أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - ميثم الجنابي - النقد الاشعري للأديان في الثقافة الإسلامية















المزيد.....


النقد الاشعري للأديان في الثقافة الإسلامية


ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)


الحوار المتمدن-العدد: 3836 - 2012 / 8 / 31 - 10:52
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


لقد ساهمت التقاليد الاشعرية، ضمن سياق الجدل والاختلاف الفكري والعقائدي، في تطوير مختلف جوانب نقد الأديان، بوصفه جزء من "مهمة الإيمان" والدفاع عن الإسلام. وهي عملية متناقضة عادة ما تميز تقاليد العقائد الكبرى بشكل عام، والدينية بشكل خاص. إلا أنها ساهمت بقوة في شحذ طاقة الذهن النقدية وتوسيع المدى الباطني للحرية العقلية. ولعل الباقلاني يمثل أحد الأعلام المتميزين بهذا الصدد. ويشكل كتاب (التمهيد) تجسيدا كلاسيكيا لهذا النمط من المواقف. فهو يتميز بالجدل اللاهوتي الحاد مع تركيز على القضايا الجوهرية في العقائد الدينية عند النصرانية واليهودية. وعادة ما يشكل الدفاع عن الإسلام وإظهار أفضليته بكافة الميادين والمستويات عصب المواقف النقدية أو وجهها الآخر. فعندما يتناول قضية النبوة، فانه يسعى للبرهنة على حقيقة النبوة المحمدية ومعجزتها الفعلية وإمكانية البرهنة العقلية عليها. فنراه ينطلق من أن البرهنة عليها ممكن أما بطريق الاضطرار أو بطريق الاستدلال. والمقصود بالاضطرار هو الحكم المبني على معطيات التاريخ الواقعية ودليلها المباشر. والاضطرار بالنسبة للنبوة المحمدية هو القرآن. فكما لا نشك في أن التوراة من موسى والإنجيل من عيسى وأن قصيدة "قفا نبك" لامرئ القيس كذلك لا نشك أن ما في القرآن دليل عليه.
أما الاستدلال فهو ما ينقله لنا الجميع بالتواتر. إذ من الصعب توقع كذب الجميع أو تمسكهم جميعا بالكذب. إضافة لذلك أن العادة في النقل والتأييد والتكذيب طريق استدلالي لا يمكن تخطئته. فالعادة تبرهن على انه يستحيل إمساك الجميع على السكوت عن الكذب أو إنكاره. غير أن هذا الحكم يثير كثرة من الأسئلة المعارضة مثل ألا يشكل إنكار المجوس واليهود والنصارى لنبوة محمد دليلا على ذلك؟ ويجيب الباقلاني عليه بالنفي، انطلاقا من أن مواقفهم مبنية على البعد أو العداء، كما لا يشكل إنكار المجوس لنبوة عيسى وموسى، أو إنكار اليهود لنبوة عيسى دليلا على صحة إنكارهم أو دليل على نفي نبوتهم.
واستعمل الباقلاني هذا الأسلوب في الدفاع عن النبوة المحمدية ومعجزته القرآنية. فهو ينطلق مما في القران من براعة النظم وانطوائه على أخبار الغيوب وعلمها. فانه يعطي لبراعة النظم صيغتها الملموسة، من خلال ربطها بواقع المواجهة القائمة آنذاك والتحدي المباشر بين النبي محمد وعرب الجاهلية المتميزين بالفصاحة. من هنا لا معنى للاتهامات التي تقول، بان العرب كتبوا مثله أو أحسن مثله لولا السيف والسيطرة الإسلامية التي منعت أو قضت على ما قالوه. ووجد في هذه الآراء أحكاما لا تصمد أمام التجارب التاريخية. فالتاريخ يبرهن على أنه لا سيف ولا سلطان قاهر قادر على منع الناس من التحدث ونقل الأخبار بينها ومنها إلى الأجيال الأخرى.
