أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - بيرم ناجي - الاسلام و علوم الاجتماع : محاولة في الدفاع عن العلم ضد -المنظور الثقافي الاسلامي- عند الدكتور محمود الذوادي (خاتمة)















المزيد.....



الاسلام و علوم الاجتماع : محاولة في الدفاع عن العلم ضد -المنظور الثقافي الاسلامي- عند الدكتور محمود الذوادي (خاتمة)


بيرم ناجي

الحوار المتمدن-العدد: 3801 - 2012 / 7 / 27 - 20:39
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    



خاتمة : نحو علم اجتماع تاريخي عربي


يعاني علم الاجتماع العربي، بوصفه جزءا من علم الاجتماع العالمي، من معوقات نظرية عديدة أهمها تلك الثنائيات التي يسعى كل علماء الاجتماع في العالم الآن إلى تجاوزها جدليا في إطار تصور تركيبي جديد.

أشهر هذه الثنائيات هي ثنائية الموضوع و الذات، الإكراه والحرية، الكم و الكيف، التفسير والفهم، البنية والتاريخ، النسق والفاعل...

إن علم الاجتماع يطرح إعادة النظر في هذه الثنائيات ارتباطا بثنائية أخرى هي ثنائية العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية والاجتماعية. هذه الثنائية الأخيرة بدأت "تذوب" منذ مدة عندما أكّد علماء الطبيعة أنفسهم تجاوز التصورات" الحتمية الخشنة " واكتشفوا ظواهر الاضطراب حتى داخل ما كانوا يتصورونه نظاما للطبيعة فدخلت مصطلحات النسبية والتعقيد واللانظام والاحتمال والميلية إلى كل علوم الطبيعة نفسها.

بذلك، "سقطت" الأوهام القديمة حول الحتمية الطبيعية فوجد علماء الإنسان والاجتماع أنفسهم يرجعون إلى الظواهر الإنسانية والاجتماعية وإلى علومها انطلاقا من أرضية جديدة تؤكد في عمقها ما هو خصوصي في الظاهرة الإنسانية لكنهم ظلوا سجناء للنماذج الجامدة المستقاة من العلوم الطبيعية وحتميتها. وقد كانت الماركسية الأرثوذكسية والوضعية والعضوية والوظيفية المطلقة والنسقية والبنيوية الأولى أكثر النظريات تكريسا لتلك النماذج.

ولم يشذ علم الاجتماع العربي عن كل هذا بل كان متأخرا حتى عن تلك النظريات ومجرد ظل لها في أحوال عديدة. واليوم يشهد العالم تحولا جذريا في ميادين عديدة منها المعرفية. وعلم الاجتماع العربي ضمن إطار علم الاجتماع العالمي، مطالب بالانخراط في عملية تجديد نفسه على كل المستويات لكنه مطالب أيضا بتجديد نفسه ضد أرثوذكسيته الخاصة التي لصقت به بسبب خصوصية بيئته الاجتماعية والمعرفية. لهذا رأينا أن نقدم خاتمة هذا العمل نداء من أجل تخليص علم الاجتماع العربي من عيوبه الخاصة بالأساس. هذه العيوب المرتبطة بثنائيات خاصة نسبيا وأخرى عالمية لكن حضورها عندنا شديد الوطأة، ومن بين أسبابها علاقة علم الاجتماع بالمسألة القومية و بالدين.

إن علم الاجتماع العربي هو مجموع الدراسات السوسيولوجية النظرية والميدانية، التي يقوم بها علماء وباحثون سوسيولوجيون عرب، داخل الوطن العربي وخارجه حول علم الاجتماع عموما وحول المجتمع العربي و علاقاته بالمجتمع الإنساني.

وإن العلاقة بين عالم الاجتماع ورجل الدين ( نحن نعني هنا رجل الدين المتشدد تحديدا ) ذات خصوصية في الوقت الحاضر بسبب " عودة المقدس" و " صدام الحضارات" وبروز " الأصوليات الجديدة" وغيرها من الأسباب. لهذا، نعتقد أنه من الواجب تقديم الملاحظات التالية حول بعض المطبات الأساسية لعلم الاجتماع العربي عموما وعلم الاجتماع الثقافي تحديدا. وسنلخصها في نقاط كبرى نرى أنه من الواجب الانتباه إليها دفاعا عن علم الاجتماع (و خاصة الثقافي) – العربي ومن أجل تجديده ضد أية محاولة لاستئصاله تحت يافطات التأصيل والتوطين والتعريب والأسلمة وغيرها.

****

إنه من "البديهي" أن البنية الداخلية للفكر الديني تقوم على الإيمان والتسليم بينما البنية الداخلية للعقل العلمي تقوم على البرهنة العلمية والشك العلمي.

إن "العقل الديني" يختلف عن "العقل العلمي" رغم تقاطعهما الاجتماعي التاريخي، بوصفهما عقلين اجتماعيين تاريخيين للكائن البشري، أو بالتحديد مظهرين لعقل بشري اجتماعي وتاريخي واحد و مركب. لكن العقل البشري، بسبب محدوديته و نسبيته، يراوح بين البحث العلمي النسبي المفتوح دائما وبين العقل الديني، ( أو الفلسفي النسقي المغلق، أو غيرهما)، لسدّ ثغرات المعرفة النسبية عبر الإيمان بمسلّمات إطلاقية تحاول التعويض عن النسبية العلمية بإطلاقية فكرية ما، محاولة لإيجاد أجوبة نهائية عن أسئلة الحياة والموت والاجتماع والمصير وغيرها، وبهذا المعنى، يتلازم النسبي والمطلق في الفكر البشري باستمرار، ولا يمكن لأحدهما أبدا إقصاء الآخر على ما يبدو.

إن هذا التلازم بين العقل النسبي العلمي و"العقل المطلق" الديني، يجعل الخلط بينهما حاضرا دائما ويفرض بالتالي، بصورة دائمة التحذير من ذلك الخلط. فإذا كان العقل الديني يضطر إلى قبول النسبية أحيانا، فإن العقل العلمي يسقط في الإطلاقية شبه الدينية أحيانا أخرى و إن أية محاولة لابتلاع أحد الطرفين للآخر ستكون فاشلة لا محالة.

فإذا ابتلع الدين العلم، يتوهم الساهرون على هذه العملية أن الحقيقة المطلقة اكتشفت أخيرا، لكنهم سرعان ما ينتبهون أن العالم أرحب من أي نسق فكري مغلق مهما كان تعقيده أو مهما كانت رمزيته، وإذا أصرّوا على رأيهم تكون نتيجة ذلك قمعهم للبحث العلمي، الذي سرعان ما يثأر لنفسه وينفلت من عقاله.
أما إذا ابتلع العلم الدين، ( أو الفلسفة)، فإن الساهرين على هذه العملية يتوهمون باسم العلمية أن العلم وصل إلى خاتمة مطافه، أي أنه كشف كل الحقائق المطلقة، وبالتالي، تحوّل هو نفسه من بحث نسبي مفتوح إلى نسق دوغمائي يجمّد نفسه بنفسه. وإذا ما تسلل المطلق إلى العلم نفسه، يتحول العلم إلى " فلسفة علومية " جامدة أو إلى " دين علمي" جديد.

إن الحلّ الوحيد لهذه المعضلة يكمن، حسب رأينا، في علمنة التفكير البشري، بحيث يكون القاسم المشترك هو النسبي، المفتوح ، القابل للدحض الخ، على أرضية حرية البحث العلمي والفكري. ويكون الجانب الإيماني جانبا شخصيا، أو جماعيا، يبقى " خارج" البحث العلمي، ويمارس سواء بشكل فردي أو جماعي بكل حرية، بشرط واحد، هو ألا يدعي المؤمن به، مهما كان مذهبه أو دينه، أنه من مظاهر قداسة معتقده الشخصي تبرير فرضه على الآخرين بالقوة، مهما كان شكل القوة المستعمل، بما في ذلك القوة الرمزية.

إنه، اعتمادا على هذا المنظور، من غير المبرر تماما، حسب رأينا الدعوة لأسلمة علم الاجتماع، مثلما هو غير مبرّر الدعوة إلى تهويده أو تنصيره ( جعله مسيحيا) أو غير ذلك.
إن العلم كوني أو لا يكون، وإذا كانت الظواهر الاجتماعية، على عكس الظواهر الطبيعية، ليست فقط كونية، بل كذلك قومية ودينية ... فذلك لا يبرر الدعوة إلى الأسلمة أو التعريب، بل في رأينا يحتّم التحذير أكثر من مثل هذه العملية.

إن مخاطر تعريب العلم أو أسلمته، حتى لو كان علما إنسانيا أو اجتماعيا كعلم الاجتماع، تتمثل في إفقاده صفته العلمية وتحويله إلى خطاب قومي أو ديني.

إن "علم الاجتماع الغربي " ، كثيرا ما تأثر بهذه العملية فسقط في المركزية الثقافية. ومقابل ذلك يفترض في علماء الاجتماع العرب، الذين عانوا ويعانون من تحّيز غير علمي لبعض زملائهم في الغرب، ألا يردّوا الفعل عبر تحيّز عروبي أو إسلاموي لعلومهم، فإن فعلوا ذلك يكفـّون عن ممارسة العلم ويدخلون في خطاب إيديولوجي، سياسي أو ديني غالبا.

وإذا كان هذا الأمر ينطبق على علم الاجتماع عموما، فمن باب التأكيد أنه ينطبق أكثر على علم الاجتماع الثقافي، حيث خصوصيات الشعوب بادية للعيان "دون عناء تفكير وبحث".

إن هذا الأمر لا يعني الدعوة إلى إهمال الخصوصية. بالعكس، لا بد لأي عمل علمي في العلوم الإنسانية و الاجتماعية أن يحلّ مسألة العلاقة بين الكوني والخصوصي أو أن ينتهي كعلم.

إن هذا الأمر هو دعوة،" مثلما" فعل ماكس فيبر، في التفريق بين " حكم القيمة" و " الحكم في علاقة بالقيم". Jugement de valeurs et jugement par rapport aux valeurs . إلى التفريق بين الحكم الديني و الحكم في علاقة بالدين و الحكم القومي و الحكم في علاقة بالقومية.

إن العلم يرفض الحكم القيمي ، لكنه لن يتحول إلى علم إلا إذا أخذ بعين الاعتبار أن الفاعلين الاجتماعيين يمارسون انطلاقا من جملة دوافع وأطر من بينها القيم. في حالتنا، إذا صادف أن الباحث الاجتماعي له مثلا نفس دين المبحوث، على عالم الاجتماع أن يحترز من التشابه ( أو التنافر عندما يكون العكس) الديني بينهما، لأن تضامنه ( أو عداءه) مع الفاعل الاجتماعي، سوف يمنعه من فهم وتفسير الظاهرة الاجتماعية لا محالة. على الأرجح، سيؤدي الأمر إما إلى " تفهم" عادي يؤدي إلى التضامن وليس إلى فهم علمي يفضي إلى تحليل موضوعي للظاهرة الاجتماعية أو إلى عداء بدائي للفاعلين المدروسين يعمي المعرفة العلمية أيضا.

ان تحقيق هذا الأمر كان يصور كبديهة في العلوم الإنسانية، أما اليوم، و بعد ما راكمه العلم من دراسات حول سوسيولوجيا المعرفة، فلا بد من الاعتراف أن عالم الاجتماع نفسه ما هو إلا فاعل اجتماعي حامل للقيم أحيانا كثيرة، وبالتالي عليه الاعتراف بذلك و محاولة مجاهدة النفس لبلوغ الموضوعية العلمية عبر مساءلة الذات العارفة لنفسها و لحقلها المعرفي باستمرار.

و يظهر هذا الأمر بالتأكيد في العلاقة بالدين. إن بقاء الإيمان " خارج" البحث العلمي، لا يعني نكران علم الاجتماع الديني، أو أي علم آخر يتناول الدين بالدراسة، إن القصد منه، هو أنه، عندما يدرس الدين عموما، لا بد لعالم الاجتماع من تحييد إيمانه الخاص، الخاص به كعالم، وكذلك إلحاده الخاص، عند دراسة الفاعلين الاجتماعيين وتدينهم، وإن لم يفعل، يجانب الموضوعية التي هي شرط العلمية الأول.
إن هذه الدعوة العلمية للحياد هي الضمانة الوحيدة لإنتاج دراسات علمية حقيقية حول الظاهرة الدينية، وهي دراسات ليست فقط ممكنة الإنجاز بل وضرورية خاصة في مجتمعاتنا العربية.

