أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - غسان الشوبكي - الديمقراطية والعلمانية بين حركة التاريخ والواقع العربي















المزيد.....


الديمقراطية والعلمانية بين حركة التاريخ والواقع العربي


غسان الشوبكي

الحوار المتمدن-العدد: 3788 - 2012 / 7 / 14 - 20:18
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


عند النظر في الخارطة السياسية لأي بلد ديمقراطي في العالم نجد أن الصراع على السلطة يكون دائما بين تيارين رئيسين: الأول وسطي يميل الى اليمين قليلا والثاني وسطي يميل الى اليسار قليلا، أما التيارات اليمينية المتطرفة واليسارية المتطرفة فاتباعها قلة وليس لها أي فرصة واقعية في الوصول الى السلطة، وان وصلت فان وصولها يكون سحابة صيف عابرة سرعان ما تنقشع. فالديمقراطية تتمحور دائما حول ما يعتبر وسطيا بمقاييس شعب ما في زمان ما.

ومن المهم أن ندرك هنا أن مفهوم اليمين واليسار والوسطية والتطرف مفهوم نسبي ديناميكي يخضع لحركة التاريخ ويختلف باختلاف الزمان والمكان، فكثير مما يعتبر وسطيا بمقاييس مشرقنا العربي يعتبر يمينيا متطرفا بمقاييس الغرب، وكل فكر نعده اليوم فكرايمينيا محافظا كان يعد في أول ظهوره فكرا يساريا متطرفا يخالف المعتقدات الراسخة لدى أغلب الناس في ذلك الوقت وهكذا.

فالفكر اليميني هو كل فكر محافظ يعتقد أن الحلول التقليدية المتوارثة للقضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية وغيرها هي أفضل الحلول الممكنة، أما الفكر اليساري فهو كل فكر يطرح حلولا جديدة لهذه القضايا من أجل تحقيق قدر أكبر من العدالة بين الناس، وبعبارة أخرى فان الفكر اليساري هو كل فكر جديد يخالف المعتقدات السائدة بحثا عن مستقبل أكثر عدالة. ولهذا فان اليساريين يصفون فكرهم بأنه فكر تقدمي ينقل الحضارة الانسانية الى مرحلة أكثر عدالة، أما اليمينيون فلا يرونه فكرا تقدميا بل فكرا منحلا، أو في أحسن الأحوال فكرا مثاليا حالما. والفكرة الوسطية هي الفكرة التي يعتقد بصحتها الأغلبية الساحقة من الناس لأنها فكرة قد ثبت نجاحها بالتجربة على مدى فترة زمنية طويلة. ولايجادل في صحة الفكرة الوسطية التي تمثل الواقع الراهن سوى الأقلية الممعنة في الرجعية (اليمين المتطرف الذي لا يزال يتبنى أفكار الماضي السحيق) أو الأقلية الممعنة في التقدمية (اليسار المتطرف الذي يطمح الى صناعة مستقبل أفضل بكثير من الواقع الراهن).

وحتى نكون أكثر تحديدا نستعرض تاليا بعض الأفكار الوسطية بمقاييس الديمقراطيات الناضجة في الغرب وما يقابلها من أفكار في العالم العربي:

أولا: العلمانية بمعنى فصل الدين عن الدولة (وليس العلمانية الشاملة التي يتحدث عنها بعض الكتاب كالمسيري مثلا):
هناك مواقف متباينة من الدين في الغرب تتراوح من أقصى اليمين المتزمت دينيا الى أقصى اليسار الذي يرفض الدين تماما بل يدعوا الى محاربته، وبين هذين النقيضين نجد درجات مختلفة من التعاطي مع الدين منها اعتناق أحد الأديان لتحقيق الأخلاق و الروحانية مع الاعتراف بالقيمة الأخلاقية والروحانية للأديان الأخرى، ومنها النظرة المحايدة التي لا تعبأ بقضية الدين اطلاقا.

