أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رحمن خضير عباس - النهر















المزيد.....

النهر


رحمن خضير عباس

الحوار المتمدن-العدد: 3819 - 2012 / 8 / 14 - 09:40
المحور: الادب والفن
    



كان صيف ذالك العام حارا كاالعادة . ولكن بوادر افوله قد لاحت قليلا .. بعد ان انتهى ( آب اللهّاب ) كما يصفه ابناء المدينة . لسعات البرد الخريفية عند أذان الفجر , وانكماش النهار بعد ان كان طويلا . والشمس التي طالما صهرتنا بفيض حرارتها اصبحت تغمر المدينة بدفيء مستحب ثم تنسحب برشاقة لتختفي في افق ملون بالغيوم . لم نكن نحب الصيف يوما ولم نستسغه , لكن متعة السباحة في الشط , والأنغمار الطفولي بين رشاش الماء , والتزحاق من الجرف الى الماء عن طريق المسنايات التي نصنعها من طين الجرف ورمله . نتراكض بين الأشجار في اطراف البلدة , ثم نقذف اجسادنا التي لوحتها الشمس في لجة النهر الذي لم يتوقف يوما عن الجريان .كان اسم مدينتنا (سويج الدجة ) ولكنهم غيرواإسمها تيمنا بالنهر . فأصبحت تدعى ( ناحية الغرّاف ) . لم نشعر بفحوى التغيير . فقد كان النهر يستغرق الناس جميعا , ويشكل جزءا كبيرا من حياتهم . النسوة يغسلن الأواني وما اتسخ من الملابس على حافته , والشباب يرمون شباكهم لصيد السمك بينما البعض الآخر يجعله مجالا للترويح عن النفس بالتسكع على ضفتيه . لكننا كنا نملأ البلدة ضجيجا ومرحا . نحن اطفال سويج دجة , ندك الدروب بالعابنا .التي نصنعها بأيدينا ( الطرام والسيمة ) ونجري محلقين في فرح , حيث تنتهي ألأزقة عند حافة النهر .وحالما نصطدم بجرفه الرملي حتى نتسرب ونذوب فيه . كان اهلنا يحذروننا من سمكة سامة اطلقوا عليها ( دودة الزعيم ) ورغم انها لم تلدغ احدا منّا . لكننا كنا ننسج قصصا عنها لاتخلوا من بطولات كاذبة . وحينما نشبع من النهر, نركض باتجاه الكورة , وحالما نرى غبار سيارة قادمة من بعيد حتى نتوقف عن ركضنا . ننتظر مرورها بقربنا ثم ننطلق في سباق معها . ننغمر في موجة غبارها .لكنها تبتعد عنّا مسرعة فنضطر ان نعترف بهزيمتنا ولكن بطريقة لاتخلو من الكبرياء " ان طراماتنا غير قادرة على السبق لسائق مجنون مثل سبتر خان " هذا ما نعزي به نفسنا ونحن نرتاح قليلا من الركض المتواصل . وسبترخان هو سائق قديم من اصل هندي , يمتلك سيارة خشبية لنقل الركاب بين الناصرية والشطرة عبر الغراف , مشهور بسرعته ومهارته . لاحظنا انّ النهر ينحسر كل يوم ويتضائل , حتى استطعنا ان نعبره مشيا . وفي مساء خريفي طافح بالملل راينا نهرنا يابسا لاماء فيه . زاغت محاجرنا خوفا . ولذنا بامهاتنا نشكو لهنّ حال النهر . وكيف انحسرت مياههه . انتشر الخبر بين الناس . وعلل البعض السبب في امور لها علاقة بالري وسدة البدعة . لكن توالي الأيام جعل المدينة عطشى . وكانت الأحاديث تتمحور عن هذا الجفاف المفاجيء . لذالك بادر البعض بحفر الآبار في النهر . حمادي المؤذّن اعلنها قبيل صلاة المغرب في الجامع الوحيد . وعاشور ابو البريد ظل ينقلها وهو يوزع الرسائل , حتى انتشرت هذه الأبار واصبح لكل عائلة بئر , تتزود فيه بالماء الذي كان خابطا ومحملا بالرمل . وحينما فتحت المدارس ابوابها لعام جديد كدنا ننسى النهر . وننشغل بالدروس . ورحنا نشبع فضولنا في نشيد الأصطفاف الصباحي , والمعلمين الجدد , وكنا نهمس لبعضنا عن الدروس الجديدة والتلميذات الخجولات اللواتي يشاركننا في الصفوف . كنا نتحدث بحذر عن الأتجاهات الفكرية للمعلمين . نحكي لبعضنا في الأستراحة ما بين الدروس :( يمكن استاذ امجد شيوعي ..