أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسين علوان حسين - كنوت هامسون / رواية : نساء المضخة / 2















المزيد.....

كنوت هامسون / رواية : نساء المضخة / 2


حسين علوان حسين
أديب و أستاذ جامعي

(Hussain Alwan Hussain)


الحوار المتمدن-العدد: 3833 - 2012 / 8 / 28 - 20:41
المحور: الادب والفن
    



لا يمتلك أهل المدن الكبيرة أي تصور عند مدى اختلاف مقاييس الأشياء في المدينة
الصغيرة . و قد يخيل إليهم أن بمستطاعهم المجيء إليها ، و الوقوف عند ناصية السوق ، و الإبانة عن ابتساماتهم المستعلية ، و الاستهزاء من نمط البيوت ، و بلاط الشوارع . هذا هو شعورهم في أغلب الأحيان . أما كبار السن من أهالي المدينة الصغيرة ، فما زالوا يتذكرون الأزمنة التي كانت فيها بيوت مدينتهم أصغر مما هي عليه ألآن ، و الشوارع أسوأ رصفاً . كان هؤلاء قد شهدوا مسيرة التطور لمدينتهم الصغيرة . نعم ! ألم يشيد " ك .أ . جونسون "- صاحب المرفأ - بيتاً كبيراً لنفسه ؛ بيتاً منيفاً فعلاً ، بشرفته التحتية ، و مقصورته الفوقية ، و سقفه الذي تحيط به الزخارف البديعية ؟ يضاف إلى ذلك ، أن كثيراً من البنايات الفخمة الأخرى قد ارتفعت : هناك المدرسة ، و رصيف السفن ، و المباني التجارية المتنوعة ، و دار الجمارك ، و مصرف الإدخار . إذاً ، فما من مسوِّغ للابتسام . و أصبح للمدينة الصغيرة ، فضلا عن ذلك ، نوع من الضاحية على امتداد التلال الصغيرة حتى حوض السفن ، حيث تقطن ثلاثون أو أربعون عائلة في دور صغيرة منسقة مطلية بالدهان الأصفر أو الأحمر أو الأبيض على وفق أذواق أصحابها . و هي الدور التي أتت آنذاك على القسط الأوفر من المدخرات الشخصية المهيئة للحالات الطارئة . و إضافة إلى ذلك ، فحتى المدن الكبيرة لها أيامها البيض أو السود ، و لا سبيل إلى نكران ذلك . و لكن من ذا الذي سمع بجونسون صاحب المرفأ و هو يقف هناك صفر اليدين ، أو و هو لا يدري أي منعطف ينبغي سلوكه ؟
وإذاً، فقد كان للمدينة الصغيرة شواخصها المتميزة : لها بيوتها الراسخة ، و أبناؤها وبناتها الأنيقات ، و لها ثباتها و السطوة . و المدينة الصغيرة مفتونة برجالها العظام ، و هي تتابع سيرتهم بشغف ، متيحة لأهلها الفضلاء فرصة الالتفات إلى سراءهم و ضرائهم ما داموا يحيون و يزدهرون في ظل أقويائهم بحسب مقتضى الصواب و اللياقة . و يتذكر الناس ذلك اليوم الذي تسلم فيه السيد جونسون صاحب المرفأ منصب القنصل الجديد . إذّاك وزّع في متجره الكعك مجاناً على القادمين كافة مع "قطرة من شيء ما" – و الحق ، فقد وجد هناك ذلك النفر من الوقحين الذين لم يتوانوا عن تكرار الذهاب و المجيء لاحتساء تلك "القطرة من شيئ ما" .
