أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - المصطفى الشادلي - الديمقراطية كنظام للحرية عند سبينوزا















المزيد.....


الديمقراطية كنظام للحرية عند سبينوزا


المصطفى الشادلي

الحوار المتمدن-العدد: 3797 - 2012 / 7 / 23 - 09:38
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


إن الغاية التي تضعها " الإتيقا" هدفا تنشده هي هدم كل التصورات الخاطئة و السلبية عن الله وعن الإنسان والعالم التي ترسخت في الفكر وفي أذهان الناس؛ وليس تزيدا في الكلام أن نقول إن التذييل الذي ختم به سبينوزا كتاب " الإتيقا" يشكل إعلانا صريحا عن رفضه لكل ما كونه الفكر البشري عن " الله " وما نتج عنه من أوهام تحولت إلى أصنام مثل فكرة " الغائية " التي تقود الناس إلى اعتبار الطبيعة تفعل لغاية ما، وأن الله خلق كل شيء لعبادته، و فكرة " العناية " و هي التي قول إن كل ما يقع ويحدث يكون لأجلهم، إنها عند سبينوزا مجرد هذايان ينتجه الخيال والخوف أو رجال الدين الذين يوقفون سلطتهم عليها. وسيمتد هذا النقد نحو هدم كل التصورات السلبية التي تكونت عن الطبيعة البشرية منظورة إليها على أنها طبيعة خطاءة أو شريرة ، من أجل إعادة بناء تصور جديد للإنسان هو " إنسان الإتيقا " الذي ليس غير إنسانٍ، فمثلما توجهه الغريزة والشهوة والانفعال يُسيره العقل أيضا، فلا يجب اعتباره بالمذنب الذي يسقط في شر الرذيلة والخطيئة، لأن الخطأ عند سبينوزا ليس جرما بل مجرد واقع بدئي يعود إلى معرفة غير مطابقة تُرجِع الإنسان إلى أهوائه وانفعالاته، وما دفاعه عن الرغبة ( الشهوة الواعية ) واعتبارها ماهية الانسان الحقيقية التي تستند لغير نفسها كفعل دينامي يكتب الانسان في هذا الوجود، غير تأكيد منه على أن الانسان مجرد إنسان، وهو ما عبر عنه في الجزء الثالث من الإتيقا حينما سعى إلى دراسة العواطف الإنسانية كجزء من الطبيعة بصفة عامة بعيدا عن الأحكام الأخلاقية، و بعيدا عن السخرية منها أو ازدرائها.
لقد سعت الإتيقا، إذن، إلى تكوين مفهوم جديد للإنسان، كما انصرفت إلى تصور " الحياة الحقيقية " أو الحياة السعيدة، حياة الحرية والفرح – بالمعنى الحقيقي الذي أعطاه سبينوزا لهذين المفهومين- بوصفهما الخير الحقيقي والأسمى الذي يسعى إليه الفرد( ومشروعية الدولة تكون أساسا في قيامها على هذا الخير- الغاية.) حيث نصل إلى الفرح الحقيقي عندما نكون أحرارا بإزالة كل العوائق التي تمنع حريتنا؛ أي كل فعل يكون مطابقا لطبيعتنا الذاتية، لأن الحرية تكون هي أداة الوجود الفرح مع ملاحظة فارقة وهي أن الحرية لا تحمل معنا إلا في علاقتها مع الغير مشكلة المجتمع العقلاني.
إن الهدف الأساسي للفلسفة هو تملك السعادة الحقيقية المنحدرة من المعرفة ومن السير وفق العقل الذي يحررنا من انفعالاتنا وأهوائنا ويقودنا نحو تأسيس المجتمع كأفضل خير، وكتعبير عن رغبة في العيش مع الآخرين. إنها الغبطة التي تدعونا إتيقا سبينوزا إلى تملكها. و لن يكون عمل سبينوزا متجها نحو شيء آخر غير التفكير في النظام السياسي الذي يتلاءم مع الطبيعة الإنسانية التي تسعى إلى الفرح والسعادة والغبطة بوصفها الحياة الحقيقية. لذلك فإن: " أفضل سياسة هي تلك التي، بالقوة ورضى الجميع، تحقق الشروط القانونية والصورية التي تترك لكل واحد إمكانية أن يصل بنفسه إلى الحياة الحقيقية " .
