أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الغني سلامه - كيزي .. ستظلين معي أمام عيني















المزيد.....

كيزي .. ستظلين معي أمام عيني


عبد الغني سلامه
كاتب وباحث فلسطيني

(Abdel Ghani Salameh)


الحوار المتمدن-العدد: 3799 - 2012 / 7 / 25 - 11:37
المحور: الادب والفن
    


كما كان "اسبارتاكيوس" رمزا لثورة العبيد في روما القديمة؛ فقد مثّلَت قصة "كونتا كنتي" ملحمة العبودية والعذاب في أمريكا الحديثة، وهي ملحمة إنسانية امتدت على مدى قرنين من الزمان، تفيض بالتفاصيل المدهشة والتناقضات الغريبة وصور فظيعة من العذاب والقسوة، وقد خلدها حفيد "كونتا" عندما تتبع جذوره، حتى وصل إلى "جوفور" في غامبيا، تلك القرية التي كانت تموت تحت وطأة الجفاف والجوع، حين مر بها "كنتي" فمكث فيها سبع أيام بلياليها يدعوا خالقه أن يفك كرب الناس، فهطل المطر في اليوم الثامن، ليصبح من بعدها قديسا مباركا.

وكعادة الأفريقيين، حمل الأب مولوده الجديد في اليوم السابع ولوّح به صوب السماء ليؤذن في إذنه ثلاثة: اسمك "كونتا"؛ فلا شيء يوازي أهمية الاسم في "جوفور" إلا قدرة الرجل على الإنجاب. في صبيحة ذلك اليوم، وبينما نساء القرية يطحنَّ الحبوب بالهاون، ويعددن الإفطار المكون من العصيدة أخذت الطبول تقرع بصوتها المهيب لتنشر الخبر.

وفي الطرف الآخر من الأرض، وبعد نصف قرن من العذاب، حمل "كونتا" ابنته، متبعا نفس الطقوس، ولوح بها تحت ضوء القمر ليهمس في إذنها الصغيرة: اسمك "كيزي"، ويعني بلغة "المانديكا" ستظلين معي أمام عيني. كان يعلم أن تسمية المواليد الجدد من حق السيد، وأن ممارسة أي طقس أفريقي أو التحدث بلغة غريبة كافية لإنزال أشد العقوبات، وبالرغم من ذلك فقد خاطر وأصر على منح ابنته اسما إفريقيا، لتنبت أشجار الوطن في خلاياها.

لم يكن هذا تمرد "كونتا" الأول؛ فقد رفض من قبل اسم "طوبي"، وتحمل جولات من الجلد ليجبروه على تقبل اسمه الجديد. بل إنه ما أن وطأت قدماه أرض "أنابوليس" وحرروه من القيود ليُعرض للبيع في المزاد حتى فـرَّ هارباً، وبعد إعادته تحت وابل من السياط، فـرَّ ثانية ما أن هبط عليه الليل، ثم كرر المحاولة خمس مرات، كانوا في كل مرة يسومونه سوء العذاب، وفي المرة الأخيرة قطع صيادو العبيد قدمه اليمنى، لكن ألمها الذي لا يوصف كان لا يضاهي ألم فكرة أنه سيعجز عن الهروب مرة ثانية.

كان هواء إفريقيا يملأ رئتيه، ونمورها تزمجر في دمه، ووفقا لعادة قديمة كان في نهاية كل شهر قمري يضع حصاة صغيرة في جرة فخار، وفي نهاية كل سنة مطيرة يضع حصاة أكبر، كان يعد أيامه في الأرض الغريبة، ليعرف ما تبقى منها، مفعما بأمل لحوح أنه سيطأ أرض "جوفور" قبل أن يحين أجله، وإذا غدرت به الأيام كما فعلت من قبل حينما خرج للغابة باحثا عن جذع شجرة ليصنع منها طبلا تدق له يوم زواجه وتعلن الخبر في القرى المجاورة، إلا أن شِباك الخونة باغتته يومها ليصل "فرجينيا" عبدا ذليلا، كان يأمل أن "كيزي" ستعود يوما لتحكي لأبناء عمومتها قصتها الحزينة.

كانت "كيزي" فقط هي من تعطيه سببا للحياة، كما كانت قلقه الموجع، ذات يوم رأى في السوق مجموعة من البيض يتجمهرون حول رجل يعرض بضاعته: طفلة سوداء بالكاد تكور ثدياها، كان يصيح كالمهرج: خمسمائة، ستمائة .. من يزيد ؟؟ ثم بحركة واحدة نزع عنها ملابسها قائلا إنها عذراء حارة، ولولا بضعة جروح على ظهرها من أثر السياط لما قبلت ثمنا لها أقل من ألف دولار .. في تلك الليلة لم يغمض "كونتا" جفنيه، ولا في اليوم الثاني، ولسنة كاملة لم يغب هذا المشهد عن مخيلته، كان يخشى أن تواجه "كيزي" نفس المصير ..

