أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سيروان رفعت أحمد الزنكنة - الواقعية السحرية















المزيد.....



الواقعية السحرية


سيروان رفعت أحمد الزنكنة

الحوار المتمدن-العدد: 3801 - 2012 / 7 / 27 - 03:06
المحور: الادب والفن
    



يعد القرن العشرون بمثابة بوابة فتحت الافق أمام التغييرات الديناميكية الاساسية لعالم الفن, لقد بدأ الفن في العصر الحديث كحركة واقعية في فرنسا عام 1840 على يد العديد من الفنانين وبأجيال متعاقبة فضلاً عن وجهات نظر تقدمية دفعت حدود الفن الى أبعد من مؤسساتها الاكاديمية, وفي السنوات التي سبقت الحرب العالمية الاولى ظهرت حركات مضادة أو مناقضة كالتعبيرية والتكعيبية والمستقبلية ... وكان لكل منها أسلوبها الخاص بالرغم من أن الناس ما كانوا على استعداد لقبول مثل هذا النوع من الفنون, فهذه الحركات جاءت نداءً لطلب من الفنانين الذين تركوا الاساليب التقليدية القديمة بعد الحرب العالمية الاولى, وخصوصاً في عام 1920 الى 1923, وفي الوقت ذاته كان العديد من الفنانين مقرهم الاساس في فرنسا (باريس), فالجماهير كانت تتوق نحو فن طليعي وقد أستمر لعدة سنوات وأستمر بعد ذلك النشاط في أماكن اخرى من أوربا .
من خلال هذه القناعات استطاع الفنانون ابتكار حركة فنية جديدة رداً على التعبيرية والتكعيبية بالاضافة الى التيارات الطليعية، فالصور الاولى منها كانت تتميز مواضيعها في إطارها العام بالتطرف وبالعاطفة المركزة، ففي البدايات الاولى أي الاتجاه الاولي للواقعية السحرية كانت تدعى ما بعد التعبيرية من قبل بعض النقاد ولكن عندما جاء فرانز روو ألتجأ الى تصحيح العبارة وجعلها في مرحلة أكثر تقدماً وتوجهاً نحو الواقعية الجديدة، فالواقعية السحرية كحركة فنية حديثة ظهرت في "القرن العشرين عندما كانت تبدو من قبل فنانين أوربيين بعد الحرب العالمية الاولى، وظهرت في مرحلتين، الاولى بدأت حول عام 1919 وسبقت السريالية بعدة سنوات، والثانية بدأت في أمريكا الجنوبية في عقد متأخر، أمتدت هاتان المرحلتان عبر أربعة عقود تقريباً"( )، لقد جلبت الحرب الخراب والدمار وبعدها جاء الاعمار الواسع الانتشار وتم تأسيس الجمعيات في أكثر بلدان العالم تحديداً في أوربا, ليعبر العالم عن رؤية جديدة في الفن ... ومن ثم في أوائل العشرينيات بدأ العديد من الفنانين التوجه نحو العالم الخارجي المباشر بكل تمفصلاته والاحداث والوقائع السياسية والاجتماعية والعسكرية ... وقد كانت الوقائع والحروب وما تركتها احد المصادر والبواعث المبكرة للحركات الفنية ومنها الواقعية السحرية والسريالية ... فضلاً عن أبتعاد هولاء الفنانين عن التعبيرية المتعمقة والمشحونة عاطفياً, وكما نظر الفنان الى الواقع من خلال هذا الحرب بحالة من اللاشعور والجنون، وأدى أيضاً الى بلورة البحوث التي ظهرت في تلك الفترة في مجال علم النفس وكان لها الأثر المهم على ظهور الواقعية السحرية والاعتراض على الواقعية بمفهومها .
وجد الفنانون مصدرين مهمين من الالهام, وقد ساعد كل منهما لابداء مشاعره في العزلة والقلق اللذين كانا سائدين في ذلك الوقت, فضلاً عن التصورات الغيبية التي كانت تتميز بحالات غريبة لدى بعض الفنانين أمثال (دي جريكو) (الفن الساذج)، وهنري روسو, والتي كانت ظاهره من قبل لدى العديد من الفنانين الالمان, وكما رحبوا بالعناصر الغامضة وغير المألوفة وغيرها, ثم دمجها بمفردات الحياة العادية, وسعوا لتوأمة السحر مع الاجسام الطبيعية والسائدة, وقد أثر ذلك على الاسلوب الواقعي بالتحديد, مما أدى الى بلورة التفاصيل الدقيقة وإظهار توزيع المفردات وعناصر العمل الفني بخاصية غرائبية من حيث التراكيب الشكلية واللونية ... وآلية توزيع الكتل والتكوينات والالوان فضلاً عن المدلولات الرمزية غير المألوفة، وهذه بدورها لقت أهتمام المشاهدين التي كشفت عن أفكار عاطفية عميقة أيضاً، بالاضافة الى تأثيرات "دي جريكو وهنري روسو على العديد من الفنانين الالمان بأسلوب وتقنيات الموضوعية الجديدة من فن السادة الفلمنكين الالمان في القرون الخامس عشر والسادس عشر, ومن هذه النماذج المبكرة أنتجت فناً مع معالجات مفصلة جداً في مادة البحث, والبؤرة الحادة في كل من المقدمة والخلفية, والمراكز المتعددة من الاهتمام, كانت أيضاً قادرة على انتزاع صفة الواقعية من المعاصرين مثل الفنان فالوتون فليكيس ..."( ) .
