك اللحوم، وتعلق بالمسامير وهي تقطر دما فتحول من الكتمان الى المجاهرة صارخا بوجوههم بألم مر ما عاد دفينا في نفسه التي مزقتها ليال الصمت الرهيب:
"لقد ملأتم كل القدور والأواني والبراميل بالدماء فأين ستذهبون بدمي الذي سيظل
يسيل ويسيل حتى تطفح كل الأواني التي تلقيتموها هبات وهدايا.. فان أيا منها لم
يعد يحتاج الى اكثر من قطرة واحدة ليطفح.. ليسيل وإذ ذاك سيحدث الطوفان
الذي سيجرفكم أو يخنقكم في عقر دوركم."(11)
ويجعلنا زنكنه نزداد نقمة عليهم عندما نعرف انهم يمارسون كل ذلك التعذيب مع شخص برئ لم يرتكب ما يؤدي الى تعذيبه. و ليس له علاقة مع أي سياسي تلاحقه السلطة أو أي جهة معارضة أو مقاومة لنظامهم. وإذ يرى هذا البريء قسوتهم وإيغالهم في تعذيبه وإراقة دمه يطلق صرخته الأكثر دويا: "انتم وحوش" .
ولكن كيف تبدو هذه الوحشية في نظر محي الدين زنكنه؟ وكيف تتجسد في شخصية المستبد من الناحيتين الرمزية والواقعية؟
رمزيا يرسمه زنكنه في قصة (حيث الناس يعيشون كالهواء) بوجه ملئ بالدمامل، في إشارة لقبحه وقبح نظامه الديكتاتوري، وبأسنان صفراء بعضها أسد وبعضها حصان، في إشارة للؤمه وحقده وقدرته على أكل الزرع والضرع، ثم يضع له قرونا طويلة تناطح السحاب في إشارة لجبروته وقدرته على النظر الى كل الكائنات من الأعلى نظرة استعلائية وعدائية. ثم يجعل من أنفاسه كريهة لسوء ما ينطق به وبشاعة ما يصدر عنه من كلمات. انه في نهاية الأمر امتداد مثيولوجي لكل البغاة والطغاة على مر العصور التي مرت بها بلاد ما بين النهرين. اما من الناحية الواقعية فان زنكنه يصفه بالطاغية المتجبر الظالم المستلب المستغل المغتصب السادي الكبش الوحش.. "كبشا غريب الهيئة.. شاذ الخلقة.. متوجا بقرنين.. أشبه بحسامين يقطران دما.. يصعد ظهور الخرفان.. كما لو كانت جسرا معبدا له.. كاشفا بتعمد، أو بزهو، عن أرجل مصبوغة من بدايتها الى نهايتها بالدم. و هو يثغو بعواء متقطع.. ويشير بظلفه الذي يسيل دما... الى جسد خروف ممزق.. . كأن مجموعة ذئاب غادرته للتو... ويقول بكلام فصيح... هذا عقابي.. ابسط عقاب وأكثره رحمة... أنزله بكل من يخرج على الإجماع الخروفي في عالمي الجديد.".
أما سلطته فيصفها في مسرحية (السؤال)(12) كسلطة غائبة وغافلة عما يحدث للناس ما دامت قد نامت منتفخة البطن متخمة. وسوف لن تستمد منطقها الا من المرتشين، والسماسرة، واللصوص، والقتلة.. عليه ما دام الزمن هو زمن هؤلاء فلن يكون ثمة عدل على الإطلاق ولم يخف هذا على الرقيب فهو يدرك إدراكا تاما ان الزمن هو زمن الكلاب ولهذا حذف من بحثي الذي قدمته للوزارة يومذاك تحت عنوان السهل والجبل حذف جملة " لا عدل في زمن يتسيده المجرمون والقتلة" .
لا اريد ان ابدو ناقدا وانا ادون هذه الاستذكارات ولكن الشيء بالشيء يذكر.. لقد كتب زنكنه مسرحية (السؤال) من اجل ان تجيب عليه القوى الوطنية والتقدمية التي تحالفت مع السلطة في جبهة ائتلافية موحدة ظنا منها أنها تستطيع من خلال هذه الجبهة الوصول الى أهدافها الوطنية النبيلة فما كان من زنكنه الا أن كتب محذرا من جريرة هذا الائتلاف ونتائجه التي سوف لن تختلف كثيرا عن نتائج المسرحية.