في صباح ذلك اليوم ، جلس "يورگن" صائد الأسماك - مثلما يجلس اليوم - يسحب شباكه بالسمك المصطاد لإعداد وليمة الغداء الفخمة . كان اليوم يوم احتفال عام ، يوماً رائعاً بالفعل ، فالقنصل الجديد ما تزال روح الشباب تغريه بالمباهاة ، في حين تدفعه استقامته الطبيعية إلى إظهار ولعه بالخمر و النساء و الأغاني – و لهذا فقد أقام حفلاً بهيجاً ، و دعا إليه أهل المدينة . و فوق هذا ، فقد حقق ذلك اليوم نجاحاً جماهيرياً منقطع النظير . و يتذكر الناس أن الصحيفة المحلية قد أبرزت آنذاك أخبار ذلك النجاح المشهود و الذي ما تزال النسوة يتحدثن عنه عند المضخة . و بين حين و آخر ، تنشب الخلافات بخصوص هذا التفصيل التافه أو ذاك , و عندئذ يمكن أن ترد " ليديا " مصرحة :" ينبغي أن أكون أنا المطلعة على حقيقة الأمر لكوني أنا التي تولت مهمة المساعدة في شغل المطبخ يومذاك !" و لكن المرأة الأخرى تتمسك بموقفها وتجيب : " بمستطاعك الذهاب و سؤال العجوز جونسون نفسه ! " عندها تتدخل امرأة ثالثة قائلة : "حسن ، لا حاجة إلى عمل شيء من هذا القبيل ، فما تزال تلك الصحيفة محفوظة عندي !"
غير أنه قد مضت الآن ست أو ثماني سنوات على ذلك اليوم العظيم . و الشخص الآخر الذي يستطيع تذكر ذلك اليوم العظيم جيداً مثلما تتذكره النساء هو الحداد " كارلسن " . كان كارلسن رجلاً محترماً جداً , و أرمل له أولاد راشدون و ليسوا مثل صغارك الشياطين . حسنٌ ، لقد كان كارلسن هو الذي انتصب هادئاً في دكان حدادته ، و شكر لله نعماءه في ذلك اليوم البهيج ؛ و في كل يوم من حياته . تلك هي طبيعة كارلسن , انه رجل تقوى . و لقد دأب على بذل جهد مضن كلما حلت مناسبة عظيمة في المدينة ليشرح للناس كيف أن الأوان قد حان له و لجيرانه لحمد الله . و لم يكن ليتحدث كثيراً في الموضوع ، و ما كان جيرانه لينتبهوا لو حصل العكس ، و لكنهم كانوا يحترمونه على الرغم من عنادهم و جحودهم . و مع أن بمستطاعك أن تقول ما تشاء ، إلا أن الحقيقة البائنة هي أن الحداد كارلسن كان أمثولة ساطعة للمدينة .
أوه ، لقد كان هناك عدد كبير من الشخصيات الأخرى : فهناك "أولاوس" من المرج ، و السمّاك "يورگن" ، و النجّار "ماتيس" ، و الطبيب ، و مدير مكتب البريد ، و غيرهم . و كانت الحياة تستهلك بعضاً منهم على عجل ، و تتمهل تجاه عدد آخر منهم ، و إن وُجد قسم منهم ممن لا يطرأ عليه أي تغير أبداً ، بل كان يبتسم و يتحمل ، يبتسم و يتحمل . و مدير مكتب البريد هو الآخر رجل تقي بطريقته الخاصة ، مثله مثل الحداد كارلسن . و ما عداهما ، كان أهل المدينة كلها أناساً دنيويين يعوزهم العمق . و كأنه لا يوجد هناك أي قس في الأبرشية ، فقد كانت جل أعمال مدير مكتب البريد تتمثل بممارسة أعمال التعميد و التزويج و منح التثبيت و دفن الموتى من الأهليين الذين ما كانوا عدا ذلك ليفيدونه شيئاً ، و لا يتطرقون إلى ذكر اسمه أبداً.
آه ، يا له من مجمع نمل صغير مزدحم : الكل فيه مشغول بشئونه الخاصة ، يتقاطع و سبل الآخرين ، و يتدافع معهم ، و يطأهم أحيانا بأقدامه . نعم ، تلك هي طبيعة الحال ، فبعضهم لا يني عن وطء الآخرين بأقدامه أحيانا . .
