أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - بيرم ناجي - الاسلام و علوم الاجتماع : محاولة في الدفاع عن العلم ضد -المنظور الثقافي الاسلامي- عند الدكتور محمود الذوادي (4)















المزيد.....



الاسلام و علوم الاجتماع : محاولة في الدفاع عن العلم ضد -المنظور الثقافي الاسلامي- عند الدكتور محمود الذوادي (4)


بيرم ناجي

الحوار المتمدن-العدد: 3801 - 2012 / 7 / 27 - 23:57
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


الفصل الرابع : في الاخبار عن العبر غير العلمية من "عقل صاحب المبتدا و الخبر"



نشر الدكتور في مجلة " المستقبل العربي" دراسة عنونها " تجليات العبر في عقل صاحب " المبتدأ والخبر" ( م53) يمكن اعتبارها تلخيصا جيدا لأهم ما يريد الدكتور الوصول إليه في " علم الاجتماع الإسلامي" من عبر " إسلامية" مستوحاة من علم العمران الخلدوني.
إن أهمّ عبرة وصل إليها حسب رأينا هي: " اقطع الرأس تنشف العروق" (ص123) سواء في علاقة بعلم العمران الخلد وني أ و خاصة بعلم الاجتماع الحديث والعلوم عموما.

إننا نعتقد، كما ذكرنا سابقا، أن الدكتور يتراجع حتى عن علم العمران الخلدوني، رغم تقاطعه معه في ما يسمى الربط بين النقل والعقل ، فنحن لا نقول إن ابن خلدون قدّم علما خرج عن التصور الإسلامي المحافظ، لكن المقارنة بين ابن خلدون وسوسيولوجيا الدكتور الذوادي تعطينا على الأقل الفروق التالية، والتي هي في صالح ابن خلدون ( وضد الدكتور الذوادي) إذا أخذنا علم الأول في ظروفه التاريخية والمعرفية.

- بينما يعتبر ابن خلدون الإنسان مدنيا بالطبع والاجتماع الإنساني ضروريا يرى الدكتور محمود الذوادي أنه من الضروري " تجاوز" هذه الفكرة واعتبار الإنسان " رموز يا ثقافيا" بالطبع. وقد رأينا أن هذه النزعة الرموزية عند الدكتور الذوادي نزعة ثقافوية. كما أن احتفاظ الدكتور بفكرة " الطبيعة البشرية" الآن، في القرن الواحد والعشرين، أمر مستهجن إذا ما قورن بالتصور الفلسفي العمراني عند ابن خلدون منذ ستة قرون.

- يعتبر ابن خلدون الاجتماع الإنساني مركّبا من مظاهر عديدة من الاقتصاد والقرابة والسياسة والفكر.. وهو يعتبر تحصيل المعاش مظهرا مهما في العمران، وفي المقابل يعتقد الدكتور الذوادي أن " الرموز الثقافية" هي " العنصر الحاسم".

- يعتبر ابن خلدون عناصر الاجتماع وحدة بين الكسب الإنساني والخلق الإلهي على الطريقة الأشعرية بينما يبالغ الدكتور الذوادي في اعتبار الإنسان مجرّد واسطة بين الله والمجتمع ويعتبر الدماغ مجرّد وعاء أو حاضنة... رغم حديثه عن الحرية أحيانا.

- يدرس ابن خلدون العمران البشري في علاقة بين القبيلة و العصبية والدولة... بينما يكتفي الدكتور الذوادي بمفهوم الأمة العربية الإسلامية و"الثقافة الإسلامية- العربية" ويربطهما بالعصبية الثقافية..
- يدرس ابن خلدون الصراع بين القبائل والعصبيات والدول بينما يرّكز الدكتور على وحدة الأمة ووحدة الثقافة ويكتفي بصراع خارجي هو " صراع الثقافات".

- يحلل ابن خلدون العمران تاريخيا، رغم النموذج الدائري- العضوي الذي يستعمله- بينما يركز الدكتور الذوادي على عناصر الأزلية والخلود في الرموز الثقافية وعند الأمة الإسلامية...

إن الاختلافات الجوهرية بين علم العمران الخلدوني و"علم اجتماع ميتافيزيقا الرموز الثقافية" عند الدكتور الذوادي عديدة وليس هدفنا الآن المقارنة المفصلة بين الرجلين. الذي يهم الآن هو الانتباه للاستغلال والتوظيف " الميتافيزيقيين" الذين يمارسهما الدكتور على ابن خلدون في هذه الدراسة الحالية

:
1: حول مسألتي" الوحدة آلابستمولوجية" و " العقل والنقل":


يذكّر الدكتور قراءه مرة أخرى بإمانويل فالرشتاين وحديثه عن الوحدة الابستمولوجية بين العلوم الطبيعية وعلوم الإنسان والاجتماع، لكن هذه المرة، يعترف الدكتور أن الطريقة التي حاول بها هو تحقيق هذه الوحدة، وهي القول بأن الله خالق كل شيء (وهي انطولوجيا وليست ابستمولوجيا كما رأينا سابقا)، لن تقنع فالرشتاين بالتأكيد.
قال: " كما أن الوحدة الابستمولوجية لتلك العلوم تأتي من الفكرة الرئيسية القرآنية المتمثلة في وجود إله واحد هو الخالق الوحيد لكل ظواهر الكون والعالم التي تدرسها ثقافتا تلك العلوم" (ص 113).

ثم اعترف قائلا: " لكن، نظرا إلى التكوين التعليمي والفكري الحديث لفالرشتاين ، فإنه من الصعب جدا عليه أن يقبل بسهولة صدقية رصيد معرفة الوحي الذي يتبنّاه ابن خلدون كجزء من معرفة العقل المسلم الذي يجمع بين النقل و العقل، إذ إن قبول فالرشتاين ذلك يتناقض مع عرف أخلاقيات العلم الحديث الذي يلتزم به العقل الغربي المعاصر في اكتساب المعرفة وإنتاجها"( ص115).
وفعلا، فإن الالتزام بالعلم الحديث، في الغرب، أو الشرق و في الشمال أو الجنوب، يفرض عدم الالتزام بما يعتقده الدكتور " وحدة ابستمولوجية".

إن دعوة الدكتور إلى اعتبار الله خالق كل شيء، هي دعوة دينية و أونطولوجية ( مبحث الوجود الأول) وليست أبدا ابستمولوجية . إنه بالإمكان الاتفاق مع الدكتور حول فكرة الله الخالق لكل شيء، ومع ذلك الاختلاف معه " ا بستمولوجيا". كما أنه بالإمكان الاختلاف معه دينيا والاتفاق معه " ابستمولوجيا".
إن العلماء الذين يؤمنون بالله، حتى لو كانوا كلهم مسلمين، قد يختلفون مع ذلك ابستمولوجيا والعكس صحيح أيضا فهناك علماء مسيحيون ومسلمون يتفقون ابستمولوجيا.
كما أن ما يعتقده " توحيدا ابستمولوجيا" لا يعني فعليا إمكانية الاتفاق على أهمية " النفخة الإلهية الأولى الأساسية" ولا على " علم ميتافيزيقيا الرموز" ولا غيرها من النقاط.
إن للدكتور تصورا خاصا عن الإسلام قد يختلف فيه معه مسلمون كثيرون حتى لو كانوا يعتقدون مثله أن " الله هو خالق كل شيء" ناهيك عن المسيحيين واليهود وغيرهم، الذين يعتقدون مثل الدكتور أن الله هو خالق كل شيء دون أن يتوجه لهم الدكتور " بتوحيده الابستمولوجي"، إذ يبدو أن مشروعه هو دعوتهم إلى الإسلام وليس إلى المشاركة في تطوير العلم.

إن أصل المشكل مع الدكتور، في هذه النقطة، هو عدم تفريقه تماما بين مبحث وجود الله في الدين، الذي قد يتناغم مع مبحث الوجود في الفلسفات الإيمانية، وبين مبحث المعرفة في العلم الذي يتمحور حول علاقة المعرفة والذات العارفة بمواضيع ومناهج وأهداف المعرفة البشرية. و رغم أن المبحثين لا ينفصلان غالبا، إلا أنه من المهم جدا التمييز الإجرائي بينهما إذ أن عدم الانفصال لا يعني مطلقا المماهاة بين الأمرين.

• حول العقل والنقل:

المظهر الثاني لما سمّاه " الوحدة الابستمولوجية" هو الدعوة إلى المراوحة بين " العقل والنقل" داخل إطار البحث العلمي نفسه.
إن عالم الاجتماع، والإنسان عموما، حر في اعتقاده الديني وفي ممارسة تدينه فرديا أو جماعيا و في تغيير معتقده كما ينص على ذلك الميثاق العالمي لحقوق الإنسان، هذا على المستوى الاجتماعي – السياسي العام. أما داخل الحقل العلمي فنعتقد أنه، مع الاعتراف بحرية المعتقد، يفضل الفصل الإجرائي بين البحث العلمي والمعتقد الديني لتحقيق الحياد العلمي المطلوب في الموضوعية العلمية.
إن الدعوة إلى الوحدة بين العقل والنقل، داخل العمل العلمي نفسه، تعني أن العمل العلمي لن يعود عملا عقليا. ونعتقد أن العقلانية العلمية تفترض بالتحديد تصوّر البحث العلمي كنشاط عقلي بامتياز.
أما إذا دعونا إلى المزج بين العقل والنقل، حتى داخل العمل العلمي، فإننا نعتقد أنه بذلك يفقد العلم خصوصيته العلمية المتحولة والنسبية والمفتوحة ليلتحق بالمعتقد الديني اليقيني المائل إلى الثبات و الاطلاقية و الانغلاق.

إن هذا المزج لا يضر فقط بالعلم وإنما قد يضرّ بالدين أيضا، ففي أحسن الحالات سوف نعطي تفسيرا هجينا، كأن نقول مثلا أن المستوى الحالي من البحث العلمي اكتشف أخيرا الحقيقة اليقينية الدينية وبالتالي، فإننا نجمّد الاجتهاد الديني من ناحية ونحنط العلم في مرحلته الحالية " المتطابقة" مع اليقين الديني.

إن الفكرة القائلة بأن " العقل المسلم" له " قدرة فكرية هائلة" لأنه يجمع " بين معرفتي النقل و العقل" (ص115) هي فكرة خطيرة جدا على العقل العلمي الذي يصبح مدعوّا إلى أن يحتوي على العقل ونقيضه في نفس الوقت، ليس داخل " العقل الاجتماعي العام" بل تحديدا داخل بنية العقل العلمي نفسها.
إن أكبر دليل على ما نقول هو ما سيأتي من نقاط عد الدكتور الذوادي الذي يعتبر أن الجمع بين العقل و النقل هو " الخط الفاصل بين علم الاجتماع الخلدوني الشرقي" وعلم الاجتماع الغربي المعاصر" (ص115).
كما أن ربط المزاوجة بين العقل والنقل بعلم الاجتماع " الشرقي" تدعو إلى الاستغراب، إذ يبدو أن الدكتور يتجاهل أنه حتى في "علم الاجتماع الغربي المعاصر" هنالك تيارات ما يسمى "بعلم الاجتماع المسيحي"، خاصة داخل ما يسمى " علم الاجتماع الديني"، بل هنالك تيارات أصولية دينية، تدعو هي الأخرى للمراوحة بين " العقل" و"النقل" المسيحي، حتى داخل العلوم الطبيعية، وفي السنوات الأخيرة مثلا، هنالك هجمة كبيرة على الداروينية حتى داخل الساحة العلمية، وهي في الحقيقة ساحة شبه- علمية، مثلا في الولايات المتحدة، مع صعود اليمين الأصولي المسيحي.
هذا طبعا إذا اقتصرنا الأمر على "الغرب المسيحي" ويمكن طبعا توسيع مجال البحث حول " علم الاجتماع الشرقي" الهندي أو الإفريقي...

2: حول مفهوم العقل:

من مصائب "علم الاجتماع الشرقي" هذا أنه من ناحية أولى يحوّل الابستمولوجيا إلى أصولية أنطولوجية وثانيا أنه يدمّر مفهوم العقل تماما.
يقول الدكتور: " من وجهة النظر الابستمولوجية الإسلامية، ليس هناك مجال للتوتر والصراع بين قطبي النقل والعقل في التفكير الإسلامي، إذ إن أصل المعرفتين العقلية و النقلية هو أصل واحد، ألا وهو الله" (ص 155).
ماذا يعني هذا الأمر؟
هل يعني مثلا أن كلا من القرآن وكتب الدكتور أصلها واحد وهو الله؟ إذن، "علم الاجتماع الإسلامي" عند الدكتور، ليس من إنتاج الدكتور وعقله البشري، بل هو من أصل إلا هي وما الدكتور وعقله إلا وسائط سخّرها الله لنا نحن العرب حتى نعرف الإنسان والمجتمع.

إذن، أي نقد " لعلم الاجتماع الإسلامي" عند الدكتور، من أرضية "غير شرقية" "ابستمولوجيا" هو كفر على ما يبدو! هذا ما قد توصلنا إليه " ابستمولوجيا "الدكتور الإسلامية مع الأسف .

قد يعتقد البعض أن هذا الاستنتاج مبالغ فيه وهو لا يعكس فعليا تصورات الدكتور. لكن، لنقرأ ما يلي:

" ويبرز ابن خلدون بشفافية طبيعة العقل المسلم العالم الذي لا يستند فقط إلى العقل والنقل في إرساء أسس المعرفة، وإنما هو يؤمن أيضا بالتدخل الإلهي في الهداية إلى اكتشاف علمه الجديد" (ص114) وليت الدكتور الذوادي يتوقف عند جدل الهداية/ الاكتشاف أو الكسب الأشعري عند ابن خلدون. إنه يتجاوز ذلك ليقول لنا: " ومن ثمّ يمكن اعتبار، بكل مشروعية، العقل المسلم المكان الذي تلتقي فيه معرفة الوحي/ النقل من جهة، ونظيرتها العقلية من جهة أخرى. إن الفقيه/ العالم الشهير أحمد بن تيمية هو أكثر العلماء المسلمين دفاعا عن مشروعية الجمع بين العقل و النقل في الثقافة الإسلامية " (ص116).

إذن، العقل المسلم مكان ( "حاضنة " كما رأينا سابقا بالنسبة للدماغ ) تلتقي فيه المعرفتان النقلية والعقلية اللتان لهما أصل واحد هو الله.
العقل إذن، حسب الدكتور، ليس ملكة ذهنية بشرية ( حسب التعبير الخلدوني) يكتسب بها الإنسان العلوم مثلا.. بل هو مكان، وهو لا ينتج المعرفة العقلية، على ما يبدو، بل مجرد حاوية لها، مجرد حاضنة لمعرفة أصلها إلهي.
ما الفرق بين الرسول و الدكتور محمود الذوادي حسب هذا المنظور؟

يبدو أن " المنظور الإسلامي" عند الدكتور قد يوصل إلى عكس ما يريده هو بالذات، و عكس ما جاهد الغزالي وابن تيمية لرفضه، حول العلاقة بين "العلماء و الرسل"، فإذا كان الرسول يتلقى مباشرة الوحي من الله عبر جبريل، فإن الدكتور، كعالم اجتماع، له " فضل أكبر"، فمعرفته أصلها إلهي، لأنه تعب ودرس لتحصيلها ونشرها بمجهوده البشري.
وإذا كان "عالم اجتماع " في القرن الواحد والعشرين يتخذ من الشيخ الفقيه ابن تيمية نموذجا معرفيا له، وهو من المسؤولين عن تهديم المذهب الأشعري( القائل بثنائية الخلق و الكسب ) نفسه و عن تحنيط الاجتهاد في الإسلام التاريخي، فإن علم الاجتماع العربي المعاصر سوف يحقق فعلا "تأصيلا" عظيما" في صلب مرجعيته الثقافية !