فالتعبيرية كانت فيها مواضيع ذاتية وفيها من التلقائية في رسم الاجساد فضلاً عن الافراط ودينامية الحركة، وأغلب مواضيعها تذكاري أي تعود لذكريات الفنان، وكما تتميز بحرارة ودفء الالوان في الوقت نفسه، وكما أن للالوان قواماً سميكاً وتؤكد على الصورة المرئية، وفيها تشويه معبر "أما الواقعية السحرية طبقاً لرأي فرانز روو، حيث يقول أنها تتميز بالمواضيع العادية والتأكيد على وضوح الجسم وفيها حركات تمثيلية وديناميكية، علماً أنها تعطينا في الوقت نفسه أحساساً بالهدوء، ومواضيعها شاملة وفيها تناقضات في وجهات النظر، وقوام الالوان فيها رقيقة، ويبحث الفنان في التفاصيل غير المرئية ويهمل الصورة المرئية"( )، أذ أن الفنان يؤكد على المواضيع اليومية الغامضة، فيعمل على أهمال المنظور الجوي في العالم الممثل، فضلاً عن بحثه في واقع يكمن خلف الواقع الظاهري الملموس دون أن يغفله أو يسقطه من حسابه، حيث أن هذا الواقع يتعلق في مستوى داخلي مباشر لوعي الفنان وتفكيره وتأملاته وأمكانياته في خرق معادلة الواقع وكيفية أبداء الحركة من الخارج الى الداخل، وتكوين العلاقة بين المحسوس واللامحسوس، المرئي واللامرئي، السطح والعمق، وإيجاد التغير اللازم ما بينهما، تعتبر هذه العلاقة نوع من الاستغراق العميق في اكتشاف الدلالات الخاصة بكل ما يحدث، ونوع من المعرفة بين مايحدث في الخارج وما يحدث في الداخل ... كما يمكن إخفاء وإظهار أشياء غير متوقعة وأفتراضية من حيث بنية العلاقات والتراكيب الشكلية، حيث أن هذه بدورها تتحتم على الفنان متابعة الدلالات التي تثير ذاتيته، لذا يستنبط من تلك الدلالات المضمون الداخلي الذي يواكب الحدث المتمثل بالمدلولات وفق رؤية خاصة تتفق وطبيعة العمل، بل يصبغه بصبغة مميزة، فإذا كانت التعبيرية قد أولت اهتماماً بالغاً بالعناصر النفسية والجوانب الاجتماعية فإن الواقعية السحرية لا تتفادى "أبراز عالم الطبيعة الا أنها لا تبرر سلوك الانسان بالتحليلات الاجتماعية، بل يتمثل هدفها الاساسي في ألتقاط الاسرار التي تختفي تحت مظاهر الواقع، وأذا كان الفنان التعبيري يطمح الهروب من الواقع بخلق عوالم غير واقعية فأن الرسام في الواقعية السحرية يواجه الواقع محاولاً فك طلاسمه وأسراره"( )، ولم تكن الواقعية السحرية تكراراً لما حدث في الاتجاهات الفنية الاخرى التي سبقتها كالواقعية والانطباعية او السريالية ... بل أنها واقعية لكنها اكتسبت صفة الحلم والغرابة، ودخلت الى الوعي واللاشعور، وكذلك هي طريقة لتمثيل الواقع وتصوير الزوايا االمخفية، فالموضوع هنا بمثابة صراع بين الغامض اللامحسوس والمدرك المحسوس.
لقد كانت الواقعية السحرية في بادئ الامر ملتصقة في وقت سابق بمجموعة من الفنانين الشباب في "ألمانيا وأيطاليا منذ عام 1920، وعادت الى الظهور في عام 1943، في متحف نيويورك للفن الحديث المعروض بعنوان (الواقعيون الامريكان والواقعيون السحريون)، ضمن أعمال كل من أدوارد هوبر وتشارلز شيلر"( ) ففي العقود القادمة بدأت الواقعية السحرية تطبق لتمثل خيال الكتاب ضمنت أعمال فرانز كافكا...لتربط المفردات الخيالية مع السريالية.
اعتنق الكثير من الفنانين الايطاليين والالمان وأمريكا اللاتينية أسلوباً خاصاً في الواقعية وبشكل دوري ومتزامن مع ظهور اتجاهات فنية وفكرية في العقود المتعاقبة، وكان هذا الاسلوب هو الواقعية السحرية، ومن أبرز فنانيها بيترو أنيوني، والفنان كرانت وود، حيث توجه نحو الواقعية السحرية عندما أقيم متحف الفن الحديث في نيويورك، شكل، وكذلك تأثر بأعمال هوبر وشيلر، فالكثير من الفنانين قاموا بمزج عناصر ومفردات من السريالية والكلاسيكية بعضها مع البعض الاخر في أسلوب مغاير تماماً للسريالية والكلاسيكية والواقعية ...
أما في فرنسا وتحديداً بعد الحرب العالمية الاولى شهدت تغييرات جذرية في التمثلات الفنية واتجاهات الفنانين، فقد أثرت الاوضاع السياسية والعسكرية بلجوء البعض من الفنانين نحو مشاهد فيها خصائص من الواقعية السحرية، ومن ضمنها أعمال الفنان "سلفادور دالي المبكرة التي تتصف بصفات غير سريالية، بل تميل نحو الواقعية السحرية، بالاضافة الى فنانين آخرين وقد ارتبطو بهذا الاتجاه منهم بيرروي ومويس كيسلينغ هولاء أنتجوا أعمالاً واقعية السحرية في غاية الروعة"( ) .
أما في الامريكيتين فقد قام العديد من الفنانين بتأسيس مجموعة الصداقة الدائمة عام 1940 بشكل منفرد بالاضافة الى مجاميع أخرى قامت بالمساهمة نحو كشف الواقعية السحرية في الولايات المتحدة، منهم جارد فرنج وبول كادموس وتوكير، فالكثير من أعمال كادموس المبكرة كانت أيحائية ونشطة، بالاضافة الى الفنان جورج توكير الذي رصد المشاهد التي تتميز بالقلق والعزلة، وكما رسم عالمه بطرق جديدة، تتشابه الى حد ما مع الموضوعية الجديدة، لقد بقى متمسكاً بإخلاص بأسلوب الواقعية السحرية، وأنتج العديد من الاعمال كانت بمثابة طروحات أبداعية مهمة بالنسبة لهذه الحركة، "فألتجئ العديد من الفنانين الامريكان لها خصوصاً في الفترة ما بين عام 1930-1940 ومنهم أيفان ألبرت وفيليب أيفركود ولويس كوكليمي وبيتر بلوم"( )، حيث أكتشف ألبرت أسلوباً خاصاً فيه ملكة غريبة في المزاج، لكن أعماله المبكرة كانت مثالية في الواقعية السحرية، الا أن أيفركود وكوكليمي أنتجوا أعمالاً فنية تحتوي عناصر خيالية في حين كان بلوم سريالياً بالرغم من أن العديد من أعماله كانت واقعية سحرية بحته .