و يجلس السماك يورگن الآن ، مثلما كان جالساً قبل ست أو ثماني سنوات ، ليصطاد السمك اللازم لوليمة غداء أخرى . و لقد حرص على مواصلة الجلوس صباح يوم الأحد هذا ، راغباً في العودة إلى بيته بكمية كافية من السمك لإقامة وليمة كاملة . و من ساحل الخليج المقابل ، تأتي أول إشارة إلى خفقان أمواج البحر بنسيم الصباح الذي يجرف قارب يورگن ، و يجب عليه الآن إسناد مجذافه باستمرار ليبقى في مستوى شواخصه على البر . آه ، انه يتخلى الآن عن فكرة البقاء مدة أطول ، و يبدأ بالتجذيف عائداً الى البيت . لقد بقي جالساً في قاربه منذ الساعة الثانية فجراً .
لم يكن أحد قد استيقظ في المدينة . يَنْظُم يورگن الأسماك بخيط الصيد ، و يحملها مخترقا الشوارع بتثاقل ، بجزمته الضخمة . بدا يورگن بطيء الحركة بثوبه الصوفي الآيسلندي ، و السترة المشمعة الطويلة ؛ و لم يكن ضخماً ، بل أقرب إلى النحول ، في حين كان قصيراً من تحت الخصر . و لكنه كان صلب العود ، و شديد المراس . لم يقعده المرض يوما في فراشه ، و لم تهمد عزيمته ، و كان علاجه الوحيد لنوبات الزكام هو تجاهلها تجاهلاً تاماً .
يتجه إلى البيت الكبير للسيد ك .أ . جونسون ، و يعلق خيط الأسماك على باب المطبخ ، ثم يتهادى متثاقلاً إلى داره .
آها ! ها هو الدخان يرتفع من المدخنة . إن ليديا مستيقظة . لا بد أنها قد راقبت قاربه ، و تذكرت وضع القهوة على النار . و ليديا هي زوجته ذات الشعر الأسود الجعد ، و المزاج الغاضب ، و الاقتدار عند الضرورة . إنها من نوع النساء المتحكمات اللائي يواصلن التمسك باللجام .
يلج يورگن الدار بتثاقل . "سِرْ بتؤدة !" تهمس إليه ليديا بغضب مكتوم و هي ترقب أطفالها ، مبدية كل علامات القلق تجاه الولد و البنتين في تحركهم أثناء الرقاد . يخلع يورگن جزمته ، و كنزته ، و يرتشف قهوته ، و يتناول وجبته ، ثم يتوجه إلى غرفة النوم . " لا تدع الباب يصرف ، " تهمس إليه ليديا من خلال أسنانها المطبقة .
و على الرغم من ذلك ، و بالطبع ، فان كبرى البنتين تستيقظ من نومها ، و تجلس على الفراش كالمعتاد . ثم ما تلبث شقيقتها الصغرى الراقدة بجوارها أن تستيقظ هي الأخرى ؛ فتتميز الأم غيظاً ، و تصك باب غرفة النوم بقوة زاعقة بزوجها :" أنظر ، لقد تركتني بعد أن أيقظت الجميع !" و تواصل الزعيق حتى توقظ الولد أيضاً .
و غضبُ ليديا سهل الثوران ، و سريع الخمود . فما أن يبدأ الأطفال باستهلال ثرثرتهم ، حتى تتحول إلى ترتيب الغرفة . ثم تبدأ بالدندنة ، و تفتح باب غرفة النوم بحذر شديد و تقول :"مرحبا ، ألم تغف ؟ ماذا أردت أن أقول- هل كان الصيد جيداً ؟ ألم تسمع شيئا عن شكل الحفل الذي سيقيمونه ؟"
"لا ، لم يكونوا قد استيقظوا ."
"حسنٌ ، عليك أن تتوقف عن الكلام الآن ، و تخلد إلى النوم " تقول ليديا و هي تغلق الباب ثانية . ثم تحدث جلبة لجعل الأطفال يلزمون الهدوء . و تعاود الترتيب و الدندنة و هي تفكر ملياً في الاحتفال القادم . فيما مضى من الأيام كانوا يعرفون أصول اقامة الحفلات في بيت جونسون صاحب المرفأ : كانت الاستعدادات تستمر أياماً بطولها ، و تستدعي الحاجة طلب عون الاخرين في شغل المطبخ ، و يُرسل في طلبها شخصياً . أما حفلة هذا اليوم ، فلم تردها أي كلمة عنها ، و لهذا فلا بد أن تكون محض حفلة اعتيادية . و لعل الموضوع لا يعدو في واقع الحال أن يكون دعوة يقيمها الإبن الشاب "شلدروب جونسون" لبعض أصدقائه .
