أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد شرينة - الطيران















المزيد.....

الطيران


محمد شرينة

الحوار المتمدن-العدد: 3788 - 2012 / 7 / 14 - 17:27
المحور: الادب والفن
    


الوقت قبل العصر بنحو ساعة في شهر آب و اليوم الجمعة ، على غير العادة الحرارة مقبولة ، الشارع مقفر ليس فيه غيري و أنا أسير مستغرقا في التفكير و أشعر براحة عارمة و خفة في جسدي . انعطفت إلى الشارع الفرعي و جسدي يزداد خفة ، قدماي ترتفعان عن أرض الشارع بسهولة و عندما تخبطان الأرض لتصنعا الخطوة القادمة ترتدان بخفة و سهولة شديدة كأنهما خفي قطن ، تابعت سيري ، جسدي كأنه هو الآخر كتلة قطن غير مرصوصة ، نسيم هادئ مفعم بروح باردة و لكنه ليس بارد احتل الفراغ ، لا شيء يتحرك و لكنني أشعر بانتعاشة هوائية روحانية تنفي حر آب ، النسيم الداخل إلى جوفي يملأ ني كلي ، رأسي ، صدري ،ذراعي و حتى ساقي . خطوات قليلة هي التي خطوتها و إذا بالشارع ينتهي و انعطفت من جديد ، يحتاج الراكض بأقصى سرعته إلى ضعفي الزمن الذي استغرقته ليسير هذه المسافة . قدماي تهبطان متهاديتان و بالكاد تمسان الإسفلت الأسود الحار حتى تنعكسا عنه بخفة كلهيبة موقد كسول أو كنفثة ضباب .
كأنما يسبح جسدي في بحر من النور و رذاذ القطن المنفوش و عقلي كذلك هو يسبح في البحر ذاته لم يعد مركزه الذي هو دماغي في جوف عظام رأسي بل ظاهر يلامس جمال الفراغ و لذته ، روحي هي الأخرى متحررة إلى أبعد قدر ؛ بنعومة تملأ جسمي و بشغف تحيطه و تنتشر في الفراغ إلى حيث يتناهى الفراغ الذي لا ينتهي .
عندما نظرت إلى يميني رأيت نافذة غرفة نوم ترسم في سقفها أذرع مروحة ؛ دائرة شعاعية وئيدة اللف و الغزل ، يملأها ضوء باهت بين الأرجواني و البرتقالي لا لمعة له ، تفوح من نافذتها ريح عذوبة مرطبة وبَرَاد ، على سرير يتوسطها امتد جسد أنثى غافية غير نائمة بينما روحها عبأت الفراغ و تدفقت من الشباك ، و ما في الدار من أثر لطيف فؤاد أو نفس رجل يمتص رحيق الأنوثة فلا يتطاير بعيدا . على طرف السرير يتكتل شخص يبدو أنه ذكر.
عقلي أطلق لجام جسدي و حواسي ردت مراسيها إلى البحر أما كياني فمازال يمتلك حس الفهم و ملكة التقدير ، كالمحرك الذي أقلع متعتعا في صباح بارد دارت جملة إدراكي بسلاسة قائلة: نحن لا يكون عندنا غرف نوم محاذية للشارع ، غرف النوم كلها في الطوابق المرتفعة ، فكيف تمس رجلاي الشارع و ترى عيناي غرفة نوم ؟ أ أهلوس ؟
نظرت إلى يساري ثانية فشاهدت نافذة خلفها سرير عليه رجل يضجع و من الشباك يبص ضوءا بين النيلي و السماوي الممزوج بخضرة قاتمة والنور مشبع بروح رجولية لم تجد قلب أنثى يشربها ، و على طرف التخت تكور جسدا بدا كأنه يعود لمرأة.
هذه غرفة نوم هي الأخرى ما في ذلك شك ، مع أنني ثبتت بصري عليها إلا أنها اختفت و شعرت بقدمِّي تمسان الأرض مرة أخرى .
لم تكد تلمس الشارع حتى ارتدت قدماي رافعتان جسدي كريشة إلى الفضاء و بدت نوافذ و شبابيك غرف النوم عارية لعيناي ، أنثى مبللة الجسد دخلت الغرفة للتو من الحمام ، اجتازت الباب مغطاة بمنشفتين العليا لفت شعرها و السفلى دارت حول ظهرها و نهديها و تدلت حتى ملتقى إليتيها بفخذيها ، أبقت الأولى و طوحت على السرير الثانية ، بدأت عيناي تريان صدرها فخصرها ثم ما تحته ، لم يعد يبدو منها سوى ساقيها و عندما دققت النظر يمينا بدت لي واجهة محل ملا بس نسائية و طرقت قدمي الأرض ثم رأيت أسلاك الكهرباء ومن ورائها نافذة و غرفة نوم و أنثى تدعك صدرها المقشر أمام المرآة ، قبل أن تقع عيني على واجهة محل عطور و تمس قدماي الأرض كما تفعل نفحة هواء ناعمة من فم أنثى بوجه رجل و أرتد كورقة إلى أعلى.
لم يعد عندي أدنى شك و لا أقل ريب بأنني أرتفع عدة أمتار فوق أرض الشارع في كل خطوة قبل أن أطأ الأرض ثانية ، يا الله ما هذا ؟ إنني أحلق ! إنني أطير ! ! !
ما شعرت به ليس السعادة ، إنه شعور ، بل شيء لا يمكن أن يوصف آخر ما يمكن أن أتصور من لذة بل أكثر بكثير مما تصورت يوماً ، و سرت ألتذ بكل خطوة ملئ كياتي كما يفعل الطفل بكل مصة يقطفها فمه من بوري الآيس كريم ، تمس قدمي الأرض ثم أرتفع في الفضاء بهدوء و متعة حتى تنجلي لي غرف النوم بنسائها السافرات ثم أهبط متهاديا لتمس قدماي أو واحدة منهما الشارع و أرتد مرتفعا و هكذا.
عندما نظرت إلى جانبي ظننت أنني رأيت صحنا لا قطا و خزانات مياه ، هبطت قليلا ثم عدت للارتفاع ، هذه المرة كانت مسافة هبوطي قصيرة جدا لقد بدأت فعلا أتحرر من ثقلي و أحلق ، بدت لي الصحون اللاقطة دون أدنى شك في مستوى تحليقي بل أخفض منه قليلا ، بالكاد هبطت أمتارا قليلة ثم عدت إلى الصعود بسرعة ، كأنني لم أعد أهبط بل أنا اصعد عاليا باستمرار.
