أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - السياسة والعلاقات الدولية - جلال خشيب - فلسفة الإستراتيجية الأمريكية















المزيد.....



فلسفة الإستراتيجية الأمريكية


جلال خشيب

الحوار المتمدن-العدد: 3816 - 2012 / 8 / 11 - 21:35
المحور: السياسة والعلاقات الدولية
    


تمهيـــــد :
تُعد الولايات المتحدة الدولة الأولى في العالم التّي يلعب فيها الباحثون و الأكاديميون دورا مهمّا و فعّالا في رسم إستراتيجياتها الكبرى و سياساتها الخارجية و ذلك من خلال النشاط الكبير الذّي يقوم به هؤلاء في الجامعات و عبر مراكز البحث و التنظير و الاستشراف الواسعة الانتشار في تلك البقعة من العالم ، بل إنّ الدولة تقوم بدورها بجهود جبّارة في دعم هذه المراكز و توفير المناخ اللازم لتنامي الأفكار الإبداعية من خلال ميزانية ضخمة مخصّصة أساسا لهذا الغرض ممّا أدّى إلى تدفّق سيل كبير من العقول الأكاديمية إلى الو م أ بأفكار غاية في التنّوع و الإبداع و هنا تكمن قوة هذه الدولة ، أي في تلك العلاقة التّي أخذت في التنامي و التشابك بين دوائر صنع القرار من جهة وبين الأكاديميين و مراكز البحث العلمي من جهة أخرى ، و هذا ما طرح مع مرور الزمن إشكالية السياسي و الأكاديمي و أيّهما يِؤّثر في الآخر.
بفضل هؤلاء الأكاديميون أصبحت الإستراتيجية الكبرى و السياسة الخارجية بل والأدوات اللازمة لهذه السياسة و ميكانيزمات تفعيلها لدى هذه الدولة واضحة المعالم ...و من المعروف لدى طلاّب العلاقات الدولية سيطرت المنظور الواقعي للعلاقات الدولية _عقودا من الزمن_ على السياسة الخارجية الأمريكية _و لا يزال_ ، فما من إدارة من الإدارات المتعاقبة إلاّ و نجد بصمة الواقعيين تطبع الملامح الكبرى لسياساتها الخارجية حتى و إن حاولت بعضها تحييد الواقعيين و إبعادهم عن الدوائر السياسية لصنع القرار بل و إبعادهم عن رئاسة الأقسام الأكاديمية في الجامعات مثلما أشار إلى ذلك جون ميرشايمر في إحدى مقالاته ...و من المعروف كذلك الثبات النسبي الذّي تتسّم به الإستراتيجية الكبرى للو م أ ، فما من إدارة إلاّ و نجدها تلتزم بخطوطها الكبرى و تبني على ما انتهت إليه الإدارة السابقة ، فهذا هو العامل الثابت أمّا المتغير فهو التكتيك أو ما يٌسميه الإستراتيجيون بالإستراتيجيات الصغرى ، بمعنى الأدوات و الأساليب المتبعة في السياسة الخارجية ، بالطبع المسألة ليست في حاجة إلى شرح أكبر فالقاصي و الداني يعرف ثنائية الجمهوريين و الديموقراطيين ، ثنائية الذئاب و الثعالب على حذّ تعبير نعوم تشومسكي ، ثنائية القوة الصلبة و القوة الناعمة في عُرف جوزيف ناي ، ثنائية تحقيق المصلحة من خلال الحرب أو بلوغها عن طريق السلم أو ما قد نتفق على تسميته بسلم الشجعان كما تذّكرنا سياسات الجنرال الراحل شارل ديغول ...


