أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية - خليل كلفت - ثورة 25 يناير 2011 فى النصف الأول من 2012 - القسم الثانى















المزيد.....



ثورة 25 يناير 2011 فى النصف الأول من 2012 - القسم الثانى


خليل كلفت

الحوار المتمدن-العدد: 3778 - 2012 / 7 / 4 - 08:55
المحور: الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية
    



محتويات الكتاب

مقدمة ...........................................................................................
القسم الأول:
1: الثورة المصرية بين ربيع الأمل وخريف اليأس (28 ديسمبر 2011) .................................
2: معادلات سياسية تحكم الثورة المصرية الراهنة (16 يناير 2012) ...................................
3: الثورة المصرية وآفاق الديمقراطية الشعبية من أسفل (5 فبراير 2012) ................................
(افتتاحية الحوار المفتوح فى الحوار المتمدن من 12 فبراير إلى 26 فبراير 2012) ........................
4: ثورة 25 يناير: سؤال السبب (ملخص حديث مُعَدّ للإلقاء فى مؤتمر بوزارة الثقافة عن الثورة) (8 مارس 2012) ...........................................................................................
5: سباق رئاسى محموم فى مصر بين مرشحين محتملين على رئيس محتمل لجمهورية غير محتملة (16 مارس 2012) .....................................................................................
6: طبيعة وآفاق الثورة المصرية (ملخص لافتتاحية الحوار المفتوح) (17 مارس 2012) .................
7: الانتخابات الرئاسية واحتمالات الصراع بين المجلس العسكرى والإخوان المسلمين (9 أپريل 2012)
8: من سؤال الأسباب إلى سؤال النتائج (كلمة أُلقيت فى 14 أپريل 2012 فى مؤتمر الثورة والثقافة بالمجلس الأعلى للثقافة، مصر) (10 أپريل 2012) ............................................................

القسم الثانى:

9: المهدى الرئاسى المنتظر فى مصر! ..............................................................
10: شعار "ثورتنا برلمان وميدان" مُخَدِّر جديد لقوى الثورة! ............................................
11: أسطورة الفترة الانتقالية وحقائق المسار الفعلى للتطورات فى مصر .................................
12: هاجس الحرب الأهلية فى مصر ................................................................
13: مأتم ديمقراطية المجلس العسكرى والإخوان المسلمين فجر الديمقراطية الشعبية فى مصر ............
14: مع متاهات أرقام الانتخابات فى مصر ...........................................................
15: محاكمة ثورية للرئيس مبارك وأسرته ورجاله وإلغاء الانتخابات الرئاسية الوشيكة وإسقاط الرئيس القادم ..
16: كلمات فى عشية جولة إعادة الانتخابات الرئاسية فى مصر .......................................
17: الانقلاب العسكرى المكمّل ......................................................................
18: هل يتمخض الربيع العربى عن تأسيس دول إسلامية؟ ............................................



























9
المهدى الرئاسى المنتظر فى مصر!
1: كانت الثورة تحتاج موضوعيًّا، بين أشياء أخرى، إلى دستور جديد ديمقراطى يرتكز على جمهورية پرلمانية على أساس الفصل بين السلطات مع استقلال القضاء والتعددية الحزبية والنقابية والثقافية مع إلغاء قانون الطوارئ الاستبدادى الحالى لصالح سن قانون طوارئ جديد عادى؛ وقد أفشل تحالف المجلس العسكرى والإسلام السياسى هذا الاتجاه الطبيعى الذى كان يمكن أن يفيد الثورة. ومنذ بدايات الثورة اغتصب السلطة التشريعية وسلطة رئيس الجمهورية انقلابٌ عسكرى قام به المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية لإنقاذ النظام الحاكم بدون آل مبارك والطبقة الرأسمالية التابعة التى تملك بصورة مباشرة وتحكم بصورة غير مباشرة فى إطار حكم الشخص الذى يسيطر على الحزب الوطنى الحاكم قولا المحكوم فعلا، والپرلمان الحاكم المحكوم، ومختلف المؤسسات والأجهزة الحاكمة المحكومة، وكل الطبقة الرأسمالية الحاكمة المحكومة. ومنذ ذلك الحين فرض الانقلاب العسكرى مسارا محددا لتطور الأحداث فى مصر متحايلا على مطالب قوى الثورة: إلغاء دستور 1971 مع العمل به من خلال تعديلاته والإعلان الدستورى الذى يقوم عليه، والاعتماد سياسيا على التحالف مع جماعة الإخوان المسلمين بوجه خاص والإسلام السياسى بوجه عام، والشروع فى إقامة مؤسسات الدولة وبالأحرى إحيائها بقوى سياسية تقوم على التحالف العسكرى الإسلامى، وقمع القوى الحقيقية للثورة فى مختلف مراحلها وموجاتها أمنيا وأيديولوچيًّا وإعلاميًّا فى سياق ضربات ومذابح تصفية الثورة. وفى هذا السياق لم يكن التحالف العسكرى الإسلامى قائما على الحكم المشترك أو تقاسم السلطة ولم يكن يتجه إلى ذلك رغم ما كان يبدو على السطح بل كان يقوم على ذيلية الإخوان المسلمين والسلفيِّين الوهابيِّين ومختلف أحزابهم. وقد ارتضت قوى الإسلام السياسى بهذه الذيلية المُذِلَّة باعتبارها شرطا للحصول على مكاسب سياسية مهما تكن محدودة ومهما يكن ثمنها باهظا وباعتبارها فى المقام الأول مفتاحا لا بديل له لاكتساب الشرعية لدى النظام الجديد ولتفادى التعرُّض للضربات التى أخذ المجلس العسكرى يوجِّهها إلى كل احتجاج وكل محتجّ. وفى هذا السياق جرت انتخابات پرلمانية مثيرة للجدل (وجرى إعلانها مع ذلك انتخابات نزيهة!) جاءت بأغلبية ساحقة من الإخوان والسلفيِّين فى المجلسين فى أواخر عام 2011 وأوائل عام 2012. ومع أن سلطات المجلس العسكرى غير دستورية ورغم أن الانتخابات الپرلمانية كانت غير دستورية فقد هنَّأ كلٌّ من المجلس العسكرى والإسلام السياسى نفسه بهذا "العُرْس الديمقراطى" الذى أريد له أن يقوم على جثة الثورة وقواها الحقيقية. ولم يكن أىٌّ من المجلس العسكرى وقيادات الإسلام السياسى يجهل الطبيعة المحدودة والمؤقتة لهذا التحالف ولا طبيعته الانتهازية من جانب الطرفين ولا حقيقة أن كل طرف منهما يُخْفِى خنجرا مسموما وراء ظهره للانقضاض على الطرف الآخر، رغم انتمائهما المشترك إلى نفس الطبقة الرأسمالية التابعة للإمپريالية. ولم يكن أىٌّ منهما يجهل أنه لا مناص من أن تأتى ساعة الحقيقة ذات يوم بالتعارض والتنازع والصراع والصدام بينهما. وكان الثمن الذى دفعه الإسلام السياسى للحصول على هذا الپرلمان وعلى أىّ مكسب محتمل آخر باهظا حقا فقد كان عليه أن يقف ضد نضالات الثورة على طول الخط، بدافع معاداته للثورة الشعبية من ناحية وبدافع مقتضيات ترسيخ تحالفه مع المجلس العسكرى رغبةً فى الجزرة ورهبةً من العصا، فظل يخسر قلب الشعب ويفوز بازدراء قوى الثورة.
2: واتضح لقوى الإسلام السياسى من إخوان وسلفيِّين أن الپرلمان الذى فازوا بمجلسيه لا قيمة له مما أفقدهم هم أنفسهم أىّ قيمة حقيقية فى نظر قطاعات واسعة من الشعب وقوى الثورة. ذلك أن أداءهم الپرلمانى كان مهزلة حقيقية والأهم أنه ظل پرلمانا عاجزا لا تصدر عنه قوانين أو قرارات بحجة أن المجلس العسكرى لم يسمح له بممارسة حقه الطبيعى؛ بدلا من التشريع بصرف النظر عن إقرار تشريعاتهم من المجلس العسكرى، وبدلا على سبيل المثال من سحب الثقة من حكومة الجنزورى بصرف النظر عن إقرار المجلس العسكرى لهذا الإجراء. وكان هذا التخاذل بدافع الرغبة فى الحفاظ على التحالف العسكرى الإسلامى الذى ربما كان يمكن أن يحقق لهم ذات يوم حلمهم بتشكيل حكومة تحلّ محلّ حكومة الجنزورى. لقد حصل الإخوان والسلفيون بفضل اكتساحهم المثير للجدل فى الانتخابات (محققين بذلك سابقة تاريخية فى الانتخابات المصرية على كل حال) على أغلبية فى پرلمان عاجز عن القيام بوظيفته، كما أنها أغلبية عاجزة عن تشكيل حكومة بحجة أن جمهورية مصر رئاسية، كما أن سيف ديموقليس المتمثل فى حكمٍ محتملٍ للمحكمة الدستورية العليا بعدم دستورية مادة فى قانون انتخاب الپرلمان صار مُسْلَطًا فوق رأس الپرلمان مهدِّدا بحله. وهنا قام الإخوان والسلفيون بمحاولة مستميتة لتشكيل يسيطرون عليه تماما للجنة تأسيس الدستور وجرى إحباط هذه المحاولة أيضا. ومع اقتراب الانتخابات الرئاسية واتضاح أنهم لم يقبضوا إلا على سراب مراوغ ليس إلا، حيث لم تَعُدْ ذيليتهم تجدى فتيلا أحسوا بأن نوعا من إثبات أنهم ليسوا جثة هامدة قد يكون مفيدا فى إقناع المجلس العسكرى بضرورة تقديم تنازل له وزنه كثمن مستحق لتحالفهم المثمر معه ضد الثورة. وفى هذا السياق جاء ترشيح خيرت الشاطر ثم المرشح الدوبلير محمد مرسى لرئاسة الجمهورية، وقوبل هذا التصعيد بتصعيد آخر بترشيح اللواء عمر سليمان وعدم الاكتفاء بترشيح الفريق أحمد شفيق، ثم بتصعيد الاستبعادات التى أطاحت بكل من خيرت الشاطر و حازم أبو إسماعيل ومعهما ﺑاللواء عمر سليمان ضمن عشرة من المستبعدين لأسباب متنوعة.
3: وصار التنافس الانتخابى محصورا بين عدد قليل من الأفراد: عمرو موسى، و عبد المنعم أبو الفتوح، و محمد مرسى، و الفريق أحمد شفيق. وهناك بالطبع مرشحون آخرون لا يمكن اعتبارهم منافسين جدِّيِّين أو حتى جادِّين على رئاسة الجمهورية. وقد تتغير قائمة الثلاثة عشر مرشحا الحاليِّين لسبب أو لآخر. وفى حالة بقاء المستبعدين مستبعدين، فإن أىّ تنازل من مرشح لآخر لن يؤثر على القائمة القصيرة للمتنافسين الرئيسيِّين باستثناء تنازلٍ من الصعب تصوره أو توقعه على كل حال من أحد المرشحيْن الإسلاميَّيْن للآخر. والطرفان السياسيان الفاعلان اللذان سيكون لهما دور كبير فى فوز واحد من هؤلاء الأربعة أو بالأصح الثلاثة لأن حظ أحمد شفيق لن يكون كبيرا بحكم حدة الاعتراض الشعبى على ترشيح الرموز الأكثر تمثيلا لنظام مبارك. ولا مناص هنا من تشتيت أصوات الإسلام السياسى بين أبو الفتوح و مرسى مما يضعفهما أمام عمرو موسى. وسواء أكان الفائز بالرئاسة أبو الفتوح أم مرسى أم موسى فإن كل واحد منهم جاهز تماما (وإنْ بدرجات متفاوتة) لأن يكون الرئيس "الأراجوز" المنتظر، بعيدا عن أسطورة المهدى المنتظر.
4: والحقيقة أن الرغبة فى التخلص من حكم المجلس العسكرى جعلت من تسليم السلطات الحالية لهذا المجلس إلى الرئيس المنتخب المنتظر غاية المراد من رب العباد. فبانتخاب الرئيس العتيد سينتهى حكم المجلس العسكرى ويبدأ عهد جديد يتميز بدولة مدنية وفقا لما تصوِّره لنا هذه الأسطورة التى انتشرت أوهامُها بين قطاعات من قوى الثورة انتشار النار فى الهشيم. إذن سيأتى هذا المهدى المنتظر ليملأ أرض مصر عدلا بعد أن امتلأت جورا وظلما وفسادا واستبدادا، متحررا بقدرة قادر من سيطرة المجلس العسكرى! غير أن هذه التصورات الساذجة لم تتوقع كابوس حكم المجلس العسكرى من وراء الكواليس. وبالطبع فإنه لا يمكن لأحد أن يحبذ كابوس الكوليس (مفرد الكواليس) لحكم العسكر، غير أن كثيرين لا يدركون أن هذا الكابوس هو النتيجة الوحيدة الذى لا مناص منها للانتخابات الرئاسية الوشيكة. فالرئيس المهدى المنتظر ليس فى الحقيقة سوى الرئيس "الأراجوز" المنتظر! وهو رئيس أراجوز أو دلدول أو تابع للمجلس العسكرى بكامل إرادته وبكل رغبته لأنه قَبِلَ أن يكون رئيسا فى ظل السيطرة الفعلية للمجلس العسكرى بحكم علاقات القوة الفعلية. فإذا جاء أبو الفتوح أو مرسى رئيسا فلن يخرج أىٌّ منهما عن القاعدة الذهبية التى أرساها الإخوان المسلمون والسلفيون الوهابيون والتى تتمثل فى إطاعة أولى الأمر منهم حتى بهذا الشكل المقلوب المتمثل فى خضوع الرئيس للمرءوس، وإذا جاء موسى (وربما كان هذا هو الأرجح) فإن تجربته مع مبارك تؤهله تماما للامتثال للمجلس العسكرى الذى هو ولىّ النِّعَم!
5: ومن المؤكد أن ساعة الصراع بين المجلس العسكرى والإسلام السياسى قد حلَّتْ. ورغم تحرشات ومناورات ومناوشات ومشاجرات قد ينطوى عليها هذا الصراع فإن من الخطأ أن نبالغ فى تقدير مستوياته. وقد نرى طرف الإسلام السياسى يهوهو ولا يعضّ وقد تكفى التحذيرات والعين الحمراء وهزّ العصا من جانب المجلس العسكرى لإجبار الإسلام السياسى على أن يلعق جراحه بهدوء بدلا من التصعيد الذى لن يكون فى صالحه. ذلك أن حسابات كل صدام أو صراع أو تصعيد إنما تنصبّ فى المحل الأول على الوضع الفعلى لعلاقات القوة بين الأطراف المتصارعة، وقد خسر الإسلام السياسى بسبب سلوكه السياسى المعادى لنضالات الثورة على طول الخط طوال أكثر من عام ثقة الشعب وقلبه واحترامه، كما تدفع التقديرات الخاطئة لقياداته من وجهة نظر كوادره المتوسطة وقواعده إلى احتدام التناقضات والصراعات داخل مختلف فصائله، وبين الأجيال، وحتى فيما بين بعض الفصائل، الأمر الذى يؤدى إلى إضعاف استعداد الإسلام السياسى لتجربة حظه فى مواجهة مع نظام المجلس العسكرى، كما أن الإسلام السياسى بعيد تماما بحكم تاريخه وتكوينه السيكولوچى عن منطق المواجهات الجماهيرية المفتوحة مع أىّ نظام طوال أكثر من ثمانين عاما.
6: وفى سياق احتمال اضطرار الإسلام السياسى إلى درجة من إضفاء طابع مسرحى أو درامى على قدر من المواجهة مع المجلس العسكرى لحفظ ماء الوجه، وتخفيف وقع الإهانة على أعضاء أحزابه وجماعاته وأنصارها، وانحناءً أمام عاصفة ضغط قواعده وشبابه، يمكن أن نشهد قدرا محسوبا بعناية من التصعيد من جانب الإسلام السياسى، ويدفعه هذا القدر المحسوب جيدا من التصعيد إلى محاولة استمالة القوى الثورية والقوى السياسية بزعم العودة إلى صفوف الثورة واليد الواحدة المزعومة التى تجمعه مع الثورة، على أن هذه اللعبة المكشوفة لا ينبغى أن تنطلى على القوى الثورية التى تدرك أن الإسلام السياسى سوف يبيعها عند أول منعطف وأنه يستخدمها تماما مثلما يستخدمه المجلس العسكرى. ويتمثل الموقف المبدئى بطبيعة الحال فى الرفض الحاسم لكل من دولة المخابرات بقيادة المجلس العسكرى، والدولة الدينية أو الجمهورية الإسلامية بقيادة الإخوان المسلمين.
7: ولا مناص من استنتاج أن ما ينبغى أن نواجهه طوال أعوام قادمة هو حكم المجلس العسكرى ذاته ولن يُلْغِى هذا الواقع كونُهُ يحكم من وراء حجاب. وينبغى أن يكون أساس مواقفنا ليس ما هو قانونىّ أو رسمىّ بل ما هو فعلىّ. ومن هنا فإن التركيز على الانتخابات الپرلمانية والانتخابات الرئاسية وكتابة الدستور على حساب التركيز على الفعل الثورى الذى ينصبّ على تحقيق الهدف المنطقى للثورة أىْ انتزاع الديمقراطية الشعبية من أسفل هو الذى يمثل الخطر الحقيقى على الثورة ويهدد بالمساعدة على تصفيتها. وهو هدف لا يمكن أن يحققه صندوق الانتخابات الپرلمانية أو الرئاسية ولا إعداد الدستور. لماذا؟ لأن الدستور الذى سيأتى به المسار الذى فرضه المجلس العسكرى والإخوان المسلمون على التطورات منذ الثورة إلى الآن سيكون أسوأ من دستور 1971، تماما كما أن الپرلمان الذى أتى به هذا المسار ذاته لم يكن أفضل من پرلمانات الحزب الوطنى والاتحاد الاشتراكى والاتحاد القومى؛ فلا خيار فى الشر. وينطبق الشيء ذاته على رئيس الجمهورية القادم. ومن حقنا أن نتساءل: ماذا جنت الثورة وقواها الحقيقية من المشاركة فى الانتخابات الپرلمانية التى جاءت بهذا الپرلمان الإخوانى السلفى بمجلسيه؟ وماذا ستجنى الثورة وقواها الحقيقية من المشاركة فى الانتخابات الرئاسية التى ستأتى برجل من رجال حسنى مبارك وخاضع لسيطرة مجلسه العسكرى هو عمرو موسى، أو برجل من رَجُلَىْ الإخوان المسلمين المتنافسيْن فيما بينهما ومع باقى المرشحين؟ وبالطبع فإن المسار الذى أرسى أسسه المجلس العسكرى والإخوان المسلمون والذى يهدِّد الآن بالإطاحة بأحد طرفيْه أىْ بالإخوان المسلمين سيتواصل وسرعان ما سيضعنا أمام تحقيق كل ما نخشاه: هذا الپرلمان أو پرلمان أفضل منه قليلا، مع دستور أسوأ من دستور 1971، ورئيس ضعيف خاضع لسيد أعلى من الناحية الفعلية رغم كل سلطاته الرسمية. ففيم يفيدنا مثل هذا التطور؟ قد يقول قائل إن حكم المجلس العسكرى سيصير فعليا فقط بعد أن ظل فعليا ورسميا، وقد يكون هذا مكسبا مهما يكن ضئيلا للغاية. غير أن التخلص من الجانب الرسمى لحكم المجلس العسكرى ليس سوى تحصيل حاصل ولا يحتاج إلى حشر قوى الثورة فى حظيرة الانتخابات الرئاسية، فالمجلس العسكرى ذاته هو صاحب نظرية تسليم السلطة لرئيس الجمهورية المنتخب وهو ماضٍ فى تطبيق نظريته مهما حدث من قبل أو يحدث من بعد من تعرُّجات محدودة، لأنه يفضِّل فى الحقيقة الحكم من وراء الكواليس.
8: أما ما تحتاج إليه قوى الثورة حقا لكىْ تمضى فى طريق مواصلة الثورة وتحقيق هدفها الكبير المتمثل فى الديمقراطية الشعبية من أسفل وما يمكن أن يتفرع عنه وينبنى عليه من أهداف لاحقة فهو على وجه التحديد مقاومة السيطرة "الفعلية" للمجلس العسكرى سواء بصورة مباشرة ورسمية كما هو الحال الآن أو بصورة غير مباشرة من وراء الكواليس بعد ما يسمى بتسليم السلطة للرئيس المنتخب. والانتخابات، پرلمانية كانت أم رئاسية، لا تُلْغى هذه السيطرة الفعلية ولا تتصدَّى لها ولا تقلل منها؛ وما يتصدَّى حقا لهذه السلطة الفعلية إنما يتمثل فى الفعل الثورى بكل أشكاله الكبيرة والصغيرة التى تندمج وتتكامل على مرّ الزمن لتشق طريقا أوسع للثورة ولترسم خريطة جديدة للحياة السياسية الاجتماعية فى مصر بكل نتائجها. وستظل أهداف دستور أفضل، وپرلمان أفضل، ورئيس جمهورية أفضل، وغير ذلك، جوانب مهمة فى النضال الثورى اللاحق باعتبارها من ثمار فاعلية الديمقراطية الشعبية من أسفل. وهذا هو ما ينبغى أن نركِّز عليه بدلا من أن نركِّز مع الأسطورة على المهدى المنتظر أو أن نبقى مع صامويل بيكيت "فى انتظار جودو".
18 أپريل 2012


10
شعار "ثورتنا برلمان وميدان"
مُخَدِّر جديد لقوى الثورة!
صدرت، وفقا لما جاء فى بوابة الأهرام فى 19 أپريل 2012، عن عدد من الحركات والأحزاب والقوى "الثورية" وثيقة هدفها إحياء الثورة انطلاقا من مليونية تدعو إليها فى 20 أپريل 2012. ووقع على الوثيقة وفقا للمصدر ذاته "حركة مصرنا، حركة 6 أبريل، شباب من أجل العدالة والحرية، حركة حقنا (حملة دعم البرادعى)، ائتلاف شباب الثورة، الجمعية الوطنية للتغيير، حملة دعم الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح. ومن الأحزاب السياسية: حزب الوسط، حزب التيار المصرى، حزب التحالف الشعبى الاشتراكى، حزب مصر الحرية، حزب العدل". ومن أبرز المشاركين فى هذه المليونيات (وفقا لجريدة الأهرام فى 20 أپريل 2012): جماعة الإخوان المسلمين، والدعوة السلفية، والجماعة الإسلامية، والجبهة السلفية، وجبهة دستور لكل المصريين، وحركة 6 أبريل، وحركة كفاية، والجمعية الوطنية للتغيير، وائتلاف شباب الثورة، واتحاد شباب الثورة، وحركة الاشتراكيون الثوريون، فضلا عن أحزاب: الحرية والعدالة، والوفد، والتجمع، والمصرى الديمقراطى الاجتماعى، والجبهة، وغد الثورة، والنور، والأصالة، والفضيلة.
وبين الشعارات الرئيسية التى تطرحها الوثيقة لمليونية اليوم التالى لإصدارها شعار (لا دستور تحت حكم العسكر)، وشعار "ثورتنا برلمان وميدان". والهدف المنشود من وراء شعار "ثورتنا برلمان وميدان" هو تكامل الپرلمان والميدان للجمع بين تحقيق أهداف الثورة وبناء مؤسسات الدولة فى سبيل العبور "بالوطن إلى بر الأمان" بعيدا عن لغة "التخوين". ويرمى شعار (لا دستور تحت حكم العسكر) إلى الفصل بين إعداد الدستور وانتخاب رئيس الجمهورية بحيث يسبق انتخاب الرئيس وضع الدستور، حيث ينبغى أن يأخذ الدستور "وقتا كافيا لإجراء نقاش مجتمعى جاد" وذلك "للخروج بدستور يعبر عن كل المصريين". وفيما يتعلق بانتخاب رئيس الجمهورية فإنه ينبغى أن يكون، وفقا للوثيقة، من خلال "تنفيذ الإرادة الشعبية التى أقرت وفق استفتاء مارس 2011 بأن يتم إجراء الانتخابات الرئاسية ثم الدستور". كما تطالب الوثيقة بالعمل على "خوض انتخابات الرئاسة بمرشح واحد للثورة يتم الاصطفاف خلفه فى هذه المرحلة الأخيرة من الثورة والابتعاد عن تشتيت الأصوات بين المرشحين، ومراقبة الانتخابات الرئاسية القادمة ومنع كل محاولات التزوير والاستعداد للتصعيد على الأرض حال حدوث تلاعب بنتائج الانتخابات أو عرقلة إتمامها". وتدعو الوثيقة "كل القوى الوطنية" إلى "الوقوف صفا واحدا من أجل إنهاء المرحلة الانتقالية و تسليم السلطة إلى جهات مدنية تستند إلى الإرادة الشعبية الحرة"، وتتضمن مبادرات والتزامات لإحياء الثورة منها "ضرورة العمل جنبا إلى جنب مع البرلمان لتشكيل جمعية تأسيسية وفق معايير واضحة وموضوعية تتوافق عليها القوى الوطنية وتتمثل فيها كل أطياف المجتمع للخروج بدستور إلخ.". كما تدعو إلى "تشكيل جبهة ثورية تنسق لتفعيل الزخم الثورى وتحريكه على الأرض حتى الانتهاء من عملية التحول الديمقراطى وتسليم السلطة مع الحفاظ الكامل على سلمية الثورة".
وتؤكد الوثيقة على "ضرورة الضغط لمحاكمة رموز النظام السابق وتطهير مؤسسات الدولة من الفساد وأهله ومن كل أركان النظام السابق، وتحقيق معايير العدالة الانتقالية الناجزة مؤكدة على أن هذا أحد أهم حقوق الشهداء ويتمثل بالقصاص ممن أفسدوا الحياة السياسية وانتهكوا حرمات الوطن وسرقوا خيراته واختتموا فسادهم بقتل خيرة أبنائه من شهداء ثورة 25 يناير.
ولا يبقى بعد ذلك سوى التشديد على ضرورة الاعتذار. فقد وجهت الوثيقة الاعتذار للشهداء "لعدم الحفاظ على روح ثورتنا وقوتنا التى تمثلت فى وحدتنا"، و"هذه الوحدة هى الضامن الأول لتحقيق أهداف الثورة والحفاظ على مكتسباتها والقضاء على بقايا نظام مبارك".
وقد كشف ائتلاف شباب الثورة وحركة شباب 6 إبريل عن رفض جماعة الإخوان المسلمون التوقيع على الوثيقة بسبب اعتراضها على مبادرتىْ الرئيس قبل الدستور والمرشح الثورى الواحد بالإضافة إلى رفضها وتحفظها على صيغة الاعتذار الجماعى للثورة وشهدائها.
*****
1: رغم رفض الإخوان التوقيع على الوثيقة إلا أن روح الوثيقة هو التصالح مع الإخوان، و"استعادة" الوحدة معهم، و"تشكيل جمعية تأسيسية" معهم فى شخص پرلمانهم لإعداد الدستور، و"تشكيل جبهة ثورية" معهم لتأمين "عملية التحول الديمقراطى وتسليم السلطة". وينصبّ الاعتراض المنسوب إلى الإخوان على الوثيقة هنا على ثلاثة أشياء: الرئيس قبل الدستور، و"خوض انتخابات الرئاسة بمرشح واحد للثورة"، والاعتذار للشهداء "لعدم الحفاظ على روح ثورتنا وقوتنا التى تمثلت فى وحدتنا". وربما كان رفض الإخوان للوثيقة رغم موقفها فوق الإيجابى منهم يرجع إلى رؤية فحواها أن انتخاب رئيس للجمهورية قد يقوِّى المجلس العسكرى بإضافة صلاحيات رئيس جمهورية تحت سيطرته إلى قوته بحيث تكون له اليد العليا فى كتابة الدستور، ويبدو أنهم يفضلون الدستور أولا لمثل هذا السبب. وربما كانوا يرفضون المرشح الرئاسى الواحد مع بقية القوى السياسية فى مواجهة مرشح المجلس العسكرى للرئاسة أملا فى فوز مرشحهم بدلا من التنازلات التى قد تجعل المرشح الواحد غير مرشحهم. أما رفض الاعتذار فلا شك فى أنهم لا يريدون الاعتراف بخيانتهم للثورة من موقعهم كثورة مضادة مع أن الاعتذار المطروح شامل لكل القوى السياسية فلا يقتصر على الإخوان المسلمين والإسلام السياسى.
2: والحقيقة أننا إزاء أخطاء فظيعة جديدة توشك بعض قيادات الثورة على ارتكابها أو هى ترتكبها الآن بالفعل. وكما نعرف جميعا فقد رفضت قوى سياسية تطرح التصالح والوحدة والجبهة مع الإخوان المسلمين هنا المشاركة فى "مليونية" الجمعة السابقة 13 أپريل 2012، احتجاجا على السلوك السياسى المعادى للثورة طوال أكثر من عام. وبعد هذه الأيام القليلة تعكس هذه القوى الاتجاه مائة وثمانين درجة لتفاجئنا بموقف جديد يمكن اختصار حجته الأساسية فيما يلى: بدأت قطيعةٌ بلغت نقطة اللاعودة بين المجلس العسكرى والإخوان المسلمين على رأس الإسلام السياسى، ولا بد من استثمار هذه القطيعة، ولاستثمارها ضد المجلس العسكرى بوصفه من "بقايا نظام مبارك" ينبغى أن تحلّ محل التحالف العسكرى الإخوانى وحدة تستعيد الإخوان المسلمين إلى جبهة للقوى الوطنية للنضال ضد نظام رجال مبارك. والسؤال المهم هنا هو: هل تغيرت طبيعة الإخوان المسلمين فانتقلوا من الثورة المضادة إلى الثورة، ومن تمثيل قطاعات من الرأسمالية المصرية التابعة للإمپريالية إلى تمثيل الشعب والثورة، لمجرد أن نزاعا نشب بينهم وبين المجلس العسكرى واتضح لهم أن هذا المجلس باع لهم أوهاما تنقشع الآن بشدة؟
3: ويرجع هذا الخطأ الفظيع الذى ترتكبه القوى السياسية المعنية إلى عجزها الفكرى عن تصوُّر التناقضات داخل طبقة اجتماعية واحدة وكذلك لحدود وأسقف تلك التناقضات وبالتالى ضرورة الاستفادة منها ولكنْ دون الدخول فى تحالف مع طرف منها ضد آخر حتى لا يجرى توظيفنا من جانب أىٍّ من الطرفين لتحقيق مصالحه على حسابنا فى نهاية المطاف. وشعار "ثورتنا برلمان وميدان" يعنى، ضمن أشياء أخرى، رفض التخلى عن النضال الپرلمانى والدستورى من خلال صناديق الانتخابات لصالح نضالات الفعل الثورى من الميدان. فالمطلوب هنا هو الإقرار بهذا الپرلمان رغم كل حقائق انتخابه بتزييف إرادة الشعب بكل الوسائل. وهو من ناحية أخرى پرلمان الإخوان المسلمين وباقى تيارات الإسلام السياسى. ويعنى شعار "ثورتنا برلمان وميدان" بالتالى التحالف بين الثوار والإخوان، أىْ السماح للإخوان باستغلالنا وقودا فى صراعهم مع المجلس العسكرى لاحتياجهم إلينا فى هذه اللحظة بعد أن حاربوا الثورة بعد الأيام القليلة الأولى لقيامها.
4: وهناك بالطبع احتمال انهيار التحالف بين العسكر والإخوان؛ فهل ينبغى التحالف معهم مادام تحالفهم مع العسكر قد انتهى؟ غير أن التناقض معهم لم يكن فقط لتحالفهم مع المجلس العسكرى بل كان لأنهم ممثلون سياسيون لقطاعات من الرأسمالية المصرية التابعة للإمپريالية، ولأنهم ضد الثورة، ولأنهم ضد الديمقراطية والمدنية والعلمانية، ولأنهم ماضويون يعملون على إرجاعنا إلى القرون الوسطى وإلى حظيرة الدولة الدينية، ولأنهم طبقيا ضد الفقراء لأن ازدياد الفقراء فقرا يعنى ازديادهم غنى، كما هو معروف عن كل رأسمالية، ولا يشفع لهم وجود مئات الآلاف من الفقراء فى جماعات وحركات وأحزاب الإخوان المسلمين والإسلام السياسى، لأن الفقراء هم قواعد ووقود كل الأحزاب الرأسمالية والإمپريالية فى العالم، وإنما يكون الحكم على الأحزاب بالانتماء الطبقى والأيديولوچى والبرنامجى للشرائح العليا من قياداتها. وينطوى هذا الشعار على الرغبة فى الجمع بين الپرلمان والميدان، بين العمل الدستورى والقانونى من ناحية والفعل الثورى من ناحية أخرى. وقد أثبتت تطورات أكثر من عام أن الطريق الدستورى والقانونى والپرلمانى كان طريقا معاديا للثورة على طول الخط رغم تورط قوى ثورية فيها، ورغم كل النوايا الحسنة وراء هذا التورط. كذلك من العبث التفكير فى "تشكيل جمعية تأسيسية" معهم فى شخص پرلمانهم لإعداد الدستور، و"تشكيل جبهة ثورية" معهم لتأمين "عملية التحول الديمقراطى وتسليم السلطة" لأن هذا سيكون لحساب إقامة جمهورية إسلامية، كما أن الإسلام السياسى غير مستعد أصلا للنضال ضد الرأسمالية والإمپريالية، ولا للتوافق على دستور ديمقراطى، ولا على المدنية والديمقراطية والعلمانية.
5: ويرمى شعار (لا دستور تحت حكم العسكر) إلى الفصل بين إعداد الدستور وانتخاب رئيس الجمهورية بحيث يسبق انتخاب الرئيس وضع الدستور، وتفضح الوثيقة ذيليتها التى لا تُغتفر عندما تتحدث عن ضرورة "تنفيذ الإرادة الشعبية التى أقرت وفق استفتاء مارس 2011 أن يتم إجراء الانتخابات الرئاسية ثم الدستور". والسؤال فى الحقيقة سؤالان: والسؤال الحقيقى الأول هو: الدستور قبل الرئيس أم الرئيس قبل الدستور، والسؤال الحقيقى الثانى هو: الدستور والرئيس تحت حكم العسكر أم بعد الإطاحة بحكم العسكر؟ ذلك أن من غير المنطقى أن يرفض المرء الدستور تحت حكم العسكر ويرضى بانتخاب رئيس الجمهورية تحت حكم نفس العسكر! ويبرز هنا وَهْم فظيع وهو أن المجلس العسكرى سوف يسلِّم السلطة الفعلية لرئيس منتخب وأنه ستتم كتابة الدستور فى عهد رئيس منتخب متحرر من السيطرة الفعلية للمجلس العسكرى. وما لم تتم الإطاحة الفعلية بالمجلس العسكرى فإن سيطرته الفعلية ستكون معنا فى كل الأحوال، وسوف تحسم هذه السيطرة الفعلية طبيعة الدستور وطبيعة رئيس الجمهورية. فالمجلس العسكرى الحاكم الآن سيظل هو الحاكم فى حالة التسليم الصورى للسلطة لرئيس جمهورية لن يمارس سلطته بصورة مستقلة عن المجلس العسكرى.
6: وبالطبع فإن الأمر المنطقى سياسيا هو أن يأتى الدستور قبل انتخابات رئاسة الجمهورية وقبل الانتخابات الپرلمانية، فالدستور هو الذى يحدد طبيعة سلطات كلٍّ من الرئيس والپرلمان وطبيعة الجمهورية ذاتها. وإذا رفضنا انتخاب الرئيس تحت حكم العسكر كما رفضنا كتابة الدستور تحت حكم العسكر فلن يبقى سوى تأجيل انتخاب الرئيس والپرلمان كليهما معا إلى أن يتم التحرُّر من المجلس العسكرى بالإطاحة به أو بعودته إلى الثكنات. وهو لن يعود إلى الثكنات بدون تسليم السلطة حتى بطريقة صورية للرئيس أو الپرلمان. ولن تأتى الانتخابات الرئاسية الحالية إلا برئيس جمهورية خاضع بكل سلطاته للمجلس العسكرية. والحقيقة أن الانتخابات الرئاسية ستأتى برئيس جمهورية صورى يمثل إضافة حقيقية لقوة المجلس العسكرى، تماما كما كانت الانتخابات الپرلمانية إضافة لقوة المجلس العسكرى لأنها كانت منذ بداية التعديلات الدستورية أداة تحقيق التفاف الإسلام السياسى حول المجلس العسكرى لالتهام جزرة الأغلبية الپرلمانية. والپرلمان قائم ومنتخب تحت حكم العسكر وفقا لتعديلات دستورية وإعلان دستورى وقوانين انتخابية بمراسيم كلها صادرة تحت حكم العسكر؛ ولكن تسليمه السلطة سيعنى تسليمه للإسلام السياسى بكل مخاطر ذلك على المجلس العسكرى والنظام والطبقة الرأسمالية التابعة، كما أن هذا الپرلمان يتهدده عدمُ دستوريةٍ فى قانون انتخابه بالحل. وتجرى على قدم وساق إجراءات انتخاب الرئيس تحت حكم العسكر فلن يكون مستقلا إذن عن المجلس العسكرى الحاكم.
7: ويعنى رفض انتخاب الرئيس و/أو وضع الدستور تحت حكم العسكر بقاء المجلس العسكرى فى الحكم فى انتظار دستور وپرلمان ورئيس. ولن يكون القضاء عليه إلا من عمل الفعل الثورى أو انقلابٍ عسكرى، لكلٍّ منهما القدرة على إحلال حاكم جديد وإنْ مؤقت محله. ومن الصعوبة بمكان تصوُّر إطاحة ثورية جماهيرية به فى الوقت الراهن. ويعنى رفض كتابة دستور وانتخاب پرلمان وانتخاب رئيس للجمهورية تحت حكم العسكر أن تبقى البلاد "تحت حكم العسكر" بلا رئيس أو دستور أو پرلمان؛ وهذا بالذات هو ما ترفضه الثورة. على حين أن مشاركة القوى السياسية فى الطريق الدستورى القانونى الپرلمانى الانتخابى بالأسس والقواعد الراهنة التى وضعها المجلس العسكرى تعنى الموافقة الضمنية لقوى الثورة على السلطة العسكرية التى سوف تبسط سيطرتها الفعلية على كل المؤسسات المنتخبة وبالأخص على الرئيس والپرلمان وعلى الدستور الذى يشكل أساس هذه المؤسسات.
8: وفى هذا السياق البالغ التعقيد يمكن القول إن قوى الثورة ليس أمامها إلا أن تجعل محور عملها الفعل الثورى الطويل النفس للإطاحة الثورية بحكم المجلس العسكرى باعتبار أن التطورات والانتخابات المتنوعة الجارية والمحتملة لن تخرج عن السيطرة الفعلية للمجلس العسكرى برئيس وپرلمان وبدون رئيس وپرلمان. وعلى قوى الثورة أن تركِّز فى كل الأحوال على الفعل الثورى البالغ التنوع والمتعدد المستويات فى سبيل إقامة الديمقراطية الشعبية من أسفل بكل نتائجها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية على حياة جماهير الطبقات الشعبية. وبدون القدر الكافى من تطور هذه الديمقراطية الشعبية من أسفل لن تكون قوى الثورة قادرة على الإطاحة بالمجلس العسكرى وإحلال دستور أفضل، ورئيس جمهورية أفضل، وپرلمان أفضل، باعتبار وجود هذه الأشياء الأفضل وضعا مواتيا لقيام وتطور ونضج الديمقراطية الشعبية من أسفل.
9: وتتطلَّع قوى الثورة إلى "تعاون" مع الإسلام السياسى يعوِّض الثورة عن "خسائر"ها أثناء تحالفه مع المجلس العسكرى، ومعاداته للثورة من الألف إلى الياء. وبهذا الوهم تتعاطى قوى الثورة مُخَدِّرًا جديدا سوف يُلحق بها خسائر جديدة. وكان من المنطقى أن تداعب أوهام لا أول لها ولا آخر قوى الثورة، وأن تسيطر عليها الأوهام كلما جهلت أو تجاهلت، نسيت أو تناست، الطابع الطبقى لتطورات وصراعات الثورة والثورة المضادة. وهكذا جهلت قوى الثورة أو تجاهلت الطابع الطبقى للإخوان المسلمين، وفصلت بالتالى بين مصالحها الطبقية الرأسمالية التابعة للإمپريالية وسلوكها السياسى، فتصورت أن هذا السلوك لا تحكمه مصالح حاسمة صارمة بل يحكمه عدم الفهم وخطأ الرؤية لأسباب معرفية بعيدا عن المصالح الطبقية. ومن هنا يسيطر وَهْم كبير يتمثل فى أن بلورة رؤية واضحة موحَّدة من شأنها أن تشكل أساسا متينا بين الإخوان المسلمين (لغموض وضعهم الطبقى) وباقى القوى السياسية فى البلاد بما فيها اليسار الثورى. والحقيقة أن المحتوى الحقيقى للوحدة مع الإخوان المسلمين التى تنشدها وتتغنى بها هذه القوى السياسية لا يتمثل إلا فى أن يستخدمها الإخوان وقودا لمعاركه، وبالأحرى مشاجراته، مع المجلس العسكرى لضمان دور سياسى لهم تحت حكم العسكر!
20 أپريل 2012











