أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - إريك هوبسباون - بيان من أجل تجديد التاريخ















المزيد.....


بيان من أجل تجديد التاريخ


إريك هوبسباون

الحوار المتمدن-العدد: 1107 - 2005 / 2 / 12 - 11:38
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


"حتى الآن اقتصر عمل الفلاسفة على تفسير العالم، فيما المطلوب تغييره". إن هاتين المقولتين الواردتين في أطروحة الفيلسوف الألماني لودفيك فورباخ الشهيرة قد شكلتا مصدر وحي للمؤرخين الماركسيين. فمعظم المثقفين الذين اعتنقوا الماركسية منذ ثمانينات القرن التاسع عشر، والمؤرخون الماركسيون ضمناً، إنما فعلوا ذلك لأنهم أرادوا تغيير العالم بالتعاون مع الحركات العمالية والاشتراكية، وهي الحركات التي ستتحول قوًى سياسية جماهيرية، وذلك في جزء كبير منه، بفعل تأثير الماركسية. وبطبيعة الحال أن هذا التعاون سوف يوجه المؤرخين الذين أرادوا تغيير العالم صوب حقول دراسات، ومنها خصوصاً تاريخ الشعوب او الطبقات العمالية، لم يكن لها في الأساس أي ارتباط متميز بالمنظور الماركسي، حتى وإن تكن اجتذبت طبيعياً أهل اليسار. وفي الاتجاه المعاكس، عندما تخلى هؤلاء المثقفون عن ثوريتهم الاجتماعية، وذلك ابتداء من تسعينات القرن التاسع عشر، فإنهم غالباً ما تخلوا عن ماركسيتهم.

وجاءت ثورة أكتوبر السوفياتية عام 1917 لتعيد إحياء هذا الالتزام. ولنتذكر هنا أن الأحزاب الاجتماعية الديموقراطية الرئيسية في اوروبا القارية لم تتخلَّ رسمياً عن الماركسية إلا في خمسينات القرن الماضي أو حتى بعد ذلك. كما أنها أنتجت ما يمكن تسميته أعمالاً تأريخية ماركسية إلزامية في الاتحاد السوفياتي وفي الدول التي أخضعت في ما بعد للنظام الشيوعي. وقد تيسرت للحافز النضالي فرصة تعزّزه خلال مرحلة النضال ضد الفاشية. لكنه ابتداء من الخمسينات بدأ يضعف في الدول المتطورة، إنما ليس في دول العالم الثالث، في وقت كان التطور الهائل في التعليم الجامعي والفورة الطالبية يولدان في ستينات القرن الماضي وداخل الجامعات، معسكراً مهماً من الناس الذين عزموا على تغيير العالم. لكن وإن كانوا راديكاليين إلا أن عدداً منهم لم يكن ماركسياً بكل معنى الكلمة وحتى أن البعض قد تخلى كلياً عن الماركسية.

حركة الانبعاث هذه بلغت أوجها في سبعينات القرن الماضي قبل فترة قصيرة من ردة الفعل الكبيرة التي انطلقت ضد الماركسية، وذلك مرة اخرى لأسباب سياسية بشكل أساسي. والنتيجة الرئيسية لردة الفعل هذه كانت إلغاء الفكرة القائلة بامكان التكهن استناداً الى التحليل التاريخي بنجاح طريقة معينة في تنظيم المجتمع البشري، اللهم في صفوف الليبيراليين الذين ظلوا يعتنقونها. فلقد تم الفصل بين التاريخ والنظرية الغائية . [1]

ونظراً للاحتمالات الغامضة الماثلة امام الحركات الاجتماعية الديموقراطية والاجتماعية الثورية ليس من المتوقع قيام وثبة جديدة في اتجاه الماركسية المحمولة سياسياً. لكن لنلزم جانب الحذر من المبالغة في المركزية الغربية. فلو نظرنا في الطلب على أعمالي التاريخية شخصياً استنتج أنه قد تزايد عليها في كوريا الجنوبية وفي تايوان منذ ثمانينات القرن الماضي، وفي تركيا منذ التسعينات، كما ان هناك دلائل تشير الى ارتفاعه حالياً في العالم العربي.