لقد أكد زنكنه على استحالة الجمع بين الماء وبين النار، بين الحمل والذئب، بين الخبث وبين الطيبة.. وعليه رمى (صفوان) ومحبيه الى تهلكة لا أحد يوافقه عليها. ومع ذلك يصر صفوان على أن العدالة يجب ان تأخذ طريقها الى القاتل الحقيقي دون أن يبد اهتماما لزمانه المنهار الذي سبقه وتجاوزه، بفكره، الى زمان آخر يسود فيه الحق والجمال. كما كانت القوى الوطنية تصر على قدرتها على تغيير الواقع وإمكانيتها على تحقيق أهدافها الإنسانية النبيلة وقد كانت النتيجة ان دخل صفوان السجن ليذيقه المتسلطون مر العذاب كما دخلت القوى الوطنية عموما والشيوعيون خصوصا الى سجون النظام بعد سلسلة من المطاردات والمداهمات والاعتقال والضغوط النفسية والاجتماعية وهكذا نفهم فهما موضوعيا ان (صفوان) سلم نفسه الى قاضي القضاة، وصاحب البريد، وصاحب الشرطة ليذبحوه ففعلوا ذلك ببرود. وهنا لا بد لي ان اذكر مفارقة مهمة حدثت بعد انتهاء العرض على خشبة مسرح بغداد إذ قدم المظلومون أو لنقل من أرادوا أن يكونوا مظلومين باسم حزبهم الشيوعي باقة ورد لزنگنه إعرابا عن إعجابهم بمسرحيته دون أن يأخذوا في الاعتبار تحذيره من مغبة استمرارهم في التحالف مع الوحش وزبانيته الموتورين.. قال زنگنه في جلسة حميمة من جلساتنا المسائية.. انهم معجبون بالمسرحية حسب ولا اظنهم فهموا ما هو مطلوب منهم القيام به بالضبط.
ان زنكنه لم يرد لأحد ان يقدم نفسه بنفسه للذبح المجاني، فهو يؤمن بوجود سبب حقيقي للموت كي يمد الجسور الى الحياة . وان من الخطأ الفادح التحالف مع أية قوة جاهلة غشوم لا تتورع عن إلحاق الأذى بأبناء جلدتها من قبيل الشباطيين أو غيرهم.
زعم الشباطيّون والقومانيون ان ما قاموا به عام 1963 واستمر اشهرا حسب انما هو بقعة سوداء قاموا بتنظيفها فيما بعد، وحلوا محلها بقعة بيضاء فصدقهم المريدون والمناوؤون، ونسوا كل ما يندى له الجبين من الفعل الشباطي حتى جاء دور والي بغداد ليكمل ما بدأوا به او كما اطلق عليه العراقيون يومذاك (حرامي بغداد) فما كان من زنگنه الا ان كتب كوميديته السوداء (شعر بلون الفجر)(13) التي قامت مؤسسة ذلك النظام بطبعها عام 2001 ولم يطلع عليها إلا بضعة أنفار إذ ظلت مركونة وراء الكواليس، ومكدسة داخل المخازن، كان رأس الوالي مليئا بالدمامل والقيح، لا تكسو جلدته شعرة واحدة، فاثارت في نفسه رغبة قهرية مقمعة برزت معالمها في (فرمانه) الذي حرّم بموجبه الشعر على عامة الناس من الذكور. وما أن كتب (الفرمان) واعلنه على الملأ حتى بدأ زبانيته بالتنفيذ فاكتفت فئة منهم بحلق شعور رؤوسهم ثم جاءت فئة أخرى لتبالغ في الأمر فحلقت الشوارب واللحى، وبالغت أخرى فحلقت ما تبقى من شعر في مناطق الجسم الأخرى. وإذ يظهرون في الشوارع، مفاخرين بأشكالهم التي أرادها الوالي على هذه الهيئة يطاردهم الأطفال بالحجارة، والسخرية، والضحك، والتندر حتى يفقدونهم الصواب والألباب لتبلغ الكوميديا عند هذه النقطة ذروتها فتكشف للمتلقي ضحالة الوالي وكاريكاتورية اتباعه على الرغم من جبروتهم وطغيانهم الكبيرين.