يعود، إذن، التفكير في الغبطة ككيفية لوجود الفرد و كأول رغبة، في " الرسالة السياسية "، على مستوى التفكير في النظام السياسي الذي يقوم على هذه الرغبة، وهي من أشكال واقعية الفلسفة السياسية لسبينوزا التي لا تبحث عن إنسان نموذجي و لا عن نظام سياسي يوتوبي، إنها تفكر في الإنسان بوسمه إنسان و تبحث عن السياسية بوصفها طريقة لتحقق إنسان الإتيقا. لكن ما هو هذا النظام السياسي الذي يلائم الطبيعة الإنسانية ويجعل من الحياة الحقة ( الحرية والفرح ) ممكنة ؟
لن تكون الديمقراطية، عند سبينوزا، غير النظام السياسي الأمثل الذي يشكل طريقة للحياة الحقة ( السعيدة ) الذي يمكن أن يستمر لأنه لا يتعارض مع الطبيعة الإنسانية المدفوعة بالأمل والخوف نحو حياة الغبطة، وكل نظام سياسي يسير بالتعارض مع هذه الطبيعة يقدم الأسباب التي تجعل فناءه ممكنا. و هو ما يقوم به سبينوزا في الرسالة السياسية، حيث يبين الاختلاف الذي يوجد بين النظم السياسية الثلاثة: الملكية و الأرستقراطية والديمقراطية، من أجل استنتاج أفضلية النظام الأخير على النظامين السابقين، لأنه الوحيد الذي يسير بالتوازي مع الرغبة الأولى في الإنسان " الحرية والفرح " . لكن ما هي أوجه الاختلاف بين الأنظمة السياسية الثلاث ؟ و لماذا تكون الديمقراطية هي النظام المطابق للطبيعة البشرية ؟
لقد أعلن التعاقد بين الأفراد على تأسيس سلطة ومنحها حق السيادة بداية المرحلة المدنية كحالة تعقب حالة الطبيعة، لكن مع ضرورة الانتباه إلى أن هذا الانتقال لا يفيد إطلاقا أي عملية قطيعة بين المرحلتين بل هو انتقال يعلن عن تغير في نظام الحق، حيث ينتقل من حق طبيعي يتحدد بحسب نفوذ أو قدرة الفرد، الذي يملك الحرية المطلقة في الاستمرار في وجوده لا تحُده غير قوة أخرى، ويفضي هذا إلى حالة من الكراهية المتبادلة لأن الأفراد تغلب عليهم أهواؤهم، لكن حين يملكون أفكارا مطابقة ويخضعون إلى العقل ينتبهون إلى أن أفضل خير هو الانتقال نحو العيش مع الآخرين عبر تعاقد يؤسس للمجتمع ويخلق الدولة التي تصير بموجب هذا التعاقد المالكةُ لهذا الحق؛ أي انتقال من حق فردي إلى حق جماعي. كل نقد – بالمعنى الكانطي- يوجهه سبينوزا، إذن، لهذه النظم سيكون انطلاقا من الحفاظ على الحالة الطبيعية القائمة على حق طبيعي: "الحرية في الحفاظ على الوجود ".