فما الذي كان عليه مفهوم "تفسير العالم" الذي قالت به الماركسية؟ ان تاريخ هذا النهج مختلف في جانب ما إنما هو يجري على خط موازٍ. فهو يتعلق بصعود ما يمكن تسميته الردة ضد رانكي [2] التي شكلت فيها الماركسية عنصراً مهماً من دون أن يتم الاعتراف بها في أية حال. فبشكل أساسي كان في الأمر حركة مزدوجة.

فمن جهة رفضت هذه الحركة الفكر الوضعي القائل بأن البنية الموضوعية للواقع هي أمر بديهي، ويكفي تطبيق المنهجية العلمية وشرح سبب حدوث الأمور كما حدثت لاكتشاف "كيف هو هذا في الواقع؟"... فبالنسبة الى جميع المؤرخين أن علم التأريخ بقي ويبقى متجذراً في واقع موضوعي يقصد به حقيقة ما حدث في الماضي. وفي أية حال هو لا ينطلق من "وقائع" بل من "قضايا" فارضاً القيام بالتحقيقات بغية فهم سبب نشوء هذه القضايا وكيفيته، كنماذج وكمفاهيم مجردة، كما نشأت في الروايات التاريخية وفي بيئات اجتماعية حضارية مختلفة.

ومن جهة أخرى فلقد حاولت هذه الحركة أن تقرب ما بين العلوم الاجتماعية والتاريخية، وبالنتيجة أن تشملهما ضمن مذهب عام كفيل بشرح تحولات المجتمع البشري. فبحسب عبارة لورانس ستون [3] أن غرض التأريخ يجب أن يكون "طرح الأسئلة الكبرى القائمة على لماذا؟". وهذا "المنعطف الاجتماعي" لم يأتِ من علم التأريخ بل من العلوم الاجتماعية، وبعضها كان حديث النشئة بحد ذاته، والتي فرضت نفسها آنذاك كمذاهب "نشوئية" أي تاريخية.

وبمقدار ما يمكن اعتبار ماركس أبا علم اجتماع المعرفة، فان الماركسية قد ساهمت بالتأكيد في التشكل الأولي لهذه الحركة، مع أن هذا الأمر أنكر وعن خطأ باسم نزعة موضوعية عمياء مفترضة. يضاف الى ذلك أن تأثير الأفكار الماركسية الأكثر شهرة، أي الأهمية المعطاة للعوامل الاقتصادية والاجتماعية، لم تكن ماركسية حصراً، بالرغم من أن التحليل الماركسي قد أرخى بكل ثقله في هذا الاتجاه. فهذا التحليل يندرج في سياق حركة تأريخية عامة أمكن تلمسها منذ تسعينات القرن التاسع عشر وبلغ أوجه في خمسينات القرن الماضي وستيناته حيث استفاد منه جيلي من المؤرخين الذين واتاهم الحظ لكي يحولوا مسار هذا المذهب.

وهذا التيار الاجتماعي الاقتصادي تجاوز الماركسية. فإنشاء المجلات والمؤسسات المتخصصة بالتاريخ الاقتصادي الاجتماعي كان أحياناً من عمل الاشتراكيين الديموقراطيين الماركسيين كما في ألمانيا مع مجلة "فيرتليارشكريفت" التي صدرت في العام 1893. ولم تكن هذه الحال في بريطانيا ولا في فرنسا أو الولايات المتحدة. حتى في ألمانيا فان المدرسة الاقتصادية ذات المنحى التاريخي الواضح لم يكن فيها شيء من الماركسية. فقط في العالم الثالث في القرن التاسع عشر (روسيا ودول البلقان) وفي القرن العشرين اتخذ التاريخ الاقتصادي وجهة اجتماعية ثورية قبل كل شيء على غرار كل "علم اجتماعي". ونتيجة ذلك كان موضع انجذاب قوي الى ماركس. وفي مطلق الأحوال فان الاهتمام التاريخية للمؤرخين الماركسيين لم يتناول كثيراً "الأساس" (أي البنية التحتية الاقتصادية) إلا على مستوى العلاقات بين القاعدة والبنية الفوقية. فالمؤرخون الماركسيون صراحة كانوا على الدوام قلة نسبياً.