مع الأسف، إن "الإلهام الإلهي" للدكتور قد يوصلنا إلى مصائب دينية وسوسيولوجية في نفس الوقت خاصة وأننا سوف نعجز عن تفسير ذلك الإلهام الذي ارتبط عند الدكتور "بمرحلة الإضاءة" (Illumination) التي " يعترف العلم الحديث" بأن... فهمها لا يزال "محفوفا بالغموض كما كان الأمر عند الإغريق الذين كانوا يظنون أن أحداثها تجري خارج العقل، أي إن جذورها ميتافيزيقية في الأساس " (ص129).
ماذا بقي لعالم اجتماع المعرفة أن يفعله في هذه الحالة؟
بل وماذا يمكن لكل العلوم أن تفعله لتفسير وفهم المعرفة طالما أنها ترتبط بمرحلة (الإضاءة) ميتافيزيقية تقع خارج المجتمع وخارج العقل في نفس الوقت؟
يبدو أن ما يبقى هو قول الغزالي: " نور قذفه الله في صدري"
ولكن، هل كان هذا فعلا هو ما يعتقده كل الإغريق"؟
يبدو أن ما يهم الدكتور من الفكر اليوناني هو فقط الجانب " الميتافيزيقي"، أما عقلانية اليونان، أو عقلانية الفكر العربي الرشدي مثلا، فلا أثر لهما عنده.
كما يبدو أن "الإلهام الإلهي" لم يتدخل في مجال علم الاجتماع العربي إلا في مناسبتين تاريخيتين، الأولى عند إلهام ابن خلدون، والثانية عند إلهام الدكتور محمود الذوادي نفسه.
لذلك، ما علينا إلا أن نسير وراء الدكتور الواعي بأن " العقل العمراني الخلدوني طليعة لحركة إسلامية المعرفة المنادى لها اليوم في بعض المجتمعات الإسلامية" (ص128).

هكذا إذن، بالتوازي مع النظريات السياسية الداعية إلى نظام سياسي أصولي يكاد يصل إلى مرتبة " الحكم بحق إلهي" أحيانا، يعرض علينا الدكتور نظرية سوسيولوجية مستندة إلى التدخل الإلهي تعترف بأن عقل صاحبها ما هو إلا "مكان" و " حاضنة" لعلم اجتماع إسلامي له نفس الأصل الإلهي مع القرآن والحديث النبوي الذين يشكلان " المعرفة النقلية".
ماذا يبقى لعلم الاجتماع العربي في هذه الحالة أن يفعل ؟
على الأرجح ما علينا إلا الإذعان والطاعة !
لكن، يبقى سؤال أخير في هذه النقطة.
لماذا لا يمكن الجمع بين العقل و النقل إلا عند المسلمين ؟
لماذا " يعتبر العقل المسلم الجامع بين النقل والعقل، عقلا مثاليا للوصول إلى رصيد معرفي ذي صدقية عالية" ؟ (ص 128).

يقول الدكتور: " إن موقف العقل الغربي العدائي للدين هو حصيلة ظروف تاريخية واجتماعية عرفتها الحضارة الغربية منذ عصر النهضة، وهي تتمثل في المواجهة بين الكنيسة من جهة، والعلماء والمجتمعات السائرة في طريق الحداثة من جهة أخرى. لقد خلقت تلك الظروف الخاصة بين الغربيين ثقافة الفصل وعدم الثقة بين العلم والدين" (ص 128).
طيب وماذا عندنا نحن العرب المسلمون؟

لنرجع إلى ابن خلدون الذي يتخذه الدكتور مثالا نموذجيا على إمكانية الربط بين النقل والعقل، ونر موقفه من الفلسفة ومن العلوم الطبيعية مثلا ( م54)

ان ابن خلدون معروف بعدائه للفلسفة، وهو المعروف بقوله إن " ضررها في الدين كثير فوجب أن يصدع بشأنها ويكشف عن المعتقد الحق فيها" (المقدمة: فصل في إبطال الفلسفة....ص 568).

وإذا عرفنا أن الفلسفة مهمة جدا في دفع التفكير العقلي عند " العلماء والمجتمعات السائرة في طريق الحداثة"، فالأرجح أن " المعتقد الحق فيها" سيتم تحديده إلى أدنى المراتب الخادمة لتصوّر معين عن النقل لا غير، لا يمكن حتى أن يرتقي إلى " النقل" عموما، بفعل الاختلافات والصراعات المذهبية حتى داخل الإسلام كما يدل على ذلك تاريخ الفلسفة الإسلامية الذي كفر بعض الفلاسفة المسلمين فيه لأنهم فقط كانوا فلاسفة مذهب مخالف للمذهب الإسلامي السائد، ناهيك عن نقد " المعرفة النقلية" بكاملها.

يقدم ابن خلدون نفسه أكبر مثال على ذلك العقل التكفيري إذ يصف كلاّ من الفارابي وابن سينا، وهما من فلاسفة وعلماء العرب المسلمين، بكونهما أشهر من " أضلّه الله من منتحلي العلوم" ( المقدمة ص 570) من أهل الملّة.
فإذا كنّا نريد لمجتمعاتنا السير في طريق الحداثة، وليس في نسختها الأوروبية بالضرورة، أفلا يوجد احتمال تعارض " العقل المسلم" الخلدوني مع " العقل الفلسفي" الحداثي؟
وماذا عن العلوم؟
يعرف عن ابن خلدون أيضا عداءه للعلوم الطبيعية خاصة، وهي أساس متين تحققت به " الحداثة الغربية".
يقول في هذا الصدد: " ينبغي لنا الإعراض عن النظر فيها إذ هو من ترك المسلم لما لا يعنيه فإن مسائل الطبيعيات لا تهمّنا في ديننا ولا معاشنا فوجب علينا تركها ".( المقدمة ، ص 570 (

كما إن ابن خلدون يتعرض في مواقع أخرى من المقدمة إلى العلوم والمعارف عموما بطريقة عدمية تماما، فهو يذكر، دون نقد، الواقعة التالية: " ولما فتحت أرض فارس ووجدوا فيها كتبا كثيرة كتب سعد ابن أبي وقاص إلى عمر ابن الخطاب ليستأذنه في شأنها وتنقيلها للمسلمين فكتب إليه عمر أن أطرحوها في الماء فإن يكن ما فيها هدى فقد هدانا الله بأهدى منه وإن يكن ظلالا فقد كفانا الله فطرحوها في الماء أو في النار وذهبت علوم الفرس فيها عن أن تصل إلينا" . ( المقدمة، ص ص 530/531)

وعلى ذكر عمر ابن الخطاب، يورد ابن خلدون موقفا معاديا " للكتب السماوية" الأخرى وخاصة لدراستها عبر ما يسمى " العلوم النقلية" التي يقول عنها إنها عند المسلمين " مباينة لجميع الملل لأنها ناسخة لها وكل ما قبلها من علوم الملل فمهجورة والنظر فيها محظور فقد نهى الشرع عن النظر في الكتب المنزلة غير القرآن قال صلى الله عليه وسلم لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالذي أنزل علينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ورأى النبي صلى الله عليه وسلم في يد عمر رضي الله عنه ورقة من التوراة فغضب حتى تبيّن الغضب في وجهه ثم قال ألم آتكم بها بيضاء نقية والله لو كان موسى حيّا ما وسعه إلا إتّباعي" ( المقدمة ، صص 483-484).

إن هذه المواقف، إذا طبّقناها اليوم، سوف تكون خطرا على العرب وعلى المسلمين سواء في مواقفهم من العلوم العقلية أو النقلية على حدّ السواء، وهذا سيفتح الباب أمام تحريم كل العلوم " غير الإسلامية" تقريبا،
ناهيك عن علم اجتماع الدين أو الانثروبولوجيا الدينية المقارنة أو غيرهما...

فهل هذا هو " العقل المثالي" الذي يدعونا الدكتور إلى الثقة به " للوصول إلى رصيد معرفي ذي صدقية عالية" ؟
أين يكمن الخلل بالتالي؟
نعتقد أن يكمن بالضبط في الدعوة إلى الوحدة بين العقل والنقل داخل الفكر العلمي نفسه.
إن البحث العلمي بحث عقلي وعليه أن يبقى كذلك دون أن يعني ذلك فرض الإلحاد على العالم أو على المجتمع. إن الحدّ الأدنى الضروري لتحقيق المصداقية العلمية هو الفصل الإجرائي العلماني بين المعتقد الديني والبحث العلمي، ليس فقط في " داخل الحقل العلمي"، بل وفي الفضاء الاجتماعي العام على الأرجح بسبب الارتباط الوثيق بين حريتي البحث العلمي والمعتقد الديني من ناحية وطبيعة النظام السياسي من ناحية ثانية، فإذا كانت الدولة دينية فسوف يختلف الأمر تماما عن الدولة العلمانية في مجالات الحريتين على السواء.
إن أية محاولة للربط بين العقل والنقل ستؤدي على الأرجح إلى الإضرار بكليهما معا وأكبر الأمثلة على ذلك أعمال الدكتور محمود الذوادي نفسها.
وإذا كنا قد وضحنا ذلك طوال هذا العمل، حول ما يسمى " علم الاجتماع الإسلامي"، علينا أن نضيف الآن مثالين من الدراسة الحالية، وهما: نسبية المعرفة البشرية ويقينية المعرفة الدينية من ناحية، وأمثلة عن " التفسير الإسلامي" لبعض مسائل العلم حول علمي الأجنة والفلك تحديدا .




3: حول " محدودية صدقية المعرفة البشرية":


يطرح الدكتور هذه المسألة بصورة عجيبة علميا ودينيا على السواء.
يقول: " إن المعرفة المكتسبة ( العقلية) العامة والعالمة على السواء التي جمعها بنو البشر عبر العصور حول الإنسان والمجتمع والطبيعة والكون الفسيح، لا تتمتع بالدرجة نفسها من الصدقية التي تتصف بها المعرفة الغريزية عند الكائنات غير العاقلة. وبعبارة أخرى، فإنها معرفة ذات طبيعة تتسّم بالخطأ والصواب، إنها معرفة مزدوجة الطبيعة تشبه في ازدواجيتها طبيعة الإنسان نفسها المتمثلة في كون الإنسان جسما وروحا" (ص 120).

إن هذه الفقرة تحتوي على " عجائب وغرائب" عظيمة جدا توصّل إليها " علم الاجتماع الإسلامي".

أ- "المعرفة الغريزية عند الكائنات غير العاقلة" لها درجة صدقية أعلى من " المعرفة المكتسبة ( العقلية)" عند " بني البشر".
ب-با لمقارنة مع " المعرفة" الحيوانية الغريزية فان المعرفة البشرية " مكتسبة".
عندما يقارن الدكتور لإنسان بالحيوان، يعترف أن معرفة ببني البشر " مكتسبة" ولكن عندما ينسى الحيوان، يرفض فكرة الاكتساب تماما فيعتبر أصل المعرفة إلهي والدماغ " حاضنة" والعقل "مكانا"...

ج- المعرفة البشرية تتسم بالخطأ والصواب لأن الإنسان مزدوج التكوين، إنه جسم وروح.
هكذا إذن، معرفة الحمار الغريزية أكثر صدقية من معرفة عالم الاجتماع العربي المسلم لأن هذا الأخير مزدوج التكوين، أما الحمار، فلأنه لا روح عنده، (يبدو أنه جسم فقط عند الدكتور حسب تصوّره الإسلامي الخاص)، فمعرفته ذات صدقية كاملة.
مع الأسف، يجرّنا الدكتور عبر "بحث علمي أساسي" يريد تأسيس "باراديغم إسلامي" جديد إلى النقاش في هذا المستوى.
كان من الممكن طبعا أن يكون الحوار أكثر ثراء لو أن الدكتور عرّف " الكائنات غير العاقلة" تعريفا علميا لا يجعل من العقل مجردّ " مكان" ولا مرادفا للروح، ولكن ماذا نفعل؟

كان من الممكن إعادة تعريف العقل بطريقة جديدة تجعل من الحيوانات العليا قادرة على درجة من التفكيرـ أدنى من الإنسان لأسباب بيو فزيولوجية ( حجم الدماغ ونوعه...) واجتماعية تاريخية ـ ولكن في هذه الحالة، كما يفعل العلماء الحقيقيون، يصبح بالإمكان الحديث عن الخطأ حتى عند الحيوان، كما تفعل ذلك النظريات الحديثة في المعرفة.
إن إدغار موران ، الذي طالما استشهد به الدكتور محمود الذوادي، دون فائدة تماما، يقول مثلا: " إن الخطأ حيواني قبل أن يكون إنسانيا... (م20 ، ص204) ويفسر ذلك بما للحيوانات من علاقة بمحيطها وبكونها تستقي من ذلك المحيط " أخبارا"، ويذكّر بالأخطاء الحيوانية عند الصيد مثلا باعتبار الصيد عملية " استراتيجيا" فيها الخطأ والصواب، والحيلّ وغير ذلك من العمليات الذهنية الحيوانية.

أما بالنسبة إلى الدكتور فإنه يقول الشيء ونقيضه في نفس الوقت: من ناحية أولى، يقول لنا في بداية دراسته الحالية، بالهامش رقم خمسة في الصفحة مائة وثمانية " نستعمل كلمة " المعرفة في هذه المقالة لتشمل كل فروع المعرفة البشرية بما في ذلك ما يسمّى بالفروع العلمية الصحيحة مثل العلوم الطبيعية" تم بعد ذلك يتحدث عن " المعرفة الغريزية" عند الحيوان.
ويقول لنا في دراسات سابقة أن " المعرفة" هي جزء من " الروح الرموزية" المميزة للبشر وحدهم ثم يقول لنا الآن إن " المعرفة الغريزية للحيوان" أكثر مصداقية من معرفة البشر.
إنه يدوّخنا معه حقا " بابستمولوجياه الإسلامية" .

إن هذه الابستمولوجيا على ما يبدو تجعل من " معرفة" الحمار أكثر مصداقية من "الفروع العلمية الصحيحة مثل العلوم الطبيعية" وتجرّم الخطأ البشري بحيث تعجز عن اعتباره حافزا على المعرفة ولا تستطيع القول مثلا إنه بسبب الأخطاء الإنسانية بالذات ترقى معرفة الإنسان أكثر من الحيوان باستمرار.
إذن ، يصّر الدكتور في نفس الوقت أن الكائنات غير العاقلة لها معرفة، ثم يصرّ على ما يبدو أن ليست لها أرواح.
فهنيئا " لعلم الاجتماع الإسلامي" الذي لا يعتقد في الوصول إلى الصواب إلا عند الحيوانات والله ولكن ليس عند البشر! والنتيجة هي بالتالي:
" إن المعرفة البشرية المرتكزة على التفكير الإنساني لا يمكن النظر إلى صدقيتها ويقينيتها إلا بشيء من التحفظ على الأقل" ( ص 121).
هذا هو تصوّر الدكتور عن نسبية المعرفة الإنسانية؟

إن هذا التصور خطير جدا على التفكير العلمي لأنه ، عبر مصطلحات النسبية، يقدم رؤية عدمية للعقل البشري فيحكم عليه مسبقا، بسبب تكوين الإنسان الجسدي/ الروحي، بالعجز تقريبا.
إن المعرفة البشرية نسبية، هذا صحيح طبعا، لكن يبدو أن العلاقة بين النسبي والمطلق عند الدكتور لا يمكن بحثها ضمن إطار المعرفة البشرية نفسها، بل بين البشري./ النسبي و الإلهي / المطلق.