لقد أدى هذا الوجود المؤثر لكل هذه المواقف المتباينة من الدين الى تجاوز فكرة الدولة الدينية منذ قرون والوصول الى شبه اجماع على الدولة العلمانية التي تقف على الحياد من الدين، فتفصل الدين عن الدولة وتكفل حرية المعتقد الديني والممارسة الدينية لكل المواطنين. فالعلمانية في الغرب هي اليوم فكرة وسطية تؤمن بها الأغلبية الساحقة من الناس، والجدل الدائر بين يمين الوسط ويسار الوسط في الوقت الحاضر يدور حول بعض القضايا ذات الجذور الدينية مثل الاجهاض و زواج المثليين و نظرية التطور و أبحاث الخلايا الجذعية وغيرها. أما فكرة الدولة الدينية فتعد في الغرب فكرة يمينية متطرفة ممعنة في الرجعية لا يذكرها سوى قلة غير مؤثرة من الناس. وبالمقابل فان النظرة السلبية الى الدين والدعوة الى محاربته تعد فكرا يساريا متطرفا لا يتبناه سوى قلة قليلة لا أمل لها في الوصول الى السلطة.

أما في العالم العربي حيث الأغلبية الساحقة من الناس مؤمنون يعتقدون أن الدين الذي ورثوه عن آبائهم وأجدادهم هو الحقيقة المطلقة والمرجعية العليا للأخلاق (انا وجدنا آباءنا على ملة وانا على آثارهم لمقتدون)، فان فكرة الدولة الدينية المنحازة الى دين الأغلبية وهو الاسلام تعد فكرة يمينية معتدلة قريبة من الوسطية بمقاييس هذا المكان من العالم في هذه اللحظة من عمر التاريخ. فهذه الفكرة التي يطرحها الأخوان المسلمون وغيرهم تحظى بتأييد واسع في العالم العربي والجدل الرئيس يتمحور حولها. وقد يقول البعض ان الخطاب السياسي للاسلاميين اليوم يقبل الدولة المدنية ولكن "بمرجعية اسلامية"، ولكن القوى المدنية تعتقد أن هذا مجرد تلاعب بالألفاظ هدفه ركوب الموجة الديمقراطية في سبيل الوصول الى السلطة، ومن ثم الانقلاب على الديمقراطية واقامة الدولة الدينية. وهذا الاعتقاد ليس مجرد شكوك وتخمينات بل هو اعتقاد مبني على أدبيات الاسلام السياسي، والاسلامييون لا يقدمون تفسيرا واضحا للتناقض الجوهري بين أدبياتهم التي قرأها الناس على مدى عقود من الزمن وخطابهم السياسي في الوقت الراهن: هل هذا التناقض هو مراجعة فكرية أم انتهازية سياسية؟

و فكرة الدولة الدينية تتناقض تناقضا جوهريا مع مبادئ الديمقراطية، ذلك أن الدولة الدينية تعني أن يحكم الاسلاميون بسلطات مطلقة الى الأبد، أما الديمقراطية فتعني أن الحزب الذي يحصل علىالأغلبية يحكم بسلطات محدودة لمدة زمنية محدودة تجري بعدها انتخابات جديدة وهكذا. والطبيعة الخطاءة للنفس البشرية تحتم تداول السلطة، ذلك أن الحزب الحاكم لابد أن يرتكب أخطاء، وتفاقم هذه الأخطاء يؤدي بالشعب في نهاية المطاف الى اختيار حزب آخر. ولذلك نجد أن تاريخ الديمقراطية الممتد على مدى قرون من الزمن لم يشهد احتفاظ حزب واحد بالسلطة لأكثر من بضع دورات انتخابية.

وفكر الأسلاميين يتناقض كذلك مع مبدأ هام آخر من مبادى الديمقراطية هو مبدأ اطلاق الحريات وعلى رأسها حرية التعبيرالتي هي عماد النظام الديمقراطي (لا ديمقراطية دون وجود معارضة قوية تتمتع بحرية التعبير). فمهما حاول الاسلاميون في سعيهم لاستخدام الديمقراطية في الوصول الى السلطة اظهار افكارهم بمظهر مدني حداثي يقبل الآخر فان جوهر فكرهم هو جوهر اقصائي يقوم على امتلاك الحقيقة المطلقة، أما جوهر الديمقراطية فيقوم على مبدأ الحقيقة النسبية التي يترتب عليها حق حرية التعبير لكل التيارات الفكرية والسياسية من أقصى اليمين الى أقصى اليسار، وليس فقط للأغلبية الحاكمة. ولمن يجادل في التناقض الجوهري بين فكر الاسلاميين ومبدأ حرية التعبير نطرح التساؤل التالي: هل يمكن أن نتخيل أن حكومة يقودها الاسلاميون يمكن أن تسمح مثلا بنشر كتاب ينقد الفكر الديني التقليدي مهما كان هذا النقد موضوعيا؟

أما الفكرة الوسطية على الجانب الأيسر من محور الطيف السياسي العربي فهي فكرة الدولة المدنية المحافظة التي تحترم الارث الديني الراسخ لدى الأغلبية الساحقة من الناس ولكنها تقبل بالتعددية الفكرية والمذهبية وحرية التعبير.