بعد ذلك ، في الصباح ، عندما يخرج الناس ، و يبدأون بالتجوال في المدينة ، تتركز الشائعات بصدد خبر تدشين سفينة ك . أ. جونسون في هذا اليوم . و تكف ليديا عن التفكير ، إذ يتضح الآن أن هنالك بالفعل حفلة صاخبة من المرجح إقامتها اليوم على شرف قبطان السفينة و وجهاء المدينة . و يبدو أنهم قد عزموا على تدبير الأمور في المطبخ دون الاستعانة بخدماتها . حسنٌ ، حظاً سعيداً لهم ! و تستعد ليديا لإلباس أطفالها أردية أنيقة ، فتزيل عنها البقع الغريبة ، و تلمع أحذيتهم بشحم الخنزير و السخام ، و ترتدي ملابس مناسبة .
و في العصر ، تبدأ المسيرة الضخمة شطر رصيف الميناء . كان الربيع قد انصرم أكثره ، و الناس يرتدون ملابس خفيفة ، مكونين منظراً بهيجاً . لقد حُمِّلت السفينة "فيا" ، و هي جاهزة الآن للإبحار . لم تعد هذه السفينة جديدة ، فقد بُنيت في الأيام التي كانت فيها سفن الشحن المتوسطة الحجم لا تكلف أكثر من مائتي ألف كرون . و ها هو جونسون صاحب المرفأ يبتاعها الآن من مدينة "گوتنبرك"، و يبدل اسمها بـ "فيا" تيمناً باسم ابنته الصغيرة ، و يجددها . و لا بد أن مبالغ طائلة قد انفقت لشراء مثل هذه السفينة ، و ترميمها ، و إظهارها بمظهر السفينة الجديدة ! و يقال أن إبدال اسمها وحدة قد كلف مبلغاً كبيراً . و لكن ما قيمه مثل هذا المبلغ عند جونسون صاحب المرفأ ؟ و الآن ترسو السفينة "فيا" هناك : إنها السفينة البخارية الوحيدة التي تملكها المدينة الصغيرة ، و هي أعجب عجائبها .
و من الطبيعي أن الصغيرة فيا كانت على متن سفينتها التي توشك أن تقلع ، و هي تجلس الآن في مقصورة القيادة مع أبويها و القبطان . و من الطبيعي أيضاً أن شقيقها الشاب اليافع "شلدروب" يعتلي ظهر السفينة . ها هو يبدو الآن شاباً رائعاً ، مفعماً بالحيوية بقامته الفارعة ، مرتديا بذلة خفيفة ، و ياقة مخملية لسترته السوداء على وفق آخر مقتضيات الأناقة . إنه إبن جونسون ، و وريثه الذي يمتلك عيني أبيه الكستنائيتين ، و خطاً من الزغب على وجنتيه . تُرفع له القبعات ، فيرفع بدوره قبعته لرد التحية ، و يبقى مكشوف الرأس معظم الطريق المؤدي إلى قمرة القيادة .
السفينة راسية ، و لكن مراجلها تغلي ، و هي تنفث سحب الدخان . و كل شيء هادئ هناك على السطح . فالمساعد الأول للقبطان و معه بقية البحارة يصطفون عند حاجز السفينة : يبصقون في مياه البحر، و يتبادلون الأحاديث القصيرة مع معارفهم على الرصيف . و البحار"اوليفر أندرسن" يعرف محلة جيدة ، و يلتزم أقصى مكان إلى الأمام . لقد خدم عدة سنين من قبل على متن سفينة شراعية . و اوليفر شاب اعتيادي ، أزرق العينين ، ينحدر من عائلة عمالية ؛ و لكنه رجل جاد ، و جسور ، و ابن أرملة . و إذ كان طوله أقل من المتوسط ، إلا انه مُلتز الجسم - يشبه صورة لنابليون ، و إن كان قد أطلق لحيته . و في هذه السنة ، على وجه التحديد ، جدّد رصف سقف كوخه بالبلاط الأحمر ، و شيّد مشتملاً في أحد الجوانب . لا شك انه كان يفكر في مستقبله .