بهذه الصورة، يصبح الشك في المعارف الإنسانية قاتلا لأن " ماهية" الإنسان نفسها عاجزة عن بلوغ الحقيقة / الصواب.
إن نسبية الحقيقة والمعرفة، لا تعني أن الإنسان لا يكتشف أبدا حقائق الأشياء، إنه يكتشفها وبصورة كاملة أحيانا كثيرة، والصناعة هي دليل على ذلك ، كما بين ذلك الماركسيون في نقدهم لفكرة " الشيء في ذاته" عند كانط ،( مع أن التصور الماركسي الارثوذكسي أساء التعميم في تصوره عن الحقيقة ضمن النظرية الماركسية في المعرفة فسحب فكرة تنطبق على العلوم التجريبية و طبقها على كل مظاهر الوعي الاجتماعي ) بل وكما دافع عنها ابن خلدون في قانون المطابقة بين الخبر والواقعة في علم التاريخ، ولو بصورة مخالفة نسبيا.

إذن، المعرفة البشرية نسبية، هذا صحيح، لكن النسبي لا يتناقض جذريا مع المطلق بل يحتويه. فما هو اليوم نسبي يصبح غدا مطلقا، وما هو اليوم مطلقا تظهر نسبيته غدا، دون أن يعني ذلك أننا لا نعرف شيئا صحيحا أبدا. بالعكس إننا نكتشف الحقائق باستمرار ومنها ما يرقى إلى مرتبة " الحقيقة المطلقة" و " اليقينية" ، كما تدل على ذلك التجربة العلمية نفسها وكما سيعترف الدكتور رغما عنه لاحقا.

إن الاكتفاء بالقول إن: " مناهجنا وطرقنا المعرفية كلها " ما هي إلا محاولات تهدف إلى تعزيز جانب الصواب ( الصدق) من ناحية، وإلى التقليل من جانب الزلل ( الكذب) من ناحية أخرى، في إشكالية الصحة والخطأ التي تتضمنها طبيعة تركيبة تكوين المعرفة البشرية" (ص 122).
إن هذا القول يوحي بأن كل بحث علمي لا يوصل أبدا إلى الحقيقة بسبب " طبيعة تركيبة تكوين المعرفة البشرية" وهو عملية مبطنة هدفها استغلال التصور النسبي عن العلم للوصول إلى تقزيمه وسجنه داخل تصور معين عن ثنائية " النقل" و " اليقين" الدينية.
يبدأ الدكتور بهذا السعي عبر المرادفة بين مصطلحات من حقول معرفية مختلفة نسبيا. إنه يضع عبارة الصواب ثم يضيف عبارة ( الصدق) ويضع عبارة الزلل ( الكذب) ويقدمها كلها في سلة واحدة كسلة الساحر فيها من العلم والأخلاق والدين كما تريد.

إن المصداقية العلمية تفترض التدقيق في مصطلحات الصحة/ الخطأ داخل المجال العلمي ومصطلحات الصدق والكذب الأخلاقية ومصطلحات الصواب/ الزلل الدينية، على الأقل في لغتنا العربية. أما تقديم كل هذه المصطلحات في سلة واحدة والمزج بين مباحث الصدق العلمي والأخلاقي والديني فقد يؤدي إلى أخطار كبيرة في الخلط بين مسائل علمية منهجية وأخرى أخلاقية وأخرى دينية.
إن هذا الخلط شديد الخطورة إذ قد يجعل من كل من أخطأ علميا، شخصا مارس كذبا أخلاقيا أو زللا دينيا. وهذا الخلط يدمّر البحث العلمي بواسطة الإرهاب الديني الذي يستعمل في بعض الحالات سلاح التكفير على العلماء، وبواسطة الضغط الأخلاقي الذي قد يصوّر العالم منحرفا عن القيم الاجتماعية.
لكن الدكتور يصر و يكتب:
" إن الأمر نفسه يمكن أن يقال، بالطبع، عن صدقية المعرفة الحديثة المتأثرة التأثر الكبير بأخلاقيات الموضوعية وفلسفة ومنهجية الوضعية والامبريقية" ( ص 122).

من ناحية أخرى، يواصل الدكتور في سعيه السابق، وبكل وضوح عندما يذكر مسألة الشك و " منهجية الشك الديكارتي أو الغزالي" ( ص 121). ليصل إلى القول: " ومما تقدم بخصوص صفات الخطأ والصواب والمحدودية وفقدان اليقينية الكاملة التي تتصف بها المعرفة البشرية يمكن فهم شرعية مجيء الرسالات السماوية التي تحمل معها المعرفة اليقينية والقول الفصل سواء بالنسبة إلى الظواهر الطبيعية أو بالنسبة إلى القضايا الاجتماعية والأخلاقية التي تمس المجتمع الإنساني وأفراده" (ص 123).

إذن، الشك الذي يدعو إليه الدكتور ليس الشك العلمي المفتوح دائما بل الشك العدمي الموصل إلى اليقين الديني و طريقة الوصول إلى اليقين، طالما ذكر لنا الغزالي، فستكون " نور قذفه الله في صدري" على ما يبدو.
إن الشك هنا، ليس هو الشك العلمي الذي يطور المعرفة العلمية النسبية باتجاه الحقيقة العلمية ، إنه التشكيك النسبي في العلم للوصول إلى اليقين الديني المطلق.
إن ذكر الشك الديكارتي في نفس السلة مع الغزالي يغيب فارقا جوهريا بين الرجلين ، ان شك ديكارت مرتبط برفضه للإيمان خارج البرهان العقلي الرياضي أي إدراج الإيمان نفسه ضمن التفكير العقلي اتساقا مع كوجيتو ديكارت المعروف " أنا أفكر إذن أنا موجود " ، أما شك الغزالي فهو شك المتصوف الذي ينتقد التفكير الفلسفي العقلي ليصل إلى " النور الذي قذفه الله في صدري " .

من ناحية أخرى ، بما أن الرسالات السماوية التي يدافع الدكتور عن شرعيتها داخل البحث العلمي نفسه، هي رسالات قديمة، أحدثها له أكثر من أربعة عشر قرنا، فاليقين موجود في النصّ/ النصوص منذ زمان، وما علينا إلا العودة إلى الوراء!

الشك عند الدكتور لا يتوجه نحو المستقبل، عبر الشك في المعارف الحالية والدعوة إلى تطويرها. الشك هنا نكوصي، ارتدادي لأن كل محدودية العلم الحالية تجد لها " القول الفصل" و "ا لمعرفة اليقينية" منذ عشرات القرون الماضية!
كما أن " القول الفصل" و " المعرفة اليقينية" لهذه الرسالات ( وردت في صيغة الجمع) تتعلق"بالقضايا الاجتماعية والأخلاقية" وكذلك بالنسبة "للظواهر الطبيعية".

إذن، يبدو أن مشروع الدكتور يمكن أن يسحب ليس فقط على العلوم الاجتماعية والإنسانية بل وكذلك على العلوم الطبيعية. فبما أن الأساس " الابستمولوجي" يقتصر على فكرة وجود إله واحد خلق كل شيء، فيمكن بسهولة اعتبار الدكتور رائدا ليس فقط في ميدان " علم الاجتماع الإسلامي" بل وفي"عام الأجنة الإسلامي " و "علم الفلك الإسلامي"، ومن يعرف؟ قد يقدم لنا الدكتور في مناسبات لاحقة محاولات في " علم الرياضيات الإسلامي" و " الفيزياء النووية الإسلامية"...

4: حول علاقة الإسلام بعلمي الأجنة والفلك:

يبدأ الدكتور حديثه عن العلمين بالفقرة التالية:
" يحتوي كل من النص القرآني والأحاديث النبوية على تعابير واضحة أو إشارات ضمنية إلى حقائق علمية حول ظواهر متعددة في العالم / الكون التي لم تكتشف إلا أخيرا من طرف العلوم الحديثة" (ص117).

نحن نعتقد أن هذه الفقرة خطيرة على العلم وعلى الدين الإسلامي، الذي يدعي الدكتور أنه ينطلق من ابستمولوجيته، وذلك للأسباب التالية:
أ- أولا: إذا كان الدين احتوى على حقائق علمية لم تكتشف إلا أخيرا، من قبل العلوم الحديثة، فهذا يعني أن إيمان المسلمين بتلك الحقائق منذ أربعة عشر قرنا، كان إما إيمانا دون أي برهان علمي ( أي لم يكن إيمانا بعد علم أو مع علم)، أو إيمانا مقترنا بتفسير خاطئ للآيات المحتوية على تلك الحقائق العلمية.

فإذا كانت بعض آيات القرآن احتوت على حقائق علمية " لم تكتشف إلا أخيرا" فهذا يعني أن التفسيرات الإسلامية لتلك الآيات إما كانت غائبة تماما أو كانت خاطئة لأن العلم لم يكشف حقائقها بعد أما وأن الأمر لم يكن كذلك، ( فالمسلمون هلم تفاسيرهم لآيات " الأجنة" و "الفلك")، فهذا يدعو إلى إعادة تقييم تلك " الحقائق العلمية" نفسها.
فهل ترقى فعلا إلى مرتبة الحقائق العلمية أم هي إما مشاهد حسية أو قصص قرآنية، ( مرتبطة بإعادة صياغة جديدة لبعض ما ورد في بقية " الرسالات السماوية" بالتفاعل مع ما را كمته التجربة البشرية عبر القرون التي تفصل بين التوراة والإنجيل والقرآن) حول " الكون/ العالم" أو مزيج من الاثنين في نفس الوقت أحيانا؟


ب- ثانيا: إذا كان العلم الحديث قد اكتشف " أخيرا" تلك " الحقائق العلمية" حول الكون/ العالم، فإنه لن يسمح على ما يبدو لأحد بعد الآن أن يعطي تفسيرا يخالف " التطابق الحالي" بين العلم والنص الديني وهذا سيكون خطرا على العلم والدين في نفس الوقت.

علميا: بما أن الدكتور يعتقد أن العلم اكتشف " أخيرا" الحقيقة الموجودة في الدين، فإنه سوف يرفض أية محاولة علمية جديدة لتجاوز التفسيرات الحالية " للكون/ العالم" ، كما يفعل العلماء عادة، وبهذا سوف يؤدي الادعاء بتطابق المعرفة العلمية مع اليقين الديني إلى جمود البحث العلمي.

دينيا: بما أننا ندّعي أن العلم اكتشف "أخيرا" الحقائق الموجودة في النص الديني، فهذا سيعطي للمفسرين الحاليين للنص الديني الوهم بأنهم وصلوا إلى التفسير النهائي للنص، وسيعلنون بعلموية زائفة غلق محاولات التفسير الجديدة حول الآيات المرتبطة بـ" العالم/ الكون".

إن النتيجة سوف تكون جمود العلم الذي يتوهم أنه وصل إلى اليقين الديني وجمود الاجتهاد الديني الذي يتوهم أنه وصل إلى وضع التطابق مع المعرفة العلمية.

ج- ثالثا: عندما يقول الدكتور أن العلم "اكتشف أخيرا" ، الحقائق العلمية الموجودة في النص الديني، فهذا يعني أن ما قاله سابقا حول " محدودية صدقية المعرفة البشرية" خاطىء.
فإذا كان العلم، بفضل منهجه الخاص، قد اكتشف الحقائق العلمية فهذا يعني أن التعارض الذي وضعه الدكتور بين محدودية ونسبية المعرفة البشرية من ناحية ويقينية المعرفة الدينية من ناحية ثانية، لا معنى له، لأن العلم يوصل بدوره إلى معرفة " الكلمة الفصل" و " اليقين".
وإن ما يتوهم الدكتور أنه يدافع عنه مرة ، يناقضه في المرة الأخرى ويصل به إلى عكس ما يريد تبليغه لتابعيه.

إن الاعتراف بأن العلم له القدرة على اكتشاف حقائق الكون/ العالم يدل على أن ما يفترض أن يدعو إليه الدكتور ليس موقف الغزالي- ابن تيمية، بل الموقف الأرسطي- الرشدي العقلاني على أقل تقدير.

رابعا: إذا كان النص الديني قد تضمن حقائق علمية حول الكون/ العالم لم يقع اكتشافها والبرهنة عليها علميا إلا " أخيرا"، فهذا يعني أن الله ضمّن كتابه المقدس حقائق كان يعرف مسبقا- وهو عالم الغيب- أن المؤمنين به لن يعرفوها إلا بعد أربعة عشر قرنا. وهذا يعني أن ما قاله الدكتور في مقال " حول مفهوم التغير الاجتماعي" من أن " القرآن تبنى منهجا وضعيا و عقلانيا يستند على الملاحظة و الواقعية و ذلك في تفسيره للظواهر و في طرح حججه للجنس البشري " و أن الوضعية أصلها إسلامي قبل أن تظهر في أوروبا، كل هذا لا صواب فيه. ( انظر الملحق التابع لهذا الفصل )

فإذا كان العلم لم يكتشف " إلا أخيرا" الحقائق العلمية الموجودة في القرآن والحديث فهذا معناه أنه لم يكن هنالك أية طرق وضعية وتجريبية لإقناع المسلمين بما احتواه كتابهم المقدّس وحديث رسولهم. و بالتالي فإن اقتناعهم بالكتاب والحديث كان مبنيا على إيمان أعمى لا علاقة له تماما بأي برهان عقلي، وضعي، تجريبي...
وكما نرى مرة أخرى، الدكتور يقول دائما الشيء ونقيضه في نفس الوقت


خامسا: انطلاقا من النقاط السابقة، ومن غيرها، نعتقد أنه لا بدّ من إعادة النظر جذريا، انطلاقا من علم اجتماع المعرفة، في الادعاءات القائلة باحتواء النص القرآني والحديث النبوي على حقائق علمية متجاوزة لعصرها.
فحتى لو كنا نؤمن بأن القرآن نص منزّل من الله، وهو ما لا يمكن قبوله إلا من خارج المنطق العلمي الصرف، فإننا نعتقد أن أبسط قواعد علوم التواصل تقول بأن الخطاب لا بدّ أن يأخذ بعين الاعتبار قدرة المتلقّي على التلقي ضمن إطار الفضاء الاجتماعي والمعرفي الذي يعيش فيه. وحتى إن كان الخطاب يهدف إلى القيام بعملية اختراق معرفي، فلا بد أن ينطلق من مكتسبات المتلقي لتحويلها إذ كان لا بدّ للمسلمين الأوائل من القبول بما ورد في القرآن حسب مستوى معرفتهم وقتها ولم يكن ممكنا تقديم معارف لهم تتجاوزهم بأربعة عشر قرنا كاملة. إن هذا ضدّ " مبدأ التدرج " الذي يقول به الإسلاميون عند الحديث عن بعض المسائل الأخرى مثل تحرير المرأة أو تحريم الخمر أو غيرها...

من ناحية أخرى، لا بدّ من الانتباه أنه إذا كان النص القرآني و الحديث النبوي يحتويان على هذه الحقائق العلمية، فإن وضعا مفارقا هو المسيطر في أرض الواقع. فكيف نفسر أن كل تلك الحقائق لم يكتشفها " العلم الإسلامي" منذ قرون بينما اكتشفها " أخيرا"، علم غير المسلمين من الوضعيين و الملا حدة
واللا أدريين و المسيحيين و اليهود ؟
ما الذي يجعل علمي الأجنة والفلك، لا يتطوران في العالم الإسلامي رغم أن النصوص المؤسسة تحتوي على " كل حقائقهما" وعلى " القول الفصل" و " المعرفة اليقينية" فيهما؟
طبعا، الإجابة عند الاسلامويين معروفة، حسب رأيهم، المسلمون ضيعوا إسلامهم الأول وضاعوا، ولا بدّ من أسلمتهم الآن، وكيف؟ عبر استغلال انتاجات العلم الحديث و ليّ عنقها حتى تتطابق مع تأويلهم الخاص للنص الديني كما هو الحال حول علمي الأجنّة والفلك عند الدكتور الذوادي.