فرانسيس فوكوياما و الهيغلية الجديدة :
بنهاية الحرب الباردة ضنّ الكثيرون أنّ المنظور الواقعي آيل إلى الزوال ، فمقولات الاحتواء ، توازن الرعب ، الردع النووي ، الأسلحة الإستراتيجية ، الكتلة الثانية الدافعة للتمّسك بالبقاء ...كلّها صارت من الماضي ذهبت مع ستالين إلى قبره ، معتقدين أنّ العصر الجديد هو عصر الليبرالية و السلام الديمقراطي ، مهنئين إيمانويل كانط على عودته سالما بعد زمن من الفراق ، مصفقين لفوكوياما " لقد عمّت الليبرالية..مرحى لنا ، مرحبا بالهيغلية الجديدة، نعم لقد زال النقيض ، نعم لقد اختفى الأعداء ...نعم لقد انتهى التاريخ " ...لا أحد يُنكر الدور الذي لعبه مقال هذا الكاتب " نهاية التاريخ و الإنسان الأخير ؟" في محاولة ترسيخ مفهوم اللبرالية الأمريكية كحقيقة واقعية لا منافس لها بعد تلاشي الاديولوجية الشيوعية ، فما من نظرية إلاّ و جاءت لشيء ما و من أجل شخص ما على حدّ تعبير روبت كوكس ، فالتاريخ إذن هو صراع المتناقضات تفني الواحدة الأخرى لتخرج إلى النور فكرة جديدة تحمل بذور الفناء في ذاتها إلى أن نصل إلى فكرة تحمل بذور الكمال ، هذا هو الدياليكتيك الهيغلي المادي الكموني الواحدي في أهدافه و مراميه و الذي يتستّر بدثار الثنائية الهيومانية المتحررة من النزعة التسلطية المادية التّي تقهر الإنسان لتعلي شأن المادة كمطلق متجاوز ...لقد تجسدّت الفكرة النهائية لنهاية التاريخ في العُرف الهيغلي في الثورة الفرنسية التي حملت لواء اللبرالية المرصّعة بخيوط الأخوة و العدل و المساواة الذهبية و التّي كانت حربا على الحروب و نهاية لمآسي الشطحات الفكرية الوافدة من هنا و من هناك لتحكم العقل الأوروبي الغربي المقهور ...لكن هل نَعم أحفاد الهيغلية بالنهاية الوردية التّي خطّت الثورة الفرنسية حدودها باللون الأحمر القاني ؟ ...على قدَرك الكبير و مع إحتراماتنا لعقلك العظيم فقد أخطأت هذه المرة سيد فريديريك ، لم تمّر سنوات كثيرة حتّى اندلعت حربين عالميتين أتت على الأخضر و اليابس ، كان مهدهما أوروبا الغربية ، يحكمها صراع المصالح كما يحكمها كذلك صراع الأفكار و الإيديولوجيات ، إذًا فقد رسبت النهاية الهيغيلية للتاريخ من أوّل اختبار ، فها هي البلشفية الشيوعية و الفاشية الموسولينية و النازية الألمانية تجتاح أوروبا ، تهدّد النهاية الوردية للبيرالية الغربية في عقر دارها لتبعث بها إلى القبر ...هل سيعيد التاريخ نفسه سيد فوكوياما ؟
في كتابه المشهور " نهاية التاريخ و الإنسان الأخير؟ " نجد فوكوياما مغرما بالطرح الهيغلي سابق الذكر كما يلفتنا اعتماده على بعض أفكار كوجيف و مرتكزا بالأساس على الفكرة الأفلاطونية للتيموس و هو الجزء الراغب في النفس و الطامح إلى تأكيد الذات و إنتزاع إعتراف الآخرين بها ، إذن هذا هو المحرّك الفعلي لعجلة التاريخ ، محرّك بسيكولوجي كامن في الذات الإنسانية يدفعها إلى تحصيل الأحسن و الأكمل دوما و في شتّى مناحي الحياة ليتحوّل هذا الدافع إلى وعي جمعي يُحرّك مسار الدولة أو الحضارة نحو الغاية المنشودة ، الرغبة العليا التّي تّجسدها اللبرالية الغربية ، "نعم إنّ التصوّر الإيديولوجي للإنسانية أفضى إلى تدويل الديمقراطية و تعميمها على الكون و كأنّها الشكل النهائي لأيّ حكم سياسي " هذا ما قاله فوكوياما...لكن... ماذا بعد؟ هل كمال الإنسان هو اعتراف الآخر بكماله ؟ و هل تتوّقف إنجازات الإنسان إذا اعتقد يوما أنّه وصل حدّ الكمال لمجرد اعتراف الآخر له ؟ هذه الإنجازات التّي كانت سببا في تفوّقه و ما أعتقد بكماله و هل احتفاظ الإنسان على ذاته كما هي ومكتسباته التّي بلغها - سبب ما يعتقد أنّه مكمن كماله- يُعد أمرا كافيا حتّى نوقف عجلة التاريخ ؟ نترجم هذا التساؤل الفلسفي إلى تساؤل سياسي فنقول : هل الديمقراطية الليبرالية التّي بشّر بها فوكوياما كفيلة بإيقاف عجلة التاريخ و صنع الإنسان الأخير ؟ ...أعتقد أنّ هذا ما كان يعنيه فوكوياما عندما أراد أن يلفت انتباهنا بعلامة الاستفهام التّي تعمّد وضعها في عنوان كتابه الشهير ، نعم إنّها فيما أعتقد إشارة لإستغباء عقولنا بالعلمية و الموضوعية التّي سيتبنّاها كاتبنا في محاولته الإجابة عن هذا السؤال الذّي قضّ مضجعه ، لقد قالها روبرت كوكس و إنتهى الأمر " كلّ نظرية جاءت لشيء ما و من أجل شخص ما " .
نحتاج إلى صفعة قويّة توقظنا من غفوة عقولنا ، صفعة قويّة تجعلنا نطرح السؤال التالي : عند من انهى التاريخ ؟ هل حظي الجميع بشرف الاعتراف لهم ؟ و إذا كان الأمر كذلك فمن سيقوم إذن بواجب الاعتراف للآخر ؟ إذن فمسألة الاعتراف هذه ، تستلزم طرفين أقل ما يقال عنهما أنّهما متناقضين سيّد يحظى بشرف الاعتراف له و عبد وضيع يِؤدّي واجب الاعتراف لسيّده الكامل ، إذن هي عودة على بدء لمنطق الثنائية الدياليكتية الصلبة ...بتعبير واقعي نقول أن عالم الحرب الباردة لم يكن إلاّ ذلك العالم الذي عرف ذلك التناقض الهيغلي بين إديولوجيتين وحسب إحداهما ليبرالية و الأخرى شيوعية منبعهما طرفين و حسب فأين بقية العالم ؟ قد يجادل أحدهم أنّ كلّ دول العالم كانت متبنية آنذاك إمّا لليبرالية و إمّا للشيوعية ، نقول له ببساطة نعم كانت" إمّا متبنية و إمّا متبنية " ، فمراجعة بسيطة لمصطلح التبّني كفيلة بإعطاءه الجواب الكافي ...و إذا أردنا الابتعاد عن المنطق الفلسفي لنتحدّث بلغة النظريات ، فبإمكاننا أن نضيف أنّ الطرح الفوكويامي لنهاية التاريخ يُمكن إدراجه ضمن المنظور الليبرالي الكانطي بالتحديد ما يُسمى بنظرية السلام الديموقراطي التّي تقترح عليا صيغة ملائمة لإحلال السلام في العالم تقوم على أساس تبّني أنظمة الحكم للديمقراطية كمنظومة حياة ، فذلك كفيل لوحده أن يقي العالم شرّ الحروب المدّمرة ، لأنّ الديمقراطيات لا يُحارب بعضها بعضا ، و كلّ الحروب التّي شهدها العالم كانت بسبب ديكتاتوريات مقيتة ، اسألوا هتلر و ستجدون الجواب ...بإمكان أي كان أن يُسقط إدعّاء مثل هذه النظريات بالكامل بمجرد أن يُعالج المقدمّات التّي تنطلق منها هذه النظرية أو الظروف السياسية الدولية التّي جاءت في إطارها و الغايات السياسية التّي تنشدها في ظل هذه الظروف و ذلك قبل أن يسقط في فخّ محاولة اختبار هذه النظريات على أرض الواقع بعد التسليم بمقدماتها _ بمعنى الانطلاق من النتائج للوصول إلى المقدمات و ليس العكس _ ...أجل فقد جاءت أصول نظرية السلام الديموقراطي لأجل هدف وحيد لا ثاني له ، و هو إحلال السلم في أوروبا التّي أنهكتها الحروب البينية ، فاختلاف طبيعة الأنظمة السياسية أدّى إلى الحروب ، و بالتّالي فإذا تمكنّا من توحيد هذه الطبيعة فبإمكاننا تجاوز التصادمات الفكرية الإيديولوجية و بالتالي تجاوز سوء الفهم باعتبار أنّ طبيعة التفكير ستكون واحدة ، و الطبيعة الديمقراطية الليبرالية لأنظمة الحكم السياسية هي الوحيدة الكفيلة لبلوغ هذه الغاية ، لأنها ببساطة تعكس الطبيعة البشرية المشتركة...هذا بالضبط ما أراد فوكوياما أن يُروّجه انتشار الليبرالية الأمريكية عبر العالم الذي جاء في أعقاب زوال الشيوعية العالمية ، كفيلة دون غيرها بإيقاف عجلة التاريخ ، و إحلال السلام في العالم من خلال إيجاد نمط فكري ثقافي عالمي موّحد يصل بالإنسان ليُحقق أقصى رغباته ...لكن...هل صمدت أفكار السلام الديمقراطي أمام الطرح الواقعي في أعقاب الحرب العالمية الثانية حتّى تتسنى لها الصمود بعد ذلك ، و بدون إطالة نقول أنّ الحروب لا يُسببها التباين في طبيعة الأنظمة السياسية و إنّما يُسببها تضارب مصالح هذه الأنظمة ، هذا ما بيّنه الواقعي إدوارد هاليت كار ، فالحرب في العُرف الواقعي لا يتسبب فيها نظام بعينه – النظام النازي في الحرب ع 2 – و إنّما يتسبب فيها تقاطع مصالح أنظمة سياسية متعددة...إذن فمحاولة فوكوياما لإعادة إحياء أفكار السلام الديمقراطي لن تجد لها آذان صاغية لعدم قدرتها على تفسير الواقع كما تقوم به نظيرتها الواقعية...
وداعا لهيغل...مرحبا بنيتشه :