*********

إن الادعاء بوجود " ابستمولوجيا " قرآنية يحول القرآن إلى نص نظري علمي عوض اعتباره نصا دينيا يحمل "رؤية للعالم " مركبة. إن هذا الادعاء يذيب الابستمولوجيا سواء بمعنى نظرية العلوم أو بمعنى نظرية المعرفة، في تصور انطولوجي ديني عن الخالق الأول.. وهذه العملية تسيء إلى العلم عموما، وعلم الاجتماع تحديدا، مثلما قد تسيء إلى النص الديني نفسه لأنها تحشره داخل المنطق العلمي الدقيق الذي قد لا يحتمله.
إننا نعتقد أن الدّين لا يحتوي على ابستمولوجيا سواء بمعنى نظرية علمية في المعرفة أو بمعنى نظرية في العلوم.
إنه يحتوي إذا جاز القول، على "ابستمو دوكسا"، أي نظرية إيمانية في المعرفة، كما أنه لا يحتوي على انطولوجيا، حتى بالمعنى الفلسفي العام للكلمة، بل على " أنطو دوكسا "، أي على إيمان أو عقيدة الوجود الأول، وليس " علم الوجود الأول" حتى بالمعنى الذي يوجد عند بعض الفلسفات مثلا.

إن رفضنا لوجود انطولوجيا و ابستمولوجيا إسلامية، بالمعنى الخاص الذي ذكرناه، لا يعني أن الدين الإسلامي لم يبحث تماما في الوجود أو في المعرفة، إنما نحن نعتقد أنه من المهم التركيز على أن الدين الإسلامي يدعو إلى الإيمان بالله ( الوجود الأول) و ،حسب البعض ، إلى الاعتقاد في الأصل الإلهي للمعرفة وفي الحالتين ليس هنالك بحث فلسفي أو علمي في المسألتين بل إيمان ديني بهما رغم أن البحث الديني يمكن أن يشكل إرهاصا للبحث الفلسفي وأن يتقاطع معه أحيانا كثيرة..

وبهذا، نعتقد أنه في أحسن الحالات، لا نجد في الدين سوى محاولة " للعقل الديني" البرهنة الإيمانية التأملية على مسلّماته، خلافا للبرهنة العلمية الموضوعية، كما هو الحال في علم الاجتماع، أو بالأحرى، كما يجب أن يكون الحال عنده، وكما هو الحال حتى في بعض الفلسفات المؤمنة تماما، ولكن التي تفلسف ما يدعو الدين إلى الإيمان به، إلى درجة تناقض الحقلين المعرفيين أحيانا كثيرة، رغم التقائهما في الاعتراف بالخالق الأول.

إن العلاقة بين " مبحث الوجود" و " مبحث المعرفة" "عضوية"، وإذا كان من حق رجل الدين أو الفيلسوف " المادي" أو " المثالي" الانطلاق من " مسلمة وجود أول " ما، فإنه على العالم عموما، وعالم الاجتماع تحديدا، الانطلاق من نظرية المعرفة تحديدا لمناقشة قضايا " الوجود الأول" ( ليس انطلاقا من " مسلّمة " انطولوجية بل ) ، انطلاقا من بحث تاريخي علمي، سواء في الطبيعة أو في المجتمع. بعبارة أخرى، إننا ندعو عالم الاجتماع إلى الانطلاق من الموضوع في تطوره التاريخي باتجاه الماضي لتحليل " وجوده الأول" انطلاقا من وجوده العيني الحالي القابل للملاحظة والتجربة والقياس والاختبار ولكن دون التنكر لما راكمه العلم حول المسألة فالباحث لا يبدأ من الفراغ في الدراسة بل يستأنفها غالبا.

وإنه من الممكن للعلم بهذه الطريقة السماح بوجود أكثر من إجابة عن " الوجود الأول" لظاهرة ما، طبيعية كانت أم اجتماعية، بل وبوجود تصور عن أصول متعددة لنفس الظاهرة أحيانا.

إن العلم نسبي، لذلك، مثلما يجتهد علماء الجيولوجيا أو الفلك في اختبار فرضيات عديدة لنشأة الكون، ومثلما يجتهد علماء البيولوجيا في وضع فرضيات لنشأة الإنسان ويختلفون في التركيز على سيناريوهات هذه النشأة وأصولها البيولوجية تارة والتطورية تارة أخرى، يمكن لعلماء الاجتماع الاختلاف حول نشأة ظاهرة اجتماعية، انطلاقا من فرضيات علمية تنطلق، ليس من " مسلمة إيمانية"، بل من فرضيات ذات أصول اقتصادية أو ثقافية أو غيرها.

إن العنصر المركزي في العلم، أي علم، هو الانطلاق من الموضوع نفسه، موضوع الدراسة، في تاريخيته، دون فصل متعسف بين وضعيه السانكروني والدياكروني، أو البنيوي والتاريخي، من أجل تحليل خصائص الظاهرة موضوع الدراسة وحركتها التاريخية، سواء في اتجاه الماضي ( نشأتها) أو المستقبل ( مصيرها).

أما العنصر المركزي في الدين، فهو الانطلاق من "الخالق الأول"، (في الديانات التي تؤمن به طبعا)، المسلّم به إيمانا وتقديسا، ثم دراسة الموضوع ( الطبيعي أو الاجتماعي) وكأنه، في خصائصه وحركته التاريخية، محدّد سلفا بعملية "الخلق الأولى" أو / ولاحقا بالتدخل الإلهي.

في التفكير العلمي، إذن، المطروح هو البحث عن خصائص وقوانين موضوع الدراسة في تاريخيته، أما في التفكير الديني، فالمطروح هو تطويع خصائص الظاهرة وحركتها إلى تصوّر رجل الدين عن صفات الخالق الأول وقدراته و بالتالي تطويع المعرفة العلمية للفعل الإيماني نفسه, هذا الفعل الذي غالبا ما يحدّد ما يجب القيام به ليحكم عمّا يمارس فعليا، في حين أن العلم يدرس ما يمارس فعليا، بما في ذلك القيم و الأديان التي توجّه أفعال الفاعلين الاجتماعيين أنفسهم...ليقترح حلولا أو يرشد إليها على الأقل.
إن العالم حسب رأينا، يختلف عن رجل الدين، حتى عندما يكون مؤمنا، في أنه يطور إيمانه باستمرار حسب التطورات العلمية. أما رجل الدين ( الأرثوذكسي خاصة ) فإنه ، حتى عندما يلتجىء إلى العلم، يحاول أن يلتف عليه لخدمة تصوره الديني، الخاص به، عن العالم.

بهذه الصفة، غالبا ما يكون إيمان العالم الحقيقي مختلفا عن إيمان رجل الدين المتشدد، إنه إيمان متحرك بقدر تطور الثقافة العلمية للعالم وبقدر تطور العلم نفسه، حتى أن العلماء المؤمنين كثيرا ما تكون لهم تصورات خاصة عن " الخالق الأول" ذات منحى توحيدي مجرّد أو فلسفي أو حتى تصوفي عالم ( خلافا للتصوف الطرقي الشعبي) ، أما رجل الدين "الأصولي "، فإنه حتى عندما يحاول التعامل مع العلوم، يكون له تصور دوغمائي مغلق، عادة ما يكون الإلحاد نسخته المقلوبة، خاصة إذا كان إلحادا فلسفيا نسقيا مغلقا وليس إلحادا علميا مفتوحا.

إن الإلحاد الفلسفي النسقي غالبا ما يرتبط هو الآخر بمسلمة انطولوجية وغالبا ما يستسهل تكوين الأنساق الإلحادية المغلقة اعتمادا على مستوى معين من تطور العلم الذي سرعان ما يقلب تلك الحقائق المتعارف عليها و يثوّرها. أما الإلحاد العلمي، أي إلحاد العالم، فعادة ما لا يعرقل البحث العلمي المتجدّد ويسمح بطرح فرضيات جديدة لا تأبه بالأنساق النهائية المغلقة، بل تصطف ضمن حركية العلم الدائمة.
لهذه الأسباب، نعتقد أنه على عالم الاجتماع العربي، على الأقل، أن يحيّد تصوراته الدينية الخاصة أو الإلحادية الخاصة وأن يلتزم البحث العلمي المفتوح على كل الاحتمالات المعرفية، ودون ذلك فإن التحنط المعرفي والدوغمائية سيقتلان عقله السوسيولوجي.

******

إن عالم الاجتماع، مثل كل عالم، يتعامل مع موضوع قابل للملاحظة العلمية والاختبار العلمي، سواء بمناهج أو بتقنيات كمية أو نوعية.

كما أنه يهدف من خلال عمله إلى اكتشاف القوانين الاجتماعية للمجتمع انطلاقا من اعتبار الاجتماع الإنساني ظاهرة مستقلة بذاتها نسبيا ( دون أن يعني ذلك عدم ترابطها مع غيرها)، وبالتالي قابلة للدراسة العلمية الخصوصية.

أما رجل الدين فإنه إما يتعامل مع موضوع غير قابل للملاحظة العلمية احيانا ، لذلك فهو يدعو الناس إلى الإيمان به انطلاقا إما من الحدس أو التأمل الفكري، أو في أحسن الحالات يقوم باستعمال عمليات تأويلية للنص يحاول بواسطتها السيطرة على الظاهرة الاجتماعية أو الطبيعية حتى يعيد بناءها ليس وفقا لقوانينها الخاصة أو المستقلة نسبيا، بل وفقا لتصوره المسبق عن " أصل الوجود" وعمّا يجب أن يكون عليه الوجود حسب فهمه هو للنص الديني الذي يحدد واجبات الإنسان على الأرض.

بهذا، يكون علم الاجتماع علما علمانيا ينخرط في تصوّر عن العالم الاجتماعي ( والعالم بصورة عامة)، على أساس أنه مستقل بذاته قابل للمعرفة النسبية المتطورة دائما، وأنه من الممكن تكوين معرفة علمية عنه يقع التثبت من صحتها وفق قواعد علمية منهجية.

أما رجل الدين فهو غالبا ما يرى العالم مظهرا من مظاهر قدرة الخالق الأول وبالتالي، حتى وإن اعتقد في أهمية البحث العلمي، فإنه لا يرى في ذلك البحث سوى تحقيق لإرادة وفعل الخالق الأول وكشف عن أسرار الخلق الأول، ويؤمن "بنسبية" البحث العلمي بشكل عدمي يتحول أحيانا كثيرة إلى ريبية تامة أو عدمية علمية، كما يكمل تلك "النسبية العلمية" دائما، هذا إن تبناها فعلا، بإطلاقية الإيمان في النص الديني الذي يراه حاملا للمعرفة القصوى.

لهذه الأسباب، لا يدعي الخطاب العلمي الحقيقي امتلاك الحقيقة النهائية، بل يقبل الشك تلقائيا ويحتمل التجاوز إذا كان فعلا خطابا علميا. أما الخطاب الديني، فهو لا يريد حتى الاعتراف بأنه ليس سوى تأويل للنص المقدس أو للحقيقة المقدسة، ويرى نفسه، غالبا، القراءة الوحيدة الصحيحة، ويتحوّل بسرعة إلى نص مغلق سرعان ما يتصدى لمخالفيه بالتكفير أو الاتهام بالهرطقة أو بالرّدة.. التي توصل إلى القتل. أو إلى الإفتاء به...مثلما يحصل أحيانا باسم العلم الكاذب الدوغمائي.

فإذا كان هدف عالم الاجتماع اكتشاف القوانين المسيرة للمجتمع فإن رجل الدين يهدف إلى إثبات النص أو الدين حجة على المجتمع، وفق تأويله الخاص له وبذلك يكون عالم الاجتماع بالضرورة في خلاف مع رجل الدين، دون أن يلغي ذلك أن يكون عالم الاجتماع مؤمنا، ولكن بشرط أن يكون العالم فيه منفصلا، ولو إجرائيا عن المؤمن الذي هو.

**********

إن الهدف الأساسي لرجل الدين هو، على عكس عالم الاجتماع، ليس تحليل الواقع علميا، بل تحليل تباين أو تطابق الواقع مع قراءته للفكر الديني، أو بعبارة أخرى، الواقع كما يحب أن يكون.

لا يهدف رجل الدين إلى توقع احتمالات حركة الواقع الاجتماعي في المستقبل، إن ما يهمّه بالدرجة الأولى هو العمل على سحب الواقع الحالي باتجاه تطابقه في المستقبل مع ما يجب أن يكون عليه، حسب فهمه للفكر الديني وللخلاص البشري.

إن عالم الاجتماع يحاول/ من خلال معرفته بتاريخ الظاهرة الاجتماعية وبواقعها الحاضر، توقع احتمالات التطور في المستقبل، انطلاقا من معطيات اجتماعية تحاول أن تأخذ بعين الاعتبار كل المؤثرات المتشابكة على ممارسة الفاعلين الاجتماعيين. أما رجل الدين، فما يهمه بالدرجة الأولى، هو توجيه تلك الممارسة الاجتماعية باتجاه تصوره عن " الخلاص الأخير" وكل ما يستتبعه ذلك على " الممارسة الدنيوية".
لكن سلوك رجل الدين ليس غائبا تماما في داخل الممارسة السوسيولوجية ضمن ما يسمى " بعلم الاجتماع النبوئي" الذي له تصوره شبه الديني أيضا حول "مجتمع الطيبة الأولى" الذي يشابه " الجنة الأولى" و " مجتمع الوفرة" أو "المجتمع الإنساني المستقبلي" الذي هو أحيانا كثيرة عبارة عن صور مختلفة " ليوطوبيا " توماس مور وعن " الجنة الموعودة".