لقد أثر ماركس في التاريخ بشكل أساسي عبر مؤرخين وبحاثة في العلوم الاجتماعية استعادوا المسائل التي طرحها، سواء وجدوا إجابات مختلفة لها أم لم يجدوا. وبدوره فان علم التأريخ الماركسي قد تقدم كثيراً بالنسبة الى ما كان عليه في عصر كارل كاوتسكي وجورجي بليكانوف [4] ، وذلك في جزء كبير منه بفضل تخصيبه بواسطة علوم أخرى (وخصوصاً الانتروبولوجيا الاجتماعية) وعلى يد مفكرين تأثروا بماركس وأرادوا إكمال ما بدأه مثل ماكس فيبر . [5]

وإذا كنت أشدد على الطابع العام لهذا التيار التأريخي فليس لرغبة مني في التقليل من أهمية الفروقات التي يخفيها أو التي كانت موجودة داخل مختلف مكوناته. فالعاملون على تحديث التأريخ قد طرحوا على أنفسهم الأسئلة نفسها واعتبروا أنهم ملتزمون المعارك الفكرية نفسها سواء استوحوا في أعمالهم الجغرافيا البشرية ام علم الاجتماع "الدوركهايمي" [6] أم الاحصاءات كما في فرنسا (مدرسة ديزانال ولا بروس في آن واحد) أو علم اجتماع فيبر مثل "إيستوريتشي سوسيالفيسنشافت" في ألمانيا الاتحادية، أو حتى ماركسية مؤرخي الحزب الشيوعي الذين لعبوا دور الموجهين في عملية تحديث التأريخ في بريطانيا أو هم على الأقل أسسوا لإعادة النظر فيه.

وكل هؤلاء اعتبروا أنفسهم حلفاء ضد النزعة المحافظة في علم التأريخ حتى عندما كانت مواقفهم السياسية أو الايديولوجية تتعارض، كما بين مايكل بوستان [7] وتلامذته الماركسيين البريطانيين. هذا التحالف من اجل التطور وجد ترجمة نموذجية له في إصدار مجلة "باست أند بريزنت" (الماضي والحاضر) التي تأسست في العام 1952 وفرضت نفسها في أوساط المؤرخين. وقد دانت هذه المجلة بنجاحها الى كون الشباب الماركسيين الذين أسسوها رفضوا صراحة الحصرية الإيديولوجية وأن الشباب التحديثيين الآتين من آفاق إيديولجية مختلفة كانوا مستعدين للانضمام اليهم لأنهم كانوا يعرفون أن الفوارق الايديولوجية والسياسية لا تشكل عائقاً في وجه التعاون. وقد تقدمت جبهة التطور هذه بشكل لافت ما بين نهاية الحرب العالمية الثانية وسبعينات القرن الماضي في ما سماه لورنس ستون "مجمل الخضات الواسعة التي عصفت بطبيعة الخطاب التاريخي". وذلك إلى أن نشأت أزمة العام 1985 التي شهدت التحول من الدراسات الكمية الى الدراسات النوعية، من التاريخ المشرع على كل المواضيع الى التاريخ المحصور والتفصيلي ومن التحليلات البنيوية الى أعمال السرد ومن الاجتماعي الى المواضيع الحضارية...

ومذاك بات التحالف التأريخي التحديثي في موقع دفاعي وكذلك حال أطرافه غير الماركسية مثل التاريخ الاقتصادي والاجتماعي.

وفي سبعينات القرن الماضي أصاب التيار المسيطر في التاريخ تحول كبيرا، وخصوصاً تحت تأثير "المسائل الكبرى" التي طرحت على طريقة ماركس، الى درجة أنني كتبت ما يلي: "إنه لمن المستحيل غالباً القول ما إذا كان أحد الكتب هو من مؤلفات ماركسي أو غير ماركسي اللهم إذا لم يعلن الكاتب عن موقفه الايديولوجي... وأنا بفارغ الصبر أنتظر اليوم الذي يكف فيه الجميع عن طرح السؤال لمعرفة ما إذا كان المؤلفون ماركسيين أم لا". لكن وكما كنت ألفت دائما كنا لا نزال بعيدين عن هذه الطوباوية. مذاك وبالعكس بدت الضرورة أكثر إلحاحاً للتشديد على ما يمكن للماركسية أن تقدمه لعلم التأريخ وهو ما لم يتم منذ زمن طويل، وذلك في آنٍ معاً لأن التاريخ بحاجة الى الدفاع عنه في وجه اولئك الذين ينكرون عليه القدرة على مساعدتنا في فهم العالم ولأن تطورات جديدة طرأت في مجال العلوم وأخلت بروزنامة علم التأريخ.