وقد أدرك الباقلاني بحنكته العقلية وملكته الجدلية محدودية هذه "البراهين". من هنا أسلوبه في الرد على انتقاد النصارى واليهود للإسلام في عبارته القائلة: كل شيء تعلقوا به في نقدهم للإسلام فهو جوابنا عما يسألوا عنه. أي يمكن ترديد ما يتهموا الإسلام به عليهم. وهي رؤية نقدية ودقيقة، تحتوي على إدراك مبطن للأسلوب المشترك في النقد اللاهوتي والديني، ولحد ما ضعفه الداخلي بفعل سيادة نفسية الاتهام للآخرين ونفسية الانغلاق العقائدي فيه. وهو أسلوب ميز مواقفه من اليهودية والنصرانية. لكنه تجاوز نفسية الاتهام والانغلاق المميزة لهما مقارنة بانفتاح الإسلام على "الأديان السماوية". من هنا استنتاجه القائل، بأن سبب عدم اعتراف اليهود بنبوة محمد يقوم في أن أحكامهم بهذا الصدد مبنية على السمع دون العقل. ولو كان العقل حاكما لاقتنع به الجميع. وهو استنتاج دقيق للغاية يتصف ببعد عقلاني وإنساني في نفس الوقت. ومنه يمكن استشفاف الرؤية النقدية العميقة في مواقفه من الضيق الديني عند الجميع.
لم يستطع الباقلاني تذليل نفسية الاشعرية ومنطق رؤيتها الثقافي في الموقف من الأديان بشكل عام واليهودية بشكل خاص. وهو منطق تمثل الحصيلة الإنسانية الكبرى للرؤية الإسلامية ولكنه تميز في نفس الوقت بشدة مبالغ فيها أحيانا بفعل شعوره التاريخي عن تمثيله لتقاليد "أهل السنّة والجماعة". لهذا وجه اهتمامه لكشف تناقضات الاتجاهات اليهودية وتعارض مواقفها من اليهودية نفسها. فهناك من اعترف بنبوة موسى وهارون ويوشع بن نون كما هو الحال عند السامرية، بينما اعترف القسم الآخر بنبوة عيسى ومحمد كما هو الحال عند العيسوية (أصحاب عيسى الأصفهاني)، التي أقرت بصدق نبوة عيسى ومحمد ولكنها لا تخص اليهود. وطبق أسلوبه هذا على الموقف من مسالة نسخ الشرائع. فاليهودية نفسها انقسمت إلى من قال بإمكانية النسخ مثلما هو الحال عند الشمغية والى من رفضه كما هو الحال عند العنانية. فالاتجاه القائل باستحالة نقض الشريعة ونسخها سمعا وعقلا لا أساس له. لأنه لا يمكن فهم حقيقة السمع دون العقل. لان معنى السمع متوقف على تأويل العقل. فكلمات موسى عن بقاء شريعته كما في عبارة "ما دامت السماوات والأرض"، لا يتعارض مع إمكانية فهمها على أساس ما "دمتم موجودين"، أو أنها "مؤيدة لكم ما لم يبعث الله نبيا". إذ لا توجد في التوراة عبارة "عدم نسخ شريعتي بعدي"، كما يقول الباقلاني. أما الترجمات والشروح اليهودية، فإنها تخضع للجدل، وذلك لإمكانية تحريفهما وإظهارها بالشكل الذي يستجيب لهوى اليهود عن عدم نسخ شريعتهم. أما محاولاتهم البرهنة عقلا على عدم نسخ الشريعة انطلاقا من أن الله حكيم وقوله بعدم النسخ هو لصلاح الإنسان، فإنها تشويه للعقل والمنطق. وذلك لان العقل يبرهن على أن ما هو صالح الآن قد يكون فاسد غدا. فما في التوراة صالح في وقته قد يكون فاسدا في وقت آخر، كما يقول الباقلاني.
إلا أن انتقاد الباقلاني لليهودية لم يعن بالنسبة له انتقادا للدين كما هو ولحقيقة الوحدانية اليهودية التي جرى طمسها من جانب اليهود أنفسهم. إذ أن الخطأ ليس في حقيقة الدين اليهودي والنصراني من حيث كونها ديانات توحيدية. من هنا موقفه المعارض والنقدي للمواقف اليهودية من النصرانية وعقائدها عن التثليث، التي تقول عن المسيح ما تحيله العقول. فالنصارى، كما يقول الباقلاني، لم "تنقل التثليث فيفسد نقلها، وإنما تأولته، واستدلت عليه عند أنفسها، وضربت للحلول والاتحاد، وغلطت وأخطأت في اجتهاداتها وتأويلاتها. إضافة لذلك أن الانتقادات اليهودية ضد المسيح يمكن توجيهها كما هي ضد موسى. إذ يمكن العثور في التوراة على وصف لموسى ما تحيله العقول، دع عنك ما فيها من التجسيم والتشبيه الذي يفوق تثليث النصرانية.