شلون عرفت ؟.. لأنه يذكر اسماء اجنبية . اما استاذ حسين فهو قومي .. شلون عرفت ؟ لأنه يتكلم عن الوحدة العربية .. ) وهكذا جعلنا من انفسنا خبراء في السياسة . ولم نكتف بذالك بل تحزبنا وصرنا نرطن بكلمات جديدة , عفلق ماركس. الأستعمار, الرجعية .. كان لدينا استعداد طبيعي لأن نتحزب ونتحارب , بينما تمتد اسوار المدرسة لتعصرنا بين صفوفها . كنا نتلقن ايات قرآنية وقصائد وكلمات جديدة . بينما كانت الساحة المتطاولة للمدرسة فضاءا هائلا لخطواتنا المشاكسة . لكن المدرسة لم تنسينا ما ألمّ بنهرنا الصغير .
لماذا نشف ؟ اين مياهه اللاهثة التي ترتطم على ضفتيه ؟ كنا نتذكر الشموع التي تتراقص على مويجاته . شموع مضيئة يفترشن لوحة خشبية معطرة بالياس .تحملها صبية تتلو نذرها وامنياتها , وبرفق يصل الى حد الخشوع تتنساب هذه الشموع لتؤنس المياه الجارية وتصافح المويجات التي تتوهج في ليل مخضل بالندى والدعاء . لم يعتقد احد منا بان النهر سيتحول الى ركام رملي تملؤه ابار كالندوب . كم ساورتنا ذكريات وافكار عن ماضيه القريب , حينما كان في عنفوانه ينساب بين البساتين كثعبان خرافي , يسقي الزرع ويشبع الضرع . كان نهرنا حيوانا اليفا يعانقنا برفق , ولكنه حينما يغضب يتحول الى وحش كاسر .يحذر الأهل ابنائهم من السباحة قرب الجسر , حيث النقّارة , وهي مساحة عريضة تدور فيها المياه بشكل لولبي . حيث يعيش هناك كلب النهر , الذي يختار ضحاياه بعناية .كما تقول لنا امهاتنا . ورغم اننا لانصدق مثل هذه الأشاعات عن كلب البحر لكن قصة احمد جعلت فرائصنا ترتعد واجبرتنا ان نرفض التحدي للنقارة وكلبها الرابض في جوفها السحيق . واحمد سائق حافلة لنقل الركاب . كان مسرعا في الطريق الترابي القادم من الناصرية , وقبيل ان يصل الى الغراف انقلبت سيارته الخشبية فمات بعض ركابها وجرح اخرون . اما احمد الذي خرج سالما من الحادث فقد اودع التوقيف في سيراي المدينة . في اليوم الثاني للحادث , كان الجو حارا فطلب احمد من حارسه ان يستحم. حيث النهر في عنفوانه والنقارة المقابلة للسيراي تطفح بالماء وكأنها نافورة من الأمواج المتوثبة . دخل احمد السائق بهدوء الى النهر . غمر جسده المتعب , غطس مرة واخرى , ثم تلاشى في الماء . كادت عيون الحارس تغادر محجريها من الفزع .صرخ طالبا النجدة , غير ان صراخه ذهب سدى . بعد يوم كامل من البحث بمساعدة غوّاص محترف لم تظهر الجثة . مما جعلنا نصدق قصة امهاتنا عن كلب النهر . في اليوم الثالث وقفت امّ الغريق على حافة الجسر , ممسكة اناءا من اللبن , وبيد مرتعشة قذفت بالأناء على صفحة الماء وهي تصرخ " احمد .. يمه احمد .." كان صوتها صهيلا جامحا هز المدينة من اقصاها الى اقصاها .حتى كأن الزمن قد تجمد تحت لهاثها المكتوم . كان الجمع الغفير من الناس يرقبون هذا المشهد بعيون زائغة من الفزع . لعل كلب الماء سيطلق احمد حيا طليقا .. وفجأة انفجر الصمت عن بروز جثة منتفخة طفت على سطح الماء .

