أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - إيمار محمد سلوم - الموتى الذين لا يموتون...















المزيد.....

الموتى الذين لا يموتون...


إيمار محمد سلوم
(Imar Salloum)


الحوار المتمدن-العدد: 3807 - 2012 / 8 / 2 - 19:06
المحور: الادب والفن
    


الموتى الذينَ لا يموتون...

1
ننتظرُ، نحنُ الهامشيونَ دوماً، أن يتذكرنا أولئكَ الذينَ يحفرونَ قبورنا بألسنتهم، أن ينتبهوا إلى أننا نحنُ الذينَ نموتُ آخراً، نحنُ الذينَ ننحَلُّ في ترابِ الوطنِ وتنهشنا ديدانُ العدم.
*
تمرُّ الأيامُ خفيفةً لا تثقلها تلك الجثث وصرخات الجرحى والمشوهين وحشرجاتُ المحتضرين وكأنها الآن فقط بدأت انتفاضةُ السوريين وكأنها البارحة فقط انتهت!...
**
أسيرُ في شوارع جبلةَ، ضجيجُ تدافعٌ ازدحام... المركباتُ الحديثةُ والمحالُ الفارهة وتاريخٌ أسودٌ يرتدي القرنَ الحادي والعشرين ويبيعُ خضار وفواكه على بسطةٍ خشبية، غير عابئٍ بالأزمة الاقتصادية التي تمرُّ بها البلاد!...
الناسُ ها هنا... ما يزالونَ قابعينَ في أحضانِ المجازر، يرددون صلواتهم على أرواحِ الموتى الذينَ لا يموتون!... وجوهٌ ترابيةٌ وأحلامٌ عاتية... دائماً ما أراها تتناثرُ على جوانب الطرقاتِ وأغصان الأشجارِ والعشب، مسفيةً لا شكلَ لها!...
***
أمشي وأمامي أفقٌ ورديٌّ، والطريقُ حيرةٌ لا تنتهي، الأشجارُ قبورٌ وارفةٌ، والأزهارُ هشةٌ وطريةٌ كغدي الذي لا ألتقيه، حيويةً وجامحةً كيومي الذي أحياه بأصغر تفاصيله وأكبرها.
أمشي، الماءُ في الغيمِ رزينٌ ينتقي لحظاتي الأكثرَ عطشاً ويهطلُ عليها، كأنه يشعرُ بي، كأنه يحبني. أصواتُ الطيورِ تبدو وكأنها تخرج من حنجرةِ الجبلِ، أحياناً أشعر أنه يغني لي، لأنني أنظرُ إليه بإجلال!...
****
إنه نهار طويل، الشمس تلطخ المكانَ برذاذ سعالها المزمن، الله ورقةٌ تسَّاقطُ ولا مكان لها على هذه الأرض المجنونة، وذاك الفقيد الذي يُعرَفُ بـ "أنا" لم يُتَح له أن يلتقي بالضياعِ، ليكون هوَ هوَ أو كي لا يكون؛ غير مهم فالشمس الآن تحتضرُ وهذه الأرض غافلةٌ جداً.
*****
يعيثُ بيَ الفقدُ فساداً، والجنون رائحة تفوح من أنفاس "العقلاء"، رائحةُ خرابٍ ودمار، تراني أغلقُ أنفي وأنا أمرُّ بهم، يا ليتهم يصمتون، يكاد اللاعقلُ أن يكونَ العقلَ في هذه الرؤوسِ الجافة!...
******
وفي "بيت عانا":
تجرفني الأمطارُ... تدهدهني فوق الترابِ والحجارةِ وأعوادٍ يابسةٍ كحقي في الحياة... تجرفني الأمطارُ، أرتطمُ بنرجسةٍ تكسرُ يدي!... إلهي، كم أنا هشٌّ وطري...
شجرة الجوز الهرمة، نبعٌ، نزيفُ الحياة من جسدٍ أخضر. أمي سنديانة عتيقة؛ أحياناً كان الإله يستعملها لتنظيف أذنيه المليئتين بالخرس، حين يرى الأفواه تتحرك ولا يسمع شيئاً!... أزهارٌ صفراء وبنفسجية وبيضاء، جداجدٌ ونحلٌ ونملٌ، وووو. السماء فتاةٌ في العشرين تسرِّح غيمها السابل وتتمرأى في وجهي، صدقوني كدت ألا أجدني.

رأيت الخوف والفقر والجهل والجوع والموت؛ كل هذا كان يرتدي ربيع القرية الغافية في أحضان مجزرة يسمونها التاريخ... كل هذا رأيته أحمراً وأصفراً، أبيضاً وبنفسجياً وأزرقاً... عطراً فواحاً... كل هذا كان يانعاً مليئاً بالحياة عكس البشر الميتين!!! حينها، صدقوني كدت ألا أجد نفسي.