يقول مخاطباً أمه الأرملة الواقفة على الرصيف و هي تضع كفيها تحت شالها :" مؤكد - من المؤكد ، أنني سأكتب لك من البحر الأبيض المتوسط . "
مرحى : هكذا يتكلم الرجال الكبار، و إن كان الكلام موجهاً في الواقع إلى الناس الآخرين الواقفين على الرصيف- إلى البنات ، و منهن " پيترا "- التي سيتركها بعد قليل- و هي تقف هناك بخاتم الخطوبة في إصبعها و المتطلبات الأخرى كلها .
"و لا تنسي إرواء الحديقة ،" يضيف على سبيل النكتة حسب ، فملاحظته لا تعني أي شيء أبداً . فالله يعلم ، و الجميع يعلمون أن اوليفر لم يكن يمتلك أي حديقة . كل ما في الأمر أن أمه قد غرست بعض بذور الجزر و اللفت بمحاذاة المسكن . تبتسم الأم شاحبة : فهي تعرف ولدها : إن البديهة لا تعوزه أبداً كلما اقتضى الأمر إلقاء نكتة ، بل لا تعوزه الحيلة إزاء أي شيء البتة . و بوصفها أمه ، فهي لا تعرف غير خصاله الحميدة : أنه ذو عقل كبير، و هو يحسن استعماله .
يستدير المساعد الثاني للربان إلى الأمام- لا بد أن فتاته تقف هي الأخرى على الرصيف- و يوجه كلامه بلهجة آمرة مبالغ فيها و هو يشير إلى طرف حبلٍ ما :"اربط ذلك الحبل هناك : أنت !".
يبتعد اوليفر قليلاً و هو يتمنى في سره لو انه يقدر على النزول إلى الرصيف لحظة واحدة ، أو حتى نصف لحظة ، لاهتبلها فرصة لإهداء فتاته كيس الزبيب الذي يحتفظ به في جيبه . حسنٌ ، إنه قادر في الأقل على أن يجعل الآخرين يحسون بوجوده .
" كارلسن !" ينادي على الحدّاد ، "من حسن حظي أنني رأيتك . أنا مدين لك بثمن تلك المشدات التي زودتني بها لتثبيت الميازيب الجديدة في داري ."
يعلو الارتباك محيا كارلسن إذ يجد العيون كلها مسلطة عليه ، فيجيب :" لا بأس ، لا تشغل نفسك كثيرا بأمر بسيط كهذا . سيكون لديك متسع من الوقت عندما تعود إلى البيت ثانية ."
غير أن اوليفر يخرج محفظته في غضون ذلك ، و ينفحه المبلغ من فوق حاجز السفينة ، و هو يسأله :" المبلغ كامل ، أليس كذلك ؟ "
إن عرضاً كهذا للحرص على دقائق الأمور و على مرأى و مسمع الناس يضع اوليفر في قمة العالم . من كان هناك ليشهد سلوكه اللائق هذا ؟ إنها پيترا ، حظه من الدنيا ، و أيضاً ليديا مع أطفالها ، و التي ترقب كل شيء بنظرات حادة كالموسى . و زوجها السماك يورگن حاضر أيضاً في ركن ما على الهامش . و لكن ما أن يبدأ وجهاء المدينة بالوصول سالكين طريقاً يمر بركنه مباشرة ، حتى يبتعد بهدوء ليتخذ لنفسه مكاناً أكثر أماناً .
و الآن يأتي دور عليّه القوم ، و أصحاب السفن ، و الطبيب ، و كبار التجار ؛ و كان بعضهم ما يزال ببذلة الاحتفالات التي ارتداها لوليمة الغذاء في بيت القنصل . يصل هؤلاء المكان بالأزهار المعلقة بسترهم ، و هم يعتمرون القبعات العالية . هو ذا المحامي "فريدركسن" الذي يجب أن يكون متوفزاً ، و على أتم الاستعداد لإلقاء كلمة مهيبة ، مع أن الوقت المناسب لذلك لم يحن . لقد اعتاد أن يتصدر المناسبات بوصفه الشخص المسؤول عن تنظيم الاجتماعات في المدينة و إلقاء الخطب فيها .