: حول " علم الأجنة الإسلامي"


يبدأ الدكتور الذوادي بإضفاء شرعية علمية حول أفكاره مستشهدا بكل من كينيث مور و موريس بوكاي
( م 55 ) ويعترف في نفس الوقت بأن علم الأجنة " ناشئ حديثا" (ص ص 117-118).

بعد ذلك يقول إن " النص القرآني وصف بدقة كبيرة قبل أكثر من أربعة عشر قرنا المراحل المحددة التي يمرّ بها نمو الجنين في رحم الأم" ( ص 118) ويستشهد بالآيات 12-14 من سورة " المؤمنون". وبالامكان طبعا ذكر آيات أخرى عديدة حول " مراحل" نمو الجنين في القرآن، من النطفة- الأمشاج- إلى العلقة إلى المضغة إلى كساء العظام باللحم.
إن ما يهمنا في هذه النقطة أمران:

أولا: نحن نعتقد ا ن ما قدّمه القرآن حول " علم الأجنة" ، هو كما أعترف الدكتور، " وصف" ومجرد وصف لهذه المراحل، والوصف واحدة فقط من العمليات العلمية وليس " نظرية علمية".
إن هذا الوصف، بقطع النظر عن دقته التي سنراها لاحقا، كان من الممكن تقديمه منذ أربعة عشر قرنا دون أن يعتبر، لا منافيا للملاحظات الحسية للبشر ولا فتحا علميا سيتطلب الأمر أربعة عشر قرنا لإثباته.

إن أي ملاحظ جيد، خاصة إذا كان متزوجا ، يستطيع أن يجزم أن من المنيّ ( النطفة) يتم الحمل، ويستطيع أن يخمّن أن بعد النطفة يتكون ما يشبه العلقة، خاصة إذا ربط بين نزول الدم في العادة الشهرية من المرأة وعدم نزوله عند الحمل، وبما أن عبارة العلقة تعني في نفس الوقت كمية من الدم " المتخثر" نسبيا وقدرة على العلق/ الالتصاق برحم المرأة ( القرار المكين)، فيمكن تصوّر تحوّل المني/ النطفة إلى ما يشبه العلقة.
من ناحية أخرى، إن مرحلة " المضغة"، أي مقدار ما يمضغ من اللحم أو أي شيء آخر، يمكن فهمها إذا وصف الإنسان بدقة ما ينزل من رحم المرأة عند الإجهاض في الأشهر الأولى، وهو ما كان يحدث للبشر في كل العصور.
أما المرحلة الأخيرة : " كسونا العظام لحما" فهي مشاهدة عادية جدا لأي إنسان يعرف أن العظم محاط باللحم في الإنسان بعد ولادته.

إن هذه الملاحظات القرآنية- قبل الدخول في نقاشها علميا- هي مشاهد/ مقاطع حسية " يعرفها" الجميع على ما نعتقد، حتى قبل ظهور الإسلام، ولذلك لم يعترض عليها أحد ممن ناقشوا القرآن في الأزمان القديمة، حسب علمنا.
إنها عملية وصف لا غير لبعض مراحل نمو الجنين وهي عبارة عن مشاهد متقطعة من مراحل نمو الجنين و لا ترقى إلى مستوى النظرية العلمية ولم يكن من الممكن أن ترقى إلى ذلك المستوى، سواء آمنا بالقرآن أم رفضناه.
فحتى لو كنا مؤمنين، نعتقد أنه لم يكن ممكنا تقديم تصور عن نمو الجنين من قبل الله يخالف المعارف الحسية للبشر في تلك المرحلة لأن ذلك سيجعل البشر يرفضون تلك " النظرية العلمية"، وسوف يعجز الرسول عن إقناعهم بها علميا لعدم تطور المستوى المعرفي والتقني للبشر وقتها ولعدم اختصاصه بأية معجزة سوى البيان القرآني نفسه.

إذن، كان لابدّ من البقاء عند حدود الوصف البسيط الذي يقبل به الجميع، من الأنصار والأعداء على السواء.
ولو كنا غير مؤمنين، فمن المنطقي جدا رفض الطابع العلمي لما ورد في القرآن حول " علم الأجنة"، لأن ذلك العلم لم يظهر ولم يكن ممكنا أن يظهر وقتها بسبب غياب ذلك العلم كاختصاص معرفي وقتها ومحدودية التقنيات الطبية ليس فقط في الجزيرة العربية بل وفي كل العالم القديم.

و ثانيا و إذا رجعنا الآن إلى النقاش العلمي لهذه المراحل، لا بدّ من توضيح النقاط التالية:

أولا: عند الحديث عن علم الأجنة، لا يمكن الاقتصار على وصف مراحل عامة من تطور الجنين، بل لا بدّ من تحليل الخصائص الدقيقة لتلك المراحل وترابطها وتحليل مكونات المني و "العلقة" و "المضغة"...
فلو كان ذلك الوصف علما لقلنا مثلا أن القول بوصف مراحل تطور النبات من البذرة إلى الثمرة يعتبر علما، والحال أن أي فلاح في الجزيرة العربية يمكنه، قبل ظهور الإسلام مثلا، أن يصف لنا ما هي مراحل نمو النبتة من البذرة إلى النبتة إلى الزهرة إلى الثمرة التي تحتوي بذرة جديدة...
إن الاكتفاء بوصف حسي لبعض مراحل نمو شيء ما، اعتمادا على مظاهر معروفة للجميع بفضل التجربة الإنسانية البسيطة، لا يمكن أن يشكل علما، حتى لو كان هنالك تطابق بين الوصف القديم والنظريات العلمية الحديثة حول الأمر.

ثانيا: نذكر أن الخط العام الموجود في القرآن حول تطور الجنين ينطلق من المني الذكري عند الرجل أساسا، رغم إقحام البعض لمساهمة المرأة أحيانا عند الحديث عن " الأمشاج".
إن الصياغة القرآنية المهيمنة حول تطور الجنين تنطلق من المني/ النطفة وليس مثلا من " نطفتين" أو ما يشبههما، أي أن ذكر مساهمة المرأة ثانوي جدا مقارنة بمساهمة الرجل عبر نطفة المني. ويحاول بعض المفسرين المحدثين إدماج البويضة النسوية في العملية عبر تأويلات متعسفة أحيانا كثيرة لأنه لم يكن ممكنا، قبل أربعة عشر قرنا، اكتشاف البويضة و / أو إقناع الناس بها.

من ناحية أخرى، يقدّم التصور القرآني نطفة المني وكأنها، بكاملها، أصل الجنين، في حين يعرف الجميع الآن أن تلك النطفة تحتوي على ملايين الحيوانات المنوية التي تموت، بينما واحد منها قد ينجح في عملية إخصاب البويضة الأنثوية.

إن هذه الحقيقة العلمية هي " بداية" الحديث عن نظرية علمية حقيقية، إذ لا يكفي الحديث عن دور المني- هذا السائل المحسوس- لإعلان اكتشاف نظرية علمية في علم الأجنة. إن من يفعل ذلك يقف عند الحدّ الشبيه بمن يقول لنا إن الشجرة أصلها بذرة، ويقدّم لنا ذلك و كأنه اكتشاف علمي عظيم في حين أن البشر الذين مارسوا الزراعة منذ آلاف السنين، كانوا قد عرفوا أن البذور تتحوّل إلى نباتات.

- أما مرحلة " العلقة" في تطور الجنين فهي الأخرى، علميا محل نقاش، فالمفسرون القدامى أو بعضهم على الأقل، يعتبرون العلق هو الدم الغليظ، وبالتالي فإن العلقة هي ما يشبه كرية الدم المتخثرة، و لا يوجد في علم الأجنة ما يشير إلى ذلك، باعتراف موريس بوكاي نفسه الذي يستشهد به الدكتور.
إن بوكاي يحاول تفسير العلقة، ليس بالدم الغليظ ، بل بالشيء الذي يعلق و يلتصق برحم المرأة، وهذا ممكن طبعا، لكن في هذه الحالة، فإننا لا نجد من صفات " العلق" إلا قدرته على الالتصاق في الرحم (مثل العلقة)، أي أن وجه الشبه بين العلقة – الحيوان- والعلقة- المرحلة الثانية من الجنين- يحصر هنا في القدرة على الالتصاق فقط. وعندها، لا تصبح هذه المرحلة (العلقة) وصفا دقيقا ومتناسقا مع سياق الآيات التي احتوتها: نطفة-علقة- مضغة- كسونا العظام لحما. فكل المراحل الأخرى تدل على طبيعة المادة نطفة-علقة- مضغة- عظم- لحم، بينما مرحلة العلقة تتميز هنا بخاصية أخرى هي القدرة على الالتصاق، العلق ولا نعرف وقتها، هل العلقة في هذه المرحلة هي: نطفة عالقة أم مضغة عالقة أم ماذا بالتحديد؟
وإذا كان من الممكن المزج بين الخاصيتين، ( العلقة= دم غليظ + قدرة على العلق – الالتصاق). نعود إلى النقطة الأولى، لأنه بعد مرحلة الإخصاب، لا يكون الجنين علقة، بمعنى: " القطعة اليسيرة من الدم الغليظ " بأي معنى من المعاني.

أما مراحل المضغة و العظم المكسوّ لحما فهي كما قلنا سابقا، مجرد وصف حسي للجنين ثم للجسد البشري لا يمكن قبولها بصورة عادية ضمن نظرية علمية حقيقية. إن النظرية العلمية في هذه المراحل لا يمكن أن تقف عند حدود الوصف بل تتعداه إلى تحديد نوعية وخصائص " المضغة" ثم كيفية تحليل علاقة العظم باللحم ومراحل تكونهما والصلات بينهما عبر العضلات أو غيرها... وهذا ما لا نجده في النص الديني لأنه ليس نصا علميا حديثا ولا يمكن أن يكون كذلك، لا هو و لا أي نص آخر، إذا كان صدر منذ أكثر من أربعة عشر قرنا. هذا، مع العلم وأن الآيات ( 12-14) من سورة " المؤمنون" التي اعتمدها الدكتور توحي بأن تصورا خطيا لمراحل الجنين ينطلق من النطفة ثم العلقة ثم المضغة ثم العظام ثم كسو العظام باللحم، وطبعا هذا التصور، إذا فهم خطيا ، غير علمي لأن الجنين لا يوجد على صورة عظام في أي مرحلة من مراحل تكونه. إن عبارة " فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما " (الآية 14) إذا درسناها ضمن تسلسل الآية قد توحي بوجود هذه المرحلة ( مرحلة العظام)، وهو أمر لا علاقة له بعلم الأجنة تماما، مثله مثل مرحلة العلق، إذا فهمت العلقة كقطعة من الدم الغليظ.

أخيرا، وحتى نختم هذا الجزء المتعلق " بعلم الأجنة الإسلامي" لا بدّ من التذكير أن الادعاء بوجود حقائق علمية حول علم الأجنة في القرآن، قبل أربعة عشر قرنا هو، بصورة ما ، قد يكون مخالفا للنص الديني نفسه.
إن إحدى الأفكار الأساسية الموجودة في القرآن حول هذه النقطة تتمثل في القول أنه " لا يعلم ما في الأرحام غير الله" أي أن التصوّر الإسلامي السائد زمن الإسلام الأول، بل وحتى الآن عند بعض المسلمين المتشددين، يقول إن معرفة جنس الجنين وموعد الولادة، مثلا، لا يعلمه إلا الله، وأن هذا الأمر هو من علامات إنفراد الله بعلم الغيب، وتدل سورة لقمان مثلا في الآية الأخيرة منها، على ذلك إذ تقول: " إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير" ( آية 34).
وكذلك "سورة الرعد" في الآيتين 8 و9 حيث جاء فيهما: " الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال" .

إذن، " علم الأجنة" هو في الواقع، في بعض جوانبه على الأقل، خرق تامّ " للتصور الإسلامي" التقليدي الذي يعتبر بعض ما يتعلق بالجنين من باب الغيب الذي لا يعلمه إلا الله .

إن محاولات الدكتور محمود الذوادي إيهامنا بأن القرآن والحديث النبوي كانا يحتويان على " علم أجنة إسلامي" منذ أربعة عشر قرنا قد لا تجد لها سندا حقيقيا لا من حيث التطابق مع معطيات العلم الحديث بوصفه علما ولا من حيث التشجيع على تطور ذلك العلم بل ونشأته أصلا.
ولعل موريس بوكاي الذي يعتمده الدكتور محمود الذوادي أحس بذلك. ففي معرض تحليله لسورة الإنسان: الآية ـ2ـ " إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا" والتي سبق أن فسّرت في اتجاهين:
إما تفسير عبارة أمشاج، بمعنى أخلاط، بين نطفتين من الرجل والمرأة مختلفتين في اللون مثلا ، أو تفسيرها بمعنى أن منيّ الرجل هو نفسه الأخلاط والمزيج.
يعلق (موريس بوكاي) على الآية ويستبعد التفسير الأول ويميل إلى الثاني، لأن الأول يعبر حسب رأيه عن " جهل بفزيولوجيا الإخصاب" (بوكاي ، ص 249) بينما الثاني يمكن قبوله لأن المني هو فعلا خليط بين ما تفرزه الخصيتان وما تفرزه غدد أخرى في الجهاز التناسلي للرجل وخارجه.
لكن في هذه الحالة، يختصر خلق الإنسان في نطفة الرجل من المني، ويصبح دور بويضة المرأة وكأنه ثانوي أو غائب تماما، خاصة وأن المرحلة الثانية في نموّ الجنين هي " العلقة" بحيث لو لاحظنا التبويب الخطي للمراحل: نطفة- علقة- مضغة...، فإننا لا نعرف دور البويضة النسوية تماما.

ولقد تهرّب موريس بوكاي من التفسير الأول ، الذي يوجد عند بعض القدامى كالطبري ... و المحدثين ، لأن ذلك سوف يوقعه في " الجهل بفيزيولوجيا الإخصاب" وذلك باعتبار " البويضة " نطفة مثلها مثل المني و أن السائل الذي ينزل من المرأة عند الحيض ، وهو دافق ، هو كله نطفة المرأة المختلفة في اللون عن مني الرجل ، و بما أن الحمل يعني انقطاع الحيض فقد اعتقد بعض القدامى أن المرأة لها "مني" أو أن نطفتها دافقة كمني الرجل . وان كانت هذه الملاحظة دقيقة حسيا فهي ليست كذلك علميا لأن البويضة النسوية أمر آخر مثلما أن ما يخصب عند الرجل ليس كل المني .

وقع نفس الشيء عند التعرض لسورة الطارق ، ففي الآيات 5 +6 +7 :" فلينظر الإنسان مما خلق (5) خلق من ماء دافق (6) يخرج من بين الصلب والترائب (7)" .

