جعفر المظفر
الحوار المتمدن-العدد: 3810 - 2012 / 8 / 5 - 15:04
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
دولة الإسلامويين ومعاداة العلمانية
جعفر المظفر
الاعتقاد الذي يؤكد على أن العلمانية كانت وليدة تناقضات أوروبية خاصة بزمانها ومكانها ظل يحكم بعض الإقترابات منها حتى أن واحدا من أبرز رجال المؤسسة الدينية الإسلامية وهو الشيخ القرضاوي لم يتردد في تأكيد بطلان الحاجة إلى العلمانية في البلدان الإسلامية مستشهدا بواحد من أفضل المفكرين العرب وهو المغربي محمد عابد الجابري الذي تناول هذه المسألة حينما قال إن العلمانية طرحت في بعض المراحل لأسباب لم تعد قائمة اليوم.
إن الأمر إلى هذا الحد ليس فيه ما ينقصه أو ما ينتقص منه, إذ أن المناهج الفكرية هي وليدة ظروفها الزمانية والمكانية. والميل إلى نقل الفكرة من واقع إلى آخر بشكل نصي وميكانيكي غالبا ما يؤدي إلى نتائج غير مرضية.
ولنقترب بكثير من التقدير من الحقيقة التي تقول أن علاقة الدين الإسلامي تاريخيا مع المجتمعات العربية على وجه الخصوص قد غابت عنها تلك الإرهاصات التي سادت علاقة الدين المسيحي مع المجتمعات الأوروبية, لا بل أن تلك العلاقة عربيا كانت إيجابية إلى حد كبير بما ألغى الحاجة إلى صراع مناهج وحتمية إختيارات.
وسأقول أن الإسلام مع العرب كان نجح في بناء أمة مترامية الأطراف, في حين أن المسيحية لم ترتبط بالنشوء السياسي لأية أمة من الأمم الأوربية. وأن العلاقة الإيجابية هذه بين المؤسسة الدينية الإسلامية وبين المؤسسة السياسية لم تكن لتنشأ وتستمر لولا أن المسلمين حسموا أمورهم منذ البدء بأن زاوجوا ما بين المؤسستين وجعلوهما واحدة, فالرئيس الخليفة كان هو أمير المؤمنين في نفس الوقت. وحتى في الحالات التي شهدت نموا لمذاهب ومدارس قد تتناقض مع فقه أمير المؤمنين ودولته فإن هذا الأخير كان بإمكانه أن يعيدها إلى طاعة الدولة, أما الحركة العلمية والمدارس الفكرية فلم يحدث أن تطورت بالإتجاه الذي يخلق حلبة للصراع الحدي بينها وبين الدين, والأهم من ذلك أن المؤسسة الدينية لم يكن لها وجود وصلاحيات كما كانت عليه حال المؤسسة المسيحية في أوروبا.
وحينما إنهارت آخر الأمم الإسلامية وهي الإمبراطورية العثمانية فإن نشوء الدولة المدنية عربيا جاء بصيغة تلقائية وفوقية, ولم يأتي نتيجة لصراع ثقافات بالإتجاه الذي يؤسس لثقافة علمانية إجتماعية نقيضة, بحيث أن العودة إلى الفكر الإسلامي السياسي لم يجد أمامه مؤسسات حضارية حاجزة ولا ثقافة إجتماعية نقيضة.
ومن المهم أن ننظر بعين التقدير إلى حقيقة أن دخول الإنسان العربي إلى العصر الحديث قد جاء من خلال بوابة التلقي لا من خلال بوابة الابتكار والاختراع, وهذا الأمر قد يكفي لوحده لتفسير غياب حالة المجابهة التي كان مقدرا لها أن تحدث لو أن الإنسان العربي أراد كما الأوروبي الدخول إلى عصره الجديد من خلال نشاطات علمية مقدرا لها أن تصطدم بالضرورة مع العقلية الدينية وأن تخلق مساحة واسعة لنشوء ثقافات نقيضة ومعارك لا بد من حسمها لصالح طرف من الأطراف. فأنت تشتري الراديو والتلفزيون والسيارة والطائرة وتنتقل من عصر البخار إلى عصر التقنيات الألكترونية بعقلية المتلقي لا بعقلية المخترع. هذه "النقلة الناعمة" لم يكن من شأنها أن تخلق ميدانا للصراع الحاد الذي يستدعي بطبيعته تكوين ثقافات إجتماعية جديدة ونقيضة لسابقاتها.