2
ليس بوسع الإنسان إلا أن ينسحب قليلاً عن الجميع - عنكم - وعن ذاته (أناه) المريضة بكم، المليئة بصراخكم وأحلامكم وآمالكم وطموحاتكم ولذّاتكم... ليس بالوسع سوى الوقوف بعيداً... ألا ترون من حولكم كيف أن الجميع يصرخون (السياسي، المعارض والموالي، الثائر والخائن والأديب والمتدين ورجل الشارع والجندي "القائد") ألا ترون كيف أن لا أحد يحاول ولو للحظة أن يسمع أحداً - حتى أصواتهم لا يسمعونها - ولذا لا بد من موقف بعيد عن الزيف والوهم... يريد الجميع برهانا لرأيهم، ولو كان هذا البرهان جثة أحدهم... ولو كان صراخه، موت ابنه، زوجه، أحد أقربائه... ليس بالوسع إلا الانفصال عنكم، بعيداً جداً...
اخرجْ من الوهم قليلاً وانظرْ كم أنت مستهلك بكل شيء... حاول ألا تكون برهان أحدهم... لا شيء أغلى من العيش والحياة (لا الله ولا الوطن ولا شيء - أنت الأغلى والأهم) وإذا لم تفهم ذلك بنفسك، ستكون وتبقى مجرد إثباتٍ وبرهان لرأي أحدهم وقضيته.

3
الصمتُ هو أكثر الغرباء الذين نخشاهم. ولأننا نخشى الصمت نتقنع دوماً بكبرياء زجاجي سريع التهشم والتحطم. ولأننا نخشى الصمت ترانا نتكلم كثيراً كثيراً حتى في نومنا، وترانا نملأ ذواتنا بكل شيء (بالآخرين وترهاتهم وأفكارهم وأسرارهم، بالأرباب والمثاليات والأفكار، بالحروب والشهداء والقتلة، بنا، بمخاوفنا وأحلامنا وآمالنا.... إلخ) ولأننا نخشى الصمتَ ترانا نخشى أن تمتلئ ولأن لدينا قناعة مطلقة بأنها لن تمتلئ بتنا نقدس التخمة والفائض. ألهذه الدرجة نحن مخيفون، حتى أننا لا نقوى على رؤية أنفسنا. أولأجل ذلك تكون مساوئنا اتهامات جاهزة للآخرين لا نمل نحاربهم بها. أمن أجل هذا ترانا نحمل أنواتنا صلباناً ونكرز في الزيف والوهم. ألهذا ترانا نعبد ذواتنا. من نحن؟ أترانا حقاً نعيش في هذا العالم الملوّث بنا وبهمومنا وادعاءاتنا وغبائنا. ألأننا أمواتٌ لهذه الدرجة ترانا نخاف من الموت؟!

أسئلة وأسئلة وأسئلة..... لا تبحث عن جواب.... فقط انظر إلى نفسك، إليك!!!!

4
يجب عليك أن تخرج من الصراع، من كل ما يريدون أن يقحموك به. مؤيد أو معارض أو محايد، كل هذا كلام، الخوف والموت هما الذان يسيطران الآن.
أصبح الصراع أكبر من مما يريده أي سوري، وبالطبع حين تُخرج نفسك من الصراع فهذا لا يعني أنك غير مبال. لا، العكس هو الصحيح، ولكن الإيمان أن التغيير يبدأ من المرء ذاته، هو المطلوب الآن. والتغيير ليس تعديل الموجود أو التكيف معه؛ التغيير نسفٌ. انسلاخٌ من كل ما زرعوه داخلنا، رفض كل شيء جاهز، رفض قيمهم وأخلاقهم ومخاوفهم وطموحاتهم... لأن كل هذا هو الخدعة التي يجرونك بها إلى مصيدتهم. الكل يريدون أن تشبههم، تراهم يتحدثون كثيرا عن الحوار والآخر والقبول. أتراه يحاور ذاته قبل أن يحاور الآخر؟ أتراه يقبلها ويفهمها؟...

5
العنف يزداد ويزداد باضطراد، الكلّ قد جهزوا حججهم ومبرراتهم لقتل الآخر. لم يعد مهما حقا في أي صف تكون، لم يعد مهماً ما تعتقد أو ما تؤمن به، لقد تم وضع اللصاقة على جبينك وانتهى الأمر: علوي، سني، درزي، شبيح، متظاهر، موالي، معارض ...إلخ. سوف تتكلم كثيراً ولن يسمعك أحد لأن الجميع الآن صمٌّ بكمٌ عميٌ، كلٌّ إصبعه على زناده بانتظار فريسة ترضي غريزة القتل داخله. لقد انتهيت، صُفيتَ، تمت فهرستك تحت اسمٍ أو طائفة أو انتماء أو عقيدة؛ ذاك الإنسان داخلك لا يمكنهم رؤيته إلا كأرنب أو جرذ أو دريئة صدئة ولا يستطيعون إلا أن يطلقوا النار عليه.