إن الانتقال نحو الحالة المدنية هو رغبة في العيش مع الجماعة، لأن الأفراد يبحثون عن نفع أكبر وتحصيل امتيازات أكثر من التي تعطيها لهم الحالة الطبيعية، و هو شعور الأمل الذي يدفعهم إلى ذلك، مثلما يدفعهم الخوف إلى نقل حقهم من فردي إلى جماعي رغبة في السلم و الأمن والود لتجاوز حالة الكراهية بسبب سير الأفراد وفق أهوائهم أكثر من الخضوع إلى العقل. لكن هل تتعارض هذه الغاية – السلم والود - مع تسليم السلطة لصالح فرد واحد – الملكية - ؟
يفتتح سبينوزا فصله الجزء الذي خصصه للحديث عن النظم السياسي للحديث عن الملكية، كنظام قائم على حكم الفرد الواحد، باعتبار أن نقل الأفراد للقوة إلى شخص واحد ينتج عنه العبودية والخضوع لهذا الفرد المالك لحق السيادة، وهو ما يرفضه سبينوزا؛ و إن كان الذي يدير شؤون الدولة في النظام الملكي هو هيئة عليا تتكون من مستشارين مقربين من الملك، يملكون النفوذ والسيادة، لا يفكرون في مصلحة الدولة ورعاياها بقدر ما يفكرون في سلم الملك ووضع الأسس الصلبة التي تقوي من حكمه، مثلما يقومون بصيانة القوانين وإعطاء رأيهم في القرارات العامة للبلاد، ويقدمون الاستشارة للملك الذي لا ينجز شيئا بدون الأخذ برأيهم، ويشكلون القناة التي تصل عبرها مطالب المواطنين ف " الملك هو روح الأمة. وتنظم جمعية المستشارين النظام الداخلي، أو الجسم، عبره يأخذ الروح ( الملك) تمثلاث عن حالة الأمة و ينجز الأفعال التي تظهر له ملائمة أكثر " ، ويتعرض إلى العقاب كل من لا يخضع لما يمليه الملك و تعلنه هيئة المستشارين.
يُطالًب الرعايا، إذن، بالخضوع المطلق للملك، لأن مبادئ الملكية هي مجرد قرارات الملك. إن الخلاصة التي يتوصل إليها سبينوزا أن الملكية هي النظام الذي ينقل فيها الأفراد حقهم الطبيعي لصالح شخص واحد، في حين يقوم النظام الأرستقراطي على نقل الحق إلى عدد من الأفراد، بحيث لا تتجسد السيادة في فرد بل في جماعة هي " جماعة النبلاء "، لكن لثبات الدولة واستقرارها فإن السلطة تكون في يد ثلاثة أو أربعة أفراد من هذه الجماعة حتى لا يقع نزاع حول السلطة ومن له الحق في إصدار القرارات وتطبيق القوانين.
لكن رغم الاختلاف في من يجسد السيادة، بين أن تكون مشخصة في فرد واحد أو في جماعة، فهناك مشترك يرصده سبينوزا بين النظامين هو: أن نقل الحق إلى الفرد أو جماعة من الأفراد ينتج عنه أن هذا الحق لن يصبح من جديد حق الأغلبية بل حق فرد أو عدد محدود من الأفراد الشيء يفضي إلى ظهور سلطة مطلقة، تقوم على نفوذ فرد واحد أو نفوذ جمعية من النبلاء التي تسعى إلى الحفاظ على مصلحتها واستقلالها وليس مصلحة المواطنين، و لا يحق للعامة أن يقتربوا من الحكم مثلما ليس لديهم الحق في التصويت، لأن النفوذ يعود إلى النبلاء الذين يتقاسمون السلطة السياسية وحدهم.