11
أسطورة الفترة الانتقالية
وحقائق المسار الفعلى للتطورات فى مصر

1: تعيش مصر النظام الحاكم والشعب المحكوم، مصر الثورة والثورة المضادة، فى حالة اسم شهرتها رسميًّا وشعبيًّا هو الفترة الانتقالية. ومن المفترض أن تمتد هذه الفترة الانتقالية من 11 فبراير 2011، يوم الانقلاب العسكرى الذى أطاح بالرئيس مبارك تحت ضغط الثورة، ولإنقاذ النظام وحمايته، إلى اليوم الذى يقوم فيه المجلس الأعلى للقوات المسلحة بتسليم السلطة لرئيس الجمهورية المنتخب وهو ما يُفترض حدوثه فى موعد لا يتجاوز 30 يونيو 2012. ورغم مواعيد متعددة وأشكال متعددة جرى إقرارها أو اقتراحها لتسليم السلطة من العسكريِّين إلى المدنيِّين فقد صار 30 يونيو القادم هو الموعد الذى تم إقراره بصورة نهائية لا تشترط إلا إجراء الانتخابات الرئاسية قبل ذلك التاريخ. والمحتوى الذى ينطوى عليه هذا الحديث عن الفترة الانتقالية هو أن فترة ستمرّ بين إسقاط نظام مبارك بمختلف مؤسساته وقيام نظام جديد يستند إلى مؤسسات جديدة، تُوصف بأنها مؤسسات الثورة. ومن مضامين الفترة الانتقالية كما يوحى أولئك الذين صاغوا عبارة الفترة الانتقالية وفرضوها كإطار عام للتطورات الجارية فى الفترة المعنية إحلال نظام ثورة 25 يناير 2011 محل نظام العهد البائد، الاستبدادى الفاسد. غير أن النظام القادم (تماما مثل النظام الحالى) لن يكون نظام الثورة بل سيكون استمرارا لنظام مبارك البائد ولنظام المجلس العسكرى الحالى، لأن نظام الثورة يعنى ببساطة أن تحل الثورة بطبقاتها الشعبية وقيادتها وطليعتها الفكرية والسياسية محل نظام مبارك ونظام طنطاوى. غير أن المسار الفعلى للتطورات ترشِّح بوجه عام سيطرة إحدى القوتين الكبيرتين المتنافستين على السلطة: المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية أو الإخوان المسلمون على رأس الإسلام السياسى، دولة المجلس الأعلى والمخابرات من خلال السيطرة من وراء الكواليس على سلطات رئيس جمهورية يكون ألعوبة فى يد هذا المجلس، أو الدولة الدينية تحت أىّ عناوين تجميلية. ويتمثل الاتجاه الأساسى للتطورات فى استمرار حكم المجلس العسكرى من خلال سيطرته الفعلية على رئيس الجمهورية القادم بكل سلطاته الاستبدادية الواسعة. وتتراجع مخاوف سيطرة الإسلام السياسى على مؤسسات الدولة جميعا بما فيها رئاسة الجمهورية من خلال فوز عبد المنعم أبو الفتوح أو محمد مرسى، حيث يميل ميزان القوى بين المجلس العسكرى والإسلام السياسى بصورة حاسمة لصالح المجلس العسكرى، كما تدل المشاجرات الناشبة منذ فترة بين الطرفيْن. وبالطبع فإن المجلس العسكرى هو الذى ينظم الانتخابات الرئاسية الوشيكة وبالتالى فإن معجزة فوز المعارضة الإخوانية بالرئاسة لا تمثل احتمالا كبيرا، ولا مبرر لافتراض نزاهة الانتخابات فى مصر التى لم تشهد مطلقا منذ انقلاب 1952 العسكرى انتخابات نزيهة، بالإضافة إلى تراجع شعبية الإخوان المسلمين والإسلام السياسى طوال ما يسمَّى بالفترة الانتقالية بحكم سياساتهم ومواقفهم المضادة للثورة الشعبية على طول الخط، وكذلك بحكم الانقسامات الحادة التى تجتاح فصائل الإسلام السياسى فيما بينها وداخل كل فصيل منها. والحقيقة أن رهانات الإسلام السياسى باءت بالفشل لأن سياسته اعتمدت على التحالف الذيلى مع المجلس العسكرى ضد الثورة فلم يكسب سوى پرلمان عاجز وخسر قلب الشعب، كما خسر من جديد ثقة القطاعات غير الإسلامية من الطبقة الرأسمالية التابعة للإمپريالية، وسرعان ما اتضح لكل من يهمه الأمر أن المجلس العسكرى إنما كان يتعامل معهم فى إطار استخدامهم خلال الفترة الانتقالية ليس إلا، إلى أن يتم إحراق ورقتهم فى لحظة ملائمة تأتى بصورة طبيعية أو يتم افتعالها افتعالا. ويكاد الفوز أن ينحصر فى عمرو موسى و عبد المنعم أبو الفتوح و محمد مرسى. وفى حالة فوز المرشح عمرو موسى يكون المجلس العسكرى قد ضمن سيطرة حديدية على الرئيس بكل سلطاته، أما فى حالة فوز أحد المرشحيْن الآخريْن والتفاف الإخوان والإسلام السياسى بوجه عام حوله فإنه سيكون بدوره مُجْبَرا على الخضوع لسيطرة المجلس العسكرى رغم مشكلات وأزمات ومشاجرات محتملة. وبالطبع فإن هذا الاحتمال ينطوى على مخاطر لأننا سنكون إزاء قوى سياسية إسلامية تعمل من أجل إقامة الدولة الدينية "الإسلامية" بل دولة الخلافة الإسلامية، وإزاء صراع بينها وبين النظام العسكرى من ناحية وبينها وبين القوى السياسية المدنية والديمقراطية والعلمانية من ناحية أخرى. ويبدو أن الاحتمال الأكبر هو إنجاح عمرو موسى والاعتماد على ولائه للنظام.
2: وإذا كان الاحتمال الكبير هو سيطرة المجلس العسكرى الأعلى من خلال الرئيس الأكثر احتمالا فإن هذا يعنى أن نَقْل السلطة من العسكر إلى المدنيِّين لا يمثل فى محتواه الفعلى سوى استمرار نفس النظام أىْ استقرار السلطة خالصةً للقطاع الأكثر قوة من قطاعات الثورة المضادة أىْ القيادة الحالية للجيش كرأس حربة لذات الطبقة الرأسمالية التابعة للإمپريالية مع تراجع الإسلام السياسى إلى موقع المعارضة رغم أنه تعبير سياسى عن قطاع من قطاعات ذات الطبقة الرأسمالية التابعة للإمپريالية. ومعنى هذا هو الانتقال فى نهاية الفترة الانتقالية من النظام الرأسمالى التابع برئاسة مبارك إلى نفس النظام بدون مبارك (كما هو الحال الآن أيضا قبل تسليم السلطة المزعوم للرئيس المدنى المنتخب). ولكى نرى بوضوح الطبيعة الزائفة لنقل السلطة إلى الرئيس القادم، يمكن أن نطرح على أنفسنا هذا السؤال: ماذا ستكون شعاراتنا منذ اليوم الأول لتسليم السلطة للرئيس العتيد؟ ستكون بالطبع نفس الشعارات: الشعب يريد إسقاط النظام، لا لحكم العسكر من وراء الكواليس، لا للدولة الدينية، دستور جديد ديمقراطى يقوم على المواطنة دون تمييز بدلا من الدستور الذى يجرى إعداده الآن، الحريات السياسية، الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، الأجور العادلة المربوطة بالتضخم وتطوُّر الأسعار، الرعاية الصحية المجانية للمواطنين، استقلال القضاء، استقلال الصحافة، التعليم الجيد المتطور المجانى للجميع! فماذا يعنى هذا سوى أن النظام البائد هو الذى سيستمر متنكِّرا فى زىّ النظام الجديد، نظام الثورة المزعوم؟! على أن الوضع الذى يبدأ بما يسمَّى بتسليم السلطة سيكون أسوأ أضعافا مضاعفة بفضل استخدام المجلس العسكرى لسلطات الرئيس وتضاعُف سيطرته الفعلية بالتالى، ومعنى هذا أن المجلس سوف يتمتع بمزايا السلطات الرئاسية دون أن يكابد ويلاتها التى سيكون على الرئيس الجديد وحده أن يكابدها. ولا غرابة فى كل هذا. فجميع رؤساء الجمهورية منذ انقلاب 1952 العسكرى ظلوا يعتمدون على المؤسسة العسكرية والمخابرات والأمن وكان الفرق يتمثل فى أيهما يسيطر على الآخر: الرئيس أم الجيش؟ ولكنهم جميعا كانوا يحسبون ألف حساب للجيش الذى كان ينبغى دائما إغراقه فى المزايا والامتيازات حيث لم تكن تكفى شعبية أو إنجازات هذا الرئيس أو ذاك لموازنة قوة الجيش؛ خاصةً إذا كان الرئيس مجرَّدا من الإنجازات الحقيقية، أو عندما كانت كوارثه تقلِّل من وزن إنجازاته أو تؤدى إلى تحييدها.
3: وعند تسليم السلطة إلى الرئيس المنتخب، يمكن أن نتصور انتقال الإخوان المسلمين وبقية قوى الإسلام السياسى إلى عقد الصفقات الصغيرة مع النظام الجديد القديم بعد أن يتضح تماما أن "نقبهم على شونة"، كما يقال، وبعد أن يكون حلمهم قد استحال إلى كابوس. ذلك أن الثورة الشعبية منحتهم حلما كبيرا أقاموه على أساسيْن هما، من ناحية، انضمامهم إلى الثورة خلال أيامٍ فى يناير وفبراير 2011 حيث اعتبروا أنفسهم الممثل الرئيسى إنْ لم يكن الوحيد للثورة إذ يروِّجون لأكذوبة أنه ما كان للثورة أن تنجح بدونهم، كما يفعل المجلس العسكرى أيضا، ومن الناحية الأخرى، حقهم الطبيعى، فيما يتصورون، فى الحصول على المكافأة والتعويض من الدولة التى اضطهدتهم طوال ستين سنة. وصحيح أن الدولة اضطهدت الإخوان المسلمين واضطهدت غيرهم واضطهدتهم أكثر من غيرهم كخط عام فى سياق الحل الأمنى ضد الإخوان والشيوعيِّين وغيرهم بدلا من الصراع الفكرى والحرية والتعددية؛ رغم فترات من التهادن والتعاون مع الإخوان المسلمين من خلال صفقات مشينة فى بعض الفترات خاصةً فى عهدىْ السادات و مبارك. غير أن الاضطهاد قد يرتِّب حقوقا أخرى ولكنه لا يرتِّب الحق فى الحكم لا للإخوان ولا لغيرهم. ويتجاهل الإخوان المسلمون ومختلف فصائل الإسلام السياسى أنهم انضموا إلى الثورة بروح الانتهازية للحصول على مغانمها بدليل أنهم كانوا يمثلون قطاعا أساسيا من قطاعات الثورة المضادة طوال الفترة المسماة بالانتقالية. وعندما نشبت خلافات أدت إلى مشاجرات بينهم وبين المجلس العسكرى يحاولون الآن أن يربطوا قوى الثورة بعجلتهم لاستخدامها فى تحركاتهم فى سياق مشاجراتهم ضد العسكر، تماما كما استخدمهم العسكر فى الفترة السابقة، مع الاستعداد لبيع هذه القوى عند أول منعطف سياسى أو عند أول صفقة متواضعة مع النظام الحاكم.
4: وقد تمثَّل حلم الإخوان والإسلام السياسى فى حكم مصر وتحويلها إلى دولة دينية (بل إلى دولة الخلافة الإسلامية وإنْ بعد 500 سنة كما يصرِّح محمود غزلان، الناطق باسم جماعة الإخوان المسلمين، دون مواربة) من خلال السيطرة على النظام والطبقة الرأسمالية والشعب فى سياق "مذاهب" هى فى حقيقتها "أسباب لجلب الدنيا إلى الرؤساء"، كما يقول أبو العلاء! ومن الجلى أن هذا الحلم ينكسر فى الوقت الحالى، وسيكون عليهم أن ينتقلوا بسرعة من الحلم إلى العِلْم، عِلْم موازين القوى فى الواقع الفعلى وليس فى أحلام اليقظة، وسيكون عليهم بالتالى أن يتراجعوا بصورة منظَّمة مع إثارة سحابة كثيفة من الإيحاء بأجواء معركة لم يستعدوا لها ولا يريدون خوضها.
5: ومع هذا ظل معظم الثوار يسيئون فَهْم العلاقة التى بدتْ ملتبسة بين المجلس العسكرى والدين السياسى، فقد تصوروا أحيانا أن الإخوان مع الشعب ضد العسكر فذهبوا إلى حد المطالبة بتسليم سلطات رئيس الجمهورية إلى الپرلمان الإخوانى الوهابى أو رئيسه أو لجنة يقوم بتعيينها، وهذا بحجة أنه المجلس الذى جاءت به انتخابات نزيهة؛ مع أنها لم تكن انتخابات نزيهة ولا يحزنون. وتصوَّر الثوار فى أحيان أخرى أن المحتوى الفعلى لهذه العلاقة الملتبسة يتمثل فى تحالف مقدَّس بين أطراف داخلية وخارجية تريد أن تحكم مصر بالإخوان المسلمين، ومن هنا كان من السهل أن ينظر الثوار إلى أىّ مشاجرة بين الطرفيْن على أنها تجرى فى إطار توزيعٍ للأدوار يقوم به تحالف جرانيتى أو فولاذى بين العسكر والإخوان. وبالطبع فقد قاد افتضاح أمر السلوك السياسى المُعادى للثورة لدى الإسلام السياسى بكل وضوح إلى الشعار الصحيح وهو إسقاط العسكر والإخوان والوهابيِّين جميعا. وسقط شعار "الإيد الواحدة" مع كلٍّ من الإخوان والعسكر على السواء. ومع هذا فإن الشعار الإخوانى البراق عن "ثورة الميدان والپرلمان" أخذ يضلل الكثيرين من الثوار، ويجدِّد خرافة "الإيد الواحدة" مع الإسلام السياسى، ليلتفّ نضالهم فى الحقيقة فى مليونيات ومسيرات بعينها حول هذا الفصيل أو ذاك من فصائل الإسلام السياسى مع أن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين. وهكذا نجد الثوار يناضلون أحيانا تحت رايات زائفة، وأحيانا كثيرة بشعارات خاطئة وزائفة ومفتعلة، وكأننا فى حفلة زار ليكون علينا أن نجرى مهرولين نحو الاتجاه الذى يأتى منه صوت طبلة الزار، وليس كل هذا سوى النتيجة المنطقية للوعى التلقائى الذى يحكم حتى حركة كثيرين من قيادات الثوار.
6: وبالطبع فإن الطبقات العاملة والشعبية وقياداتها الثائرة والثورية هى التى تواجه بوصفها الثورة مختلف قوى الثورة المضادة أىْ الطبقة الرأسمالية التابعة الحاكمة ونظامها ومجلسها العسكرى ومختلف قطاعاتها الأخرى من الإسلام السياسى والليبرالية اليمينية ورجال الحزب الوطنى ونظام مبارك فى السياسة والإدارة والاقتصاد. وإذا كانت الثورة المضادة منقسمة، كما نرى بوضوح، بين هذه القطاعات السياسية المتنوعة فإن هذا يضعفها ويعزِّز نقاط ضعفها ويمثل قوة مضافة إلى قوى الثورة غير أن هذا لا يعنى بحال من الأحوال أن الثورة المضادة ضعيفة أو هشة أو أن من السهل الهجوم عليها للإطاحة بها فى مدى منظور. وهنا تتعدد وتتكاثر الأوهام والشعارات البراقة المضلِّلة والرايات الزائفة.
7: ومن الأمثلة البارزة على هذا ذلك الإلحاح الشديد على شعار تسليم السلطة إلى الرئيس المنتخب فى 30 يونيو 2012، فهذا الشعار هو شعار وهدف وتخطيط ومؤامرة المجلس العسكرى، وقد فُرِض عليه هذا التاريخ غير أن تسليم السلطة إلى الرئيس المدنى المنتخب هو هدفه الحقيقى الذى يحقق مصلحته. لماذا؟ لأن قوة السيطرة الفعلية للمجلس العسكرى سوف تتضاعف بانتخاب الرئيس وتسليمه السلطة، لأنه، من خلال السيطرة على رئيس الجمهورية "الأراجوز" المحتمل، سوف يسيطر من وراء الكواليس على سلطاته الواسعة فيستخدمها لصالحه دون أن يُلْقَى عليه اللوم عن كل ما هو مسئول عنه من الناحية الفعلية. فهل يجوز أن يكون شعارنا هو نفسه هدف المجلس العسكرى ولصالحه؟! ويمكن أن نُلْحِق بهذا الشعار شعارات أخرى يركِّز عليها الثوار ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب. ففيم يهمنا فى هذا الوضع المؤقت جدا حقيقة أن المادة 28 من الإعلان الدستورى مادة استبدادية فيما يخص الانتخابات الرئاسية وخاصة بعد أن صارت تلك الانتخابات وشيكة للغاية بل حلَّ موعدها بالفعل، وهل ينبغى أن نقدِّس شعارات مشاجرات الإخوان مع العسكر أو هؤلاء مع أولئك؟! وينطبق الشيء ذاته على إعادة تشكيل لجنة الانتخابات. وإذا كانت هذه "الإصلاحات" القانونية تحتاج إلى وقت فهل معنى هذا هو التسليم بتأجيل الانتخابات الرئاسية وبالتالى تأييد تأجيل تسليم السلطة، رغم كل هذا الإصرار من جانب قطاعات واسعة من الثوار على هذا التسليم؛ مع أنه ليس سوى هدف المجلس العسكرى ومؤامرته ضد الثورة؟! وبالطبع فإن شعار إسقاط النظام وشعار إسقاط حكم العسكر شعاران أساسيان للثورة وينبغى عدم التخلى عنهما فى أىّ احتجاج أو تظاهر أو اعتصام أو إضراب؛ ولكنْ أليس من الخطأ الفادح اشتراط تحقيقهما لفض الاعتصام أو الإضراب؛ مع أن التجربة علَّمتْنا مرارا أن الاعتصامات تنفضّ فى النهاية دون تحقيق أىٍّ من الشعاريْن ما دام الهدف الذى ينطوى عليه الشعار أكبر بما لا يقاس من حجم وعمق الحشد الجماهيرى القائم فى لحظة بعينها، مع أن ربط اعتصامات الفترة الأولى للثورة ضد مبارك بشعار إسقاط النظام وإسقاط مبارك ورحيله الفورى كان الشعار الصحيح الذى صنع ذلك الانتصار الكبير، وذلك على وجه التحديد بفضل مستوى الحشد الجماهيرى الملايينى فى كل أنحاء البلاد وقدرة ذلك الحشد الشعبى الأعزل على إلحاق الهزيمة الساحقة بكل قوات وأجهزة وزارة الداخلية المصرية، أىْ الأداة الرئيسية للقمع الداخلى.
8: ورغم أن المحتوى الموضوعى للثورة، أىْ تحقيق الديمقراطية الشعبية من أسفل، بالتفسير العميق لهذه الديمقراطية، يُوجب تحقيق أهداف كثيرة متنوعة للغاية وقابلة فوق ذلك للربط بفض الاعتصام أو الإضراب فإن هذا الربط يظلّ غائبا فى أكثر الاعتصامات؛ مع أن تحقيقها سبيل مباشر من سبل تحقيق هذه الديمقراطية. ويؤدى إلى هذا الانحراف من جانب الثوار بالثورة تركيزهم على ما هو فوق، بدلا من التركيز على ما هو تحت. وهذا منطقى جدا. فقد كان هدف الثورة هو إسقاط النظام بما فى ذلك الرحيل الفورى لرئيس الجمهورية الطاغية ورجاله؛ ومن المنطقى والحالة هذه أن ينشأ عن ذلك الموقف الثورى السليم الرائع نوع من التفكير المرتبط بالتغيير من أعلى، من فوق، من القمة، ويرتبط ذلك بتصور وهمى عن أن الديمقراطية تعنى أن تكون السلطة أو الدولة ديمقراطية، أو أن يكون المجتمع ديمقراطيا، أو أن يكون البلد ديمقراطيا. وهذا وَهْمٌ ساذج فالديمقراطية لا تعنى سوى الديمقراطية الشعبية من أسفل، من تحت، من القاعدة، ولا تعنى بحال من الأحوال أن النظام السياسى الحاكم ديمقراطى. وهناك وَهْمٌ يتصور أن الديمقراطية تتمثل فى الديمقراطية المباشرة المتمثلة فى ناخبين بحكم حقهم الطبيعى كبشر عند بلوغ عُمْرٍ بعينه، وفقا للقانون أو الدستور فى هذا البلد أو ذاك، يقومون بانتخاب پرلمان يقوم بالتشريع فى إطار الفصل بين سلطات تشريعية وتنفيذية وقضائية متوازنة (وتتمثل الوحدة رغم هذا الفصل الوظيفى فى حقيقة أن التشريعات والقوانين التى يسنّها الپرلمان هى أساس عمل كلٍّ من السلطة القضائية والسلطة التنفيذية التى يترأسها رئيس الجمهورية فى الجمهورية الرئاسية أو رئيس الوزراء فى الملكية الدستورية أو الجمهورية الپرلمانية؛ والحزب أو التحالف الحزبى الذى يشكل الأغلبية الپرلمانية هو الذى يشكل الحكومة وقد يأتى منه رئيس الجمهورية أيضا). والحقيقة أن اعتقاد أن الديمقراطية تتمثل فى مثل هذا البنيان للدولة ومؤسساتها ليس سوى وَهْمٍ من الأوهام الساذجة لأن الانتخابات الپرلمانية والرئاسية تزيِّف إرادة الشعب فى كل البلدان والمجتمعات وتمنح الأغلبية للممثلين السياسيِّين لمصالح الطبقة الرأسمالية الإمپريالية أو الطبقة الرأسمالية التابعة للإمپريالية ويجرى بالتالى سنّ تشريعات وقوانين لتحقيق مصالح الطبقة الاستغلالية المالكة و/أو الحاكمة. وبالتالى ينبغى التقليل من التركيز الشديد على بنيان السلطة وزيادة التركيز بدلا من ذلك على الأسفل، على تحت، على الديمقراطية الشعبية من أسفل، على تطوير نضالات الشعب وأدوات نضاله، والعمل عن طريق مختلف وسائل النضال المشروعة على تحقيق مصالح الشعب الجزئية والعامة، الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، لتصبّ جميعا فى الديمقراطية الحقيقية، بمستوياتها المعيشية العادلة، والرعاية الصحية الحقيقية، وحرياتها وحقوقها الديمقراطية، بامتلاك وممارسة وسائل وأدوات النضال، وتمتعها بالقضاء الطبيعى المستقل والصحافة الحرة وغير ذلك.
9: على أن زمن الثورة يستدعى بالضرورة الفعل الثورى والنضالات الثورية. وهناك بالطبع مَنْ يبشروننا بأن الثورة تمت سرقتها وهزيمتها وتصفيتها وبأنها صارت فى ذمة التاريخ، وتنتج من مثل هذه النظريات الزائفة، التى يُطْلقها بُوم الثورة المضادة وبُوم الثورة أيضا فى كثير من الأحيان، إحباطات لا نهاية لها لدى جمهور وقيادات الثوار. وترجع هذه الإحباطات المريرة إلى تصورات بأن الثورة تجتاح كل شيء كعاصفة، كإعصار، فيتغير كل شيء وينقلب كل شيء رأسا على عقب بسرعة بالغة وإلا سُرقت الثورة وهُزمت. وهذه التصورات ليست سوى أوهام لا أساس لها من المنطق أو العلم أو التاريخ. ذلك أن تاريخ الثورات يشهد بأنها عملية طويلة قد تمتد سنوات، كما يوضح العلم الاجتماعى والسياسى أن الحقائق القائمة فى مجتمع ما أشياء عنيدة ويحتاج تغييرها وتحويلها إلى جهود جبارة وتضحيات هائلة وفترة ممتدة من الزمن. وتعرف الثورة لحظات المدّ والجزر، الصعود والهبوط، النضالات المشهدية الدراماتيكية وكذلك ما لا يُحْصَى ولا يُعَدّ من النضالات الصغيرة والجزئية التى تصبّ فى نفس الاتجاه إذْ تحقق فى حد ذاتها أهدافًا ومصالحَ للطبقات الشعبية كما تتشابك وتتضافر أنشطتها المتزامنة مهما تفرَّقتْ ونتائجها التى تتحول إلى أسباب جديدة لتطوير الثورة لتمهِّد لنضالات أوسع وأعمق. فلا مبرِّر إذن لما نشهده من إحباط مرير كلما انتهت مظاهرات أو اعتصامات أو إضرابات دون أن تحقق أشياء بارزة ملموسة. ولا مبرِّر لمثل هذا الإحباط مهما يكن الألم مبرَّرا كلما ارتكب المجلس العسكرى الحاكم مذبحة أو جرى استخدام قوات الجيش أو الشرطة العسكرية أو الأمن بوحشية؛ فليس هذا سوى السلوك الوحيد المتوقع من طبقة استغلالية تدافع عن بقائها ويستحيل أن تضع هذه الوحشية حدًّا للثورة طالما كانت هذه الأخيرة تواصل نضالاتها التى تنبئ بأن الثورة مستمرة وتزداد انتشار وعمقا فى طول البلاد وعرضها. والحقيقة أن الثورة تتواصل وتتفجر ما تزال بكل عنفوانها وهى ما تزال قادرة على أن تحقق بالشعب وللشعب الذى انطلق من القمقم الأهداف التى تنطوى عليها ثورته، ببساطة لأنها لم تتحقق، وببساطة لأن معاناة الطبقات الشعبية تضاعفت، وببساطة لأن الشعب لم يترك الميدان لا بالمعنى الحسى، المادى، ولا بالمعنى المجازى.
10: ومن المضامين التى تنطوى عليها فرضية الفترة الانتقالية فى الحدود الزمنية المذكورة وفى حدود استكمال المجلس العسكرى لمهام إعادة بناء مؤسسات الدولة، اعتبار أن الفترة الانتقالية تمثل فترة فاصلة بين الثورة قبلها واستقرار دولة المؤسسات من جديد بعدها بحيث تكون الفترة الانتقالية فترة تصفية الثورة عن طريق قمع مبادراتها ونضالاتها من ناحية وإعادة بناء مؤسسات الدولة من الناحية الأخرى، وبحيث تعنى نهاية الفترة الانتقالية نهاية حاسمة للثورة وبداية جديدة حاسمة للدولة، دولة ونظام ومؤسسات الطبقة الرأسمالية التابعة للإمپريالية العالمية بقيادة الإمپريالية الأمريكية. وعلى القوى الحية للثورة، فى سبيل إفشال مخطط ما يسمَّى بالفترة الانتقالية، أن تعمل بوعى ناضج على استعادة مبادرة النضالات الثورية بصورة مستقلة عن البرنامج الذى وضعه المجلس العسكرى والإسلام السياسى معًا للفترة الانتقالية، مهما تصاعد الصراع السياسى بين أنصار الحكم المباشر أو غير المباشر للعسكر وأنصار الدولة الدينية تحت تسميات متباينة ذات محتوى جوهرى واحد. وتشترط استعادة المبادرة فى النضال الثورى موقفا حاسما محتواه الجوهرى: لا وألف لا للحكم العسكرى المباشر أو غير المباشر؛ لا وألف لا للدولة الدينية (جمهورية مصر الإسلامية) ومختلف الأدوات والنضالات التى تؤدى إليها، لا لأىّ تحالف أو تعاون مع المجلس العسكرى ضد الإسلام السياسى أو غيره، ولا لأىّ تحالف أو تعاون مع الإسلام السياسى ضد المجلس العسكرى أو غيره. وعلى الحركة أو الحركات الثورية أن تركز على الأهداف الأساسية الحقيقية للثورة بعيدا عن النضال الثورى المزعوم على خلفية الصراع بين الإخوان المسلمين والمجلس العسكرى.
11: وإذا وضعنا نصب أعيننا الهدف الجوهرى الذى تنطوى عليه الثورة السياسية الشعبية فى مصر (وكذلك فى البلدان العربية الأخرى) وجدنا بسهولة ويسر، بفضل هذه البوصلة التى لا تخطئ، الأهداف والمطالب والشعارات التى تنبع منه وتتفرَّع عنه وتنسجم معه. والهدف الجوهرى للثورة يمكن استنتاجه استنتاجا من طبيعتها المستخلصة من وقائعها وتطوراتها ومساراتها ومختلف نضالاتها ومن الحقائق والمعادلات التى تحيط بها. ويتمثل هذا الهدف أىْ محتوى الثورة فى الديمقراطية الشعبية من أسفل، كما أكرر فى مقالاتى بصورة ثابتة إلى حد الملل. والحقيقة أن الشعارات الأساسية للثورة وعلى رأسها شعار "الشعب يريد إسقاط النظام" تنبع من هذا المحتوى الجوهرى للثورة. فما هو معنى ومحتوى وهدف إسقاط النظام؟ وبالطبع فإن محتوى إسقاط النظام يختلف باختلاف طبيعة الثورة: هل هو القضاء على النظام الرأسمالى التابع فى سياق ثورة اشتراكية أم هو تحقيق الديمقراطية الشعبية من أسفل لمقاومة هذا النظام، وللمقاومة بصورة جذرية تاريخية ضد فساده واستبداده، ولمقاومته فى سبيل تحقيق حياة كريمة للطبقات الشعبية؟ وبالطبع فإن النجاح فى إقامة هذه الديمقراطية الشعبية يمكن أن يفتح أمام الشعب والثورة آفاقا أوسع للنضال ضد الرأسمالية التابعة كنظام اجتماعى يسود مصر والعالم العربى والعالم الثالث فى سبيل الاستقلال الذى يقوم على الخروج من التبعية بفضل التصنيع والتحديث، كما يفتح آفاق النضال فى سبيل الاشتراكية على المدى البعيد الأبعد. وفى الأجل القصير والمتوسط لا يتجاوز إسقاط النظام فى الحقيقة إسقاطا جزئيا، تاريخيا مع ذلك: توجيه ضربة قاضية للحالة الراهنة للنظام الرأسمالى التابع عن طريق إسقاط رأسه وكل قمته وكل رجاله وقياداته فى كل مؤسساته وأجهزته بلا استثناء، وإسقاط دستوره على رأس قوانينه، تلك التى يقوم عليها الاستبداد والبطش والقمع الپوليسى والمخابراتى والأيديولوچى وتلك التى يقوم عليها الاستغلال والفساد واللصوصية، وإسقاط حرمان الشعب من مستويات المعيشة التى تليق بالبشر فى المسكن والغذاء والملبس والصحة والتعليم وحق العمل وإعانة البطالة وفى القاضى الطبيعى الذى يقوم على استقلال القضاء وإسقاط حرمانه من الحريات والحقوق الديمقراطية فى التظاهر والاعتصام والإضراب وكل أشكال الاحتجاج والنضال من تعددية حقيقية تقوم على أحزاب سياسية ونقابات عمالية وفلاحية ومهنية مستقلة، ومن حرية الصحافة وحرية العقيدة والتعبير، ومن المواطنة المتحررة من كل تمييز على أساس الدين أو المذهب أو العقيدة أو النوع أو اللون. ومن الجلى أن هذه الضربة القاضية التى يشترط نجاحها ضربات أخرى تكميلية تفوز بالنقط تكتسب مغزاها من كونها شرطا ضروريا للديمقراطية الشعبية من أسفل. وكان ولا يزال وسيظل إسقاط مبارك ورجاله على أوسع نطاق ضروريا لهذه الديمقراطية، وكان ولا يزال وسيظل إسقاط حكم العسكر ضروريا لهذه الديمقراطية، غير أن إسقاط حكم العسكر لا يتحقق بحال من الأحوال بما يسمَّى بتسليم السلطة إلى الرئيس المنتخب بل يعنى هذا التطور بداية جديدة لنضال الثورة والنضال الثورى لإسقاط العسكر فى السياق العام المستمر لإسقاط النظام.
12: وعندما أتحدث، ويتحدث غيرى، عن مقاطعة الانتخابات الپرلمانية والرئاسية فإننا لا نعتقد مطلقا ولا نتوهم بحال من الأحوال أن هذه المقاطعة، حتى من جانب كل الطليعة القيادية المتنوعة مهما اتسعت للثورة، يمكن أن تكون قادرة على الحيلولة دون استمرار المسار الفعلى للتطورات فى مصر. فقد نجح المسار الفعلى للتطورات بقيادة المجلس العسكرى المتحالف مع الإخوان المسلمين على رأس الإسلام السياسى فى انتخاب السلطة التشريعية المتمثلة فيما يسمى بمجلس الشعب ومجلس الشورى، وسيكون هذا المسار باستمرار، أو عدم استمرار، هذا التحالف الذى يترنح الآن فى إعداد دستور جديد قبل أو بعد تسليم السلطة إلى رئيس الجمهورية المنتخب، كما سيتم دون إبطاء استكمال إعادة بناء السلطة التنفيذية برئيس وحكومة ووزارات وأجهزة، أما السلطة القضائية بما فى ذلك القضاء العسكرى والاستثنائى فباقية دون تطهير وبلا استقلال عن السلطة التنفيذية، وما زالت تعمل بقوانين مقيدة للحريات وتساعد على الطغيان والديكتاتورية والفساد ونهب أموال الشعب، وما يزال قانون الطوارئ الاستبدادى للغاية باقيا كما هو؛ القانون نفسه وليس فرض حالة الطوارئ التى تم رفعها باستثناء يجعل رفعها معدوم الأثر. وسوف يستمر هذا المسار الفعلى للتطورات بصرف النظر عن المقاطعة أو المشاركة من جانب كل الطليعة القيادية المتنوعة الواسعة للثورة. وإنما يكمن مغزى المقاطعة الثورية فى التركيز بدلا من الانتخابات والدعاية حولها على الفعل الثورى الذى يمكن أن يحقق مطالب الثورة ويمارس دعايتها وتسييسها بصورة فعالة بما لا يقاس. ولا أحد يُنْكر بطبيعة الحال التسييس الذى يقوم به مرشحو اليسار: أبو العز الحريرى، و حمدين صباحى، و خالد على (بترتيب الحروف)، غير أن الاعتماد على الفعل الثورى المنفصل عن برنامج ما يسمى بالفترة الانتقالية كما وضعه العسكر أكثر جدوى وأبعد أثرا وبالأخص: أكثر مبدئية. كما أن الشرعية التى تُضْفيها الانتخابات التى تزيِّف إرادة الشعب على مؤسسات الدولة التى تجرى إعادة بنائها لن تؤثر فيها المقاطعة الثورية كثيرا بحكم حجمها المحدود نسبيا غير أن هذه المقاطعة تجرِّد هذه المؤسسات من الشرعية من وجهة نظر القوى الحقيقية للثورة وتُقِيم استقلالها عن برنامج العسكر والإخوان للفترة الانتقالية على أساس متين.
13: وتتعدد المطالب والأهداف والشعارات المهمة للثورة باعتبارها أشياء وثيقة الصلة بالمهمة الكبرى المتمثلة فى إسقاط النظام. ومن هذه المطالب مطلب إسقاط الرئيس ورجاله الذى لا يكتمل إلا بسرعة محاكمتهم على قائمة طويلة من الجرائم السياسية والجنائية، بدلا من كل هذا التباطؤ الطويل المتواطئ الذى يتواصل بإصرار عنيد بحجة عدم التدخل فى شئون القضاء رغم التدخل الخفى الذى يختفى وراء هذا الموقف، مع ضرورة توسيع ملاحقة ومحاكمة الفساد ومفسدى الحياة السياسية والاقتصادية. وهذه المحاكمة حق سياسى أصيل للشعب المصرى الذى كان ضحية للفساد والنهب واللصوصية والطغيان والاستبداد والقمع والقهر، والذى سقط أبناؤه وبناته شهداء وشهيدات ومصابين ومصابات منذ الأيام الأولى للثورة وإلى الآن من خلال مذابح لم تكن مذبحة العباسية الوحشية سوى حلقة من حلقات سلسلتها الطويلة أريد لها أن تكون درسا قاسيا رادعا لكل من تسوِّل له نفسه الاقتراب كما قيل من "عرين" الأسد ("علىَّ وفى الحروب نعامة"). وهناك مطالب الحدَّيْن الأدنى والأقصى للأجور، ومطلب إلغاء قانون الطوارئ وإعداد قانون عادى للطوارئ وليس مجرد إلغاء إعلان حالة الطوارئ، ومطلب تكوين الأحزاب السياسية بمجرَّد الإخطار، وغير ذلك، وهناك مطالب الاحتجاجات المسماة بالفئوية والتى تمثل شكلا أصيلا من أشكال الفعل الثورى. وفيما يتعلق بربط المطالب والأهداف والشعارات بأشكال وتكتيكات وأساليب نضالية تتلاءم معها فإن هناك الكثير من الأهداف التى يمكن ربطها بوسائل مثل الاعتصام أو الإضراب أو الإضراب العام أو الإضراب عن الطعام أو حتى استمرار المظاهرات لفترات بعينها بحيث لا يتم فضها إلا بتحقيق هذه المطالب كحزمة أو بتحقيق جزءٍ منها. وعلى سبيل المثال فإن الاعتصام الذى نشترط لفضه إنهاء حكم العسكر على الفور فى ظل مستوى غير كافٍ من الحشد الجماهيرى قد يبوء بالفشل، فى الوقت الذى يمكن أن ينجح هذا الحشد ذاته فى إقرار إلغاء شروط تكوين الأحزاب السياسية أو إقرار حد أدنى للأجور. والتاكتيك الناجح هو ذلك الذى يربط بصرامة مستويات بعينها من الحشد الجماهيرى بتحقيق أهداف تتلاءم معها مع رفع شعارات الأهداف الأعلى شأنا فى إطار الشعارات الدعائية.
14: ولا شك فى أن تصوُّر الديمقراطية الشعبية من أسفل على أنها مجموعة من الحريات والحقوق الديمقراطية المحلِّقة فى الهواء يجرِّد هذه الديمقراطية من محتواها الاجتماعى الحقيقى الذى يعطيها جوهرها ومغزاها التاريخى بوصفها انتقالا تاريخيا إلى وضع جديد للشعب المصرى. فالديمقراطية المقصودة إنما تجسِّد كما سبق القول شعبا يتمتع بمستويات معيشية لائقة تقوم على حقوق يجرى تطبيقها فعليا فى مجال الدخول والأجور والمعاشات وإعانات البطالة العادلة المنصفة والرعاية الصحية المجانية والتعليم المجانى والتعددية السياسية وغير ذلك، ويتمتع بالأسلحة النضالية التى يحرس بها هذه الديمقراطية الشعبية التى ستتعرض بصورة متواصلة لهجوم الديكتاتورية من أعلى. وهنا تثور مشكلة عويصة شائكة بشأن مدى واقعية استمرار هذه الديمقراطية فى العالم الثالث بحكم حالته الاجتماعية الاقتصادية التى تحرمه من آليات القدرة المرنة نسبيا على التعايش مع الديمقراطية بكل تحدياتها للنظام الرأسمالى التابع وعلى تلبية أهدافها الاجتماعية المتزايدة. والخلاصة هى أن هذه الديمقراطية قابلة للتوسع والانحسار، والتمدد والتقلص، والصعود والهبوط. ولكى لا ندفن رئوسنا كالنعام فى الرمال فإنه لا مناص من الاعتراف بأن مجتمعات العالم الثالث تتعرَّض فى مدى غير بعيد للانهيار الشامل. ولهذا تمثل الديمقراطية الشعبية بنضالاتها الفعالة فى سبيل التصنيع الجذرى والتحديث السريع الشامل والتخلص من التبعية الاستعمارية ضرورة قصوى ليس فقط للتقدم والاستقلال بل حتى لمجرد البقاء والإفلات من الانهيار وانقراض السكان، كنتائج نهائية للاستغلال الإمپريالى والتبعية الاقتصادية وشروط التجارة وتقييد التطور الحر لبلدان العالم الثالث. فالديمقراطية الشعبية ضرورية إذن ليس فقط لتحقيق الحياة الكريمة اللائقة بالبشر بل كذلك للدفاع عن البقاء، مجرد البقاء، على خلفية الانهيار الاقتصادى والتخلف الثقافى والأخطار الإيكولوچية.
15: والخلاصة التى نخرج بها والانتخابات الرئاسية المصرية وشيكة على الأبواب بل بدأت اليوم خارج مصر هى ضرورة إفشال الفترة الانتقالية التى تعنى وفقا لمخطط المجلس العسكرى نهاية الثورة ليس بالمشاركة فى إعادة بناء مؤسسات دولة الرأسمالية التابعة بل باستمرار الثورة واستمرار هدف إسقاط النظام. فالرئيس المنتخب القادم فى القريب العاجل ليس المهدى المنتظر الذى سيأتى ليملأ الأرض عدلا بعد أن امتلأت جورا وليخلِّص مصر من حكم العسكر بل هو الرئيس الألعوبة الذى سيُضاعف، كما سبق القول، قوة وإحكام السيطرة الفعلية للمجلس العسكرى من وراء الكواليس عن طريق توظيف سلطات رئيس الجمهورية. وعندما يُقْسِم الرئيس الجديد اليمين الدستورية أخيرا فلن تتمثل النتيجة فى الانتقال من العهد البائد لنظام مبارك تحقيقا للثورة عبْر الفترة الانتقالية إلى نظام أو دولة الثورة، بل ستتمثل بالأحرى وفقا لمخطط المجلس العسكرى والإسلام السياسى فى "نفى النفى"، فى نفى الثورة التى قامت بنفى العهد البائد فتكون المحصلة استعادة الاستقرار للنظام الرأسمالى التابع ولكنْ بدون مبارك ومجموعة محدودة من رجاله لتدور من جديد العجلة الساحقة الطاحنة للاستبداد والفساد فيصير الشعب المصرى سيزيف الذى يُبْعَث من جديد كل يوم. غير أن استمرار الثورة سوف يضع حدا لهذا الحلم الوردى الذى يُعَلِّل به المجلس العسكرى نفسه حيث سيتواصل السير، رغم الوضع السياسى الجديد الأسوأ بفضل توظيف السلطات الواسعة لرئيس الجمهورية لصالح السيطرة الفعلية للمجلس العسكرى، فى اتجاه الديمقراطية الشعبية من أسفل، من تحت، من القاعدة.
11 مايو 2012