لكن إذا كان نقد الباقلاني العقلي لليهودية يصب في إطار المعترك الديني، بسبب ضعف اليهودية الفكري وانعزالها الديني واللاهوتي والفلسفي عن التيار العام للإبداع الثقافي العالمي آنذاك، فان الموقف من النصرانية تميز بجدل عقلي رفيع، أي انه ارتقى إلى مصاف الجدل اللاهوتي والفلسفي. مما أعطى له في الذاكرة التاريخية الإسلامية صورة المدافع النموذجي عن رفعة الإسلام الفكرية والعقلية. وتشير الكثير من كتب التاريخ والأدب ونكت الكلام عن شخصية الباقلاني الجدلية ونموذجيتها في الدفاع عن الإسلام في كل مكان وطئته قدميه. وقد ترجم لها كل من صاحب (الذيل على تجارب الأمم) والقاضي عياض (ت-544) في (ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب الإمام مالك). إذ تشير هذه المصادر إلى سفرة الباقلاني لملك بيزنطة ولقاءه بملك الروم (باسيليوس الثاني). ونعثر في هذه الأخبار عن كيفية زيارته إلى بيزنطة وتدبير الملك للطريقة التي تجبر فيها الباقلاني على الدخول عليه بطريقة تجعل منه راكعا أمامه، وذلك من خلال إدخاله من باب ضيق واطئ. أما الباقلاني فقد "ابتكر" طريقة تحافظ على وقاره وأنفته و ذلك عبر إدخال جذعه وجسده ومن ثم رأسه وهو مرفوع إلى الأعلى، بحيث خلصه ذلك من الانحناء أمام الملك. وهي صورة تذكرنا بما تنقله كتب التاريخ والأدب عن حالة مشابه قام بها أحد ملوك اليمن قبل ذلك بقرون عديدة. كما تشير إحدى نوادر الباقلاني التي ترمي إلى إظهار سرعة البديهة الجدلية في شخصه كيف انه حالما التقي بالملك وبحاشيته من رجال الدين اخذ بالاستفسار عن أهلهم وأبنائهم، مما أثار استغراب الجميع واشمئزازهم من الأسئلة. واستغل الباقلاني ذلك للإجابة عليهم: إنكم لا تنزهون الله عن الأولاد وتنزهون هؤلاء!
ونعثر على صدى هذه الشخصية في انتقاده للأفكار النصرانية المنتشرة آنذاك في اتجاهاتها الكبرى الأساسية. فقد تعرض الباقلاني في جدله لأغلب الأفكار والمفاهيم العقدية في المذاهب النصرانية الكبرى مثل الملكية واليعقوبية والنسطورية، أي الأكثر انتشارا في عالم الإسلام آنذاك. وتناول بالأخص قضايا الجوهر والاقانيم. وناقشها بصورة مستفيضة وعلى كافة المستويات.
وابتدأ بمناقشة مفاهيم الجوهر والاقانيم وشخصية المسيح بشكل عام وعند فرقها الكبرى بشكل خاص. فعندما يتناول مواقف الملكية عن أن الجوهر غير الاقانيم، ويعتبرها فكرة لا أساس لها، انطلاقا من انه إذا كان الجوهر إلها والاقانيم الثلاثة آلهة وهي غيره، فان ذلك يعني أن الآلهة أربعة، أي جوهر وثلاثة اقانيم. وهو أمر يؤدي إلى إبطال فكرة التثليث. أما في حالة قول، إن الآلهة ثلاثة والرابع جوهر ليس اله، فانه يؤدي إلى انعدام الفرق بين أن نقول بوجود اقانيم ثلاثة وجوهر لها ولكنه لا يجمعها وبين أن نقول ثلاثة اقانيم وجوهر جامع لها. مما يعني أن وجود الرابع وعدمه سواء، وإثباته كنفيه.