لكن صاحب المزرعة كان من النوع الذي لا يفرط بعبيده، ولم يسبق أن باع أحدهم، إلا سائقه الخاص، لأنه حاول الهرب، هذا ربما ما كان يبعث في نفسه بعض الطمأنينة، ويمنحه الأمل بأن "كيزي" ستكبر أمام عينيه، وسيزوجها بنفسه، كان واثقا أنها ستسمي مولودها على اسمه.
كبرت "كيزي" وتعلمت القراءة خفية، وكان أباها يصطحبها من حين لآخر، يتمشون معاً .. فيغني لها أغاني "غامبيا"، ويؤشر على الشجرة ويقول هذه "بيرو"، ثم يشير إلى الطريق ويقول هذا "سيلو"، ثم يشير للشمس ويقول هذه "تيلو"، وكانت تردد من خلفه وتضحك.لم ينغص على احتفاله بها سوى خوفه من بيعها ذات يوم.

بلغت "كيزي" السادسة عشر، كانت رشيقة فاتنة، يفيض قلبها بالحنان، أحس أبوها أنها نضجت دفعة واحدة، نظر إليها بحزن وقال في نفسه، لو كنا في "جوفور" لقامت أمها بتعليمها كيف تلمع جلدها بزبدة شجرة الشيا، وكيف تسوّد شفتيها وتحنّي كفّيها وكعبيها .. فهي الآن بعمر يجتذب العرسان الذين يبحثون عن عروس جميلة حسنة التربية.

في صبيحة يوم شتائي كئيب، لم يكن "كونتا" يعلم أنه سيواجه أسوأ مخاوفه؛ فقد جاء الشريف غاضبا بعد أن عرف أن "كيزي" زورت تصريح مرور لحبيبها "نوح" لتساعده على الهرب، بعد أن وعدها أنه سيشتري حريتها قريبا، أما "وولر" فقد كان قراره سريعا وحاسما: سيبيعها في أول مزاد.
دخل كونتا إلى غرفة "وولر" لأول مرة في حياته وهو مجتمعا مع الشريف، وقال بنبرة غير معتادة ممزوجة بين الرجاء والغضب: أين ابنتي ؟ أريد أن آخذها الآن مهما كان الأمر. صك "وولر" على أسنانه بغيظ وقال له أخرج الآن، بينما مد الشريف يديه إلى جراب مسدسه، عادت "بيل" ترجوه وتذكّره أنها وزوجها وابنتها خدمته كل هذه السنين، وتتوسل إليه أن يصفح عنها، كان نحيبها يقطع نياط القلب، لكنه أجاب ببرود أنتم كنتم تقومون بواجبكم، وهي أخطأت ويجب أن تعاقب، وأنا سأبيعها، وهذا كل ما في الأمر.

زمجر الأبوان بغضب وهجما على العربة التي كانت ستقل "كيزي"، ضرب "كونتا" سيده لكمة طرحته أرضا، وقبل أن يستدير كان قبضة مسدس الشريف تهوي على رأسه بضربات سريعة متتالية أفقدته توازنه، نهض يترنح ويركض غير آبه بتهديد المسدس وهو يصيح كالمجنون، بينما العربة تبتعد مسرعة وصوت "كيزي" الجريح يختفي شيئا فشيئا.

ومضت في ذهنه أسطورة كان يرددها أسلافه أن أثر التراب عند آخر موضع قدمٍ للمسافر إذا حُفظ في مكان آمن يضمن له أن يعود، أمسك حفنة من التراب الذي كان آخر ما داست عليه قدمي "كيزي"، وخطر له أن المكان الآمن لحفظه هو الجرة.

في ذلك المساء عاد "كونتا" إلى كوخه محطما يائسا، كان الدم ينـزف بغزارة من مواضع كثير من جسمه، لكن آلام روحه كانت أشد وجعا، وما أن دخل الكوخ حتى أيقن أنه لن يرى ابنته بعد الآن، شهق بحزن وبكى بصوت مخنوق، نثر التراب على رأسه، ثم أمسك بجرة الفخار وبكل قوته ألقاها أرضا؛ فتحطمت وتناثرت حصياته في كل اتجاه، كانت ستمائة واثنتين وستين حصاة، كل واحدة منها تشهد على ضياع شهر من عمره في الأرض الغريبة.



#عبد_الغني_سلامه (هاشتاغ)       Abdel_Ghani_Salameh#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عازف الكمان
- إنتحار ثلاثون عبدا
- مذابح بورما .. مرة أخرى
- مذابح بورما .. هل هي حقيقية ؟!
- هل الديمقراطية هي الحل ؟
- أنا أعرف من قتل ياسر عرفات
- الأبارتهايد بين إسرائيل وجنوب إفريقيا 2-2
- الأبارتهايد بين إسرائيل وجنوب إفريقيا 1-2
- إسرائيل على الجبهة الإفريقية 2 - 2 دراسة في العلاقات الإسرائ ...
- إسرائيل على الجبهة الإفريقية - دراسة في العلاقات الإسرائيلية ...
- مسيرة الحرية في جنوب إفريقيا العنصرية - الملخص والخاتمة
- مسيرة الحرية في جنوب إفريقيا العنصرية 3-3
- مسيرة الحرية في جنوب إفريقيا العنصرية 2-3
- مسيرة الحرية في جنوب إفريقيا العنصرية 1-2
- الفيزون في جامعة النجاح
- سبعة أشكال في حُبِّ وكُرْه الجَمال
- أثر الربيع العربي على المرأة العربية
- عيد الأم في الربيع العربي
- الإيمو .. الضحية والجلاد
- المتضامنون الأجانب والقرضاوي وزيارة القدس


المزيد.....




- وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما ...
- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الغني سلامه - كيزي .. ستظلين معي أمام عيني