برز في الواقعية السحرية أتجاهان، وكلا الاتجاهين كانا متتالين بدأ مع تكيفات الفنانين في البلدان الاخرى فالاول "كان الحلم، وجذوره عند روسو ودي جريكو ممتلئ بالالغاز والغرابة، أستخدم هذه النظرة بأسلوب غير منطقي، وأنحرف عنه بتدرجات أسلوبية ولونية مختلفة، والثاني الاسلوب الاكثر طبيعية الذي أستعمل لتوضيح التفاصيل بشكل أنتقائي الى حد كبير، والتي لها نقاط متعددة من الاهتمام في جميع أنحاء العالم وهذا النوع كان متجذراً في فن السادة الفلمنكين والالمان، وكذلك في التيارات المعاصرة في أيطاليا"( ) .
فالواقعية السحرية تستند الى معطيات الواقع الحقيقي من حيث البيئة والانسان ... وتعتبر هذه بمثابة موقف فكري ونهج فني الذي ينطلق منه الفنان في نظرته الى الواقع، وشكلت لديه نهجاً جمالياً متمثلاً في المدرسة الواقعية السحرية معبر عن أحساس في التعبير الفني الحديث منذ عام "1955 وقبل هذا الوقت أستعملها الناقد الفني الالماني فرانز روو هذه العبارة لاول مرة عام 1925 للاشارة الى نتاجات معروفة بـ(الموضوعية الجديدة، والواقعية السحرية حسب أعتقاد روو تتميز عن السريالية وذلك بسبب وجود بؤرة واقعية سحرية على الاجسام المادية والوجود الفعلي للاشياء في العالم، مقابل الحقيقة اللاشعورية والنفسية والمخبئة التي أستكشفها السرياليون"( )، وذلك لان هاتين المدرستين تم اكتشافهما في وقت متقارب جداً وحتى تم الخلط بينهما من حيث الشكل والمضمون ... الا أن الواقعية السحرية تعرض المشاهد التي لها وجوه متعددة ومتناقضة, ترفض البعض منها وتدمج وتشكل تقاليد الثقافات الاصيلة, فهي على خلاف مع الفنتازيا والسريالية, من حيث هي تفترض بأن الفرد يجب أن يكون على صلة بالتقاليد الماضية, وهي تتبنى الناحية التأريخية، فالواقعية السحرية طفحت خارج مشاهد السريالية كي تظهر عالم ثالث وتضيفها الى عالمي المحسوس واللامحسوس، ولربما يكون الاطار أو سطح العمل واقعياً تقليدياً، الا أن العناصر متضاربة مثل الاسطورة والخرافة وخيال وحلم ... فالواقعية السحرية تغزو الواقعية وتغير القاعدة الكاملة للفن، الا أنها تبقى تعايش وتوائم بين التصورات الاولية والحديثة وفق المعايير والمقايس المعاصرة، فالانسان أدرى برؤية الافكار العقلانية والساذجة والنفسية وتبقى مساحتها كبيرة في المنظومات المجتمعية، فالاضطرابات السياسية ساعدت في أنتعاش الواقعية السحرية، وقد أسهمت في أنعطاف الزوايا الحادة والمفاجأت التي نتحسس من خلالها عند المناورة في أنبعاث الحضارة وتوضيح الثقافة النسبية .
دون شك أن التعبير فيه الكثير من المتناقضات وجاء كموضع تحدي لتلك التيارات التي سبقتها، إذ دعى البعض بأنها مجرد تعابير بسيطة ومحددة ولا تمثل تياراً أدبياً أو فنياً وفيها أدوار خيالية في حين اتفق العديد من "الكتاب في نمط دائم ومتحرك على أنها واقعية لكنها تسعى الى تعرية الاحداث العادية والتفاصيل الوضعية في مستوى واحد مع العناصر الفنتازية والاحلام، بالاضافة الى نصوص ومواد مشتقة من أسطورة قصص الحواري"( )، وكما تخدع المتلقي من خلال إظهار وأخفاء محتويات غير متوقعة وأيحائية أيضاً، بالاضافة الى دينامية سردية يندمج فيها الواقعي الذي يمكن تميزه بغير المتوقع والمتعذر تفسيره، وترتبط فيها الاحلام والقصص الخرافية والميثولوجيا مع الامور اليومية المألوفة، في نمط موزائيكي أو متغير الاشكال، وفي الوقت ذاته أن هذه الحركة بمثابة اندماج متفرد لمعتقدات وخرافات نابعة من صميم البنية الفكرية للمجتمع ويتحدث جون بين كما أن للفن "دوراً مهماً على المجتمع، فالكثير من الفنانين يلهمونني لاستكشاف مواضيع تفوق معرفة الناس، وأن لتحديات الفن في المجتمع غالباً ما تمنح أتفاقيات جمعية تتصف بالسخف، فالمواضيع الصعبة تجلب المحاورات لتكشف الاحساس بالحرية، وأنا متحمس جداً لكي أكون فناناً وأوروج لهدم الفن وأشجع كل شخص للميل نحو التعقيد في الابداع، وبأمكانه أن يكون طريقاً للعلاج النفسي"( ) .