إن الفصل بين التصور العلمي و التصور الديني عن المستقبل ليس أمرا بديهيا، فكثيرا ما سقطت بعض المدارس السوسيولوجية التي تدّعي عداء شديدا مع الدين، في تصور ديني مقلوب. وضعي أو مادي تاريخي أو إنساني.

إن التمييز بين التصورين الديني والسوسيولوجي عن المستقبل لا يمكن أن يحصل إذا بقيت داخل النظريات السوسيولوجية تلك الأفكار الحتمية القديمة التي تكاد، في بعض الحالات خاصة، أن تتحول إلى نزعة " جبرية " دينية جديدة تحول الإنسان من صانع لتاريخه، ولو" في ظروف لم يخترها"، إلى مجرد تشخيص إنساني لقوى خارجة تماما عن إرادته يعبّر عنها باسم أسلوب الإنتاج أو البنية أحيانا أو النسق أحيانا أخرى...

لكن في المقابل، لا معنى لتيارات " الاختيار الحر" سواء ما ارتبط منها بمبدأ " الاختيار العقلاني" أو بمبدأ " الإرادة الحرة" لأن الإنسان كائن اجتماعي تاريخي لا يفعل إلا ضمن آليات الوصل والقطع الجدلية مع التاريخ والواقع، فهو ليس عبدا لظروفه بنفس القدر الذي ليس هو فيه متحرّرا منها تماما، رغم كل قدراته على التجديد والتثوير التي تظهر عند بعض الأفراد خاصة، بصورة أكيدة، إلى درجة إيهامنا بقدراتهم الخارقة، ولكن التي تبقى، مهما كانت فرادتها، مشروطة بما يخرق من وقائع وأفكار وأنظمة.

إن الصراع القديم، الديني، بين القدرية والجبرية يعود للظهور حتى داخل علم الاجتماع، ويأخذ صورا مختلفة من حيث الصياغة. و بمقدار ما يبقى ذلك الصراع موجودا، يظل علم الاجتماع مخترقا بشكل أو بآخر بالتصور الديني عن التاريخ وعن المستقبل في نفس الوقت.

إن التصورات الحديثة حول جدل الحتمي و اللاحتمي، النظام والفوضى...، تعيد صياغة العلاقة بين عملية التحليل والتوقع العلميين على أسس جديدة تحاول القطع مع موروثات العقل الديني والسوسيولوجي على السواء. لكن المهم يبقى، ليس في الصياغة النظرية المجردة بل في تطبيق ذلك فعليا عند التحليل العيني للواقع الاجتماعي التاريخي.

إن عالم الاجتماع، وهو يتوقع المستقبل، يقوم عادة بإسقاط ما يتصوره عن الحاضر على احتمالات المستقبل وينسى أن " المستقبل نفسه سوف يسمح لعناصر جديدة بالتدخل في حركة تطوره". لهذا، إضافة إلى صعوبة العملية معرفيا، عادة ما تسقط محاولات التوقع العلمي في نزعة ذاتية الهدف منها توجيه الواقع نحو هذه الوجهة أو تلك، بالتركيز على هذه النقطة، أو النقاط، أو تلك.

إن مساءلة كل عمليات التوقع العلمي لا بد أن تبقى حاضرة في الذهن دائما، فكثير مما يبدو مجرد توقع، هو ضمنيا، مجهود مقنع لتوجيه الفعل نحو الهدف الذي يريده عالم الاجتماع، كما يفعل رجل الدين تقريبا.

إن ما "يشفع" لعلم الاجتماع نقيصته هذه، هو فقط إعلانه عدم حتمية ذلك التوقع من ناحية، وعدم إعلانه مطابقة ذلك التوقع، دون سواه، مع المصلحة العليا للبشرية من ناحية ثانية. أما إذا جازف وقام بذلك فإنه يفقد علميته لا محالة.

إن موقف عالم الاجتماع من المستقبل، لا بد أن يخالف موقف رجل الدين منه، حتى لا يتحول عالم الاجتماع إلى داعية لدين اجتماعي جديد ، لكن ذلك لا يعني رفض أي عملية توقع علمي من ناحية ولا رفض ربط العلم بأخلاقية إنسانية علمية.

إن البحث العلمي الاجتماعي الذي يحاول جاهدا أن يسمو عن الحكم القيمي، يحقق بذلك السعي نفسه أكبر خدمة للإنسانية عبر محاولة كشف الحقيقة أمامها، الحقيقة التي تبقى دائما اجتماعية تاريخية نسبية. وإن هدف الحقيقة هو نفسه أحد أنبل القيم التي تخدم الإنسانية لأن " الحقيقة دائما ثورية" حتى لو كانت ضد " الطبقة الثورية" أو ضدّ " الأمة الخالدة" أو " الدين الحق" أو "الديمقراطية"...

إن رسالة عالم الاجتماع، مثل أي عالم آخر، تختلف عن رسالة رجل الدين، مهما كانت صورة الدين التقليدية أو المستحدثة، إنها رسالة البحث والشك والاستئناف النقدي المستمر للمعرفة الإنسانية بماضيها وحاضرها ومستقبلها من أجل فهم متجدد دائما للحياة دائمة التجدد وللإنسان التاريخي بامتياز.

*********

إن بحث العلم عن الحقيقة ليس بحثا تأمليا خالصا ولا تجريبيا خالصا، ولا هو بحث عن الحقيقة حبا في الحقيقة في حد ذاتها.

إن علم الاجتماع ككل نشاط علمي هو نشاط إنساني هادف بامتياز، وإن هدف الحقيقة فيه لا ينفصل عن هدف خدمة الإنسانية عبر تلك الحقيقة العلمية.

ولأن علم الاجتماع هو علم حول الإنسان ومن أجله في نفس الوقت فهو يهدف إلى خدمة الإنسانية، لا بالطرق الذرائعية- النفعية الصرفة ولا بالطرق النبوئية الإنسانوية. إنه يخدم الإنسانية بواسطة بحثه المتواصل عن الحقيقة العلمية ذاتها، وهي حقيقة وضع الإنسان والمجتمع الإنساني التاريخيين.

إن تاريخية الإنسان والمجتمع (أي إنسان وأي مجتمع) تعني تحديدا أن كل نظام اجتماعي يدّعي إنهاء التاريخ هو معاد للإنسان وبالتالي فان كل نظرية اجتماعية تبرر وضعا اجتماعيا ما بوصفه نهاية للتاريخ هي إيديولوجيا (بالمعنى السلبي للمصطلح ) وليست علما، حتى لو كانت تحقق مقارنة بالواقع الحاضر وعدا بمستقبل إيجابي.

إن أي صورة عن مستقبل إيجابي تبقى صورة لا غير، أول ما يبدأ تحققها تظهر نواقصها التي تدفع إلى استئناف التاريخ ضدها. إن حركة الحياة دائمة وكذلك الإنسان والمجتمع. وإذا " كانت وقائع اليوم هي تحقق أحلام الأمس"، فإن وقائع الغد، حتى وإن كانت تجسيدا لأحلام اليوم، سوف تخلق لا محالة أحلاما جديدة تدفع لاستئناف حركتي النقد والممارسة النقدية الإنسانية، لذلك لا يصبح علم الاجتماع علما نقديا، إلا إذا كان نقدا لواقع اليوم وأحلامه في نفس الوقت حتى لا تتحول أحلام الأجيال الحالية بالمستقبل إلى كوابيس تعيشها الأجيال المقبلة.

إن ما يجب عمله هو أن يتحول عالم الاجتماع إلى "عالم للأحلام" دون أي مهادنة مع موظفي وكهنة مؤسسات و معابد الأحلام، وهذا لا يتم إلا إذا امتنع العالم عن الادعاء أن "علم الأحلام " الذي يمارسه ليس هو العلم الوحيد الصحيح الموصل إلى " الخلاص " البشري.

إن علم الاجتماع هو علم تجديد " التخيل السوسيولوجي" ( حسب عبارة ر. ميلز ) المستمر وعلم استئناف الحلم الإنساني المتواصل بتحقق " المجتمع الفاضل ، الذي يبدو أنه ـ مثل " الشعر الكامل" و "الموضوعية الكاملة " ـ كلما اقتربنا منه ازداد ابتعادا لأننا كلما اقتربنا منه نزداد قدرة على الحلم بما هو أفضل منه.
إن عالم الاجتماع، من هذه الزاوية، يختلف عن رجل السياسة في أنه لا يسعى إلى إقرار قيم " affirmation de valeurs " ،كما يقول ماكس فيبر، بل إلى دراستها و إظهار طابعها التاريخي المحدود و بالتالي الوعي بإمكانية استئناف التفكير و الفعل ضدها من قبل الفاعلين كل ما كان ذلك ضروريا لهم ،ولكنه ليس محايدا سياسيا ولن يكون كذلك حتى و هو يكتفي بدرسه داخل أسوار الجامعة لأن دفاعه عن الحقيقة يجعله في تماس مباشر مع السياسي بصورة إما محافظة أو نقدية.

بهذا المعنى قد يتداخل عالم الاجتماع و رجل السياسة دون أن يتماهيا لأن رجل السياسة كثيرا ما يلتزم بما يسمى " فن الممكن " بينما قد يترك عالم الاجتماع الباب مفتوحا "للمستحيل" في سعي الإنسان إلى تحقيق إنسانيته في بعديها الأفقي و العميق، أي بعديها العالمي من ناحية و الأنتروبو ـ سوسيولوجي من ناحية ثانية. أما في علم الاجتماع العربي، فان النزعتين القومية و الدينية لا تزالان أحيانا كثيرة تطبقان على وعي العالم، و الإنسان عموما، كرد فعل على فشل الأنسنة الليبرالية و الشيوعية في نفس الوقت.

*****



في العلوم الطبيعية والصحيحة أو الصلبة، كما يقال، قليلون هم العلماء العرب الذين يقيمون ثنائية بين الفيزياء العربية الإسلامية والفيزياء الغربية، و حتى إن وجد الاصطلاح حول بعض العلوم كالرياضيات أو الطب أو غيرهما، فذلك لا يعني غالبا سوى التأكيد على مساهمة العرب والمسلمين في ذلك الميدان دون خصوصية معرفية ما. السبب "بسيط"، العلوم الطبيعية أو الصحيحة أو الصلبة كونية، قواعدها كونية وكذلك مناهجها ومواضيعها رغم تأثر العالم في هذه العلوم أيضا بحقله الاجتماعي التاريخي و المعرفي بالتأكيد.

أما في العلوم الإنسانية والاجتماعية، فثنائية "العلوم العربية الإسلامية" المقابلة "للعلوم الغربية" حاضرة جدا و السبب هو خصوصية المجتمعات ضمن الوحدة الإنسانية. لكن هذه الخصوصية عندنا تعبر إما عن انتفاخ في الأنا أو احتقار لها غالبا. نحن نتحدث عن علم اجتماع عربي غالبا، إما لتحقيره أو للمبالغة في التفاخر به و خاصة بأمجاده القديمة من خلال علم العمران الخلد وني.

إن الأخطر من هذا هو النتيجة المترتبة عن هذين التوجهين، إما المناداة بعلم اجتماع عربي إسلامي خاص ( مثلما نودي باقتصاد سياسي إسلامي خاص وباشتراكية عربية إسلامية خاصة) أو الدعوة إلى الاكتفاء بالتتلمذ على علم الاجتماع " الغربي" بحجة أن شروط " تأسيس" علم اجتماع عربي غير ممكنة عندنا.

هذه الثنائية مدمّرة لعلم الاجتماع العربي في الاتجاهين.

الاتجاه الأول، العروبي و الإسلاموي، يتجاهل أن علم الاجتماع العربي عليه أن يكون، أو يصبح علما. إن من شروط العلم الكونية و هذا الاتجاه لا يريد أن يفهم أن صفة " العربي الإسلامي" لا يجب عليها أن تعني نظرية علمية ومناهج خاصة بالعرب المسلمين بل دراسة المجتمع/ أو المجتمعات العربية دراسة علمية خاصة. فالخاص هنا هو المجتمع، هو موضوع الدراسة وليس قواعد البحث العلمي ومبادئه. إن خصوصية المجتمع المدروس تولد بالتأكيد معرفة خصوصية لكن تلك المعرفة الخصوصية لا تكون معرفة حقيقية إلا إذا كانت علمية أي إذا اعتمدت مناهج وقواعد ومبادئ العلم الكونية مطبقة على خصوصية المجتمع وظواهره.