رويدا رويدا بدأت ملامح العطش تبدو على ملامح المدينة . تجلت من خلال التصحر الذي احاط بها , وهبوب رياح محملة بالغبار . الحقول التي كانت مكتنزة بالخصوبة تشققت قشرتها وبدت واهنة , حتى الجواميس التي تتخذ من النهر ملاذا لأطفاء لهيب الحرارة . اصابها الهزال وشح حليبها . كان الباعة واصحاب الحوانيت والموظفين الصغار يذهبون الى مركز المديرية , لعلهم يحصلون على اية معلومة لعودة المياه . لذا انعكس الأمر على امزجة الناس فاصبحوا يتشاجرون لأتفه الأسباب .حتى المقاهي التي كانت تضج بروادها اصبحت خاوية , واذا صادف ان ذهب احد من اهل المدينة هناك فيشرب شايه بصمت , ثم ينسحب الى بيته بعد ان يطل على الجسر , لكن اصحاب الحوانيت كان لهم راي آخر . فقد وقف حجي اسماعيل في وسط السوق , وصاح باعلى صوت : ياجماعة الخير . اذا بقينا هكذا فسنموت جوعا وعطشا ثم اضاف وهو يحدق بالوجوه الحائرة التي احاطت به . مأمور المركز ومدير الناحية وكل زناكين البلد يأتيهم الماء الصافي الى بيوتهم , وكذالك الخضرة والحليب واللحم . لذالك لايكتروثون لعطشنا او جوعنا . كان حجي اسماعيل هائجا حتى انه بكى وشتم ورمى عقاله على الأرض . كانت وجوه الحشد التي تجمعت في وسط السوق تبدو غاضبة ومتعاطفة , ولكنها انسحبت الى بيوتها . بل أنّ البعض انتقد حجي اسماعيل هامسا لزوجته " الحجي بطران .. ما يخاف من الحكومة " وهمس شخص آخر وهويستشهد بمثل شعبي " يردس حيل الما شايفهة , والشايفهة يشد عمامة ",اما الآخرون فاكتفوا بالدعاء ان ياتي النهر مرة اخرى محملا بالخير وان يهدم كل الآبار الآسنة التي استقرت في قعره .
اوتاوة / كندا



#رحمن_خضير_عباس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بين قاسم والمالكي
- ام عامر.. والمكرفون المفتوح
- ثورة تموز ..بين فداحة الفعل وشحة الحصاد
- نعيم الشطري..وديعا
- حول سحب الثقة
- وردة الجزائرية
- الغراف.. مدينة الظل
- الكًوامة
- الوطن .. بعيون مهاجرة
- شقة في المنعطف
- أخلاقيات المسرح
- القضاء العراقي.. وقضية الهاشمي
- المشي ..الى كربلاء
- طوب ابو خزّامة .. وقرط الشاعر
- كل عام .. وفشل حكومتنا بخير
- إنه زمن القتلة
- فجيعة لغياب آخر
- الذكرى العاشرة لرحيل الشاعر عبد الخاق محمود
- شموع كهرمانة وشيزوفرينيا الشعر
- إمرأة من اقصى المدينة


المزيد.....




- فادي جودة شاعر فلسطيني أمريكي يفوز بجائزة جاكسون الشعرية لهذ ...
- انتهى قبل أن يبدأ.. كوينتن تارانتينو يتخلى عن فيلم -الناقد ا ...
- صورة فلسطينية تحتضن جثمان قريبتها في غزة تفوز بجائزة -مؤسسة ...
- الجزيرة للدراسات يخصص تقريره السنوي لرصد وتحليل تداعيات -طوف ...
- حصريا.. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 المبارك وجميع القنوات ال ...
- الجامعة الأمريكية بالقاهرة تطلق مهرجانها الثقافي الأول
- الأسبوع المقبل.. الجامعة العربية تستضيف الجلسة الافتتاحية لم ...
- الأربعاء الأحمر -عودة الروح وبث الحياة
- أرقامًا قياسية.. فيلم شباب البومب يحقق أقوى إفتتاحية لـ فيلم ...
- -جوابي متوقع-.. -المنتدى- يسأل جمال سليمان رأيه في اللهجة ال ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رحمن خضير عباس - النهر