يفسر الجلالان، مثلا، الآية الأخيرة فيقولان: " يخرج من بين الصلب "للرجل" والترائب" للمرأة وهي عظام الصدر". وعند تعرضه لهذه الآية، يقوم موريس بوكاي بترجمة خاصة للآية يعوّض فيها عبارتي " الصلب" و " الترائب" بعبارة " المنطقة الجنسية للرجل والمرأة" ويتهرب من ترجمة عبارة " الترائب" بمعناها السابق " عظام الصدر " ويقول إن الترجمة بما يعني عظام الصدر " هي " محاولة تفسيرية أكثر من كونها ترجمة. وهي علاوة على ذلك، ضعيفة الوضوح " ( بوكاي ص 256 ).

إن ترجمة " الترائب " بـ" المنطقة الجنسية عند المرأة"، كما يقترح موريس بوكاي، هي محاولة للهروب من المشكل لا غير وهي لا تجدي نفعا وتجعل من البويضة، التي " تخرج من الترائب" جزءا من " الماء الدافق"، وهذا طبعا غير سليم، من ناحية لأن ما يخصب في المني نفسه ليس دافقا بهذا المعنى، فهو حيوان منوي وحيد من بين ما يقارب المائة و خمسة وثمانين مليونا يحتويها مني الرجل "الدافق" أثناء عملية جنسية واحدة. ومن ناحية أخرى لأن البويضة لا علاقة لها " بالدفقان" المنوي عند الرجل تماما. فهي عبارة عن خلية صغيرة جدا ولا يمكن وصفها، مثل المني، بأنها " ماء دافق" وهي لا تشاهد إلا بالميكروسكوب ( المجهر).

إن ما يوجد في النص القرآني هو ملاحظات / مشاهد حسية لا غير، وهي لا تتطابق مع العلم الحديث إلا إذا تعسفنا عليها تأويلا وإخراجا من السياق النصي والمعرفي والتاريخي. ولكننا حتى وإن فعلنا ذلك متوهّمين الدفاع عن الإسلام والعلم، فإننا قد نضر بهما معا، بالإسلام وبالعلم في نفس الوقت، وخاصة بالفكر العلمي.


حول " علم الفلك الإسلامي"


يقدم الدكتور محمود الذوادي بعد علم الأجنة، تصوراته التي اقتبسها عن الدكتور المصري زغلول النجار ـ و عن موريس بوكاي ـ والتي تقول بـ" تطابق حقائق لعلم الحديث مع ما ورد في القرآن والحديث الصحيح" (ص 118) وذلك في إطار ما يسمى "الإعجاز العلمي في القرآن" الذي يعني أن " القرآن يحوي من حقائق علمية حول هذا الكون ما لم يستطع العلماء إدراكه إلا منذ عشرات قليلة من السنين فقط"" (ص118).

إذن، مرة أخرى نرجع إلى فكرتي: تطابق العلم الحديث مع القرآن وسبق القرآن في الكشف عن الحقائق العلمية حول الكون منذ أربعة عشر قرنا.

لقد ذكرنا سابقا أن القول بمثل هذه الأمور قد يضرّ بالعلم والدين في نفس الوقت لأن ذلك يعني ، أولا ، أن العلم وصل أخيرا إلى إثبات " القول الفصل" و " اليقين" الديني مما يجمّد البحث العلمي، لأن أية فرضيات علمية جديدة ستكون دعوة لتجاوز " التطابق" الحالي بين العلم والدين، وثانيا ، أن الاجتهاد الديني سيتوقف لأن المستوى الحالي من العلم " تطابق" مع معرفته اليقينية، فلا داعي إذن إلى اجتهادات جديدة في تفسير آيات القرآن بما أن اجتهاد زغلول النجار و الدكتور محمود الذوادي " يتطابقان" مع الفهم العلمي الصحيح".

إننا نعتقد أنه في خصوص علوم الأرض والفلك يصبح الأمر أكثر خطورة للسبب التالي؛

عندما ذكرنا علم الأجنة، تعرضنا لمراحل نمو الجنين، والمعلوم أن العلوم الحديثة تقدمت كثيرا في هذا الميدان بحيث لم تعد مراحل نموه نظريات أو فرضيات علمية بل حقائق ، لكن عندما يوازي الدكتور بين " نظرية الانفجار الكبير" « The big Bang » والتصور القرآني عن نشأة الكون، ينسى أن هذه النظرية لا تزال تتعرض لنقاشات علمية أحيانا، حتى وإن كانت جزئية، وبالتالي فإعلان تطابقها مع القرآن قد يفاجئ الدكتور نفسه منذ الآن إذا عرف أنه لا يوجد إجماع تامّ بين العلماء حول كل تفاصيل نظريتي الانفجار والانسحاق الكبيرين، ناهيك عما قد يطرح بعد خمسين سنة مثلا . ( انظر مثلا نقد إدغار موران لهذه النظرية في كتابه : م 21 ، ص ص 42-45 )

من ناحية أخرى، نحن نعتقد أن الآيات الخمسة التي يذكرها الدكتور، سيرا وراء زغلول النجا ر و بوكاي ،لا علاقة لها تماما بنظرية الانفجار الكبير وتاريخ الكون في العلوم الحديثة نظرا للأسباب التالية؛

• أولا: إن نظرية الانفجار الكبير في تفسير " نشأة الكون"، لا تتطابق تماما مع التصور الديني عن
" خلق الكون" من قبل الله.

من ناحية أولى لأن تلك النظرية لا تحتوي داخلها إلا على معطيات وعمليات فيزيائية ولا علاقة ضمنها لله بالكون، بينما في النص الديني عملية الخلق تفترض وجود الله الأزلي قبل خلق الكون العارض وتفترض حالة من العدم الفيزيائي الكوني التام، ثم تدخلا إلا هيا في إحداث " الانفجار".

من ناحية ثانية، نظرية الانفجار الكبير، لا تقول أنه، قبل الانفجار لم تكن هنالك أية أشكال للمادة. " فنشأة الكون" في العلم، تعني نشأته على " هيئته الحالية"، وليس النشأة الأولى لكل أشكال المادة على الإطلاق لأن العلم لا يدعي لنفسه القدرة على الإجابة على مثل هذه الأسئلة، وحتى موريس بوكاي الذي يستشهد به الدكتور يعترف بذلك كما سنرى لاحقا.

إذن، من الناحية العلمية الصرفة، نشأة الكون الناتجة عن " الانفجار الكبير"، ليست نشأة من العدم الديني ولا هي ناتجة عن تدخل إلهي بل عبر تفاعلات مادية.

إن العلوم الجيولوجية والفيزيائية والفلكية الحديثة لا تخصص أي مكان لله في تصوراتها ولا تدعي الوصول إلى اكتشاف اللحظة الأولى للوجود الذي حدث بعد "العدم التام". إنها وفيه لفكرة أن " الطبيعة لا تعرف الفراغ" وأن التفسير العلمي يفسر المادة بالمادة ولا يمكنه اللجوء إلى الله في تفسيره لظواهر الكون لأن ذلك يخرجه من "خانة" البحث العلمي إلى اللاهوت أو الفلسفة الدينية في أحسن الحالات.

إن تقديم " نظرية الانفجار الكبير" وكأنها مطابقة للقرآن، يضرّ بالعلم وبالدين نفسه من نفس الوقت،
من ناحية لأننا لو فعلنا ذلك فسنرفض غدا أية نظرية علمية أخرى تحاول نقد وتجاوز نظرية " الانفجار الكبير"، ومن ناحية ثانية لأننا سوف نضفي على تفسيرنا الديني الحالي صبغة يقينية ونهائية مستغلين نظرية علمية قد تكون نسبية ومؤقتة في الميادين العلمية المرتبطة بالكون.
كما أن فكرة "الانفجار" نفسها فكرة تحتوي، في جانب منها، على مخالفة تامة للتصور الديني عن " الخلق الأول"، لأنه حتى يقع انفجار لا بدّ من وجود مواد تنفجر بعد مدة من تراكم تفاعلاتها وبهذه الصفة يصبح الله " مفجّر الكون" وليس خالقه، باعتبارنا حددنا " تطابق الدين والعلم" عند لحظة الانفجار ولا نعرف ما الذي سبقه.

• ثانيا: أما بخصوص الآيات الخمسة و تطابقها مع العلم الحديث فنعتقد أن تدقيقا بسيطا في تفسير الدكتور لتلك الآيات نفسها يمكن أن يبيّن خلاف ذاك تماما.

الآية الأولى: " والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون" ( الذاريات الآية 47).

يستنتج منها الدكتور، تطابقا مع العلم الحديث الذي يقول بفكرة الاتساع المطّرد في الكون. لكن، يتناسى الدكتور أن الآية تتحدث عن " بناء" السماء، وهي فكرة لا علاقة لها تماما بمفاهيم الفضاء والسماء في العلم، إن العلوم لا تعتبر السماء بناء، ولا تقول أبدا أن الله هو الذي بناها.

كما أن تصوّر الاتساع في الآية ( إذا افترضنا أنها تعني الاتساع ) مرتبط بصورة طوابقية عن علاقة الأرض بالسماء وكأنهما طابقان يقع أحدهما فوق الآخر بشكل متواز مرتبط بتصورهما مبسوطتين الواحدة فوق الأخرى. ولعل الآية التي تلي، من "سورة الذاريات" تكفي لتوضيح ذلك، وفيها تقدم الأرض كالفراش " والأرض فرشناها فنعم الماهدون" ( آية 48).

وأخيرا، إن عبارة " لموسعون" قد لا يعني تماما أي معنى في الاتساع الكوني. والمفسرون القدامى، أو بعضهم على الأقل، يفسر العبارة بمعنى: إنا لقادرون، خاصة عندما يربطون معناها بما جاء في الجزء الأول من الآية " بنيناها بأيد"، أي بيناها بقوة.

كما أن عبارة " لموسعون"، عندما نفهمها بمعنى" لقادرون"، لا تعني بالضرورة تواصل الفعل في الحاضر كما يوهم بذلك الدكتور.
لكن، يبدو أن الدكتور محمود الذوادي لا يهمه لا المفسرون القدامى ولا معجم اللغة العربية القديم ولا حقائق العلم الحديث.

ان معنى الاتساع الكوني في علم الفيزياء الفلكية لا علاقة له بالتصور الديني عن الكون في النص القرآني الذي يصور مواقع و حركة الكواكب على أنها ثابتة، ففي القرآن " الشمس تجري لمستقر لها " ( يس ، آية 38) و الشمس والقمر و الليل و النهار " كل في فلك يسبحون "( الأنبياء ،آية 33) و هذا الفلك ثابت و أي تغير في ذلك " المستقر " و " الفلك " يرتبط بعلامات القيامة تقريبا. أما في العلم الحديث فيمكن القول إن الكون يعيش في حالة دائمة من "القيامة " بما أن الأبعاد الكونية في تغير مستمر بفعل حركة الاتساع الدائمة للكون.

و حتى لو وافقنا على معنى موسعون الدال على تواصل الفعل في الحاضر يبقى هنالك مشكل علمي وديني كبير، هذا المشكل هو التالي:
عندما تتوقف عملية الاتساع الكونية في المستقبل ويحدث توازن مؤقت ثم يبدأ الكون بالانسحاق، وهو ما قد يستغرق زمنا طويلا ، عندها ستصبح الآية غير صالحة لتفسير ما يقع في الكون ، أي لن تكون صالحة لكل زمان .
فهل الآية صالحة لمرحلة الاتساع الكوني و ستكون غير صالحة لوصف مرحلة التوازن ثم الانسحاق يا دكتور ؟


• الآية الثانية:

" أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما" ( سورة الأنبياء، آية 30)

يستنتج الدكتور من هذا المقطع من الآية الثلاثين من سورة الأنبياء تطابقا مع نظرية الانفجار الكبير وكأن الآية تدلّ أن الكون كان " جرما أوليا واحدا" ( مرحلة الرتق) ثم انفجر (مرحلة الفتق) ( ص119).

إن هذا الجزء الأول من الآية يتلوه جزء آخر هو: " وجعلنا من الماء كل شيء حي آفلا يؤمنون".
والآية بالتالي، بمصطلحي الرتق والفتق لا علاقة لها بالضرورة بأي انفجار. إن الشيء المرتوق هو الشيء المسدود المتصلّب، وعندها، تصبح عبارة " ففتقناهما" ( في صيغة المثنى) تعنى فتق السماء بأن تمطر والأرض بأن تنبت، وهو ما يوحي به الجزء الثاني من الآية " وجعلنا من الماء كل شيء حيّ أفلا يؤمنون".

إذن، من ناحية أولى قد يعني مصطلحا الرتق والفتق أمرا آخر تماما له علاقة بنزول المطر وطلوع النبات وانبثاق الحياة فوق الأرض بعد أن كانتا ( السماء والأرض) رتقا مسدودا.
إن عبارة الرتق تعني الانسداد، بالنسبة للأرض، بأن لا تنبت، وبالنسبة للسماء بأن لا تمطر، و السماء هنا تبدو وكأنها سقف مسدود فوق الأرض، يمطر عندما يفتق، وكأن الماء محصور فوقه.
وهذا التصور يبدو مرتبطا بالتصور التوراتي حول الأرض والسماء الذي تقدمه التوراة على الصورة التالية الأرض: " وكانت الأرض خاوية خالية" أما السماء: " صنع الله الجلد وفصل بين المياه التي تحت الجلد والمياه التي فوق الجلد. و سمّى الله الجلد سماء " ( م 56 ، ص 1 )
.
وبالتالي، بعبارة القرآن ، كانت الأرض رتقا ثم فتقتت بأن أنبتت، وكانت السماء رتقا ثم فتقت فأمطرت، أي نزل الماء الذي يوجد فوقها ( في التصور التوراتي ) بعد أن جمع الماء الذي تحتها في البحار والمحيطات.

من ناحية ثانية، و حتى لو قبلنا بالمعنى الذي يقول أنهما كانتا "جرما واحدا"، فلا شيء يدلّ على أي انفجار بالمعنى العلمي الوارد في العلوم الحديثة.

إن الانفجار الأول في العلم وقع داخل مادة غازية أدّى برودها فيما بعد إلى تكوّن المجرات والكواكب داخلها، أما في هذه الآية، إذا سايرنا الدكتور في تصوره عن الانفجار، فإن الانفجار وقع بين الأرض والسماء نفسيهما، إذ كانتا ملتصقين في "جرم واحد " غير غازي ، ثم انفصلتا، وبالطبع لا علاقة لهذا الأمر تماما بالعلوم الحديثة.
وقد حاول كل من زغلول النجار و موريس بوكاي وعلى إثرهما محمود الذوادي التحايل على الأمر، فكأنما أحسوا به، فأضافوا آية أخرى هي الآية الثالثة:

الآية الثالثة:
" ثم استوى إلى السماء وهي دخان"، سورة فصّلت،( الآية 11).

وصل الدكتور محمود الذوادي تفسير هذه الآية بما سبقها وقال: " إن كوننا قد بدأ بجرم أولي واحد ( مرحلة الرتق)، ثم انفجر هذا الجرم ( مرحلة الفتق) فتحول إلى غلالة من الدخان (مرحلة الدخان) التي تتحدث عنها الآية الثالثة أعلاه" ( ص119).

إن هذا الاستنتاج مغالطة تامة وقلب تامّ لنظرية الانفجار الكبير إضافة إلى أنه سوء تفسير لصريح الآية المذكورة.
فلو ركّز الدكتور فيما كتبه للاحظ أولا أن السماء ، فقط ، كانت دخانا، وليس كل الجرم الأولي الذي يقول عنه أنه " تحول إلى غلالة من الدخان".
لكن، بما أن الدكتور، وكالعادة، لا يريد أن ينتبه إلى أن ما اقتبسه عن القرآن ليس الآية إحدى عشرة كاملة، بل مقطعا منها فقط ، وبما أنه لم يراجع الآيات السابقة واللاحقة ( على ما يبدو) ، فهو يوّرط نفسه بصورة عمياء وراء زغلول النجار.