أما في حالة مهاجمة الملكية للإسلاميين أو بصورة أدق لبعض فرق الكلام القائلة بان صفات الله ليست موافقة له ولا مخالفة له، وبالتالي تسقط انتقادات الإسلاميين لعقائد النصرانية الملكية، وبالأخص ما يتعلق منها بعدم موافقة الجوهر للاقانيم وعدم مخالفتها، فان هذه الردود لا صدق فيها، لأننا نرد عليهم بسبب قولهم أن الجوهر غير الاقانيم. أما نحن فلا نقول أن الله غير صفاته. وحتى لو نقول إن الله مخالف لصفاته في معناها، بمعنى انه يجوز عليه ما يستحيل عليها وانه لا يسّد مسّدها ولا ينوب منابها، لم يدخل علينا مثلما يلزمهم من كون المتفق بنفسه مختلفا بنفسه وكون جهة الاتفاق هي جهة الاختلاف. وذلك لأننا لا نزعم إن الله موافق لصفاته في جهة من الجهات. أما النصارى فانهم يزعمون أن الجوهر موافق للاقانيم بالجوهرية، أي انه موافق لها بنفسه ومخالف لها أيضا في الاقنومية بنفسه. أما في حالة قولهم انهم لا يقولون أن الجوهر موافق للاقانيم ولا مخالف لها، فليس ذلك سوى مراوغة، إذ ليس الاتفاق والاختلاف هنا سوى أن يحلّ محلها أو لا يحل محلها. وتوسع بهذه الجوانب وغيرها بصورة مسهبة، لا اجد ضرورة للاستفاضة بها هنا بسبب تعقيد لغتها بالنسبة للقارئ العام.
اما الحصيلة العامة التي توصل لها الباقلاني هنا فتقوم، كما يقول، فهي ضعف المنطق، بل وغيابه في أفكار النصرانية وعقائدها. إلا أنها تبدو اقل تشويها للمنطق وبالتالي اقل إثارة مقارنة بما في آراء الملكية عن الاتحاد. إذ نفهم من فكرتهم عن اتحاد الكلمة بالجسد هو أن الاثنين صارا واحدا، وصارت الكثرة قلة وصارت الكلمة وما اتحدت به واحدا. وفي انتقاده لهذا الفكرة يقول الباقلاني بأنه إذا جاز أن يتحد القديم بالمحدث فيصيران واحدا وقد كان واحدا (من قبل) شبيه بان يصبح رطلا من الماء وآخر من الخمر رطلا واحدا! وشدد الباقلاني على إبراز منافاة العقل في فكرة الملكية عن اتحاد الابن بالإنسان الكلي (الجوهر الجامع لسائر أشخاص الناس) لكي يخلص الجوهر الجامع سائر الناس من المعصية. فهو إذ اتحد بالإنسان الكلي صار معه واحدا. غير أن ذلك يستلزم الإقرار بان الجوهر الكلي يصير جزئيا وأقنوما واحدا، لان الابن هو أحد الاقانيم. فإذا صار عند الاتحاد بالإنسان الكلي شيئا واحدا وجب أن يكون كليا جزئيا وهذا مستحيل، كما يقول الباقلاني.
ولم يقف الباقلاني عند هذه الحدود، بل يتعداها لكشف منافاة العقل في موقف الفرق النصرانية من مريم وعلاقتها بالمسيح. وينطلق من السؤال البسيط القائل، بأنه كيف يمكن أن تولد مريم الابن دون الأب والروح القدس؟ وذلك لأنه غير مباين لهما ولا ينفصل عنهما حسب تصورات الملكية. فيكون المتحد بالجسم حملا في بطن مريم، بينما الأب والروح القدس والجوهر الجامع للاقانيم لا في بطنها، وهما مع ذلك متباينين ولا منفصلين مما هو حالّ في الجسد في بطن مريم. ومن ثم كيف يمكن أن يكون غير المنفصل وغير المتميز عن الذات مولودا منه وغير مولود منه؟ وإذا قالوا بان مريم إنسان كلي، فهو مجرد جهل. إذ ما هو سبب إنكار أن يكون كل ذكر وأنثى من الناس إنسانا كليا؟ ثم ماذا يعني الإنسان الجزئي؟ ومن هو الإنسان الجزئي؟ فعلى قول الملكية النصرانية يمكن أن يكون كل جزئي كليا. وإذا اقروا بان مريم إنسان جزئي حينذاك يظهر السؤال التالي: أليس الإنسان الذي ولدته هو الذي اتحد الابن بولادته؟ فان أجابوا نعم، حينذاك يظهر سؤال آخر حول ما إذا كان هذا الإنسان كليا أم جزئيا. فان قالوا جزئا فهو تنازل عن اتحاد الابن بالإنسان الكلي الذي أراد خلاصه وصاروا إلى قول اليعاقبة (النسطورية). وان قالوا هو كلي فكيف يمكن لهذا الكليّ أن يكون من الجزئي(مريم)؟