بزوال منافسها القوّي، الاتحاد السوفياتي، وجدت الولايات المتّحدة نفسها بشكل مفاجئ تعتلي سلّم الريادة العالمية ممّا تسبّب في نظر الكثيرين في حدوث ما يشبه صدمة الدهشة و الشلل داخل دوائر صنع القرار ..."نحن الأسياد ، هذه لحظتنا التاريخية، لحظة التيموس ، لحظة إنتزاع الإعتراف بالذات ... ماذا نفعل الآن ؟؟
" أنا آسف إعذروني لا يزال هناك فصل ثالث للرواية ، لقد أسئتم فهم رئيسي جورج بوش الأب ، لم أكن أقصد بذلك ما كان يعنيه " ... هكذا أتصّور شخص إسمه تشارلز كروثامر و هو يقف في أعلى مبنى الكابيتول مخاطبا الأمريكيين و العالم الغربي ...فعندما أطلقتُ مقولة النظام الدولي الجديد لم أكن أعني ما كان يقصده الرئيس بوش و لا ما رسمه مقال زميلي فوكوياما ، اسألوا صديقنا هنثينغتون وستفهمون ما كنت أعنيه ...أجل هذا هو الفصل الثالث من الرواية ، عدو قديم في ثياب جديدة ، وا أسفاه لم ينتهي التاريخ بعد...
ها نحن إذن نقف من جديد على الدور الذّي تلعبه الأفكار الفلسفية و التنظيرات الأكاديمية في صنع سياسات الدول العظمى ، فبعد الترويج المقصود الذي حظي به مقال فوكوياما الشهير و الذّي كان ضروريا في تلك المرحلة بالذّات لتثبيت الأقدام و القلوب كذلك على مرحلة جديدة في مسيرة التاريخ تخطّها بعناية فائقة عقول جباّرة ، أجل لقد جاءت نظريته بهدف تثبيت دعائم النظام الدولي الجديد الذّي حمل معه الأفكار الليبرالية الأمريكية في محاولة لصهر الثقافات الأخرى بحجّة فسادها أو عدم ملائمتها ...إذن ما هي الخطوة القادمة ؟ ... "يوريكااااا"... فالندفن هيغل غير مأسوفين عليه ، و لنرجع نيتشه إلى الحياة ليكتب لنا من جديد " هكذا تكلّم زراديشت"...عفوا..." هكذا تكلّمت أمريكا" .
يعتبر نيتشه - كما يشرح الأستاذ فؤاد شاهين في تقديمه لترجمته لكتاب نهاية التاريخ - أنّ الديمقراطية الحديثة تُمثّل ليس فقط انعتاق العبيد القدامى ، و إنّما الانتصار اللامشروط لهؤلاء العبيد أنفسهم و تجسيد نوعا من أخلاقية دنيئة ، فالمواطن النموذجي للديمقراطية الليبرالية كان فعلا هذا "الإنسان الأخير" المُعَد من مدرسة مؤسسي اللبرالية الحديثة ، و الذّي تخلّى عن الإيمان المتعجرف بقيمته الذاتية العليا مقابل محافظة مريحة على الذات ، فالديمقراطية الليبرالية تُنتج أناسا بلا شجاعة، مكوّنين كلّيا من الرغبة والعقل، ماهرين في إيجاد وسائل جديدة لإرضاء مجموعة من الأهواء الحقيرة بفضل حساب المصلحة الأنانية على أمد طويل ، لكنّ الإنسان الأخير يخلو كلّيا من التيموس او الرغبة في الإعتراف به أعظم من الآخرين ، تلك الرغبة التّي بدونها ليس هناك إمكانية لأّية جودة أو لأي كمال ، فالإنسان الذّي يرضى بسعادته و لا يشعر بأيّ خجل أمام عدم قدرته على الارتفاع فوق أهوائه الدنيئة لا يبقى في النهاية كائنا إنسانيا.
و إذا ما سلكنا خطّ نيتشه – مثلما يشرح الأستاذ شاهين دوما – لتوّصلنا إلى طرح الأسئلة التالية : أليس الإنسان الذّي يُرضيه كلياّ الاعتراف الشامل و المتساوي – وليس أكثر من ذلك – هو ما دون الكائن الإنساني بقليل ، بل هو موضوع للاحتقار ، أيّ إنسان أخير بلا بطولة و لا تطلّعات ؟أليس هناك جانب من الشخصية الإنسانية يبحث عمدا عن الصراع و الخطر و المخاطرة و الجرأة ، هذا الجانب ألا يبقى غير راض بشعار السلام والازدهار الذي تطرحه الديمقراطية الليبرالية المعاصرة؟ ألا يتعلّق رضى بعض الكائنات الإنسانية بالاعتراف اللامتساوي أساسا؟ و رغبة الاعتراف اللامتساوي ألا تّشكّل في الواقع ركيزة للحياة القابلة للاستمرار ، ليس فقط بالنسبة للمجتمعات الأرستقراطية البالية ، و إنّمّا أيضا في المجتمعات الليبرالية الحديثة؟ ...و الاستمرار المستقبلي لهذه الديمقراطيات ألا يتعلّق إلى حدّ ما بدرجة سعي مواطنيها لأن يُعترف بهم ليس فقط كمتساوين و إنّما فعلا كمتفوّقين على الآخرين؟ ألا يقود خوف البعض من أن يُصبحوا "أناسا آخرين" محتقرين إلى إثبات وجودهم بشكل جديد و غير متوّقع إلى حدّ أن يُصبحوا مجدّدا "أناسا أوّلين مشابهين للبدائيين المتوّحشين الذّين ينخرطون في صراعات دموية و لكن هذه المرّة بأسلحة حديثة رهيبة؟
لا يبدو أنّ شرح الأستاذ شاهين في حاجة إلى شرح منّا ...يبدو أنّ نيتشه تكلّم من جديد لكن هذه المرّة على لسان أكاديمي آخر اسمه صاموئيل هنثنغتون ، أستاذ مرموق في جامعة هارفرد يكتب كتابا سنة 1993 يتحوّل إلى مرجع أكاديمي لصنّاع القرار و يمنحهم شرعية علمية أكاديمية ترسم معالم سلوكاتهم من جهة و تجد مبررا علميا لها من جهة أخرى ، هذا هو غرض كتاب صراع الحضارات ذائع الصيت ، إذن نحن مقبلين على دخول بواّبة جديدة للتاريخ ...
لقد اعتبر هنثينغتون أنّ الحرب الباردة كانت حربا أهلية داخل الغرب و أنّ الحرب الحقيقية لم تبدأ بعد ،على أنّ الحرب الحقيقية سوف تكون حرب حضارات ، حضارة غربية ليبرالية في مواجهة حضارات معادية ، تقع الحضارة الإسلامية في قلبها...إذن إنّه الإسلام كما يصنع صورته المحللّون السياسيون في أمريكا المولعون بوضع سيناريوهات للمستقبل بهدف تعيين العدّو الذي سيّحل محّل الشيوعية ، و كأنّ الحياة لا تستقيم بدون "عدو" و هكذا نقرأ تحليلا في الواشنطن بوست يقول : "يبدو أنّ الإسلام مناسب لملء دور الشرير بعد زوال الحرب الباردة ، فهو ضخم ومخيف وضدّ الغرب و يتغذّى على الفقر و السخطّ ، كما أنّه ينتشر في بقاع عديدة من العالم ، لذلك يمكن إظهار خرائط العالم الإسلامي على شاشة التلفزيون بالون الأخضر كما كان العالم الشيوعي يظهر باللون الأحمر " ...نعم لابّد من وجود العبد الذّي يؤدّي واجب الاعتراف بل و الخضوع للسيّد الغربي أو السوبرمان في العُرف النيتشوي .
لا أزال أترّحم على الراحل محمد عابد الجابري كلّما أتذّكر إحدى مقولاته الشهيرة التّي يقول فيها أنّ : " العقل الغربي لا يعرف الإثبات إلّا من خلال النفي و بالتالي لا يتّعرف على" الأنا " إلاّ عبر "الآخر" ، فالوجود في العقل الأوروبي يُنظر إليه على أنّه صراع بين أضداد " مسيحية مقابل إسلام أو غرب مقابل شرق أو شمال مقابل جنوب أو أبيض مقابل أسود أو أصفر أو..." ، و إذا كان الغرب ينظر لنفسه على أساس أنّه الحقّ و الكمال و الخير فلابّد أن يكون النقيض هو الباطل و النُقص و الشّر ، و إذا كان لا يستطيع أن يتعرّف على نفسه "الخيّرة" إلاّ من خلال الشرير "الآخر" فكان لابّد من إيجاد من يحّل مكان الإتّحاد السوفياتي السابق الذّي انتهى دوره كنقيض لإثبات الذات "...إذا فهي حرب جديدة ضدّ الشّر و يجب أن نشير إلى أنّ فكرة الشّر – كما يشرحها لنا برنارد لويس - هي فكرة لاهوتية ، فالشر ليس له تاريخ ولا دوافع، و الاستخدام السياسي للشّر هو عملية مزدوجة الوجه : الوجه الأوّل هو أنّه لا يستطيع المرء التعايش مع الشّر ، الوجه الثاني : لا يستطيع المرء أن يغيّره ، و بالتّالي فالشّر يجب إزالته ، و الحرب ضدّ الشّر هي حرب دائمة ، حرب بلا هدنة .
لقد جعل هينثينغتون من الدّين عاملا محددا في تشكيل عالم ما بعد الحرب الباردة ، فعلى أساسه صنّف الحضارات الأخرى التّي تقف في مواجهة الحضارة الغربية ، أقصد المنافسين المحتملين الجدد لحضارة العم سام ، إذن فقد دقّ الأكاديمي من جديد أجراس الخطر في آذان رجل السياسة " عليكم أن تحذروا من هؤلاء " ، لم يكن الإسلام لوحده ضمن فئة الهؤلاء بل تبعه آخرون أهمهم الكونفوشيوس ؟؟؟ ربمّا استحيت العقلية الأكاديمية هذه المرّة من تسمية الأشياء بمسمّياتها .. فهمناها سيدي الكريم إنّها الصين... من الواضح أنّ روسيا لم تحظى باهتمام كبير في أطروحة هنثينغتون ، و الأمر جليّ فلم يزل الدبّ الروسي يلعق جراحه آنذاك و هو بحاجة إلى فترة نقاهة طويلة الأمد ، من جهة أخرى ربّما جعلت إصلاحات البروسترويكا و الغلاسنوست هنثينغتون يضّم الروس كعضو شرفي في مجموعة اليانكي ...على كلّ حال ، ما فات هنثينغتون قام آخرون باستدراكه ، ما يهمنا فقط هو قدرة الإدارة الأمريكية على تبّني الأفكار و ترجمتها إلى واقع مُدرك ، و لكنّ الأهّم هو الغاية من تبّني الإدارة لأفكار و أطروحات بعينها دون غيرها ، فمن المؤكد تبّني الإدارة ما يخدم مصالحها الدولية ، لكن فلنحاول تحديد هذه المصلحة...

