أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ممدوح رزق - قتل فرويد















المزيد.....

قتل فرويد


ممدوح رزق

الحوار المتمدن-العدد: 3818 - 2012 / 8 / 13 - 09:10
المحور: الادب والفن
    


أشارت أمي بعتاب غاضب إلى الكشكول الأبيض المغلق على المكتب أمامي وقالت بهدوء حاد :
" بلاش إللي انت بتكتبه ده " ...
خرجت من الحجرة وتركتني محترقا بمزيج عنيف من الخجل والغضب بعدما عرفت أنها فتحت الكشكول من ورائي وقرأت الحكايات الجنسية التي تخيلتها بيني وبين جارتنا .. جارتنا التي في مثل سن أمي تقريبا .

* * *
طلب مني غلق الباب .. كان مرتبكا وصوته خافتا على غير عادته، وابتسامته التائهة تفشل في الاكتمال وهو يقول لي : " هناك أولادا سيئين أهلهم فشلوا في تربيتهم ولا يعرفون الله؛ يفعلون في أجسامهم من تحت أفعالا قذرة تدمر صحتهم، وتجعل ربنا غاضبا منهم .. أنا متأكد من أنك لست من هؤلاء الأولاد لأنك رجل محترم وعارف ربنا " ...
صمت للحظات متحاشيا النظر في عيني ثم سألني : " مش كده ؟ "
أجبته على الفور : " طبعا "
بعد خروجي من حجرته ظللت أضحك بيني وبين نفسي كثيرا بفرح على هذه اللحظة التاريخية التي رأيته فيها لأول مرة مكسوفا ومضطربا بعدما عشت طوال حياتي عاجزا حتى عن تخيله في هذه الحالة .. أدركت أن أمي أخبرته بأنني أقضي في الحمام وقتا طويلا، ولكنني لم أفهم كيف لم يتردد أبدا من قبل في صفعي بكل قوته بسبب إهمالي في أداء الصلاة ولا يفعل ذلك حينما يعلم أنني أمارس العادة السرية .. كان كل ما تصورته في هذه اللحظة أن اكتشافه المفاجيء لتحول حمامتي إلى قضيب دفعه للتفكير في أن التحدث معي بأدب وحرص في هذا الأمر سيضع سياجا أخلاقيا حول الأحلام التي يمكن لقضيبي الاستجابة إليها .. هل كان أبي يعرف أن فشلي بعد موته في أن أكون نسخة منه سيجعلني أضاجع أمي وأختي كثيرا في أحلامي ؟

* * *
أختي لا تتعلم من الماضي .. تفترض كل مرة أنها حينما ترتدي ملابس الخروج وتضع مكياجها وتحمل حقيبتها أن أبيها سيوافق على ذهابها إلى صديقتها حينما تسأله ( ممكن أخرج ؟ ) .. أحيانا يوافق مع تحذيره التقليدي الصارم ( ما تتأخريش ) وأحيانا أخرى يرفض بمنتهى البساطة دون أن تعنيه دموعها وهي تخلع فستانها وترتدي جلابية البيت .. أختي تعرف أن أبيها كان حنونا عليها في طفولتها وأنه كان يقبّلها ويأخذها في حضنه كثيرا .

* * *
بعد سفره إلى الخارج نشأت رغبة تلقائية مشتركة بيني وبين أمي في النوم مكانه بجوارها .. كان النعاس يرفض المجيء إلى عيوننا إلا وأنا احتضنها من الخلف .. أحيانا كنت أرغب في سحب يدي من تحت ذراعها الدافيء أو التقلب والنوم في وضع آخر لكنني كنت أمنع نفسي وبحرص تام على عدم إبداء أي فعل يدل على تلك الرغبة حتى لا أقلقها أو أحرمها من الشعور بالراحة .. كنت أفتقد أبي بشدة لدرجة أنه كلما أرسل خطابا أو شريط كاسيت أظل أبكي طويلا لكنني أثناء البكاء كنت أتذكر أيضا أن عودته ستعني فقداني لمكان نومي بجوار أمي .