الاتجاه الثاني " التابع"، إذا جاز هذا المصطلح، يرفض أية إمكانية لمساهمة علماء الاجتماع العرب في النظرية السوسيولوجية الكونية ويرى أنه من الأحسن الاكتفاء بالانتماء إلى أو مناصرة مدارس
" غربية ".

إن هذه الثنائية كارثية بالنسبة إلى علم الاجتماع العربي، فهو إما سيتحول إلى خطاب ما قبل علمي أو ما فوق علمي ( أي غير علمي في الحالتين ) أو سيبقى عبارة عن نسخة رديئة ، و متأخرة في الزمن غالبا، عن مدارس سوسيولوجية "أجنبية" وبالتالي ،فإنه في كلتا الحالتين ، سيعجز عن تقديم معرفة سوسيولوجية متقدمة فعليا بالمجتمع العربي وبالتفكير السوسيولوجي نفسه.

إن علم الاجتماع العربي يجب أن ينظر إليه داخل علم الاجتماع العالمي عموما وليس كمقابل لعلم اجتماع غربي.

صحيح أن علم الاجتماع في البلدان الغربية مخترق بالإيديولوجيا المعبرة عن مصالح تلك "الدول" أو بعض الفئات أو النخب..الخ. لكن عندما يكون العلم كذلك فهو ينقض علميته " الغربية" و " الشرقية" على السواء.

إن ردّ الفعل على مثل تلك الانحرافات غير العلمية ، التي تظهر خاصة في الدراسات الاستشراقية ، بالدعوة إلى أصولية أو عروبية سوسيولوجية سيكون إعلان وفاة لهذا العلم الذي لم يشتد عوده بعد في مجتمعاتنا.

*****

عندما يدخل الكيميائي إلى مخبره، يترك "وراء الباب" معتقده الديني سواء كان مسلما أو مسيحيا أو يهوديا ... إنه لن يكون كيميائيا ناجحا إلا إذا تعامل مع مواد بحثه ومناهجه وتقنياته تعاملا علميا.و بعد إنهاء البحث، أو أثناءه و لكن دون التدخل فيه، يمكن للمؤمن أن يتمتم "ما شاء الله " و للملحد أن ينبهر بلانهائية و خصائص المادة. لذلك يتفق كل علماء الدنيا تقريبا، بقطع النظر عن معتقداتهم على تعريف المواد والعمليات الكيميائية التي يتعاملون بها ومعها، أما " الخيميائيون " فيتخلفون عن الرّكب.

عندما يبدأ عالم الاجتماع بحثه، النظري أو الميداني يقحم عادة، إن كان عروبيا أو إسلامويا، معتقداته الدينية أو السياسية في بحثه إما بنرجسية " خير أمة أخرجت للناس" أو نرجسية "الأمة الواحدة ذات الرسالة الخالدة". إنه لا يستطيع التجرد من انتمائه القومي – الديني أو في المقابل يبدأ بحثه وهو يلعن اليوم الذي ولد فيه عربيا ومسلما بحجة " الأممية " أحيانا و " المواطنية العالمية " أحيانا أخرى .

إن المسألة الأساسية في المعرفة السوسيولوحية هي الموضوعية العلمية، والموضوعية تتحقق إذا كانت العلاقة بين الذات العارفة وموضوع معرفتها علاقة (او سعيا مستمرا لتحقيق ) حياد علمي موضوعي رغم أن موضوع المعرفة في علم الاجتماع هو العلاقات الاجتماعية بين الذوات الاجتماعية.

من هنا يصبح بالإمكان القول أن ثنائية الإلهي و البشري هي بدورها، إما ثنائية ما قبل سوسيولوجية أو ما فوق سوسيولوجية. أي هي في الحالتين معادية للسوسيولوجيا بوصفها علما اجتماعيا لتفسير الظواهر الاجتماعية وفهمها في نشأتها وتطورها وفنائها.
إن عالم الاجتماع لا يدخل مجال البحث العلمي فعليا إلا إذا انطلق من فكرة التحليل السببي الاجتماعي للظواهر الاجتماعية مع ربطها ببقية العوامل الإنسانية والطبيعية.

إن خصوصية الظاهرة الاجتماعية لا تعني انعدام إمكانية موضعتها رغم صعوبة المسألة.إن الحياد الموضوعي العلمي لعالم الاجتماع لا يعني تحويل الظاهرة الاجتماعية إلى شيء، بل التعامل معها و"كأنها شيء"، هذا إذا أردنا الاستفادة فعليا من دوركهايم، أي التجرد من العوامل الذاتية التي تقرب أو تنفر الباحث من موضوعه إذا أحس أن ذلك الاقتراب أو النفور سيضر ببحثه العلمي.

إن هذا الحياد لا يعني النظر إلى الظاهرة الاجتماعية وكأنها خالية من المعنى الذي يعطيه لها الفاعل الاجتماعي العربي والمسلم، بل يعني تجرد الباحث السوسيولوجي من المعنى الخاص به الذي قد يحمله لتلك الظاهرة، رغم أن تحقيق هذا " التجرد" الذاتي صعب و غير مرغوب فيه أحيانا أخرى، فلا يبدع العالم أحيانا إلا في موضوع يحبه كما يقال.

إن الحياد العلمي لا يعني النظر إلى الظاهرة الاجتماعية وكأنها خالية من الدوافع المصلحية أو القيمية أو غيرها عند الفاعل العربي المسلم. إنه يعني فقط محاولة التجرد من المصلحية أو القيمية أو غيرها عند العالم ومن تأثير الحس العام الشعبي والحس العام العالم أو المتعالم وتحقيق الحياد الأكسيولوجي الفيبري . لهذا ،على عالم الاجتماع العربي إن يفرّق بين موقعه كباحث علمي هدفه الموضوعية العلمية وموقعه كمواطن عربي مسلم أو مسيحي أو ملحد..دون نفي ذاته كفاعل علمي اجتماعي و لكن "بكبح جماحها "المفرط الذي قد يذيب الذات في موضوع دراستها أو يجعلها في تعارض عنيد معه.

بهذه الطريقة يدرس عالم الاجتماع العربي مجتمعه بموضوعية علمية تفيد المجتمع وتحلله وتنقده وتصلحه من أرضية علمية وليس من أي موقع آخر.
إن علم الاجتماع العربي لن يكون علما إلا إذا نظر إلى الظاهرة الإنسانية بوصفها ظاهرة مستقلة نسبيا، قائمة بذاتها وقابلة للتحليل ضمن إطار مرن مفتوح على الطبيعة المحيطة بالإنسان وعلى الطبيعي في الإنسان، هذا الطبيعي" المجتمع " باستمرار كلما تطور الاجتماع التاريخي.

بعبارة أخرى على عالم الاجتماع أن يترك " وراء الباب" اعتقاداته الشخصية ( عربية إسلامية أو مسيحية أو إحيائية أو إلحادية) حتى لا يتحول علم الاجتماع إلى لاهوت اجتماعي أو فلسفة اجتماعية يناقش قضايا الوجود الأول والجواهر اللاتاريخية والمصير الأخير.

إن علم الاجتماع العربي لن يكون علما حقيقا بهذه الصفة إلا إذا مارس علماء الاجتماع أبحاثهم بعلمانية علمية حتى لو كانوا في السياسة معادين للعلمانية.

إن دراسة الإنسان العربي أو الدراسة السوسيولوجية العربية عموما لن تتحول إلى علم إلا إذا حيّد عالم الاجتماع قناعاته الذاتية غير العلمية ليواجه موضوع بحثه مسلّحا بالفكر العلمي قبل غيره. إن إدماج الدين بالعلم يضرّ بالدين وبالعلم في نفس الوقت لأن المنظومتين مختلفتان ومن المهم الدعوة إلى الحدّ الأدنى، الذي يقول أن الدراسة العلمية السوسيولوجية ليست بطبيعتها إلحادية ولا إيمانية بالضرورة ، إنها محايدة و لكن قدر الإمكان.

إن العلاقة بين الإلهي والبشري في التحليل السوسيولوجي لا بد أن تتركز على" أنسنة " البحث العلمي بحيث مثلما يكون غريبا عند عالم الطبيعة، داخل بحثه العلمي، القول بأن الشهب تضيء السماء لرجم الشياطين وأن الزلازل والجفاف عقاب إلهي..إلخ، يجب أن يصبح غريبا داخل علم الاجتماع " التحليل الإلهي" للظاهرة الاجتماعية، على الأقل إجرائيا، وعند عالم الاجتماع المؤمن نفسه، مثلما حاول ذلك أجدادنا العقلانيون العرب القدامى.
إن تحليل رجل الدين لأزمة اجتماعية ما قد يتمحور حول فكرة إن الله أمر مترفي المجتمع ليفسدوا فيه ، و إن تحليل " الانحراف " داخل المجتمع قد يتمحور عند رجل الدين حول " علامات الساعة "و إن تحليل الفقر و الغنى الاجتماعيين قد يتمحور حول فكرتي البلاء و الامتحان الإلهيتين ....

إن إغراق التحليل السوسيولوجي ضمن التفسير الديني لا يفتح أمام العلم مجالات الإبداع، بل على الأرجح سيفتح أمامه " أبواب جهنم". فإذا تنكر عالم الاجتماع لإمكانية التحليل السوسيولوجي للظاهرة الاجتماعية بواسطة عوامل اجتماعية فإن علم الاجتماع سينتهي إلى التحول إلى يافطة " علمية" للتيولوجيات المختلفة لا غير.

إن عالم الاجتماع لا يمكن أن يتقدم على خطى العلم عندنا إلا إذا علمن أبحاثه ، ولو إجرائيا، أي بشرط حياده الديني الذي لا يعني بأي حال من الأحوال إغفال المعتقدات الدينية كواحد من أطر الفعل الاجتماعي للبشر، بما في ذلك عند العلماء أنفسهم.

***


من مزالق علم الاجتماع العربي الكبرى تصوره عن المقدس والدنياوي، ليس فقط من الناحية النظرية بل كذلك من الناحية العملية ( هذا مع أنه يمكن مقاربة الظاهرة الدينية وفق جدلية الأرضي و السماوي كما يقترح ذلك بعض الباحثين ).

نظريا ، الاتجاه الطاغي يحاول رفض التعاريف العامة للمقدس ومعارضتها بالمفهوم الإسلامي له. إنه يميل إلى اعتبار المقدس الإسلامي نقيضا للمقدس الإنساني وليس من تنويعاته. إن هذا الأمر يشكل خطرا على علم الاجتماع العربي عموما و على علم اجتماع الثقافة تحديدا.

إن هذا الميل مخترق بتصور إسلاموي مناهض للديانات الأخرى بطرق ودرجات متفاوتة وبالتالي يبتلعه موضوعه. فالباحث في هذه الحالة لا ينفصل عن رؤيته الخاصة للموضوع. و في بعض الحالات يسقط في اتجاه معاكس تماما، ولكن له نفس المحتوى، وهو رفض الشكل الخصوصي للمقدس الإسلامي بحجة العالمية بل وحتى تحقيره قيميا بتأثير من الاستشراق مثلا.

من ناحية أخرى، ونظريا أيضا، يتعامل علم الاجتماع العربي مع المقدّس ناسيا الكائن المقدس ( بكسر الدال) غالبا، إذا تعلق الأمر بالشأن الإسلامي طبعا.

إن علم الاجتماع لا يمكنه أن يدرس المقدّس إلا من خلال " دنيوته" ( تحويله إلى دنياوي) وذلك بإرجاعه إلى الفاعل الاجتماعي القائم بفعل التقديس و ما عدا ذلك يدخل الأمر في الدراسات اللاهوتية التأملية أو غيرها.

إن الثنائية الشهيرة بين " المقدس والمدنس"، أو المقدس والدنياوي، تأخذ عند علم الاجتماع العربي خصوصية سلبية جدا بسبب تأخر الإصلاح الديني من ناحية وسيادة مركزية يهودية ومسيحية في الدراسات الدينية العالمية ولّدت مركزية إسلامية مضادة.

عمليا: البحث العلمي الاجتماعي والإنساني في الدين تحديدا يكاد ينعدم في ساحة البحث السوسيولوجي العربي في بعض الدول العربية ، و في دول أخرى يطغى عليه الجانب النظري العام أو لا يخرج عن التصور الديني السائد أحيانا ،أما بعض الأبحاث الجادة، فإما محاصرة أو ممنوعة محرمة أو مهجّرة أو مهاجرة (المصري نصر حامد أبو زيد و الجزائري محمد أركون والتونسي يوسف الصديق...) أو مقتولة ( حسين مروة ، مهدي عامل، ..).
إنه من غير الممكن أن يتطور علم الاجتماع الثقافي العربي إذا كان القائمون عليه، أي علماء الاجتماع، يقدسون موضوعهم العلمي، داخل البحث نفسه، مثل الفاعلين الدينيين الذين يمارسون فعل التقديس.