الولايات المتحدّة ، الستاتيكو المقدّس و الهيمنة على العالم :
أتخيّل نفسي سنة 1989 و أنا أقف داخل مبنى الكابيتول ، بل و داخل العلبة السوداء لصناعة القرار الأمريكي ، ها أنا ذا أراهم يتبادلون التهاني " نحن على قمّة العالم ، نحن الأسياد، نحن..." ، هل سيستمر هؤلاء في تهنئة بعضهم البعض طيلة أيام السنة ؟ بالطبع لا ، إنّ القضية المؤّكدة التّي سيدور حولها النقاش هي كيفية محافظة الولايات المتحدة على هذا المكسب ، بعبارة أكثر علمية كيف ستحافظ "دولتنا " على الوضع القائم أو الستاتيكو بالتعبير الواقعي ، فالستاتيكو هو الغرض الأوّلي الذّي تسعى له القوى المهيمنة ، فأيّ تغيير في بنية النظام الدولي سوف لن يكون في صالح الطرف المهيمن إلاّ ما كان سيكرّس هيمنته ، بالطبع فالأمريكيون من أكثر الناس قراءة لمسار التاريخ الذّي يؤّكد لهم أنّه ما من قوّة مهيمنة ستستمر في هيمنتها أبد الظهر ، لذلك فالهدف المركزي سيتمحور بالتأّكيد حول كيفية الإجابة عن السؤال التالي : كيف " سنتمّكن " من إطالة عمر الهيمنة الأمريكية على العالم ؟ لن نتمكن من الإجابة عن هذا السؤال إلاّ إذا كوّنا رؤية نظرية عن كيفية تصّرف القوى الكبرى لاسيما المهيمنة منها ، وسنستعين هنا بالطرح الواقعي الجديد لقدرته التفسيرية الكبيرة ، مقتبسين من شرح قدمّه رائد الواقعية الجديدة جون ميرشايمر:
" نظريتين حول السياسة الدولية تقول بأن الدول تسعى لفرض هيمنتها على مجالها الإقليمي في الوقت الذي تعمل في على منع أية قوة منافسة من الهيمنة على مجالها. إن الهدف الأولي لأية قوة عظمى هو زيادة أعظمية لحصتها من توزيع القوة الدولي على أمل الهيمنة ... إن للنظام خصائص محددة، فالفواعل الرئيسيون هم الدول التي تتفاعل فيما بينها في ظل بيئة فوضوية، بمعنى أنه لا توجد سلطة فوق سلطتها. ومن جانب آخر، فإن كل القوى الكبرى تمتلك قدرة عسكرية هجومية، مما يعني أنها تستطيع إلحاق الضرر ببعضها البعض . و أخيرا لا يمكن لأي دولة أن تتكهن بدّقة عمّا تنوي الدول الأخرى القيام به مستقبلا . وعلى هذا الأساس، فإن أفضل طريقة للحفاظ على البقاء هو أن تزيد الدولة من مستويات قوتها مقارنة بالخصوم المحتملين، فكلما كانت الدولة أقوى كلما تعرضت احتمالات تعرضها لهجوم من قبل دولة أخرى. إن القوى لا تصارع لتكون الأقوى من بين كل القوى الكبرى، رغم أن محصلة كهذه مرحب بها لدى أية دولة فلا توجد دولة ترفض الدخول لنادي القوى الكبرى، لكن الدول في واقع الأمر تسعى لما هو أكثر من ذلك وهو وضع القوة المهيمنة، بمعنى القوة العظمى الوحيدة في النظام الدولي. ومع ذلك، فإنه من المستحيل تقريبا لأية دولة أن تحقق وضعية القوة المهيمنة الوحيدة في عالمنا المعاصر. لأنه ليس من السهل نشر القوة العسكرية وتعزيزها على المستوى الكوكبي. وبناء على ذلك، فإنه حتى الولايات المتحدة تعتبر قوة مهيمنة إقليمية وليست كوكبية، فأقصى ما يمكن أن تطمح إليه أية دولة هو الهيمنة على ساحتها الخلفية ... بالنسبة للدول التي تحصل على موقع الهيمنة الإقليمية فهي تنزع إلى تحقيق هدف آخر، وهو منع خضوع مناطق جغرافية أخرى لهيمنة قوة ثانية، وبتعبير آخر، فإن القوى المهيمنة لا تحبذ وجود منافسين أنداد لها. ولتحقيق ذلك فهي تعمل على إبقاء المناطق الأخرى مقسمة بين عدد من القوى الكبرى التي تتصارع من أجل النفوذ. لقد أعلنت إدارة بوش الأب، وبكل جرأة عقب نهاية الحرب الباردة في 1991، بأن الو.م.أ. أضحت الآن أقوى دولة في العالم، وهي فوق ذلك تخطط للحفاظ على هذا الوضع، الرسالة ذاتها حملها تقرير إستراتيجية الأمن القومي الصادر في 2002، في ظل إدارة بوش الابن. صحيح أن احتواء التقرير لتصور الحرب الإستباقية أثار انتقادات حادة، إلا أنه حمل تأكيدا قويا بأن الولايات المتحدة ستصطاد القوى الصاعدة وستسعى للحفاظ على وضع الزعامة في معادلة القوة العالمية. " انتهى كلام ميرشايمر.
إنّ للتفسير النظري سحر خاص ، تسعى الدول المهيمنة للإبقاء على هيمنتها ، لا تبحث عن القوة بل تتنافس للاستئثار بها ، تسعى لتشتيت انتباه المنافسين لها ، ولما لا اصطيادهم إن أمكن الأمر ...إذن فقد قامت الإستراتيجية الأمريكية بعد الحرب الباردة على المحافظة على الستاتيكو ، وضع الهيمنة القائم ...لكن كيف ؟ هذا هو السؤال...
من المؤكد عدم قدرتنا على الإحاطة بكل شاردة وواردة قامت عليها إستراتيجية الستاتيكو الأمريكية ، لكن سنتخّذ لأنفسنا معالم أكاديمية ، فقط لنُبلور فكرة واضحة عن السلوك الأمريكي ...بعدما حدّد هنثينغتون المنافسين المحتملين للو م أ على الزعامة العالمية ، جاء الدور على مستشار الأمن الأسبق زبيغنيو بريجينسكي المعروف بنشاطه الكبير لدى مراكز البحث الإستراتيجية الأمريكية ، ليرسم الطريق المعّبد الذّي ينبغي على صانع القرار الأمريكي انتهاجه للإبقاء ما أمكن على حالة الهيمنة العالمية ، فجاء كتابه ذائع الصيت " رقعة الشطرنج الكبرى " ليضع القارة الأوراسية على طاولة التشريح الجيوستراتيجي كمنطقة قلب حيوية لبسط الهيمنة العالمية ، محدّدا خمسة لاعبين جيوستراتيجيين : فرنسا ، ألمانيا ، الصين ، روسيا ، الهند، و ثلاث محاور جيوبوليتيكية إرتكازية كبرى: أوكرانيا ، أذرابيجان ، كوريا الجنوبية ، تركيا و إيران ذات أهمية حاسمة ، و" إذا كان اللاعبون الجيوستراتيجيون يُمثّلون الدول التّي تمتلك القدرة و الإرادة الوطنية اللازمتين لممارسة النفوذ أي التأثير فيما وراء حدودها لغرض تبديل الوضع الجيوبوليتيكي القائم إلى الحدّ الذّي يؤّثر على مصالح أمريكا ، فإنّ المحاور الجيوبوليتيكية تمثّل الدول التّي لا تستمد أهميتها من قوتها و دوافعها و إنّما من موقعها الحسّاس و النتائج التّي تترتب على الهشاشة الضمنية لظرفها و كونها عرضة لتصرفات اللاعبين الجيوستراتيجيين " ، إذن فقد أعاد بريجينسكي من خلال كتابه هذا ، إحياء الجدل الجيوبوليتيكي القديم حول منطقة قلب العالم و الصراع الأزلي بين اللوثايان و البهيموت في عُرف كارل شميدت ، إذن فهدف أمريكا المركزي يتمحور حول ضرورة إبقاء القارة الأوراسية تحت السيطرة الغير أوراسية ، يعني الأمريكية ، من خلال الحرص على إدامة التعدّد الجيوبوليتيكي في القارة ، و ذلك يستدعي منها المناورة و المضاربة من أجل الحيلولة دون ظهور تحالف مُعاد يمكن أن يسعى بالتّالي إلى تحدّي أولوية أمريكا ...باختصار فقد حدّد بريجينسكي ثلاث مراحل متتابعة مترابطة الغايات ، مرحلة المدى القصير المرتبطة بمنع بروز تحالف مضاد ،" تُمهّد الطريق لمرحلة المدى المتوّسط التّي ستفتح الطريق تدريجيا لمزيد من التأكيد على ظهور شركاء مُهّمين و ملائمين إستراتيجيا يمكن أن يُساعدوا ، بحّث من الزعامة الأمريكية ، في تشكيل منظومة أمنية أكثر تعاونا على امتداد أوراسيا ، و في نهاية المطاف يُمكن لما تقدّم أن يُهّيئ ، على المدى البعيد ، للانتقال إلى محور عالمي للمسؤولية السياسية المشتركة حقا ، فمن غير المرّجح أن ترغب أمريكا في أن تنشغل بشكل دائم بالمهمّة العسيرة و الباهظة التكاليف في إدارة أوراسيا عن طريق المضاربة و المناورة ، المدعومة بالقوة العسكرية الأمريكية ، من أجل منع قوة منفردة من تحقيق السيطرة الإقليمية ... على أن تتمحور المهمة الفورية حول التأكّد من أنّ أيّ دولة أو مجموعة من الدول لن تستطيع الحصول على القدرة اللازمة لطرد الولايات المتحدة من أوراسيا أو التقليل من دورها التحكّمي الحاسم ." ...بالطبع لن تكون ذلك بالمهمة اليسيرة ، لذلك فلم يغفل بريجينسكي عن رسم قواعد اللعبة الدولية و الإمكانيات و الأدوات اللازمة لبلوغ المرامي الأمريكية ، كما لم يغفل كذلك عن وضع سيناريوهات محتملة للسلوك الذّي قد يتّخذه لاعب رئيسي أو محور إرتكازي ، سواءا خدم أو عرقل المساعي الأمريكية .