* * *
انتظرت أختي حتى انتهيت أنا وأبي من صلاة العصر جماعة في حجرته وسبّحنا ودعونا لأنفسنا ولأمواتنا وللمسلمين ثم أخبرت أبي بمنتهى الهدوء وعلى شفتيها ابتسامة منتصرة بأنني صليت معه دون وضوء .. ربما الذي منع أبي من ضربي والاكتفاء باللعنات والشتائم الصارخة هو إسراعه بمعاودة الوضوء والصلاة وإضافة ركعتين تكفيرا عن هذا الذنب الذي لم يكن له يدا فيه .. نظرت في عيني أختي باحثا عن سبب فضحها لانتقامي السري من أبي ردا على إجباري على الصلاة معه .. رأيت تأكدها المؤلم بأنني لم أعد الطفل الصغير الذي كان ينام بجوارها ويبلل فراشه في الليل وكانت تستيقظ من النوم كي تغير له ملابسه .. رأيت إدراكها اليائس بأنني في طريقي لأكون أبي .. ظلت أختي تتطلع إليه طويلا بعد وضوءه وصلاته وأثناء مشيه وجلوسه .. كانت تتابع أبي بعينيها المنطفأتين منتظرة كلمة شكر أو على الأقل نظرة رضى يمكن تفسيرها بشكل ما على أنها نوع من المحبة .. أختي حاولت أن تحقق في الواقع وبأقصى قدر من المسالمة الأحلام التي كانت تتخلص فيها من أمها .

* * *
أختي تحمم أبي وتفكر في أنه لولا الشيخوخة والزهايمر وموت أمها ما تمكنت من رؤيته عاريا تماما هكذا ولا استطاعت أن تلمسه بهذا الشكل .. ما تمكنت ـ رغم معاناتها في التعامل مع جسده الثقيل المتيبس ـ من استرداد أخيها الصغير الذي كانت تحممه في الماضي وتنشفه وتلبسه ثيابه وتمشط له شعره .. أختي تفكر أيضا في ذكورة أبي الميتة التي بالتأكيد كانت لديه حينما كان يحممها وهي طفلة .. المشهد الذي ضاع من ذاكرتها، ولكن ذكورته ظلت تشعر بها في كل لحظة من حياتها .. طوال السنوات الطويلة التي انتهت بجلوسه عاريا على كرسي داخل الحمام لتأخذ هي مكانه .. ربما أعطت احتمالا ولو ضئيلا وهي منحنية عند قدميه كي تلبسه الكلوت وتبكي بأن المعجزات أقوى من الزهايمر بحيث يمكن لأبي أن يأخذها الآن في حضنه .

* * *
كانت المرة الوحيدة التي رأيت فيها كلا منهما يحتضن الآخر ويقبّله .. كنت طفلا وأخذتني أمي ـ تحت إلحاح صرخاتي الباكية ـ إلى المطار لاستقباله .. رأيتهما سعيدين للغاية، ومشتاقين لبعضهما جدا، ولكن هذا الموقف لم يكن يعني لي شيئا وقتها وإنما بعد مرور سنوات طويلة لم أتوقف عن استرجاعه لأذكّر نفسي بأن أمي امرأة يمكن لرجل أن يحتضنها ويقبّلها، وأن أبي يمكنه أن يكون عاطفيا ويستطيع التعامل مع أمي برقة .. كان التذكير يساعدني على الاطمئنان بأن أمي عاشت وقتا جميلا برفقته في السرير ـ حتى لو كان مجهولا بالنسبة لي ـ بعد أن اعتبرت لحظة المطار إشارة إليه .. الذكرى التي أصر على التخلص منها بنفس إصراري على استدعائها .