إن المعرفة العلمية لا تحصل أبدا إذا كان الباحث الدارس " للمقدّس و المدنّس" هو نفسه يقدس المقدس ويدنس المدنس مثل أي فاعل اجتماعي ديني. لكن المعرفة العلمية في هذا الميدان، لن تكون علمية إذا تجاهلت تقديس أو تدنيس الفاعلين الاجتماعيين لظاهرة ما، أي تجاهلت أخذ ذلك كعامل من عوامل التحليل السوسيولوجي للاجتماع البشري.

إن تسلل المقدس والمدنس إلى ساحة البحث العلمي السوسيولوجي نفسها قد تقتل ذلك البحث بوصفه بحثا علميا وتحوله إلى خطاب ديني لا غير، فحتى عندما يكون عالم الاجتماع العربي مسلما أو مسيحيا أو ملحدا، يمكنه، إذا كان عالما حقيقيا، أن يتجرد، ولو إجرائيا، من تصوراته الخاصة ويحاول دراسة المقدسات والمدنسات علميا. إن البحث العلمي لن يكون علميا إذا تقيّد هو نفسه بطابوهات المقدس والمدنس. أما إذا تجرأ ودرسها علميا، بوصفها ظواهر اجتماعية نسبية ، فإنه سيقدم عندها معرفة تحاول باستمرار استئنافي الاقتراب من المعرفة العلمية الموضوعية.

لكن، من ناحية أخرى، لن يمكن لعلم الاجتماع التقدم في هذا المجال إلا إذا تساءل هو نفسه عن هالة التقديس التي يضفيها عليه بعض المختصين فيه ، إذ في كثير من الأحيان، يردّ بعض علماء الاجتماع على تقديس رجل الدين لمعتقده بتقديس مقلوب من العالم لعلمه. في هذه الحالة، قد يقترف عالم الاجتماع نفس ما يحذر منه عند رجل الدين. إنه سيعتبر أن "العلم مقدس والدين هو المدنس"، وعندها لن ينتج معرفة علمية نظرية لا بسوسيولوجيا العلم ولا بسوسيولوجيا الدين، أما من الناحية العملية فهذا سوف يبرر، بطرق ودرجات مختلفة، الاضطهاد الديني، وذلك بتحويل العلم نفسه إلى دين جديد، إلى سلاح إيديولوجي يستعمل ضد الفاعلين المتدينين عموما أو ضد بعضهم أحيانا.

****

الإنسان كائن طبيعي اجتماعي تاريخي، والمجتمع الإنساني هو شكل متقدم من أشكال الاجتماع التي توجد عند الحيوان بصورة "جنينية ". إن الاجتماع الإنساني، بالنسبة إلى العلم، شكل خاص من الاجتماع يتميز، نسبيا، بالثقافة لكن بالمعنى الأنثروبولوجي العام وليس بالمعنى الثقافوي. (م65 )

إن الاجتماع الإنساني يتميز بدرجة عالية من الثقافة لأسباب بيوفيزيولوجية تطورت عند الإنسان داخل الطبيعة حسب العلم ، لكن تلك الأسباب تبقى ضمنية، افتراضية و "موجودة بالقوة" لا تصبح فعلية إلا بالاجتماع الإنساني الثقافي. إن ميزات الإنسان الطبيعية من عدد الصبغيات والجينات ونوعيتها وحجم المخ والإستقامة في المشي وتحرر اليد من وظائف التنقل في المكان وكل الخصائص الفيزيولوجية الأخرى كخصوصية جهاز التصويت أو غيرها، تبقى كامنة لا تتحقق إلا بالاجتماع البشري وبدونه يتراجع الإنسان إلى مرتبة " التوحش".

إن تميز الإنسان معقد لا يمكن نسبته إلى عامل حاسم واحد كالعمل أو اللغة أو التفكير أو أي عنصر آخر. وإن هذا التميز لا يعني انفصال الإنسان عن مملكة الطبيعة بل ارتقاءه بدرجة تصبح فيها خصائصه الطبيعية عاملا مساعدا على تميزه الثقافي ويصبح فيها تميزه الثقافي عاملا على تثبيت ميزاته الطبيعية وتطويرها ضمن إطار طبيعي ثقافي في نفس الوقت. إن الثنائية القديمة بين الطبيعة والثقافة، بين الغريزي والمكتسب، يجب تجاوزها والنظر إلى الإنسان على أنه مركب، وليس ثنائي التكوين تتنازع الأرثوذكسيات " طبيعته" الأحادية المزعومة بحجة وجود عامل حاسم يكون عند البعض روحا أو ثقافة... وعند الآخرين مادة أو اقتصادا.

إن علم الاجتماع العربي مسجون أكثر من غيره في هذه الثنائية بسبب ما قلناه سابقا عن ثنائيات الإسلام والغرب، والإلهي والبشري و المقدس والدنيوي.
ولا يمكن لعلم الاجتماع العربي ( بما في ذلك علم اجتماع الثقافة طبعا) أن يتقدم إلا إذا انفتح على التصورات الأنتروبو- سوسيولوجية الحديثة في هذا الأمر.

إن العلم الاجتماعي الحديث يقف على أكتاف داروين وماركس و فرويد في هذا الموضوع و إن الدراسات الحديثة تتجاوز هذا الثالوث إيجابا وليس سلبا.
أما عندنا فأي أزمة في الداروينية أو الداروينية الجديدة أو في الماركسية أو الفرويدية ترجعنا إلى الوراء إلى ما قبل التفسير العلمي.

إن علماء الاجتماع العرب في غالبيتهم يقاطعون علوما بكاملها ذات علاقة بهذا الأمر فالباليونطولوجيا والأنثروبولوجيا البيولوجية والدراسات البيولوجية المقارنة مع الحيوان والإيطولوجيا ... علوم مجهولة، بل متجاهلة، تماما.

في المقابل يكتفي علماء الاجتماع العرب بتكرار انتقاداتهم لما يسمى " الداروينية الاجتماعية " ويتناسون أن الفكر الإسلامي حافل بتشبيه" المجتمع المسلم" بالجسد الذي إذا مرض منه عضو تتداعى له بقية الأعضاء " بالسهر والحمى"...

أما في الغرب، فإن رجال الدين أنفسهم بعدما قدمه لهم الإصلاح الديني، وخاصة ما يسمى القراءة الرمزية لسفر التكوين و قصة الخلق، يتجرأ ون أحيانا على تبني تصورات متقدمة جدا ولعل مثال الأب " تيلار دو شردان" أشهر دليل على ذلك (م66) رغم الانتقادات الموجهة له من زوايا علمية وفلسفية كتلك التي قدمها أحد مقدمي كتابه جان بيفطو. ولعل أعنف تلك الانتقادات ما كتبه لوي ألتوسير عندما قال ؛ " داخل كل عالم ينام فيلسوف أو يغفو و لكنه يستطيع أن يستيقظ في أول فرصة ،فها هو يستيقظ في حالة هذيان ديني خالص.فمثلا تيلار دو شردان عالم حفريات و قس فهو عالم صادق و رجل دين صادق، يستغل علمه في صالح عقيدته مباشرة " ( م67، ص87).

بل أن البابا يوحنا بولس الثاني نفسه، سنة 1996، فتح، ضمن الكنيسة الكاثوليكية باب إعادة نظر جذرية

في التصورات المسيحية عن الإنسان و قطع مع الدوغمائية الكاثوليكية الكلاسيكية
نفسها عندما اعترف بأن نظرية التطور هي السائدة في صفوف العلماء و أنها لم تعد مجرد فرضية و أنه لا داعي للبحث عن علم مسيحي خاص. (م68 ، ص41).

إن علم الاجتماع العربي مطالب اليوم بشجاعة معرفية تأسيسية تقريبا تؤدي إلى أنسنة الإنسان

نفسه بدراسته ككائن دنيوي ذي علاقة وطيدة بالطبيعة وتخلع عنه صفة القداسة التي أضفتها عليه الثنائيات ما قبل العلمية أو ما فوق العلمية. و على عالم الاجتماع المؤمن ، على الأقل ، ألا ينسجن في القراءات الحرفية لفكرة " أحسن تقويم " القرآنية التي لا تعني بالضرورة
" التقويم الحالي" للإنسان. إن الإنسان البدائي في النظريات الداروينية يتمتع هو الآخر بأحسن تقويم لأنه كان أرقى من الكائنات الأخرى و قابل للتطور من" كائن واقف" إلى "ماهر" إلى "عاقل" إلى "حديث" . فعلى الأقل لو طرحت المسألة بهذه الطريقة سيضيق عالم الاجتماع المؤمن الى أبعد حد ـ دون أن يلغي ـ التعارض القائم بين العلم و الفهم السائد للدين الإسلامي.

وقد حاول الدكتور عبد الوهاب بوحديبة القيام بمثل هذه العملية في خصوص العمل مثلا و استعان بابن خلدون و التصور الأشعري الذي يفرق بين" الخلق و الكسب" ليصل إلى القول إن "الخليقة مادة خام تكتسي قيمة بفضل ما يبذل فيها من عمل فرديا كان أو جماعيا، و إن كان ابن خلدون يرى في العمل العنصر الفعال فذلك لأن العمل في حقيقة الأمر بمثابة الكشف عن حقيقة الأمور و عن عجائب الدنيا ، فالمعجزة مشتركة إذن بين خالقها و هو الله تعالى و الكاشف لها و هو الإنسان"
( م69، ص184 ) لكن حتى بالنسبة إلى الدكتور بوحديبة " ان القدرة على الفهم منة من الله و نعمة و زاد الإنسان و عتاده و منبع الحضارة و قوامها و عين الثقافة و سرها فهي وجدان الحياة و حيوية الوجود . " ( نفس المرجع ، التوطئة ، ص 07 )

طبعا ما هذه إلا قراءة توفيقية خاصة بين العلم و الدين من الممكن الاختلاف معها . فالدكتور بوحديبة ،مثل ابن خلدون ، يؤرخ لظهور صناعة الحديد مثلا بالنبي داوود، أي أنه لا يدرس ظهور نشاط اقتصادي انطلاقا من معطيات الاجتماع و التاريخ بل عبر التدخل الإلهي المباشر... لكن المحاولات من هذا النوع مطلوبة، على الأقل، لكسر التصورات السلفية الدوغمائية الدينية التي ترفض التعاطي مع علوم بكاملها.


لكن ، رغم هذا ، يمكن لعلم الاجتماع العربي أن يحاول الاقتراب من العلمية، وفي حالة العكس سوف يعجز تماما عن تجاوز المسلمات السائدة في الثقافة العربية الإسلامية والمسيحية والإحيائية وسوف يعجز عن تجديد نفسه بوصفه بحثا علميا لا ينطلق من المسلمات بل من الفرضيات ولا يعتمد الإيمان العجائزي بل الشك منهجا ولا يقدس موضوعه ، و ما أنتج حول الموضوع من قبل "السلف الصالح" ، بل ينفصل عنه ليدرسه بموضوعية البحث العلمي الحقيقي وحياده.

أما إذا تم ربط الثقافي بالروحي في الدين فإن علم الاجتماع العربي سوف يتنكر ليس فقط للعلوم الحديثة بل وكذلك لأروع صفحات العقل العربي الاعتزالي مثلا و لبعض التفسيرات الدينية المعتدلة في تاريخ العرب والمسلمين على السواء.

إذا صمت علم الاجتماع العربي عن إقصاء العلوم الطبيعية والإنسانية من داخله وواصل مجاملة بعض التصورات التي تقول أن بعض الحيوانات هي في الأصل يهود مسخهم الله قردة أو خنازير. وإذا تغافل عن كل الفتوحات العلمية حول تطور الإنسان من إنسان واقف إلى إنسان حاذق إلى إنسان عارف و حديث. وإذا تجاهل الفتوحات البيولوجية المقارنة للجينوم البشري وجينوم الشامبانزي...فإن الهوة بينه وبين علم الاجتماع " الغربي" وبينه وبين العلوم الطبيعية والإنسانية ستزداد عمقا وسوف تبتلع لاحقا كل من يحاول رد مها.