البعض من الناس أساؤوا الى هذه الحركة وخصوصاً في الاستعمال من حيث تعبير واضح عنها وزعموا بأنها قصة من الخيال العلمي، وكما أدرجوا هذا التيار ضمن المصطلحات التي لا نجد فيها دعماً من الناحية التأريخية، و لو أمعنا النظر في هذه الحركة لرأينا أنها ليست خيالاً علمياً أو خيالاً حضرياً ... أنما بمثابة خبر من منظور شخص ما، أو بعبارة أخرى أنها تعطي أو تعبر عن حقيقة ما ... في حين أقترح وليام سبيندر ثلاثة أنواع من الواقعية السحرية فالاول "ميتافيزيقي فيها أحساس بالغرابة والجفاء وهذا ما نجده مثبت لدى خيال كافكا والثاني الانتولوجي التي تتميز بالمسائل الحقيقية المتعلقة بالاحداث غير قابلة للتوضيح والثالث الانثروبولوجي حيث تضع وجهات نظر العالم جنباً الى جنب المنظور العقلاني الغربي"( )، فالسحر بدوره يؤثر على الحقيقة ويأتي إما من مصادر متعددة كالأله أو الشعوذة او الارواح، وفي الوقت ذاته يأتي نفسه من مصدر طبيعي كالطقس بدلاً من تلك، ويمكن من خلالها أن نصل الى حقائق، لانها تحاول أن تحمل حقيقة واحدة أو عدة حقائق التي نجدها في الواقع، والواقعية السحرية هي نوع من الواقعية لكنها تختلف عنها من حيث ثقافتنا، الا أن الخيال العلمي والقصص الخيالية تخمينية دائماً، ويفترض روادها في وضع بضع سمات الحقيقة الموضوعية، بينما الواقعية السحرية تحاول أن تصل بنا الى العيون من العوالم الاخرى، ومن المحتمل أن ترينا الاشياء كخيال كما هو محتمل .
ومن الملفت للانتباه أن الواقعية السحرية تواجه الحقيقة تحويلات سحرية من أجل هدف ما، فالقصص الواقعية السحرية تخلو من الشكوك وتتحدث عن نوع من الحقيقة الطبيعية في الغالب، بالرغم من أنها تخترقها، والنتيجة هي شبكة من الخطوط التي "لاتطمس حدثاً مشحوناً بالمعنى من وجهة نظر تأريخية، بل تطرح بالدرجة الاولى تجربة للزمن مأخوذة بأعتباره موضوعاً للوعي، مغروساً في ذاكرة، ثابتاً كنقش أو كاَفة يجري التحقيق من جذورها، والتقهقر، والراوي، والتفتت هي أشكال لاستعادة تلك الذاكرة، وهي معالجة مماثلة للتي نجدها في التحليل النفسي، فأن هذه الاشكال بقدر ما تشكل موضوعاً، تخلق مكاناً"( )، ويمكن أن تحدث القصة في مكان مألوف أو أماكن فيها الغرائبية في الفضاءات المستقبلية او في مدن قديمة ... بحيث تدمج عناصر روحية كالأشباح والارواح والملائكة والسماوات ... وفيها أشياء مستحيلة وأستثنائية مستوية ومنظورة على نحو طبيعي وهكذا دون أن تقدم تبريرات لها، وهذا يتطلب أبتكار تقنية شكلية جديدة لنسج العناصر والمفردات الفنتازية والواقعية بعضها مع البعض الاخر وأظهار الاوهام كي يتحسسها المتلقي لذلك تتضمن تقنية "التخفيف في مادة الزيت والتربنتين أي اللجوء الى التزجيج، فالعديد من الفنانين ومن ضمنهم أوتوو ديكس وفرانز رادزويلي تبنوا النسخ في مزج التقنيات، وطريقة الرسم الزيتي التي تعود الى عصر النهضة المبكر، والعديد من الواقعيين السحريين الامريكان استعملوا اللون الابيض كتقنية تعود الى العصور الوسطى"( ).
فالانسان تعرف الى العالم منذ أزمان سحيقة واكتسب المعلومات والمعرفة عن طبيعة بيئته الخارجية والمحيطة، الا أنه سوف يرى العالم مع الواقعية السحرية بعيون جديدة، فالعرض الاسلوبي للواقعية السحرية "ينظر الى هذا العالم الجديد بصورة كلية الذي يحتفل به الدنيويون، هذا العالم الجديد المتكون من الاجسام ما زال معزولاً عن الافكار الحالية للواقع، لذا يستخدم هذا الاسلوب تقنيات مختلفة التي تهب بالاشياء وتكشف عن معنى أعمق والالغاز التي تهدد أمن الهدوء في الاشياء البسيطة والصريحة، فهذا الفن يعرض أعجاب هادئ من سحر الوجود"( )، إذ إن لاكتشاف تلك الاشياء وجوهها الخاصة، وهذا يعني بأن العالم فيها الافكار الاكثر تنوعاً يمكن أن تتجذر في الفكر الحداثوي، بالرغم من أنها طرق جديدة للفن الحديث، وهذا الفن ينشأ عن تعديل غير متوقع من الحقيقة ويظهر لنا المعجزة، من أيحاء مميز من الحقيقة وهي البصيرة غير المتعودة لرؤيتها من قبل الانسان العصري .
الواقعية السحرية أحالت المفردات المشاعة في الارض الى حالات فيها الرهبة وهي بالدرجة الاولى تخلق المفاجأت وتجد فيها تماهي الخيال كجزء من الحقيقة، لذا نرى فيها الاشكال الشعبية والعصرية في اَن واحد، والفنان يسعى لكشف كل ما هو غامض يكمن في الحياة الاجتماعية، والافعال الانسانية، أشياء مبدئية أصيلة وليس خلق كائنات أو عوالم خيالية صرفة، كأن تكون على سبيل المثال اكتشاف العلاقة الغامضة بين الأنسان وظروفه البيئية ... وفي أحداثها ليست لها تفسير منطقي أو نفسي، وذلك لانها لا تحاول أن تنسخ الحقيقة المحيطة بل الاستيلاء على الالغاز التي تتنفس خلف الاشياء .
وقد عرفت الواقعية السحرية مؤخراً في الادب الواقعية كحركة أدبية نشأة في أمريكا الاتينية عندما سافر الكتاب والادباء الى البلدان العالمية الاخرى، وتحديداً في البلدان الاوربية ومنها باريس وبرلين ... وتأثروا بالحركات الفنية الاوربية مثل السريالية، أثناء أقامتهم في باريس في العشرينات والثلاثينات ... فالكاتب والاديب اليخو كاربنتر أصبح جزءاً من الحركة السريالية بمساعدة (Robert Desnos) والتي أصبحت فيما بعد لها تأثير أيجابي في الاعمال الادبية، وفي الوقت ذاته كان لأليخو رؤية تجريبية وأحتوت على عناصر الخيال والفلكلور كانت لها ميزة لحقيقة سحرية وظهرت في الادب كذلك أنها نوع من القصة الحديثة، التي تحدث تضمينات فنتازية وخيالية لكنها تبقى النغمة الموثوقة فيها بأستثناء التقرير الواقعي الموضوعي، ويقول ديفيد لوبار "الواقعية السحرية قد تترجم لغة العصر، أوزمورونس كتعبير للخيال لكني دعني أذهب وأسأل الملاك في حجرتي هل لديه أفكار عن المسألة"( )، وقد رصد هذا النوع من الرواية الحديثة أبعاداً تصل ما بعد الحدود الواقعية وتنتزع منها الخرافة والقصة الشعبية والاسطورة وتبقي لها صلة أجتماعية معاصرة .