ثانيا: القومية:
الفكرة الوسطية التي تحظى اليوم بشبه اجماع في الغرب هي الولاء للدولة القومية والبحث عن المصلحة القومية ،والجدل بين يمين الوسط و يسار الوسط يدور حول درجة التعاون أو التصارع مع القوميات الآخرى. ففي أوروبا مثلا نجد اليسار يدفع باتجاه تقوية الاتحاد الأوروبي فيما اليمين يدفع باتجاه محافظة الدولة على "هويتها القومية"، ونجد اليسار أكثر تقبلا للمهاجرين فيما اليمين يدعو للحد من الهجرة وهكذا.

أما في العالم العربي فنجد أن قطاعا واسعا من الناس لا يزالون يؤمنون بالانتماءات العشائرية والطائفية، وهذا فكر يميني متطرف بمقاييس الغرب، ولكنه فكر يميني معتدل بمقاييس العالم العربي. أما الفكر الوسطي في العالم العربي فيتمحور حول فكرة "الوحدة الوطنية" أو الدولة القطرية من وجهة نظر القوميين العرب الذين يطرحون فكرة الوحدة العربية. وبنظرة واقعية موضوعية نجد أن فكرة الوحدة العربية على أساس المصلحة المشتركة وليس على أساس التعصب القومي هي فكرة تقدمية تتجاوز مستوى وعي الانسان العربي والواقع العربي بمراحل. فبعيدا عن الشعارات والعواطف الجياشة، هل وصل مستوى الوعي عند المواطن العربي في الدول الغنية الى درجة تجعله يقبل بالوحدة مع دول عربية فقيرة؟ ان الجواب الواقعي على هذا السؤال يقودنا الى الاقرار بأن طرح الوحدة العربية اليوم كبرنامج سياسي لا يمكن أن يحظى بتأييد الأغلبية، ففكرة الوحدة العربية هي فكرة تقدمية بمقاييس العالم العربي. وللمقارنة نلاحظ أن فكرة الدولة القومية الموحدة التي تعتبر فكرة تقدمية بمقاييس العالم العربي المنقسم الى عدة دول اقليمية صغيرة تعد فكرة وسطية منسجمة مع الواقع وتقبلها الأغلبية الساحقة من الناس في الدول الأكثر قوة وازدهارا في العالم كالولايات المتحدة والمملكة المتحدة وجمهورية ألمانيا الاتحادية. أما الفكرة التقدمية التي يطرحها اليسار المتطرف في الغرب بحثا عن مستقبل أكثر وعيا وعدالة من الواقع القومي فهي فكرة المجتمع الانساني الموحد، أو الفكرة الأممية. ومن نافلة القول طبعا أن فكرة الأممية تعد فكرة ممعنة في التقدمية بمقاييس العالم العربي الذي لم يصل بعد الى المرحلة القومية التي بلغها العالم المتقدم منذ قرون.

ثالثا: اقتصاد السوق:
تعيش الدول الغربية مرحلة الرأسمالية الصناعية، والفكرة الوسطية التي تحظى بقبول الأغلبية الساحقة في الغرب هي اقتصاد السوق، والجدل بين يمين الوسط ويسار الوسط يدور حول دور الدولة في الاقتصاد و نسبة الضرائب التي ينبغي فرضها على الأغنياء، فاليسار المعتدل يدفع باتجاه اعطاء الدولة دورا أكبر في الاقتصاد لدرجة قد تصل الى حد تأميم بعض المؤسسات الانتاجية الكبرى، ورفع الضرائب على الأثرياء من أجل توفير المزيد من الخدمات الأساسية (كالرعاية الصحية والتعليم) لعامة الشعب بأسعار زهيدة أو بالمجان أحيانا. أما الافكار الاشتراكية كالغاء اقتصاد السوق والغاء الملكية الفردية فتعد أفكارا يسارية متطرفة تسمع وتناقش ولكن لا يؤمن بها سوى قلة قليلة من الناس.