12
هاجس الحرب الأهلية فى مصر
1: يبرز فى مجرى تصفية الثورة فى بلدان ما يسمَّى بالربيع العربى طريقان متباينان لهذه التصفية: طريق التصفية التدريجية الطويلة النفس، مع تفادى الحرب الأهلية، كما فى تونس ومصر، وطريق التصفية العنيفة، طريق الحرب الأهلية، كما هو الحال فى ليبيا وسوريا واليمن. ولا يستبعد طريق الحرب الأهلية مناورات ومفاوضات سلمية بهدف كسب الوقت، ولا يستبعد طريق التصفية التدريجية أعمالا عنيفة تصل إلى حد المذابح المتكررة كما شهدنا فى مصر.
2: وهناك من لا يرى فى العنف الجارى فى سوريا حربا أهلية فعلية وإنْ كان يرى أنه يهدد بأن يؤدى إلى الحرب الأهلية التى لم يصل إليها العنف بعد. والحقيقة أن هذا الحكم بأننا لسنا إزاء حرب أهلية فى سوريا ينطلق من تصورات بعينها عن الحرب الأهلية تجعلها حربا بين طوائف دينية أو مذهبية أو بين تكوينات قومية أو قَبَلية داخل بلد دون أن يمتد التعريف إلى العمل العسكرى الممتد بين النظام الحاكم والشعب فى البلد المعنىّ خاصةً إذا لم يصل هذا العمل العسكرى إلى حدوده القصوى. وكانت الحرب فى ليبيا فى الحقيقة حربا أهلية بين الشعب الليبى ونظام القذافى جرَّتْ إلى حرب تدخل خارجى قام به حلف الناتو ضد نظام القذافى. كذلك فإن الحرب التى تدور فى سوريا حرب أهلية، فى مرحلة متفاقمة من مراحلها، بين الشعب ونظام الأسد، مع احتمالات التدخل العسكرى الخارجى أيضا رغم صعوبته "الحربية" بالمقارنة مع ليبيا، ورغم عدم وجود دوافع من المصالح النفطية كما كان الحال فى ليبيا؛ غير أن هناك بالطبع مصالح أمريكية وإسرائيلية وأوروپية إستراتيچية مهمة للغاية تربط القضاء على نظام الأسد بتوجيه ضربة كبرى للنفوذ الإيرانى فى المنطقة (سوريا، حزب الله، غزة). ويعنى إسقاط نظام الأسد من وجهة نظر الغرب تشديد الحصار على إيران وتغيير خريطة الشام حول إسرائيل بصورة مواتية لمصالحها.
3: أما طريق التصفية التدريجية الطويلة النَّفَس والطويلة الزمن، مع تفادى الحرب الأهلية، أىْ الطريق المصرى، فإنه لا يتفادى مع هذا العنف الوحشى الذى شهدناه والمذابح الوحشية التى شهدناها، كما سبق القول. فلماذا اختار النظام المصرى أن يسلك هذا الطريق، بعيدا عن الطريق الآخر؟ وفى مصر كما فى سوريا وكما فى غيرهما يسود ما يسمَّى بحكم الشخص: رئيس الجمهورية وأسرته وعصابته، فلا تعمل مؤسسات الدولة كما ينبغى لها أن تعمل، ولا يكون الحزب "الحاكم" حزبا حاكما حقا، ولا تكون الطبقة الرأسمالية التابعة المالكة طبقة حاكمة حقا، وتجرى تسوية مختلف المصالح ليس من خلال الآليات المنطقية لطبقة حاكمة وحزب حاكم بل من خلال الرئيس وأفراد أسرته وأفراد عصابته. وهنا، وأمام ثورة سياسية شعبية مفاجئة، تغدو مصالح الرئيس وعصابته مهددة، حيث يواجه الرئيس التطورات السريعة المتلاحقة وظهره إلى الحائط كمسألة حياة أو موت. ومن المنطقى أن يكون مستعدا للحرب الأهلية ذاتها على أملٍ مهما يكن ضئيلا بسحق الثورة واستعادة النظام، حيث لا يملك مخرجا آخر لأن هزيمته ستعنى القضاء عليه وعلى إمپراطوريته.
4: ورغم أن الجنون ليس منطقا ناجعا ومنقذا فإن الجنون يغدو الأمل الوحيد للرئيس وأسرته ورجاله المقرَّبين. ورغم إدراكه أن نجاحه فى سحق الثورة لن ينقذه لأنه سيكون فى حكم المستحيل عليه أن يحكم شعبا أباد عشرات الآلاف أو مئات الآلاف من بناته وأبنائه. وعندئذ يتحول النظام إلى ثورة مضادة فى حالة حرب. وبالطبع فإن محصلة عوامل قوته وضعفه داخل نظامه فى لحظة تفجُّر الثورة الشعبية هى التى تقرر نجاحه فى فرض الإستراتيچيا الحربية فى تصفية الثورة أو، على النقيض، نجاح نظامه فى التخلى عنه وعدم الانجرار وراء مصلحته الشخصية والعمل على إنقاذ النظام والطبقة بدونه وبالتالى الانقلاب العسكرى ضده. والاختيار بين طريق التصفية التدريجية وطريق التصفية الحربية ليس حرا أو عشوائيا. ذلك أن متانة أو اهتزاز وضع الرئيس داخل النظام هو أساس سلوك النظام والطبقة وخياراتهما: الانزلاق إلى الحرب الأهلية أو تفاديها. وبالطبع فإن وجود أو عدم وجود تناقضات أو صراعات أو رؤًى متضاربة داخل النظام هو الذى يغلِّب مصلحة الشخص بجنونه أو مصلحة النظام بعقله؛ مهما كان غير رشيد بصورة كافية.
5: وينطوى ما سبق على فكرة أن الحل الأمنى، أو التصفية العنيفة، أو الحرب الأهلية، وهى تسميات متعددة لشيء واحد، أمر بالغ الخطورة. ومع هذا يتورط فيه نظام ويتفاداه آخر. ويكمن السرّ فى النتائج المنطقية المحتومة للحرب الأهلية لتصفية ثورة شعبية كبرى، وهى نتائج بالغة الخطورة فى الحقيقة. ويمكن أن يكون إدراك هذه النتائج رادعا حاسما يحُول دون تورُّط نظام فيه. وكما نتعلم من التاريخ المعاصر فإن نتائج الحرب الأهلية بين سلطة طبقية تتحول إلى ثورة مضادة وثورة سياسية شعبية، أىْ بين السلطة والشعب، تتمثل على الأغلب فى هزيمة ساحقة يُلْحِقها الشعب الأعزل بالجيش المدجَّج بالسلاح، وتتمزق الطبقة المالكة وحكمها وسلطتها ونظامها، وتجرى إعادة تشكيل شاملة للطبقة المالكة التى يجرى إحلالها بأفراد جدد ومجموعات جديدة، فتخسر الطبقة الحاكمة "الجلد والسقط"، كما يقولون. والحقيقة أن هذا بالضبط هو ما حدث فى ثورات كثيرة اتخذت شكل الحرب الأهلية فالطبقة الرأسمالية التابعة التى نشأت انطلاقا من الثورة التى أدت إلى قيام جمهورية الخمينى الإسلامية حلت محل الطبقة الرأسمالية التابعة التى كانت حول الشاه، وحدث الشيء ذاته فى ثورات عديدة، وحدث نفس الشيء حتى فى انقلابات عسكرية مهمة مثل انقلاب يوليو العسكرى. وأمام ضرورة تفادى هذا المصير المرعب للنظام والسلطة والطبقة ومؤسسات ورجال الدولة جميعا تغدو قدرة النظام على إنقاذ نفسه بالتخلص من جنون حكم الشخص مسألة حياة أو موت. ووفقا لاعتبارات متنوعة يملك النظام أو لا يملك مرونة الاختيار الحاسم المتمثل فى إنقاذ النظام وتفادى الحرب الأهلية. وفى مصر كانت هذه القدرة جاهزة لدى المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية فى لحظة من اللحظات فقام بانقلابه العسكرى لإنقاذ النظام بالتخلص من مبارك، ومن الجلى أن هذه القدرة لم تكن جاهزة للنظام السورى وجيشه وباقى مؤسساته عندما تفجرت الثورة السياسية الشعبية الكبرى فى سوريا؛ ومن هنا طريق الحرب الأهلية هناك وفى ليبيا واليمن، ومن هنا أيضا تفادى تلك الحرب المدمرة للطبقة الحاكمة والنظام والجيش جميعا فى مصر وتونس.
6: ومن المنطقى أن تحتاج الحرب الأهلية فى مجراها إلى مناورات سلمية لكسب الوقت، كما سبق القول. وهذا بالضبط ما شهدناه فى ليبيا وسوريا واليمن. كما أن من المنطقى أن يكون طريق التصفية التدريجية للثورة حافلا بصور شتى من العنف تصل إلى حد المذابح كما حدث أثناء الموجة الأولى للثورة قبل رحيل مبارك، ثم بعد ذلك فى ماسپيرو، ومحمد محمود ومجلس الوزراء، وبورسعيد، والعباسية، بالإضافة إلى الاستخدام الواسع النطاق للبلطجية فى كل مواجهة مع الثوار تقريبا، بالإضافة إلى إثارة الفتن، وسياسة فرِّقْ تَسُدْ، والحرب الإعلامية ضد الثورة، بهدف توجيه الضربات على طريق تصفية الثورة فى الوقت الذى تجرى فيه على قدم وساق إعادة بناء مؤسسات الدولة: الپرلمان (مجلس الشعب ومجلس الشورى)، ورئيس الجمهورية، والدستور، على أسس تجعلها أسوأ من مؤسسات مبارك. ويقوم منطق العنف المقترن بطريق التصفية التدريجية على الضربات التى تهدف إلى الترويع والإرهاب بهدف الهبوط بمستويات الفعل الثورى، فى اتجاه إضعافه والقضاء عليه. ورغم أن ممارسات وحشية عديدة للمجلس العسكرى أدت فى كثير من الأحيان إلى ردود فعل واسعة النطاق من جانب الثوار إلا أن أمل وضع حد للنضال الثورى فى لحظة أو أخرى من خلال العنف والترويع والوحشية لا يفارق المجلس العسكرى ويظل يداعبه دون أن يتعلم من أخطائه. على أن كل هذه الأعمال العنيفة والمذابح الوحشية تظل تسير جنبا إلى جنب مع طريق تفادى الحرب الأهلية دون انزلاق إليها أو تورُّط فيها.
7: وفى مقالات سابقة أوضحتُ أن طريق التصفية التدريجية من جانب الثورة المضادة فى مصر تلائم الثورة الشعبية أكثر من طريق الحرب الأهلية. فنظرا لحالة قوى الثورة باعتبارها بعيدة عن النضج، ونظرا لواقع أن كل دواعى ودوافع ومبادرات الثورة مستمرة، ونظرا لأن أهداف الثورة الشعبية لم تتحقق بعد، ونظرا للتسييس المتواصل للشعب من واقع تجربته الراهنة وتحرُّره من العجز وإدراكه لقوته، فإن النضج المتزايد المتوقع لقوى الثورة ونضالات الثورة خلال أعوام قادمة، بعيدا عن مؤسسات الدولة التى تجرى إعادة بنائها فى الوقت الحالى، يحتاج إلى زمن يتيحه طريق التصفية التدريجية، زمن لمواصلة النضال، وامتلاك أدوات النضال، والاستعداد لمواجهات قادمة من حالة نضالية أكثر تقدما. وعلى كل حال فإن الثورة ليس من مصلحتها بحال من الأحوال الإقدام على سلوك سياسى يحوَّل الصراع السياسى الجماهيرى الحالى إلى صراع مسلَّح.
8: غير أن هذا لا يكفى لطرد أشباح وهواجس وفوپيا الحرب الأهلية! وكلما مارس المجلس العسكرى العنف مباشرة عن طريق الشرطة العسكرية أو عن طريق البلطجية و"اللَّهْو الخفى" جنبا إلى جنب مع الحرب الإعلامية يثور فى نفوس الشعب والثوار والقوى السياسية هاجس التورُّط فى الحرب الأهلية. ولا يكفى موقف النظام إلى الآن لنطمئن تماما ولنضع فى البطن "بطيخة صيفى"، كما يقال. فهناك دائما انزلاقات ممكنة قد تفرضها قوًى لا تدرك تماما مخاطر التورُّط فى العنف المؤدى إلى حرب أهلية، على هذه القوى ذاتها بين باقى القوى السياسية والشعب كله فى نهاية المطاف. وهناك بوجه خاص انزلاقات وتورُّطات ممكنة وإنْ كانت غير مرجَّحَة فى حالة وصول بعض قوى الإسلام السياسى إلى مواقع حاسمة فى السلطة مثل مؤسسة رئاسة الجمهورية. ورغم أن السيطرة الفعلية من وراء الكواليس ستكون للمجلس العسكرى طوال سنوات قادمة من خلال استخدام سلطات رئيس جمهورية يكون دمية فى يده فإن احتمال علاقة صعبة مع رئيس ينتمى إلى قوة سياسية مناوئة لا يمكن استبعاده بصورة مطلقة. وصحيح أن الانتخابات الرئاسية سيجرى تزويرها كالعادة لصالح رئيس يسهل ترويضه على المجلس العسكرى الحاكم، غير أن من الصعب أيضا الاطمئنان المطلق لمسار واحد مرجَّح للتطورات.
9: وليس من المستبعد أمام وحشية المجلس العسكرى، أو نتيجة للمبالغة الثوروية الذاتية فى مسألة ما يمكن أن تحققه الثورة فى المدى المنظور، أن تفكر عناصر ثورية فى طريق الصراع المسلَّح. وليس مثل هذا النوع من التفكير سوى نوع من المغامرة اللامسئولة التى تتصور أن "الجملة الثورية" يمكن أن تبدَّل طبيعة الثورة وأهدافها وخصائصها من حدودها التى ترسمها بوضوح حول نفسها إلى آفاق مباشرة ترقى إلى الثورة الاجتماعية على طريق الثورة الاشتراكية. ومن المحتمل أن تبرز أوهام تُصَوِّر لبعض الرئوس الساخنة أن الحرب الأهلية التى فرضها نظام الأسد على الشعب فى سوريا يمكن أن تتمخض عن نتائج أفضل بصورة جذرية بالمقارنة مع نتائج الثورة فى بلدان التصفية التدريجية؛ غير أنه ينبغى أن ندرك أن نخبة سياسية ما عسكرية وإخوانية وليبرالية هى المرشحة ليس فقط للحكم فى سوريا ما بعد الأسد، فهى مرشحة فى المحل الأول لإعادة تشكيل الطبقة والسلطة والنظام، لإحلال طبقة رأسمالية تابعة جديدة محل الطبقة الرأسمالية التابعة الحالية. ولن يخرج الشعب السورى بدوره سوى بشكل من أشكال الديمقراطية الشعبية من أسفل وليس هذا بالشيء القليل فى الحقيقة. وقد لاحظت أن بعض الأشخاص يعتقدون أن مثل هذه التسميات من اختراعى حبا فى الاختراع غير أن المزيد من الاطلاع سيجعلهم يدركون أن كونهم لم يقرأوا عن هذه الأشياء لا يعنى إنكار وجودها وانتشارها فى الفكر الثورى بعيدا عنى.
10: وأخيرا، أعتقد أن من بين مهامنا أن ننشر الوعى أمام كل مَنْ يهمه الأمر بما فى ذلك حكامنا ورجال رأسماليتنا التابعة بكل القطاعات العسكرية والقومية والليبرالية والإسلامية بأن تفادى الحرب الأهلية مسألة حياة أو موت فهى تعنى القضاء على طبقتهم أيضا. ولا يدفعنى إلى تحذيرهم من أن ينزلقوا إلى الحرب الأهلية حُبٌّ أكنُّه لطبقتهم الرأسمالية التابعة، المستبدة الفاسدة، بل يدفعنى هاجس مؤداه أن الحرب الأهلية، مهما كانت احتمالاته ضئيلة فى مصر، ستدمِّر فى حالة اشتعالها دون أن تبنى، ستدمِّر كل القوى المتصارعة، مقابل إحلال طبقة رأسمالية جديدة تماما محل الحالية، دون أن يكسب الشعب أكثر مما يمكن أن يكسبه من نضالات الثورة فى الإطار الراهن لصراعها مع الثورة المضادة.
17 مايو 2012