أما على الصعيد المنهجي فان الظاهرة السلبية الأكثر أهمية فقد كانت إقامة مجموعة من الحواجز بين ما حدث أو ما يحدث في التاريخ وبين قدرتنا على مراقبة هذه الوقائع وعلى فهمها. وهذه السدود تمعن في رفض الاقرار بوجود حقيقة، واقعية، لم يكونها المراقب من أجل غايات مختلفة ومتغيرة، او من أجل إثبات عجزنا أبداً عن الذهاب أبعد من حدود اللغة أي حدود المفاهيم التي هي الطريقة الوحيدة التي يمكننا بواسطتها أن نتكلم على العالم ومن ضمنه الماضي.

هذه النظرة تستبعد مسألة معرفة ما إذا كان هناك في الماضي ترسيمات أو أنساق يمكن للمؤرخ انطلاقاً منها أن يصوغ مقترحات ذات دلالة. إلا ان هناك مبررات ذات بعد نظري أقل، تحمل أيضاً على هذا الرفض وهنا يتم التذرع بأن سير الماضي فيه الكثير من الاحتمالات ما يعني التخلي عن التعميمات لأن أي شيء عملياً يمكن أن يحدث أو كان يمكن أن يحدث. وهذه المبررات تستهدف ضمنياً العلوم كلها. ولننتقل الى المحاولات الأكثر تفاهة بعودتها الى مفاهيم عفا عليها الزمن، أي تلك التي تنسب مجرى التاريخ الى أصحاب القرار السياسي أو الى كبار القادة العسكريين أو الى السلطة المطلقة لبعض الآراء أو "القيم" مما يقلص عملية التبحر التاريخية الى عملية بحث عن مجرد الاطلاع على أحداث الماضي وهو أمر على أهميته ليس كافياً في ذاته.

والخطر السياسي الداهم الأول الذي يتهدد علم التأريخ الحالي هو "معارضة الشمولية" على أساس "ان الحقيقة التي توصلت اليها لا تقل قيمة عن حقيقتك أياً تكن الوقائع". إن معارضة الشمولية هذه تغري بالطبع تأريخ المجموعات الكيانية بمختلف أشكالها التي ترى أن الغرض الأساسي من التاريخ ليس معرفة "ما" حدث بقدر ما هو معرفة "في ما" يعني ما حدث أبناء المجموعة الخاصة. وبشكل عام فان ما يهم في هذا النوع من التأريخ ليس التفسير العقلاني وإنما "الدلالة"، ليس ما وقع لكن كيف أحس ما حدث أبناء الجماعة التي حددت موقعها ضد الآخرين في مجال الدين أو الاتنية أو القومية أو الجنس أو نمط الحياة أو أي شكل آخر.

فجاذبية النظرية النسبوية اعتمدت في تاريخ المجموعات الكيانية. ولأسباب مختلفة تم اختلاق كمّ كبير من الوقائع التاريخية المغلوطة ومن الترهات، هي في الوقت ذاته عمليات تشويه للحقائق أملتها العاطفة، وقد عرفت عصرها الذهبي في السنوات الثلاثين الأخيرة. وبعض هذه الترهات شكل خطراً عاماً، في دول مثل الهند في عهد الحكومة الهندوسية [8] وفي الولايات المتحدة وفي إيطاليا تحت قيادة السيد سيلفيو برلوسكوني، هذا من دون ذكر عدد من القوميات الجديدة سواء أترافقت أم لا مع قفزة الأصولية الدينية.