6
سرب حمام صغير يحمل الهواء بمناقيره الصغيرة كيلا يسقط الموت بعنفٍ أكبر على الأرض المستباحة بأبنائها. صوت مطرقة يدوي في الأرجاء، أظنها إطلاق رصاص من الحاجز العسكري القريب من البيت. أطفال يشاكسون شمساً خجلى تجدل الغيمَ المجعد. ملايين الأنفاس تتصادم في المكان، حتى وهم ساكنون تراهم يتنازعون!...
هذا السرب يحوك فضاء لعينيه المتسختين، يبدأ بالنسيان، يتلاشى، يخف وزنه، تصير الجاذبية لشيء آخر غيره. لكن المكان كان أقوى، وحضوره طاغ أكثر من الغياب.
الحاسب، الموبايل، الكتاب، الأقلام، الدفاتر، الأوراق؛ لكل شيء صوته الخاص. كان يريد أن يصغي لشيء آخر. للصمت المتواري خلف كل صوت وحركة وفكرة. وراء كل شيء. لم يستطع أن يرى شيئا سوى أسوار أناه (حزنه، خوفه، أمله، غربته، أحلامه، آلامه...)، لم يقو حينها على رؤية شيء آخر غيرها. كان الصمت رابضاً خلف عينيه وفي أذنيه ولسانه وجلده ومساماته. إلا أنه كان يبحث عنه خارجاً.

7
الجميع خائفون من الجميع، ولأن الخوف بحد ذاته أكبر تبرير للعنف، كل العنف الحادث، يحصل تحت شرعية مطلقة. الانتقام، والحقد، والكراهية، والتعصب الأعمى والإنغلاق أكثر فأكثر والتقوقع والانكماش من الإنسانية الغائبة منذ البداية إلى الوطن ومن ثم الدين ومن ثم المذهب ومن ثم العشيرة وصولاً إلى العائلة وانتهاء بـ "الأنا". كل الذي يحصل مبرر فلا نستغرب لماذا كل هذا العنف.
كيف لا نتوقع أو كيف نتفاجأ بما يحدث الآن؟ ليس ما يحدث هو الغريب وإنما مواقفنا تجاهه هي الغريبة، لأن النفاق ينهشنا نهشاً؛ أصلاً، لم يبق منا شيء ينهشه وها هو يلتهم الأرض بكاملها. لأننا جزء لا يتجزأ مما يحدث، ولأنه الانعكاس الطبيعي لداخلنا الموبوء بكل أنواع الأفكار والمعتقدات والانتماءات والأوطان والتحيزات، لأننا خليط بارع الصنع من كل هذا، لذلك ما يحدث هو الطبيعي. الحقيقة أننا أعمارٌ، حصيلة سنين، مجموع أيام ولذلك نحن موتى ونشجب الموت، قتلى ونستنكر القتل، ونحن ما لسنا نحن ونفاجأ دوما بما نحن. نحن ماضٍ سحيق يقتل الحاضر والمستقبل...

7
ما هذه الجراحُ التي تلتهمنا!... ما هذا الوطنُ الذي يرشُ الملحَ عليها كأرزِّ الانتصار!...
**
الرحمة لكلِّ الذينَ سقطوا الآنَ وسابقاً باسمِ الوطن والحرية والدين والطائفية والعصبية... الرحمة للجميع، لا يمكنُ تقسيمُ الرحمةِ كرغيفِ الخبز، لا بدَّ - لنكونَ أهلاً لها - من الترحمِ على الجميع، وأولاً لأولئكَ الذينَ ما زالوا يقتلون... لأنهم موتى وهم أحياء...
***
لا بُدَّ من الابتعادِ عنكم قليلاً أو كثيراً، لا بدَّ من الابتعاد
أخشى أنني أفقدني وأفقدكم، أخشى أنني لم أعد أعرفُ متى أتكلمُ ومتى أصمتُ! أحسُّ أنني أغتربُ أكثرَ وأفقدني وأفقدكم!...
****
أسمعُ رشقاتِ الرصاصِ، دويَّ انفجارٍ، أحنُّ...
أسمعُ تغريدَ عصفورٍ، مواءَ قطٍّ جائع... أشعرُ بالغربة!...



#إيمار_محمد_سلوم (هاشتاغ)       Imar_Salloum#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- لا مكانَ لك
- لا تكن من الباقين...
- هادس
- هكذا علمتني العصافيرُ كيفَ أكونُ من أنا!!!
- بِرْسَاتِن أو ما يدعونه -الوطن-!...
- إني أراكم تقتلوننا غداً...
- بقايا خوفٍ... بقايا أمل...
- نثرات
- محبتي ليست للبيع


المزيد.....




- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...
- رسميًا.. جدول امتحانات الدبلومات الفنية 2024 لجميع التخصصات ...
- بعد إصابتها بمرض عصبي نادر.. سيلين ديون: لا أعرف متى سأعود إ ...
- مصر.. الفنان أحمد عبد العزيز يفاجئ شابا بعد فيديو مثير للجدل ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - إيمار محمد سلوم - الموتى الذين لا يموتون...