لقد جعل زنكنه رأس الوالي، تتستر على قبحها بالعمامة التي ما ان سقطت من على رأسه حتى تكشف سر قبحها أمام الفتاة البغدادية الجميلة (خديجة) التي أراد امتلاكها بالقوة. ومن اجل ستر قبحه اصدر فرمانه ذاك الذي قضى بموجبه أن يحلق الذكور شعورهم في كل أرجاء بغداد كي يضيع (الابتر) على طريقة ابن آوى. حينها كنت طالبا في اكاديمية الفنون الجميلة.. وفي يوم ساخن من ايام مطاردة اصحاب الشعور المسترسلة الجميلة قمت وصديقي الراحل عامر مطر بزيارة اضطرارية لمنزل الفنان الكبير شكري العقيدي خوفا من ان يقوم اتباع والي بغداد وحراميها بالقاء القبض علينا، وحلق رأسينا بعد ان يجلسونا على صفيحة قديمة.. ان زنكنه وهو يقدم هذه الشخصية يلقي، في الوقت نفسه، الأضواء على كل القوى المساندة لها وأولها الدجالون من الملالي الذين يلبسون لبوس الطهر، والتقوى، والورع، والقداسة، ونزع عنهم أقنعة الزيف لتظهر صور الشياطين المتخفية تحت جببهم، وكذلك فعل مع التجار والمرابين وسائر المستبدين.
المسرحية اذن، تنتصر للجمال ضد القبح، وللحق ضد الباطل، وللنور ضد الظلام، وللحرية ضد الاستعباد، وللاستقلال ضد التبعية، وللوطن ضد الاستعمار، بأسلوب كوميدي مهذب يندر أن نجد له مثيلا بين الكوميديات المعاصرة.
بعد هذا كله نقول باختصار شديد ان ما قدمناه في في هذه الاستذكارات ان هو الا غيض من بوح محي الدين زنكنه المكتوم طوال أربعين عاما آملين، أن يتسع لنا الوقت، فنكمل ما بدأنا به أو يتوسع فيه غيرنا من المبدعين .
وللحديث بقية...
………………………………
إشارات :
(1) مديرية الامن العامة.. مديرية الاستخبارات.
(2) مسرحية الجراد ـــ وزارة الثقافة والإعلام ـــ بغداد 1970.
(3) المصدر السابق.
(4) المصدر السابق.
(5) المصدر السابق.
(6) الجبل والسهل ـــ مجموعة قصصية صادرة عن دار اراس للطباعة والنشر ـــ أربيل 2002.
(7) مجلة الأقلام - العدد 9، 10 - عام 1992.
(8) المصدر السابق.
(9) مجلة الأقلام - العدد 11 عام 1990.
(10) راجع نص المرثية المذكورة باستخدام الرابط ادناه:
(11) كتابات تطمح ان تكون قصصا - المؤسسة العربية للدراسات والنشر 1984.
(12) مسرحية السؤال - منشورات وزارة الاعلام - بغداد 1976.
(13) مسرحيتان - دار الحرية للطباعة 2001.
(14) هم - منشورات اتحاد الكتاب العرب - دمشق 1975.
(15) ئاسوس - دار الساعة - بغداد 1976.
(16) بحثا عن مدينة أخرى - منشورا اتحاد الكتاب العرب - دمشق 1980.




#صباح_الانباري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أضف نونا قراءة في كتاب د. حياة الخياري
- قراءة في أنشودة النقيق للكاتب المسرحي راهيم حسّاوي
- العنف في المسرح
- استقراء الصامت والصائت في مسرحية ياسر مدخلي (عزف اليمام)
- قراءة العنونة وفحوى النص في مسرحية د. حمدي موصللي (هولاكو عل ...
- قراءات تأويلية في مسرحية إبراهيم حسّاوي (السيدة العانس)
- هكذا رأى الخيّام زنگبادي
- بيت فرويد ومؤثثاته الرزوقية
- خليل المعاضيدي بين شهادة الشعر و استشهاد الشاعر
- الارتقاء في نزهة الشاعرة فرات إسبر بين السماء والأرض
- التحويلية في نص عبد الباسط أبو مزيريق (افعل شيئاً يا مُت)
- قراءة في كتاب د. صالح الرزوق/ (الاجتماعي والمعرفي في شعر أدي ...
- اجتراح النص المفتوح في (ضراوة الحياة اللامتوقعة)
- رحيل جبل يدعى محي الدين زنكنه
- قراءة استبصارية في مسرحية (جنرال الجيش الميت)
- مساهماتية النص التجريبي في (قصرحية) محي الدين زنكنه (أوراقي)
- عبثية العزف في سوناتا الانتظار
- الهوامش وما بعدها في مجموعة الشاعر سهيل نجم لا جنة خارج النا ...
- الشاعر العراقي شيركو بيكه س في (البناء السردي)* للدكتور فاضل ...
- دلالة العنونة في مجموعة تحسين كرمياني القصصية ثغرها على مندي ...


المزيد.....




- وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما ...
- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح الانباري - محي الدين زنگنه الجبل الذي تفيأنا بظلاله الوارفة