يستهدف تحليل سبينوزا للملكية والارستقراطية، إذن، استنتاج فكرة مفادها أن النظام الأفضل والأمثل الملائم للطبيعة الإنسانية، هو الذي يتماشى مع رغبة الإنسان في تملك معالم الحياة الحقة، وهي: حياة الفرح والحرية التي لن تتحقق إلا من خلال الأمن والسلم ( التوافق بين الأفراد)؛ و لا يمكن لأي نظام سياسي أن يستمر في الوجود إذا لم يأخذ في اعتباره هذه الغاية التي يسعى الأفراد تحقيقها عبر تأسيس الدولة. إنها دولة الأفراد الأحرار الذين يحققون قدراتهم وتتفتح ملكاتهم ويتوافقون مع بعضهم البعض، لأن الأفراد ينتظرون نتائج إيجابية من خضوعهم للسلطة وهي الحرية، أما إذا كانت العبودية هي ما يُحصله الأفراد من خضوعهم فإنهم يفقدون إيمانهم بمشروعية هذه السلطة ويصير التمرد هو رد فعل الأفراد على النظام السياسي السائد. و من خلال هذه القاعدة ( الفرح والحرية) يصنف النظم السياسي ويحاكم، ليصل بالنهاية إلى اعتبار الديمقراطية هي أفضل نظام سياسي يتطابق مع هذه الغاية التي يريد الأفراد تحقيقها عبر تأسيس الدولة.
تجد إذن الاتيقا تحققها في الديمقراطية، كفلسفة للفرح والغبطة والاستقلال الذاتي، كفلسفة للعقل لا تقصي الأهواء والانفعالات بل تعتبرها الماهية الحقيقية للإنسان. وتعتبر الديمقراطية النظام العقلاني الأكثر استقرارا وصلابة، بوصف السلوك العقلاني هو الضامن للحرية الذي لا يتعارض مع الأغلبية باعتبارها القوة الوحيدة المالكة للسيادة. فالنظام الديمقراطي لا يقوم على مبادئ أخلاقية أو دينية بل يستمد قوته ومشروعيته من تطابقه مع العقل، لأن فكرة الجوهر الواحد الذي لا يخضع إلا لقوانينه الداخلية ترادف، سياسيا، مجتمعا عقلانيا يخضع لمنطقه الداخلي ( العقل) الذي يعني عدم وضع أو تشريع قانون يكون في جوهره ضد الأغلبية " وهذه العقلانية، كمبدأ للالتحام و التكافؤ الداخلي للإرادات والرغبات، ستسير بقوة نحو الدفاع عن الحرية " ، فالمجتمع العقلاني ( الديمقراطي) هو الذي تتوحد فيه الرغبات الفردية مجسدة إرادة واحدة هي " إرادة الأغلبية " عبر التعاقد الذي ينقل الحق من فردي إلى جماعي. و ستكون الحرية هي الطريق نحو الغبطة حيث نتحرر من كل العوائق التي تمنعنا من تحقيق الفرح الحقيقي، و أولها التحرر من أخلاق الخوف والخطيئة والانفعالات التي تقودنا نحو الألم والحزن وتضعف من قوة الجسم والنفس .
لكن اذا كان الانتقال نحو العيش داخل الدولة يقتضي الخضوع لحقها السياسي، فكيف تستقيم الحرية، كاستقلال ذاتي، والخضوع للسلطة المالكة لحق السيادة ؟ لقد أشرنا في السابق إلى الاختلاف القائم بين توماس هوبس و سبينوزا، في معرض تصورهما لعملية الانتقال من حال الطبيعة إلى حال المدنية، حيث يعتبرها هوبس قطيعة، وتخلي- الانتقال- مطلق عن الحقوق الطبيعية لصالح سلطة مطلقة ( الملكية)، بينما عند سبينوزا الانتقال ما هو إلا تأمين أكبر للحياة الفردية والحقوق الطبيعية وليس قطيعة، بل إن الحالة المدنية مجرد تجميع لهذا الحق ليصير " حقا جماعيا " ، هو حق الدولة أو حق الأغلبية، حيث يلتزم الأفراد بالخضوع للسلطة الناتجة عن التعاقد، لكن الخضوع هنا لا يفيد في شيء العبودية، حيث يتحول المواطنين إلى عبيد، لأن المواطن يخضع للدولة ويعمل لصالحه الخاص ، ويحتفظ باستقلاليته الذاتية؛ استقلالية الفكر بينما يخضع العبد للسيد ويعمل لصالح هذا السيد، وهو ما يدافع عنه سبينوزا في الفصل العشرين من رسالة في اللاهوت والسياسية بالتشديد على أن النظام السياسي الذي يقوم على السيطرة على الفكر لا محالة زائل، لأنه يقدم الشروط التي تعلن عن انهياره و هلاكه، عندما يسيطر على الذهن ويمنع حرية الفكر و التعبير معتقدا أنه يؤسس لنظام قوي وصلب، ومتوهما أن منع الأفراد من ممارسة حريته في التعبير والتفكير ( التفلسف) هي السبيل الوحيد لكي يستمر و يحافظ على سلطته، والدليل على أن الدولة ليس من حقها أن تعدم هذه الحرية، هو أنها حق منحته الطبيعة للأفراد، بوصفهم أحوالا لها، و ليس لديهم استعداد للتنازل أو التخلي عنه. فمضمون التعاقد بين الأفراد والسلطة يقتضي منها أن تضمن هذا الحق الخاص بالفرد وليس أن تنتهكه.