عندما أدركت أنني أصعد دون هبوط ، نظرت أسفل فشاهدت أسطح البنايات و أنا أحلق أعلى منها، شعرت برجفة لذة لا إنها لم تكن شعورا باللذة بل بشيء مبهم لعله الخوف نعم إنه الخوف الذي في أقل من لحظة تحول إلى هلع و رعب ، بدهشة و ذعر دار رأسي نصف دورة باحثا عن أي جسم في مستوى تحليقي يمكنني التمسك به ، فلم أجد ، أنا الآن موجود أعلى من جميع الأبنية في هذا الشارع .
للحظات غبت عن الوعي تماما لقد شل الرعب تفكيري و إدراكي بشكل تام و لما عاد إلي وعي استجمعت كل شجاعتي و درت برأسي مرة تلو المرة و لكن الواقع أن المنظر الذي دفعني إلى الغيبوبة كان صحيحا تماما ، في المستوى الذي أنا فيه الآن لا يوجد أي جسم يمكنني أن أتمسك به ، هل أذهب بعيدا في هذه السماء التي بدت لي قبل هذه اللحظة رائعة أخاذة ؟ هل انطلق إلى لا أين ؟
مع أن الرعب كان كالعاصفة المريعة يميد بسفينة وعيي بعنف قاتل، فقد كان شيء بداخلي يحثني على طلب قشة أتعلق بها ، و رحت أدور برأسي مستطلعا هذه المرة كل المجال المفتوح من جوانبي إلى أبعد مدى ، فشاهدت الأبنية العالية الوحيدة في البلدة ، إنها تقع إلى أمامي و يميني و على بعد نحو خمسمائة متر و لا يزال مستوى طيراني أخفض منها ، أما إلى أمامي مباشرة كانت تنتصب مئذنة المسجد الوحيد في الحي على بعد نحو مائتي متر ، هي الأخرى ما تزال ترتفع في السماء إلى أعلى من مستوى تحليقي و لكن الأبنية العالية أعلى من المئذنة ، بسرعة فكرت أنني لو توجهت باتجاه المئذنة فقد أكون قد ارتفعت إلى أعلى من مستواها عندما أصل إليها ، فما أزال أرتفع ، بعد أن قطعت مسافة قصيرة باتجاه الأبنية فكرت ، المسلفة إليها أبعد من المسافة إلى المئذنة ماذا لو أنني ارتفعت أعلى منها قبل وصولي إليها نظرت إلى المئذنة ، لقد أصبحت أقرب مما كانت ، غيرت و جهتي و اندفعت صوب المئذنة بينما كان عقلي تتقاذفه مشاعر و أفكار متضاربة ، أحسست بخواء يسيطر على كياني .
أنا أقترب من المئذنة و أرتفع في الجو ، أصبحت المئذنة قريبة جدا ، ركزت نظري عليها كمن يصوب بندقية تشبث بها و شدها إلى جسده بقوة ، حتى كأن مسقط نظري عليها جزء مني ، غامت عيناي لعل ذلك من شدة التحديق ، لم أعد أرى شيئا ، بصعوبة ارتفعت يداي لتفركا عيناي و لكن مازلت لا أرى شيئا ، لا شعوريا خفضت رأسي فإذا بي أمر من فوق المئذنة "إنها بادية بوضوح تحتي ، فركت عيني و دققت ، إنها هناك ، أغمضتهما ثم فتحتهما و حدقت : نعم المئذنة تحتي مباشرة ، التفت إلى اليمين فظهرت الأبنية العالية بعيدة إلى يميني و خلفي و في مستوى تحليقي ذاته تقريبا ، انخطف نظري إلى المئذنة فرأيتها خلفي و أخفض مني بكثير ،عاد بصري إلى الأبنية فبدت سطوحها واضحة لي ، دون أي تركيز ارتد بصري نحو السماء و قد سرى خدر مؤلم في كل جسدي حتى ملأ الفراغ قلبي و نفسي و في اللحظة التي كان الشلل يدب إلى إدراكي تمنيت أن لو فقدت وعيي إلى غير رجعة ، كل جزء مني جسدي ، عقلي ، قلبي و روحي كانت جميعها ترتج رجا من الهلع .
كانت أنفاسي تتلاحق بشكل جنوني ، بذعر تلفت يمينا ثم شمالا ثم يمينا فلم أر إلا الظلام ، خفضت رأسي لأرى أين أصبحت ، حدقتي عيني توسعتا و تحت بصيص ضوء خافت رأيت يداي تعصران بقوة شيئا تتمسكان به ،رفعتهما فارتفعتا مع الشيء الذي تتمسكان به ، فذعرت و بحركة لا إرادية أرخيت يداي ، تحت الضوء الخافت بدت لي ألوان متداخلة مألوفة ، ازداد توسع حدقتي عيني المركزتين على يداي و شاهدت مساحة تمتد من حولهما ، أدرت رأسي فبدا إلى يميني تماما و في متناول يدي شيء يشع نورا خفيفا ، بدون تردد وضعت يدي عليه لأمسكه فانفجر ضوء باهر ، انغلقت عيناي لجزء من لحظة ثم انفتحتا ، تضيقت حدقتيهما و بدا الضوء يغطي الأشياء الكثيرة من حولي التي بدت مشوشة و لكنها مألوفة ، أغمضت عيناي ثم فتحتهما المرة تلو الأخرى .
تنفست بعمق و انسدلت يداي بعد أن انفردت قبضتيهما ، ما أزال أتنفس بسرعة ، حولت نظري عن مصباح الضوء المثبت في جدار غرفة النوم ، كنت جالسا في سريري ، أرخيت جسدي و تركت ظهري يستند إلى الخلف عندها بدأ دماغي يعود إلى العمل .
مر في مخيلتي شريط أحلام اليقظة التي كانت تدور برأسي ساعة كنت مستلق في سريري قبل النوم و كيف تخيلت نفسي أرتفع فوق الشارع و أحلق حتى تبدو الأبنية و المآذن تحتي ثم أنطلق محلقا فوق الجبال قبل أن أبحر بين الكواكب و النجوم .