13
مأتم ديمقراطية المجلس العسكرى والإخوان المسلمين
فجر الديمقراطية الشعبية فى مصر
1: الخيار بين كابوسيْن: تمخض الجبل فولد فأرا، وانقلب عُرْس الديمقراطية المزعوم إلى مأتم حقيقى للديمقراطية! فقد جاءت الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية بخيارين أحلاهما مرٌّ، ولا خيار فى الشر! لقد صار الخيار المطروح أمام الشعب بين كابوسيْن: إما شفيق وإما مرسى؛ أىْ إما خيار الدولة العسكرية أو خيار الدولة الدينية (جمهورية مصر الإسلامية). ولا شك فى أن الدولة العسكرية، أو الإسلامية، أو العسكرية الإسلامية، أو الإسلامية العسكرية القادمة ستكون فى كل الأحوال دولة الثورة من حيث الأقوال ودولة الثورة المضادة أىْ دولة تصفية الثورة من حيث الأفعال. ونخطئ إذا نظرنا إلى نظام الثورة المضادة القادم على أنه إعادة إنتاج لنظام مبارك فالحقيقة أنه أسوأ بما لا يقاس لأنه يمثل نظام مبارك ممتشقا السلاح بحكم مهمته المتمثلة فى تصفية الثورة وهى مهمة تظهر بحكم طبيعتها فى مجرى الثورات وليس قبلها بطبيعة الحال. ومن حيث الجوهر لا تختلف دولة الثورة المضادة فى شكلها العسكرى عن دولة الثورة المضادة فى شكلها الدينى أو فى شكلها العسكرى الدينى أو فى شكلها الدينى العسكرى. ولهذا فإن خيار مرسى أو شفيق ليس خيارا بين سيئ وأسوأ بل هو خيار بين الأسوأ والأسوأ!
2: ترزية الانتخابات النزيهة المزعومة: وقد شهدت هذه الانتخابات الحرة النزيهة المزعومة كل أشكال وأنواع ووسائل وأدوات تزييف إرادة الشعب، حيث أشرفت عليها اللجنة العليا التى تضم رجالا أشرفوا من قبل (قبل ثورة 25 يناير بأسابيع) على انتخابات أحمد عز الشهيرة التى كانت انتخابات الإقصاء المطلق للإخوان المسلمين وشبه المطلق لغيرهم، وأشرفوا بعد ذلك على الانتخابات الپرلمانية التى جاءت بما يسمَّى بپرلمان الثورة بمجلسيه (الشعب والشورى) وهو فى الحقيقة پرلمان الإخوان والسلفيِّين والوهابيِّين فى سياق تحالفهم الذيلى مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية على رأس الثورة المضادة التى تعمل على تصفية الثورة الشعبية. وهؤلاء الرجال الذين قاموا مرة بإقصاء الإخوان عن الپرلمان ومرة أخرى بمنح الإخوان والسلفيِّين أغلب مقاعد الپرلمان (وفقا لتعليمات وأوامر حاكم الأمر الواقع ومقتضيات المرحلة) هم أنفسهم الذين قاموا أخيرا بدفع مرشح الإخوان المسلمين ومرشح المجلس العسكرى إلى الصدارة؛ فهل جاءوا بهما حقا للتنافس الحقيقى بينهما أم "يبدو" الأمر كذلك فى الظاهر وحسب؟ أىْ: هل يقبلون برئيس إخوانى أو رئيس من رجال النظام الأساسيِّين، على قدم المساواة؟ والحقيقة أن خيارهم الأفضل والوحيد على الأرجح فى السياق الحالى هو الفريق أحمد شفيق الرجل البارز فى نظام مبارك؛ فلماذا لم يقوموا بإنجاحه من الجولة الأولى؟ ويمكن القول إن دواعى ومقتضيات "مظهر" الانتخابات الحرة النزيهة هى التى تقودهم إلى مسرحية هزلية بعد تحديد نتائجها المبتغاة سلفًا وإحاطة الوصول إليها بضمانات أكيدة.
3: أرقام الأصوات المعلنة: وينهمك خبراء لا حصر لهم فى مختلف الفضائيات ووسائل الإعلام الأخرى فى إجراء حسابات لا نهاية لها لاحتمالات مدى حاجة كلٍّ من المرشحيْن الذاهبيْن إلى الإعادة فى جولة ثانية إلى تحالفات وصفقات تضمن الفوز فى الجولة الثانية الوشيكة. وهى حسابات خاطئة للأسباب والنتائج. وبادئ ذى بدء، شارك فى هذه الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية 23672236 ناخب من أصل 50996746 ناخب، فكانت نسبة المشاركة أو الإقبال أكثر قليلا من 46.4% وهى نسبة يمكن وصفها بأنها متدنية بوجه عام وخاصةً بالمقارنة بنسبة انتخابات مجلس الشعب منذ قرابة نصف عام. وكان عدد الأصوات الصحيحة 23265516 صوت، وعدد الأصوات الباطلة 406620 صوت. وكانت نتائج الخمسة الأوائل كالتالى: 1: محمد مرسى: 5764952 صوت، أىْ أقل قليلا من 5.8 مليون صوت، بنسبة أقل قليلا من 24.8 فى المائة، 2: أحمد شفيق: 5505327 صوت، أىْ أكثر قليلا من 5.5 مليون صوت، بنسبة أقل من 23.7 فى المائة، 3: حمدين صباحى: 4820273 صوت، أىْ أكثر قليلا من 4.8 مليون صوت، بنسبة أكثر قليلا من 20.7 فى المائة، 4: عبد المنعم أبو الفتوح: 4065239 صوت، أىْ أقل من 4.1 مليون صوت، بنسبة أقل قليلا من 17.5 فى المائة، 5: عمرو موسى: 2588850 صوت، أىْ أقل من 2.6 مليون صوت، بنسبة أكثر قليلا من 11.1 فى المائة. وكانت أصوات محمد سليم العوا 235374 أىْ أكثر قليلا من 0.2 مليون صوت، بنسبة أكثر قليلا من 1.0 فى المائة، وأصوات خالد على و أبو العز الحريرى و هشام البسطويسى، مجتمعين (بترتيب عدد أصوات كلٍّ منهم) 203335 صوت، أىْ أكثر من 0.2 مليون صوت، بنسبة أقل قليلا من 0.9 فى المائة، وأصوات محمود حسام، و محمد فوزى عيسى، و حسام خير الله، و عبد الله الأشعل، مجتمعين (بترتيب عدد أصوات كلٍّ منهم) 82166 صوت، أىْ أقل من 0.1 مليون صوت، بنسبة أقل من 0.4 فى المائة (بوابة الأهرام، 28 مايو 2012). ومهما تكن حقيقة نزاهة هذه الأرقام فى ضوء كل ما تواتر عن المال السياسى بوجه عام، والمال السياسى النقدى والعينى الخاص بشراء الأصوات، والكشوف الانتخابية التى تشمل أعدادا كبيرة ممن لا يحق لهم التصويت كالموتى والمجندين، والامتناع عن تسليم كشوف الناخبين للمرشحين، والتزوير المباشر بالتسويد ومختلف الضغوط، وإلقاء بطاقات فى مزارع القصب، أو فى أماكن أخرى، وإضافة أصوات مجندين إلى مرشح بعينه، وكذلك حرمان الملايين من الناخبين المقيمين فى مناطق غير مناطقهم الانتخابية داخل مصر، وقبل كل شيء قبول ترشيح أحمد شفيق فى تجاهل صريح لقانون العزل (تعديل قانون مباشرة الحقوق السياسية)، وغير ذلك، فلا مناص من استنتاج مؤشرات رئيسية من هذه الأرقام المعيبة إلى حد البطلان نتيجة للإجراءات والممارسات المشار إليها.
4: حسابات واستنتاجات خاطئة من أرقام الأصوات المعلنة: ويسود الحديث عن حصول مرشحى الثورة على أكثر من 9.3 أو ربما 9.4 مليون صوت وهذا الرقم هو حاصل أصوات حمدين صباحى و عبد المنعم أبو الفتوح والمرشحين الثمانية (غير الخمسة الأوائل). ومن الجلى أن هذا حساب خاطئ تماما فكيف يمكن على سبيل المثال اعتبار ملايين السلفيِّين والوهابيِّين الذين يشكلون أغلب أصوات المرشح عبد المنعم أبو الفتوح من معسكر الثورة؟ وكيف يمكن اعتبار هذا المرشح ذاته بالتالى من معسكر الثورة؟ وكيف يمكن اعتبار محمد سليم العوا وعدد من المرشحين الأقل شأنا من حيث الأصوات من أمثال المرشح حسام خير الله من معسكر الثورة؟ كما يفعل مصطفى اللباد فى مقال له (السفير البيروتية، 28 مايو 2012). ورغم الاستنتاج الصحيح الذى ينتهى إليه هذا الباحث بشأن أهمية أن يتقدم التيار الثالث (قوى الثورة) ليحتل مكانه بعيدا عن "الفلول" (والأفضل أن يقال: نظام المجلس العسكرى) والإخوان، فإن تياره الثالث يشمل إذن السلفيَّين والوهابيِّين (دون أنْ ينتبه بالطبع)! ويعلق اللباد وفقا لحساباته غير المدققة أهمية كبرى على معاداة أغلب الناخبين (64 فى المائة) للفلول مقابل أصوات أحمد شفيق و عمرو موسى (36 فى المائة)، وعلى معاداة أغلب الناخبين (74 فى المائة) للإخوان (26 فى المائة)؟! فما معنى أن نعتدّ كثيرا بمعاداة الإخوان والسلفيين والوهابيين للفلول وفى الوقت نفسه بمعاداة الفلول ضمن آخرين للإخوان؟! وتحسب أهداف سويف (بوابة الشروق، 30 مايو 2012) ملايين الأصوات التى ذهبت إلى عبد المنعم أبو الفتوح ضمن معسكر "التغيير الجذرى فى الاقتصاد والإدارة والحريات"؛ وكأن هذه الأصوات ليست بجانبها الأكبر أصوات السلفيِّين والوهابيِّين وبعض الإخوان المسلمين! ويروِّج حمدين صباحى نفسه نفس هذه الحسابات الخاطئة التى لا يبررها سوى نظرته المحبذة (دون مبرر) إلى عبد المنعم أبو الفتوح وإلى قطاع ينتمى حقا إلى قوى الثورة وهو الأصغر بين قطاعات أنصاره، وكذلك إلى غير "الفلول" والإخوان دون تمييز، حيث يوضع سليم العوا جنبا إلى جنب مع خالد على، على سبيل المثال! إننا هنا إزاء مزاد لتوزيع الألقاب الثورية من أجل وَهْمٍ خالص هو توسيع قوى الثورة من خلال توسيع مفهوم قوى الثورة ليشمل كل اتجاه سوى الفلول والإخوان، إنْ لم يتسع عند كثيرين (غير هؤلاء بالطبع) للإخوان المسلمين أنفسهم. ويمكن أن نلاحظ أن أصوات الأقباط التى ذهبت إلى أحمد شفيق و عمرو موسى و حمدين صباحى و عبد المنعم أبو الفتوح ليست بأغلبها "فلولية" مع شفيق و موسى وليست بأغلبها "ثورية" مع صباحى و أبو الفتوح؛ فقد كانت بأغلبها ثمرة تصويت قبطى طائفى فى مواجهة التصويت الطائفى الإخوانى السلفى الوهابى مع مرسى و أبو الفتوح، فى محاولة واضحة لتفادى الدولة الدينية الإخوانية السلفية الوهابية. وبالمقابل "يحسب" و"يستنتج" زياد بهاء الدين (بوابة الشروق، 29 مايو 2012) بصورة أدق، حيث يلاحظ تراجُع نصيب أصوات الإسلام السياسى من حوالى 75 فى المائة فى الانتخابات الپرلمانية إلى حوالى 35 فى المائة فى الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية (رغم المبالغة المتمثلة، كما يشير، فى اعتبار "كل" أصوات عبد المنعم أبو الفتوح منتمية إلى الإسلام السياسى)، ويُرْجِع ذلك إلى التصويت الاحتجاجى أو السلبى (أو العقابى، كما يُسَمَّى أيضا) ضد الإسلام السياسى (بسبب السلوك السياسى والپرلمانى للإخوان خلال ما يسمى بالفترة الانتقالية)، وحيث يلاحظ أن الحزب الوطنى سقط فى الانتخابات التشريعية بينما حصلت الثورة المضادة (التى يشكل الحزب الوطنى جزءًا أساسيا منها) على حوالى رُبْع الأصوات فى الانتخابات الرئاسية. فنحن إذن أمام تراجُع إسلامى نسبى وتقدُّم نسبى لنظام "المجلس العسكرى" بمختلف أدواته ومنها ما يسمى بفلول الحزب الوطنى. وترتسم فى الأفق حقيقة من حقائق هذه الانتخابات لا سبيل إلى الالتفاف حولها وهى أن الأصوات التى ذهبت إلى مرشحين يمثلون تعابير سياسية متعددة عن قطاعات مختلفة من الطبقة الرأسمالية الكبيرة التابعة وبالتالى عن الثورة المضادة تصل إلى أكثر من 18 مليون صوت هى أصوات أحمد شفيق و عمرو موسى و محمد مرسى و عبد المنعم أبو الفتوح و محمد سليم العوا وعدد من المرشحين الثانويِّين من حيث عدد الأصوات؛ على حين ذهبت إلى حمدين صباحى وبقية مرشحى اليسار أصوات أكثر قليلا من 5 مليون ناخب. وإذا كانت نسبة محدودة على كل حال من أصوات الناخبين اليساريِّين قد ذهبت إلى عبد المنعم أبو الفتوح فإن تحليل الطبيعة اليسارية الحقيقية للأصوات التى ذهبت إلى حمدين صباحى وبقية مرشحى اليسار يحتاج إلى وضع مزيد من النقاط على مزيد من الحروف للتوصل إلى استنتاجات قد تكون مثمرة فيما يتعلق بمستقبل القوى الديمقراطية والتقدمية والمدنية والاشتراكية واليسارية والليبرالية اليسارية.
5: مفاجآت مذهلة: ولا مناص، قبل أن ننتقل إلى ظاهرة حمدين صباحى، من أن نتوقف عند المفاجآت المذهلة، التى حدثت خلال الأسبوعين الأخيرين أو الثلاثة أسابيع الأخيرة قبل الانتخابات، فى المراكز النسبية للمرشحين الخمسة الأوائل: مرسى و شفيق و حمدين و أبو الفتوح و موسى (وفقا لترتيب أرقام نتائجهم). ويبدو أن مناظرة 10 مايو 2012 بين عمرو موسى و عبد المنعم أبو الفتوح لعبت دورا ما (بين أشياء أخرى) فى تراجُعهما بعد أن احتلَّا مركزىْ الصدارة طوال فترة ما قبل هذه المفاجآت. وكان التراجُع المفاجئ لهذين المرشحيْن والصعود الصاروخى ﻟ حمدين صباحى مع تواصُل صعود أحمد شفيق على حساب عمرو موسى والصعود البالغ السرعة ﻟ محمد مرسى على حساب عبد المنعم أبو الفتوح عناصر مترابطة للمفاجأة المذهلة التى قلبت أوضاع المراكز النسبية للمرشحين دون أن تقلب أوضاع المعادلة الأساسية أو المعادلات الأساسية التى حكمت العلاقات بين القوى السياسية الأساسية. ولا شك فى أن "حدود" المعادلة تتمثل فى ثلاثى نظام مبارك، والإسلام السياسى، وقوى الثورة. وقد حصل الإسلام السياسى فى شخص مرسى و أبو الفتوح و العوا على حوالى 9 مليون صوت باستبعاد حوالى مليون صوت من إجمالى أصوات أبو الفتوح، وحصل نظام مبارك فى شخص شفيق و موسى وآخرين أقل شأنا على حوالى 9 مليون صوت، بإضافة جزء من أصوات أبو الفتوح إليه، فيما حصلت "قوى الثورة" التى ذهبت أصواتها إلى حمدين ومرشحى اليسار الثلاثة الآخرين على حوالى 5.5 مليون صوت. ورغم عدم دقة هذه الأرقام وطابعها التقريبى فضلا عن الشكوك التى تحيط بها وبمغزاها فإنها تكشف من جانب عن بقاء القوى الثلاث فى مواجهةٍ تتجه إلى مزيد من الاستقطاب، وتكشف من جانب آخر عن تقارب أصوات كلٍّ من نظام المجلس العسكرى والإسلام السياسى بما يجعل مظهر التزوير "الناعم" قابلا للتكرار لصالح مرشح المجلس العسكرى. ولن أخوض هنا فى الاختلاف بين مرسى و أبو الفتوح كجناحين إخوانييْن مختلفين، ولا فى الاختلاف بين شفيق الممثل الأكثر نموذجية لفساد واستبداد نظام مبارك و عمرو موسى الذى يحظى، بحكم اختلافه بوصفه مجرد ممثل "دپلوماسى" فى المحل الأول للطبقة الرأسمالية التابعة، بتأييد القطاعات الليبرالية من هذه الطبقة، تلك القطاعات التى ضاقت طويلا بحكم الشخص وتتطلع إلى نظام تسود فيه مؤسسات الدولة وتتعدد فيه الأحزاب السياسية (المستقلة نسبيا عن الدولة والنظام والرئيس) للرأسمالية الكبيرة. فكيف يمكن تفسير هذه المفاجآت بالجملة؟
6: محاولة موجزة لتفسير المفاجآت: وربما كان تراجُع أبو الفتوح لحساب مرسى أسهل تفسيرا: هناك على وجه الخصوص واقع أن الماكينة الانتخابية الإخوانية بدأت متأخرة تاركة فى البداية مجالا أوسع ﻟ أبو الفتوح، وكان لا مناص من أن تلحق به وأن تتجاوزه وتسبقه ﺑ خيرت الشاطر أو بالبديل محمد مرسى. وهناك تَذَبْذُب خطاب أبو الفتوح وبالتالى خسارته لقطاع من مؤيديه ليكسب قطاعا جديدا أو ليحتفظ بقطاع سبق كَسْبُه. وكان لا مناص من أن تكون فاعلية الخطاب الإخوانى الهجومى العدوانى أقوى فى نهاية المطاف من فاعلية الخطاب الذى يطمح إلى إرضاء جميع الأطراف وربما كان هذا سببا فى خسارة جانب من أصوات السلفيِّين والوهابيِّين. وربما جاءت المناظرة المشئومة فى هذا السياق لتقلِّل من حظوظ هذا الإخوانى المتمرد على قيادة الجماعة فى مواجهة انتقام الجماعة التى لم يتمرد عليها كجماعة بل تمرد على قيادتها بفضل رؤية أوضح لمصالحها السياسية من هذه القيادة. وبطبيعة الحال فإن القوى السياسية الإسلامية الإخوانية السلفية تعبير سياسى عن قطاعات رئيسية من قطاعات الطبقة الرأسمالية الكبيرة التابعة للإمپريالية، تماما كما تعبِّر عنها وتمثلها مؤسسات وأجهزة نظام مبارك وكذلك قطاعات أخرى ترى مصلحتها فى الليبرالية. ويكمن الصراع المحتدم بين القوى الإسلامية والقوى المباركية الممثِّلة لقطاعات مختلفة من نفس الطبقة التابعة للإمپريالية فى الاختلاف الأيديولوچى الذى يباعد بين الطرفين بالإضافة إلى تاريخ طويل من الصراع السياسى والأمنى بينهما. ويبدو أن التنافس بين شفيق و موسى ظل مرتبطا بالتنافس والصراع بين نظام مبارك الذى سقطت قيادة العصابة التى ظلت تديره على مدى ثلاثة عقود دون أن يسقط النظام بمؤسساته وأجهزته الظاهرة والخفية، ودون أن تسقط العصابة بكاملها، وبين القطاعات ذات الميول الليبرالية فى نفس الطبقة. ورغم أن موسى لم يكن أقل عدوانية من شفيق فى خطابه ضد الإسلام السياسى إلا أن تراجُع الأول لصالح الأخير قد يعود إلى القوة النسبية للقطاعات المباركية التى تقودها الأذرع الأخطبوطية التى لم تسقط من العصابة الحاكمة بالمقارنة بالقطاعات التى تتطلع إلى أشكال ليبرالية تخدم مصالح الطبقة بكفاءة أكبر فى تقديرها. وعلى حين يتحدث موسى دوما عن القانون يهدد شفيق ويتوعد بالقوة، قوة الجيش والشرطة العسكرية مذكِّرًا بنموذج فضّ الجيش بالقوة لمظاهرات واعتصامات العباسية ومحيط وزارة الدفاع. وفيما يتعلق بتوجهات الناخبين فإن هذا الخطاب يلتقى بالتشويه الممنهج لصورة الثورة واعتبارها مصدر المعاناة الراهنة وبالخوف من استمرار وتفاقم الأوضاع الأمنية والاقتصادية الاجتماعية وكأن شفيق يحمل مفتاح الاستقرار المنشود. ومن المحتمل أن يكون المجلس العسكرى الذى يلعب بالبيضة والحجر قد راهن على حصانين أو أكثر وأخذ يراقب مختلف التفاعلات ودرجات اللياقة المتنوعة للخيول المنطلقة ليتدخل لتغليب مرشح له على مرشح آخر له أيضا عندما تقتضى الضرورة، لأن التزييف "الناعم" لإرادة الشعب يقتضى إفساح مجال واسع لأخذ القدرة التنافسية للمرشحين فى الاعتبار من واقع التنافس الانتخابى الفعلى بعيدا عن الإنجاح الفظ لمرشح المجلس العسكرى مهما كانت جدارته غير كافية.
7: ظاهرة حمدين صباحى وناصرية الشارع: لا شك فى أن حزب الكرامة الذى يمثل حمدين صباحى أحد أبرز قياداته حزب ناصرى، ولا شك أيضا فى أن ناصرية هذا الحزب تختلف عن ناصرية زمن مضى جرت بعده تحت الجسر مياه كثيرة، ولا شك كذلك فى أنها تختلف عن ناصرية أخرى معاصرة قادها عدد من رجال عهد عبد الناصر منذ عهد السادات. وفى مقال لى (باسم قلم فى السبعينات) بعنوان "خطأ فظيع يرتكبه الناصريون" ميَّزتُ بين الناصرية الحاكمة التى كانت تمثل طبقة استغلالية هى طبقة رأسمالية الدولة التى تشكلت فى عهد عبد الناصر وناصرية الشارع، وأكدتُ فى ذلك المقال القديم ضرورة ومبدئية التحالف مع ناصرية الشارع بشرط تحرُّرها من خصائص الناصرية الحاكمة باعتبارها خصائص استغلال واستبداد وفساد طبقة رأسمالية بيروقراطية حاكمة (صارت النواة الصلبة للطبقة الرأسمالية الكبيرة الريعية التابعة للإمپريالية فى عهدىْ السادات و مبارك). ويبدو أن ذلك المقال أغضب بعض الناصريِّين (فيما سمعتُ) وربما كان لهم عذرهم لأن الناصرية كانت تتعرض فى ذلك الزمن، حتى بمنجزاتها الأكيدة مثل السد العالى، لحملات التشويه والافتراء والهجوم بالحق وبالباطل من جانب نظام السادات الذى كنتُ وما زلتُ من خصومه الألدَّاء. وكان المحتوى الجوهرى لذلك المقال هو التحالف مع ناصرية الشارع كقوة وطنية ديمقراطية لا سبيل إلى تجاهل دورها الإيجابى. ويبدو أن هذه الرسالة الإيجابية التى تضمنها المقال لم تصل إلى أشخاص من المحتمل أنه أغضبهم. وبالطبع فإن موقف تأييد التحالف فى مجرى النضال الاستقلالى والوطنى والتقدمى والديمقراطى مع ناصرية الشارع آنذاك ينطبق من باب أولى على الناصرية التى صارت الآن أكثر تحرُّرا من الخصائص الأساسية للناصرية الأصلية الحاكمة. وبطبيعة الحال فإن الشروط العامة للتحالف بين قوى الثورة لا تقتصر على الناصرية وحدها أو الناصريِّين وحدهم بل تشمل بالضرورة كل قوى اليسار والتقدم والوطنية والديمقراطية والثورة؛ وهى شروط تلتزم بها كل قوة منها وتشترطها على كل قوة أخرى بصورة متبادلة. وتنصبّ هذه الشروط فى الوقت الحالى، فى زمن الثورة الذى نعيشه، على النضال فى سبيل استمرار الثورة إلى أن تحقق أهدافها وغاياتها ومحتواها الجوهرى، الأمر الذى يقتضى اتخاذ موقف حاسم لا يتزعزع ضد الطبقة الرأسمالية التابعة للإمپريالية بكل قطاعاتها وبكل الاتجاهات والقوى الأيديولوچية والسياسية المعبِّرة عنها ومنها كل مؤسسات دولة مبارك بكل قياداتها وقِمَمِها بلا استثناء بقيادة المجلس الأعلى للقوات المسلحة، والرأسماليين الكبار ورجال الأعمال بكل أنواعهم، وكل رجال مبارك، وكل قيادات الحزب الوطنى المنحل، ومختلف قوى الليبرالية اليمينية وقوى الإسلام السياسى المعبِّرة عن المصالح الرأسمالية التابعة لقطاعات مختلفة من نفس الطبقة المعنية. ويغدو المحتوى الجوهرى لأىّ تحالف بين قوى الثورة هو النضال ضد إعادة بناء مؤسسات الدولة باعتبارها مؤسسات دولة الثورة المضادة وتصفية الثورة بالتركيز على الفعل الثورى بجناحيه المتمثلين فى بناء مؤسسات الثورة بأحزابها ونقاباتها واتحاداتها وجمعياتها وروابطها المستقلة والنضال الثورى الجماهيرى من خلال كل الوسائل الثورية المشروعة والسلمية بكل أشكال الاحتجاج والتظاهر والاعتصام والإضراب لتحقيق مختلف أهداف وأدوات الديمقراطية الشعبية من أسفل بما فى ذلك الحد الأدنى للأجر والحد الأقصى للدخل، واستقلال القضاء، والتأمين الصحى الشامل والفعال، والتعليم المتطور والمجانى، وكل الحقوق والحريات العامة.
8: ظاهرة حمدين صباحى وصعوده المفاجئ: تمثلت المفاجأة الكبرى فى تطور مراكز المرشحين الرئاسيِّين فى الصعود الصاروخى المفاجئ ﻟ حمدين صباحى خلال قرابة ثلاثة أسابيع قبل بدء الانتخابات داخل مصر. ومن المنطقى للغاية والمفهوم للغاية أن ترتفع أسهم هذا المرشح بالذات فى اتجاه صعودى متواصل بفضل خطابه القريب إلى عقول وقلوب المواطنات والمواطنين بحكم قيام هذا الخطاب على الانحياز للطبقات الشعبية من العمال والفلاحين وفقراء المدينة والريف، وعلى الإصرار على العدالة الاجتماعية بمختلف عناصرها المحددة وحقوق وحريات الشعب، وعلى الموقف الحاسم إلى جانب تحقيق أهداف الثورة وأسلحة نضالاتها، وإلى جانب الدولة المدنية وضد الدولة العسكرية والدولة الدينية مع طمأنة الرأسماليِّين بشرط الالتزام بحقوق الشعب، وإلى جانب العدالة الاجتماعية بعيدا عن نهج الرأسمالية الليبرالية المتوحشة. وقد أسهم الإعلام الجماهيرى وخاصة الفضائيات المصرية المستقلة نسبيا فى نجاح هذا الخطاب فى الوصول إلى قلوب بنات وأبناء الشعب بمواقفه المنحازة إلى حقوق الأقباط والمرأة والشباب والأقليات وضحايا التهميش الأزلى فى مناطق الحدود والصعيد وغيرها. غير أن من الصعب تفسير هذا الصعود المفاجئ بعنصر واحد يتمثل فى هذا الخطاب بمحتواه المرتبط بمواجهة معاناة الشعب وبأهداف الثورة والمرتبط بالاستفادة بتكنولوچيات المعرفة والإعلام الجماهيرى الواسع النطاق وبوجه خاص بالفضائيات التى عوَّضت عن الفقر المالى الملحوظ فى حملته الانتخابية. على أن واقع أننا فى زمن الثورة بجماهيرها المستعدة للتجاوب مع مرشح ملتزم بمصالحها يضيف إلى محتوى خطاب حمدين وإلى فعالية الفضائيات فى الاتصال الجماهيرى عنصرا يضيف الكثير إلى تفسير صعوده المفاجئ. والحقيقة أن خطاب حمدين صباحى كان مختلفا ومتميزا بشدة عن خطابات المرشحين وأكثر وهجا حتى بالمقارنة مع خطابات باقى مرشحى اليسار. وبطبيعة الحال فإن هذا الصعود المفاجئ يجد عنصرا تفسيريا إضافيا قويا يتمثل فى واقع القصر الشديد للفترة المتاحة للدعاية الانتخابية واحتدامها بسرعة والتراكم السريع لتأثير هذه الدعاية لتتضافر هذه الأشياء لتصنع المفاجأة.
9: صعوبة تفسير هذا الصعود المفاجئ: وتدفع صعوبات التفسير مع كل هذا إلى افتراضات واتهامات متناقضة يحيط بها الإبهام الشديد. لقد قيل مثلا إن الإخوان المسلمين قاموا بالتصويت بكثافة ﻟ حمدين لإزاحة شفيق من الطريق كما قيل إنهم قاموا على النقيض من ذلك بالتصويت الكثيف ﻟ أحمد شفيق لإزاحة حمدين من الطريق، وقيل إن خيرت الشاطر تبرع بنصف مليون جنيه لحملة حمدين وهو ما نفته الحملة كما نفاه الشاطر نفسه. وهناك فرضية أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة راقب القدرة التنافسية الانتخابية لثلاثة خيول من المرشحين من خارج الإخوان المسلمين والسلفيِّين هم أحمد شفيق و عمرو موسى و حمدين صباحى لاختيار الوقوف فى الوقت المناسب إلى جانب المرشح الأكثر تنافسية بين هؤلاء. وإذا كان شفيق من الحلقة الضيقة لرجال مبارك وملائما للتعامل بسلاسة وبنفس الخلفية العسكرية مع المجلس العسكرى القابع وراء الكواليس فإن احتمال أن يثير ترشيحه أو فوزه برئاسة الجمهورية احتجاجا شعبيا واسع النطاق، خاصةً مع صدور وتجاهُل قانون العزل الذى يستبعده من مباشرة الحقوق السياسية، وبالأخص حقه فى أن يَنْتَخِب ويُنْتَخَب ويُفْقِدُهُ الشرعية بالتالى، لم يكن لصالحه. وكان موسى ملائما أيضا وتنافسيا ومتقدما على قائمة المرشحين جميعا وأقل إثارة نسبيا للاحتجاج الشعبى باعتباره ديپلوماسيا مدنيا وغير عسكرى وليس من أبرز رجال الحلقة الضيقة فى عصابة مبارك، كما كان حاسما فى مواجهة الإسلام السياسى بلا هوادة. ورغم أن حمدين لا يرتبط عضويا بالنظام والدولة والطبقة باعتباره من قيادات ناصرية الشارع السياسى فقد كان يمتلك ميزة لا يملكها الحصانان الآخران، وهى ميزة المصداقية لدى الجماهير وبالتالى قدرته كرئيس للجمهورية على تهدئة الثورة. ولم يكن من الضرورى أن يتم صعود حمدين إلى الرئاسة بموجب صفقة مباشرة مع المجلس العسكرى، ولا بهدف تهدئة الثورة تمهيدا لتصفيتها بحال من الأحوال، رغم اضطراره المحتمل للتعاون مع هذا المجلس بمنطق يحكم كثيرين من أمثال حمدين وهو وَهْم خدمة الشعب والثورة من موقع رئيس الجمهورية وبفضل سلطاته. ولا يمثل هذا الافتراض أىّ "شيطنة" ﻟ حمدين باعتباره مستعدا للتعاون مع المجلس العسكرى الذى يقود الثورة المضادة. بل ينطلق مثل هذا الافتراض من واقع أن حمدين تقدَّم لانتخابات رئاسة الجمهورية رغم إدراكه التام للشروط والأوضاع والظروف التى تحيط بممارسة سلطات هذا المنصب. غير أنه لا مناص من الاعتراف بأننا لا نملك أىّ دليل على أن النظام الحاكم قدَّم أىّ نوع من العون أو الدعم لحملة حمدين. ولأسباب عديدة أبرزها رغبة المجلس العسكرى فى أن تتخذ الانتخابات الرئاسية "مظهر" النزاهة وبالتالى الاضطرار إلى انتهاج نوع من التزييف "الناعم" أو "الشيك" بدلا من التزوير الفظ للانتخابات، كان لا مناص من أن يزداد تعقيد تفضيل المجلس العسكرى لهذا المرشح أو ذاك وأن يزداد بالتالى تعقيد التفسير، خاصةً بافتراض خلافات محتملة بين چنرالات المجلس العسكرى بشأن هذه المفاضلة المعقدة.
10: ظاهرة حمدين صباحى ومغزى تيار ثورى بملايين الأصوات: على أن واقع أن احتمال التزوير لصالح حمدين يكاد يكون معدوما يدفعنا إلى الاهتمام، فيما وراء ظاهرة حمدين الذى برز كقائد جماهيرى بالغ الأهمية لقطاعات مهمة من قوى الثورة، بظاهرة بروز تيار ثورى يشتمل على ملايين الناخبين الذين قد يكون قسم مهم منهم مدفوعا إلى انتخاب حمدين ليس بالثورة وأهدافها بل ببساطة برفض الدولة العسكرية والدولة الدينية على السواء. ورغم الأهمية الحقيقية لهذا التوجه فإن ما يسمى بالتيار الثالث أو التيار الأول كما يفضِّل حمدين أن يسميه قد يكون أقل بكثير من قرابة خمسة ملايين صوت حصل عليها حمدين. غير أن هذا التيار يظل كبيرا حقا وقد يصل إلى مليونين أو ثلاثة ملايين. ولا شك فى أن هذا يمثل تطورا جماهيريا بالغ الأهمية لصالح الثورة، رغم حقيقة أن هذا الجمهور كان يدفع بمرشحه إلى العمل فى ظل شروط تضع حدا لأوهام حمدين وتجعل منه فى الواقع الفعلى أداة لتهدئة الثورة. ومهما يكن من شيء فإن عدم فوز حمدين بمنصب رئيس الجمهورية يمنح دور هذا التيار فى مستقبل تطور الثورة، مع المزيد من تبلوره ونموه وتطوره، كل مغزاه.
11: التيار السياسى الجديد: وبدلا من تجاهُل التيار الجديد على أساس ارتباطه بأوهام غزو السلطة من داخلها وفى ظل القيود الحديدية التى تفرضها السيطرة الفعلية للمجلس الأعلى للقوات المسلحة على كل رئيس محتمل للجمهورية، ينبغى الانطلاق من حقيقة أن هذا التيار قد تشكَّل على أساس رفض الدولة العسكرية والدولة الدينية فى وقت واحد معا مع حزمة متحركة من الأهداف الأخرى للثورة قد تختلف باختلاف عناصر ومكونات هذا التيار. وإذا نظرنا إلى التيار الذى نشأ حول حمدين صباحى وجمهور حملات خالد على و أبو العز الحريرى و هشام البسطويسى وكذلك إلى اليسار الذى ذهب إلى عبد المنعم أبو الفتوح والجمهور الذى اتخذ موقف المقاطعة، وجدنا أنفسنا أمام ظاهرة سياسية جماهيرية تتبلور الآن وتتمحور حول رفض الدولة العسكرية والدولة الدينية كحد أدنى، مع رفض نظام مبارك، ومع استمرار الثورة، وحزمة تكبر أو تصغر من أهدافها ونضالاتها. وينبغى العمل على تطوير هذا التيار الجديد الذى لا يزعم أحد أنه يمثل قوة ثورية متماسكة ومتينة ومحصَّنة ضد التمزق من خلال نضالات الثورة.
12: التيار السياسى الجديد والأزمة الراهنة: وتبرز الآن أزمة رئاسة الجمهورية بحدة خاصة فى ظل حالة من الاحتقان والتوتر البالغين. وتتمثل هذه الأزمة البالغة التعقيد فى واقع أن الحصان الذى يبدو بقوة أن المجلس العسكرى يراهن عليه وهو أحمد شفيق مطعون فى أهليته القانونية لأن قبول ترشيحه رغم الوجود الفعلى لقانون يقضى بعزله لا يقتضى تطبيقُه انتظار حكم المحكمة الدستورية العليا بل كان من الواجب تطبيقه. كذلك فإن الاحتجاج على رئاسته باعتباره أحد أبرز رجال عصابة حسنى مبارك قابل للتصعيد بما ينطوى عليه ذلك من مواجهات كبيرة جديدة وعنف جديد وربما مجازر جديدة. وهكذا فإن حماقة المجلس العسكرى تُوقِعُهُ فى مأزق بالغ التعقيد والحدة. ويزيد الطين بِلَّة واقع أن المرشح الآخر وهو المرشح الإخوانى محمد مرسى يمثل خيارا يكاد يكون من المستحيل أن يهضمه نظام خلفاء مبارك وسلطتهم وطبقتهم. وهو على كل حال خيار يستبعده المجلس العسكرى الذى دخل فى خصومة حادة مع الإسلام السياسى فى الشهور السابقة. وتأتى هذه التطورات فى وقت محتقن بطبيعته بحكم الموعد النهائى المضروب لتسليم السلطة فى وقت تبدو فيه الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية فى مهبّ الريح مع احتمال حكم المحكمة الدستورية العليا بدستورية ما يسمى بقانون العزل وبالتالى إبطال ترشيح وانتخاب أحمد شفيق، وهما باطلان قانونا بصرف النظر عن حكم دستورية أو عدم دستورية القانون المعنىّ وذلك لمخالفتهما للقانون الذى أصدره مجلس الشعب وصادق عليه المجلس العسكرى ونُشِر فى الجريدة الرسمية، وفى وقت يبدو فيه حل الپرلمان احتمالا واردا ولا يمكن استبعاده فى حالة صدور حكم من المحكمة الدستورية العليا بحالة من عدم الدستورية تشوب قانون الانتخابات الپرلمانية، وهو احتمال لا يمكن التخلص منه إلا بصفقة سياسية مع الإخوان المسلمين على حساب سمعة المحكمة الدستورية العليا، التى دخلت مع مجلس الشعب فى الفترة الأخيرة فى حالة من الخصومة الحادة وتبادُل الاتهامات البالغة الفظاظة. ويزداد احتمال التصعيد الحاد بين المجلس العسكرى والإسلام السياسى، مع عدم تمكين مرشح الإخوان من الوصول إلى الرئاسة جنبا إلى جنب مع حل الپرلمان، ووضع حد لسيطرة الإسلام السياسى على تشكيل لجنة الدستور وإعداد الدستور بالتالى. فماذا يكون رد فعل الإخوان المسلمين عند حرمانهم من الرئاسة والحكومة ومجلسىْ الپرلمان وإعداد الدستور بعد محاولتهم المحمومة لتحقيق ما يسمى بالتكويش؟ ويأتى موعد النطق بالحكم فى قضية مبارك ونجليْه ورجاله فى 2 يونيو 2012 ليزيد الاحتقان واحتمال الاحتجاج فى حالة تأجيل الحكم أو التبرئة أو الحكم المخفف. وإذا كانت المحكمة الدستورية العليا قد نفت تحديد جلسة 11 يونيو للحكم فى الطعن على العزل السياسى (بوابة الأهرام، 29 مايو) فإن القضاء الإدارى سوف ينظر فى 12 يونيو دعاوى استبعاد شفيق من الترشيح للرئاسة. فكيف يمكن توظيف هذا التيار السياسى الجديد فى التعامل مع أزمة الرئاسة؟ وتُرَكِّز مبادرات متنوعة على أن يتمّ عرْض أصوات هذه الملايين من الناخبين على المرشح محمد مرسى باعتبارهم مفتاح نجاحه فى مواجهة شرسة مع أحمد شفيق فى الجولة الثانية مقابل تعهدات بضمانات مكتوبة ملزمة لرئيس الجمهورية تتعلق بلجنة الدستور والحكومة الائتلافية ومنصب نائب الرئيس مع حزمة من الأهداف الاجتماعية، وعرْض نفس الشيء على المرشح أحمد شفيق، بحيث يتمّ انتزاع ضمانات ضد الاستبداد والفساد ومع الحريات والعدالة الاجتماعية من أحد المرشحيْن الرئاسييْن أو كليهما. وبالطبع فإنه لا أحد منهما سوف يلتزم بالضمانات التى يقدمها مهما كانت مكتوبة، كما أن احتمال فوز محمد مرسى برئاسة الجمهورية ضعيف للغاية، كما أن إضفاء الشرعية على رئاسة شفيق أو مرسى من خلال مثل هذه الصفقات جريمة حقيقية فى حق الشعب لأنه إضفاء للشرعية على الدولة العسكرية فى حالة وعلى الدولة الدينية فى الحالة الأخرى، باستخدام التيار الجديد وقودا لصفقات لن يستفيد منها سوى شفيق فى حالة و مرسى فى الحالة الأخرى.
13: مقاطعة وإلغاء الانتخابات الرئاسية: وتتعدد الاقتراحات: إعادة الفرز، إعادة الانتخابات، الانتخابات بعد العزل لتكون بين حمدين و مرسى، انسحاب مرسى احتجاجا على استمرار ترشيح شفيق. والخيار الأفضل هو العمل على إلغاء الانتخابات الرئاسية عن طريق تصعيد الفعل الثورى الجماهيرى فى سياق مواجهة سياسية جماهيرية حاسمة. ويتمثل المأزق الذى ينطوى عليه هذا الخيار فى مسألة تسليم السلطة، فلمن سيجرى تسليمها؟ والحقيقة أننا لسنا على كل حال إزاء تسليم حقيقى للسلطة وعودة إلى الثكنات، بل ستتواصل السيطرة الفعلية للمجلس العسكرى من وراء الكواليس لأعوام ممتدة. وإذا كان هناك تسليم حقيقى أو نصف حقيقى للسلطة فإنه لن يأتى بفضل الانتخابات الرئاسية بل بما يمكن أن تفرضه حركة جماهيرية شعبية عند مستوى متقدم تصل إليه فى إطارٍ مثل حكم مدنى تعددى حقيقى. ومن هنا ضرورة مقاطعة الانتخابات والعمل الجماهيرى فى سبيل إلغائها، والعمل على تحقيق مختلف أهداف الثورة مع ربط هذا الهدف أو ذاك بالوسيلة النضالية الملائمة، والتصعيد المتواصل للنضال الثورى وتطوير الأشكال السياسية الجبهوية الملائمة لاستيعاب التيار الثورى المتنوع الناشئ الآخذ فى التبلور مع الاستقلال الفكرى والسياسى الحاسم لمختلف الأحزاب والحركات الثورية التى تشكل الجبهة الوليدة: جبهة القوى الثورية والديمقراطية والتقدمية والاشتراكية واليسارية والليبرالية اليسارية.
31 مايو 2012
14
مع متاهات أرقام الانتخابات فى مصر