ويعتقد الباقلاني، بان هذه المتناقضات هي ليست أفكار بقدر ما هي طرافة، لأنها تؤدي إلى القول، بان عدم مريم لا يعدم الإنسان الكليّ. فالجوهر الكليّ، وكل ما هو كليّ، حسب تعاليم الملكية لا يصح ولادته ولا أن يحويه مكان، بينما المولود من مريم كان في بطنها، وكان مكانه منها حاويا له، فكيف يكون كليا؟ فان جاز أن يكون الكليّ ابن الجزئي، فلم لا يجوز أن تكون مريم ابنة عيسى المولود منها؟
من كل ما سبق يتضح، بان الباقلاني حاول مناقشة أفكار الاتجاهات النصرانية الكبرى من اجل إظهار الضعف المنطقي في بنائها العقائدي. ففكرة الاتحاد مثيرة للالتباس ومليئة بإشكاليات يصعب حلها منطقيا. فالفكر النصراني بمجمله لا يستطيع أن يفسر منطقيا كيفية اتحاد الكلمة بجسد المسيح دون الأب والروح، لاسيما وانه يقر بأنه غير مباين لهما ولا منفصل عنهما. وإذا جاز ذلك فلم ينكر أن يكون الماء الممزوج بالخمر مشروبا دون الخمر أو الخمر مشروبا دون الماء وان كانا غير منفصلين ولا متباينين؟ ومن ثم لماذا ينكر أن يكون الأب والروح متحدين بالمسيح كما أن الابن متحد به؟ ثم كيف يمكن حل معضلة بقاء اتحاد الابن بالجسد في حال صلبه وقتله؟ وهل هو باق أم لا؟ ففي حالة بقاء الاتحاد، فان المسيح الذي مات يعني انه مكون من طبيعتين (لاهوت هو الابن وناسوت هو الجسد). ذلك يلزم أن يكون الله القديم قد مات كما قتل وصلب، لان الصلب هو جواز الموت. وإذا صار الابن عند القتل ميتا لم يجز آنذاك أن يكون إلها، ولو جاز ذلك لجاز موت الأب والابن. أما في حالة عدم الإقرار بالاتحاد عند الصلب، آنذاك ينبغي ترك الاتحاد والإقرار بان المقتول ليس مسيحا، لان الجسد عند انحلال الاتحاد ومفارقة المتحد به ليس بمسيح. بهذا لا معنى لقول أن المسيح صلب وقتل. وأخيرا من أين للنصارى الإجماع على فكرة اتحاد كلمة الله بجسد المسيح وما هو مستندهم بذلك؟ ففي حالة الاستناد على "المعجزات"، فإنها في نهاية المطاف أفعال الله كما هو الحال بالنسبة للأنبياء الآخرين. لان المسيح الذي تتكلم عنه الأناجيل هو مجرد نبي من الأنبياء. فهو يترجى الله ويدعوه بكلمات "يا أبي! أدعوك كما كنت، أدعوك تستجيب لي، وإنما أدعوك من اجل هؤلاء ليعلموا"، أو "يا أبي أنا أحمدك" أو ما قاله عند موته "إلهي! إلهي!" (هالوليا). ذلك يعني انه يدعو الله كما يدعوه الآخرين. إضافة لذلك تحتوي الأناجيل على الكثير من العبارات التي تصفه عبدا لله كما في قول المسيح "إني عبد الله وأرسلت معلما"، و"كما بعثني أبي فكذلك ابعثكم، عمدّوا الناس وغسّلوهم باسم الأب والابن والروح القدس"، و"اخرجوا بنا من هذه المدينة، فان النبي لا يكرم في مدينته". أما الكلمات التي تدعوه إلها، فإننا نعثر على أمثالها في التوراة مثل أن موسى هو اله هارون واله فرعون بمعنى مدبر له وآمر له. أما القائلون بأنه لا يشبه الأنبياء لأنه ولد من دون حمل، فان آدم أحق منه بذلك. أما القول المنسوب له "أنا وأبي واحد، ومن رآني فقد رأى أبي"، فيمكن تفسيره أن من أطاعني أطاع أبي، أي معلمي الحكمة. أما رؤيته فبمعنى كأنه شاهده وسمع كلامه وأمره ونهيه. وهو تأويل لابد منه، كما يقول الباقلاني. لأنه لو كان هو وأبوه واحد لكان الحمل والقتل والصلب والأكل والشرب جاريا على الأب أيضا. أما كلمة "أنا قبل إبراهيم"، فما المانع من تأويلها أن كثيرا من ديني وشرعي كان متعبدا به مشروعا قبل إبراهيم على لسان الرسل؟ أو بمعنى انه مكتوب عند الله في علمه؟ وذلك لأنه لا يجوز إثبات الربوبية بجسد أو أكل الطعام والمشي في الأسواق، كما يقول الباقلاني.