يمكن أن نتجاوز مفارقة الحرية والخضوع حين ننتبه إلى التمييز الذي يقيمه سبينوزا بين " الحرية في الفعل " و " الحرية في التفكير ". ومقتضى هذا التمييز أن الفرد من حقه أن يفكر فيما شاء ذهنه و لا يحق لأحد مهمها كان أن يتدخل في هذا الفعل، فقد ينتقد قوانين الدولة، وممارسة السلطة، أو دين بلده، لكنه ليس لديه الحق في أن يقوم بأي فعل. فالخضوع يكون في الأفعال حيث ليس من حق الأفراد أن يفعلوا ما شاءت إرادتهم بل ما تأمر به قوانين الدولة، لكنه في الفكر لا يخضع لأي سلطة بشرط ألا تكون حرية فكره تهديد لسلامة الدولة.
إن توحيد الحق الطبيعي في حق جماعي هو حق السلطة المتمثل في تشريع وتعديل وتطبيق القوانين لا يعطي للدولة الحق في أن تتدخل في حرية الأفراد الفكرية والعقدية، حيث تفرض عليهم أفكارا معينة أو تمنعهم من تداول أفكارهم والتعبير عنها دون أدنى خوف، مثلما ليس لديها الحق في أن توجه الأفراد نحو عقيدة معينة أو نحو ممارسة طقوس وشعائر ما أو ما يجب عليهم فعله اتجاه الله لأن ليس هناك ما يعطيها هذا الحق " فإذا لم يكن من الممكن أن يتخلى أحد عن حريته في الرأي و في التفكير كما يشاء، و إذا كان كل فرد يشيد تفكيره بناءا على حق طبيعي أسمى، فإن أية محاولة لإرغام أناس ذوي آراء مختلفة، بل ومتعارضة على ألا يقولوا إلا ما تقرره السلطة العليا تؤدي إلى أوخم العواقب" ويقر بأن لكل فرد حق طبيعي أسمى لا يتعارض مطلقا مع سيادة الدولة، لذلك يضع سبينوزا عنوانا لرسالته، هو " و فيها تتم البرهنة على أن حرية التفلسف لا تشكل خطرا على التقوى و سلم الدولة، بل إن القضاء عليها هو قضاء على سلم الدولة و التقوى نفسها "، مبرزا أن تمتع الأفراد بهذا الحق الطبيعي ليس يتناقض مع حق الدولة المتمثل في سيادتها و أمنها وسلمها، بل إنها مهددة بالقضاء على هذا الحق ومنع الأفراد من ممارسته، لأنهم سيتمردون على سلطتها ويعتبرونها فاقدة للمشروعية، وهو ما يهدد حقها الطبيعي عندما يرفض الأفراد الاعتراف و الاقرار به أو الخضوع لسلطتها. إذن الحق الطبيعي للسلطة مرتبط بضمان الأفراد لحقهم الطبيعي.