فهذه الحركة ترصد العوالم التي تتحرك خلف الاشياء وفيها أحداث وأغراض مكثفة، وتدعم الاحداث التي تحلق بالاحاسيس فوق مستويات مختلفة وذلك لان حسب أعتقاد روادها أن للحقيقة مستويات متعددة، ينبغي على الانسان معرفتها، أذ أنها تعمل لتصحيح وجهات النظر المؤسسة للواقعية والطبيعية والحداثة وما بعد الحداثة ... والطروحات التي تعمل على هدم النصوص التي تقف بالضد من المهيمنات الفكرية الاجتماعية .
كانت الانماط الخيالية من حيث أنها تحل محل العالم الطبيعي بالاوصاف للبشر والمنظومات المجتمعية، وكما تتضمن الواقعي والفنتازي في وجه واحد، أي أنها تدمج الاثنين معاً، الا أن لحضور العالم الميتافيزيقي فيها تحيلنا الى العوالم البدائية والسحرية، إذ إن الواقعية السحرية في الادب نوع فني الذي يظهر فيه عناصر سحرية أو سيناريوهات غير منطقية في "مكان طبيعي، واقعي أو مستوي عادةً أذ أستعمل الكاتب الكوبي (أليخو كاربينتر) التعبير (الصغرى الحقيقي maravilloso) (حقيقة رائعة) في مقدمة روايته (مملكة هذا العالم) عام 1949، كان مفهوم كاربنتر من نفس نوع الحقيقة المتصاعدة التي فيها عناصر الاعجوبيين يمكن أن يظهروا بينما يبدون طبيعيين وغير مجبرين"( )، فالواقعية السحرية تعبر عن حقيقة العالم الجديد الذي نرى فيه اندماج الحضارات العالمية الحديثة والعناصر اللاعقلانية والبدائية ولا تستند الى القوانين الطبيعية ولا الحقيقة الموضوعية، لذا ينبغي على الكاتب أو الفنان إبداء احترامه للسحر بشدة والا سوف يذوب في الاعتقادات الشعبية البسيطة او الخيال، فهو يفرز أشياء من الحقيقة دون أن يتزامن معها، والسحر تعبير عن الحقيقة ويصور النص بشكل واضح من الواقع بالاضافة الى ذلك يتبنى التضمينات الداخلية للعالم، أما الواقعية السحرية تهدف الى الاستيلاء على "أتحاد نظيرين متناقضين، فعلى سبيل المثال، الحياة والموت، الماضي والحاضر، والواقعية السحرية تتميز بمنظورين متعارضين، فالاول تستند الى وجهة نظر عقلانية من الحقيقة، والاخر تعتمد على قبول عالم ما وراء الطبيعة كحقيقة مملة"( )، والواقعية السحرية أيضاً تسهل عملية اندماج وتعايش عوالم ممكنة وغير ممكنة ... في عوالم وفضاءات وأنظمة على عتبة الشعور بعوالم غريبة وغير غريبة بالطرق ذاتها، وتستمر في مقاومة الفرضيات العقلانية الاساسية وإقامة واقع من غير محددات وهنا يحسب للواقعية السحرية المعالجة التصحيحية للمحاكاة التقليدية، وتدمر النمطية العقائدية أو الشكلية، فتتمخض في الاشياء الخارقة للمسائل الاعتيادية وتصبح الخيالية معيارية طبيعية، وفيها تتفاعل المتضادات بين السحر والواقع داخل الحقل البصري، فتتعامل مع الواقع على أنه سحر، وأن السحر على أنه الواقع، بيد "أن الأجسام في العمل تسعى للتعلق بالفضاء الغامض بين العلم والفن، تخيل الحقيقة ولاحظها، ولهذا أنها تؤسس تفاعلاً موجهاً بأشكال الحياة النباتية، الاشكال الجميلة والمشوهة والمشتركة والنادرة في أدلاء الطبيعة، بعد جمع أنواع مختلفة من نماذج نباتية فنزويلية، أنها تدمج عناصر مختلفة من النباتات لخلق كائن هجين"( ) .
إن فناني الواقعية السحرية انفصلوا بوعي ذاتي عن معظم الواقعيات التي ترافقت معها في القرن العشرين، فأسهمت في توسيع دائرة المغايرة في الواقعيات، لقد نهلت الواقعية السحرية من مواضيع شتى من فنون العالم القديم والحديث، فقد تمتد جذورها في الرؤية من ملحميات الشرق، كلكامش أنموذجاً، وفي الغرب الالياذة أنموذجاً أيضاً الى رؤى أحلام القرون الوسطى لدى بروغل والفن القوطي والرومانسي في القرون الماضية والفن الاسلامي كذلك، أنها تقيم أهتماماتها من التحولات السيكولوجية الى الاجتماعية، ومن "الاسباب التي تجعلنا أن نتحدث عن الواقعية الجديدة، هي بلا شك في أي طريقة كانت يتم التلميح لها الى موقف نظري والتي تتميز عن الواقعية التي سبقتها في الفن الاوربي"( )، والواقعية السحرية هي الواقعية في حد ذاتها لكنها ترصد الزوايا المخفية وتبحث عن التفاصيل الدقيقة في الواقع ... فالسحر في حد ذاته عبارة عن أشياء واقعية مخفية، لا يتمكن الانسان العادي أن يجدها أو يراها، بل أن المختصين في هذا المجال لهم خبرة كبيرة للخوض في مثل هكذا أفعال وإيجاد حقائق تخفى عن هذا العالم الا لمن يبحث عنها وهذه بدورها تختلف تمام الاختلاف عن "واقعية كوربية التي أصبحت تمثل الطبيعة الالمانية، والتي كانت الاكثر نموذجية ..."( )، كحركة ردٍ على الرومانتيكية وتجاوزت الاساليب الرومانتيكية في الادب، التي كانت قائمة على الخيال وفي مطلع القرن العشرين أجريت تغيرات فاعلة ومؤثرة في الاساليب الفنية من قبل أجيال ذات وجهات نظر متقدمة وأنبثقت منها مصطلحات متعددة منها (الواقعية الجديدة والواقعية الاشتراكية والواقعية السحرية والواقعية الاجتماعية ...