وعلى كل حال، إن تكن هذه الظاهرة قد ولدت أنواعاً من الكلام الكاذب والهاذر لا حد لها في الهوامش الأكثر قدماً من تاريخ الشعوب الخاصة، من مثل القوميين والحركات النسائية ومثليي الجنس والسود وغيرهم، فإنها ولدت أيضاً دراسات تاريخية لا سابق لها مثل "إنفجار عمل الذاكرة في الدراسات التاريخية المعاصرة" كما يسميها جاي ونتر [9]. وكتابه "مكامن الذاكرة" [10] الذي وضعه بالتعاون مع بيار نورا هو خير مثال على ذلك.

وفي مواجهة هذه الانحرافات آن الأوان من أجل إعادة التماسك بين أولئك الذين يرون في التأريخ بحثاً عقلانياً في مجرى التحولات البشرية، وذلك في آنٍ معاً في وجه الذين يشوهونها بشكل منظم من أجل أهداف سياسية وبشكل أعم في وجه النسبويين وتيار ما بعد الحداثة الذين يرفضون الإقرار بأن التاريخ يوفر هذا الامكان. وبما أن البعض منهم يعتبر نفسه من اليسار وسط هؤلاء النسبويين وسائر الما بعد حداثيين، فان هناك خطر حدوث انقسامات سياسية غير متوقعة تفرق بين المؤرخين. وهنا يتبين أن المقاربة الماركسية باتت عنصراً مهماً في إعادة تشكيل جبهة العقل كما كانت عليه في الخمسينات والستينات من القرن الماضي (مئة عام من التأريخ الماركسي). وفي الحقيقة أن المساهمة الماركسية هي على الأرجح أكثر الحاحاً اليوم على أساس أن سائر مكونات التحالف آنذاك قد اعتزلت العمل التأريخي مثل مدرسة "الأنّال" الفرنسية برعاية فرنان بروديل كما "علم الانسان الاجتماعي البنيوي الوظيفي" التي بلغ تأثيرها حداً كبيراً في أوساط المؤرخين. وقد اهتزت هذه المدرسة بنوع خاص بهجمة النزعة الذاتية في التيار الما بعد حداثوي.

وفي هذه الأثناء وفيما كان المابعد حداثويين ينفون إمكان عملية الفهم التاريخية، كان تطور العلوم الطبيعة يعيد الى تأريخ البشرية النشوئي كل حيويته بدون أن يتنبه المؤرخون الى ذلك فعلاً. وذلك بطريقتين.

فأولاً لقد ساعدت تحليلات الحمض النووي (ADN) في وضع السلسلة التاريخية الأكثر تماسكاً للتطور منذ ظهور "الانسان العاقل" كجنس، وبنوع خاص السلسلة التاريخية لانتشار هذا الجنس الافريقي الأصل في سائر أنحاء العالم وللتطورات التي أعقبت ذلك قبل ظهور المصادر المدونة. وفي الوقت نفسه فقد كشف هذا قصر مدة التاريخ البشري وفق المعايير الجيولوجية والعلوم الاحيائية، كما استبعدت الحل التبسيطي لعلوم المجتمع الاحيائية الداروينية [11] . فتحولات الحياة البشرية، الجماعية والفردية، على مدى العشرة آلاف سنة الأخيرة، وبشكل مميز خلال الأجيال العشرة الأخيرة، هي من الكثرة بحيث لا يمكن تفسيرها كلياً على أساس آلية التطور الداروينية، عبر دراسة الجينات. فهي من النوع الملائم لتسارع عملية نقل المميزات المكتسبة عبر آليات حضارية وليس جينية، حتى ليمكن القول أن في هذا ثأراً لـ"لامارك" [12] من داروين عبر عملية التأريخ البشري. وليس هناك كبير فائدة من تحريف الظاهرة تحت أشكال مجازية بيولوجية بالكلام على "الذوات" (العناصر نفسها) [13] بدلاً من "الجينات". فالارث الحضاري والارث البيولوجي لا يشتغلان بالطريقة نفسها.