وبالمقابل فان العالم العربي لم يبلغ بعد مرحلة الرأسمالية الصناعية، والأهم من ذلك أن المواطن العربي لم يبلغ بعد مرحلة النضج التي تجعله يدرك أهمية الضرائب ويفهم الجدل الموضوعي حول رفعها أو خفضها، وسبب ذلك هو عدم وجود حكومات منتخبة تحظى بثقة المواطن بأن الضرائب التي يدفعها تنفق في توفير خدمات تعود عليه بالنفع. وعلى هذا فاننا نعتقد أن طرح مثل هذه القضايا سابق لأوانه في الوقت الحاضر. أما طرح أفكار أكثر تقدمية كالاشتراكية فهو سابق لأوانه بمراحل في الوقت الحاضر.

دور اليمين المتطرف واليسار المتطرف في الحياة الديمقراطية:
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: اذا كان الصراع على السلطة محصورا بين يمين الوسط ويسار الوسط فهل يعني ذلك أن وجود اليمين المتطرف واليسار المتطرف في الحياة السياسية هو وجود عبثي؟
والجواب على ذلك أن لهذين التيارين دورين رئيسين:

الدور الأول هو التمثيل الرمزي للفكر الذي يجسده كل منهما، هذا التمثيل الذي يلعب دورا هاما في النضال الفكري للأقلية التي تتبنى هذا الفكر ويعطيها فرصة أكبر في اقناع الأغلبية بصحة هذا الفكر حتى يصبح فكرا وسطيا يوما ما. فمن المهم أن ندرك أن كل فكرة جديدة مخالفة للفكر الراسخ بين الناس تكون في أول ظهورها فكرة مستهجنة لا يؤمن بها سوى قلة من الناس، ولهذا فان الفكرة التي تعد اليوم فكرة يسارية متطرفة لا تقنع سوى الأقلية قد تصبح يوما ما فكرة يسارية معتدلة تقنع الأغلبية البسيطة، واذا ثبت نجاحها بعد ذلك بالتجربة فانها قد تصبح فكرة وسطية تقنع الأغلبية الساحقة. ومن الملاحظ هنا أن بعد اليمين المتطرف واليسار المتطرف عن معركة الصراع على السلطة في الديمقراطيات الناضجة يجعلهما يطرحان أفكارهما بدرجة أكثر صدقا ووضوحا من التيارات الوسطية التي غالبا ما تلجأ لتحوير الأفكار والتلاعب بها طمعا في كسب تأييد أكبر عدد ممكن من الناس والوصول الى السلطة.

أما الدور الثاني فهودخولها أحيانا في ائتلافات حكومية تسمح لها بتطبيق محدود لبعض أفكارها.

هذا هو دور التيارات " المتطرفة" في الأحوال العادية أما في الظروف الحرجة فان اليمين المتطرف غالبا ما يجد نفسه مضطرا لدعم يمين الوسط واليسار المتطرف غالبا ما يجد نفسه مضطرا دعم يسار الوسط. و مثال على ذلك أن القوى اليسارية التقدمية في الولايات المتحدة قد دعمت رالف نادرفي انتخابات عام 2000، ولكن أغلب هذه القوى تحولت الى دعم مرشح الحزب الديمقراطي الممثل ليسار الوسط في الانتخابات الرئاسية عامي 2004 و 2008 لحماية بلادهم –حسب قناعتهم- من عواقب الحروب التي أقحمت ادارة بوش البلاد بها، وكان هذا أحد أهم العوامل التي سهلت من فوز أوباما.

واذا نظرنا الى عالمنا العربي في الوقت الحاضر لوجدنا أننا نعيش مرحلة حرجة الخيار فيها بين تيارين قريبين من الوسطية بمقاييس العالم العربي:
التيار الاسلامي الذي يتبنى فكرة الدولة الدينية وهي فكرة يمينية متطرفة بالمقاييس العالمية معتدلة بالمقاييس العربية.
والتيار المدني العلماني (الى حد ما) الذي يتبنى فكرة الدولة المدنية ولكن بأفكار محافظة بالمقاييس العالمية.