تعددت الواقعية وفق رؤى تعود لذاتية الفنان المتمثلة بتطورات الاحداث والنظريات العلمية التي تولد بشكل متزامن مع تلك التغيرات التي حدثت في المجتمعات، لذا حاولت الاجيال المتعاقبة إعطاء ديناميكية لهذا الاتجاه الفني، وذلك لان الفن بشكل عام لا يتناسب مع مفهوم الثبات (الاستاتيكية)، إنما يعكس الواقع وينقل تفاعل الفنان مع هذا الواقع وتتبين من خلال الانجازات الفنية بلغة تتناقض في التأويل والتفسير وذلك أن "ذهن الانسان المتحضر إنما هو متحف للحقائق المتناقضة ... لقد حاول البعض من ذوي الاذهان التحليلية أن يدونوا تناقضاتهم في قوائم، ولكن عبثاً، فأزاء كل أعتراض من العقل، تجد العاطفة على الفور عذراً ناجحاً، لان العواطف هي الاقوى ما فينا وتمثل الديمومة والاستمرار"( ) .
فالواقعية السحرية ارتبطت بالحركات الفنية التي ظهرت في القرن العشرين تحديداً في أوربا بعد انتهاء الحرب العالمية الاولى ثم ظهرت في أمريكا كما أسلفنا، وقد سبقت السريالية في مراحلها الاولى ببضعة سنين، مع تلك الابحاث التي ظهرت في مجال علم النفس الذي كان يبحث في قضايا مخفية ومموهة في اللاشعور وغير ذلك بالرغم من أنها كانت "تستعمل كعلامة جوهرية لخفض كل أدب ما بعد الحداثة الى حالة التعبير قبل الحداثة المتمثلة بالثقافة (البدائية) أو (التقليدية)"( )، وكما ألفت بين واقعية أحداث الناس ومجتمعاتهم، وبين الاسطورة والاوهام بالاضافة الى الوجود والخيال في زمكان محدد، لقد أصبحت الحكايات الشرقية التي كانت تخص المجتمعات الانسانية في العصور القديمة ولا زالت مؤثرة في البنية الفكرية للمجتمعات الحديثة "تحقق دخولها في الادب الاوربي في مطلع القرن الثامن عشر، حيث أستخدمت للتسلية وفكاهة القاصى الخبيثة، وهي تمتزج بالغرابة والسحر حسب الاسلوب الشرقي وأمتلكت جيلاً متعلماً حتى أصبحت المفردات كدمشق و بغداد منتشرة بحرية في الادب الشعبي، كما هو أمر الاسماء الايطالية والفرنسية المتعمقة بالحياة بعد حين"( )، ومن الحكايات الشعبية منها حكايات شهرزاد وألف ليلة وليلة وسندباد وليالي السمر العربية ... إذ إن لمغامرات ومخاطر سندباد تكشف عن ميل عميق لتلك الطبيعة الخيالية الجامحة لعدد من الحكايات, فكانت لهذه الحكايات والقصص تأثيرها الخاص على الادب والفن سواء كان في البلدان العربية او الاوربية .
ويقول كلود ليفي شتراوس بوضوح تام في التفكير البدائي بين الدين والسحر, فالاول يتكون من "أنسنة القوانين الطبيعة والثاني في أضفاء الطابع الطبيعي على الافعال الانسانية وجزء كبير من الادب الامريكي اللاتيني، الذي يجب الحكم على قيمته في أساس أنطلاقاً بالطبع من وجهة نظر أدبية، يميل نحو التفسيرات السحرية أو الدينية دون أن يتضمن ذلك بالضرورة ... هولاء الكتاب يحيون واقعاً مخترعاً جزئياً على الاقل ويكتشف يوماً بعد يوم، والدور الذي يلعبونه هو على وجه الدقة دور الاستمرار في أختراع وأكتشاف هذا الواقع الذي يتكون ويتشكل والذي يسهمون في إقامته"( )، وكما انشغل الكاتب الامريكي الكبير (غابريل غارسيا ماركيز) أيضاً بقريته (ماكوندو) المنكوبة، حيث يقول "مشكلتي الاكثر أهمية كانت تحطيم خطوط التخطيط التي تفصل والذي يبدو حقيقياً من الذي يبدو خيالياً (فنتازياً)"( )، إذ إن الواقعية السحرية في قصصه كتقنية تخلط بين الخيال والحقيقة وتتميز من خلال توافقات متساوية في أمور طبيعية وأستثنائية، ففي بعض الاحيان تكون غنائية وأحيان أخرى خيالية وتبحث في فحص شخصية الوجود الانساني وتنتقد المضامين في المجتمع، وقصصه كذلك تحاول كشف النقاب عن مدينة خيالية بعيدة مستنقعية الاراضي تدعى (ماكوندو) ... فقد تم تضخيم الاحداث والصفات الشخصية لدرجة أكبر من موقعها الاعتيادي في الحياة بأسلوب يعتمد التضخيم في الحقيقة فإن "خيالات رواية (مائة عام من العزلة)، تضخيم منطقي للاوضاع الحقيقية"( )، وفي مقابلة صحفية مع ماركيز حيث قال أن الاسلوب واللهجة اللذين "بنيتهما أخيراً في (مائة عام من العزلة) كانت مبنية على الطريقة التي كانت جدتي تحكي بها حكاياتها، كانت تروي أشياء تبدو خارقة للطبيعة وفنتازية، لكنها كانت دائماً تحكيها بمنتهى العفوية"( ) أي أنها كانت تتحدث عن حقيقة وليست قصة أو رواية ... فهي تتكلم عن حقائق رأتها بأم عينيها ولم تتقصد لتأليف رواية او ما شابه ذلك، فهذه أتت من أيمانها بتلك الاحداث دون أن تقدم مبررات للمشاهد وما حدث فيها، لذا ينبغي على الكاتب او الفنان الايمان التام بتلك الاعتقادات والتصورات لانجاز نتاجاته الابداعية والا بخلاف ذلك أي دون أيمانه بهذه الافكار لن تتحقق ما يهدف اليه والوصول الى الغايات الجمالية وأن يكسبها بنفس التعابير التي كانت تتحدث بها جدته (جدة ماركيز) .