في المقابل، ليس من العلم في شيء " تحريم" التصورات التي تبقي الباب مفتوحا أمام البحث الفلسفي عن مبدأ أول للوجود، إن البحث العلمي نفسه لا يزال أسيرا لبعض من هذه الأفكار أحيانا و في صيغه " الأكثر مادية" و لكن الباحثة دوما عن عامل حاسم هو أحيانا " الدافع الأول " الموروث عن الدين و عن الميكانيكا.
لكن السماح بهذه الأبحاث أو شبيهاتها لا يجب أن يعني التنكر للبحث العلمي وما راكمه من نتائج عظيمة بل، كما يقال نقلا عن ديكارت، " المجهول ليس هو اللانهائي، بل غير المحدد و غير المعروف"، أي أن المجهول ليس هو " الغيب" بالضرورة، فعندها سنختم البحث العلمي بالشمع الديني المتصلب، المجهول قابل للمعرفة النسبية إذا فتحنا كل الأبواب لحرية البحث العلمي و الفلسفي دون محرمات مسبقة و دون المساس بحرية المعتقد الديني في نفس الوقت. إن بعض ما كان يعتبر غيبا لا يعلمه إلا الله يصبح، باستمرار دائم، معلوما يعرفه البشر بواسطة العلم. و ما يتبقى مجهولا، بسبب نسبية الحقيقة العلمية، يحق للمؤمن أن يعتبره غيبا دينيا و للعالم أن يعتبره مجهولا علميا .

و ليس من حق أي طرف أن يفرض تصوره عن المجهول على الآخر مهما كانت الحجج، التي عليها أن تبقى فكرية دائما. ففي "سورة الرعد" مثلا نجد في "القرآن" أن الله هو " عالم الغيب و الشهادة "(آية 9) وهو الذي يعلم ما تحمله الأنثى، من جنس الجنين و مدة الحمل التي قد تنقص أو تزيد (تفسير الجلالين للآية الثامنة ) ( م70 ، ص249)، و نحن الآن، بفضل العلم، يمكن أن نعرف جنس الجنين قبل الولادة بشهور عديدة وتطور العلم سيمكننا من الأمر منذ لحظة الإخصاب بواسطة التحاليل الجينية الدقيقة. فلو أخرجنا من القبر مسلما من القرون ألأولى للإسلام لاتهم الجميع بالكفر، إلا أن المسلم غير المتشدد اليوم يقبل بالأمر دون أن يعني ذلك تخليه عن دينه و عن إيمانه غير المتشدد بالغيب.


*****

من الثنائيات الأكثر انتشارا في تفكيرنا، وخاصة في علم الاجتماع الثقافي ، ثنائية الحضارة والثقافة.
إن التفريق بين حضارة مادية وثقافة فكرية يمكن قبوله إجرائيا. لكن المشكلة في الفكر السوسيولوجي العربي تكمن فيما وراء هذا التصنيف.
إن القول المأثور عند بعض علماء الاجتماع العرب حول " الثقافة المقدسة والحضارة التي تباع وتشترى" أنموذج دال على التصور السائد تقريبا منذ عصر النهضة والذي بقي منتشرا ويبدو أنه يعود الآن بسبب الأوضاع العالمية الراهنة.

إن علم اجتماع الثقافة العربي لا يكاد يخرج أحيانا عن أفكار بعض المصلحين العرب، في القرن التاسع عشر، الذين كانوا ينادون باستيراد منتجات الحضارة الأوروبية ورفض ثقافتها.

وإذا تزحزح نسبيا عن هذا الموقف، يقسّم الثقافة نفسها إلى مكونات فيقبل مثلا بالعلم ويرفض القيم والمعايير والمبادئ.

وحتى داخل العلوم الطبيعية، يقبل الجزء ويرفض الجزء الآخر كما رأينا في خصوص البيولوجيا وغيرها.

إن قسما كبيرا من علم الاجتماع العربي ثقافوي عند الممارسة، أي أنه يميل إلى اعتبار الثقافة بمعناها الضيق جوهرا ثابتا وعاملا أساسيا بينما هو يرى مظاهر الحضارة المادية أو الاجتماعية أو السياسية ثانوية.

إن هذه الرؤية تناقض الآن، ما تدعو له أغلب النظريات السوسيولوجية الحديثة من التزام مبدأ البحث المعقد و التحليل السوسيولوجي بواسطة مفهوم " الظاهرة الاجتماعية الكلية "...

وحتى عندما يقبل علم الاجتماع العربي هذا المبدأ ظاهريا، فإنه يفرغه من محتواه لأنه يقسم تلك الظاهرة إلى أبعاد واحد منها جوهري والأخرى ظاهرية، واحد هو "ماهية الإنسان" والأخرى "أعراض" لا غير. إن علم الاجتماع العربي لم يتساءل بعد عن " العامل الحاسم" العابر للتاريخ وللمجتمعات وعن " الطبيعة البشرية" الأحادية و عن التصور الماهوي وغير العلائقي للإنسان وللمجتمع على حدّ السواء. إن هذا التصور أدى تاريخيا إلى واحد من جوابين مثلا عن سؤال " لماذا تقدم الأوروبيون وتأخر المسلمون"؟ إما أن يقال لنا أننا أضعنا الإسلام ولذلك تخلفنا أو يقال لنا إن الإسلام هو سبب تخلفنا.
وفي الحالتين، هنالك تفسير ثقافوي للتاريخ لا يأخذ بعين الاعتبار تعدد العوامل عند دراسة الظاهرة الاجتماعية مع مشروعية البحث عن سبب أقوى لظاهرة ما ولكن في مجتمع محدد وفي مرحلة تاريخية محددة.

إن علم الاجتماع العربي لن يتقدم إلا إذا أعاد صياغة نظرته إلى المجتمع والثقافة بطريقة جديدة مركّبة تتجنب ردود الأفعال عمّا ساد داخله من مدارس اقتصادية تنموية أو وضعية أو غيرها. ولكن إعادة الصياغة هذه لا يجب أن تتقهقر إلى ما يشبه العدمية السوسيولوجية بحجة " أزمة علم الاجتماع الغربي" و تحت راية العودة إلى " الأصول الثقافية" التي تأخذ حاليا معنى دينيا ضيقا، لا يرتقي حتى إلى مستوى الإسلام التاريخي، الذي هو "إسلامات " كما يقول الدكتور محمد أركون.

****

تختزل " الثقافة العربية الإسلامية" غالبا في عنصري اللغة والدين، مع تركيز البعض على اللغة أحيانا والبعض الآخر على الدين أحيانا أخرى، والدين الإسلامي تحديدا رغم وجود عرب مسيحيين وغيرهم.
ويزداد المشكل عندما نعرف أن مكانة الدين المعطاة ضمن الثقافة تتحول أحيانا من الدين كما هو موجود إلى الدين كما يجب أن يكون. إن بعض الأبحاث السوسيولوجية لعلماء الاجتماع العرب تكاد تتموقع مثلا ضمن المنظور السني وأخرى ضمن المنظور الشيعي. بل وأكثر من ذلك إن بعضها يكاد يطالب بضرورة أسلمة علم الاجتماع وضرورة إتباع سلوك بحثي في العلم من أجل تثمين هذا الجانب أو ذاك من الدين أو من التقاليد أو غيرها.

إن الباحث الاجتماعي يكاد يتحول هنا إلى داعية إسلامي تحت عباءة علمية. لا يوجد تساؤل حول الأسباب الاجتماعية التي أدت إلى احتلال الدين هذه المكانة داخل الثقافة العربية الإسلامية من منطلق علمي غالبا، في الغالب هنالك تفسير طوطولوجي للمسألة ( تفسير الدين بالدين) لتجنب المقاربة العلمية الاجتماعية للظاهرة الدينية. وحتى داخل الحقل الديني، هنالك إهمال كبير للدين المسيحي الشرقي كمكون من مكونات الثقافة العربية.

إن إضافة كلمة إسلامية للثقافة العربية، بحجة أنه دين الأغلبية الساحقة يخفي أحيانا كثيرة دور المسيحيين، بل و اليهود ، في بناء هذه الثقافة منذ نشأتها مرورا بعصر نهضتها الأولى، في العهدين الأموي- العباسي، ثم بنهضة القرن التاسع عشر وصولا إلى اليوم.

هنالك شبه إهمال لقسم كبير من الثقافة الإسلامية نفسها، ذات التوجه الاعتزالي أو التصوفي العالم...، وكأن عالم الاجتماع عندما يوصّف الثقافة يتخذ ضمنا موقف الدين الرسمي الذي ساد في التاريخ.
هنالك إهمال نسبي لدور " الشعر الجاهلي" في الثقافة العربية وإهمال للعلوم والفنون العربية داخل السوسيولوجيا السائدة.

إن تحليل الثقافة بوصفها كلا مركبا ، بقطع النظر عن عدم " تساوي" بعض الأبعاد ، يكاد يغيب إما في اتجاه لغوي مقدس أو ديني مقدس أو كليهما معا.

إن سيطرة تصور ثقافوي ديني- لغوي داخل علم الاجتماع الثقافي، خاصة مع تقديس اللغة والدين، يجعل الدراسات السوسيولوجية في هذا الميدان، إما غير علمية لأنها " تقدس مواضيعها"، وإما مفقودة لأنها قد " تدنّس المقدسات".

لهذا السبب يعتبر القطع مع هذه النزعة من أوكد مهام عالم الاجتماع اليوم.

إن الثقافة العربية ليست ثقافة دينية بالأساس وإسلامية تحديدا، رغم الحضور الهام للدين داخلها، إنها، ككل الثقافات مركب مرن من عناصر مختلفة من العلم والفن والدين... وإذا كان الدين يبدو ظاهريا وكأنه المكوّن الرئيسي فذلك قد يعود إلى الصورة التي تقدّم عليها هذه الثقافة من قبل المتنفذين على الإعلام والتعليم والنشر أساسا. انه لابد من نقاش المسألة علميا ، وعند هذا الحد لا توجد مؤشرات علمية دقيقة تمكن من قياس درجة حضور هذا العامل أو ذاك داخل ثقافة أو مجتمع . كما أن تصوير الثقافة العربية الإسلامية على أنها ثقافة دينية بالأساس، خاصة من قبل باحثين اجتماعيين يدّعون نقد الوضعية والماركسية وغيرها، هو خدمة مقلوبة تقدّم من جانبهم لما ينقدونه. وكأننا مازلنا لم نصل إلى " المرحلة الوضعية" أو إننا بالأساس " فاعلون اجتماعيون أصحاب قيم "أو إننا بالأساس " إقطاع شرقي" أو " استبداد شرقي" ...
إن تقديم الثقافة " العربية الإسلامية " بهذه الصورة هو ردّ فعل عكسي قد يخدم التصورات الأورومركزية أكثر من أي جهد يقوم به عالم اجتماع " غربي". إن المطلوب من علم الاجتماع العربي هو بالذات القطع مع هذه النزعة الجوهرية في تقديم الثقافة العربية والبحث عن أسباب سيطرة هذا الجانب أو ذاك داخل الثقافة في وقت محدد وضمن علاقة مجتمعاتنا بالآخرين.
أما خلاف ذلك، فنحن نعتقد أنه يبعد علم الاجتماع عن المقاربة العلائقية الاجتماعية التاريخية ليسجنه ضمن تصور ماهوي و " طهري" مزيف أحيانا.

****

تقدّم الثقافة العربية أحيانا كثيرة على أنها جوهر واحد موحّد بقطع النظر عن الاجتماع البشري و عن التاريخ.

إن هذه الرؤية هي غالبا مرتبطة بتصور هذه الثقافة، كمعلم هوية ثابت في مواجهة الآخر الخارجي ( الغرب أساسا) والآخر الداخلي (غير العرب أو غير المسلمين أو غير أبناء المذهب الإسلامي المهيمن ) و في مواجهة التاريخ.

إن وحدة الثقافة العربية " هي وحدة تاريخية، ووحدة تنوع داخلي في إطار المثاقفة مع الآخر الخارجي قطعا.

على المستوى الداخلي ليست الثقافة العربية بهذه الوحدة الصورية المقدمة أحيانا كثيرة.

إن المجتمع العربي مثل كل مجتمعات الدنيا، مجتمع مركب من أفراد ومجموعات وجماعات بل ومجتمعات مختلفة أحيانا، وإن الثقافة العربية تصبح بالتالي "ثقافات".

إن مفاهيم " الثقافة المصغرة" أو " الثقافة الخصوصية " أو " الفرعية " أو غيرها، عادة ما تنسى عند التعرض لتحليل الثقافة العربية الواقعية و ليس المنمطة.
كما أن التمييز بين الثقافة العالمة والثقافة الشعبية يقدم أحيانا بشكل مزدوج لإدانة واحدة منهما حسب السياق.
إن المجتمع العربي وثقافته يقدّمان غالبا على أنهما نسقان موحدان بقطع النظر عن أية تعددية داخلية لذلك فإن التصور الغالب في علم الاجتماع الثقافي " العربي- الإسلامي" هو اتجاه نسقي وظيفي تقريبا،

وقد آن الأوان لإعادة الاعتبار لنظرة تعددية في علم الاجتماع الثقافي العربي، خاصة عند تطبيقه على القضايا الواقعية، وليس عند عرضه نظريا.
إن الثقافة العربية هي وحدة متنوعة من الثقافات الجزئية، إنها هي الأخرى مركّب تأليفي، ولكن متنوع ، فيه من الخصوصيات الثقافية ما يوجد في أي مجتمع آخر وربما أكثر.