لقد كان انتقاد الباقلاني للأفكار النصرانية يجري ضمن تقاليد النقد العقلي المميز لعلم الكلام الإسلامي، وبالأخص في مدارسه المعتزلية والاشعرية. ويتضح ذلك من خلال إبراز التهافت المنطقي في آراء وبراهين الاتجاهات النصرانية وكذلك في نقد التشبيه والتجسيم. وهو انتقاد ميز تقاليد علم الكلام والاعتزال منه بالأخص فيما يتعلق بهذين الجانبين. بعبارة أخرى، أن الأسلوب النقدي للباقلاني كان اقرب في روحه إلى تقاليد المعتزلة. وشأن كل انتقادات علم الكلام آنذاك كانت موجهة في نفس الوقت للدفاع عن العقائد الإسلامية.
وبغض النظر عن الدوافع المباشرة والغاية العملية من وراء انتقاد الباقلاني لعقائد اليهود والنصارى وغيرهما من الأديان، فإنها أدت إلى شحذ الذهن النقدي، وبالتالي إلى كسر تدريجي لحدة أسنان الوعي اللاهوتي نفسه. ومن ثم كانت تساهم بصورة غير مباشرة في توسيع وترسيخ الرؤية العقلية والثقافية للانفتاح الديني والفكري. وذلك لأنها كانت تعمل موضوعيا على تغلغل أولوية وجوهرية بل وسمو الفكرة المجردة ونموذجها العقلي. ووجد ذلك تعبيره بصورة "غير واعية" في الاستعمال الواعي للباقلاني لأدوات الخصم في الجدل الفكري، عندما قال على أن من الممكن استعمال انتقادات وأساليب اليهود والنصارى المعادية الإسلام بالضد منهم. وهو شيئ يمكنه تطبيقه في الموقف من علم الكلام الإسلامي والدين الإسلامي نفسه.
وشكلت حصيلة الأساليب التي نظمها الباقلاني في انتقاده لأراء وأفكار المدارس اللاهوتية والفلسفية لمختلف الأديان الخزين الذي وظفه الجويني في كتاباته المتعلقة بهذا الجانب، وبالأخص في (شفاء الغليل من بيان ما وقع في التوراة والأناجيل من التبديل). أي انه لم يقف عند حدد النقد اللاهوتي المباشر عن نماذج "التحريف" في كتب اليهود والنصارى، بل ويتعدى ذلك إلى كشف الفروق والتباين بين نسخ التوراة نفسها عند كل من اليهود والنصارى. ووضع هذه المقدمة في انتقاده العقلي لهما، والقائل، بان سبب ذلك يقوم أولا وقبل كل شيء في تقليدهم الأعمى وأخذهم للحجج تقليدا من غير "امتحان الفكر وتدقيق النظر في تصحيح مقدماتها". إضافة لذلك أن تسمية التوراة نفسها لا علاقة لها بالنصرانية، رغم تحولها لاحقا إلى مصدر من مصادر النصرانية. فقد كتبت قبل بعثة المسيح بحوالي 545 سنة، أي قبل أن يوجد نصراني واحد على الأرض. من هنا إمكانية تحريفها، كما يستنتج الجويني.