فقد اتخذ الادب والفن الامريكي اللاتيني الراهن من المدينة مسرحاً مفضلاً له، وهي مجال لم تطرقه الواقعية تقريباً، وهنالك اكتشف أن كل منزل تقطنه مجموعة كاملة من النماذج المختلفة والمعقدة فقد يكون عقل الفنان البصري "المبدع قادراً على أن يرى الاشكال، فيما لا شكل له، وأن يخلق النظام من الفوضى، وأن يحول المألوف الى غير مألوف، وغير مألوف الى مألوف وأن يجسد المرئي في اللامرئي، وأن يجترح مملكة اللامرئي كي يحولها الى عالم مرئي خاص ومميز ومدرك"( ) .
من الملاحظ أن ماركيز أستطاع أن يمحي الحواجز بين الحقيقة والخيال بامتياز ومثال على ذلك في هذه التقنية تأتي من قصة (رجل عجوز جداً مع الاجنحة الهائلة)، فقد تمكن هذا الكاتب أن يرينا وجهين من أوجه الواقعية السحرية منها الاول "هي الاحاطة بالاسطورة والظواهر الاستثنائية السحرية والاخرى هي الطبيعية او التجربة الواقعية الاوربية"( )، أي أن لهذا التيار ميزة دمج الخيالات الاسطورية والفنتازية والظواهر غير المتوقعة مع الواقع المرئي في البيئة الطبيعية والحياة اليومية والواقع الذي أعتاد عليه الفن الواقعي في اوربا، ثم يقوم الفنان بأجراء تصحيحات او تعديلات لا يتوقعه الانسان في الحقيقة، وذلك لانه يمتلك بصيرة لم تر من قبل هكذا مشاهد وتصورات لذا تبدو غريبة جداً بالنسبة له وهي غريبة فعلاً من حيث تضخيم المقايس والاصناف الحقيقية والخروج عن المألوف وعن القوانين الطبيعية، فأن الواقعية السحرية تنجز واقعية أكثر سحراً وتنسج كلا العنصرين الواقعية والخيالية وتقرب الاولى من الثانية وبالعكس لكي تدمج الاثنين، لذا تتضمن الواقعية السحرية تناقضات ذات "منحى قياسي كبير، حيث أنها تصطدم مع الثقافات الحديثة والحضارات البدائية الاولية، وكذلك نلمس منها أشياء هي التحضر والواقع المفترض، الا أن العلم يستبعد الوهم والخرافة ويؤمن بهذا الاصطدام في التعبير الثقافي ويساعدنا في فهمها، ولن تتحدى الاتفاقيات في الادب الواقعي الذي يعتبر أساس الفرضيات في الفلسفة الوضعية الحديثة، والارضية الخصبة لاي أدب واقعي مزدهر"( )، ومن خصائص الواقعية السحرية هي سحر يتعذر الا من خلال الافكار المثالية او القوانين الطبيعية في الواقع، أو أي وصف واقعي الذي يشدد على الامور الطبيعية، ونجد فيها أرض واسعة ومشاعة، وظواهر متعددة والتي تجعلنا أن نشعر بالاجواء الفنتازية واللانهائية، وتضخيم الحالات العقلانية والاماكن المألوفة، وتمزج بين عوالم متقاطعة بعضها مع البعض الاخر، أي عوالم متناقضة، وتحطم الهويات المكانية والزمانية .
فقد سار الكثير من الفنانين وتحديداً الامريكان على هذا المنهج ومنهم ادوارد هوبر (1882-1967) وكانت أعماله تتميز بدرجة كبيرة من الحزن والكآبة، والمدن في لوحاته بدت "مهجورة مع شرابي القهوة الوحيدين، ناس أنفراديون يبدون ياَئسون ومفقودون، وهو في هذا كان متعاطفاً مع الناس العاملين المكتئبين في المدينة"( ) .
أما الفنان تشارلز شيلر فهو فنان أمريكي معروف (1883-1965) ومؤسس الحداثة الامريكية وأحد الفنانين البارعين في القرن العشرين، فقد استطاع شيلر أن يدمج بين حب التقنية والمشاهد الحضرية للمدينة، فضلاً عن أنه كان غريب الاطوار في نتاجاته الفنية بالاضافة الى شخصيته الاجتماعية بين الناس، وذلك لان المكائن والبنايات المعمارية كانت شيئاً نادراً بين المجتمع في ذلك الوقت، وقد أنتزع الصفات الطبيعية من أعماله وأكد على الاليات والمكائن والهندسة المعمارية لكي تعطي صفة حضرية لاعماله الفنية، فالتقنية التي أستخدمها شيلر هي لتبيان دينامية القاطرة والمكائن، حيث أن زوايا الة التصوير مثبتة بشكل عمودي على سطح العجلات لكي تظهر الاجسام بتركيب الاشارات المتعددة الابعاد بثنائية الابعاد أنه أمر ممتع يرى كيف يحول أجسام ثلاثية الابعاد الى ثنائية الابعاد على سطح الكانفاس، وكان على نقيض من أدوارد هوبر، فقد بدأ مهنته كمصور تجاري في الهندسة المعمارية ويضيف الى لوحته ذخيرة فنية لاحقاً، وأبتكر "تأثيرات البؤرة الحادة وأبدى تعاونه مع الفلم (Manhatta) ثم رصد المدينة من الجهة العلوية وهي بمثابة (فكرة ثورية في ذلك الوقت، واستعمل نفس وجهة النظر في لوحته (شارع الكنيسة) في عام 1920، وابتكر أسلوباً جديداً يدعى الواقعية التكعيبية"( ) .