ربمّا لم تكن إدارة كلينتون آنذاك على قدر طموحات بريجينسكي الجيوستراتيجية ، فبطئ الوتيرة و الأزمات البسيطة التّي كانت تُعانيها من دون أن تجد لها مخارج مُشرفة – الصومال ، البوسنة ثّم كوسوفا ، العراق ، تايوان و كذلك كوريا – جعلت بريجينسكي لاحقا يصفها بالإدارة الفاشلة ، لكنّ أقل ما يُمكن كتابته لصالح هذه الإدارة أنّها لم تتخلّى – في نظرنا – على مفهوم الستاتيكو المقدّس ، فالملاحظ أنّ معظم سلوكاتها الخارجية لم تخرج عن إطار الفعل العقلاني ، حتّى و إن وُصفت ببطئ الوتيرة أو التأرجح و التردّد أحيانا أخرى ...كلامنا هذا يجعلنا نُمهّد بحذر للحظة نعتبرها تاريخية في تاريخ الولايات المتّحدة و نعني بها صعود تيّار المحافظين الجدد ، كتيّار متطرف ضرب – فيما نرى – مفاهيم الستاتيكو ، الواقعية و العقلانية عرض الحائط ، ليتبنى مشروع إمبراطوري خرافي يبتعد كلّيا عن الحسابات الجيوستراتيجية الواقعية، العقلانية- الجدّية .
الجنونية أعلى مراحل الواقعية، المحافظون الجدد يؤسّسون لصنف جديد من الواقعية :
لن نستغرق في الحديث عن المشروع الإمبراطوري لهذا التيّار و منطلقاته العقائدية المناوئة لمنظومتنا الفكرية الإسلامية ، بقدر ما نحاول تركيز الانتباه على السياق العام للإستراتيجية الأمريكية قبل و بعد المحافظين الجدد حتى نعرف الهزّة الكبيرة التّي أحدثها هذا التيّار في السياسة الخارجية الأمريكية ، وأثرها على الطموحات العقلانية التّي رسمها بريجينسكي لصانع القرار الأمريكي بهدف إطالة عمر هذه الدولة العظمى ، لنصل في نهاية المطاف إلى تشكيل فهم و رؤية متكاملة تستند على كلّ ما سبق حول السلوك الذّي سلكته و ستحاول تبنيه الإدارة الموالية ، إدارة الرئيس أوباما لمعالجة ما أحدثه المحافظون الجدد ، و إنقاذ ما يُمكن إنقاذه.
لقد تضافرت عدّة عوامل جعلت العالم العربي بل و الإسلامي كذلك ، يبرز بقوّة على الساحة العالمية للأحداث ، الامتداد الواسع للرقعة الجغرافية التّي يقف عليها ، حيازته على الجزء الأكبر من الثروة الباطنية العالمية ، ما يُرشحه لأن يكون منطقة قلب حقيقية بالمفهوم الجيوبوليتيكي ، بالإضافة إلى الموروث الحضاري و الديني الذّي تعرفه المنطقة التّي باتت تُسمّى سفها بالشرق الأوسط ...لقد توافقت كلّ هذه العوامل مع صعود التيّار المحافظي من جديد في الولايات المتّحدة ، المدفوع بشكل غير خفي بطموحات دينية تتوافق مع الرؤية الصهيونية لأرض الميعاد و الصراع الأزلي بين الخير و الشرّ ، الحرب الكبرى ، معركة هرمجدون ، التحالف الصليبي الصهيوني ، إبادة المسلمين ، فقدوم المسيح فالألفية الأمريكية الوردية...القصّة معروفة لا تحتاج منّا إلى إعادة ...
لم تكن إدارة كلينتون ، في آخر أيّامها ، مستعدّة لتبنّي المشروع المحافظي الحالم ، رغم الضغوطات التّي مُورست عليها آنذاك ، ففي سنة 1998 دفع المحافظون الجدد باتّجاه الخطوة الأولى ، غزو العراق ، إلاّ أنّ مجهوداتهم باءت بالفشل ، كثيرا ما نظر المحافظون الجدد إلى العراق – لأسباب عديدة لا أريد الخوض فيها - باعتبارها الباب السحري الذّي يأتي عبره التغيير المنشود في المنطقة بل ولن نكون حالمين إذا قلنا بوّابة السيطرة العالمية من وجهة نظر هؤلاء ، لقد اعتقد هؤلاء أنّ سقوط النظام العراقي سيكون بمثابة انفراط اللؤلؤة الأولى من العقد ، متبنين مقاربة الديمينو الشهيرة ، سقوط نظام مارق سيتبعه حتما سقوط الأنظمة المماثلة تباعا ، سيسقط النظام البعثي السوري فالملالي الإيراني ، سيختفي حينئذ كلّ المناوئين الرافضين للوجود الأمريكي في المنطقة بعد حرب الخليج الثانية ، حينئذ لن يكون أصدقائنا في إسرائيل بحاجة إلى ميزانيات عسكرية ضخمة تُثقل كاهلنا ، حينئذ ستكون مصادر الطاقة تحت أرجلنا و عندها لن تُزعجنا تفاهات بوتين الاستعراضية ، لن تجرئ الصين على أن تُصّور نفسها كنّد و منافس مستقبلي على الزعامة العالمية ، أمّا اليابان ألمانيا و فرنسا فستتحوّل إلى مجرد وسيلة أو لنقل بتعبير أكثر تهذيبا سوقا محترما لتجارتنا و خيطا من خيوط الليبرالية التّي تُمكننا من ربط هذه الدول و مثيلاتها بالمركز الأمريكي على طريقة الأحذية الثقيلة في روسيا سابقا ...لكن ؟ ...ما الذّي نحن في حاجة إليه للانطلاق في مشروعنا الواعد ؟ سلطة ؟ إذن فلنستقدم بوش فهو أكثر ملائمة من آل غور ؟ ماذا بعد ؟ كيف سيتقبّل العالم فكرة اجتياح قوّاتنا لمنطقة كانت آمنة ؟ إذن نحن في حاجة إلى شرعية دولية ؟ هل ستقف الأمم المتّحدة إلى جانبنا مباركة هذا المسعى الحميد ؟ بالتأكيد لا ، فلم يقم العراق أو أي دولة مجاورة بفعل معاد ضدّنا يُمكّننا من العمل في إطار ميثاق الهيئة الأممية ...بينغووووو...نحن بحاجة إلى ذريعة كافية ، ذريعة تجعل العالم بأجمعه يقف إلى جوارنا بل و يُوّفر لنا المناخ الملائم لمساعينا التّي ستغذو في أقرب الآجال مساع حميدة ...
كلمّا تذكرت أحداث الحادي عشر من سبتمبر تذكّرت رواية بوليسية كنت قد قرأتها من قبل للكاتب الأمريكي الشهير نيلسون ديميل تحمل عنوان "عاصفة النار" ، تدور الرواية حول نادي مغلق للصيد في الو م أ يجتمع فيه مسؤولين سياسيين و عسكريين أمريكيين كبار ، يتحصّل العميل جون كوري على معلومات تفيد أنّ هذا التجمع هو، في حقيقة الأمر، أكثر من مجرد نادي مغلق للصيد ، بل هو مقّر تخطيط لعمليات سريّة تستهدف العالم الإسلامي بالأساس ، إذ يعتزم هؤلاء المتنفّذون على تفجير حقيبتين نوويتين داخل التراب الأمريكي بعد إثارة و تهيئة الرأي العام الأمريكي لتهديد "الإرهاب الإسلامي" ، تكون ذريعة كافية لإعلان الخطّة السرّية التّي اتخّذت اسمها الكودي "عاصفة النار" ، و هي خطّة أمريكية لضرب العالم الإسلامي بالنوّوي ...يدّعي نيلسون ديميل أنّ الكثير من المعلومات التّي احتوتها روايته هي حقائق قام بالتقاطها بطرقه الخاصّة... لسنا من المناصرين للفكر التآمري و لم نكن يوما كذلك ، لكن الكثير من المعطيات التّي لم تعد تخفى على أحد ، تجعلنا نؤمن إيمانا جازما أنّ للولايات المتّحدة و اللوبي الصهيوني يدا ضليعة في أحداث الحادي عشر من سبتمبر ، لسنا بصدد مناقشة أدلّة هذا الإدّعاء ، فكثير من المعطيات تجعل العقل الأكاديمي ينحو هذا المنحى قبل التأويلات الشعبية الشائعة ، إذن فهي ضرب من ضروب المقامرة و الرهان خاضه و بكلّ جرأة تياّر المحافظين الجدد ، إسقاط برجين عملاقين كذريعة لإسقاط عملاق وُصف أمدا بالعملاق النائم ، أمّا الطريقة فهي متوفرّة ، فلنستعن بأحفاد ما كنّا نسميهم في وسائل إعلامنا بالمجاهدين الشجعان ضدّ البطش السوفياتي المقيت ... لقد نجحت هذه الدوائر في استمالة مجموعة من الشباب الحانقين- من حيث لا تدري- لضرب البرجين التوأمين و مبنى البنتاغون – يا للسخرية إنّها وزارة الدفاع الأمريكية – معلنة بداية مرحلة جديدة أخذت تسمية الحرب العالمية على الإرهاب ، إذن فهو تحالف دولي ضدّ الإرهاب العالمي وجد فيه كلّ حليف ضالته في تأديب "إرهابه المحلّي" ، كما وجد فيه المحافظون الجدد ضالتهم في تجسيد أجندتهم المسطّرة بعناية إلهية ...بقية القصّة معروفة .