أولا هنالك ثقافة عربية ما قبل إسلامية وأخرى إسلامية، ثم هنالك ثقافة عربية إسلامية وأخرى عربية مسيحية.
هنالك ثقافة فرعية مرتبطة بالجماعات الكبرى الموجودة داخل كل مجتمع عربي ( الجنس واللون و العمر والمهنة و الدين/ المذهب، الطائفة ).

هنالك ثقافات مرتبطة بالأقليات القومية داخل المجتمع العربي.
هنالك ثقافات قطرية متفرعة عن الثقافة العربية لها خصوصيات نسبية بحكم عوامل الاجتماع والتاريخ الخاصين نسبيا.

هنالك ثقافات فرعية ذات علاقة مذهبية داخل الدين الإسلامي نفسه لا يمكن تجاهلها في التحليل السوسيولوجي للثقافة العربية.

إن علم الاجتماع العربي، وخاصة علم اجتماع الثقافة، مدعوّ لعدم الاكتفاء بالعرض النظري لمصطلحات " الخصوصية الثقافية" و " الثقافات الفرعية" و " المصغرة" وغيرها، عند إلقاء الدروس النظرية العامة، واستعمال هذه المصطلحات عند إنجاز الأبحاث داخل المجتمع أو الثقافة.

إن علم اجتماع الثقافة العربي يبدو وكأنه غريب عن التطورات العلمية التي حصلت داخل العلوم الاجتماعية والإنسانية، هذه التطورات التي انتقدت وتجاوزت النظريات الثقافوية والوظيفية والاثنوغرافية والأنتروبولوجية إلى تقدم المجتمع وكأنه " مجتمع بسيط " ، غير مركب وتكتفي بإظهار وحدة ثقافته وقيمه ومعاييره دون النظر إلى العناصر الصغرى، الفرعية التي تكونها، إنه لا يقدم الثقافة كنظام علاقات بل كجوهر خالص و ماهية خالدة.

ومن نافل القول أن هذه الطريقة في تقديم الثقافة تعبّر عن تصور إيديولوجي أكثر منه سوسيولوجي، مثلما تحاول بعض التصورات الأخرى تقديم الثقافة العربية بشكل " تذريري" مفكك ينفي أي مظهر من مظاهر الوحدة أو التشابه... وكأنه لا مجال للحديث عما يسمى الثقافة القومية عند العرب. وللحقيقة، يخدم هذان التصوران بعضهما البعض، فالتركيز على العنصر الديني- الإسلامي خاصة- يقدم الثقافة الدينية في مركز الصدارة مقارنة " بالثقافة القومية"، وبالتالي يضع المجتمعات العربية ضمن إطار انتماء إسلامي يتجاوز الانتماء القومي و يريد نفيه أو تقزيمه. وكل من هذا التصور أو ذاك يغذي أحيانا، عند المبالغة فيه بشكل قومي أو ديني نزعات أخرى إقليمية أو إثنية أو غيرها.

كل هذا غالبا ما يتم لأهداف سياسية ولكن باسم العلوم الإنسانية والاجتماعية. وإذا لم ينتبه عالم الاجتماع العربي- وخاصة عالم اجتماع الثقافة- إلى هذا فإنه سيفقد دراساته الثقافية مصداقيتها العلمية لا محالة.

*******

نتيجة لما سبق يميل علم الاجتماع العربي كذلك إلى التركيز على التماسك الثقافي ويهمل الصراع الثقافي الذي لم ينقطع يوما داخل الثقافة العربية.

إن تاريخ الثقافة العربية هو تاريخ جدل بين وحدتها وصراعها، وإن تكوّن الثقافة العربية من ثقافات جزئية، ليس معطى قزحيا تماسكيا دائما بل هو عامل صراع حول اكتساب السيطرة الثقافية.
إن علم الاجتماع العربي يتناسى أحيانا كثيرة أن يقدم "الثقافة العربية الإسلامية" بوصفها الثقافة السائدة عبر صراع دموي أحيانا ورمزي أحيانا أخرى بين الثقافات الفرعية داخل المجتمع والثقافة العربيين.
إن التاريخ الثقافي العربي هو تاريخ صراع حول الهيمنة الثقافية، قبل ظهور الإسلام وبعده.
وان تاريخ الثقافة الإسلامية هو الآخر تاريخ صراع ثقافي حول المشروعية الثقافية وما تاريخ التدوين والتفسير والفقه وعلم الكلام والفلسفة في الإسلام إلا دليل على ذلك.

إن الاكتفاء بمجرد العرض للثقافة "العربية الإسلامية" يخفي أحيانا كثيرة صمت عالم اجتماع الثقافة العربي عن ضرورة تقسيم الثقافة عموما إلى ثقافة سائدة وثقافة مسودة من ناحية، ويخفي تقديم، أو استخدام، الأولى بوصفها " إيديولوجيا سائدة " من ناحية ثانية.

إن علم اجتماع الثقافة العربي مخترق إلى حدّ بعيد بالإيديولوجيا التماسكية، وأحيانا بالإيديولوجيا "الصراعية اليوطوبية"، أي التي تقول بأن الصراع سيحقق "المجتمع الخالي من الصراع". إنه يكاد يغترب عن تاريخ علم الاجتماع الثقافي العالمي الذي طالما درس علاقة الثقافة بالإيديويوجيا واليوطوبيا، من ماركس مرورا بكارل مانهايم إلى يومنا هدا.

إن الصراع حول المشروعية الثقافية يشق الثقافة العربية المكتوبة مثلا: منذ صراع " الشعراء الصعاليك" مع الايديولوجيا القبلية، مرورا بالصراع بين الإسلام الأول والسيادة الثقافية القريشيه ما قبل الإسلامية، وكذلك مع اليهودية ومع المسيحية العربية الأولى، ومرورا بالصراع حول الخلافة في السلطة وحول التفسير في عصر الخلفاء الأربع الأول وكذلك كل التاريخ العربي اللاحق بين الفرق والمذاهب والحركات الاجتماعية والسلطات.

إن تقديم الثقافة العربية وفق رؤية تماسكية هو تقديم إيديولوجي وليس سوسيولوجيا، إنه يخفي ( وأحيانا لا يحاول حتى عملية الإخفاء تلك)، تخلف علم الاجتماع الثقافي، و علم الاجتماع عموما، هذا التخلف الذي لا يمكن تجاوزه إلا بتحقيق قطيعة معرفية فعلية بين علم الاجتماع كعلم و الثقافة العربية الإسلامية السائدة التي تسعى إلى تحويل العلم إلى أداة تخدمها لا غير.

لكن هذه القطيعة لا يجب أن تحول علم الاجتماع إلى إيديولوجيا مضادة، كردّ فعل على السائدة، إنما على علم اجتماع الثقافة العربي خاصة أن يحدد نفسه داخل الحقل العلمي، عبر نقد وتجاوز رؤيته للثقافة كموضوع بحث وللمناهج والتقنيات والنظريات التي طالما استعملها في مقاربة المجتمع والثقافة على حدّ السواء.

*****

تعرض علينا الثقافة العربية أحيانا على أنها ثابتة، بل وأحيانا أخرى وفق موقف قيمي واضح على أنها يجب أن تبقى ثابتة.
إن التحول الثقافي داخل الثقافة العربية الإسلامية يقدم لنا أحيانا، إما على أساس أنه خيانة قومية أو على أساس أنه زندقة دينية.

ان سبب هذا الوضع الثقافي، الذي يخترق أحيانا علم الاجتماع نفسه، هو تقديس اللغة العربية والدين الإسلامي خاصة.

إن اللغة العربية، رغم تطور علوم اللغة المبكر عند العرب والمسلمين، لا تزال تقدّم لنا على أنها لغة مقدسة، ذات أصل سماوي تقريبا. والحال أن خيرة علماء اللغة القدامى أكدوا أنها " مواضعة واصطلاح" ، على الأقل في بعض جوانبها .
إن علم الاجتماع الثقافي وعلم اجتماع اللغة العربية لم يقطعا بعد حبل السرة مع التفكير الديني حول اللغة والثقافة، على الأقل، في بعض الأقطار العربية.

إن عالم الاجتماع نفسه لم يستطع موضعة التدين الإسلامي ليتمكن من دراسته علميا، إن التدين الإسلامي، هو الآخر، يقدم حتى من قبل بعض علماء الاجتماع بصورة تقد يسية.

إذا تعامل عالم الاجتماع مع موضوع هو نفسه يقدسه فإنه لن يكون عالما، لأنه إما سيكتفي بتصديق ما يقوله الموضوع عن نفسه أو، في أحسن الحالات، سوف يكتفي بتقديم تأويله الخاص عن قداسة ذلك الموضوع، إنه سيعرض علينا إيمانه بموضوع البحث وليس تفسيره وفهمه له، إنه سيذوب في موضوع بحثه عوض تفكيكه وإعادة بنائه معرفيا.

وإذا قدّس عالم الاجتماع موضوع بحثه فإنه، إضافة إلى تقديمه واحدا موّحدا متجانسا متماسكا، سيقدمه خالدا في التاريخ، أو سيلمح أو يصرح لنا بأنه يجب أن يبقى خالدا.

في هذه الحالة، يمكن فهم الستاتيكية التي تميز أحيانا كثيرة الأبحاث السوسيولوجية الثقافية العربية و الإسلامية.

إن هذه النظرة غير الدينامية للثقافة، لا تكتفي حتى بمصطلحات الانحراف والأنوميا ( اختلال المعايير) والابتعاد/ l’écart الدارجة في الوضعية الدوركايمية أو الوظيفية، بل قد تتورط في استعمال اصطلاحات قريبة من التحريم والتكفير والتخوين التي لا علاقة لها بالعلم تماما، وهي بذلك تساهم فعليا في عدم الانتباه لعملية الجدل بين الثبات والتحول و بالتالي تحول الثقافة إلى كائن لا تاريخي.

إن تاريخ الثقافة القديم حافل بقتل العلماء والشعراء والمفكرين وحرق كتبهم، وإذا كان ذلك ممكن الفهم في العصور القديمة، بالنظر إلى سيادة ظروف اجتماعية تقليدية وحقل معرفي ما قبل علمي تقريبا، فإنه من الغريب في مجتمعنا المعاصر التعامل بنفس الطريقة تقريبا ولو مع بريق علمي.

إن البحث في الانحراف والتباين والتجديد الثقافي، إذا لم يخرج من بوتقة القيم السائدة للثقافة ويتحول إلى بحث علمي موضوعي، سيسجن علم الاجتماع العربي وعلم الاجتماع الثقافي تحديدا، في نظرة غير علمية.
إن تجديد علم الاجتماع العربي، لا يتم إلا إذا تعامل عالم الاجتماع، وعالم اجتماع الثقافة بالتحديد، مع الثقافة على أنها ظاهرة متحولة.

إن دراسة جدل الثبات والتحول في الثقافة العربية لن تكون علمية إلا إذا تجنبت اتجاهين متعارضين ولكنهما غير علميين؛ الاتجاه السكوني التقديسي والاتجاه " العدمي التقدمي".
إن الاتجاه الأول معاد للحركة وهو عادة اتجاه تقهقري تأصيلي وأصولي أما الثاني فهو اتجاه قد يصبح عدميا استئصاليا من الناحية الثقافية تحت يافطة التطور.

إن الخلفيات الكامنة وراء هذين الاتجاهين مبالغات ذاتية وقيمية، إما في اتجاه" تقديس" الثقافة العربية الإسلامية السائدة أو في اتجاه " لعنها وتدنيسها" وفي الحالتين نجد مديحا للسكون أو للحركة وليس دراسة علمية لأسباب الجدل الفعلي بين ا لسكون والحركة في الثقافة.


*****

تقدم الثقافة العربية أحيانا كثيرة على أنها خصوصية خالصة أو على أنها يجب أن تبقى ظاهرة خالصة من شوائب الثقافات و المجتمعات الأخرى.

إن الشعار الأكثر انتشارا في صفوف عدد كبير من المثقفين والذي يقول إنه من الممكن الانفتاح الحضاري على شرط عدم الإضرار بالهوية الثقافية العربية الإسلامية، هو شعار يخفي نزعة شوفينية وأصولية غالبا.

إن تقديم الهوية على أنها وحدة غير متناقضة وخالدة ثم تقديسها هو سمة بارزة في الفضاء الفكري والثقافي وإن ذلك يخترق بدوره الدراسات السوسيولوجية حول الهوية واللغة والدين والثقافة و"حوار وصراع الحضارات".

إن الانثروبولوجيا و علم الاجتماع الثقافي يؤكدان أنه، باستثناء بعض المجتمعات المنغلقة و صغيرة الحجم، تتميز أغلب الثقافات الكبرى عند الإنسانية بأنها نتيجة تفاعل ثقافي بين المجتمعات.