* * *
سألت أختي : هو الممثلين بيبوسوا بعض بجد في الأفلام ؟
أجابتني على الفور وبنبرة غاضبة : لأ طبعا .. بيقربوا الصورتين من بعض ...
ـ إزاي ؟
ـ معرفش بس أسمع كده .. وانت مالك والحاجات دي ؟ ...
ـ عايز أعرف بيحسوا بإيه لما بيبوسوا بعض ...
ـ بطّل قلة أدب .
ـ تيجي نبوس بعض ؟
ثم ألصقت شفتي بشفتيها فجأة بشكل خاطف فأبعدت وجهها بعنف صارخة : يا مقرف ...
ثم ثارت في وجهي بحسم : معنتش تعمل كده تاني ...
كنت في العاشرة وكانت هي في أواخر العشرينات .. سمعت كلامها ولم أكرر القبلة طوال الخمسة وعشرين سنة التالية التي لم تتزوج فيها أختي .. بعد موت أبي وأمي أجلس معها بمفردنا في شقة الأسرة التي أصبحت تعيش وحيدة بها .. أحدثها من بعيد وبكلمات مغطاة عن علاقتي الجنسية بزوجتي فتضحك وأرى في وجهها رغبة مكتومة لسماع المزيد .. يمكن إذن بواسطة الفضفضة التلقائية ووفقا لمشيئة الزمن أن تتكرر القبلة الخاطفة القديمة دون تعمد، ولكنها الآن صارت متحررة من ضغط حاجتي لمعرفة ما الذي يشعر به البشر أثناء التقبيل، ومن غضب أختي التي لن تصرخ في وجهي : ( بطل قلة أدب ) .

* * *
لماذا بعد موت كل واحد منهم ـ وليس قبل ذلك أبدا ـ اكتشف أنه لم يقرأ ما كتبته في كشكولي الأبيض فحسب، وإنما أضاف إليه صفحات أخرى لا تظهر على الإطلاق طوال حياته ؟ .

* * *



#ممدوح_رزق (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سلطة الجسد في ( مثلث العشق ) ل شريف صالح
- المتسول
- السينما المصرية القديمة : أحلام سكان المريخ بالأبيض والأسود
- إعادة التدوير
- القرية وأسئلة الحنين في رواية - وغابت الشمس - ل - السعيد نجم ...
- تفاصيل الموت
- غريزة الكتابة
- الثورة والخيال المابعد حداثي
- أسئلة السُلطة
- المزاولة
- سلطة الصحفي الأدبي من الورق إلى الانترنت
- ” لون الماء ” : ضرورة تشريح الماضي
- الرواية تفكك العالم
- معارض متنقلة
- ترتيبات الوداع
- لست نيكول كيدمان ولكنه أجمل من توم كروز
- جماليات الفضيحة
- بالمليمتر يا حبيبي بالمليمتر
- أسئلة القهر عند ( الغريب ) رامي يحيى
- أن ترى الفراغ


المزيد.....




- باتيلي يستقيل من منصب الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحد ...
- تونس.. افتتاح المنتدى العالمي لمدرسي اللغة الروسية ويجمع مخت ...
- مقدمات استعمارية.. الحفريات الأثرية في القدس خلال العهد العث ...
- تونس خامس دولة في العالم معرضة لمخاطر التغير المناخي
- تحويل مسلسل -الحشاشين- إلى فيلم سينمائي عالمي
- تردد القنوات الناقلة لمسلسل قيامة عثمان الحلقة 156 Kurulus O ...
- ناجٍ من الهجوم على حفل نوفا في 7 أكتوبر يكشف أمام الكنيست: 5 ...
- افتتاح أسبوع السينما الروسية في بكين
- -لحظة التجلي-.. مخرج -تاج- يتحدث عن أسرار المشهد الأخير المؤ ...
- تونس تحتضن فعاليات منتدى Terra Rusistica لمعلمي اللغة والآدا ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ممدوح رزق - قتل فرويد