يلخص سبينوزا في هذه الفقرة تصوره لمشروعية الدولة القائمة على حق طبيعي وليس على الحق الإلهي " إن غاية الدولة ليس هي السيطرة ، أو إرهاب الناس، أو جعلهم تحت إمرة آخر، بل هي تحرير الفرد من الخوف، من أجل أن يعيش بقدر الإمكان في أمان، أي الاحتفاظ، بقدر استطاعته و دون التضرير بالغير، بحقه الطبيعي في الوجود والفعل. و أكرر، إن غاية الدولة ليس نقل الناس من موجودات عاقلة إلى بهائم أو آلات صماء، بل أُسست لإتاحة الفرصة لأجسامهم و أنفسهم لكي تقوم بوظائفها تامة...إذن في الواقع غاية الدولة هي الحرية " ، لعلها أقدر فقرة في هذا الفصل لكي تشرح غاية الدولة الحقيقية مثلما تصورها سبينوزا، فهي تبتدئ بتعريف سلبي لغاية الدولة التي تعتبرها دولة قوة وسيطرة كشأن النظم الاستبدادية القائمة على هذا التصور لحقيقة الدولة، والتي تكون نتيجتها هي شعور عام لدى الأفراد بفقدان الأمن والسلم و بالتالي فقدان الثقة في النظام السياسي و إمكانية التمرد عليه ( اللاتقوى)، بينما الغاية الحقيقية للدولة هي التطابق مع الطبيعة، أي ضمان الحق الطبيعي للأفراد المتمثل في الحرية، إنها " دولة الفرد الحر " و ليس " دولة القوة".
تكون إذن حرية الأفراد مضمونة في النظام الديمقراطي أكثر من غيره، حيث يتصرف الأفراد ليس وفق مشيئتهم الفردية ولكن وفق الإرادة العامة التي تملك حق صياغة القوانين و حق التقرير، لأنه من المستحيل الحديث عن الدولة بدون وجود حق السيادة الذي نتج من الانتقال من حال الانفعالات السلبية إلى حالة العقل، أو الانتقال من حق فردي إلى حق جماعي الذي هو الأغلبية، إذ سيصبح على الفرد طاعة هذه السلطة التي تسير عقلانيا، أي وفق القوانين السائدة، لكن الطاعة لا تفيد في شيء الخنوع أو العبودية إنها ترادف التقوى، أو الالتزام الحر، الداخلي النابع من ذات الفرد اتجاه قوانين الدولة باعتبارها الضامنة لحقه الطبيعي، ولذلك سعى سبينوزا إلى إعادة بناء تصور جديد للدين، الذي لا يقوم على مجرد طقوس وممارسات فارغة من المضمون، بل إن العقيدة الأساسية للكتاب المقدس هي العدل و الإحسان المتمثل في طاعة الله وحب الجار، ولأن السلم كشرط للاستمرار الدولة يقتضي الود واحترام الآخر المختلف في الفكر والرأي والعقيدة. لذلك يرفض سبينوزا أن يكون الدين هو حقائق فلسفية أو علمية؛ بل هو مجرد حقائق بسيطة تتمركز حول فكرة واحدة وهي أن الإيمان والتقوى هو طريق الخلاص. ونلحظ أن سبينوزا يربط الدين بسلامة الدولة وأمنها، وفُسرت تعاليمه الخاصة لكي تتلاءم مع القانون، فالفاسق عنده ليس من يتمرد على الكنيسة و يرفض الالتزام بطقوس جامدة لا تحمل معنى، بل إن الفسوق هو " أن يقوم أحد بشيء حسب حكمه الخاص ضد مشيئة السلطة السيادية " ، أي الذي يتمرد على قوانين الدولة وعلى سيادتها مؤديا إلى انهيار النظام الداخلي.