إن الثقافة العربية الإسلامية لا تشذ عن هذه القاعدة، لكن عند دراسة الظاهرة لا بد من الانتباه أن هنالك انحرافين في دراسة الثقافة العربية الإسلامية، الأول، الانحراف ألخصوصي الذي يتنكر لأهمية التثاقف الذي قام به العرب والمسلمون مع ثقافات الشعوب الأخرى الفارسية واليونانية والأوربية الحديثة خاصة.

الانحراف الثاني هو الانحراف " الكونوي التثاقفي" الذي يكاد ينفي أي دور للعرب وللمسلمين في ثقافتهم بحجة أن العرب كانوا بدوا في الجزيرة العربية وأن نهضة الثقافة العربية الإسلامية ساهم فيها الفرس والأجانب عموما من المسلمين غير العرب أو العرب من غير المسلمين، مثل دور المسيحيين في الترجمة في العهد العباسي، وأنهم في أحسن الحالات كانوا مقلدين زمن النهضة الأولى أو الثانية في القرن التاسع عشر.

إن هذين الانحرافين قد يمارسان تأثيرا حتى داخل علم الاجتماع الثقافي. في حين أنه من المفترض أن يرتقي هذا العلم بالذات إلى الوعي بجدلية الخصوصية والكونية في الثقافة العربية الإسلامية بحيث يحقق أنسنتها من ناحية، بنزع هالة الخصوصية والتقديس المبالغ فيهما ومن ناحية ثانية بنزع الانحراف نحو العدمية الإبداعية للعربي المسلم التي تسود داخل تيارات فكرية عديدة، وبذلك يعيد تنظيم العلاقة بين القومي ( أو الديني) والإنساني عبر أبحاث علمية دقيقة.

إن إعادة صياغة تاريخ التثاقف والتمثل الثقافي الذي مارسه العرب و المسلمون مع غيرهم ممن سبقوهم في العيش على هذه الأرض ( الفراعنة، الفينيقيون، الكنعانيون والسومريون... وغيرهم) وممن تعايشوا معهم عليها ومن الشعوب الأخرى وثقافاتها هو مفتاح تجاوز ثنائية الخصوصي والكوني.

وإن هذه المهمة هي بالتأكيد، ملقاة على علماء الاجتماع العرب سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين، شيعة أو سنة، مؤمنين أو ملا حدة. إنها مهمة علمية بالدرجة الأولى قبل أن تكون مهمة قومية أو دينية، هذا إذا كان عالم الاجتماع العربي يمارس بحثه بوصفه عالما، وليس بوصفه مواطنا منخرطا في الحس العام المشترك أو في" الحس المتعالم" الأصولي أو العروبي المشترك أو غيرهما.

لكن انخراط عالم الاجتماع في إعادة صياغة العلاقة بين الخصوصي والكوني في الثقافة لا يمكن، حسب اعتقادنا، أن يتم إلا بالانتباه إلى ما يلي: إن ردّ الفعل المتبادل بين النزعات الخصوصية والنزعات الكونية مردّه تصور الخصوصي في مقابل الكوني بشكل لا تاريخي تماما. إن جدل الخاص والكوني في الثقافة لن يتجلى إلا بفهم علاقات التداخل والتبادل بين الطرفين ضمن التاريخ. وإذا كانت النزعات الخصوصية الشوفينية أو الأصولية الدينية واضحة فإن ميلا آخر يبدو في المرحلة الحالية أقل وضوحا. إنه الميل إلى تقديم الكوني في صورة لا تاريخية بحيث يضفي البعض صبغة كونية على ما هو خصوصي عند " الغرب" أو عند المسلمين، بحجج جوهرية، تحت يافطات " حقوق الإنسان" أو " الدين الحق" ناسين أن الكوني هو، أحيانا كثيرة، خصوصي تم تحويله إلى كوني داخل التاريخ، بفعل الانتصار التاريخي لهذا الطرف أو ذاك، أو بفعل نجاح المركزية الثقافية لهذا الطرف أو ذاك، أي بصورة عامة بفعل ما يسمى" الإمبريالية الثقافية".
ان الكوني ليس مجرد خصوصي" مكونن"، إنه وحدة بين جانب كوني إنساني مشترك بين الجميع من ناحية و جانب تمت / أو تتم (مثلا في مرحلة العولمة الحالية) عملية تحويله إلى كوني بفعل القوة العسكرية والاقتصادية والرمزية معا.
إذا انتبه عالم الاجتماع العربي لهذا الأمر، يمكنه، نظريا على الأقل، أن يتجنب انحرافين يخدمان بعضهما البعض ويعبران عن نفسيهما، بلغة سياسية، بالشوفينية و الأصولية من ناحية وبالتبعية من ناحية أخرى.

***

أخيرا، وليس آخرا،


ادا كان المبحث الأساسي في هدا العمل يتعلق بالعلم و الدين فإننا نرى أنه من المهم التذكير بما قاله ادغار موران في التعامل مع الأساطير –ونستأنس به للحديث عن الدين - لنقول أنه لا بد للعالم (بكسر اللام) من " رفض تقديم الدين بوصفه الحقيقة مع الاعتراف بحقيقة الدين الاجتماعية "
وان هدا التصور هو الأقرب إلى المقاربة العلمية الحديثة ، أما عندما يصر البعض منا على تقديم الدين وكأنه الحقيقة الكاملة و النهائية و يربطون بينه وبين العلوم الحديثة فإنهم يمارسون نوعا من الازدواج في الشخصية فيصرون على الدفاع عما لا يمكن الدفاع عنه علميا أو يلوون رقبة العلم و الدين على السواء في موقف تلفيقي مهتز من الناحية المعرفية ، وقد يصبح خطيرا من الناحية العملية على الفكرين العلمي و الديني على السواء.

إن التطرف العلماني و الإلحادي، و رغم الاختلافات الحقيقية بين الدين و العلم، كثيرا ما يتجاهل " حقيقة الدين الاجتماعية " و ينزلق أحيانا إلى ممارسة أو تبرير الاضطهاد الديني. لكن التطرف الديني يقدم الدين و كأنه الحقيقة الكاملة و النهائية حتى لو اضطره الأمر إلى التنكر لأبسط الحقائق العلمية . و في هدا وداك من المواقف نسيان للإنسان و اختزال للصراعات في عالم الأفكار في أحيان كثيرة .

إن اختلاف العلم عن الدين لا يبرر أي شكل من أشكال الاضطهاد الديني باسم العلم أو أي اضطهاد فكري و علمي أو فلسفي باسم الدين.
لكن هدا الاعتدال العملي السياسي لا يعني بأي شكل من الأشكال الانتقال من الدفاع عن حريتي البحث العلمي و الاعتقاد الديني إلى موقف تلفيقي في المستوى المعرفي نفسه ، إننا نعتقد أنه ، من داخل الحقل العلمي ، لا سبيل إلى القبول و لا داعي حتى لمحاولة التوفيق – بل التلفيق – بين تصورات العلم و الدين حول الكون و الإنسان . على عالم الاجتماع ، و العالم عموما ، أن يقر بأنه لا سبيل إلى أية صياغة وسطية بين تصورات الدين عن خلق العالم في ستة أيام و بين التصور العلمي عن المسألة . لا سبيل إلى التلفيق بين التصورين الديني و العلمي حول الكون و لا يمكن إيجاد أية صيغة محترمة ، و تحترم العقل البشري ، بين الإقرار بأن " الشمس تجري لمستقر لها " ( سورة يس ) و مستقرها تحت عرش الله الذي يأمرها في كل صباح بالبزوغ من جديد على ما يبدو ( م 71) – وهدا تصور ما قبل كوبرنيكي – و بين التصورات العلمية الحديثة. لا سبيل إلى التلفيق بين التصور الديني عن خلق الإنسان و عن الحياة عموما و بين التصور العلمي الحديث في البيولوجيا و الذي يعود الفضل لتشارلز داروين في الإسهام في بلورته و سيطرته .
كما إن هدا الاعتدال لا يجب أن يعني أبدا ، بحجة احترام المشاعر الدينية ، الصمت عن أي مظهر من مظاهر ظلم الإنسان بما يتنافى مع الحقوق و الحريات الإنسانية الحديثة و معاملة المرأة مثلا وفق مبدأ كون "النساء ناقصات عقل و دين" بتعلة "الخصوصية الثقافية " أو تبرير اضطهاد غير المسلمين بأية حجة من الحجج.
ان الدفاع عن العلم يظل منقوصا ادا لم يرتبط بالدفاع عن المبادئ الإنسانية الحديثة و العمل على تحقيق التقدم البشري المستمر ضد كل أنواع الاستغلال و القمع و الاغتراب و التمييز مهما كان تبريرها الليبرالي أو الاشتراكي أو الديني أو القومي أو غيرها من التبريرات.

أن هده الأمور و غيرها مما عرضناه سابقا حول الاسلاموية و الشوفينية في العلم لا يجب أن تخلط بمشروعية النضال القومي ضد الاستعمار القديم و الحديث و بمشروعية النضال ضد الاضطهاد الديني الذي تمارسه " الدول الكبرى و "الديمقراطية " أو غيرها بتحالف بين أصولياتها الخاصة و فئاتها و نخبها السياسية و العسكرية و الاقتصادية الخاصة . إن ما نقصده هو النقاش العلمي للمسألة و ليس جانبها السياسي الذي لا يمثل محور اهتمامنا الأساسي في هدا العمل.

لكل هذا و لغيره من الأسباب نعتقد إننا في حاجة إلى تجديد عميق للنظريات والمناهج وتقنيات البحث، ولسنا في حاجة إلى أصولية سوسيولوجية مزعومة، مهما كانت صفتها. إننا في حاجة إلى بحث متواصل عماده العقل السوسيولوجي وسلاحه الشك الجذري الايجابي، بحث تتضافر فيه جهود كل الأجيال وكل المدارس السوسيولوجية دفاعا عن الحرية العلمية، و الدينية، وبالتالي دفاعا عن شعوبنا وعن الإنسانية التي لا قيمة لأي علم إذا لم يكن يساهم في خدمتها.

المراجع و المصادر و الملاحظات


- Sciences humaines, (les grands dossiers des sciences humaines -65
N 01, l’origine des cultures), Décembre 2005- janvier, février, 2006.

.
66- DE CHARDIN, Teilhard, la place de l’homme dans la Nature ; le - 66 groupe zoologique humain, préface de Jean piveteau, Albin
Michel 1956, Reed : UGE, 10/18, Paris, 1962.




67ـ ألتوسير، لوي ، الفلسفة و فلسفة العلماء العفوية، ترجمة و تقديم رضا ألزواري، منشورات عيون، الدار البيضاء، المغرب.


68 - QUINIOU, Yvon, la mort scientifique de dieu, le nouvel


Observateur , hors série n 61, la bible contre Darwin…, décembre

2005- janvier, février 2006.


69ـ بوحديبة، عبد الوهاب؛ لأفهم، فصول عن المجتمع و الدين، الدار التونسية للنشر، 1992.

70 ـ تفسير الجلالين، دار الجيل، بيروت، الطبعة الثانية، 1995.
كما استعنا أحيانا ب " مختصر تفسير الطبري “، ابن يحي محمد بن صمادح التجيني، دار المنار ، القاهرة ، دت.

71- انظر : البخاري ، حديث رقم 4802 و مسلم ، حديث رقم 159 و دلك في :
- صحيح البخاري، دار صادر، بيروت، د ت، كتاب تفسير القرآن، المجلد الثالث، ص 869.
- مختصر صحيح مسلم" للمندري ، المكتبة العصرية صيدا ، لبنان ،2006 ، ص 634.









#بيرم_ناجي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- طلاب يهود بجامعة كولومبيا: مظاهرات دعم فلسطين ليست معادية لل ...
- مصادر فلسطينية: أكثر من 900 مستعمر اقتحموا المسجد الأقصى في ...
- مئات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى تحت حراسة إسرائيلية مش ...
- سيبدأ تطبيقه اليوم.. الإفتاء المصرية تحسم الجدل حول التوقيت ...
- مئات المستوطنين يقتحمون باحات الأقصى في ثالث أيام عيد الفصح ...
- أوكرانيا: السلطات تتهم رجل دين رفيع المستوى بالتجسس لصالح مو ...
- “خليهم يتعلموا ويغنوا ” نزل تردد قناة طيور الجنة للأطفال وأم ...
- فيديو خاص عيد الفصح العبري واقتحامات اليهود للمسجد الأقصى
- “ثبتها الآن” تردد قناة طيور الجنة 2024 Toyor Aljanah لمشاهدة ...
- بعد اقتحامات الأقصى بسببه.. ماذا نعرف عن عيد الفصح اليهودي ا ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - بيرم ناجي - الاسلام و علوم الاجتماع : محاولة في الدفاع عن العلم ضد -المنظور الثقافي الاسلامي- عند الدكتور محمود الذوادي (خاتمة)