1: لغز زيادة 5 ملايين فى عدد الناخبين فى ثمانية أشهر: فى استفتاء 19 مارس 2011 كان عدد المشاركين 18537954 فكانت نسبة المشاركة/الإقبال حوالى 41.2 فى المائة. ولأن الرقم المحدَّد لمن تنطبق عليهم شروط التصويت غير متاح أمامى الآن يمكن أن نحسب من عدد المشاركين ونسبة المشاركة (وهى نسبة تقريبية بالطبع)، وبهذا الحساب كان عددهم حوالى 45 مليونا.
وفى انتخابات مجلس الشعب 2011-2012 كان عدد المشاركين 27065135 من أصل مجموع عدد الناخبين، حوالى 50 مليونا، بنسبة مشاركة/إقبال حوالى 54 فى المائة.
وفى انتخابات مجلس الشورى فى بداية 2012 كان عدد المشاركين 6427666 بنسبة مشاركة/إقبال حوالى 12.9 فى المائة.
وفى الجولة الأولى لانتخابات رئاسة الجمهورية 23 و 24 مايو 2012، كان عدد المشاركين 23672236 من أصل مجموع عدد الناخبين 50996746 بنسبة مشاركة/إقبال حوالى 46.4 فى المائة.
ومن هذه الأرقام نجد أن نسبة المشاركة/الإقبال كانت 41.2 فى الاستفتاء على التعديلات الدستورية وارتفعت إلى 54 فى المائة فى انتخابات مجلس الشعب ثم انخفضت إلى 46.4 فى المائة فى هذه الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية؛ فهل يمكن استنتاج شيء له دلالته من هذا؟ من الصعب استنتاج شيء مؤكد، لأن الانتخابات الپرلمانية لها دينامية خاصة أعلى بطبيعتها من دينامية الاستفتاء وانتخابات رئاسة الجمهورية، بحكم حيوية المصالح الفردية والمحلية فى مختلف الدوائر الانتخابية وقوة الحشود المرتبطة بها، ونضرب صفحا عن نسبة مجلس الشورى الذى لا يعرف أحد حكمة السادات من اختراعه.
أما اللافت للنظر حقا والمثير للشك حقا فهو تطور إجمالى عدد من تنطبق عليهم شروط الاشتراك فى الاستفتاءات أو الانتخابات فقد ارتفع من حوالى 45 مليونا فى 19 مارس 2011 إلى 50 مليونا فى أواخر 2011 أىْ بعد حوالى ثمانية شهور فقط بزيادة تصل إلى 5 ملايين ثم ارتفع إلى حوالى 51 مليونا فى مايو 2012 أىْ بعد حوالى أربعة أو خمسة شهور. وإذا حسبنا على أساس معدل نمو سكانى 2 فى المائة وهو أعلى من الحقيقة حاليا فإن المتوقع أن يرتفع عدد السكان من حوالى 45 مليونا فى استفتاء 19 مارس 2011 إلى أقل من 45.6 مليونا فى الانتخابات الپرلمانية وإلى أقل من 46.5 مليونا فى الانتخابات الرئاسية، ومن حوالى 50 مليونا فى انتخابات مجلس الشعب إلى أقل من 50.4 مليونا فى الانتخابات الرئاسية. فكيف ارتفع عدد من تنطبق عليهم شروط التصويت بين الاستفتاء وانتخابات مجلس الشعب 5 ملايين صوت بدلا من أقل من نصف مليون؟
وقد دفعت الرغبة فى التحقق من طبيعة هذا الرقم الكبير بعضهم إلى الرجوع إلى عدد مواليد 1993 الذين بلغوا فى 2011 الثامنة عشرة من العمر؛ والحقيقة أن عددهم كان حوالى 795 ألف، وهو عدد لا يُقارَن بزيادة الملايين الخمسة.
فهل جاءت زيادة 5 مليون ناخب بجانبها الأكبر يا تُرَى من انضمام مفاجئ لأعداد ممن كانوا لا يملكون حق التصويت إلى مَنْ يملكون هذا الحق، فى صورة انتهاء الخدمة العسكرية والشرطية لأعداد كبيرة بهذه الصورة المفاجئة؟ ولكننا نعلم جيدا أن إجمالى عدد القوات المسلحة والشرطة لا يصل حتى إلى نصف الزيادة المذكورة حتى بافتراض إنهاء خدمة جميع أفراد القوات المسلحة والشرطة بصورة مفاجئة، وهذا ما لم يحدث أصلا.
وتتجه الأنظار، والحالة هذه، إلى حوالى 10 ملايين من المصريَّين بالخارج، فقد منحهم المرسوم بقانون رقم 130 لسنة 2011 (19 نوڤمبر 2011) بشأن تصويت المصريِّين المقيمين بالخارج فى الانتخابات العامة والاستفتاء حقهم الطبيعى فى التصويت، ولا يقلّ عددهم عن 5 ملايين ناخب بحكم تركيبهم العمرى. غير أن عدد المصريِّين بالخارج الذين سجلوا أسماءهم فى الكشوف حتى أبريل 2012 لم يتجاوز 586820 مواطن مصرى فى 166 دولة (وكانت نسبة مشاركتهم فى الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية حوالى 47 فى المائة).
وهكذا تحيط الشكوك العميقة بكل الأرقام التى تتضمنها كشوف الانتخابات والاستفتاءات فى مصر وهى كشوف لا تستبعد حتى كثيرا ممن لا يحق لهم التصويت من موتى منهم شهداء لا تحسبنَّهم "أمواتا بل أحياءٌ عند ربهم يُرزقون"، مثل مينا دانيال و خالد سعيد، ومن أفراد يحرمهم القانون المصرى من حقهم الطبيعى لأنه لا يعترف بأنهم مواطنون مصريون مثل المجندين بحكايتهم الشهيرة فى الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية.
[إضافة لاحقة فى 27 يونيو 2012: يُنْسَب إلى مصادر بوزارة الداخلية أنها تزعم أن زيادة الملايين الخمسة ترجع إلى تيسير الانتخاب بعد الثورة بالتصويت بالرقم القومى دون الحصول من أقسام ومراكز الشرطة على بطاقات خاصة، غير أن الزيادة المعنية حدثت بين استفتاء 19 مارس 2011 على التعديلات الدستورية وانتخابات مجلس الشعب، على حين أن التصويت بالرقم القومى حدث فى هاتين المناسبتين كلتيهما، فقد صدر قرار التصويت بالرقم القومى فى 4 مارس 2011 أىْ قبل الاستفتاء المذكور بخمسة عشر يوما]
2: استنتاجات سياسية ممكنة من الأرقام: وما دمنا مع الأرقام نتابع محاولة استخلاص استنتاج حقيقى منها؛ وها هى الأرقام المعنية:
بلغ عدد الأصوات الصحيحة فى الاستفتاء على التعديلات الدستورية 18366764، وكان عدد من قالوا "نعم" 14192577 بنسبة حوالى 77.27 فى المائة من الأصوات الصحيحة، وكان عدد من قالوا "لا" 4174187 بنسبة حوالى 22.73 فى المائة من الأصوات الصحيحة. والاستنتاج هو أن مَنْ قالوا "نعم" كانوا من أتباع النظام والراغبين فى استعادة الأمن والاستقرار وكانوا بصورة خاصة من الإخوان المسلمين والإسلام السياسى، فى وجه مَنْ قالوا "لا"، الذين كانوا يريدون إسقاط النظام ويرفضون إعادة بناء النظام عن طريق جعل تلك التعديلات التى كان قد أمر بها مبارك قُبَيْلَ تنحيته حصان طروادة إنقاذ نفس الدستور ونفس النظام.
وفى انتخابات مجلس الشعب، حصل حزب الحرية والعدالة الذى كان على رأس أحزاب التحالف الديمقراطى من أجل مصر على 222 مقعد من أصل 498 مقعد بالانتخاب بنسبة حوالى 44.6 فى المائة، وحصل حزب النور السلفى الذى كان على رأس أحزاب الكتلة الإسلامية على 112 مقعد بنسبة حوالى 22.5 فى المائة، وحزب الوسط على 10 مقاعد بنسبة حوالى 2 فى المائة وكان مجموع ما حصلت عليه هذه الأحزاب الإسلامية الثلاثة ، وحدها، أكثر من 354 مقعد بنسبة حوالى 71.1 فى المائة. وقد اقتربت هذه النسبة بإضافة أحزاب إسلامية أخرى من حوالى 75 فى المائة. وتوزعت النسبة الباقية على أحزاب منها حزب الوفد الجديد (38 مقعدا)، والحزب الديمقراطى الاجتماعى المصرى (16 مقعدا)، وحزب المصريِّين الأحرار (14 مقعدا)، وحزب البناء والتنمية (9 مقاعد)، وتحالف الثورة مستمرة (7 مقاعد)، وأحزاب تضم على قوائمها فلول الحزب الوطنى المنحل (14 مقعدا)، والمستقلين (26 مقعدا). وتقترب نسبة مقاعد الإسلام السياسى إلى مجموع مقاعد النواب المنتخبين فى مجلس الشعب من نسبة مَنْ قالوا "نعم" فى الاستفتاء، وتكادان تتطابقان عند إضافة مقاعد أحزاب الحزب الوطنى المنحلّ إلى نسبة الإسلام السياسى باعتبار أن حلّ الحزب الوطنى كان فى أپريل 2011 أىْ بعد الاستفتاء. وهناك إذن استقرار أيديولوچى سياسى إسلامى فى التصويت بين الاستفتاء وانتخابات مجلس الشعب.
وفى انتخابات مجلس الشورى، بلغت نسبة مقاعد التحالف الديمقراطى بقيادة حزب الحرية والعدالة الإخوانى من مجموع مقاعد المجلس 58.33 فى المائة (105 مقعد من مجموع 180 مقعد للأعضاء المنتخبين)، وبلغت نسبة مقاعد الكتلة السلفية بقيادة حزب النور السلفى 25 فى المائة (45 مقعدا من مجموع 180 مقعد)، وكان مجموعهما بنسبة 83.33 فى المائة (150 مقعد من مجموع 180 مقعد). وهذه نسبة مرتفعة عن نسبة هذين التكتلين الحزبييْن فى انتخابات مجلس الشعب. ويبدو أن عزوف أو مقاطعة معظم الناخبين والأحزاب ترك للإسلام السياسى فرصة أكبر فى الحصول على ما هو أكثر من نصيب الأسد الذى حصل عليه فى انتخابات مجلس الشعب.
وفى الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية حصل المرشح الإخوانى محمد مرسى على 5764952 صوت، أىْ أقل قليلا من 5.8 مليون صوت، بنسبة أقل قليلا من 24.8 فى المائة، وحصل عبد المنعم أبو الفتوح على 4065239 صوت، أىْ أقل من 4.1 مليون صوت، بنسبة أقل قليلا من 17.5 فى المائة، وحصل محمد سليم العوا على 235374 أىْ أكثر قليلا من 0.2 مليون صوت، بنسبة أكثر قليلا من 1.0 فى المائة. أىْ أن مرشحى الإسلام السياسى الثلاثة حصلوا على 10065562 أىْ حوالى 10 ملايين صوت، بنسبة حوالى 43.3 فى المائة. وهذه الأخيرة هى نسبة ما حصل عليه مرشحون إسلاميون يعلنون المرجعية الإسلامية. ولتقدير الأصوات المؤيدة للمرشحين الإسلاميين تأييدا لهذه المرجعية قد يكون علينا استبعاد حوالى مليون صوت من أصوات عبد المنعم أبو الفتوح لينخفض عدد الأصوات إلى حوالى 9 ملايين صوت بنسبة حوالى 38.3 فى المائة من الأصوات الصحيحة. وعلى هذا تكون نسبة ما حصل عليه الإسلام السياسى فى الانتخابات الرئاسية أىْ حوالى 38.3 فى المائة، أقل من نسبته فى انتخابات مجلس الشعب التى اقتربت من حوالى 75 فى المائة (أىْ أقلّ قليلا من النصف)، ومن نسبته فى انتخابات مجلس الشورى التى كانت حوالى 83.33 فى المائة (أىْ أقلّ كثيرا من النصف).
فما تفسير هذا الانخفاض الكارثى لتصويت الإسلام السياسى خلال هذه الفترة القصيرة بين انتخابات مجلسىْ الشعب والشورى والجولة الأولى من انتخابات رئاسة الجمهورية؟ إنه بالتأكيد ما يسمَّى بالتصويت الاحتجاجى أو السلبى أو العقابى، للإسلام السياسى ليس فقط على أدائه الكارثى فى مجلسىْ الپرلمان بل كذلك وفى المحل الأول على كل سلوكه السياسى خلال أكثر من 15 شهرا أثناء ما يسمى بالفترة الانتقالية فى سياق تحالفه الذيلى مع المجلس العسكرى ضد الثورة الأمر الذى كان يجعلها تخسر بصورة متواصلة قلب الشعب.
غير أننا نرى بالمقابل ارتفاعا صاروخيا فى تطور ما "يبدو" أنه تصويت للثورة المضادة متمثلة فى ممثليْن مباشريْن للنظام من نسبة متدنية للغاية فى الانتخابات الپرلمانية (نسبة أحزاب الحزب الوطنى فى انتخابات مجلس الشعب وربما بعض المستقلين) إلى حوالى 9 مليون صوت وهو مجموع أصوات أحمد شفيق و عمرو موسى وجانب من أصوات عبد المنعم أبو الفتوح. فكيف يمكن أن نقرأ هذا رغم السلوك السياسى والأمنى الإجرامى للمجلس العسكرى الحاكم طوال الفترة التالية للثورة؟ والحقيقة أن التحليل الدقيق لهذا التصويت لمرشحيْن بارزيْن للثورة المضادة يمكن أن يكشف، على العكس مما يبدو على السطح، عن تصويت رافض لنظام خلفاء مبارك. فأصوات شفيق و موسى وجانب من أصوات أبو الفتوح والتى تصل مجتمعة إلى حوالى 9 ملايين على أقصى تقدير بنسبة حوالى 38 فى المائة رقم مطلق ورقم نسبى متواضعان للغاية بالمقارنة مع أرقام ونسب انتخابات العهد البائد. وهناك من ناحية أخرى واقع أن هذه الأصوات تنطوى على تصويت قبطى طائفى ربما بالملايين فى مواجهة التصويت الطائفى الهجومى العدوانى المسعور من جانب الإخوان والسلفيِّين. وهناك بالطبع ما تعرفه الثورات من مخاوف من أهوال قائمة وأخرى متوقعة تزيدها اشتعالا حملات الترويع التى تقوم بها الثورة المضادة بقيادة المجلس العسكرى ومؤسسات الدولة وأبواقها الإعلامية، وبالتالى تحويل الرغبة فى الاستقرار والأمن حتى رغم سيطرة الظلم والاستبداد والفساد إلى اندفاع وراء كل وَهْم يظهر فى الأفق حاملا وَعْدَ الاستقرار والأمن والأمان. ويضاف إلى هذا واقع أن تردِّى الأوضاع الاقتصادية الاجتماعية للجماهير، وبالأخص تفاقم البطالة والغلاء، أكثر مما كانت قبل الثورة بحكم الطريقة التى يواجه بها الحكام الثورة، يدفع قطاعات من الشعب إلى الاندفاع نحو أوهام تروِّجها الثورة المضادة عن الاستقرار من جديد. وهناك بالطبع الاستغلال البشع للجهل والفقر والمرض بتوظيف المال السياسى فى شراء الأصوات والدعاية الانتخابية على أوسع نطاق. وهناك مختلف وسائل وأدوات وإجراءات تزييف إرادة الشعب وصولا إلى التزوير المباشر مع تمويهه بقشرة ناعمة خادعة. وقد قام النظام بتوظيف كل هذا وغيره فى الانتخابات الحالية على نطاق لم يكن العهد البائد بحاجة إليه أصلا فى ظل استبداه وفساده المطلقيْن المنفلتيْن. ولا ينبغى أن ننسى استغلال الدين من جانب النظام فى سباق محموم من جانب الأزهر وعلماء الدين والإعلام بصور شتى منها حُمَّى التضييق على المذاهب الإسلامية أو الدينية الأخرى لبعض الأقليات الصغيرة جدا فى مصر مثل الشيعة والبهائية، وحُمَّى النيْل من مكانة النساء والإناث بصور شتى، وحُمَّى معاداة المسيحية والمسيحيِّين فى البلاد وإشعال الفتن والروح الطائفة بصورة مهووسة، وكذلك الهجوم على العلمانية والاشتراكية والشيوعية كما يفعل شيخ الأزهر نفسه فى الفضائيات. ومن ذلك محاولات الإيقاع بين الطرق الصوفية من جانب والإخوان والسلفيِّين من جانب آخر لدفع قطاعات من هذه الطرق إلى التصويت للفريق أحمد شفيق. ومن هنا فإن التصويت الذى شهدناه لمن يسمَّوْن بالفلول لم يكن حُبًّا فى علىّ بل كان كراهية فى معاوية: كراهيةً للخوف المبرَّر تماما من الإسلام السياسى والخوف المبرَّر وغير المبرَّر من أهوال لا حصر لها، حقيقية أو متوهَّمة، وتَحَرُّقٍ إلى تحقُّقِ وعود وبشائر تراها قطاعات مهمَّشة ومتخلفة من الشعب فى غير مكانها الحقيقى.
3: ظاهرة التيار الثالث لا ينبغى أن تكون للمقايضة مع مرسى و شفيق: وقبل أن أشير مجرد إشارة سريعة إلى النقطة الأخيرة، أودّ التنبيه إلى أنه بالإضافة إلى أن من الصعوبة بمكان الاطمئنان إلى هذه الأرقام كمؤشرات دقيقة لاستخلاص استنتاجات يُعَوَّل عليها، كما رأينا، هناك مشكلة بسيطة تتمثل فى أننى لم أهتم ببعض التفاصيل فى نتائج الأعداد والأرقام الصغيرة لأحزاب ثانوية وأعتقد أن هذا لا يؤثر كثيرا فى الاستنتاجات السابقة.
أما النقطة الأخيرة فتتعلق بواحدة من أهم مفاجآت الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية وهى المفاجأة الأكثر أهمية من زاوية ما. إنها المفاجأة المرتبطة بظاهرة التصويت بقرابة 5 مليون صوت ﻟ حمدين صباحى. والظاهرة التى تهمنا هنا لا تتمثل فى ظهور حمدين كزعيم جماهيرى بارز بقدر ما تتمثل فى ظهور تصويت بالملايين لعدد من شعارات الثورة رفعها هذا المرشح حدها الأدنى هو الرفض فى وقت واحد معًا للدولة العسكرية لصالح دولة مدنية وللدولة الدينية (بل لدولة الخلافة الإسلامية وإنْ بعد 500 سنة كما يصرِّح محمود غزلان، الناطق باسم جماعة الإخوان المسلمين، دون مواربة)، بالإضافة إلى عدد كبير من أهداف ومطالب وشعارات الثورة، بكل الحقوق والحريات، بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية والحياة الكريمة، كما نادت الثورة. وقد سبق أن أكَّدْتُ فى مقال لى بعنوان "أسطورة الفترة الانتقالية وحقائق المسار الفعلى للتطورات فى مصر"، بتاريخ 11 مايو 2012، أنه "لا أحد يُنْكر بطبيعة الحال التسييس الذى يقوم به مرشحو اليسار: أبو العز الحريرى، و حمدين صباحى، و خالد على (بترتيب الحروف)". واستطردتُ فى ذلك المقال قائلا: "غير أن الاعتماد على الفعل الثورى المنفصل عن برنامج ما يسمى بالفترة الانتقالية كما وضعه العسكر أكثر جدوى وأبعد أثرا وبالأخص: أكثر مبدئية. كما أن الشرعية التى تُضْفيها الانتخابات التى تزيِّف إرادة الشعب على مؤسسات الدولة التى تجرى إعادة بنائها لن تؤثر فيها المقاطعة الثورية كثيرا بحكم حجمها المحدود نسبيا غير أن هذه المقاطعة تجرِّد هذه المؤسسات من الشرعية من وجهة نظر القوى الحقيقية للثورة وتُقِيم استقلالها عن برنامج العسكر والإخوان للفترة الانتقالية على أساس متين". وقد يبدو هنا أن المشاركة بصرف النظر عن عيوبها أفضل من المقاطعة رغم مزاياها، لأن المشاركة هى التى ارتبطت بتوسيع نطاق التسييس وأثمرت ظاهرة هذا التصويت الجماهيرى بالملايين من بنات وأبناء مصر لجانب كبير حقا من أهداف الثورة وشعارتها وفى المحل الأول رؤيتها. وفى مقال لاحق لى بعنوان "مأتم ديمقراطية المجلس العسكرى والإخوان المسلمين فجر الديمقراطية الشعبية فى مصر"، بتاريخ 31 مايو 2012، أكَّدْتُ "أن واقع أننا فى زمن الثورة بجماهيرها المستعدة للتجاوب مع مرشح ملتزم بمصالحها يضيف إلى محتوى خطاب حمدين وإلى فعالية الفضائيات فى الاتصال الجماهيرى عنصرا يضيف الكثير إلى تفسير صعوده المفاجئ". ولا شك فى أن هذا يعنى أن الفترة القصيرة التى سُمِحَ فيها بالدعاية الانتخابية بالتسييس الناشئ عنها بفضل خطاب حمدين الذى عرف طريقه بسرعة وسهولة إلى العقول والقلوب لم تكن كافية فى حد ذاتها لتكون السبب الوحيد أو الرئيسى للتسييس الذى جاء بهذه الملايين (من مليونين إلى ثلاثة ملايين من الناخبين بعد استبعاد مَنْ صوَّتوا ﻟ حمدين لأسباب أخرى). والصحيح أن هذا الخطاب لم يكن ليفعل فعله الكبير وأن هذا التسييس لم يكن ليحدث مطلقا لولا قرابة خمسة عشر شهرا من الفعل الثورى بكل أشكاله فهو الذى جاء بالحطب ليشتعل حالما مسَّتْه الشرارة.
والأمر البالغ الأهمية الآن هو أن هناك أحزابا وحركات تعمل على إعداد "وثيقة العهد"، والحقيقة أن الخطاب الذى يجرى فى إطاره تقديم هذه الوثيقة يجعلها، رغم كل التصريحات المناقضة، أساسا لمقايضة التزامٍ لا يُلْزِم أحدا فى الحقيقة ولا معنى له إلا إلحاق الأضرار الفادحة بالثورة عن طريق تقوية كلٍّ من محمد مرسى و أحمد شفيق، بملايين الأصوات التى يشملها هذا التيار السياسى الجديد من حيث تبلوره الراهن، بدلا من العمل على بلورة وتطوير وتوسيع هذا التيار بتحويله بفضل جهود كبيرة ودءوبة وصبورة ومبدئية إلى أحزاب مستقلة وجبهة ثورية حقيقية تصنعان تعددية حقيقية بالتضافر مع كافة عناصرها التى تولد وتنمو وتتطور الآن بصورة تتجه إلى الرسوخ فى مصر الثورة.
4: المحاكمة السياسية الجنائية الثورية والقصاص العادل وتطهير القضاء واستقلاله: والآن، بعد أن أصدر القضاء منذ قليل حكمه الظالم والمهين للشعب المصرى وشهدائه فى محاكمة مبارك ورجاله وأعوانه المسماة إعلاميا بمحاكمة القرن، وهو حكم يُبَشِّر المجرمين بالبراءة فى محكمة النقض فيما يرى رجال القانون فى ردود فعل أولى فى هذه اللحظة، تخرج الآن احتجاجات الشعب الذى اُسْتُبِيحت كرامته واُسْتُبِيح الدم الزكى لشهيداته وشهدائه مطالبا بالمحاكمة السياسية الثورية والقصاص وتطهير القضاء، الأمر الذى يحيط الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية باحتجاجات الانفجار الشعبى. وهنا ينبغى أن يجد ما يُسَمَّى بالتيار الثالث توظيفه الثورى الحقيقى الأول.
2 يونيو 2012
15
محاكمة ثورية للرئيس مبارك وأسرته ورجاله
وإلغاء الانتخابات الرئاسية الوشيكة وإسقاط الرئيس القادم
1: بدأت الاحتجاجات الجماهيرية الحالية ضد جولة إعادة انتخابات الرئاسة بين محمد مرسى مرشح حزب الحرية والعدالة وجماعة الإخوان المسلمين على رأس الإسلام السياسى، والفريق أحمد شفيق مرشح المجلس العسكرى وكل رجال حسنى مبارك وحزبه الوطنى المنحل وطبقته من رجال الأعمال الفاسدين بأغلبيتهم الساحقة، ومرشح حلفاء المجلس العسكرى فى الداخل والخارج، فى العالم العربى والغرب الاستعمارى. وتفجَّرت الاحتجاجات منذ البداية ضد دولة العسكر والمخابرات فى حالة نجاح شفيق، وضد الدولة الدينية والجمهورية الإسلامية والخلافة الإسلامية فى حالة نجاح مرسى. وإذا كان الاحتمال الأكبر هو إنجاح شفيق فإن الخطر المحدق هو إعادة بناء نظام مبارك بأقصى قدر من التعجَّل، وبعناد يستحق الدكتوراة مثل عناد مبارك فى زمانه، وباستفزاز لم يتصوره خيال، وبمنتهى الإهانة للشعب وثورته وشهيداته وشهدائه. وبالطبع فإن مرسى رغم ضآلة احتمال نجاحه هو مرشح الإسلام السياسى وفى المحل الأول الإخوان المسلمين الذين تحالفوا طوال الفترة التالية للثورة مع المجلس العسكرى الحاكم وتآمروا معه ضد ثورة الشعب. والحقيقة أن الخطر الفعلى المتمثل فى رئاسة شفيق لم يستبعد خطرا لا يصحّ من الناحية السياسية استبعاده يتمثل فى رئاسة مرسى. ومهما يكن من شيء فإن إدراك الثوار والجماهير الشعبية والقوى السياسية لحقيقة أن إقدام المجلس العسكرى على ترشيح شفيق وتجنيد مؤسسات الدولة لخدمة حملته الانتخابية ودفعه إلى جولة الإعادة، يجعل شفيق الهدف الفعلى الأكبر للاحتجاج الواسع النطاق مع الاحتياط الضرورى سياسيا بالاحتجاج على أىّ احتمال لرئاسة مرسى والدولة الدينية.
2: على أن نطاق الاحتجاج الجماهيرى اتسع ليصل إلى ذروة جديدة، حالما تم النطق بالحكم فى قضية مبارك ونجليه وعدد من أعوانه، لنجد أنفسنا إزاء المشهد الاحتجاجى الأكبر منذ الأسبوع الأخير من يناير والثلث الأول من فبراير 2011. والحقيقة أن هذه الموجة الخامسة للثورة فاقت، كما تشير الدلائل إلى الآن، كل الموجات التالية للموجة الأولى يناير-فبراير 2011 للثورة الشعبية. وبصورة منطقية، أدى التزامن والترابط والتداخل بين الحكم القضائى المرفوض المهين للشعب وثورته ودماء بناته وأبنائه والإعادة المهينة كذلك للثورة الشعبية وشهيداته وشهدائه بين شفيق و مرسى أىْ الممثليْن النموذجيَّيْن للحليفيْن الكبيريْن ضد الثورة إلى هذا التجدَّد الهائل للثورة الشعبية بهدفيْها المباشرين الحاليَّيْن وهما إسقاط الحكم القضائى لإعادة محاكمة مبارك بالاتهامات الحقيقية التى يجب توجيهها ولم يتم توجيهها أصلا إلى هذا الديكتاتور الفاسد وأعوانه، وإسقاط عملية الانتخابات الرئاسية التى كانت فى كل حلقاتها مؤامرة كبرى ضد الشعب.
3: ويتواصل حديث مملّ فحواه أنه لا تعقيب على أحكام القضاء. ولم تجد وزارة العدل أساسا قانونيا لهذا الحظر سوى المادتين 186 و 187 من قانون العقوبات، حيث تعاقب المادة 186 "كل من أخلَّ [.....] بمقام قاض أو هيبته أو سلطته فى صدد دعوى"، وتعاقب المادة 187 "كل من نشر [.....] أمورا من شأنها التأثير فى القضاة [.....] فى دعوى مطروحة أمام أية جهة من جهات القضاء فى البلاد أو فى رجال القضاء أو النيابة أو غيرهم من الموظفين المكلفين بتحقيق أو التأثير فى الشهود الذين قد يطلبون لأداء الشهادة فى تلك الدعوى أو فى ذلك التحقيق أو أمورا من شأنها منع شخص من الإفضاء بمعلومات لأولى الأمر أو التأثير فى الرأى العام لمصلحة طرف فى الدعوى أو التحقيق أو ضده". ومن الجلىّ أن هاتين المادتين لا تنصان صراحةً على أىّ حصانةٍ من أىّ نوع لأحكام القضاء ضد النقد، فالنقد مباح ضد الدستور والقانون والقضاء جميعا، لأنها جميعا من صُنْع البشر ولا مجال لتقديسها وجعلها آلهة وأصناما وأبقارا مقدسة. وهذا النقد هو طريق تعديل أو تغيير أو إعداد الدساتير أو تشريع أو إلغاء القوانين أو إلغاء أو تثبيت أحكام القضاء تحقيقا لميزان العدل الذى يمكن أن يختلّ على أيدى القضاء. وهذا حتى بافتراض استقلال القضاء وهو ليس الحال فى مصر التى يطالب قضاتها أنفُسُهم باستقلال القضاء وتطهير القضاء، والتى تطالب فيها القوى الحية للشعب بإعداد دستور ديمقراطى وبإلغاء كل القوانين المقيدة للحريات والحقوق وتشريع قوانين جديدة تردّ للشعب حقوقه وللقضاء استقلاله وللسلطة التشريعية تحرُّرها من السيطرة الدستورية والفعلية عليها من جانب مؤسسة الرئاسة على رأس السلطة التنفيذية.
4: وتتركز الاحتجاجات الشعبية الواسعة النطاق بمظاهراتها واعتصاماتها وكل نضالاتها التصعيدية المحتملة على أمريْن أساسيَّيْن: إلغاء الانتخابات الرئاسية لصالح استمرار الثورة متسلحة بكل ما يساعد على تطورها وتحقيق أهدافها، وإعادة محاكمة مبارك ورجاله على نطاق أوسع بما لا يقاس من كل الأسماء الواردة فى كل لوائح الاتهام الحالية، محاكمة ثورية عادلة خاصةً فى ضوء تدمير أجهزة النظام لكل أدلة الاتهام التى تُثْبِت ارتكاب مبارك ورجاله وخلفائه لجرائم سياسية وجنائية ترقى وبالأحرى تنحدر إلى مستوى الخيانة العظمى. ولا شك فى أن إعادة محاكمة مبارك ورجاله مهمة كبرى تستدعى مقولة الطَّرْق على الحديد وهو ساخن بدلا من وضعها فى ثلاجات التباطؤ والتواطؤ كما هو الحال إلى الآن. والأمل معقود على أن تتواصل الحركة الجماهيرية الثورية الكبرى الراهنة لإعادة إسقاط مبارك ونظامه. ويتمثل الجناح الآخر لتحليق هذه الحركة الثورية المجنحة فى إلغاء الانتخابات الرئاسية كخطوة أولى وإلغاء الانتخابات الپرلمانية كخطوة ثانية فى سبيل استعادة طريق التطور الثورى للعملية السياسية فى البلاد.
5: وفى الوقت الذى تعمل القوى الحقيقية المخلصة للثورة على جعل هذه الموجة الجديدة الكبرى للثورة الشعبية نقطة انطلاق جديدة لها فى سبيل الاندفاع إلى الأمام من تحقيق المهمتين المباشرتين المطروحتين الآن إلى تحقيق الأهداف الكبرى للثورة، بعيدا عن النفق المظلم للانتخابات الرئاسية والپرلمانية، تعمل قوى سياسية بعينها على توظيف هذه الاحتجاجات الشعبية لصالح هذه الأچندة السياسية أو تلك. فالإسلام السياسى يعمل على توظيفها لصالح حملة محمد مرسى الانتخابية ولصالح فوزه فى الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية. ويرفض حزب الحرية والعدالة محاولات مرشحين رئاسيِّين خاسرين فى الجولة الأولى تقاسُم السلطة مع رئاستهم المقبلة المتوهَّمة من خلال ما يسمى ﺑ "وثيقة العهد"، أو من خلال مجلس رئاسى يأتى من الميدان بأولئك المرشحين أنفسهم وبينهم محمد مرسى نفسه. كما يحاول شفيق كسب ودّ هذه الحركة بقبول بنود "وثيقة العهد" دون توقيع لأن هذا التوقيع "عيب"، كما يقول على طريقة السادات. ويتاجر شفيق بالدولة المدنية وكأن دولة مبارك كانت دولة مدنية (ويتاجر بها الإخوان المسلمون أيضا مضطرين بعد أن رفضوها بصورة مطلقة أيام وثيقة السلمى). كما يحاول المرشحون الرئاسيون الخاسرون المشار إليهم توظيف الحركة الثورية الجماهيرية الحالية لصالح تعويض خسارتهم للرئاسة "الفردية" فى الصناديق الانتخابية عن طريق فوزهم بالرئاسة "الجماعية" عن طريق التفويض الشعبى فى صورة مجلس رئاسى. ويهدد المجلس العسكرى بإصدار إعلان دستورى مكمل بالمادة المتعلقة بتأسيسية الدستور وبسلطات رئيس الجمهورية أو ﺑ "استدعاء" دستور 1971 من "الاحتياطى"، ما لم تتوافق القوى السياسية فى غضون مهلة اليومين التى تنتهى غدا الخميس 7 يونيو 2012 على معايير تشكيل لجنة الدستور، متحدِّيًا الحركة الشعبية وعددا من القوى والأحزاب السياسية، مصرًّا بعناد على وضعها أمام الأمر الواقع بتسليم السلطة للفريق أحمد شفيق كرئيس منتخب، بمساعدة الإخوان المسلمين والسلفيَّين والوهابيِّين المُصِرِّين كذلك على إجراء الجولة الثانية للانتخابات الرئاسية مدفوعين "بعشم إبليس فى الجنة".
6: وبإيجاز شديد: إما أن ينجح المجلس العسكرى فى فرض أحمد شفيق رئيسا للجمهورية وإما أن تنجح الحركة الشعبية الهائلة الحالية فى كنس شفيق من طريق الثورة ومعه مرسى بطبيعة الحال، بحكم المعسكر الذى اختار الوقوف إلى جانبه فى الصراع الحالى بين النظام والشعب، أو بين الدولة والثورة. ولن تكون رئاسة أحمد شفيق إنْ تحققت للمجلس العسكرى وله نهاية المطاف أو الكلمة الأخيرة بل من المنطقى أن تتواصل الثورة وأن تتفجر ينابيعها بصورة لم يتصورها المجلس العسكرى مطلقا بحساباته الخائبة المفاجئة الأخيرة لتكتسح رئاسة شفيق كما اكتسحت رئاسة مبارك.
7: وبعيدا عن المجلس الرئاسى المطروح بكثير من التردد، سيكون مفيدا للثورة أن تتجه إلى بلورة قيادة جبهوية توافقية واسعة للثورة تستبعد الإخوان والسلفيِّين والوهابيِّين من صفوفها بعد التجربة المريرة التى كشفت لقوى الثورة حقيقة هذه القوى الرجعية سياسيًّا وأيديولوچيًّا والرأسمالية الاستغلالية طبقيًّا. وتقوم مثل هذه الجبهة على النضال السياسى المشترك مع الاستقلال الفكرى والسياسى لمختلف عناصرها ومكوناتها كأحزاب وحركات. وتتمثل المهمة المباشرة الأولى المزدوجة فى اللحظة الحاضرة فى المحاكمة الثورية العادلة للرئيس مبارك وفى إسقاط الجولة الثانية للانتخابات الرئاسية؛ وإنْ لم تتمكن من ذلك وتولَّى أحمد شفيق منصب رئيس الجمهورية فإن الثورة المستمرة وحدها هى القادرة على الإطاحة به، وبالطريق الپرلمانى الدستورى الانتخابى الحالى القائم على تزييف إرادة الشعب المصرى والتصفية التدريجية لثورته، فى اتجاه بديل ثورى حقيقى.
6 يونيو 2012