أما الفنان الامريكي إيفان ألبرايت (1897-1983)، فقد ركز على بضعة مواضيع من خلال أغلب أعماله الفنية وخصوصاً مشاهد من الموت والحياة والمادة والروح وتأثيرات الوقت فأنتج "أعمالاً معقداً في الغاية، وكما كان عناوينها معقدة أيضاً، وهو يأتي بأمكانيات متعددة، وأكثر شاعرية، وفي أحد أعماله (غرفة سيئة) نجد ليس هناك وقت، لا نهاية، لا يوم، لا أمس، لا غد، فقط الى الابد، والى الابد باستمرار النافذة"( ) .
فالواقعية السحرية تعالج بطريقة تخيلية أشكالاً تقع خارج حدود وعي الانسان، وتستجيب لكل تقدم من العلوم والتكنلوجيا الحديثة سواء كانت في المستقبل القريب او البعيد, وكما تبحث في تجسيد تأملات الانسان في أحتمالات الوجود، ومنها أفتراض حياة اخرى في الاجرام الفضائية الاخرى او في عوالم تختفي عن هذا العالم المرئي، وهذه التصورات او الطروحات التي أتت وفق مفاهيم الأنسان تجاه المكان والزمان، نتيجة الادراك المتزايد للعالم، وتتفق هذه مع المفاهيم العلمية الحديثة نسبياً التي حلت محل أساليب التفكير التأملي، لذا تم تغير المفاهيم التي تدور حول أدراك الانسان بالكون والفضاء ...
أما الفنان البلجيكي رينيه ماغريت (1898-1967) فقد مثل في لوحته المشعوذ بين عالم المعقول واللامعقول، وصور فيها رجلاً جالساً بلا رأس أو ملامح ... "فالفنان هنا خلط بين واقعين بأنسجام تام، فهنا العالم الواقعي، وهنا عالم التصورات يتعايشان في علاقة متينة، مما ينتج عنها حقائق بلا حدود، فلوحته لا تؤطر الواقع وانما تعطيه أمتداداً بلا نهاية، بحيث تصبح مصدراً رئيساً للخيال فينكشف الحجاب عن أجزاء غير معروفة من الحقيقة اليومية"( )، بالاضافة الى لوحته (شخص يتأمل الحيوان)، حيث أن ما جسده ماغريت من خلال صورة الشخص هو جنونه وهذياناته الخاصة، هكذا يكون المرئي تعبيراً عن اللامرئي، إذ إن هلاوسه الخاصة هذه أي "اللامرئي" متجسداً من خلال وسيط تراه هو العمل الفني .
بيد أن الواقعية السحرية ليست تجارب فكرية تخمينية، بل هي تجسيد للرؤية من المنظور التي نعيش فيها عالمنا وتجربتنا، ولكن بحقيقة مختلفة عما نراه، وقد "ميز من خلال تراكم التحقيقات الصحفية، حيث تبدو أنها واقعي موثوق وخيال مفرط"( )، إذ إن هنا رؤية في الموضوع وليس عنصر خيال بل توضيح لحقيقة الناس الذين يؤمنون بها ولهم التجارب الحقيقية مع تلك الاشياء، وبهذا تختلف الواقعية السحرية عن الفنتازيا والاسطورة اللتين تعتمدان على عنصر "الخيال البحت والتي لا أساس لها في الحقيقة أنما هي عبارة عن قضايا وأمور تخمينية، بل أن الواقعية السحرية تكشف النقاب عن حالات واقعية بل هي مخفية، وموجودة في عمق الواقع وتحتاج الى من يكشف عنها وبأمانه"( )، نستدل من هذا بأن الواقعية السحرية هي منظومة حية في عالمنا، وهذه المنظومة حقيقة لها جذور طويلة في عمق التأريخ والحضارات القديمة، كحضارة وادي الرافدين وحضارة وادي النيل، ومنذ ذلك الوقت كان الانسان يمتلك معرفة واضحة عن عوالم تختفي وراء عالمنا الحقيقي، فهم يؤمنون بفكرة الشياطين والاشباح ... بيد أنهم كانوا يتخذون من النتاجات الفنية كالتماثيل بشكل الهه، وتؤثر وتسيطر على المنظومات المجتمعية وتهيمن على الفكر الانساني، وباتت هذه الفكرة تتواصل مع الانسان ... مما جعل هذا الانسان العصري يرسم المشاهد السحرية بقصد جمالي غاية في الغرابة وليست القصد لاستخدامها كوسيلة سحرية، كنتيجة توسع الخيال الانساني وذلك لان الخيال هو في الاساس من "أشكال الذاكرة، ولكنها ذاكرة متحررة بعض الشيء من قيود التجربة الفعلية، أذ يقدر الخيال أن يستحوذ على خزين الصور الحسية المكدسة في الذاكرة، وعندما يكون محكوماً بهدف فني، بقدر أن يربط بينها في أنماط جديدة ومبهجة، وهو لا يقدر بالطبع أن يبتكر شيئاً جديداً بالمرة، لان مادته جميعاً تأتي من خبرة حسية، ولكنه يستطيع السمو فوق قيود الواقع التأريخي"( )، وتأتي هذه من خلال الاحساس بالحرية، فعندما يعيش الفنان الحرية الحقيقية يحقق ذاته كاملة .



#سيروان_رفعت_أحمد_الزنكنة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- وفاة الفنان المصري الكبير صلاح السعدني
- -نظرة إلى المستقبل-.. مشاركة روسية لافتة في مهرجان -بكين- ال ...
- فادي جودة شاعر فلسطيني أمريكي يفوز بجائزة جاكسون الشعرية لهذ ...
- انتهى قبل أن يبدأ.. كوينتن تارانتينو يتخلى عن فيلم -الناقد ا ...
- صورة فلسطينية تحتضن جثمان قريبتها في غزة تفوز بجائزة -مؤسسة ...
- الجزيرة للدراسات يخصص تقريره السنوي لرصد وتحليل تداعيات -طوف ...
- حصريا.. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 المبارك وجميع القنوات ال ...
- الجامعة الأمريكية بالقاهرة تطلق مهرجانها الثقافي الأول
- الأسبوع المقبل.. الجامعة العربية تستضيف الجلسة الافتتاحية لم ...
- الأربعاء الأحمر -عودة الروح وبث الحياة


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سيروان رفعت أحمد الزنكنة - الواقعية السحرية