إن توضيح المسألة يتطلب العودة إلى السياق الذي وردت فيه جملة " ثم استوى إلى السماء وهي دخان" باعتبارها جزءا من الآية إحدى عشرة، مع ربطها بالآيات السابقة واللاحقة وعندها سوف نعرف أنه لا علاقة لما ذكره الدكتور تماما بنظرية الانفجار الكبير
.
جاء في الآيات 9 و 10 و 11 و 12 من سورة فصّلت ما يلي: " قل إنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك ربّ العالمين (9) وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدّر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين (10) ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين (11) فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزيّنا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم (12) ".

إذن حسب هذه الآيات نعرف ما يلي:
أولا: الله خلق الأرض في يومين .
ثانيا: جعل فيها الجبال وقدّر فيها الأقوات في أربعة أيام.
ثالثا: ثم استوى ( صعد، أو قصد) إلى السماء ( وهي وحدها كانت دخانا وليس كل الجرم) و " استدعى" الأرض والسماء إليه....
رابعا: حوّلها إلى سبع سماوات ( و سبع أرضين)
خامسا: زين السماء الدنيا بمصابيح وحفظها من الجن عبر الشهب.
ما علاقة هذا بنظرية الانفجار الكبير؟

هل تقول نظرية الانفجار الكبير أن الأرض قد خلقت ( في يومين) ثم تكونت الجبال و تقدرت أحوال الخصب/ القوت فيها في أربعة أيام؟ ( وطبعا سيقول الدكتور أن " اليوم" في القرآن ليس اليوم البشري ولكننا نسأله أي المقاييس الزمنية يقترحها لمفهوم " اليوم" هل سيفعل مثل موريس بوكاي و يقول إنه " ألف سنة" كما ورد في " سورة السجدة- الآية 05، أم إنه " خمسين ألف سنة" كما ورد في " سورة المعارج- الآية 84، أم أي مقياس آخر؟ )

هل تقول نظرية الانفجار الكبير أنه بعد وجود الأرض، كانت السماء دخانا، بطريقة تفيد، حسب الدكتور، أن " الجرم الأولي الواحد" مرّ بثلاثة مراحل، الرتق و الفتق والدخان؟

وهل تقول نظرية الانفجار الكبير أن " السماء الدنيا" وحدها فيها مصابيح/ نجوم و أن الشهب تقوم برجم الجن الذين يسترقون السمع؟
وهل تقول العلوم الحديثة بوجود سبع أرضين وسبع سماوات؟
و هل تقول العلوم الحديثة ان الجبال " الرواسي" هي التي تجعل الأرض متماسكة " لألا تميد " / تتحرك و كأنها أوتاد خيمة ؟

إن موريس بوكاي نفسه يصمت حول هذا الأمر.
أليس من الأجدر بالدكتور محمود الذوادي ألا يدخل الدين في العلوم الحديثة، على الأقل بهذه الطريقة، إذا كان يريد فعلا مناصرة كل من الدين والعلم في نفس الوقت؟

الآية الرابعة:
" يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين " (سورة الأنبياء، آية 104).

والآية الخامسة:
" يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات" ( سورة إبراهيم، آية 48).

إن هاتين الآيتين ترتبطان بالفناء في المعنى الديني طبعا، لكن ما يهّمنا هو مدى تطابقهما مع " نظرية الانسحاق الشديد" العلمية.

يقول الدكتور: " وفي المقابل، فإن الآيتين الرابعة والخامسة تتحدثان عن نهاية معالم هذا الكون بكثير من الدقة تسبقان بها العلم الحديث بألف وأربعمائة سنة" (ص 119).
وبعد ذلك يحاول " المطابقة" بين التصور القرآني عن نهاية الكون والتصور العلمي عن تواصل اتساع الكون بعد الانفجار الأول إلى درجة محددة تتساوى فيها قوة الاتساع الناتجة عن الانفجار وقوة الجاذبية الجامعة لمكوناته والتي سوف تقوم بتجميع تلك المكونات عبر ما يسمى " الانسحاق الشديد".
إن ما لا يراه الدكتور هو التالي ؛

أولا: العلم الحديث عندما يحلل " الانسحاق الكوني" لا يدخل في تصوراته دور الله في العملية بل يكتفي بتحليل العلاقة بين مكونات الكون عبر قوتي الدفع الانفجارية والجذب الانسحاقية لا غير.

ثانيا: العلم الحديث لا يقول إن " الانسحاق" سيؤدي بالضرورة إلى تكون " جرم واحد مشابه تماما للجرم الابتدائي الأول الذي ابتدأ منه الخلق الأول" (ص 119) فمسألة " الشبه التام" هذه مقحمة من الدكتور، كما أن الحديث عن " جرم ابتدائي أول"، بالمعنى الذي يقصده الدكتور، لا مكان له في العلم الحديث، فالعلم لا يقول بوجود " جرم أول" بل يقول بوجود " سديم غازي" وهنالك فرق كبير بين الاثنين، إلا أن الدكتور يحاول التوفيق بين المصطلحين موهما إيانا بالتطابق بين تصوره والعلم الحديث. ففي حين أن مصطلح "الجرم" قد يحيل على كلمات نجم أو كوكب أو أي شكل من الأجرام السماوية غالبا، يحيل مصطلح السد يم الغازي الأولي في نظرية الانفجار على وجود غازي تحديدا.

إن تصوّر الدكتور محمود الذوادي هو التالي: " إن كوننا قد بدأ بجرم أولي واحد ( مرحلة الرتق) ثم انفجر هذا الجرم ( مرحلة الفتق) فتحوّل إلى غلالة من الدخان ( مرحلة الدخان) " ( ص119)

إن الاختلاف بين " الجرم الابتدائي الأول" و " السد يم الأول" ليس مسألة لغوية بل هو اختلاف بين تصورين فلكيين واحد منهما يقول إن المرحلة الأولى كانت " سد يما غازيا" ( وهو تصور العلم) والثاني يقول إن " مرحلة الدخان" هي الثالثة، بعد مرحلتي الرتق و الفتق، و بالتالي يعتقد الدكتور، على ما يبدو، أن الأرض و السماء كانتا ملتصقتين في البداية ( الجرم الأول المرتوق) ثم تمّ فصلهما عن بعضهما ( الفتق) فكانت السماء دخانا ( مرحلة الدخان الثالثة).

ثالثا: إذا قبلنا أن نهاية العالم سوف تعني العودة إلى حالة مشابهة " للخلق الأول"، فلا يوجد أي مانع علمي من وقوع نفس " الانفجار الأول" من جديد، فيكون لدينا لاحقا " انفجارا ثانيا" ثم " انسحاقا ثانيا" وهكذا إلى ما لا نهاية له في الزمان، في حين أن التصور الديني عن الفناء الكوني لا يحتمل مثل هذا التفسير كما لم يحتمل سابقا، اعتبار الانفجار الأول بداية الكون " على هيئة الحالية"، وليس بدايته المطلقة، من عدم.

رابعا: الآيتان تعطيان صورة مسطحة للسماء والأرض وهذا ما يوحي به تشبيه " طي السجل للكتب" (رغم أن هذا التشبيه قد يعني فقط عبارة الفناء/ النهاية، بمعنى الانتهاء من " فتح السجل للكتب .)
كما أن الآية الخامسة تحتمل تفسيرا لا علاقة له تماما بالعودة إلى " الجرم الأول"، فعبارة " يوم تبدل الأرض غير الأرض" تعني يوم تصبح الأرض على هيئة مخالفة لهيئتها الحالية- وهذا المعنى لا يعني بالضرورة عودتها إلى هيئة " الجرم الأول"، وهذا ما يؤكده الجلالان في تفسيرهما للآية مستندين إلى حديث نبوي صحيح إذ قالا إن الناس يحشرون يوم القيامة " على أرض بيضاء نقية كما في حديث الصحيحين" وهي ليست غازية كما يبدو.
إن هذا التفسير مثلا، وهو مستند إلى الحديث الصحيح، لا علاقة له تماما بعودة الكون بعد " الانسحاق الشديد" إلى وضعية " الجرم الأولي" العلمي، الذي هو " سديم غازي أول".
إننا، إذن، أمام محاولة فاشلة من "عالم اجتماع إسلامي" يريد إثبات التطابق بين العلم الحديث و تصوره أو تفسيره الخاص للقرآن و الحديث النبوي حول نشأة الكون في العلم و خلقه في التصور الديني و إن الاستنجاد بموريس بوكاي، في كتابه الذي يحتفي به الدكتور، ويقوم الشيخ القرضاوي بالإشهار له في برامجه ، حول الاعجاز العلمي، " في " الجزيرة " لا ينفع، فقد لخص بوكاي التصور العلمي لنشأة الكون كما يلي:

" تكوّن وتطور المجرّات والنجوم و ا أنظمة المجرّات"
" ماذا كان يوجد في البداية في الفضاء شديد الاتساع المملوء بالمجرات؟
لا يجيب العلم الحديث على هذا السؤال إلا انطلاقا من مرحلة من تطور الكون لا يستطيع تحديد المدة التي تفصلنا عنها.
في الأزمان الأكثر قدما ، التي يستطيع الحديث عنها، يقول العلم الحديث أن الكون كان متكونا من كتلة غازية مركبة أساسا من الهيدروجين وفي جزء منها، من الهليوم، وذلك في دوران بطيء.
هذا السديم (Nébuleuse) انقسم لاحقا إلى أجزاء ذات أبعاد وكتل عظيمة إلى درجة أن علماء الفيزياء الفلكية يستطيعون تقديرها بين مليار و مائة مليار مرة مثل الكتلة الحالية للشمس ( وهذه الكتلة تمثل ثلاثمائة ألف مرة كتلة الأرض).
تحيل هذه الأرقام على أهمية الأجزاء من الكتلة الغازية الأولية التي ستوّلد المجرات.
إن انشطارا جديدا سيولد النجوم. يدخل حينئذ مسار تكثف ( تصلب: condensation ) تدخل في الاعتبار داخله قوى الجاذبية (لأن هذه الأجسام هي في حركة وفي دوران يستمر في السرعة)، والضغط وتأثير الحقول المغناطيسية والإشعاعات. تصبح النجوم مضيئة (brillantes) وهي تتقلص وتحوّل قوى الجاذبية إلى قوى حرارية. كما تدخل في الاعتبار تفاعلات نووية- حرارية (thermonucléaires) وبواسطة الانصهار، تتكون ذرات ثقيلة على حساب أخرى خفيفة، وهكذا نمرّ من الهيدروجين إلى الهليوم ثم إلى الكربون والأوكسجين لنصل إلى المعادن وإلى (المعادن الخفيفة). « Métalloïdes »
هكذا يصبح للنجوم عمرا، ويقوم علم الفلك الحديث بتصنيف الأعمار حسب مرحلتها التطورية، كما يصبح للنجوم مماتا، فقد لاحظنا في المرحلة التطورية الأخيرة الانطفاء المفاجئ لبعض النجوم التي تصبح " جثثا" حقيقية.
تتكون الكواكب، والأرض تحديدا، هي الأخرى من مسار انفصال ينطلق من مكون أولي كان في البداية " السد يم الأول".
إنه معطى لم يعد يشكك فيه منذ ربع قرن كون الشمس تكثف داخل السد يم الأوحد وكذلك الكواكب داخل القرص السد يمي المحيط بها.
ونلاحظ ـ وهذا ذو فائدة كبيرة بالنسبة للموضوع الذي يهمنا هنا- إنه لم يكن هنالك تعاقب في تكون العناصر السماوية كالشمس وفي تكون العنصر الأرضي. هنالك تناظر تطوري مع وحدة الأصل.
هنا، يخبرنا العلم عن المرحلة التي وقعت فيها الأحداث المذكورة. فينما نقدّر تقريبيا بعشرة مليارات سنة قدم مجرتنا. تكوّن النظام الشمسي، في هذه الفرضية، بعد ذلك بأكثر من خمسة مليارات من السنين بقليل.
إن دراسة النشاط الإشعاعي الطبيعي تمكّن من تحديد عمر الأرض ولحظة نشأة الشمس بأربعة مليارات ونصف المليار من السنوات (مع دقة حالية بحوالي مائة مليون سنة حسب حساب بعض العلماء)..."
( بوكاي ... صص182-184).


هكذا، إذن، لخّص موريس بوكاي تصوّر العلم الحديث عن نشأة الكون، لكنه، ومن ورائه زغلول النجار ومحمود الذوادي ، يستنتج تطابق العلم الحديث مع القرآن، فلنراجع معهم الأمر جيدا.

-أولا: يعترف موريس بوكاي أن العلم الحديث لا يجيب عن سؤال: " ماذا كان يوجد في البداية" – إلا " انطلاقا من مرحلة من تطور الكون"، وهذا يعني أن نشأة الكون، في العلم الحديث، هي نشأة ضمن مسار تطوري و ليس عملية خلق من عدم، فالعلم الحديث لا يقول إنه قبل " السد يم الغازي الأول" كان هنالك حالة من العدم المادي مثلما لا يقول إن الله هو مفجر الغاز الأول.

-ثانيا: العلم الحديث يقول إن " الكون كان متكونا من كتلة غازية" في البداية، وهذا يخالف تماما ما كتبه الدكتور الذوادي عندما قال: " إن كوننا بدأ بجرم أولي واحد ( مرحلة الرتق)، ثم انفجر هذا الجرم ( مرحلة الفتق) فتحول إلى غلالة من الدخان ( مرحلة الدخان)".
فمرحلة الدخان هنا تبدو في المرتبة الثالثة بينما في العلم الحديث، الكتلة الغازية هي الأولى ثم انفجرت فولّدت ظهور المجرات والكواكب.

-ثالثا: العلم الحديث يميز بين انفجار الكتلة الغازية الأولى وتكوّن المجّرات منها، وبين الانشطارات داخل المجّرات نفسها والتي كونت الكواكب مثل الشمس والقمر والأرض داخل كل مجرة في حدّ ذاتها بينما تغيب هذه الأمور تماما في النص القرآني.

-رابعا: العلم الحديث يقول بالتناظر التطوري بين نشأة الشمس والقمر والأرض داخل المجرّة الواحدة، لكنه يكتفي بالحديث عن " وحدة الأصل" الغازية للمجرات الكبرى لذلك فإن "الانفجار الكبير" الأول في " الكتلة الغازية" سبق نشأة الشمس والأرض بأكثر من خمسة مليارات من السنوات.

- خامسا: العلم يقول إن الكون " الحالي" عمره حوالي عشرة مليارات سنة ( و هذا زمن كتابة بوكاي لمؤلفه سنة 1978) أما عمر الأرض والشمس فهو حوالي أربعة مليارات ونصف المليار من السنوات. وهذا يعني أن نشأة الأرض والشمس تطلبت خمسة مليارات ونصف مليار سنة. فهل تلك كانت الأيام الستة للخلق التي توجد في التوراة والإنجيل والقرآن؟

إن مقاييس اليوم التي ذكرناها في سورتي السجدة والمعا رج أقصاها: يوم يقابله خمسون ألف سنة. وستة أيام بقابلها بالتالي ثلاثمائة ألف سنة، وهي بعيدة تماما عن التصور العلمي الذي هو خمسة مليارات ونصف المليار من السنوات، هذا إن سكتنا أصلا عن كون اليوم الذي يقابل خمسين ألف سنة هو فقط يوم القيامة، كما تدل على ذلك الآيات المذكورة، أما أيام الخلق فستة، حسب التصور الإسلامي الأكثر انتشارا، وهي تبدأ بيوم الأحد وتنتهي بالجمعة، في وفاق تام مع التصور التوراتي والإنجيلي للخلق.