ولما كانت كل القوى المدنية من الوسط وحتى أقصى اليسار تستشعر خطر التيار الاسلامي على الدولة المدنية فان المنطق الواقعي يحتم على هذه القوى جميعا في المرحلة الحالية أن تتوحد " سياسيا" في تيار علماني محافظ يتجنب طرح أي من الأفكار التقدمية كالوحدة العربية والاشتراكية التي لا تحظى في الوقت الراهن بفرصة اقناع الأغلبية. وعلى التيارات السياسية التي تتبنى مثل هذه الأفكار التي تعد يسارية متطرفة بمقاييس العالم العربية أن تقنع أنها لا يمكن أن تكون شريكا في السلطة في الوقت الحاضر وأن هدفها السياسي في المرحلة الحالية ينبغي أن يقتصر على حرية التعبيرالتي يتهددها وصول الاسلاميين الى الحكم. ولو أن القوى المدنية في مصر وصلت الى هذه القناعة فقامت بمثل هذا التحالف السياسي لما فاز الاسلاميون بمعركة الرئاسة.

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل من العدل أن تقبل التيارات التي تعد نفسها تقدمية بتطبيق قناعات الأغلبية حتى لو كانت تعتقد أنها قناعات رجعية؟
الجواب على ذلك هو أن القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية التي يدور الجدل حولها هي قضايا في غاية التعقيد، و لا توجد مرجعية عليا للحقيقة المطلقة تحسم هذا الجدل، ولذلك فان اعتقاد شخص ما أو تيار فكري ما أن فكره يمثل الحقيقة المطلقة هو اعتقاد استبدادي، وتزداد درجة الاستبداد فيه كلما زاد عدد الناس المخالفين له. ان السلطة هي تشريع للقوانين وتنفيذ لها، والقوانين هي مجموعة من الضوابط التي تنظم علاقة الأفراد بعضهم ببعض، ولذلك فان الحل الأكثر واقعية هو أن يقوم على تشريع القوانين وتنفيذها من كان فكره مقنعا لأغلب هؤلاء الأفراد، أما اذا قمنا بسن تشريعات وقوانين يعارضها أغلب الناس فان ذلك سيؤدي بالضرورة الى لجوء الناس الى التحايل على هذه القوانين و خرقها مما يهدد الأمن والاستقرار و يؤدي الى الفساد.
وهذا يقودنا الى نقطة في غاية الأهمية هي العلاقة بين الفكر و السياسة والتمييز بين دور المفكر ودور السياسي.

العلاقة بين الفكر والسياسة:
يخطئ من يعتقد أن للسياسة دورا في الاصلاح الفكري وتغيير معتقدات الناس، فهذا تفكير
شمولي يفتقر للنظرة التحليلية المعمقة، لأن مهمة السياسي هي التعامل مع الواقع وليس تغييره، وقناعات الناس هي جزء من هذا الواقع، أما تغيير العقول والقناعات فمن مهمة المفكر. ومن المهم أن ندرك هنا أنه كلما كان التغيير المطلوب أكثر عمقا كلما طالت الفترة الزمنية اللازمه لاحداث هذا التغيير، فالتغييرات الفكرية العميقة الأثر غالبا ما تتطلب أجيالا عديدة.

ولو أننا طبقنا المنهجية العلمية على الأفكار المتداولة في القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية لوجدنا أن الفكرة اليسارية المتطرفة تلعب دور الفرضية (hypothesis)، والفكرة اليسارية المعتدلة تلعب دور النظرية (theory)، أما الفكرة الوسطية فتلعب دور القانون(law) . وكما أن الأدلة التجريبية هي التي ترتقي بالأطروحة العلمية من مرتبة الفرضية الى مرتبة النظرية ومن ثم الى مرتبة القانون، فان التجارب البشرية المتمثلة بالممارسة السياسية هي التي ترتقي بالفكرة الجديدة المقترحة لحل مشكلة من المشاكل السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية من مرتبة الفكرة اليسارية المتطرفة "المستهجنة" التي لا تقنع سوى قلة قليلة من الناس الى مرتبة الفكرة اليسارية المعتدلة التي يمكن أن تقنع الأغلبية البسيطة ومن ثم الى مرتبة الفكرة الوسطية التي تقنع الأغلبية الساحقة من الناس.