إن تقوى الله ليست تملك معنى إلا بتقوى قوانين الدولة المشروعية؛ بمعنى أن المؤمن الصالح و الحقيقي هو الذي يلتزم بالتعاقد الذي يوجد بينه وبين السلطة، ومقتضاه أن التنازل عن جزء من حقه الطبيعي لصالح سلطة عليا يفرض عليه الخضوع لها والاعتراف لها بحق أنها الوحيدة المخولة لإصدار القرار و تفسير القوانين، مثلما لها الحق في وضع معايير الأخلاقي واللاأخلاقي، العقلاني و اللاعقلاني، و لا يحق لفرد أن يشاركها هذا الحق، الذي يعتبر نقضا موضوعيا للتعاقد المشترك، ويجب معاقبته لأن حريته صارت تهديدا لسلامة و أمن الدولة، لذلك فتمييز سبينوزا بين " حرية الفعل " و " حرية الفكر " ليس ترفا لغويا زائدا بل ضرورة تفرضها حاجة بيان أن الحرية ليست تهديدا للدولة، فللفرد الحق في التعبير عن رأيه والتفكير في كل ما يقع في شؤون الدولة لكن ليس من حقه القيام بفعل لا تسمح به السلطة، وبهذا التمييز تكون النتيجة أنه: " لا يوجد ضرر واحد ينتج عن حرية التفلسف لا تستطيع السلطات العليا أن تتجنبه" . لذلك فإن أفضل الدول هي تلك التي تضمن لأفرادها حرية التفلسف والمعتقد، التي تؤدي إلى ازدهار المجتمع، فليس بمكننا أن تصور فنا أو علوما أو فلسفة في دولة تمنع على أفرادها ممارسة حريتهم الفكرية، فكيف إذن سننتج أفكارا إذا لم يكن يسمح لنا بالتفكير؟ إن شعور الفرد بالخوف هو العدو الأول للدولة، لأنه الدافع الرئيس الذي يجعل الأفراد يعودون إلى حال الطبيعة، ويجعلهم رافضين الخضوع لقوانين الدولة، وبالتالي سيادتها، فلا وجود لدولة بدون سيادة، لذلك فإن استمرارية الحق الطبيعي للسلطة مرهون بحماية الحق الطبيعي للأفراد.
إن السلطة بشريعها لقوانين تستهدف الحد من حرية الفكر والرأي هو إعلان صريح منها عن رفضها لما يسميهم سبينوزا ب " الشرفاء " وحقد عليهم، لأنها بذلك ترفض كل من يخالفها موقفها، كتعبير عن فقدانها للمشروعية، لأن النظام الديمقراطي القائم على مبادئ عقلانية لا يخاف من المخالفين له، فهو مبني على احترام الحرية كحق مقدس تضمنه كل القوانين للفرد.
تفقد السلطة آخر مبرر للخضوع لها واحترام حقها عندما تحول الأحرار إلى مجرمين و تعاقبهم باسم الاختلاف وحرية الفكر، وكلما تعرض الأفراد إلى القمع بسبب أفكارهم لا بسبب أفعالهم كانت النتائج سيئة على النظام السياسي القائم حيث يشتد عنفهم، الذي يكون الهدف منه هو العودة إلى الحالة الطبيعية. إن مشروعية النظام السياسي تقاس بمدى تطابقه مع الحالة الطبيعية وتمثيله لها.