إن مسألة الأيام الستة هذه تطرح مشكلا كبيرا على رجل الدين في علاقته بالعلم الحديث ويعبر عن ذلك موريس بوكاي نفسه في كتابه، في الصفحات (172-175)، فهو يلوم التوراة والإنجيل على تقديم الأيام الستة بمعناها المتعارف عليه ( من الأحد إلى الجمعة) ويقول إن ذلك مخالف للعلم وللمنطق بما أن الشمس والقمر لم تخلقا في البداية ( لا دينيا و لا علميا)، فكيف تحدد التوراة وكيف تقول الأناجيل بستة أيام قبل أن تظهر الظاهرة الطبيعية لتي تمكّن من القياس؟
وعندما يتعرض إلى نفس النقطة في القرآن، يحاول تفسير عبارة يوم بعبارة " مرحلة" ويستنجد بالآيتين المذكورتين من سورتي السجدة ( الآية 05) و المعا رج ( الآية 04)، وهو لا ينتبه أن الآيتين تتعلقان بيوم القيامة فقط وليس بأيام الخلق الستة.

إننا نعتقد أن معنى الأيام الستة في القرآن هو معنى حرفي لإظهار قدرة الله على خلق كل هذا الكون في مدة وجيزة جدا، أما معاني يوم القيامة المقدمة في سورتي السجدة والمعا رج فهي لتنبيه الكفار إلى هول العذاب الأخير يوم القيامة.
إذن، نرى هنا، محاولة فاشلة تماما من " عالم اجتماع إسلامي" في إثبات التطابق بين العلم الحديث والقرآن والحديث النبوي حول نشأة ونهاية الكون.
إن الاستنجاد بزغلول النجار أو بموريس بوكاي لا ينفع حسب رأينا وإن أحسن جلّ لمثل هذه الأمور هو التفريق الواضح بين طبيعتي كل من النص الديني والبحث العلمي الحديث و فصلهما دفاعا عن حرية المعتقد الديني من ناحية وحرية البحث العلمي من ناحية ثانية.

إن النص الديني ليس هدفه تقديم نظريات علمية ، رغم انه يحتوي على رؤية للعالم ، بل دعوة الناس إلى الإيمان و التسليم بما يحتويه دون براهين تجريبية أو عقلانية في أحيان عديدة.
.إننا نعتقد أنه كلما حاول أحدهم تأكيد مبدأ " التطابق" بين العلم الحديث والدين، إلا وأساء إلى الطرفين في نفس الوقت. فالمطلوب هو الفصل، ولو إجرائيا، بين المبحثين حتى لا يتعطل البحث العلمي باسم الدين أو يتعطل الاجتهاد الديني باسم العلم الحديث.

................................

ّّّّّّّّ
من ناحية أخرى لا بدّ من تجنب تحويل مسألة الحقيقة والخطأ في العلم إلى مسألة صدق وكذب أخلاقية أو صواب وزلل دينية.
إن ذلك لن يؤدي إلا إلى طرح المسائل بصورة كاريكاتورية مضحكة- مبكية كما فعل الدكتور الذوادي.

ففي الجزء المخصص لـ" محدودية صدقية المعرفة البشرية" من دراسته كنا نظن أن الدكتور سيتحدث فقط عن أمور علمية معرفية إلا أنه يطلع علينا بهامش غريب: يقول فيه:

" وعلى رغم تجمع الكثير من المعطيات العلمية المؤكدة على الجوانب السلبية لتعاطي الخمور جماهيريا، فإن المرء لا ينتظر من سلط هذه المجتمعات أن تتخذ قرارا مثل القرار الذي اتخذه الإسلام بشأن الخمر، إن مجيء الوحي في هذه القضية الشائكة وأمثالها ليرشد الناس ويقودهم مطلب ضروري يحتاج البشر إلى معرفة يقينية حاسمة. إن تحريم الإسلام تعاطي الخمر حلّ جذري بالتأكيد لهذه المعضلة، فهو من نوع "اقطع الرأس تنشف العروق" (ص 123).

إن ما يهمنا في هذه الفقرة ليس مسألة الخمر في حدّ ذاتها، رغم أن العلوم الحديثة أثبتت أن تناول أنواع من الخمور بمقادير مضبوطة له فوائد صحية عظيمة جدا على الجسد.
إن ما يهمنا هو مسألة " قطع الرؤوس" هذه. فإذا كان الدكتور مناصرا لهذا الأمر في خصوص سلوك تناول الخمر، فكيف سيكون موقفه مع مسائل تتعلق بنشأة الكون والإنسان والاجتماع وغيرها.
إننا نرى هنا، مع الأسف، احتمال الانزلاق الخطير الذي يمكن أن يدعو إليه " عالم اجتماع إسلامي"، احتمال إشهار سلاح التحريم بوجه مخالفيه الرأي في العلم وفي الدين.
إننا بصدد دعوة أصولية تحت رداء علمي لا غير وقدرنا أن ندافع عن أبجديات الحرية العلمية والدينية في القرن الواحد والعشرين ضدّ "حركة أصولية" تعلن ضرورة الربط بين " العقل و النقل" داخل إطار البحث العلمي نفسه وتتهجم، بالتالي على " الملاحدة و الللأدريين" وعلى الذين " ينكرون وجود علاقة تعاون بين العلم والدين" بحجة " الوحدة الابستمولوجية " المزعومة.
إن الدكتور الذوادي قد يفتح أبواب جهنم على هؤلاء ويدعو إلى اعتماد مبدأ " اقطع الرأس تنشف العروق" في ميدان معرفي علمي.
إنه يتحاشى السؤال الأهم في رأينا: إذا كانت الأمور في الغرب تتميز بما يلي: " يغلب على علماء الغرب ثلاثة أصناف: الملحدون، اللاأ دريون والذين ينكرون وجود علاقة تعاون بين العلم والدين"(ص 113) وهي وضعية يرفضها الدكتور، فبماذا يفسر الدكتور تقدم الغرب العلمي تحديدا، منذ الثورة على الكنيسة والفصل بين " العقل والنقل" ؟

إن واحدا من أهم أسباب التقدم العلمي في الغرب هو تحديدا العلمانية التي يعمل بها، رغم تطرف القائمين عليها أحيانا كثيرة و رغم التراجع عنها أحيانا أخرى ، هذه العلمانية التي تسمح للجميع بحريتي المعتقد الديني و البحث العلمي بحيث يتم الفصل فعليا ( على الأقل من حيث المبدأ إذ توجد دائما صراعات حقيقية في الواقع) بين الدين والعلم على قاعدة الحرية للجميع.
وإن هذه العلمانية تكفل للملا حدة واللاأدريين وللمؤمنين في نفس الوقت حريتهم بحيث لا يعرقل رجل الدين البحث العلمي ولا يحق للعالم، تحت راية علموية ما، التضييق على حرية المعتقد الديني.

إن الدكتور الذوادي، عوض أن يدعو إلى مثل هذه العلمانية المعتدلة لضمان التقدم العلمي وحرية المعتقد في نفس الوقت، يعتبر العلمانية معادلا لفساد الدين (ص 126)، في حين أن شكلها غير المتطرف لا يعني سوى الحياد الديني الضامن لحرية المعتقد للجميع بما في ذلك حرية عدم الاعتقاد في الدين، وبما في ذلك حرية تغيير المعتقد.
انه يطالب بضرورة الربط بين العقل و النقل من منظور إسلامي ضيق سوف يتضرر منه عالم الاجتماع العربي المسيحي مثلا.
وحتى داخل الحقل الإسلامي، لا يبدو الدكتور نصيرا للتيار العقلاني داخل الفكر الإسلامي، مثل الاعتزال والرشدية...، إنه من أتباع الغزالي- ابن تيمية.
إنه لا يقدم للمسلمين حلولا واضحة حول حرياتهم العلمية والدينية لأنه لم يحسم هو نفسه، مثلا، مسألة العلاقة بين الدين والعلم وبين القدرية والجبرية.

إنه يقول مثلا إن "صعوبة تحقيق صدقية كاملة في المعرفة البشرية هو الثمن الذي يدفعه الإنسان مقابل ما يتمتع به من قدرة على التفكير الحر" (ص 121)، لكن في المقابل يقول أيضا " بالتدخل الإلهي" في التفكير العلمي البشري بصورة جبرية تماما.
إنه لا يكتفي بالتفكير الجبري عند الحديث عن " الهداية إلى اكتشاف العلم" بل في كامل الفضاء الاجتماعي، فعند الحديث عن الفساد الاجتماعي، يختم الدكتور كلامه، كفقيه سني جبري بالآية القرآنية: " وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرنا ها تدميرا" (الإسراء آية 16 ص 127) وهذا منظور جبري قد يصطف وراء من كفروا القدرية في الإسلام.

إن ما يهمنا من الأمر ليس العودة لنقاش نقاط الاختلاف بين القدرية والجبرية في الإسلام. إن هذا النقاش يقع خارج إطار علم الاجتماع الحديث ، حيث الأمر يدور على الأرض و داخل المجتمع دون إحالة إلى أية قوة ما ورائية.
إن النقاش السوسيولوجي الحديث حول حرية الإنسان أو عدمها يقع داخل المجتمع الإنساني، وليس في علاقة بالله. ومن هذا المنظور فإن أطروحات الدكتور الذوادي تصبح ميتا سوسيولوجية.
وهو لا يقدّر أن ذلك، من منظور سوسيولوجي حديث، قد ينزع أية مسؤولية سياسية واقتصادية عن " المترفين" و يخرجها من الفضاء الاجتماعي تماما لتصبح مسألة إلهية، فبحجة أن الله " خلق كل شيء فقدّره تقديرا" ( الفرقان، آية 2)، يصبح الله وكأنه مسؤول عن الفساد السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
وطبعا يمكن للدكتور أن يستشهد بآيات تناصر الجبرية ضد القدرية، و نحن لا نريد الحسم في المشكل الآن، فتاريخ الصراع بين المذهبين في الإسلام لم يحلّ رغم محاولات الأشعرية التوفيق بين الخلق والكسب و كما فعل ابن خلدون.
إن هذا المنظور قد لا يختلف كثيرا عن المنظور الخلدوني الذي هو فعلا منظور " مفكر محافظ " ، كما نقل الدكتور عن العالم غيب (Gibb)، لكن هذا الأمر كان منذ ستة قرون، فهل نحن اليوم في حاجة إلى نفس الشيء، في القرن الواحد والعشرين، من أجل " تأصيل" علم الاجتماع؟

للإجابة على هذا السؤال نرجو من الدكتور أن يقول لنا مثلا هل الفكرة اللائكية / العلمانية، التي اعتبرها بمثابة " فساد للدين" هي " إلهام إلهي" لمفكري أوروبا؟
وهل النظام الديمقراطي العلماني حدث بأمر إلهي لمترفي الغرب حتى يفسدوا في الأرض؟
وهل البديل هو العودة إلى الدولة الدينية عندنا وتخلي الغرب نفسه عن الدولة العلمانية والاتجاه نحو الدولة الإسلامية أيضا، ( بما أن المسيحية محرفة دينيا ومعادية للعلم حسب الدكتور)؟

ما هي العبر التي يريدنا الدكتور أن نستخلصها فعليا من عقل " صاحب المبتدأ والخبر"؟

نحن نعتقد أن العبرة المعرفية الأساسية هي تلك التي وردت بصورة غير مباشرة عند أرنولد توينبي الذي مدح ابن خلدون مدحا كبيرا و مفخخا سقط فيه الدكتور الذوادي و نقله.
يقول توينبي: " ففي ميدان نشاطه الفكري يبدو أنه (ابن خلدون) لم يتأثر بأي من سابقيه، ولم يجد من يضاهيه من معاصريه، ولم يثر فكره الريادي أي ردّ فعل بين من جاؤوا بعده ومع ذلك، فإنه في المقدمة وكتاب العبر قد تصور وصاغ فلسفة تاريخ هي من دون شك أعظم الأعمال الفكرية في مجالها الذي لم يتوّصل إليها بعد أي عقل بشري في أي زمان وأي مكان" (ص107).

إن هذا المديح الهائل لابن خلدون، رغم طابعه الإيجابي لا يجب أن يمرّ دون التعليق التالي :
ماذا يعني أن ابن خلدون " لم يتأثر بأي من سابقيه"؟
هل ابن خلدون لحظة مفارقة للتاريخ العربي الإسلامي والعالمي ولم يتأثر لا باليونان ولا بإخوان الصفا ولا بالفلسفة الأشعرية ولا بأي شيء آخر؟ نحن نعتقد أن الأمر خلاف ذلك.
وماذا يعني أن " فكره الريادي لم يثر" أي ردّ فعل بين من جاؤوا بعده"؟
ألا يذكر التاريخ مثلا أن المقريزي ، وهو أحد تلامذة ابن خلدون، كتب مستفيدا من معلمه، كتابه الشهير " إغاثة الأمة بكشف الغمة".
و ماذا يعني أن ابن خلدون " لم يجد من يضاهيه من معاصريه"؟ فهل يفترض دائما في كل مراحل التاريخ ألا يوجد في أي بلد أقلّ من اثنين، على الأقل، على قمّة أي فكر أو علم؟
إن مديح أرنو لد توينبي صحيح في جزء منه لأن ابن خلدون جاء في عصر انحطاط كان ما بعده أكثر انحطاطا، لكن تقديم ابن خلدون وكأنه خارج التاريخ خطأ علمي على ما نعتقد، وهذا ما يبدو أنه يروق للدكتور الذوادي حتى يبرّّر فكرة " الإلهام الإلهي" و " مرحلة الإضاءة" الميتافيزيقية.
والأهم، ولكن ما لا ينتبه إليه الدكتور الذوادي، في كلام أر نولد توينبي أن هذا الأخير اعتبر المقدمة و كتاب العبر "فلسفة تاريخ" وليس "علم تاريخ" أو "علم اجتماع" وقد افتتح الدكتور الذوادي دراسته بهذا الاقتباس من توينبي وهو ضدّ كل ما يريد الوصول إليه فيها حول " علم العمران".

إن ابن خلدون هو صا حب فلسفة تاريخ وفلسفة اجتماع بالأساس، كما هو الأمر مع كل المفكرين العظماء في" القرون الوسطى"، قبل النشأة الحديثة للعلوم الإنسانية والاجتماعية.
إن تلك الفلسفة تحتوي بالطبع إرهاصات ومقدمات مهمة جدا تهيّأ للعلوم الحديثة ولكنها ليست بعد علوما، بالمعنى الحديث للكلمة، مستقلة متشكلة في مواضيعها ومناهجها و أهدافها. إن علم العمران الخلد وني لا يشذ عن هذه القاعدة رغم عظمته التاريخية الفعلية و إن اكتشاف ابن خلدون لعلمه الجديد، علم العمران، قد يكون مرتبطا بموقفه السلبي العام من الفلسفة ، و خاصة " بعض ما فسد فيها " لكنه لم يصبح بعد علما حديثا لأنه بقي مرتبطا بالأبحاث الكلامية الإسلامية وهو لذلك أقرب إلى فلسفة الاجتماع الدينية منه إلى العلم الاجتماعي .