والديمقراطية توفر الفرصة لتجربة الأفكار الجديدة المقترحة ضمن ضوابط أهمها قبول أغلبية الشعب بذلك ومحدودية الأثر التي يكفلها اقتصار التطبيق على الأفكار المتمحورة حول ما هو وسطي بمقاييس ذلك الشعب. فعندما يحظى حزب يساري معتدل كالحزب الاشتراكي الفرنسي مثلا بتأييد الأغلبية لبرنامجه السياسي الذي يضم ضمن بنوده فكرة رفع الضرائب على الأثرياء بنسبة محدودة، فان هذا يعني أن غالبية الشعب الفرنسي قد قبلوا بتجربة جرعة مخففة من الاشتراكية، فاذا أثبتت هذه التجربة نجاحها في معالجة الأزمة الاقتصادية على مدى أكثر من دورة انتخابية، تحولت فكرة رفع الضرائب على الأغنياء من فكرة يسارية معتدلة الى فكرة وسطية، بمعنى أن يمين الوسط في المعارك الانتخابية القادمة لن يجادل في صحة هذه الفكرة وسيبني برنامجه السياسي البديل على قضايا خلافية أخرى. وهذا يعني أن مفهوم الوسطية فيما يتعلق بهذه الفكرة تحديدا يكون قد تحرك خطوة باتجاه اليسار، أي أن النظرية تكون قد تحولت الى قانون بعد ثبوت صحتها بالتجربة. وعلى هذا فان من ينادي بتطبيق فكر يساري متطرف هو كمن ينادي بتطبيق فرضية علمية لم ترتق بعد حتى الى مرتبة النظرية.

ونحن في العالم العربي لا يبدو أننا نفهم هذه العلاقة بين الفكر والسياسة، ولا ندرك أن الفكر أعمق أثرا على المدى البعيد من السياسة، فنجد أن الكثير من المفكرين في العالم العربي منخرطون في العمل السياسي و لا يترددون في قبول المناصب السياسية عندما تعرض عليهم بحجة أن موقع السلطة يمكنهم من تطبيق أفكارهم على أرض الواقع. وهذا الخلط الشمولي بين الفكر والسياسة نادرا ما يحدث عند الأمم الناضجة التي تدرك أهمية الفكرعموما والفكر التقدمي الذي يرسم ملامح المستقبل خصوصا. ظاهرة قبول المفكرين لمناصب سياسية عندنا سببها التفكير الشمولي وقصر النفس و التأثر بمخلفات الفكر القبلي الباحث عن الزعامة
والوجاهة.

وخلاصة القول أن الديمقراطية تتمحور دائما حول ماهو وسطي بمقاييس شعب ما في زمان ما، وفكرة الدولة الدينية المتناقضة تناقضا جوهريا مع اسس النظام الديمقراطي من تعددية وحرية هي فكرة قريبة من الوسطية بمقاييس العالم العربي، وهذا خطر يهدد بنسف الديمقراطية من أساسها، ولهذا فان الوصول الى الديمقراطية في العالم العربي لن يتحقق الا اذا وحدت كل القوى السياسية المؤمنة بفكرة الدولة المدنية جهودها السياسية من أجل الدفاع عن قيم الحرية والتعددية.



#غسان_الشوبكي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العقل العربي والفهم الاستبدادي للديمقراطية


المزيد.....




- فيديو كلاب ضالة في مدرج مطار.. الجزائر أم العراق؟
- الناتو يقرر تزويد أوكرانيا بمزيد من أنظمة الدفاع الجوي
- طهران: لا أضرار عقب الهجوم الإسرائيلي
- آبل تسحب تطبيقات من متجرها الافتراضي بناء على طلب من السلطات ...
- RT ترصد الدمار الذي طال مستشفى الأمل
- نجم فرنسا يأفل في إفريقيا
- البيت الأبيض: توريدات الأسلحة لأوكرانيا ستستأنف فورا بعد مصا ...
- إشكال كبير بين لبنانيين وسوريين في بيروت والجيش اللبناني يتد ...
- تونس.. الزيارة السنوية لكنيس الغريبة في جربة ستكون محدودة بس ...
- مصر.. شقيقتان تحتالان على 1000 فتاة والمبالغ تصل إلى 300 ملي ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - غسان الشوبكي - الديمقراطية والعلمانية بين حركة التاريخ والواقع العربي