#محمد_شرينة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بستان التفاح والإبداع البشري
- الروح
- التوحيد بين الايمان والالحاد -سر التثليث-
- المفقود
- دين التقدم
- الإعجاز بين الفهم واللافهم
- الإله كصديق
- تحول أسلوب السلطة في الإسلام بعد فتح مكة وتأثيره على الإسلام
- سأغفر لله
- قيمة الدين بشكله القديم
- السقوط
- هل هناك عقلانية زائدة؟
- الأشراف والتهجين
- الايمان الأصيل والإلحاد وجهان لحالة واحدة
- رب شرير أم إسلام قديم؟
- الرغبة والفكر
- حلم مزعج وحذاء
- لماذا يغيب الابداع والاختراع في العالم العربي؟ ( الإلحاد كحا ...
- أسأل نفسي، متى مت؟
- القاعدة السمائية الثالثة


المزيد.....




- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...
- رسميًا.. جدول امتحانات الدبلومات الفنية 2024 لجميع التخصصات ...
- بعد إصابتها بمرض عصبي نادر.. سيلين ديون: لا أعرف متى سأعود إ ...
- مصر.. الفنان أحمد عبد العزيز يفاجئ شابا بعد فيديو مثير للجدل ...
- الأطفال هتستمتع.. تردد قناة تنة ورنة 2024 على نايل سات وتابع ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد شرينة - الطيران