لقد بات مفهوم القوّة الصلبة مفهوما جوهريا في السياسة الخارجية للمحافظين الجدد بشكل جعل من الولايات المتحدة تلك الدولة العظمى ذات الأيدي الطويلة التّي بإمكانها تأديب كلّ من تُطوع له نفسه تحدّي مواقفها أو الوقوف في مسار إستراتيجيتها كحجر عثر ، من المؤكد أنّ الإفراط في مفاهيم القوّة بكلّ ما يتبعها من مصطلحات الحرب الوقائية و الاستباقية ووو قد ألبس هذه الدولة رداءا من الرهبة لم يسبق فيما نعتقده أن اكتست بحلّته هذه الدولة طيلة ماضيها كدولة حديثة، الأمر الذي جعل هذه الدولة صاحبة القوة المفرطة كما وصفها وزير الخارجية الفرنسي الأسبق ، تقف على مفترق طرق حاسم ، جسده عنوان كتاب جديد لبريجينسكي –الذي نعتبره " أي بريجينسكي" كمؤشر للفشل أو النجاح الأمريكي الإستراتيجي - تحت إسم" الاختيار "إمّا الهيمنة العالمية أو القيادة العالمية ، من المؤكد أنّ لكلّ خيار تكاليفه على المدى الإستراتيجي البعيد ، كان بريجانسكي ، كما رأينا من قبل ، يرى أنّ مطمح القيادة العالمية هو المطمح الأقرب إلى العقلانية و الواقعية السياسية ، و بالتالي فإنّ الأجندة المحافظية لم تكن في نظره إلاّ أحلام يقظة صبيانية ، بإمكان أصحابها أن يُهدّدوا –عن جدّ- المكانة العالمية للولايات المتحّدة كقوة عالمية متفردة.
لا أزال أذكر جيّدا ذلك الشغف الفكري الذّي اجتاحني عندما كنت طالبا في قسم العلاقات الدولية سنة ثالثة ، حينها بدأنا نتعرف على النظريات الكبرى للعلاقات الدولية ، و كنت آنذاك شغوفا جدّا بتلك النظريات ، كنّا نحاول حينها ممارسة بعض الإسقاطات النظرية على الأحداث الدولية قديمها أو حديثها لقدرة هذه النظريات على منحنا فرصة أحسن للفهم ، حينها كانت الأحداث الدولية في أوجها ، الحرب على العراق ، مواجهات ضارية في أفغانستان ، انقسام كبير فيما بات يُعرف بالشرق الأوسط بين محور للشرّ و آخر للخير – وكأننا بصدد فلم من القرون الوسطى المظلمة حيث سادت مفاهيم الشرّ و الهرطقة ووو- ، تهديدات متصاعدة لحرب شرق أوسطية تكون في مركزها كلّ من إيران و إسرائيل ، مؤشرات مرعبة عن إمكانية تجدد النزاع في شبه القارة الكورية لاسيما بعد استعراضات الجارة الشمالية النووية ، حرب مشتعلة في القوقاز يضرب فيها الروس بقبضة من حديد ...كان المحافظون الجدد يقفون وراء كلّ أزمة أو حرب إقليمية محتملة الحدوث ...حينها ساورتني فكرة الاستعانة بتلك النظريات لفهم السلوك الأمريكي المحافظي الجديد ، لم يكن أمامي إلاّ المظور الواقعي كسبيل لتحصيل ذلك الفهم لما يُقدمه من مصطلحات تتماشى و المصطلحات التّي غزت قاموس المحافظين الجدد ، إلاّ أنّ محصلّة هذه المحاولة كانت سلبية إلى حدّ كبير ، لم تتمكن هذه النظرية من تفسير سلوك المحافظين الجدد لارتكازها على مفهوم أعتقد إلى الآن أنّه مفهوم جوهري بأتّم معنى الكلمة ، إنّه مفهوم العقلانية ، لم أكن آنذاك على دراية بالجوانب الفلسفية لهذا المفهوم لا بخصائصه و لا بتصنيفاته المعرفية ، كلّ ما كنت أعرفه ، أنّ العقلانية السياسية تعني تلك الحسابات الموازنة بين مقادير الربح و الخسارة ، و بالتالي نستطيع أن نحكم على سياسة دولة ما بأنّها سياسة عقلانية إذا انتهجت أسلوب يُحقّق لها أكبر ربح بأقلّ تكلفة ، حينها حملت قلمي محاولا تقصّي العقلانية في السلوك الخارجي " لدولة المحافظين الجدد" فلم تفلح النتيجة ، فكلّ الحسابات الإستراتيجية التّي أشّرَت إليها سياستهم الخارجية كانت بعيده كلّ البعد عن معرفتي لمفهوم العقلانية في حين أنّها بدت لي أنّها تنطلق من نفس المقدمّات التّي تنطلق منها الواقعية في شقّها الهجومي ، حينها شُلّ قلمي ، ليفتح الفرصة لعقلي للتفكير فيما بدا لي مفارقة صارخة ، حينها خطّ قلمي و بكلّ جرأة مقالا بحوالي عشر صفحات يحمل عنوانا لما بدا لي – لجهلي ، غروري أو لجرأة قلمي – نظرية جديدة في العلاقات الدولية أو لنقل بعبارة أقل تواضعا ، فكرةً جديدةً ، فقد حمل المقال العنوان التالي : الجنونية أعلى مراحل الواقعية ، المحافظون الجدد يؤسّسون لصنف جديد من الواقعية ... حينها فقط بدا لي أنّي عثرت على جواب شافي للسؤال الذّي قض مضجعي ، إلى أي مدرسة يُمكننا تصنيف سلوك دولة المحافظين الجدد الخارجي ؟ ...إذن فالواقعية الجنونية تُفسر سلوك كلّ دولة تتّخذ من المقدمات الواقعية الهجومية منطلقا لها في سلوكها الخارجي ، في غياب مراعاتها للحسابات الإستراتيجية العقلانية الرشيدة .
قبل غزو العراق ذكرني تعالي الأصوات الواقعية المعارضة للغزو داخل بعض الدوائر الأكاديمية والأمريكية بما كنت قد قرأته عن تعالي نفس الأصوات المناوئة للحرب على فيتنام ، حينها خرجت الولايات المتحدة ذليلة من حرب أنهكت ميزانيتها بشكل جعل خبراء الخزينة الأمريكية يتّخذون الإجراءات اللاّزمة لمنع خروج الذهب من الولايات المتحدة عبر اتفاقية كينغسدون الشهيرة ، ها هو التاريخ يُعيد نفسه من جديد ، مستنقعين موحلين يُغرقان العم سام إلى الأنف ، أكثر من ثلاثة تريليونات من الدولارات الأمريكية حسب التقارير الواردة أشهرها ما شهد به آلان غرينسبان رئيس البنك المركزي الأمريكي السابق ، و المتحصّل على جائزة نوبل في الاقتصاد ، في كتابه الذّي حضي بمقروئية واسعة :" عصر الإضطراب"...لم تكن حربي أفغانستان و العراق- في اعتقادي- لوحديهما سببا في المأزق الإستراتيجي الذّي حلّ بالولايات المتحدّة بفعل سياسة المحافظين الجدد الجنونية ، بل أيضا كلّ الأزمات التّي أيقظوها في مناطق حسّاسة من العالم ، كان سيُؤدي انفجارها في نظرنا إلى قلب موازين العالم ، أو بتعبير أكاديمي تحويل بنية النظام الدولي لغير صالح الولايات المتحدة بشكل مؤكّد ، أرجو ألاّ أُطالب بتقديم شرح مُطوّل لهذا الاعتقاد ، فهو لا يعدو أن يكون مجرد رؤية إستراتيجية كوّنتها نتيجة لقراءات عديدة... على كلّ حال ،فقد مضت حقبة المحافظين الجدد بكلّ الذكريات الأليمة عمّا سمُوه بالحرب العالمية على الإرهاب ، و ها هي إدارة الرئيس أوباما تخُطّ الخطى بثبات نحو البيت الأبيض .