إن مسار الانتقال من فلسفة التاريخ إلى علم التاريخ ومن الفلسفات الاجتماعية إلى العلوم الاجتماعية تطلب قرونا لاحقة، حتى أواخر القرن التاسع عشر تقريبا، فهل يعقل ألاّ ينتبه الدكتور الذوادي، كالعادة، إلى محتوى ما يقتبسه عن الآخرين إلى هذه الدرجة؟ أم أنه يعي جيدا ما يفعل ويدعونا بالتالي إلى التراجع عن علوم الاجتماع باتجاه " فلسفة اجتماع إسلامية" بحجة الربط بين العلم و الفلسفة و الدين ؟

بعد كل الذي رأيناه سابقا، نحن نعتقد فعلا أن ما يقترحه الدكتور الذوادي على العرب من باب "التوحيد الابستمولوجي" و " علم اجتماع ميتافيزيقيا الرموز الثقافية" ومن " المراوحة بين النقل والعقل" والتشكيك في قدرة المعرفة البشرية على الوصول إلى الحقيقة والدعوة إلى إدماج " اليقين الديني" داخل البحث العلمي نفسه، والدعوة إلى الدولة الدينية... كل هذا هو أقرب إلى " فلسفة اجتماع إسلامية" منه إلى علم اجتماع حديث.






















ملحق : حول " حفريات في مفهوم التغيير الاجتماعي عند ابن خلدون"


قبل الدراسة السابقة حول ابن خلدون، نشر الدكتور أيضا مقالا بمناسبة إحياء الذكرى ستمائة لرحيل عبد الرحمان بن خلدون، عنوانه: " حفريات في مفهوم التغيير الاجتماعي عند ابن خلدون. ( م 57)

احتوى هذا المقال على فتوحات جديدة في " علم الاجتماع الإسلامي" نهتم ببعض منها في علاقة بنقطتين نكتفي بهما الآن، الأولى في علاقة بالوضعية، باعتبارها واحدة من مرتكزات علم الاجتماع الحديث والمعاصر، والثانية في علاقة بابن خلدون الذي يقدمه الدكتور الذوادي كدليل على ضرورة الربط بين العلم و الإسلام كشرط للمصداقية العلمية في "علم الاجتماع الإسلامي" وقد فضلنا الاكتفاء بهاتين النقطتين لما لهما من " أهمية باراديغمية" وتركنا جانبا التفاصيل الوصفية الأخرى التي تكتفي بتفسير ابن خلدون أو مقارنته بغيره من علماء الاجتماع و الانثروبولوجيا.

أ- كتب الدكتور في " نداء من أجل تأصيل علم الاجتماع العربي " أن دوركهايم يفهم الواقع الاجتماعي و" كأنه شيء جامد لا حياة ولا حركة في داخله" ( م 1 ، ص40).
لكن الدكتور في "حفرياته" في مفهوم التغيير الاجتماعي عند ابن خلدون، يقارن بكل بساطة، بين تصوّر ابن خلدون وتصور إميل دوركهايم عن التغيير الاجتماعي ويرسم جداول مقارنة بين الرجلين ويعترف بأن دوركهايم تعرّض لمسألة التغيير الاجتماعي.
فبين دراستين في أقل من سنة، يقول الدكتور الشيء ونقيضه. مرة يقول لنا إن دوركهايم يدرس الظاهرة الاجتماعية وكأ نها شيء جامد لا حياة ولا حركة في داخلها، ومرة يقدّم دراسة مقارنة بين تصورات ابن خلدون و دوركهايم عن " مفهوم التغيير الاجتماعي".
فقد كتب مثلا، ضمن آخر فقرة من دراسته هذه، عن الانتقال من نمط "التضامن الآلي " إلى "التضامن العضوي " عند دوركهايم ما يلي ؛ " فمفهوم التضامن العضوي عند دوركهايم ينظر اليه على أنه أفضل من التضامن الآلي لأن الأول يسمح للمجتمع الصناعي الحديث في الاستمرار في حركيته و تقدمه و المحافظة على توازنه " (ص 72).
يبدو أن الدكتور ينسى سريعا ما يكتبه وليست له تقييمات واضحة للعلماء الذين ينقدهم والذين يتبنّاهم في نفس الوقت. إن الجدل يجّره إلى مواقف متسرعة غير مستقرة تصل إلى حدود التناقض الصارخ.

ب - في ندائه " حول ضرورة تأصيل علم الاجتماع..." ، صبّ الدكتور جام غضبه على الوضعية باعتبارها المعرقل الأول لتأسيس " علم اجتماع إسلامي".
كتب مثلا: " ومن ثم كانت رؤيتنا في هذه الدراسة تشكل إطارا نظريا ذا أسس ثقافية وابستمولوجية إسلامية عربية، وهو بذلك منظور يختلف كل الاختلاف عن المنظور الوضعي" ( م 1، ص53).
ويختلف " علم الاجتماع الإسلامي" عن الوضعية حسب رأيه في كونه؛ " يجمع بين عدة رؤى معرفية تتمثل أساسا في علم الاجتماع والفلسفة والدين، وهي صياغة يرفضها العلم الوضعي التقليدي، ولكن يقبلها ويرحب بها التوجه الجديد في صلب علم الاجتماع" ( م1 ، ص 55).

كان هذا في جويلية / سبتمبر 2005، أما في ماي 2006 فيكتب الدكتور عن: " اتصاف عقل ابن خلدون بالوضعية أو التجريبية والعقلانية" ( ص 70).
وعن " وجود كل من الفكر الوضعي المتين وروح التديّن القوي في شخصية العالم" (ص 70)
طيب، إذا كان ابن خلدون في نفس الوقت "وضعيا عقلانيا" ومتدينا، فلماذا يقترح علينا الدكتور الذوادي علما اجتماعيا إسلاميا و معاديا للوضعية ويختلف عنها كل الاختلاف؟
لعّل السبب، حسب رأينا، هو أن تديّن الدكتور يختلف عن تديّن ابن خلدون، إن تديّن الدكتور " الرموزي" الذي يربط كل شيء " بالنفخة الإلهية الأولى" ويحوّل " الرموز الثقافية" إلى كائنات غير محسوسة ويشبه مفهوم " الروح الرموزية الثقافية" فيه مفهوم الروح بمعناها الديني، يختلف عن تديّن ابن خلدون بالتأكيد، ليس بالمعنى العام طبعا، فكلاهما مسلم سني، لكن بمعنى دقيق جدا يرجع خاصة إلى مسألة " النزعة الرموزية" شديدة الارتباط " بالنفخة الإلهية".
لكن الأمر لا يتوقف على ابن خلدون، إن الدكتور يرجع إلى القرآن أيضا ويقول:

" يعتبر المنهج الوضعي إحدى الركائز الأساسية في المنظور الإسلامي لدراسة الظواهر. فهذا المنهج لا يقتصر إذن على الرؤية المعاصرة للحضارة الغربية فالقرآن، كأول مرجع للحضارة الإسلامية، قد:
أ- تبنى منهجا وضعيا وعقلانيا يستند على الملاحظة والواقعية وذلك في تفسيره للظواهر وفي طرح حججه للجنس البشري.
ب- أكّد مباشرة أو بالإشارة في حوالي سدس آياته على الأهمية القصوى للمعرفة والعلم لبني البشر.
ج- تحاشى استعمال الحجج أو التفسيرات الفلسفية في محاولاته، مثلا، لا قناع غير المؤمنين بوجود الإله الواحد" (ص 70-71).

طيب، إذا كان المنهج الوضعي هو " إحدى الركائز الأساسية في المنظور الإسلامي لدراسة الظواهر"، فلماذا دعا الدكتور إلى رفضه من "أجل تأصيل علم الاجتماع العربي" في " الثقافة الإسلامية العربية"؟
وهل تبنى القرآن فعلا منهجا "وضعيا وعقلانيا يستند على الملاحظة والواقعية ؟ "
هل فسّر القرآن وقدّم حججا علمية تجريبية وواقعية لكلّ الظواهر التي عالجها؟
ألم يعتمد القرآن أساسا على القصص القرآني وعلى الإيمان بالمعجزات والخوارق الإلهية وغيرها، ؟.

وهل يستقيم أصلا وصف " المنهج" القرآني بالوضعية ونحن نعالج نصّا دينيا و عمره خمسة عشر قرنا؟
وهل اعتمد الله "حسب المنظور الإسلامي" منهجا وضعيا تجريبيا في كتابه؟
و هل كان الله يضع كتابا علميا حتى يفعل ذلك؟

من ناحية أخرى، هل أن المعرفة والعلم البشريين الذين أكد عليهما القرآن مباشرة أو بالإشارة، في حوالي سدس آياته، هما المعرفة والعلم بالمعنى الوضعي؟
ثم ماذا عن الأسداس الخمسة الأخرى يا دكتور؟

وثالثا، إذا كان القرآن " تحاشى استعمال الحجج أو التفسيرات الفلسفية في محاولاته مثلا لإقناع غير المؤمنين بوجود الإله الواحد"، فلماذا تدعو أنت إلى منظور "إسلامي" يجمع بين " علم الاجتماع والفلسفة والدين" لإقناعنا بتوحيدك الابستمولوجي؟
كان عليك أن تتحاشى ذلك وتكتفي أنت الآخر بتبني منهج وضعي وعقلاني يستند على الملاحظة والواقعية في تفسيرك للظواهر الاجتماعية وطرحك للحجج " الابستمولوجية".
إن الدكتور الذوادي ، حسب اعتقادنا، لم يستطع على ما يبدو التوفيق بين العالم والمؤمن داخله، فتارة يطغى المؤمن فيه فيرفض الوضعية وطورا يطغى العالم فيه فيحوّل القرآن نفسه إلى نصّ اعتمد " المنهج الوضعي"


ج- من غرائب الدكتور أيضا، ونختم بها، أنه عندما حلل " ظاهرة ابن خلدون" وثمّنها بهدف تفنيد موقف الكثير من علماء الاجتماع " الذين ينكرون إمكانية تأسيس علم اجتماع إسلامي ذي صدقية علمية".قال:

" فا لكاتب الجزائري عبد الله شريط يعتقد أنه يمكن تفسير ظاهرة ابن خلدون في القرون الوسطى بسبب اعتناقه لتراث فكري إسلامي خالص عرفه المغرب الإسلامي يومئذ. أما المشرق الإسلامي فيرى شريط أنه كان أقل مناعة من التأثيرات المشبوهة الشائعة الانتشار والواردة من الديانات والمذاهب الأسطورية والسحرية والميتافيزيقية للحضارات الإغريقية والإسرائيلية والفارسية والمسيحية. فتمتع المحيط الثقافي الإسلامي في المغرب الإسلامي بأكثر نقاوة دينية عقائدية، لابدّ أنه لعب دورا هاما، في رأي شريط، في إنتاج فكر عمراني خلدوني يتصف بالوضوح والوضعية والأصالة ". ( ص 71).

الدكتور يبدو معجبا بالكاتب الذي يذكره ( عبد الله شريط) ويتبنى موقفه وهذا أمر يدعو إلى الاستغراب للأسباب التالية.

أولا: لأن فكرة " النقاوة " الدينية العقائدية للمغرب الإسلامي مقارنة " بالتشوّه " الديني في المشرق الإسلامي أمر للإثبات فالمغرب الإسلامي عرف الإسلام عن طريق المشارقة الذين أسلموه وجلبوا معهم بالتأكيد " عدم نقاوة " و " نقص مناعة " تراثهم الإسلامي " غير الخالص"

ثانيا: سكان المغرب الإسلامي كانت لهم معتقداتهم السابقة، ومنها "الأسطورية والسحرية والميتافيزيقية التي تأثرت هي الأخرى بالحضارات " الإغريقية والإسرائيلية والمسيحية" التي وصلت المغرب قبل
دخول الإسلام إليه.

ثالثا: ابن خلدون نفسه يعترف بتأثره بالثقافة اليونانية والمشرقية الإسلامية معا واللتان لم تكونا فقط أسطورية وسحرية وميتافيزيقية.

رابعا: ابن خلدون كان شافعيا و أشعريا، أي مشرقيا بامتياز من الناحية الفكرية والمذهبية.

وخامسا: وهذا ما يهمّنا أكثر من غيره، في خصوص مشروع الدكتور في تأسيس " علم اجتماع إسلامي"، نوّد أن نسأل الدكتور ما يلي:
إذا كانت " المذاهب السحرية و الأسطورية و الميتافيزيقية" لها تأثيرات مشوهة تمنع من إنتاج فكر يتصف " بالوضوح والوضعية والأصالة"، فلماذا تقترح علينا أن نتبعك نحو " علم اجتماع ميتافيزيقيا الرموز الثقافية" (نداء حول ضرورة تأصيل... م 1، ص 53).
ألا يصبح من حقّنا اتهام مشروعك في تأسيس " علم اجتماع إسلامي للرموز الثقافية" بأنه لا يتّصف " بالوضوح والوضعية والأصالة" لأنه تحديدا يقوم على الجمع بين " علم الاجتماع والدين والفلسفة" بطريقة تعطي الأولوية " للتشويهات الميتافيزيقية" للعلم؟

المصادر و المراجع و الملاحظات

53 -الذوادي، محمود، تجليات العبر في عقل صاحب " المبتدأ و الخبر " ، مجلة المستقبل العربي ،

عدد 329 ، جويلية 2006 .



54- انظر ؛ المز وغي، محمد، ابن خلدون و الفلسفة ، مجلة المستقبل العربي ، نفس العدد السابق .



55- BUCAILLE, Maurice, la bible, le Coran et la science, Seghers 1976, pocket-Agora , 1998.

ـ بعد اعتمادنا على النسخة الفرنسية نشير أننا عثرنا على ترجمة عربية للكتاب من إنجاز الشيخ حسن خالد مفتي الجمهورية اللبنانية و هي صادرة عن " المكتب الإسلامي "، بيروت- دمشق ، الطبعة الثالثة،1990.


56- الكتاب المقدس ، سفر التكوين ـ الإصحاح الأول ، دار الكتاب المقدس في الشرق الأوسط ، لبنان .1998



57- الذوادي، محمود؛ حفريات في مفهوم التغيير الاجتماعي، الحياة الثقافية، عدد173 (خاص بابن

خلدو ن)، ماي 2006، تونس.




#بيرم_ناجي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الاسلام و علوم الاجتماع : محاولة في الدفاع عن العلم ضد -المن ...
- الاسلام و علوم الاجتماع : محاولة في الدفاع عن العلم ضد -المن ...


المزيد.....




- تونس.. وزير الشؤون الدينية يقرر إطلاق اسم -غزة- على جامع بكل ...
- “toyor al janah” استقبل الآن التردد الجديد لقناة طيور الجنة ...
- فريق سيف الإسلام القذافي السياسي: نستغرب صمت السفارات الغربي ...
- المقاومة الإسلامية في لبنان تستهدف مواقع العدو وتحقق إصابات ...
- “العيال الفرحة مش سايعاهم” .. تردد قناة طيور الجنة الجديد بج ...
- الأوقاف الإسلامية في فلسطين: 219 مستوطنا اقتحموا المسجد الأق ...
- أول أيام -الفصح اليهودي-.. القدس ثكنة عسكرية ومستوطنون يقتحم ...
- رغم تملقها اللوبي اليهودي.. رئيسة جامعة كولومبيا مطالبة بالا ...
- مستوطنون يقتحمون باحات الأقصى بأول أيام عيد الفصح اليهودي
- مصادر فلسطينية: مستعمرون يقتحمون المسجد الأقصى في أول أيام ع ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - بيرم ناجي - الاسلام و علوم الاجتماع : محاولة في الدفاع عن العلم ضد -المنظور الثقافي الاسلامي- عند الدكتور محمود الذوادي (4)