وقد اعتبر الجويني "حب الرياسة" أحد الأسباب الذي يمكن تفسير إمكانية التحريف المشار إليه أعلاه. لاسيما وانه كان على الدوام أحد الأسباب الكبرى للفتن وقتل الآباء والأبناء ووقوع الحروب وتبديل الرحمة بالقسوة. وهو أيضا سبب قلب الحقائق، بل انه من أخص صفاتها، كما يقول الجويني. فالنصارى تقول بتحريف اليهود للتوراة، لأنها تضمنت على إخبار بمجيء المسيح. واليهود تقول بان النصارى حرّفت التوراة. ذلك يعني إنهما كلاهما يؤكدان على تحريف التوراة. وهو أمر يمكن رؤيته على مثال اختلاف وتباين وتناقض النصوص المتداولة عندهما. وهو دليل يبرهن على أن هذه النصوص التي عندهما ليست إلهية، كما يقول الجويني. وعندما ننتقل إلى الأناجيل فإننا نرى الاختلافات الجلية أيضا بصدد شخصية المسيح. ففي قضية الصلب نرى الاختلاف جليا بين النصوص التي يوردها إنجيل لوقا مقارنة بإنجيل متي ومرقش.
مما سبق يتضح، بان نقد الأديان في الاشعرية كان جزءا من بحثها وتأسيسها لفكرة التوحيد الحق. إذ لم يكن اهتمامها موجها من اجل الكشف عن التوثيق والتدقيق في المصادر بقدر ما كان موجها من اجل بيان طبيعة الابتعاد عن ماهية الحق كما جرى إدراكه ضمن مفاهيم التوحيد الإسلامي. ولم يعن ذلك أنها أهملت تأمل وتتبع المصادر التاريخية، بقدر ما أنها وضعت أولوية اهتمامها في التدليل على أن اليقين الحقيقي يفترض كحد أدنى القبول بالعقائد الكبرى التي بلورها الإسلام عن التوحيد، باعتبارها تجسيدا معقولا له.



#ميثم_الجنابي (هاشتاغ)       Maythem_Al-janabi#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- النقد المعتزلي للأديان في الثقافة الإسلامية
- التقاليد الإسلامية العامة في نقد الأديان
- نقد الأديان والبحث عن الوحدانية في الثقافة الإسلامية
- فلسفة الإيمان عند الغزالي (2-2)
- فلسفة الإيمان عند الغزالي (1-2)
- منهج الشهرستاني في تقييم وتصنيف الفرق الإسلامية
- المنهج الجدلي لابن حزم في تصنيف وتقييم الفرق الإسلامية
- تصنيف وتقييم البغدادي للفرق والمدارس الإسلامية
- تصنيف وتقييم الفرق الإسلامية عند الاشعري
- الفلسفة والبحث عن الاعتدال العقلي (2-2)
- الفلسفة والبحث عن الاعتدال العقلي (1-2)
- الطائفية السياسية – الأفق المسدود (التجربة العراقية)
- المصير التاريخي للغلو السلفي السياسي في العالم العربي
- الكواكبي ومرجعية الدولة السورية
- الكواكبي- الإصلاح والثورة!
- فلسفة الإصلاح والحرية عند الكوكبي
- الخطأ والخطيئة في المعادلة السورية
- سوريا وإشكالية موقعها في الصراع العربي والعالمي
- الأبعاد الجيوسياسية في الصراع الروسي - الأمريكي حول إيران وس ...
- الفيتو الروسي والقضية السورية


المزيد.....




- إيران:ما الذي ستغيره العقوبات الأمريكية والأوروبية الجديدة؟ ...
- الرئيس السابق للاستخبارات القومية الأمريكية يرد على الهجوم ا ...
- وزير خارجية الأردن لنظيره الإيراني: لن نسمح لإيران أو إسرائي ...
- وسائل إعلام: إسرائيل تشن غارات على جنوب سوريا تزامنا مع أنبا ...
- حرب غزة| قصف مستمر على القطاع وأنباء عن ضربة إسرائيلية على أ ...
- انفجارات بأصفهان بإيران ووسائل إعلام تتحدث عن ضربة إسرائيلية ...
- في حال نشوب حرب.. ما هي قدرات كل من إسرائيل وإيران العسكرية؟ ...
- دوي انفجارات قرب مطار أصفهان وقاعدة هشتم شكاري الجوية ومسؤول ...
- أنباء عن -هجوم إسرائيلي محدود على إيران- وسط نفي إيراني- لحظ ...
- -واينت-: صمت في إسرائيل والجيش في حالة تأهب قصوى


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - ميثم الجنابي - النقد الاشعري للأديان في الثقافة الإسلامية