16
كلمات فى عشية جولة إعادة
الانتخابات الرئاسية فى مصر
1: ظلَّ الشعب والقوى السياسية على مدى الشهور السابقة، أىْ منذ وعد المجلس العسكرى بتسليم السلطة إلى رئيس جمهورية منتخب قبل نهاية يونيو 2012، فى انتظار اليوم الموعود الذى يقترب الآن. وربما لم يخطر على بال الكثيرين أن ذلك اليوم سيشهد تسليميْن، وليس تسليما واحدا، للسلطة: تسليم السلطة التنفيذية لرئيس الجمهورية "المنتخب"، وتسليم السلطة التشريعية للمجلس العسكرى بعد حل مجلس الشعب. ورغم أن حل مجلس الشعب كان مرجَّحا إلا أن ما يترتب عليه من إعادة السلطة التشريعية إلى المجلس العسكرى لم يبرز على السطح كنتيجة منطقية لهذا الحل.
2: ومهما يكن من شيء فإن وعد تسليم السلطة لن يتحقق لأسباب عديدة. فالحقيقة أن الموعد المضروب سيشهد ليس فقط إضافة سلطات رئيس الجمهورية إلى السيطرة الفعلية للمجلس العسكرى، بحكم خضوع الرئيس الجديد للمجلس المذكور، كما كنا نتوقع، أو حتى قيادته الفعلية له فى حالة رئاسة "الفريق" أحمد شفيق بالذات التى تعنى بقاء منصب رئيس الجمهورية فى أيدى العسكر، بالسلاسة النموذجية المفترضة لعلاقات التبعية الفعلية والسيطرة الفعلية بينه وبين المجلس. ومن ناحية أخرى فإن تسليم السلطة التشريعية للمجلس يجعل منه مشرِّعا للسلطتين التنفيذية والقضائية ومراقبا للسلطة التنفيذية، وذلك إلى أن يتم انتخاب پرلمان جديد على أساس دستور تضعه لجنة تأسيسية للدستور يشرف المجلس العسكرى على تشكيلها. وبهذا تكتمل أركان السيطرة الرسمية والفعلية لهذا المجلس حتى انتخاب الپرلمان الجديد.
3: وعند انتخاب الپرلمان الجديد الذى سوف يصنعه المجلس العسكرى على عينه، واستعادته "الرسمية" بالتالى للسلطة التشريعية، سوف تكتمل السيطرة الفعلية للمجلس العسكرى على مؤسسات دولة الثورة المضادة التى قام بصورة مباشرة بتشكيلها: مؤسسة رئاسة الجمهورية على رأس السلطة التنفيذية، والسلطة التشريعية، والدستور الذى هو أساس كل المؤسسات والتشريعات والقوانين والتطبيقات والممارسات الفعلية للسلطة. ويمكن بالطبع أن نتوقع الاعتراض بأن الشعب ممثلا فى الناخبين الذين يشاركون فى الاستفتاءات والانتخابات الپرلمانية والرئاسية هو الذى ينتخب رئيس الدولة، وهو الذى ينتخب نواب الپرلمان، وهو الذى يقوم بإقرار الدستور من خلال الاستفتاء العام. غير أن مثل هذا الاعتراض لا قيمة حقيقية له، لأننا لسنا إزاء انتخابات نزيهة أو نصف نزيهة أو عُشْر نزيهة. وليس ما سبق كل شيء؛ ذلك أن التسليم الذى تمّ الآن بالفعل للسلطة التشريعية من الپرلمان إلى المجلس العسكرى، والتسليم المزمع للسلطة التنفيذية من المجلس العسكرى إلى رئيس الجمهورية الجديد، سبقهما مباشرةً قرار وزير العدل بمنح الضبطية القضائية لرجال المخابرات والشرطة العسكرية، هذا القرار الذى يمكن اعتباره بمثابة إعادة لفرض قانون الطوارئ أو تمهيد لذلك بعقوباته التى تصل مثله إلى الأشغال الشاقة المؤقتة (وصولا حتى إلى الأشغال الشاقة المؤبدة أو الإعدام)، والذى لا يعيد الجيش إلى ثكناته بل يفرض سيطرة الشرطة العسكرية والمخابرات العامة على الحياة المدنية بصورة شاملة.
4: وقد جاء القرار فى توقيت محدَّد أىْ قُبَيْلَ صدور حكمىْ المحكمة الدستورية العليا بعدم دستورية ما يسمى بقانون العزل وبعدم دستورية قانون انتخاب مجلس الشعب، وقُبَيْلَ جولة الإعادة بما يعنى الاحتياط به لردود الفعل المحتملة المرتبطة بما يترتب على الحكميْن المذكورين من استمرار أحمد شفيق فى الانتخابات الرئاسية، وحل مجلس الشعب على الفور، وحل مجلس الشورى عند الطعن فى انتخابه على أساس نفس القانون، وعدم إقرار انتخاب الاجتماع المشترك لمجلسىْ الشعب والشورى للجمعية التأسيسية للدستور، بالإضافة إلى أىّ توظيف آخر لهذا القرار فى إحكام دستورية أىّ اعتقالات فى المستقبل.
5: وإلى أن يتمّ إقرار الدستور الجديد، وانتخاب الپرلمان الجديد، سوف تظل السلطة التشريعية التنفيذية، الفعلية والرسمية، متركزة فى أيدى العسكر وبصورة تفوق من الناحية الرسمية والفعلية عهود مبارك و السادات و عبد الناصر. وسنكون بالطبع إزاء دولة إدماجية (كورپوراتية) عسكرية بكل معنى هذا التعبير. ولكنْ هل سيتغيَّر الوضع بعد أن يكون لدينا دستور جديد وپرلمان جديد؟ الحقيقة أن الدستور والپرلمان اللذين سيأتى بهما المجلس العسكرى ويخلقهما خلقا، مع تقديم المشيئة طبعا، لن يختلف معهما الأمر. ذلك أن السياق العام لما يجرى فى مصر من أعلى منذ الثورة إنما هو إعادة بناء مؤسسات الدولة بزعم أنها مؤسسات دولة الثورة بينما هى مؤسسات دولة الثورة المضادة من الناحية الفعلية. ومن المنطقى أن تكون مؤسسات الثورة المضادة، كما يحدث فى مواجهة كل ثورة فعلية فى كل مكان وزمان، مؤسسات أكثر قمعية واستبدادا وشمولية وفاشية وعسكرية وإدماجية من مؤسسات الدولة قبل الثورة، لأن مهمتها القمعية أكبر بما لا يقاس بطبيعة الحال من كل قمع فى الأوضاع العادية.
6: وتسود، حتى بين الثوار والثوريِّين، أجواء من الإحباط والحيرة بعد صدور الأحكام الخاصة بالرئيس المخلوع مبارك، ونتائج الجولة الأولى من انتخابات رئاسة الجمهورية، وقرار الضبطية القضائية، وأخيرا حكم المحكمة الدستورية بعدم دستورية قانون "العزل" وقانون انتخابات مجلس الشعب، بما يترتب عليهما من الرئاسة المرجَّحة بل الأكيدة ﻟ أحمد شفيق، وتسلُّم المجلس العسكرى للسلطة التشريعية، بكل ما يترتب على هذين التطوُّريْن المهميْن. ويتسع نطاق اتجاهىْ المقاطعة والإبطال، غير أن إدراك أنصار هذين الاتجاهين لمحدودية تأثير قيامهم بتسجيل موقفهم يجعل الكثيرين منهم عرضة للإصابة بالإحباط وحتى باليأس أحيانا، رغم أن فوز شفيق بالرئاسة وحل مجلس الشعب كانا متوقعين دون شك، مع الصعود الصاروخى ﻟ شفيق وتجنيد أجهزة وإعلام الدولة لخدمة حملته الدعائية، ومع الحرب التى تشنها الدولة ضد الإخوان المسلمين على رأس الإسلام السياسى، ومع الحرب التى تتصاعد منذ فترة بين الإخوان المسلمين والقضاء بما فى ذلك المحكمة الدستورية العليا.
7: وقد بدأت الاحتجاجات الجماهيرية بقوة هائلة فى أعقاب فوز شفيق و مرسى، وصدور أحكام البراءة المباشرة والبراءة المحتملة فى محكمة النقض (للاثنين المحكوم عليهما بالسجن المؤبد) فى قضية مبارك وعدد من رجاله وأعوانه. ومن المحتمل أن هذه الاحتجاجات الجماهيرية كانت الأوسع والأعمق منذ 11 فبراير 2011. غير أن هذه الاحتجاجات الجماهيرية أخذت تضعف لأنها احتجاجات ضد أحكام قضائية من ناحية، وضد نتائج انتخابية من ناحية أخرى، وبتأثيرٍ من عدد من مرشحى الرئاسة الخاسرين وعدد من القيادات الذين انضموا إلى جوقة أنه لا اعتراض على أحكام القضاء ولا على إرادة الشعب من خلال انتخابات نزيهة أو شبه نزيهة مزعومة.
8: على أن من الحكمة أن نبتعد عن أجواء الإحباط والحيرة، مدركين أن رئاسة شفيق لا يمكن أن تكون الكلمة الأخيرة فى صراع الثورة والثورة المضادة. ولن يكون النظام الاستبدادى الشمولى الإدماجى الاستغلالى الفاسد الوشيك، استمرارًا لنفس المعادلة القائمة فى الوقت الحالى، الكلمة الأخيرة. فالثورة المستمرة تسكن فى روح الجماهير العاملة والفقيرة التى حولت الانتفاضة إلى ثورة شعبية، والتى تدهورت أوضاعها الاجتماعية والاقتصادية أكثر من تلك التى ثارت ضدها منذ قرابة سبعة عشر شهرا. وتتمثل ينابيع استمرار الثورة فى هذه الجماهير الشعبية التى لم تتحقق الأهداف الأساسية لثورتها التى حققت مع هذا منجزات هائلة على رأسها إسقاط الرئيس السابق مع التمديد والتوريث والعديد من رجاله الذين كانوا يمثلون أبرز رموز استبداد وفساد العهد البائد، وكسر حاجز الخوف، وعودة الروح إلى الشعب، والتسييس الواسع النطاق للشعب، وخبرات الممارسة الواسعة النطاق لمختلف أشكال الاحتجاج، وإرهاصات وبدايات تكوينات الديمقراطية الشعبية من أسفل متمثلة فى التعددية الحزبية والنقابية والصحافية الوليدة، وفى اكتمال بروز الأهداف والمطالب السياسية والاقتصادية والاجتماعية الحقيقية للجماهير الشعبية والعاملة والفقيرة، باعتماد نضالات الفعل الثورى.
9: ومن الناحية السياسية فإنه يمكن القول إن التحالف الذيلى الذى ارتضاه الإخوان المسلمون والسلفيون والوهابيون مع المجلس العسكرى طوال الفترة السابقة منذ الثورة، والذى شهد الأزمة المتوقعة منذ البداية على أساس أن المجلس العسكرى إنما كان يقوم بتوظيف تحالف مؤقت مع الإخوان المسلمين والإسلام السياسى فى مهمة تصفية الثورة، تحقيقا لمصالح الطرفيْن بوصفهما ممثليْن سياسييْن لقطاعيْن متميزيْن من قطاعات نفس الطبقة الرأسمالية التابعة للإمپريالية، ومقابل مكاسب مؤقتة مثل المجيئ بهم كأغلبية ساحقة فى مجلسىْ الپرلمان من خلال انتخابات زيَّفتْ إرادة الشعب فى سياق عُرْسٍ مزعومٍ للديمقراطية، ومثل منحهم تصاريح إقامة أحزاب على نحو مخالف للإعلان الدستورى الذى تنص مادته الرابعة على أنه "لا يجوز مباشرة أىّ نشاط سياسى أو قيام أحزاب سياسية على أساس دينى". وينبغى أن تكون هذه النهاية للتحالف العسكرى الإسلامى درسا بليغا للعديد من الثوريِّين الذين ظلوا يروِّجون لفكرة أننا لسنا إزاء تحالف مؤقت، للقيام بوظيفة بعينها، بل إزاء تحالف إستراتيچى طويل الأمد يمكن أن يصل إلى حد تسليم السلطة للإخوان المسلمين وفقا لاتفاق أمريكى سعودى مزعوم مع المجلس العسكرى؛ وكأن النظام فى مصر يمكن أن ينقاد لأوامر أمريكية مهما كانت هذه الأوامر ضد مصالحه وضد وجوده ذاته، وأيضا كأن أمريكا يمكن أن تتحالف، دون ضرورة قهرية فريدة لا مناص منها، مع الإسلام السياسى حتى بعد 11 سپتمبر 2001.
10: ويرجِّح بعض هؤلاء الثوريِّين أن يتَّبع المجلس العسكرى تاكتيك التزوير الموصوف بالناعم أو "الشيك" بعيدا عن التزييف الفجّ فى جولة الإعادة، الأمر الذى قد يفرض وفقا لتصوُّراتهم وأوهامهم وصول محمد مرسى إلى منصب رئيس الجمهورية. والحقيقة أن التصعيد الحالى الذى نسف كل أساس للتحالف الطويل الأمد فى الحقبة الحالية بين المجلس والإخوان (نتيجة للشهية المفتوحة إلى حدّ التلمظ البالغ السفه للإسلام السياسى وللإخوان المسلمين فى المحل الأول فى إطار ما يسمى بظاهرة "التكويش" دون حدود ودون حذر) يستبعد تماما مثل هذا التطور. ومن ناحية أخرى فإن الأرقام المحتملة للتصويت تجعل التزوير الناعم لصالح أحمد شفيق أكثر من وارد. وإذا ذهبت أصوات مرسى وأغلب أصوات أبو الفتوح فى الجولة الأولى إلى مرسى فى الجولة الثانية، بافتراض فشل أىّ محاولة محتملة ما من جانب المجلس العسكرى لشق الصفوف بين الإخوان الذين صوتوا ﻟ مرسى والسلفيِّين الذين صوتوا ﻟ أبو الفتوح فى الجولة الأولى، فإن أصوات مرسى لن تتجاوز تسعة أو عشرة ملايين صوت على أكثر تقدير، على حين أنه إذا ذهبت أصوات شفيق وأصوات عمرو موسى و معظم أصوات حمدين صباحى فى الجولة الأولى إلى أصوات شفيق فى الجولة الثانية فإن الرقم الإجمالى لهذه الأصوات سوف يتجاوز الرقم الإجمالى لأصوات مرسى بصورة مريحة. وبالطبع فإن نسبة الإقبال على التصويت سوف تختلف بصورة غير متناسبة بين المرشحيْن الرئاسييْن؛ ومن شأن هذا أيضا أن يصبَّ فى صالح شفيق بحكم التراجع العام للمركز السياسى للإخوان المسلمين على رأس الإسلام السياسى.
11: وفى سياق إجبار الإسلام السياسى على العودة إلى موقع الرضى بالمساومات والصفقات الصغيرة كما كان الحال فى أواخر عهد مبارك، وبالطبع وفقا لرد فعله على الضربات التى تُكال إليه فى الوقت الحالى (الاستسلام أو المقاومة، المتواضعة أو الكبيرة) سوف يتحدد موقف المجلس العسكرى من الإخوان المسلمين والإسلام السياسى ومستوى تصعيده ضدهم. وفى سياق عدم استعداد الإسلاميِّين للانتحار فى مواجهة غير متكافئة مع المجلس العسكرى ومختلف قطاعات الرأسمالية التابعة المعادية لأيديولوچيا الإسلام السياسى، يمكن أن نتوقع درجة من الاعتدال من جانب المجلس العسكرى فى التصعيد ضدهم حيث يمكن أن يكون هذا التصعيد تطورا من الأفضل تفاديه فى المدى المباشر. ولا شك فى أن المجلس العسكرى سوف يرتاح إلى أن يكون ردّ فعل الإخوان المسلمين معتدلا، رغم تجريدهم من معظم أدوات الصراع أو حتى البقاء السياسى الرسمى، ليكون تصعيده ضدهم معتدلا بدوره، تفاديا لأىّ مواجهة قاسية تعكِّر صفو العُرْس الديمقراطى المزعوم داخل مصر وأمام العالم. وربما بقيت للإسلام السياسى أحزابه الحالية زمنا آخر إنْ لم تجرِ ملاحقته بصورة متواصلة بطعون على دستورية هذه الأحزاب المخالفة للإعلان الدستورى أصلا. وسوف يتوقف هذا بدوره على مستويات الصراع السياسى المحتمل بين الفريقيْن وبالأخص على مستويات ردود الفعل الإخوانية والإسلامية. وقد شهدنا أمس مظاهرة سلفية تطالب بإلغاء مبدأ الحكم بأىّ دستور أصلا لصالح الحكم بالشريعة (أىْ عدم الاكتفاء بتديين الدستور) غير أن اتساع نطاق مثل هذا الاتجاه، خاصةً من جانب الإخوان، لا يمثل احتمالا قويا.
12: وبالطبع فإن الاتجاه العام للنظام فى المدى المتوسط والطويل يتمثل فى العودة إلى الحل الأمنى لمشكلة وجود الإسلام السياسى واحتمالات المزيد من تطوره فى المستقبل. ولم يقتصر الحل الأمنى الذى اتبعته عهود ما بعد حركة 1952 على الإسلام السياسى، بل جرى اعتماد هذا الحل الأمنى كموقف إستراتيچى ضد كل قوى المعارضة وبالأخص ضد الإخوان والشيوعيِّين. ولم يقتصر موقف انقلاب 1952 المعادى للديمقراطية على عدم تحقيق بند الديمقراطية من البنود الستة الشهيرة لذلك الانقلاب بل تجسَّد ذلك الموقف قبل كل شيء فى العصف الكامل والشامل بالحريات الديمقراطية النسبية للعهد الملكى الاستعمارى بفضل ثورة 1919 ودستور 1923. وظلت هذه السياسة المعادية للديمقراطية ديدن عهود عبد الناصر و السادات و مبارك. وهى السياسة المستمرة فيما يسمى بالفترة الانتقالية، التى توشك فى زعم منظميها على الانتهاء، هذه السياسة التى ستتواصل فى عهد الرئيس القادم المفروض على الشعب: أحمد شفيق. ولا شك فى أن هذا الحل الأمنى المتواصل جزء لا يتجزأ من الحكم الفاشى الشمولى الذى لم ينفتح وما كان له أن ينفتح مطلقا على الحل الديمقراطى التعددى بحكم طبيعة الرأسمالية التابعة فى بلدان المستعمرات وأشباه المستعمرات السابقة. ولا شك فى أن الديمقراطية الشعبية من أسفل تمثل أداة المقاومة الثورية لهذه المعاداة المتأصلة للديمقراطية، كما تمثل المعنى الصحيح الوحيد للديمقراطية فى ظل الرأسمالية بوجه عام.
13: وبطبيعة الحال فإن رئاسة أحمد شفيق للجمهورية الثانية المزعومة سوف تعنى، كما سبق القول، ما هو أسوأ من مجرد إعادة بناء نظام مبارك. غير أن هذه الرئاسة لن تعنى أن الثورة قد تمت سرقتها أو تصفيتها، بل سوف تعنى فقط، بالإضافة إلى "المحاولات" المحمومة المتواصلة لسرقتها وتصفيتها، بداية مرحلة جديدة حافلة بنقاط ومحطات الصراع بين الثورة المستمرة والثورة المضادة المتواصلة: النضال الثورى والقانونى فى سبيل إسقاط شفيق فى سياق إسقاط نظام مبارك وخلفائه، ومواجهة الاستفتاءات الدستورية والانتخابات الپرلمانية القادمة من خلال الفعل الثورى وتاكتيك المقاطعة، وعلى وجه الخصوص بناء مؤسسات وأدوات الديمقراطية الشعبية من أسفل فى مواجهة قيام المجلس العسكرى والليبراليِّين وبقية الممثلين السياسيِّين للرأسمالية التابعة ببناء مؤسسات دولة الثورة المضادة.
14: وإذا كان التطور المنطقى لسياسة الثورة المضادة هو قيام حكم عسكرى شمولى من أعلى، كما يحدث دائما فى الثورات بوجه عام، فإن هذا لا يعنى ما يرجِّحه بعض الثوار والثوريِّين من انتقال المجلس العسكرى إلى طريق التصفية الحربية العنيفة للثورة بعيدا عن طريق التصفية التدريجية المتَّبعة منذ الثورة رغم العنف وحتى المذابح المتكررة. فالحكم الشمولى الفاشى الإدماجى لا يحتِّم طريق الحرب الأهلية فى تصفية الثورة ولا يعنى الجنون الحربى الهستيرى لكثير من الأنظمة الفاشية بالضرورة أن يتصف كل حكم من هذا النوع بنفس الجنون الحربى. ذلك أن التجربة التاريخية تعلِّم الأنظمة الديكتاتورية الفاشية أن المواجهة الحربية تعنى تصفية هذه الأنظمة وطبقاتها المالكة وليس تصفية الشعب أو حتى الثورة.
15: وهناك مَنْ يتحدثون عن ضرورة وواجب تقدُّم الثورة مباشرة نحو الاستيلاء على السلطة السياسية بدلا من إدراك أن الجُمَل الثورية لا تكفى لتمويه حقيقة أن الاستيلاء على السلطة مسألة عسكرية تفتقر إليها الثورة على الأرض، مع أنها رغم سلميتها هزمت قوات وزارة الداخلية ويمكن أن تهزم كل قوات أخرى من موقف الدفاع عن النفس، وليس من موقع الهجوم المغامر، كما حدث فى ليبيا، وكما يحدث حاليا فى سوريا واليمن، وكما حدث فى الثورة الإيرانية وفى ثورات كثيرة سابقة ولاحقة. وهناك أيضا مَنْ يتحدثون عن الكفاح المسلح وينطوى هذا فى الأوضاع الراهنة على نفس العبث الصبيانى الذى يقوم بوظيفة تسهيل تصفية الثورة.
16: ويسخر أحمد شفيق من شعار "يسقط الرئيس القادم" باعتباره موقفا صبيانيا ضد رئيس لم يعرف أحد مَنْ هو وما طبيعة وخصائص حكمه، غير أن القوى الحقيقية للثورة تعرف أن الرئيس القادم هو أحمد شفيق، وتعرف طبيعة حكمه الاستبدادى الفاسد القادم استنتاجا من كونه من رجال نظام مبارك، ومن واقع أنه كان رئيسا للوزراء فى فترة 29 يناير إلى 3 مارس 2011، أىْ فى فترة القمع الدموى للثورة، ولأنه كان من أركان الفساد فى العهد البائد كما تكشف القضايا المرفوعة ضده. ولهذا ترفع قوى الثورة دون تردد شعار "يسقط الرئيس القادم أحمد شفيق" (وهو رئيس "معزول" دون شك وفقا للقانون الذى أصدره مجلس الشعب، وأقره المشير، ونُشِرَ فى الجريدة الرسمية، والذى كان قائما بالفعل عند استبعاده من الترشيح على أساسه، قبل القبول المخالف لذلك القانون عند تظلُّمه، حيث لا يترتب على حكم المحكمة الدستورية بعدم دستوريته فى وقت لاحق إبطال حقيقة أنه كان ساريا بالفعل عند الترشيح وعند قبول التظلم). وتناضل قوى الثورة فى سبيل تحقيق الأهداف الأساسية لثورة 25 يناير 2011 المجيدة التى يتمثل شعارها الجامع أو الناظم فى الديمقراطية الشعبية من أسفل. وهنا تمثل مقاطعة الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية موقفا ثوريا لصالح الفعل الثورى بكل نضالاته، ويمثل "الإبطال" فيها موقفا قريبا من المقاطعة بمبررات تفصيلية غير مُقْنِعة بالمرة، فيما تمثل المشاركة فيها موقف المشاركة "الإيجابية" حقا فى بناء مؤسسات دولة الثورة المضادة. وينبغى أن تكون المقاطعة جزءًا من تطوير وتصعيد الفعل النضالى الثورى لإسقاط نظام مبارك وخلفائه بقيادة المجلس العسكرى والرئيس القادم (ما لم تحدث معجزة): أحمد شفيق.
الجمعة 15 يونيو-السبت 16 يونيو 2012