لا يمكن لأي نظام سياسي أن يقوم إلا على وجود أفراد مختلفين في فكرهم و في معتقداتهم و في ثقافتهم، وهي اختلافات أساسية لتطبيق الديمقراطية؛ ليس بوصفها حكم الأغلبية و لكنه بالنظر إليها كاعتراف بالاختلاف و احترام له، أما النظم الاستبدادية فإنها لا تنجح إلا بتوحيد الافراد وتنميطهم و خلق " إنسان ذو بعد واحد "، فالاختلاف هو أكبر تهديد لها. إن النظام الديمقراطي هو الذي يشجع الفلسفة التي تعلم الاختلاف وتدافع عن الحرية، فلا وجود لها بدون وجود الفلسفة، لذلك، حسب سبينوزا، من مصلحة الفيلسوف أن يدعم ويشجع النظام الديمقراطي ويدافع عنه. ويأخذ هذا الدفاع عن ضرورة الفلسفة في المجتمع، وتمكين الجميع منها، بعدين: الأول هو البحث عن تأسيس مجتمع عقلاني بديلا لمجتمع الخرافة - لذلك خصص سبينوزا الجزء الأول من الرسالة للمسألة اللاهوتية؛ مثلما ختم الجزء الاول من الإتيقا بتذييل ينتقد فيه الخرافة والهذايانات الناتجة من الفهم المغلوط لله والطبيعة (المطبوعة) والمعجزات والنظر إلى الدين كمجموعة من النظريات العلمية والفلسفية التي تحمل تصورا للكون- لا يخضع إلا لمنطق العقل وحده ( الجوهر )، والثاني هو وضع أسس مجتمع حر يتمتع فيه الأفراد بحرية الفكر والرأي لمواجهة التطرف والتشدد الفكري والديني الذي يرفض الاختلاف الفكري والعقدي . إن الدعوة إلى الديمقراطي كنظام عقلاني حر ليس إلا ثورة على كل صنوف الحقد والكراهية والتعصب الفكري والديني الرافض للآخر التي نتجت من سيادة وسيطرة الخرافة على الدين الحقيقي و على العقل، وهنا تكمن أهمية القراءة التي جاءت بها رسالة في اللاهوت والسياسة لمسألة الكتاب المقدس، والدعوة إلى دين طبيعي يقوم على الاخلاق المتمثلة في حب الله وحب الجار( المختلف).
ليس البدء بفهم الطبيعة الانسانية مجرد ترف فكري لا غير، إنها حاجة ملحة تفرضها انتاج تعاليم سياسية صحيحة تلائم هذه الطبيعة. لذلك كان البدء من دراستها علميا بعيدا عن الاحكام الاخلاقية والدينية القائمة على فكرة الخطيئة والشر، والنظر إليها كطبيعة لا غير هو نقد لآخر مبررات ومسوغات الاستبداد السياسي، فكانت النتيجة هي وضع أسس المجتمع الديمقراطي القائم على الحرية والعقل؛ أي مجتمع ضد التعصب والتطرف الفكري والديني، ومجتمع ضد الخرافة والشعودة.
إنها إتيقا متماسكة الخيوط لا يمكن أن تعزل جزء منها عن الآخر وتحاول فهمه في ذاته دون العودة إلى ما سبقه وما يتلوه، وهنا يكمن عمق هذه الاتيقا التي تقدم لنا معالم الحياة الحقيقية وسبل تحقيقها التي لن تكون غير الديمقراطية، و التي تكون الوحيدة الضامنة للحرية ومنها الحرية الدينية المتمثلة في حرية تأويل النص الديني، وهذا ما يسعى القسم الأخير إلى أن يبرزه.



#المصطفى_الشادلي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الدولة والدين عند سبينوزا


المزيد.....




- فيديو صادم التقط في شوارع نيويورك.. شاهد تعرض نساء للكم والص ...
- حرب غزة: أكثر من 34 ألف قتيل فلسطيني و77 ألف جريح ومسؤول في ...
- سموتريتش يرد على المقترح المصري: استسلام كامل لإسرائيل
- مُحاكمة -مليئة بالتساؤلات-، وخيارات متاحة بشأن حصانة ترامب ف ...
- والدا رهينة إسرائيلي-أمريكي يناشدان للتوصل لصفقة إطلاق سراح ...
- بكين تستدعي السفيرة الألمانية لديها بسبب اتهامات للصين بالتج ...
- صور: -غريندايزر- يلتقي بعشاقه في باريس
- خوفا من -السلوك الإدماني-.. تيك توك تعلق ميزة المكافآت في تط ...
- لبيد: إسرائيل ليس لديها ما يكفي من الجنود وعلى نتنياهو الاست ...
- اختبار صعب للإعلام.. محاكمات ستنطلق ضد إسرائيل في كل مكان با ...


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - المصطفى الشادلي - الديمقراطية كنظام للحرية عند سبينوزا