ثم أن الحركة الإسلامية السياسية في عهد الدولة المدنية ظلت خيارا لأنها لم تنحسر بفعل ثقافة إجتماعية بديلة كانت قد جابهتها وأدت إلى قيام الدولة المدنية, وظل بإمكان هذه الحركة أن تعود الحياة لأسباب متعددة أهمها فقدان الثقافة الإجتماعية التي تدينها تاريخيا, إضافة إلى أن المجتمعات العربية المدنية ظلت في حالة تلقي وبقيت عقليتها عقلية إستيرادية وتجميعية ولم تدخل إلى عالم التصنيع والإبتكار والإختراع بما يؤدي إلى نشوء بنية إجتماعية وثقافية متماسكة, مثلما إكتسبت هذه الحركة, أي الإسلامية, مصادر قوتها وتوسعها من خلال تراجع أنظمة الدولة العسكرية وتبعيتها وطفيليتها وإنكساراتها السياسية وهزائمها الوطنية والقومية وإغراقها بالفساد الذي تسبب بتوسيع قاعدة الفقر والجهل والإحباط بما منح الحركة الإسلامية بالمقابل قدرة أن تصعد مرة أخرى على أكتاف الدولة المدنية الهزيلة, ولم يكلفها ذلك جهدا كثيرا فالساحة المصرية مثلا أوصلها المدنيون إلى حد الفاقة بحيث أصبحت الكلمة الطيبة فيها صدقة.
ولنعد إلى المقارنة التي شكلت الخلفية الداعمة لنظرية الجابري وسنوافقه حتما حينما أكد على أن الظروف التي استدعت نشوء العلمانية في أوروبا لم تعد قائمة ونزيد عليها هنا ما ينبه إلى حقيقة أن العلمانية في أوروبا قد جاءت تعبيرا عن انتصارها في معركتها ضد المؤسسة الدينية, في حين أن المعركة هنا جاءت بالمقلوب معبرة عن انتصار الحركة الإسلاموية على فكر الدولة المدنية, لكن علينا أن نعطي كثيرا من الاهتمام إلى حقيقة تقول أن الحركة العلمانية في أوروبا خرجت منتصرة وبيدها سلاح العلم والنهضة والحرية والإبداع والاختراع والابتكار في حين أن الحركة الإسلاموية تخرج منتصرة وليس بيدها سوى سلاح العودة إلى أفكار لا يمكن لها أن تتعامل مع الحد الأدنى من الأزمة الاقتصادية والتنموية والثقافية واحتياجات الالتحاق بعالم اليوم, فإذا ماكانت هذه الحركة قد حققت توسعها الاجتماعي فلأنها كانت تتعامل مع الحد الأدنى من الاحتياجات " مركز صحي, فرن صمون, مدرسة ابتدائية " وتغلفها بشعارات العودة إلى الماضي التليد " دولة الخلافة الإسلامية لملأ الفراغ الذي لم تستطع قوى الحاضر على ملئه ".. أي أن لدينا الآن فوز خسائري وليس إنتصار حقيقي يتجاوز لحظة الإنتصار بقياساته الفنية إلى مستقبل الإنتصار بقياساته التاريخية.
ومرة ثانية أقول أنا مع الجابري في قوله, لكني ساسمح لنفسي أن أتعامل مع روح نظريته بشكل معكوس: إذا كانت العلمانية قد ولدت من رحم زمانها ومكانها الأوروبي فمعنى ذلك أن النقيض الإسلامي لها هو أيضا بحاجة الآن إلى أن يكون له زمانه ومكانه الذي يساعده على البقاء والإستمرار والنجاح كبديل للفكر العلماني الليبرالي. وإن كان مقدرا أن لا تنجح العلمانية عربيا وإسلاميا على رأي الشيخ القرضاوي لأن نجاحها أوروبيا كان مرتبطا بظرفها فهل يعني ذلك أن الأسلاموية ستجد زمانها في الحاضر بما يمنحها قدرة النجاح الذي حققته في الماضي.
إن ذلك ممكنا له أن يحدث لو أعيد تشكيل الزمان الجديد بمثل ما كان تشكل عليه.
لقد نجحت العلمانية الأوربية بزمانها الأوروبي وكذلك فعلت الدولة الإسلامية حينها.
أما الآن فإن زمان العلمانية الأوروبية ما زال مستمرا بنجاحات مشهودة.
أما زمان الدولة الإسلامية فقد نجح في حينه.
#جعفر_المظفر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