وبشكل ملخص فان ثورة الـ"ADN" تستدعي منهجية خاصة تاريخية لدراسة تطور الجنس البشري. كما انها توفر، ولنقل بطريقة عابرة، إطاراً عقلانياً لتأريخ العالم. أي عملية تأريخية تأخذ العالم كله بكل تعقيداته كوحدة للدراسات التاريخية وليس محيطاً محدداًً أو منطقة معينة. أي بكلمة أخرى أن التاريخ هو استمرار للتطور البيولوجي لـ"الانسان العاقل" بوسائط اخرى.

ثانياً فان علم الأحياء النشوئي الحديث يستبعد التمييز الدقيق بين التأريخ والعلوم الطبيعية الذي امحى أساساً في جزء كبير منه عبر اكتساب هذه العلوم في العقود الأخيرة طابعاً "تأريخياً". فلويجي لوكا كافالي سفورزا، وهو من رواد فكرة المقاربات المتعددة في ثورة الـ " ADN" يتحدث عن "متعة فكرية في إيجاد الكثير من حالات التماثل بين مجالات الدراسات المتباينة ومنها ما ينتمي تقليدياً الى قطبين متعارضين في الحضارة مثل العلوم والانسانيات". باختصار أن علم الأحياء الحديث يحررنا من الجدل الخاطئ حول مسألة معرفة ما إذا كان التأريخ علماً أم لا.

ثالثاً إنها تعيدنا حتماً الى المقاربة الأساسية للتطور البشري التي قال بها علماء الآثار ودارسو ما قبل التاريخ والتي تقوم على دراسة أنماط التفاعل بين جنسنا ومحيطه إضافة الى عملية التحكم المتنامية التي تفرضها على هذا المحيط. وهذا يعيد الى أن تطرح بشكل أساسي الأسئلة التي طرحها كارل ماركس. فـ"أنماط الانتاج" (أياً تكن التسمية التي نعطيها إياها) القائمة على ابتكارات كبرى في مجال التكنولوجيا الانتاجية والاتصالات والتنظيم الاجتماعي، كما أيضاً القوة العسكرية، هي في صلب التطور الاجتماعي. وهذه الابتكارات بحسب ما أدرك ماركس، لم تطرأ ولا تطرأ من تلقاء نفسها. فالقوى المادية والحضارية وعلاقات الانتاج لا يمكن الفصل في ما بينها. إنها أعمال الرجال والنساء الذين يكتبون تاريخهم الخاص إنما ليس في "الفراغ"، أي ليس خارج إطار الحياة المادية.

وفي النتيجة أن التطلعات الجديدة للتأريخ يجب أن تقودنا أيضاً الى هذا الهدف الجوهري الذي يضعه نصب أعينهم من يدرسون الماضي، حتى وإن لم يكن ابداً قابلاً للتحقيق كلياً، أي "التاريخ الشامل"، وليس "تاريخ الكل"، إنما التاريخ كنسيج لا يمكن تقسيمه وفيه كل النشاطات البشرية تتواصل في ما بينها. وليس الماركسيون وحدهم هم من وضعوا هذاالهدف نصب أعينهم، ففرنان بروديل فعل ذلك أيضاً، إنما هم الذين تشبثوا بمواصلته كما أكد أحدهم وهو بيار فيلار . [14]

ومن بين المسائل المهمة التي تطرحها هذه التطلعات الجديدة فان الأساسية منها هي تلك التي تعيدنا الى التطور التاريخي للانسان. وهو ما يتعلق بالصراع بين قوى مسؤولة عن عملية تحول الانسان العاقل من جهة، منذ العصر الحجري الأخير الى العصر النووي، وبين القوى التي تحافظ على ثبات عملية تجدد الجماعات البشرية أو المحيطات الاجتماعية واستقرارها، والتي، على مرّ جزء كبير من التاريخ نجحت في تحييدها بشكل فعال. وهذا المسألة النظرية هي مسألة مركزية. فتوازن القوى يميل بشكل حاسم في اتجاه معين. وهذا الخلل في التوازن الذي يتجاوز ربما قدرة البشر على الفهم يتجاوز بالتأكيد قدرة التحكم لدى المؤسسات الاجتماعية والسياسية البشرية. والمؤرخون الماركسيون الذين لم يفهموا النتائج الاضطرارية وغير المستحبة للمشاريع البشرية المشتركة في القرن العشرين، يمكنهم ربما لهذه المرة، ومتسلحين بتجربتهم العملية، المساعدة في فهم كيفية وصولنا الى ما نحن عليه.