17
الانقلاب العسكرى المكمِّل
1: الانقلاب العسكرى الأصلى: كانت تنحية الرئيس السابق مبارك فى 11 فبراير 2011 نتيجة لانقلاب عسكرى جرى خلال الأيام القليلة السابقة لذلك التاريخ، منذ نزول الجيش تقريبا، تحت ضغط الثورة المطالِبة بإسقاط النظام ورحيل مبارك. والسؤال المنطقى، الذى يكشف عن حقيقة وطبيعة ما تبع ذلك، هو: انقلاب عسكرى على مَنْ أو ضد مَنْ؟ ولا شك فى أنه كان انقلابا على مبارك وضده وتخلِّيًا عنه، وعلى وجه التحديد ضد استمراره رئيسا للبلاد. ولأنه كان انقلابا عسكريا تحت ضغط الثورة، وليس مبادرةً من قيادة الجيش فى وضع عادى مستقر وغير ثورى، فإنه لا مناص من استنتاج أن ذلك الجانب من الانقلاب، جانب التخلُّص من مبارك، إنما كان مجرد أداة للانقلاب العسكرى الشامل ضد الثورة السياسية الشعبية. وبكلمات أخرى فإن الانقلاب لم يكن لحماية الثورة من مبارك، بل كان بهدف نزع فتيل الثورة بتحقيق مطلب الثورة الذى بدا أنه الهدف الرئيسى للثورة الذى أجمعت عليه كل قواها.
والحقيقة أن ذلك الانقلاب العسكرى الأول خدع الكثيرين من الثوار بالفعل وأوهمهم بأن المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية جهاز عسكرى محايد سياسيا من أجهزة الدولة وبأنه بالتالى سوف يحقق مطالب الثورة رغم أنه اكتفى بتحقيق جزئى لمطلب واحد هو رحيل مبارك مع حمايته من بقية مطالب الثورة ضده وضد أسرته وضد رجاله، وضد نظامه قبل كل شيء، مع التسويف والتجاهل والرفض لكل المطالب والأهداف الأخرى المتعلقة بإسقاط النظام. ولم تظهر الطبيعة الحقيقية المعادية للثورة على طول الخط للمجلس الأعلى إلا بصورة تدريجية، ولم تتحرر القوى الحقيقية للثورة من الأوهام التى أحاطت بهذا المجلس إلا بصورة تدريجية أيضا.
2: كان نجاح الانقلاب العسكرى الأصلى فيما نجح فيه بفضل التحالف مع الإسلام السياسى: واستطاع الانقلاب العسكرى أن يتمّ فصولا وأن ينجح فيما نجح فيه فى مجال تحقيق مهمته المتمثلة فى تصفية الثورة عبْر الضربات الأمنية من ناحية، وعبْر ضربات الإجراءات والتدابير والتشريعات القانونية والاستفتاءات الدستورية والانتخابات الپرلمانية والرئاسية من ناحية أخرى. وإلى جانب سلبيات هائلة فى صميم تكوين قوى الثورة منها عفوية الثورة وجنينية وعيها وضعف النضج السياسى والفكرى لقياداتها، نجح المجلس الأعلى فى إقامة تحالف كبير مع قوى الإسلام السياسى بقيادة جماعة الإخوان المسلمين. وقد قام ذلك التحالف بفضل الاكتشاف المتزامن لنظام مبارك والإسلام السياسى لضرورة هذا التحالف فى لحظة سياسية فارقة من وجهة نظر كلٍّ من الطرفيْن. فقد أراد نظام مبارك أن يكون تحالفه الجديد الاضطرارى مع الإخوان المسلمين أداة ضرورية لشق صفوف قوى الثورة والعمل على تصفيتها بتوظيف الإخوان المسلمين واستخدامهم لفترة تطول أو تقصر وفقا لمعدلات النجاح فى المهمة المشتركة: تصفية الثورة السياسية الشعبية.
وكانت الثورة الشعبية بكل قواها فى الميدان وكان من الضرورى من وجهة نظر نظام مبارك القيام بشق صفوفها وإخلاء الميدان من قوى الإسلام السياسى أولا من خلال إقامة تحالف كبير معها بحيث لا تبقى فى ميادين التحرير سوى القوى غير الإسلامية للثورة وبالتالى توجيه الضربات القاصمة إلى هذه القوى الحقيقية للثورة. وقد استخدم نظام مبارك هذا التاكتيك لإدراكه، بفضل تجربته التاريخية المتمثلة فى الصفقات الانتخابية وغير الانتخابية السابقة مع الإخوان المسلمين بالذات، وبفضل غريزته السياسية وخبرته السياسية، أنهم وحدهم القوة السياسية الكبيرة والفعالة والمستعدة فوق ذلك لقبول مثل هذا التحالف. وكان نظام مبارك يدرك بصورة واعية أو غزيزية أن الإسلام السياسى ليس سوى تعبير سياسى عن نفس الطبقة الرأسمالية التابعة للإمپريالية فلا يختلف عنه إلا أيديولوچيا. ذلك أن نظام مبارك لا يجهل ممتلكات وثروات وشركات الإخوان والسلفيِّين حيث يمثلون قطاعات رئيسية من الطبقة الرأسمالية المالكة التى لا تُعتبر بمجموعها طبقة حاكمة فى ظل سيطرة حكم الشخص ممثلا فى مبارك وأسرته وحلقة ضيقة (بالمئات على الأقل) من رجاله.
أىْ أن المصالح الطبقية الواحدة لنظام مبارك والإسلام السياسى باعتبارهما ينتميان إلى نفس الطبقة الرأسمالية التابعة هى الأساس الطبقى للتحالف بين نظام مبارك والإخوان والسلفيِّين. وقبل تنحية مبارك عن طريق الانقلاب العسكرى ضده لتهدئة الثورة تمهيدا لتصفيتها، جرى وضع الأسس الرئيسية للتحالف بين نظام مبارك والإخوان المسلمين من خلال تفاوضهم مع اللواء عمر سليمان ممثلا ﻟ مبارك. وهذه الأسس للتحالف هى التى ورثها المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية للاستمرار بنفس هذا التحالف المعادى للثورة.
3: مكاسب وخسائر الإخوان المسلمين من التحالف مع المجلس الأعلى: ومن ناحية الإخوان والسلفيِّين كان هذا التحالف مع مبارك ضروريا للغاية أولا لحماية نفس هذه المصالح الطبقية المشتركة ضد الثورة السياسية الشعبية، ومن ناحية أخرى للقفز على السلطة السياسية حتى مع البدء بنوع من تقاسُم السلطة كشريك أصغر مع نظام مبارك. فماذا كسب الإخوان المسلمون من هذا التحالف من الناحية الفعلية بصورة تُوازِن خسائرهم بسببه وبالأخص بسبب ما ترتَّب شعبيا على وقوفهم مع المجلس الأعلى ضد الشعب والثورة؟
والحقيقة أنهم كسبوا كثيرا: لقد تحولوا من الجماعة السرية المحظورة إلى جماعة معترف بها وإنْ بدون ترخيص قانونى إلى الآن، وهى جماعة يُحْسَب حسابها فى كل خطوة فى السياسة المصرية، على الأقل خلال الفترة الانتقالية، وتحولوا إلى قوة سياسية تتمثل فى حزب ضمن أحزاب سياسية متعددة للإسلام السياسى، وهو الحزب الأكبر عددا والأكثر تنظيما بين كل الأحزاب القائمة، وصار شريكا يُعْتَمَد عليه وبالأخص من خلال تحالفه مع المجلس الأعلى وعلاقاته مع مختلف القوى السياسية فى البلاد، كما استطاع أن يكتسح فى الانتخابات الپرلمانية ليصير حزب "الأكثرية" فى مجلس الشعب و"الأغلبية" الساحقة فيه أيضا بالائتلاف مع بقية أحزاب الإسلام السياسى، وليصير حزب الأغلبية الكاسحة منفردا فى مجلس الشورى، كما صار الحزب الذى قدَّم بين مرشحين آخرين مُوالين تاريخيا له وللإسلام السياسى مرشحا لرئاسة جمهورية مصر حصل على أعلى الأصوات فى الجولة الأولى، وتحتفل حملته الانتخابية الآن بفوزه كما تُظْهِره تجميعات حملة الدكتور محمد مرسى للأصوات التى حصل عليها فى الجولة الثانية.
وبهذا فإن الجماعة السرية المحظورة صار ذراعها السياسى، أىْ حزب الحرية والعدالة، أقوى حزب سياسى علنى فى مصر: حزب الأغلبية الپرلمانية كسابقة تاريخية رغم حلّ الپرلمان مؤخرا، وحزب أعلى الأصوات لمرشحه فى الجولة الأولى من انتخابات رئاسة الجمهورية، وأعلاها إلى الآن فى الجولة الثانية، حتى فى حالة إعلان فوز منافسه بالرئاسة فى نهاية الأمر، كما صار بحكم أغلبيته الپرلمانية الحزب الذى شكَّل الجمعية التأسيسية للدستور مرتيْن وإنْ تمّ إبطال التشكيل الأول ويجرى حاليا إبطال التشكيل الثانى.
فهل تتوازن سابقة الاقتراب من الاستحواذ على مفاتيح السلطة فى البلاد من الناحية الرسمية على الأقل فيما سُمِّىَ بظاهرة "التكويش" مع خسائر الإسلام السياسى نتيجةً للتحالف مع المجلس الأعلى فى مهمة بعينها. وتتمثل الخسارة الأساسية فى تكشُّف حقيقة الإخوان المسلمين أمام القوى الحية للشعب والثورة عندما فتح لهم نظام مبارك ثم نظام خلفائه فرصة التحالف معهما فأعمتهم عن الخسائر المحتملة رغبتهم فى القفز على السلطة أو حتى فى تقاسُمها أو حتى فى التصريح لهم بالوقوف على أعتابها.
فبعد انضمامهم ذى الطابع المزدوج (كقوة من قوى الثورة ولكنْ ليس كقوة ثورية بل كقوة من قوى الثورة المضادة) إلى الثورة بعد تردُّد دام أياما بعد تفجُّرها، واندفاعهم إلى التفاوض على أسس التحالف مع النظام مع عمر سليمان ممثلا عن مبارك ونظامه، تحالفوا مع المجلس الأعلى ووقفوا معه ضد الثورة وحركتها وأنشطتها ونضالاتها واحتجاجاتها من مظاهرات واعتصامات وإضرابات باعتبارها تخريبا تؤثمه الشريعة والقانون، كما شاركوه مختلف خطوات وضع الأسس القانونية وإجراءات التطبيقات والممارسات العملية من تشريعات واستفتاءات وانتخابات. وبوقوفهم ضد نضالات الثورة ومع تجريم احتجاجات العمال والعاملين المسماة بالفئوية وبالتغاضى عن الاعتقالات والملاحقات وحتى المذابح فى محمد محمود فى المرة الأولى، وماسپيرو، ومحمد محمود مرة أخرى ومحيط مجلس الوزراء، وپورسعيد، ومحيط وزارة الداخلية، خسر الإخوان قلب الشعب بالتدريج؛ وهو ما تبلور تماما فى النصف الثانى من عام 2011 حيث سادتْ الشعارات المعادية للإخوان المسلمين احتجاجات الثورة جنبا إلى جنب مع الشعار الرئيسى الذى برز على وجه الخصوص منذ موجة يوليو 2011 ضد المجلس الأعلى، وهو شعار "يسقط حكم العسكر". ولا يتناقض هذا مع قوتهم الانتخابية التى يلعب فيها المال السياسى الدعائى والنقدى والعينى دورا كبيرا بالإضافة إلى مختلف وسائل التزوير، بالطبع إلى جانب قوتهم العددية.
ويمكن القول إن ظاهرة "التكويش" كانت من أسباب الضربات المتوالية التى أطاحت بالإخوان المسلمين. و"التكويش" ظاهرة لا غبار عليها فى حد ذاتها، لأن كل حزب مدفوع بحكم المصالح التى يدافع عنها إلى هذا النوع من السلوك السياسى المتمثل فى محاولة الاستحواذ على رئاسة الجمهورية والپرلمان والحكومة وغيرها من مختلف المواقع والمناصب النقابية العمالية والمهنية والقضائية المتاحة، كما فعل ويفعل الإخوان المسلمون. غير أنه مع التراجع النسبى للثورة وفقا لتقديرات مفترضة للمجلس الأعلى، والإسلام السياسى أيضا، وبالتالى مع تراجع الضرورة القهرية للتحالف مع الإخوان المسلمين، جاء "التكويش" ليكون القشة التى قصمت ظهر البعير، رغم أن ما دفعهم إليه بقوة هو الخوف من المستقبل، وضرورة الطرْق على الحديد وهو ساخن بهدف سرعة التمكُّن على الأرض تمهيدا لحكم الشريعة، كما يقولون، بحيث تصير المكانة السياسية للجماعة وحزبها بالغة الرسوخ فلا يكون بمستطاع أحد إرجاع ساعتهم إلى الوراء.
ومع الضربات الأخيرة القاصمة، أصيب الإخوان المسلمون بصدمة قاسية كبرى تدفعهم الآن إلى مواجهة جماهيرية واسعة مع المجلس الأعلى بالمليونيات والاعتصامات كمحاولة أخيرة لإجباره، عن طريق تسوية سياسية قانونية ما، على عودة مجلس الشعب كما كان، وعدم حلّ الجمعية التأسيسية للدستور والاكتفاء بإدخال أىّ تعديلات على تشكيلها، والتراجع عن القوانين والقرارت والإجراءات الأخيرة والتراجع بالأخص عن الإعلان الدستورى المكمِّل باعتبار كل هذه التدابير القانونية والإدارية تكريسا للسيطرة الشاملة للمجلس الأعلى وانقلابا على المسيرة "الديمقراطية" المزعومة، وهبوطا بمنصب رئيس الجمهورية إلى مستوى لقب الرئيس مجردا من كثير من سلطاته الأساسية، مع تحويل القوات المسلحة إلى دولة داخل الدولة.
والحقيقة أن ما يلائم المجلس الأعلى إنما يتمثل فى إسلام سياسى ذيلى مقلَّم الأظافر، يعلم أن القناعة كنز لا يفنى، فلا يطمع كثيرا فى السلطة أو فى تقاسُمها ويترك السيطرة الفعلية والرسمية للمجلس دون منازعة. غير أن الطمع، مع تجاهل أو تناسى القول المأثور "الطمع ودَّر ما جمع"، جعل الإخوان يندفعون نحو السيطرة على كل شيء مما جعل المجلس الأعلى يعمل على تقليم أظافرهم ويندفع مع استمرار نفس سلوكهم إلى التصعيد ضدهم بالوسائل القانونية والإدارية الرامية إلى إعادة الإخوان المسلمين إلى حيث كانوا فى بداية الأمر: حلّ مجلس الشعب (وحل مجلس الشورى فى الطريق)، ومختلف القوانين والقرارات والإجراءات الجديدة التى تشكل فى مجموعها الانقلاب العسكرى المكمِّل ليس فقط على التحالف مع الإسلام السياسى المعادى للثورة وإنما كذلك على الثورة، كما سنرى. والحقيقة أن الانقلاب العسكرى الأصلى كان بحاجة إلى المزيد والمزيد من الأسس القانونية والإدارية لترسيخ السيطرة الفعلية والرسمية على السلطة والاقتصاد، ولم يكن من الممكن إرساء تلك الأسس إلا بصورة تدريجية، وبعون وتعاون من الإخوان المسلمين.
4: تحالف المجلس الأعلى والإخوان المسلمين فى معركة وضع الأسس الدستورية والقانونية لإعادة بناء مؤسسات الثورة المضادة وتصفية الثورة: ولا شك فى أن هذا التحالف الذيلى من جانب الإسلام السياسى مع المجلس الأعلى كان سلاحا جبارا استخدمه هذا الأخير بفعالية طوال سيرورة عملية التصفية الأمنية والقانونية للثورة السياسية الشعبية. ذلك أن القوة الكبيرة للإخوان المسلمين والسلفيِّين الوهابيِّين وغير الوهابيِّين حمت ظهر المجلس الأعلى طوال عام تقريبا حيث ساعدته فى إعداد التعديلات الدستورية التى كان الرئيس المخلوع قد أمر بإجرائها قُبَيْلَ تنحيته، وساعدته وأيدته فى الاستفتاء عليها بنعم فى 19 مارس 2011، وفى تمرير الإعلان الدستورى الصادر فى 13 فبراير 2011 والذى يتضمن بين أشياء أخرى: "تعطيل العمل بأحكام الدستور"، و"تولى المجلس الأعلى للقوات المسلحة إدارة شئون البلاد بصفة مؤقتة لمدة ستة أشهر أو انتهاء انتخابات مجلسى الشعب والشورى ورئيس الجمهورية"، و"حل مجلسى الشعب والشورى"، وأن "للمجلس الأعلى للقوات المسلحة إصدار مراسيم بقوانين خلال الفترة الانتقالية"، و"تشكيل لجنة لتعديل بعض مواد الدستور وتحديد الاستفتاء عليها من الشعب"، والإعلان الدستورى "الأساسى" (الذى حل محل دستور 1971) والصادر فى 30 مارس 2011، بالإضافة إلى كثرة من المراسيم بقوانين منها تعديل قانون الأحزاب السياسية الصادر فى 28 مارس 2011، وقانون تجريم الاعتداء على حرية العمل وتخريب المنشآت الصادر فى 12 أپريل 2011. وتعديل قانون مباشرة الحقوق السياسية بالمرسوم الصادر فى 19 يوليو 2011، والإعلانات الدستورية اللاحقة ومنها الإعلان الدستورى الصادر فى 25 سپتمبر 2011 والذى ينص على ما يلى: "ينظم القانون حق الترشيح لمجلسى الشعب والشورى وفقا لنظام انتخابى يجمع بين القوائم الحزبية المغلقة والنظام الفردى بنسبة الثلثين للأولى والثلث الباقى للثانى"، والإعلان الدستورى الصادر فى 19 نوڤمبر 2011 والذى ينص على ما يلى: "تضاف مادة جديدة رقم 39 مكرر للإعلان الدستورى الصادر فى 30 من مارس سنة 2011 نصها الآتى ’استثناء من أحكام المادة 39 من هذا الإعلان، تنظم بقانون خاص أحكام تصويت المصريين المقيمين خارج البلاد فى الانتخابات والاستفتاء‘".
وقد انتهى هذا المسار القانونى الذى تواصل قرابة عام كامل بانتخابات مجلسىْ الشعب والشورى فى أواخر 2011 وأوائل 2012. وأخيرا احتدم صراع كبير بين الإخوان المسلمين على رأس الإسلام السياسى والمجلس الأعلى وكذلك بينهم وبين القضاء وبالأخص المحكمة الدستورية العليا خاصةً حتى قبل حكميْه الأخيريْن بعدم دستورية القانون الشهير إعلاميا باسم قانون "العزل"، وبالتالى عودة شفيق إلى جولة الإعادة مع مرسى، وقانون انتخاب مجلس الشعب وبالتالى النص فى صلب الحكم على إبطاله واعتباره غير قائم بقوة القانون؛ أىْ حله الذى رفض الإسلام السياسى الاعتراف به، وسيجرى حل مجلس الشورى المنتخب على أساس نفس القانون عند أول طعن، بالإضافة إلى احتمال حل جماعة الإخوان المسلمين. والآن يصل احتدام الصراع إلى ذروة قصوى مع قرار وزير العدل بمنح الضبطية القضائية لرجال المخابرات والشرطة العسكرية، وبالأخص مع الإعلان الدستورى المكمل الصادر مساء الأحد 17 يونيو 2012، أىْ فى اليوم الثانى لانتخابات جولة الإعادة بل حتى قبل انتهاء التصويت، مرورا بتشكيل مجلس الدفاع الوطنى، ومع أجواء من الشك تحيط الآن بإعلان نتائج الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية، ومع مليونيات جماعة الإخوان المسلمين التى أعلنت اعتصامًا مفتوحًا فى ميدان التحرير حتى إلغاء الإعلان الدستورى المكمل الذى أصدره المجلس الأعلى، وعودة مجلس الشعب الذى تم حله واستئناف جلساته.
5: تحالف المجلس الأعلى والإخوان المسلمين فى معركة الهجوم الأمنى والعسكرى المتواصل ضد الثورة: وقد سارت محاولات التصفية القانونية يدًا فى يدٍ مع محاولات التصفية الأمنية للثورة. وإذا كان دور الإخوان المسلمين فى المجال القانونى والتشريعى المتمثل فى إعداد وإقرار أسس بناء مؤسسات دولة الثورة المضادة دورا إيجابيا مباشرا فعالا من خلال المشاركة الواسعة فى الاستفتاءات والانتخابات الپرلمانية والرئاسية والتشريعات والقوانين المعادية للثورة فقد كان من الطبيعى أن يختلف دورهم فى مجال الضربات الأمنية والعسكرية ضد الثورة نظرا لأن القوة المستخدمة فى الهجوم على الاحتجاجات والنضالات الثورية كانت قوة عسكرية فى يد المجلس الأعلى وليس فى يد الإسلام السياسى. ولهذا تمثَّلَ تقسيم العمل فى هذا الجانب بين المجلس الأعلى والإسلام السياسى فى ترك المهام العسكرية المباشرة للجيش والشرطة وبلطجية النظام مع قيام الإسلام السياسى بدوره الذى كان ضروريا للغاية فى مجال التغطية السياسية للقمع العسكرى وتنظيم حملات التشويه والافتراء والتجريم والتأثيم والشيطنة ضد الثورة والثوار طوال فترة ما بعد الثورة. وهكذا ظل الثوار تحت النيران الكثيفة للمجلس الأعلى بأدواته الأمنية العسكرية المباشرة وتحت النيران الكثيفة لدعاية وإعلام وهجوم الإسلام السياسى، بالإضافة إلى القمع التشريعى المتواصل بصورة مباشرة. وهكذا فإن المذابح التى نظمها المجلس الأعلى و"اللهو الخفى" أو "الطرف الثالث" أو "فلول الحزب الوطنى والنظام" وهى جميعا أدوات تابعة للمجلس الأعلى تواصلت بصورة مباشرة أو غير مباشرة مع تجاهل أو تأييد أو مباركة الإسلام السياسى بحجة الدفاع عن الدولة أو الوطن أو مصر ضد كل مَنْ تُسَوِّل له نفسه تدمير الدولة والوطن ومصر والشعب والبلاد والعباد جميعا، أىْ ضد قوى الثورة.
6: نجاحات تاكتيكية وفشل إستراتيچى للتحالف العسكرى الإسلامى فى تصفية الثورة: ورغم نجاح هذا التحالف غير المقدس بين المجلس الأعلى والإخوان المسلمين فى إدخال قوى الثورة، والثورة ذاتها، والبلاد جميعا فى نفق مظلم من الإجراءات والتشريعات والاستفتاءات والانتخابات الپرلمانية والرئاسية التى تعرقل الثورة وتحرف حركة الجماهير الشعبية بعيدا عنها، ونجاحه بالتالى فى تضليلها وخداعها وإغراقها فى الأوهام وإيقاعها فى الفخاخ الخداعية، وإضعافها بالتالى فى كثير من الموجات، بالاستفادة بالطبع من عفوية الثورة وعدم نضج قياداتها فكريا وسياسيا، وغياب أىّ رؤية واضحة عن طبيعة الثورة وبالتالى أهدافها الحقيقية، فشل التحالف العسكرى الإخوانى فى تصفية الثورة. ذلك أن الثورة تتجسد فى جماهير شعبية استجابت للشرارة الثورية الشبابية فحوَّلتها إلى ثورة سياسية شعبية كبرى مدفوعة بالرغبة فى تغيير أوضاعها الاجتماعية الاقتصادية المتردية ومن هنا أهدافها المتصلة بالحقوق والحريات والعدالة الاجتماعية وهى أهداف لم تتحقق بل تردت أوضاع الجماهير الشعبية بصورة أكبر من ذى قبل مع تفاقم البطالة والتضخم طوال سبعة عشر شهرا وهو ما يعنى أن جذوة الثورة تتأجج تحت الرماد وأن الثورة مستعدة للتفجُّر من جديد مع الوصول إلى نهاية النفق القانونى المظلم أو محطة رئيسية من محطاته.
ورغم كل الصراع الحالى المحتدم بين المجلس الأعلى وأدواته القانونية والقضائية والأمنية وبين الإسلام السياسى، ومهما تكن نتائجه، فإن الصراع الراهن بين المجلس والإخوان لا يعنى نهاية كل تعاون بينهما ضد الثورة، ولا استبعاد سيْرهما منفرديْن وضربهما معًا للثورة كلٌّ من جهته، ولا عدم عودتهما إلى تاكتيكات التعاون من خلال الصفقات المحدودة، كما كان الحال من قبل، تفاديا لصدامات غير مرغوبة وغير مضمونة النتائج من كلٍّ من الطرفيْن، وبالأخص من طرف الإخوان بالطبع، وبدواعى حماية المصالح الحيوية المشتركة للطبقة الواحدة ضد الثورة الفعلية، رغم الوضع الراهن الذى يرث ويطوِّر صراعا تاريخيا طويلا مزمنا بين الإسلام السياسى وباقى قطاعات الطبقة الرأسمالية التابعة وقيادتها العسكرية نتيجة للحالة الراهنة البالغة العقائدية و"القطبية" لدى الإخوان، رغم الميول الپراجماتية التى توجبها التطورات والفُرَص التى يجرى التشبث بها والعمل على اقتناصها. ورغم أن التناقض بين قسميْن من طبقة حاكمة واحدة يكون بصورة نموذجية أضعف من هذا الذى نشهده، لا ينبغى أن ننسى أن مثل هذا التناقض يمكن أن يكون فى بعض الحالات أقوى بما لا يقاس مما نشهد الآن، بل يمكن أن يصل إلى حد الاقتتال والحرب الأهلية.
7: الصراع الحالى بين المجلس والإخوان: دخل پرلمان حزب الإخوان المسلمين وأحزاب الإسلام السياسى فى خلافات وصراعات ومشاحنات ومشاجرات مع أطراف عديدة: مع المجلس الأعلى وممثلى الأحزاب السياسية وقيادات الثورة والثوار، وحتى القضاء، نتيجة للتشبث بالسيطرة على التشكيليْن الأول والثانى للجمعية التأسيسية للدستور. ويُعَدّ الدستور بطبيعة الحال أمرا حاسما من وجهة نظر پرلمان الإسلام الإسلامى الذى يطمح إلى كتابة دستور؛ بعيدا عن المدنية، ووفقا لمعايير الشريعة الإسلامية كأساس لبناء دولة دينية مضادة للثورة بحكم طبيعتها الطبقية والأيديولوچية، ونتيجة للأداء الغريب لپرلمان الإسلام السياسى الذى أخذ يبحث تشريعات "شرعية" مثيرة لفزع القوى السياسية والمواطنين بوجه عام، فى المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، حيث تواترت أحاديث وأنباء وشائعات عن الاقتصاد الإسلامى والبنوك الإسلامية، جنبا إلى جنب مع مشروعات قوانين للزواج المبكر جدا والختان ومضاجعة الوداع خلال ست ساعات بعد الموت. ونجح الإخوان فى إصدار ما يسمى بقانون "العزل"، الذى كان الأكثر حظا بين قوانينهم من حيث مصادقة المجلس الأعلى عليه، ونشره فى الجريدة الرسمية، واستبعاد الفريق أحمد شفيق على أساسه قبل قبول تظلُّمه بصورة غير مفهومة. وفى هذا السياق من الصراع العسكرى الإخوانى توالت ضربات المجلس الأعلى بهدف إقصائهم على رأس الإسلام السياسى عن السلطة السياسية.
8: حكم المحكمة الدستورية بعدم دستورية القانون المسمَّى إعلاميا ﺑ "قانون العزل": كان حكم عدم الدستورية بشأن هذا القانون متوقعا لأسباب لا حاجة بنا إلى الخوض فيها هنا. وبالأخص فإن "القوة" التى فرضت قبول تظلُّم أحمد شفيق على اللجنة العليا للانتخابات الرئاسية، رغم "قانون العزل"، كان بوسعها أن تفرض الحكم بعدم الدستورية على المحكمة الدستورية العليا إنْ لم يكن هذا الحكم صادرا عن إرادتها المستقلة، فى بلد ترتفع فيه حتى بين القضاة شعارات استقلال القضاء، وتطهير القضاء، والقاضى الطبيعى. وربما كان من شأن الحكم بالدستورية أن يؤدى إلى إعادة الانتخابات الرئاسية كلها من جديد، على حين أن من المفترض ألا يرغب المجلس الأعلى الحاكم فى ذلك، لينتهى فى الموعد المضروب من مهمة تسليم السلطة من الناحية الشكلية إلى رئيس منتخب.
ورغم الشكوك التى أحاطت بتسليم السلطة فإن إدراك أن تسليم السلطة يمثل رغبة وخطة ومؤامرة المجلس الأعلى (لأن هذا التطور يضاعف سيطرته الفعلية بتوظيف سلطات الرئيس المنتخب لخدمة المجلس الأعلى) من شأنه أن يبدِّد تلك الشكوك. وكانت سذاجات أقسام من الثوار تُوهمهم بأن ضغطهم المتواصل لفرض تسليم السلطة يمكن أن يؤدى إلى التسليم الفعلى، غير مدركين لحقيقة أن التسليم الفعلى لن يحدث فى ظل ميزان القوة القائم بين القوى الحقيقية للثورة والمجلس الأعلى على رأس الثورة المضادة. بل ذهبت سذاجات هذه الأقسام من الثوار إلى حد الضغط على المجلس الأعلى لتسليم السلطة إلى مجلس الشعب أو رئيسه أو هيئة من تعيينه أىْ لتسليمها إلى الإخوان المسلمين على رأس الإسلام السياسى وكانت اقتراحات أخرى لهذه الأقسام من الثوار بتشكيل مجموعة رئاسية أو أخرى تستلم السلطة من المجلس الأعلى تمضى فى اتجاه مقارب بحكم انتماءات عدد من الأشخاص المقترحين. وكانت كل هذه السذاجات مرتبطة بعدم إدراك واقع أن قيادة الثورة المضادة التى تعمل على تصفية الثورة تتمثل فى التحالف بين المجلس الأعلى والإخوان المسلمين على رأس الإسلام السياسى.
ومهما يكن من شيء فقد جاء حكم المحكمة الدستورية العليا بتثبيت أحمد شفيق فى الترشيح لجولة الإعادة ليدفع الإخوان المسلمين إلى موقف فى غاية الغرابة والازدواجية. فقد قبلوا قبل هذا الحكم من المحكمة أن يخوض مرشحهم جولة الإعادة مع أحمد شفيق رغم أنه "معزول" قانونًا، لأن "قانون العزل" الذى أصدره مجلس الشعب وصادق عليه المجلس الأعلى ونُشِر فى الجريدة الرسمية وتم على أساسه استبعاد أحمد شفيق من قائمة المرشحين كان القانون الذى طبقته اللجنة العليا للانتخابات الرئاسية عند استبعاد المرشح المذكور رغم أنها سرعان ما أهدرته عند قبول تظلمه بصورة مخالفة للقانون، رغم أن ذلك القانون لا يؤثر فيه عند الاستبعاد وعند قبول التظلم أىّ حكم لاحق للمحكمة الدستورية العليا تأثيرا رجعيا فى أىّ وقت من الأوقات، لأن رجعية هذا الحكم تنطبق على القانون دون تطبيقه فى وقت سابق بدليل أن تأخير هذا الحكم إلى ما بعد انتخاب أحمد شفيق رئيسا للجمهورية كان محتملا.
ومن الواضح أن قبول الإخوان المسلمين الإعادة مع أحمد شفيق، بدلا من رفض ذلك مهما تكن النتائج القانونية التى تترتب عليه، بالتمسُّك بالنتيجة السياسية التى كانت ستكون بمثابة ضربة سياسية هائلة لانتخابات الرئاسة. وكان من المحتمل أن يكون انسحاب الإخوان المسلمين من جولة الإعادة فرصة غير عادية لصالح علاقات الإخوان بالقوى السياسية وحتى بعض أقسام القوى الثورية فى مصر، غير أن التقديرات الأنانية من ناحية والخاطئة من ناحية أخرى من جانب الإخوان لمقتضيات مصالحهم السياسية دفعتهم دفعا إلى خيار مواصلة السباق الرئاسى رغم أن ذلك سيصيبهم بخسائر جديدة قد تكون مصيرية فى حالة عدم فوز محمد مرسى بالرئاسة، وكذلك فى حالة فوزه برئاسة تكاد تقتصر على لقب الرئيس دون سلطاته مقابل تراجعه وتراجع الإخوان المسلمين عن الرفض الحالى للأحكام القضائية والقرارات والإجراءات الإدارية والقوانين التى أصدرها المجلس الأعلى: حل مجلس الشعب، وتشكيل جمعية تأسيسية جديدة للدستور، وقرار منح الضبطية القضائية لرجال المخابرات والشرطة العسكرية، وقانون مجلس الدفاع الوطنى، وعلى وجه الخصوص وقبل كل شيء الإعلان الدستورى المكمل، فى أجواء تسودها احتمالات دعاوى أخرى تستهدف حل مجلس الشورى، وأحزاب الإسلام السياسى لعدم دستوريتها، وبالأخص حل جماعة الإخوان المسلمين. فهل يقبل الإخوان المسلمون بهذا الثمن الفادح مقابل لقب رئيس الجمهورية؛ باعتبار أن تراجع المجلس الأعلى عن قوانينه وإجراءاته وإعلانه الدستورى المكمل بالذات يكاد يكون فى حكم المستحيل؟ والحقيقة أننا إزاء حالة نموذجية من "لعبة الجبان"؛ فقد ينتهى هذا التصعيد المتزايد بتراجع الجبان تفاديًا لضربات قاصمة للإخوان المسلمين، رغم أن المجلس الأعلى يرغب بقوة فى تفادى المواجهة الأمنية الواسعة النطاق لكىْ لا يُفسد على نفسه ما يسمونه ﺑ (عُرْس الديمقراطية).
9: حكم المحكمة الدستورية بعدم دستورية قانون انتخاب مجلس الشعب (ومجلس الشورى بالتبعية): وكان حكم عدم الدستورية بشأن قانون انتخاب مجلس الشعب متوقعا أيضا ولأسباب لا حاجة بنا أيضا إلى الخوض فيها هنا. وجاء رد فعل الإخوان المسلمين على رأس الإسلام السياسى بالغ الغضب والحدة والتصعيد الجماهيرى على هذا الحكم أو (وفقا لتصريحاتهم) على ما ترتب عليه، ليس فقط لأن حل مجلس الشعب يحرمهم من أهم مكسب حققوه من التحالف مع المجلس الأعلى ضد الثورة، رغم أنه كان محكوما عليه بشلل نصفى أو أشدّ، ورغم إفشال محاولاتهم من خلال مجلسىْ الشعب والشورى لفرض جمعية تأسيسية بهدف فرض دستور ذى طابع إسلامى، بل كذلك لأن هذا الحل جاء متزامنا مع حزمة من القوانين والقرارات ينظر إليها الإخوان على أنها انقلاب من المجلس الأعلى عليهم وعلى التحالف معهم (ضد الثورة)، والحقيقة أنه يمثل الانقلاب العسكرى المكمل للانقلاب العسكرى الأصلى (فبراير 2011) ضد الثورة. وقد أصيب الإخوان بصدمة كبرى عندما رأوا أنه يجرى تحطيم كل مكاسبهم ومطامحهم وأدواتهم السياسية، حيث بدا أنه يتم إخراجهم من اللعبة السياسية بلا پرلمان سبق الفوز به، أو دستور على هواهم كان يبدو وشيكا، أو رئيس للجمهورية يجرى فى نظرهم إما "التزوير" ضده لإنجاح المرشح الآخر أو المجيء بمرشحهم لهذا المنصب كمجرد لقب دون فعالية حقيقية بفضل الإعلان الدستورى المكمل فى المحل الأول.
والأمر الذى يدعو حقا للتأمل هو أن الإخوان المسلمين دخلوا، كما سبقت الإشارة، فى حالة من الصراع والخصومة والتصعيد على مدى أسابيع عديدة مع العديد من الأطراف: المجلس الأعلى، والقضاء بما فى ذلك المحكمة الدستورية العليا، والأزهر، والقوى والأحزاب السياسية "المدنية"، وحتى المواطن العادى. فلماذا اختار الإخوان المسلمون هذه المواجهة الشاملة رغم أنها يمكن أن تنتهى بخسارة فادحة أو ضربة قاصمة أو صفقة تافهة؟ وإلى جانب الغباء السياسى، هناك بالطبع أشياء قد تصل بهذا الغباء إلى ذروة قصوى. هناك بالطبع الغرور المصاحب لتكوين أكثرية منفردة وأغلبية ساحقة مع أحزاب الإسلام السياسى الأخرى فى مجلس الشعب وأغلبية ساحقة منفردة فى مجلس الشورى، وقد تعزز هذا الغرور بالحصول على أعلى الأصوات فى الجولة الأولى للانتخابات الرئاسية وفيما بعد بأعلى الأصوات إلى الآن فى جولة الإعادة، وفقا لحملتهم وكذلك لمصادر أخرى. وهناك أيضا الصدمة العنيفة المتمثلة فى تجريدهم من كل المواقع التى كسبوها وحتى من أهمية المنصب الرئاسى المحتمل (أو الأكيد وفقا لتقديراتهم ومعلوماتهم وكثير من التسريبات الحالية). كذلك فإن هناك احتمال التوصل إلى صفقة ممكنة تحفظ ماء الوجه وتشكل سابقة فى تاريخهم فى حالة الوصول إلى رئاسة الجمهورية مهما تكن مصابة بالشلل ومكبلة بالقيود. وفى سياق مثل هذا التصعيد قد تؤدى صفقة متواضعة مخزية إلى انقسامات جديدة داخل الجماعة والحزب وفيما بين الجماعة والجماعات الإسلامية الأخرى.
والآن قد يشعر الإخوان المسلمون بأنهم خسروا كثيرا جدا من تحالفهم الذيلى مع المجلس الأعلى ضد الثورة كثمن لمكاسب اتضح أنها مؤقتة للغاية، وهى خسارة لا تعوَّض، وقد يشعر المجلس الأعلى بأنه بدوره يدفع ثمنا باهظا لتحالفه الاضطرارى مع الإخوان المسلمين لتوظيفهم فى مهمة تصفية الثورة رغم قيامهم بهذا الدور على الوجه الأكمل. وكان ذلك التحالف لا مناص منه غير أن المجلس الأعلى قد يشعر بأنه كان سخيًّا مع الإخوان المسلمين أكثر مما ينبغى على أساس أن منحهم القليل ربما كان كافيا للاحتفاظ بالتحالف معهم فترة أطول فى مواجهة ثورة مستمرة. وربما أخذ فى اعتباره إلى جانب ضرورة التحالف مع الإخوان فى تصفية الثورة أن دورهم المعادى للثورة قد يتكفل بإضعافهم لأنه يمكن أن يعزلهم عن الشعب، مع تقدير أنهم فى كل الأحوال سيحترمون تطميناتهم بألا يطمعوا أكثر مما ينبغى، وأن تماديهم فى الطمع ستتم مواجهته بالقوة الإدارية وحتى الأمنية والعسكرية عند الضرورة القصوى.
10: قرار وزير العدل بمنح الضبطية القضائية لرجال المخابرات والشرطة العسكرية: وبدلا من تسليم السلطة التنفيذية لرئيس منتخب للجمهورية، صار لدينا تسليمان للسلطة نتيجة لحل مجلس الشعب: التسليم أو التسلُّم الذى تمّ الآن بالفعل للسلطة التشريعية من الپرلمان إلى المجلس الأعلى، والتسليم المزمع للسلطة التنفيذية من المجلس الأعلى إلى رئيس الجمهورية الجديد. وفى سياق احتياط واضح لردود الفعل المحتملة على ما قد يترتب على حكمىْ المحكمة الدستورية العليا المحتمليْن بعدم دستورية ما يسمى بقانون العزل وبعدم دستورية قانون انتخاب مجلس الشعب، وقُبَيْلَ جولة الإعادة، بالإضافة إلى دور أىّ توظيف لاحق فى إحكام دستورية أىّ اعتقالات فى المستقبل، جاء قرار وزير العدل بمنح الضبطية القضائية لرجال المخابرات والشرطة العسكرية، هذا القرار الذى يمكن اعتباره بمثابة إعادة لفرض قانون الطوارئ أو تمهيد لذلك بعقوباته التى تصل مثله إلى الأشغال الشاقة المؤقتة (وصولا حتى إلى الأشغال الشاقة المؤبدة أو الإعدام)، والذى لا يعيد الجيش إلى ثكناته بل يفرض سيطرة الشرطة العسكرية والمخابرات العامة على الحياة المدنية بصورة شاملة.