الرئيس أوباما ، مهدي أمريكا المنتظر ، هل من فرصة ثانية ؟:
لقد ورثت إدارة الرئيس أوباما إرثا ثقيلا عن سابقتها ، تطلّب منها خطّا واضحا يعيد الولايات المتّحدة إلى مرحلة ما قبل المحافظين الجدد ، و بالتّالي إعادة الأمور إلى نصابها ، بمعنى العودة مجددا إلى إستراتيجية الستاتيكو المقدّس بعد الاستثناء الواضح الذّي انتهجته إدارة المحافظين الجدد في محاولة منهم إلى إعادة صنع العالم عبر فوّهة البندقية أو لنقُل إحداث تحويل في بنية النظام الدولي عن طريق القوّة الصلبة المفرطة ، كلّ ذلك تطلّب من الإدارة الجديدة إعادة العلاقات" الحميدة" مع العالم الإسلامي بعد القطيعة التّي تسبّب فيها "متطرفين منبوذين من كلا الجانبين" و هذا هو السياق العام الذي حمله خطاب أوباما الشهير للعالم الإسلامي من القاهرة ، كما احتّل العراق أولوية قصوى لدى الإدارة الجديدة التّي بادرت بسحب قوّاتها شيئا فشيئا ، أمّا الشرخ الواسع الذّي أحدثه المحافظون الجدد في "الشرق الأوسط" بين أنظمة معتدلة و أخرى مارقة ، فقد بادرت واشنطن إلى تصحيح مساره ما أمكن و قد بدا ذلك واضحا منذ الأيّام الأولى للرئيس أوباما في البيت الأبيض ، عبر بوّابة اسمها لبنان و التّي كانت بالفعل مؤشرا حاسما لأيّ تحوّل أو تغيير تشهده المنطقة ، انطلاقا من المصالحات الداخلية بين الفرقاء اللبنانيين وصولا إلى المبادرات الجدّية الرامية إلى إعادة العلاقات الرسمية مع الشقيقة سوريا ...على كلّ حال فلم تبقى إلاّ الأزمات الحساسّة كالملفين النوويين الإيراني والكوري الشمالي و عدم الاستقرار في باكستان النووية ، بالإضافة إلى" معضلة الإرهاب الدولي" الذّي لا تزال الولايات المتّحدة تحاول اقتلاع جذوره من المهد في جبال تورا بورا ، يبدو أنّ المشكلات النووية هي المشكلة الجدّية الفعلية بالنسبة للولايات المتحدة ، في حين كانت "معضلة الإرهاب الدولي" كأحد المخلفّات السلبية لسياسة المحافظين الجدد "الجنونية" ، لذلك فقد تطلّب من الإدارة الجديدة التخلّص منها للمضي قدما في مواجهة التحدّيات الجدّية لاسيما تلك المرتبطة بالهوس الأمريكي من الصعود الصارخ لقوى دولية أو إقليمية تهدّد المكانة الريادية للولايات المتحّدة ...إذن هذه هي فرصة الولايات المتحّدة الحاسمة للعودة مجدّدا ، أجل هي فرصة ثانية كما صوّرها بريجينسكي في كتابه الذّي حمل ذات العنوان " الفرصة الثانية " و الذّي كان بمثابة تقييم للإدارات الثلاث السابقة و قرعا لأجراس الخطر بالنسبة لإدارة أوباما محذّرا إيّاها من المزالق التّي وقع فيها السابقون ، و مبشّرا إيّاها بفرصة ثانية للعودة مجدّدا كقوّة ريادية على الساحة الدولية ، لذلك ترغب الولايات المتّحدة اليوم فعلا في طي صفحة القاعدة و الإرهاب الدولي نهائيا ، و لو اضطرت بعد الآن إلى الاسنجاد بفزّاعة الإرهاب ، سيكون ذلك تحت مسمّى محاربة فلول القاعدة ، و هذا – في نظرنا - هو السياق العام الذي جاء في إطاره مقتل زعيم تنظيم القاعدة الشيخ أسامة بن لادن ...لقد أشارت تقارير استخبارية سابقا أنّ القوّات الأمريكية وقفت أكثر من مرّة على مرمى حجر من الشيخ أسامة بن لادن ، لكنّها لم تتلّقى أوامر بقتله ، فليسأل كلّ منّا نفسه عن سبب ذلك وعن تلقيها الأوامر بقتله في هذا الوقت بالذات ؟ ...هناك متغّير آخر وددت الإشارة إلى أهميته قبل مغادرة هذا المقال ، و هو ذلك المرتبط لما أُصطلح علي تسميته بربيع الثورات العربية ، يبدو أنّ سقوط أحجار الديكتاتورية التّي تعب البيت الأبيض في تشييدها لسنوات عديدة ، كان حافزا إضافيا لحمل الإدارة الجديدة على إعادة النظر في سياساتها تجاه العالم العربي بشكل يُبعدها عن ثنائية المعتدلين المتماشين مع النهج الأمريكي و المارقين الداعمين للإرهاب المناوئين لإسرائيل و الحاضن الأمريكي ، و بقدر الأثر السلبي الذّي تسبّبت فيه بعض هذه الثورات على سياسة واشنطن الشرق أوسطية ، بقدر ما تحاول هذه الأخيرة ركوب موجة الثورة في دول بعينها بهدف إسقاط أنظمة كانت و لا تزال أنظمة معرقلة لسياستها الخارجية...
سوف تسفر هذه الثورات حتما عن اصطفافات إقليمية جديدة لا يبدو أنّها ستكون في صالح الو م أ و حليفها الإسرائيلي ، كما يبدو أنّ الولايات المتّحدة مقبلة اليوم على خسارة بعض المحاور الجيوبوليتيكية الإرتكازية في إستراتيجيتها العالمية سيجعلها تبادر إلى نقل اهتمامها من محاربة جماعات مارقة إلى محاربة أنظمة مارقة ، لكن هذه المرّة بشكل تستخدم فيه ما أمكن اصطلاحات الشرعية الدولية - كما تفعل اليوم مع النظام الليبي- بمعنى أنّها ستجد نفسها في القريب العاجل مضطرة إلى التخلّي عن نزعتها الانفرادية في مواجهة الأزمات الدولية ، لصالح النزعة الجماعية و بالتالي تقاسم الأعباء الدولية...كلّ ذلك يجعلنا نضع علامة استفهام كبيرة : إلى متى ستضلّ الولايات المتحّدة متمكنة من المحافظة على الوضع القائم ؟ و هل بإمكاننا اليوم -في ضوء المعطيات الجديدة- الحديث عن بنية جديدة لنظام دولي جديد في طور التشكّل ينسف كلّ مقولات الهيمنة ، النزعة الانفرادية و القطب الواحد ؟
بديلا عن الخاتمة :
يبدو أنّ مجرد معالجتنا لتساؤلات من هذا النوع يجعلنا نضع حدودا لآفاق الحلم الأمريكي الإمبراطوري ، ذلك الحلم الذّي جسدّته نكتة راجت مع بداية الصعود الأمريكي مع نهاية القرن التاسع عشر ... تحكي النكتة قصّة ثلاثة بحّارة أمريكيين اجتمعوا احتفالا لشرب نخب أمريكا العظمى فقال الأوّل : " هذا نخب أمريكا التّي تحدّها شمالا أمريكا البريطانية – يقصد كندا- و يحدّها جنوبا خليج المكسيك و شرقا المحيط الأطلنطي و غربا المحيط الهادي " ، فقال الثاني معارضا : " لا... هذا نخب أمريكا التّي يحدّها من الشمال القطب الشمالي و من الجنوب القطب الجنوبي و من الشرق شروق الشمس و من الغرب غروب الشمس." ، فردّ الثالث على الجميع رافعا كأسه عاليا : " لا لا لا... أقدم لكم أمريكا التّي يحدّها من الشمال الشفق القطبي الشمالي و من الجنوب اعتدال الأيّام و الفصول و من الشرق الفوضى البدائية ومن الغرب ...يوم الحساب ." ...يبدو أنّ صديقنا البحّار الثالث كان أكثر البحّارة إفراطا في الشرب ، كما يبدو أنّ جلّ العالم اليوم يرفع كأسه عاليا للاحتفال بنخب يوم الحساب ، الذّي أصبح فيما يبدو وشيكا لكن خلافا لما اعتقده صديقنا البحّار ، إذ يبدو أنّه قادم قبل أوانه... أجل يبدو أنّه قادم... لكنّه يبدو هذه المرّة قادم من جهة الشرق.