--------------------------------------------------------------------------------

[1] الغائية هي مدرسة فكرية تستند الى فكرة القصدية (انتهاء الأمور الى هدف محدد).

[2] هي ردة الفعل ضد ليوبولد فون رانكي (1795-1886)، الذي اعتبر أب المدرسة التي هيمنت على العلوم التأريخية قبل العام 1914. من مؤلفاته بنوع خاص: Histoire des peuples romans et germains de 1494 à 1535 (1824) et de Histoire du monde (Weltgeschichte), (1881-1888 -inachevé).

[3] لورانس ستون (1920-1999) هو أحد الشخصيات الأكثر بروزاً وتأثيراً في التاريخ الاجتمعاي. من مؤلفاته بنوع خاص: The Causes of the English Revolution, 1529-1642 (1972), The Family, Sex and Marriage in England 1500-1800 (1977).

[4] هما على التوالي زعيما الحزب الاشتراكي الديموقراطي الألماني والحزب الاشتراكي الديموقراطي الروسي في مطلع القرن التاسع عشر.

[5] ماكس فيبر (1864-1920) هو عالم اجتماع ألماني.

[6] نسبة الى إميل دوركهايم (1858-1917) الذي وضع أسس "أصول المنهج الاجتماعي (1895)" والذي اعتبر واحداً من آباء علم الاجتماع الحديث. من مؤلفاته: De la division du travail social (1893) , Le suicide (1897).

[7] شغل ميكايي بوستان منصب استاذ كرسي للتاريخ الاقتصادي في جامعة كمبريدج منذ العام 1937. وهو الذي أوحى بالتعاون مع فرنان بروديل بتأسيس "الجمعية الدولية للتاريخ الاقتصادي.

[8] تولى حزب بهاراتيا جاناتا (BJP) الحكومة الهندية من العام 1999 الى أيار/مايو عام 2004.

[9] أستاذ في جامعة كولومبيا (نيويورك). وهو أحد كبار المتخصصين في تاريخ حروب القرن العشرين وخصوصاً في مكامن الذاكرة.

[10] Les lieux de mémoire, Gallimard, 3 tomes.

[11] نسبة الى شارل داروين (1809-1882) وهو عالم طبيعي انكليزي نظّر لتطور الأجناس على أساس الانتقاء الطبيعي.

[12] جان باتيست لامارك(1744-1829)، وهو عالم طبيعي فرنسي الذي كان أول من رفض فكرة ثبات الأجناس.

[13] بحسب ريشار داوكنز، أحد الوجوه البارزة في الداروينية المحدثة، فان "الذوات" هي عبارة عن وحدات أساسية في الذاكرة، يفترض أن تشكل عنصراً موجهاً في عملية النقل والبقاء الحضاري كما الجينات هي الموجهة لبقاء الخصائص الجينية لدى الأفراد.

[14] Une histoire en construction: approche marxiste et problematique conjoncturelle, Gallimard-Seuil, Paris, 1982



#إريك_هوبسباون (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- مقتل فلسطينية برصاص الجيش الإسرائيلي بعد مزاعم محاولتها طعن ...
- الدفاع المدني في غزة: العثور على أكثر من 300 جثة في مقبرة جم ...
- الأردن: إرادة ملكية بإجراء الانتخابات النيابية هذا العام
- التقرير السنوي لـ-لعفو الدولية-: نشهد شبه انهيار للقانون الد ...
- حملة -شريط جاورجيوس- تشمل 35 دولة هذا العام
- الصين ترسل دفعة من الرواد إلى محطتها المدارية
- ما الذي يفعله السفر جوا برئتيك؟
- بالفيديو .. اندلاع 4 توهجات شمسية في حدث نادر للغاية
- هيئات بحرية: حادث بحري جنوب غربي عدن
- وزارة الصحة في غزة تكشف عن حصيلة جديدة للقتلى والجرحى نتيجة ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - إريك هوبسباون - بيان من أجل تجديد التاريخ