تظهر عائلة جونسون من مقصورة القيادة . ها هو جونسون نفسه بعينه الكستنائيتين الجذابتين ، و كرشه الفارع ، مع زوجته التي تمسك بيد ابنتها الصغيرة فيا . و ما أن يترجلون من السفينة ، حتى يفسح الجميع لهم المجال ، و لا يبقى في طريقهم حتى طفل واحد . الناس الذين يمتلكون سفناً بخارية من حقهم أن يحصلوا على مجال واسع على رصيفهم بحسب الأصول .
يتسلق الربان بخفة جسر السفينة ، و يؤشر إلى غرفة المكائن قائلاً : "انطلاق ."
تُسحب الحبال التي تربط السفينة بالمرسى ، و يرفع الربان قبعته ، فيلوّح له أهله و أصدقاءه على الرصيف . تهتز السفينة ، ثم تنزلق نحو عرض البحر . و في اللحظة الأخيرة ، يرمي اوليفر كيس الزبيب إلى الرصيف . لا بد أنه قد تثبت من إصابة الهدف المرجو على هذا النحو أو ذاك . ها قد أزف الموعد . يتقدم فريدركسن إلى الأمام رافعاً قبعته الحريرية عالياً ، و يدعوا للسفينة و لمالكها و لبحارته بالنجاح و الحظ السعيد ، فيستجيب له السامعون هاتفين : "هورا !"
و هكذا تبحر السفينة فيا إلى البحر الأبيض المتوسط .
أما كيس الزبيب ، فقد أصاب هدفه فعلاً ، و لكنه كان هدية غير مرغوب فيها ، بل و حتى فاضحة ، فقد تمزق حال سقوطه على الأرض ، و انتثرت حباته على ألواح الرصيف . يا له من موقف لطيف ! افتر ثغر پيترا عن ابتسامة احتجاج ، و وقفت و الدمع يترقرق في عينيها ، في حين راحت أم اوليفر تجمع الزبيب بشالها . كان ذلك - مع التحذيرات الخطيرة - هو كل ما بوسعها عمله لمنع الأطفال من وطء نعمة الله بأقدامهم . و يمر وجهاء المدينة بمشهد المعركة المصغرة بما فيهم آل جونسن . يبتسم شلدروب الإبن لپيترا ، و يهمس إليها :" هيا ، التقطي زبيبك !" فيحمر وجهها ، و ترفع رأسها متمنية لو أن الأرض تنشق لابتلاعها..



#حسين_علوان_حسين (هاشتاغ)       Hussain_Alwan_Hussain#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كنوت هامسون / رواية : نساء المضخة / 1
- السيد و العمامة
- يوم اختطاف دولة رئيس الوزراء
- كلاب أولاد كلب
- بغداد : 6./ 6. /6.
- فائض القيمة و الإكتشافات الجديدة لإبراهامي / الأخيرة
- قصيدة -الرحيل- للشاعر العراقي سامي موريه
- فائض القيمة و الإكتشافات الجديدة لإبراهامي / 10
- فائض القيمة و الإكتشافات الجديدة لإبراهامي / 9
- الزنبقة تموت عشقاً في الحياة .... و تحيا / مرثية الشاعر يحيى ...
- فائض القيمة و الإكتشافات الجديدة لإبراهامي / 8
- فائض القيمة و الإكتشافات الجديدة لإبراهامي / 7
- مَثَلْ مَضْروب بيه تِتْحدّثِ النّاس : -جِزا الإحسانْ : بَكّا ...
- فائض القيمة و الإكتشافات الجديدة لإبراهامي / 6
- فائض القيمة و الإكتشافات الجديدة لإبراهامي / 5
- فائض القيمة بين ماركس و الإكتشافات الجديدة لإبراهامي / 4
- فائض القيمة بين ماركس و الإكتشافات الجديدة لإبراهامي / 3
- فائض القيمة بين ماركس و الإكتشافات الجديدة لإبراهامي / 2
- فائض القيمة بين ماركس و الإكتشافات الجديدة لإبراهامي / 1
- الفأر -شار- ، و الحيّة -أم دَيّة-


المزيد.....




- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسين علوان حسين - كنوت هامسون / رواية : نساء المضخة / 2