جلال خشيب ، باحث مهتم بالدراسات الدولية و الإستراتيجية ، الجيوبوليتيكا و الفلسفة السياسية ، قسم العلوم السياسية و العلاقات الدولية ، جامعة منتوري قسنطينة / الجزائر .



#جلال_خشيب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سوريا في مهب التحولات الدولية .. دراسة جيوبوليتيكية نظرية
- صعود الإسلام و روح المدنية الغربية الجديدة


المزيد.....




- شاهد ما حدث على الهواء لحظة تفريق مظاهرة مؤيدة للفلسطينيين ف ...
- احتجاجات الجامعات المؤيدة للفلسطينيين تمتد لجميع أنحاء الولا ...
- تشافي هيرنانديز يتراجع عن استقالته وسيبقى مدربًا لبرشلونة لم ...
- الفلسطينيون يواصلون البحث في المقابر الجماعية في خان يونس وا ...
- حملة تطالب نادي الأهلي المصري لمقاطعة رعاية كوكا كولا
- 3.5 مليار دولار.. ما تفاصيل الاستثمارات القطرية بالحليب الجز ...
- جموح خيول ملكية وسط لندن يؤدي لإصابة 4 أشخاص وحالة هلع بين ا ...
- الكاف يعتبر اتحاد العاصمة الجزائري خاسرا أمام نهضة بركان الم ...
- الكويت توقف منح المصريين تأشيرات العمل إلى إشعار آخر.. ما ال ...
- مهمة بلينكن في الصين ليست سهلة


المزيد.....

- الجغرافيا السياسية لإدارة بايدن / مرزوق الحلالي
- أزمة الطاقة العالمية والحرب الأوكرانية.. دراسة في سياق الصرا ... / مجدى عبد الهادى
- الاداة الاقتصادية للولايات الامتحدة تجاه افريقيا في القرن ال ... / ياسر سعد السلوم
- التّعاون وضبط النفس  من أجلِ سياسةٍ أمنيّة ألمانيّة أوروبيّة ... / حامد فضل الله
- إثيوبيا انطلاقة جديدة: سيناريوات التنمية والمصالح الأجنبية / حامد فضل الله
- دور الاتحاد الأوروبي في تحقيق التعاون الدولي والإقليمي في ظل ... / بشار سلوت
- أثر العولمة على الاقتصاد في دول العالم الثالث / الاء ناصر باكير
- اطروحة جدلية التدخل والسيادة في عصر الامن المعولم / علاء هادي الحطاب
- اطروحة التقاطع والالتقاء بين الواقعية البنيوية والهجومية الد ... / علاء هادي الحطاب
- الاستراتيجيه الاسرائيله تجاه الامن الإقليمي (دراسة نظرية تحل ... / بشير النجاب


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - السياسة والعلاقات الدولية - جلال خشيب - فلسفة الإستراتيجية الأمريكية