11: التشكيل الجديد لمجلس الدفاع الوطنى: ألغى المجلس الأعلى قرار رئيس الجمهورية رقم 320 لسنة 1977 بشأن تشكيل مجلس الدفاع الوطنى، وقام بتشكيل مجلس الدفاع الوطنى على الوجه الآتى :"رئيس الجمهورية – رئيسا وعضوية رئيس مجلس الشعب, رئيس مجلس الوزراء، القائد العام للقوات المسلحة ووزير الدفاع والإنتاج الحربى، وزير الخارجية والداخلية والمالية، ورئيس أركان حرب القوات المسلحة، ورئيس المخابرات العامة، وقائد القوات البحرية، وقائد القوات الجوية، وقوات الدفاع الجوى، ومساعد وزير الدفاع المختص، ورئيس هيئة عمليات القوات المسلحة، ورئيس هيئة القضاء العسكرى، ومدير إدارة المخابرات الحربية والاستطلاع، وأمين عام وزارة الدفاع ويتولى أمانة سر المجلس. كما تضمن القرار أنه يحق للمجلس أن يدعو لحضور جلساته من يرى الاستعانة بمعلوماته أو خبرته من نواب رئيس مجلس الوزراء أو الوزراء أو غيرهم دون أن يكون له صوت معدود".
ومن الجلى أن مجلس الدفاع الوطنى بهذا التشكيل الجديد يضع اختصاصاته فى يد المجلس الأعلى لأنه يضم 6 مدنيِّين هم: رئيس الجمهورية، رئيسا، وعضوية رئيس مجلس الشعب، ورئيس مجلس الوزراء، ووزراء الخارجية والداخلية والمالية، مقابل من 11 إلى 13 عضوا من العسكريِّين (باحتمال جمع أو عدم جمع القائد العام للقوات المسلحة ووزير الدفاع والإنتاج الحربى فى شخص واحد) معظمهم من المجلس الأعلى، ولأن قراراته تُتخذ بحضور الأغلبية المطلقة، وبالأغلبية المطلقة لأعضائه الحاضرين، دون اشتراط لحضور رئيس الجمهورية أو رئاسته لكل اجتماع، ويعنى هذا أن القرارات ستكون للمجلس الأعلى دون منازع. وعند وضع هذا التشكيل إلى جانب القرارات والقوانين الأخرى تتضح الأسس القانونية للسيطرة الفعلية والرسمية للمجلس الأعلى.
12: الإعلان الدستورى المكمل تكريس للسيطرة الفعلية والرسمية للمجلس الأعلى: جاء هذا الإعلان الدستورى الصادر مساء 17 يونيو 2012 مكملا للإعلان الدستورى الأساسى الصادر فى 30 مارس 2011 فأضاف إليه فقراتٍ أو موادَّ جديدة:
أولا: أضاف إلى المادة 30 ما يلى: فإذا كان المجلس منحلا أدى الرئيس اليمين أمام الجمعية العامة للمحكمة الدستورية العليا . وكانت المادة المذكورة تنص على أن يؤدى الرئيس اليمين "أمام مجلس الشعب"، وذلك لأن مجلس الشعب منحل فى الوقت الحالى بعد حكم الدستورية. ومع أن الإخوان المسلمين يعترضون على هذه الإضافة لأن مجلس الشعب قائم فى نظرهم رغم حكم الدستورية، فإننا لن نقف عندها هنا.
ثانيا: أضاف إلى المادة 53 التى كانت تكرر تقريبا نص المادة 180 من الدستور الدائم (بتعديل عام 2007) وكانت مادة تنص على إنشاء الدولة للقوات المسلحة، وكونها ملكا للشعب، ومهمتها المتمثلة فى حماية البلاد وسلامة أراضيها وأمنها، وعدم جواز إنشاء تشكيلات عسكرية أو شبه عسكرية لأية هيئة أو جماعة (مع إضافة أن الدفاع عن الوطن وأرضه واجب مقدس وأن التجنيد إجبارى) ما يلى:
أ: المادة 53 مكرر ونصها: يختص المجلس الأعلى للقوات المسلحة بالتشكيل القائم وقت العمل بهذا الإعلان الدستورى بتقرير كل ما يتعلق بشئون القوات المسلحة وتعيين قادتها ومدِّ خدمتهم، ويكون لرئيسه، حتى إقرار الدستور الجديد، جميع السلطات المقررة فى القوانين واللوائح للقائد العام للقوات المسلحة وزير الدفاع". وهذا يعنى أن القوات المسلحة صارت لأول مرة بصفة رسمية "دولة داخل الدولة" لا تخضع للسلطات الثلاث (التشريعية والتنفيذية والقضائية) "حتى إقرار الدستور الجديد"، ونرجو ألا نموت وفى نفسنا شيء من "حتى".
ب: المادة 53 مكرر 1 ونصها: يعلن رئيس الجمهورية الحرب بعد موافقة المجلس الأعلى للقوات المسلحة . وكان الدستور الدائم ينص على أن: "رئيس الجمهورية هو القائد الأعلى للقوات المسلحة، وهو الذى يعلن الحرب بعد موافقة مجلس الشعب". وقد يبرر المجلس الأعلى إحلال نفسه محل مجلس الشعب بأن هذا الأخير منحل حاليا، غير أن النتيجة الحالية على الأقل هى أن المجلس الأعلى يتحكم أيضا فى قرار الحرب. وقد يبرر المجلس هذا بأنه لا يمكن اتخاذ قرار الحرب بدون موافقة القوات المسلحة التى هى أداة الحرب والأدرى بمدى جاهزيتها العسكرية. وبالطبع فإن هذا كان واردا دائما غير أن أحدا لم يورده من قبل فى صلب دستور أو إعلان دستورى، ومن حقنا أن نشك فى أن هذه المادة واردة هنا للتمسك بها فى الدستور القادم، كاحتياط ضد أىّ رئيس قادم قد يكون مُولَعًا بالحرب. وعلى كل حال فإن النظام المصرى ينظر إلى حرب أكتوبر على أنها "آخر الحروب".
ج: المادة 53 مكرر 2 ونصها: يجوز لرئيس الجمهورية فى حالة حدوث اضطرابات داخل البلاد، تستوجب تدخل القوات المسلحة، وبعد موافقة المجلس الأعلى للقوات المسلحة، إصدار قرار باشتراك القوات المسلحة فى مهام حفظ الأمن، وحماية المنشآت الحيوية بالدولة، ويبين القانون سلطات القوات المسلحة، ومهامها وحالات استخدام القوة، والقبض والاحتجاز والاختصاص القضائى وحالات انتفاء المسئولية .
وفى الدستور الدائم، كان لرئيس الجمهورية (المادة 74 المعدلة فى عام 2007) "إذا قام خطر حالّ وجسيم يهدد الوحدة الوطنية" أو سلامة الوطن [...] أن يتخذ الإجراءات السريعة [...] بعد أخذ رأى رئيس مجلس الوزراء ورئيسىْ مجلسىْ الشعب والشورى ... إلخ"، ولا ذكر هنا للمجلس الأعلى للقوات المسلحة، ولا ذكر له أيضا فى المادة 147 من نفس الدستور عند اتخاذ رئيس الجمهورية "تدابير لا تحتمل التأخير" ... "فى غيبة مجلس الشعب"، كما أنه لا ذكر له فى المادة 148 من نفس الدستور عندما "يعلن رئيس الجمهورية حالة الطوارئ". ورغم أن هذه المواد الدستورية وغيرها تعطى رئيس الجمهورية سلطات مطلقة من الناحية الفعلية فإن ما يقيده فى الإعلان يتمثل ليس فى هيئة تمثيلية من نوع ما بل يتمثل فى المجلس الأعلى الذى صار "دولة داخل الدولة".
والحقيقة أن القانون رقم 162 لسنة 1958 بشأن حالة الطوارئ هو الذى يسمح بالتدخل على مثل هذا النطاق الواسع للقوات المسلحة فى الحياة المدنية حيث ينص فى المادة 4 على أنْ "تتولى قوات الأمن أو القوات المسلحة تنفيذ الأوامر الصادرة من رئيس الجمهورية أو من يقوم مقامه. وإذا تولت القوات المسلحة هذا التنفيذ يكون لضباطها ولضباط الصف إبتداء من الرتبة التى يعينها وزير الحربية سلطة تنظيم المحاضر للمخالفات التى تقع لتلك الأوامر ... وعلى كل موظف أو مستخدم عام أن يعاونهم فى دائرة وظيفته أو عمله على القيام بذلك". وتصل عقوبات ذلك القانون إلى "الأشغال الشاقة المؤقتة" ... "مع عدم الإخلال بأىّ عقوبة أشد تنص عليها القوانين المعمول"، كما تنص المادة 5.
ثالثا: أضاف إلى المادة 56 التى كانت تنص على جمع السلطة التشريعية وسلطات رئيس الجمهورية فى يد المجلس الأعلى قبل الانتخابات الپرلمانية، وكان قد تم تسليم السلطة التشريعية للپرلمان عند انتخاب مجلسيه، المادة 56 مكرر ونصها: يباشر المجلس الأعلى للقوات المسلحة الاختصاصات المنصوص عليها فى البند (1) من المادة 56 من الإعلان الدستورى الصادر فى 30 مارس 2011 لحين انتخاب مجلس شعب جديد ومباشرته لاختصاصاته . وهكذا استعاد المجلس الأعلى السلطة التشريعية من مجلس الشعب بعد حله بقرار المحكمة الدستورية، وذلك إلى أن يتم وضع الدستور وانتخاب پرلمان جديد.
رابعا: أضيفت مادتان جديدتان إلى المادة 60 من إعلان مارس 2011 الدستورى بشأن تشكيل الجمعية التأسيسية للدستور هما المادة 60 مكرر والمادة 60 مكرر 1:
أ: المادة 60 مكرر ونصها: إذا قام مانع يحول دون استكمال الجمعية التأسيسة لعملها، شكل المجلس الأعلى للقوات المسلحة، خلال أسبوع، جمعية تأسيسية جديدة - تمثل كل أطياف المجتمع - لإعداد مشروع الدستور الجديد خلال ثلاثة أشهر من تاريخ تشكيلها، ويعرض مشروع الدستور على الشعب لاستفتائه فى شأنه خلال الخمسة عشر يوما من تاريخ الانتهاء من إعداده، وتبدأ الانتخابات التشريعية خلال شهر من تاريخ إعلان موافقة الشعب على الدستور الجديد". وهذه المادة تُعِيد سلطة تشكيل الجمعية التأسيسية للدستور إلى المجلس الأعلى كجزء لا يتجزأ من تسلُّمها للسلطة التشريعية من مجلس الشعب بعد حله مع مراعاة الوجود الفعلى حاليا لجمعية تأسيسية مهددة بالانهيار بسبب مخالفتها للقانون وبسبب الانسحابات احتجاجا على تشكيلها ومن هنا اشتراط قيام "مانع يحول دون استكمال الجمعية التأسيسة لعملها".
ب: المادة 60 مكرر 1 ونصها: إذا رأى رئيس الجمهورية، أو رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة، أو رئيس مجلس الوزراء، أو المجلس الأعلى للهيئات القضائية، أو خمس عدد أعضاء الجمعية الـتأسيسية، أن مشروع الدستور يتضمن نصا أو أكثر يتعارض مع أهداف الثورة، ومبادئها الأساسية التى تحقق بها المصالح العليا للبلاد، أو مع ما تواتر من مبادئ فى الدساتير المصرية السابقة فلأى منهم أن يطلب من الجمعية التأسيسية إعادة النظر فى هذه النصوص، خلال مدة أقصاها خمسة عشر يوما، فإذا أصرت الجمعية على رأيها، كان لأى منهم عرض الأمر على المحكمة الدستورية العليا، وتصدر المحكمة قرارها خلال سبعة أيام من تاريخ عرض الأمر عليها. ويكون القرار الصادر من المحكمة الدستورية العليا ملزما للكافة، وينشر القرار بغير مصروفات فى الجريدة الرسمية خلال ثلاثة أيام من تاريخ صدوره.. وفى جميع الأحوال يوقف الميعاد المحدد لعرض مشروع الدستور على الشعب لاستفتائه فى شأنه والمنصوص عليه فى المادة 60 من الإعلان الدستورى، حتى الانتهاء من إعداد مشروع الدستور فى صياغته النهائية وفقا لأحكام هذه المادة .
ومن الجلى أن هذه المادة يمكن أن تؤدى إلى إطالة المدة الزمنية المطلوبة لتشكيل الجمعية التأسيسية للدستور وبالتالى لإقرار الدستور وانتخاب مجلسىْ الشعب والشورى على أساسه. ويمكن أن يقوم بإطالة هذه المدة الزمنية رئيس الجمهورية، أو رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة، أو رئيس مجلس الوزراء، أو المجلس الأعلى للهيئات القضائية، أو خُمْس عدد أعضاء الجمعية الـتأسيسية.
خامسا: كانت المادة 38 من إعلان مارس 2011 الدستورى ينص على أن: ينظم القانون حق الترشيح لمجلسى الشعب والشورى وفقا لأى نظام انتخابى يحدده. ويجوز أن يتضمن حدا أدنى لمشاركة المرأة فى المجلسين ، وحذف الإعلان الدستورى المكمل هذا النص على مشاركة المرأة. وكان الإعلان الدستورى الصادر فى 25 سپتمبر 2011 قد عدَّل المادة 38 من إعلان مارس 2011 الدستورى إلى ما يلى: "ينظم القانون حق الترشيح لمجلسى الشعب والشورى وفقا لنظام انتخابى يجمع بين القوائم الحزبية المغلقة والنظام الفردى بنسبة الثلثين للأولى والثلث الباقى للثانى"، وهى المادة التى استندت المحكمة الدستورية العليا إلى عدم احترامها بفتح الثلث المخصص للنظام الفردى للأحزاب أيضا فى حكمها بحل مجلس الشعب، كما سبق أن رأينا. ونجد هنا تخليا مباشرا عن فكرة الثلث والثلثين التى أقامت الدنيا ولم تقعدها إلى يومنا هذا.
ويمكن إجمال ما جاء به الإعلان الدستورى المكمل فى نقاط موجزة:
أولا:
أن يؤدى رئيس الجمهورية اليمين أمام الجمعية العامة للمحكمة الدستورية العليا إذا كان مجلس الشعب منحلا (إضافة إلى المادة 30).
ثانيا:
أ: اختصاص المجلس الأعلى للقوات المسلحة بتقرير كل ما يتعلق بشئون القوات المسلحة "حتى إقرار الدستور الجديد" (المادة 53 مكرر).
ب: يكون إعلان رئيس الجمهورية الحرب بعد موافقة المجلس الأعلى للقوات المسلحة (المادة 53 مكرر 1).
ج: فى حالة حدوث اضطرابات داخل البلاد، تستوجب تدخل القوات المسلحة، يجوز لرئيس الجمهورية، وبعد موافقة المجلس الأعلى للقوات المسلحة، إصدار قرار باشتراك القوات المسلحة فى مهام حفظ الأمن إلخ (المادة 53 مكرر 2).
ثالثا:
يباشر المجلس الأعلى للقوات المسلحة اختصاصات مجلس الشعب أىْ السلطة التشريعية والرقابية لحين انتخاب مجلس شعب جديد (إضافة إلى المادة 56).
رابعا:
أ: عند قيام مانع يحول دون استكمال الجمعية التأسيسة لعملها يشكل المجلس الأعلى للقوات المسلحة جمعية تأسيسية جديدة (المادة 60 مكرر).
ب: حق كلٍّ من رئيس الجمهورية، أو رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة، أو رئيس مجلس الوزراء، أو المجلس الأعلى للهيئات القضائية، أو خُمْس عدد أعضاء الجمعية الـتأسيسية، فى الاعتراض على نصوص دستورية تقترحها بما فى ذلك عرض الأمر على المحكمة الدستورية العليا (60 مكرر 1).
خامسا: التخلى عن نص حصتىْ الثلث والثلثين للأفراد والأحزاب على الترتيب (تعديلا لتعديل إعلان سپتمبر 2011 الدستورى للمادة 38 من إعلان مارس 2011 الدستورى).
وبإيجاز أكثر فقد جعل المجلس الأعلى من نفسه دولة داخل الدولة من خلال المواد الجديدة والإضافات فيما يتعلق بالمواد 53 و 56 و 60 من إعلان مارس 2011 الدستورى، عن طريق سلطته المطلقة على شئون القوات المسلحة، بالإضافة إلى اشتراط موافقته على إعلان الحرب، وتدخله فى الحياة المدنية، وسلطة التشريع بدلا من مجلس الشعب، وحقه كسلطة تشريعية فى تشكيل الجمعية التأسيسية للدستور. والواقع أن المجلس الأعلى ظل يتمتع فى الفترة السابقة بحكم الشرعية الثورية التى زعمها لنفسه ليس فقط بالسلطتين التشريعية والتنفيذية بل قام أولا وقبل كل شيء بدور جمعية تأسيسية للدستور وذلك بكتابة الدستور المتمثل فى إعلان 30 مارس الدستورى.
13: ضربات قانونية أخرى محتملة: وكأوراق للتفاوض، أو كضربات فعلية محتملة، ما يزال فى جعبة المجلس الأعلى الكثير: وتشمل الدعاوى القضائية القائمة أو المحتملة حل جماعة الإخوان المسلمين، وحل الأحزاب الإسلامية باعتبارها غير دستورية حيث ينص الإعلان الدستورى الأساسى على ما يلى: "ولا يجوز مباشرة أى نشاط سياسى أو قيام أحزاب سياسية على أساس دينى"، وحل الجمعية التأسيسية للدستور، وحل مجلس الشورى. وقد يتوقف مصير الدعاوى القائمة والمحتملة بهذا الشأن على طريقة حل الأزمة الراهنة بين الإخوان المسلمين والمجلس الأعلى.
14: الانقلاب العسكرى المكمل: وفى مجرى احتدام تفاقم هذا الصراع جاءت حزمة القرارات والأحكام والقوانين والإجراءات الجديدة التى يمكن القول إن مجموعة منها موجهة فى المحل الأول نحو إقصاء الإخوان المسلمين والإسلام السياسى، وإنْ كانت تمثل فى مجموعها انقلابا عسكريا مكملا يتوِّج الانقلاب العسكرى الأصلى وكل ما بينهما من مسار قانونى وإدارى ظل يكرِّس بالتدريج ذلك الانقلاب. وكما كان انقلاب فبراير 2011 العسكرى انقلابا ضد الثورة (رغم انقلابه الأقل شأنا على مبارك) فإن هذا الانقلاب العسكرى المكمل انقلاب ضد الثورة أيضا (رغم انقلابه الأقل شأنا على التحالف مع الإخوان المسلمين).
15: أزمة المجلس الأعلى مع الإخوان وأزمة الدولة مع الثورة: أدار المجلس الأعلى مواجهة الثورة وبناء مؤسسات دولة الثورة المضادة بطريقة عديمة الكفاءة فى كثير من الأحيان زارعًا ألغاما تنفجر فى وجهه فى كثير من الأحيان، وينطبق هذا على إدارته لعملية الانتخابات الرئاسية.
ولم يكن المجلس موفقا عندما بدأ بإجراء التعديلات الدستورية أولا كما طلب مبارك قُبَيْلَ تنحيته أو الانقلاب عليه. وصحيح أن معظم تلك التعديلات كانت تمثل مطالب بارزة للمعارضة قبل الثورة، غير أن حدث الثورة كان يقتضى مقاربة متغيرة. وقد فشل المجلس فى معالجة قضية الدستور بطريقة مقنعة لقوى الثورة، فبعد تعطيله فى 13 فبراير 2011 جرى إسناد مهمة القيام بالتعديلات الدستورية المطلوبة إلى مجموعة من رجال القانون ينتمى ثلاثة منهم إلى التيار الإسلامى منهم رئيس اللجنة (طارق البشرى) وينتمى أحدهم (صبحى صالح) عضويا إلى جماعة الإخوان المسلمين. وجرى الاستفتاء على التعديلات فى سياق تحالف وثيق بين المجلس والإخوان المسلمين على رأس الإسلام السياسى، وجرى إقراره فى استفتاء 19 مارس بأكثر من ثلاثة أرباع المشاركين من الناخبين. واستنادا إلى هذه النتيجة أصدر المجلس فى 30 مارس الإعلان الدستورى، الذى صار دستور ما يسمى بالفترة الانتقالية، بعد أن حل محل الدستور الذى تم تعطيله مع أنه لا يعدو أن يكون نسخة مضطربة ومعيبة منه.
وكانت هناك مطالب خلال الشهور التالية بأن يكون الدستور أولا وما تزال تتردد فكرة فحواها أن التفريط فى أن يأتى الدستور أولا بحيث سبقته الانتخابات الپرلمانية والرئاسية هو السبب وراء أزمات الفترة الانتقالية جميعا باعتبار أن ذلك كان وضعا للعربة أمام الحصان. وأسطورة أن الدستور أولا هو الحل ما تزال تتردد أصداؤها إلى يومنا هذا؛ فما هو المحتوى الحقيقى لهذه الأسطورة؟ وبالطبع فإن المنطق السليم هو منطق الدستور أولا، غير أنه لم يكن وليس الآن حلَّ المعضلة. فالقوى الفاعلة الأكثر نفوذا هى التى تضع الدستور وقد وضع المجلس والإخوان بالفعل دستورا هو إعلان مارس 2011 الدستورى.
وعلينا أن نعترف الآن بأنه رغم أن الدستور الديمقراطى هو الذى يلائم الثورة والشعب إلا أن الفاعلين الرئيسيِّين لم يكونوا ليسمحوا ولن يسمحوا الآن بإقرار دستور ديمقراطى أو بدستور أفضل من دستور 1971 أو إعلان مارس 2011 الدستورى! لماذا؟ لأن مهمة الفترة الانتقالية من وجهة نظر الثورة المضادة بمجلسها الأعلى وإسلامها السياسى تتمثل فى بناء مؤسسات دولة الثورة المضادة. ومعنى هذا هو أن المفترض والمتوقع أن تأتى الثورة المضادة الحاكمة بأسوأ دستور، وأفظع پرلمان، وأبشع رئيس جمهورية. ومَنْ يفكر قليلا فى واقعنا الفعلى سيدرك أنه ما كان ينبغى أن نتوقع من العملية السياسية الجارية لبناء مؤسسات دولة الثورة المضادة غير دستور مثل الإعلان الدستورى، وغير پرلمان مثل الپرلمان الإخوانى السلفى غير المأسوف عليه، أو پرلمان موالٍ للعسكر، وغير رئيس مثل أحد الكابوسين المفروض على الشعب أن يختار بينهما: مرسى و شفيق.
وتكررت الأزمات بحكم صراع المصالح بين الحكام الأصليِّين والجدد، وبسبب المنطق التآمرى الذى يزرع حتى فى مواد الإعلانات الدستورية ألغاما غير دستورية قابلة للتفجير عند الحاجة. وبالطبع فإن ساعة الصراع بين الإسلام السياسى والعسكر كانت ستأتى لا محالة لأن التحالف بين الطرفين لم يكن زواجا كاثوليكيا رغم الانتماء المشترك إلى طبقة رأسمالية تابعة واحدة. وإذا كانت شهية الإسلام السياسى قد انفتحت وتزداد شراهة مع كل مكسب جديد بحيث يندفع بقوة قاهرة نحو ظاهرة "التكويش" المنطقية مع كل حزب ألهاه التكاثر، خاصةً بعد قرابة قرن من الاضطهاد والحظر والسرية فإنه لا يدرك كما ينبغى أنه إزاء نظام شمولى إدماجى منغلق يحتكر السياسة والاقتصاد وثمار الاستبداد والفساد خاصةً فى غمار أزمة ناشئة من ثورة هددت وجوده وأطاحت بالفعل بقيادته ولهذا لا يملك رجاله العسكريون والمدنيون تعويذة ضد الانهيار سوى ترياق الاحتكار والانفراد والفاشية.
وبسبب سوء إدارة المجلس الأعلى لعملية الانتخابات الرئاسية تطورت الأحداث إلى أزمة حادة بين النظام والإخوان. وقد أوقع هذا المجلس نفسه بنفسه فى مأزق. فرغم أن أحمد شفيق من رجال النظام فإنه مأزق لأنه فى حالة وصوله إلى سدة الرئاسة سيكون رئيسا يولد معزولا بحكم القانون الذى يستبعده رغم حكم الدستورية بعدم الدستورية، وستلاحقه الدعاوى القضائية والاحتجاجات الجماهيرية. والحقيقة أن الوضع غير القانونى ﻟ شفيق يحكم على الانتخابات الرئاسية برمتها بالبطلان. وهناك الأزمة الأخرى، الأزمة مع محمد مرسى والإسلام السياسى وبالأخص الإخوان. فأيديولوچيا الإخوان لا تتلاءم مع طبقة عانت رغم فسادها من حكم الشخص الذى لم يسمح لها بالحكم كطبقة، وهى تهفو إلى مواصلة الحياة المنفتحة على العالم المعاصر، ولا تريد أن ترى نفسها حبيسة القفص الحديدى الإخوانى. ولا يطمئن النظام إلى الإخوان من حيث التداعيات الاقتصادية لحكمهم ومن حيث طغيانهم الذى يمكن أن يمتد إلى أبناء طبقتهم والذى يمكن أن يصل إلى حد الانتقام الواسع النطاق.
وإذا هرب المجلس الأعلى من مأزق رَجُله شفيق إلى مأزق خصمه مرسى أو من مأزق هذا إلى مأزق ذاك، فإنه لن يُفلت من المأزق المرير على كل حال. وقد وصل التصعيد مع الإخوان إلى ذروة حافة الهاوية، وهنا نكون، كما سبق القول، إزاء لعبة الجبان. ويمكن ترجيح ألا يتراجع المجلس عن قراراته وإعلاناته لأن هذا سيؤدى إلى إضعاف موقفه مع الإخوان. ولكنْ هل سيقنع هؤلاء بظل سلطة، بلقب رئيس الجمهورية الذى يمكن أن يجلب على الإخوان خسائر جديدة بحكم شلل الرئيس الإخوانى فى حالة فوزه وبالتالى عجزه عن تقديم شيء مهم للشعب. وفى حالة فوز شفيق ستكون هناك شكوك التزوير كما سيكون هناك نوع من التمرد والعصيان إذا صدقنا لغة الويل والثبور وعظائم الأمور التى صار الإخوان يتكلمونها. وسيكون الإخوان جبان لعبة الجبان حتى إذا فاز مرسى وقَبِل المنصب متجاهلا مطالب المليونيات ضد الإعلان الدستورى، وحلّ مجلس الشعب، وتشكيل جمعية الدستور، وغير ذلك. وبالطبع فإن المجلس لا يمكن أن يمانع فى أن يواصل الإسلام السياسى لعب دور منفردا أو بالتعاون معه بشرط ألا يتمادى فى التوقعات المتعلقة بمكاسبه السياسية والاقتصادية، كما أنه سيعمل على تفادى مواجهة شاملة مع الإخوان فى الوقت الحالى ولن يتورط فى هذا إلا مضطرا للغاية حفاظا على مظهر ما يسميه بعرس الديمقراطية. والسؤال هو هل يعتقد الإخوان حقا أنهم يمكن أن يفرضوا على المجلس كل أو معظم مطالبهم أو الكثير منها فى سياق هذا التصعيد الخطر؟ وهل يمكن أن يكونوا غافلين عن حقيقة أن هذه التعبئة القوية يمكن أن تجعل تراجعهم بالغ الصعوبة أو باهظ الثمن داخل صفوفهم فى حالة الاضطرار إلى التراجع؟ وهل يمكن أن تُنسيهم نشوة المكاسب الجديدة تاريخا طويلا من انزوائهم خشية البطش بهم؟
ومن ناحية أخرى فإنه لا مخرج من مثل هذه الورطة سوى عن طريق صفقة صعبة عمليا أو بدخول طرف ثالث. فعلى أىّ أساس ومع أىّ رئيس يمكن أن يعمل رجل مثل البرادعى الذى تتواتر الأنباء عن اتصالاته المتعددة الأطراف فى الوقت الحالى.
وفيما وراء الأزمة الحالية بين المجلس الأعلى والإسلام السياسى، سواء فاز مرسى بالرئاسة أو لم يفز، وفيما وراء انقلاب المجلس على الإخوان، تكمن أزمة المواجهة الكبرى بين المجلس والثورة، ويبرز الانقلاب العسكرى المكمل بوصفه مرحلة جديدة فى استكمال الأسس التشريعية والقانونية والمؤسسية لبناء دولة الثورة المضادة لتوجيه المزيد من الضربات إلى الثورة وقواها ومزيد من التصعيد ضدها. ويزعم كثيرون فى صفوف قوى الثورة أن صعود شفيق إلى الرئاسة سوف يعنى هزيمة الثورة، وهذه مبالغة بلاغية ساذجة لأن شفيق لن يكون رقم واحد على كل حال فى ظل سيطرة المجلس الأعلى. وبدلا من رفض الدولة العسكرية والدولة الدينية على السواء، وبدلا من الكف عن الجرى وراء هذا النوع أو ذاك من أعداء الثورة، يلوذ بعضهم من الدولة العسكرية بالدولة الدينية ويلوذ بعضهم الآخر من هذه بتلك. وأعتقد أن الموقف السليم كان وسيظل يتمثل فى أن نواجه قيامهم بصورة متواصلة ببناء مؤسسات دولة الثورة المضادة بقيامنا نحن ببناء مؤسسات الثورة، أىْ أدوات ومؤسسات وآليات الديمقراطية الشعبية. وأعتقد أن طريق التصفية التدريجية للثورة فى مصر سوف يتواصل تفاديا لأخطار التصفية العنيفة والحربية على الطبقة الرأسمالية ودولتها ونظامها، وأعتقد أن هذا يمنحنا وقتا يجب أن نستثمره بدلا من أن نتعجل النتائج فلا تأتى بسرعة فنتخبط فى ألوان من الإحباط والحيرة، بدلا من إدراك أن التضحيات الكبرى للشعوب فى ثورات العالم الثالث يمكن أن تقدِّم ثمارها الحلوة بشرط أن نعرف بصورة موضوعية طبيعة هذه الثمار بفضل الإدراك الموضوعى لطبيعة ثوراتنا وسماتها الجوهرية وما يمكن أن تحققه فى فترة محددة فى أوضاع وشروط بعينها، بعيدا عن أوهام الرؤوس الساخنة التى لا طائل تحتها وبدلا من أشباح اليأس والإحباط والخذلان. وأعتقد أن الثورة المستمرة حقا رغم الصعود والهبوط سوف تبدد أوهام الغارقين فى الأوهام وتطرد أشباح الخائفين من الأشباح!
صباح 24 يونيو 2011



















18
هل يتمخض الربيع العربى عن تأسيس دول إسلامية؟
1: يتسلم محمد مرسى الرئيس المنتخب مرشح جماعة الإخوان المسلمين وحزب الحرية والعدالة سلطة رئيس الدولة فى كبرى الدول العربية، مصر، وهى أيضا التى شهدت كبرى الثورات العربية الراهنة، وسبق أن جاءت الثورة التونسية بحزب النهضة الإسلامى بزعامة راشد الغنوشى، كما أن حركات الإسلام السياسى ومنها حركة الإخوان المسلمين قوية فى ليبيا، وليس من المستبعد بل من المرجح أن تسير الثورة السورية فى اتجاه مماثل، كذلك فإن الإسلام السياسى قوى أصلا فى اليمن مع دور أساسى للقبائل يختلف به الوضع هناك كثيرا. وإذا كان ما يشهده السودان بداية ثورة ضد نظام عمر البشير فإن من المنطقى أن يمتد إليها نفس الهاجس، خاصةً وأن أقوى حركات المعارضة للنظام المتأسلم فى السودان إسلامية بصورة أعمق. وقوة الإسلام السياسى فى البلدان العربية الأخرى المرشحة وغير المرشحة للثورة حقيقة واقعة معروفة ولا شك فيها. فهل ينقلب الربيع العربى الثورى إلى ربيع عربى إسلامى رجعى؟
2: ورغم قوة هذا الاتجاه العام إلى أسلمة هذه الدول والمجتمعات والشعوب، ينبغى أن نأخذ فى الاعتبار حقائق تعمل ضد هذا الاتجاه. وإذا أخذنا فى اعتبارنا حقيقة أن حركات الإسلام السياسى هذه ليست محلِّقة فى سماء الأيديولوچيا بل هى راسخة الجذور حقا فى الأرض بوصفها قطاعاتٍ وأقسامًا من الرأسمالية الكبيرة التابعة للرأسمالية العالمية المعولَمة، وتمثل سياسيا قطاعات رأسمالية بعينها، فإن المشكلة الأولى التى يواجهها الإسلام السياسى تتمثل فى نفور القطاعات الرأسمالية الأساسية منه فى هذه البلدان ورفض أىّ زواج كاثوليكى معه حيث لا مناص من أن يؤدى إلى حبسها فى قفصه غير الذهبى. وتجمع أحزاب الإسلام السياسى بين سمتين: سمة المصالح الرأسمالية المحلية والعربية والعالمية، وهذه هى السمة الطبقية الأساسية، وسمة انتماء مئات الآلاف من المحرومين من أبناء وبنات الطبقات الشعبية، والجماهير العاملة والفقراء. وتجمع أحزاب الإسلام السياسى إذن بين الانتماء الفكرى والسياسى الرأسمالى لقادة هذه الأحزاب وبين الانقياد الجماهيرى من جانب المحرومين الذين هم ضحايا هذا التضليل الذى يُسَرْبِل، بسربال الإسلام، المصلحة الرأسمالية المادية الدنيوية والفكر الرأسمالى الذرائعى الپراجماتى الذى لا يختلف فى جوهره عن كل فكر رأسمالى؛ وهذه السمة المزدوجة ليست سمة ينفرد بها الإسلام السياسى عن الأحزاب الرأسمالية والإمپريالية الكبرى فى عالمنا، فهى جميعا تجمع بين الأغنياء والفقراء، بين الرأسماليِّين والعمال، بين الظالمين والمظلومين، بين المحتكرين والمحرومين.
3: وبالإضافة إلى المشكلة الأولى المتمثلة فى مقاومة مختلف القطاعات الحاسمة من الرأسمالية الكبيرة للإسلام السياسى، تتمثل مشكلة أخرى فى حقيقة أن مؤسسات وأجهزة وقوانين وأنظمة الدولة القائمة تقاوم هذه الأيديولوچيا الدينية السياسية. فعلى النقيض من "الدول" التى نشأت متأسلمة مثل المملكة العربية السعودية يأتى الإسلام السياسى هنا وافدا جديدا على السلطة القائمة على أرضية مختلفة رغم احترام المظاهر الدينية والتأسلم غير الجهادى. فهنا جيوش وأجهزة أمنية ومخابراتية ومؤسسات مدنية مسيطرة وغير مستعدة للتنازل عن الفوائد السبعة لسيطرتها (على سبيل المثال الاقتصاد الظاهر والخفى للجيوش بالمكاسب والامتيازات والمداخيل الضخمة والأسطورية عند مستويات بعينها لدائرة غير ضيقة للغاية من قياداتها). وبالإضافة إلى الاختلاف عن دول نشأت دينية مثل السعودية (على يد حركة إسلامية سلفية حربية بقيادة محمد بن عبد الوهاب و محمد بن سعود)، تختلف حركات الإسلام السياسى هذه عن الإسلام السياسى الشيعى بقيادة آية الله روح الله الخمينى فى أن الإسلام السياسى الشيعى ظل يمثل تنظيما قويا له دور اجتماعى ضخم وكان يمثل القوة الكبرى والحاسمة فى الثورة وقامت بالإطاحة بنظام الشاه محمد رضا بهلوى فى مواجهة مكشوفة مع جيشه وأجهزته الأمنية والمخابراتية وبالتالى صارت السلطة المسيطرة الفعلية التى قامت بالإطاحة بنظام الشاه وتصفية بقية قوى الثورة. ومن الجلى أن الإسلام السياسى العربى لا يصل فى كل الحالات إلى السلطة فى غمار مواجهة مسلحة قادها مع الجيوش المعنية، ووجد نفسه أمام السيطرة الفعلية للجيوش. وهناك بالطبع استثناء ليبيا وسوريا حيث أطاحت حرب أهلية بنظام معمر القذافى فى ليبيا، وبوجه خاص تتواصل حرب أهلية فى سوريا ضد نظام بشار الأسد، غير أن الوضع فى ليبيا وسوريا كان مختلفا كثيرا لأن ثورتيْهما لم تكونا ثمرة نضال طويل مباشر للإسلام السياسى للإطاحة بهذين النظامين بل كانت الثورتان مرتبطتين بأوضاع اجتماعية اقتصادية مشتركة مع بلدان عربية أخرى جعلت لتأثير الدومينو دورا مباشرا كبيرا، وبالتالى اندلعت هذه الثورة فى البلدين ليس بمبادرة إسلامية كانت قياداتها مهاجرة فى الحقيقة خارج البلدين.
4: وتتمثل مشكلة ثالثة، بطبيعة الحال، فى أن الثورات الراهنة قامت بإيقاظ حركات وقوى وجماهير متعطشة للحرية، والديمقراطية، ولا تسمح لها معاناتها القاسية قبل وبصورة أكبر بعد الثورة من أوضاعها الاجتماعية والاقتصادية ومستويات معيشتها المتردية للغاية، ولا التسييس الواسع النطاق ضد الفساد والاستبداد، ولا تحرُّرها من الخوف والخضوع والاستكانة والسُّبات التاريخى، ولا ثورة التوقعات التى أطلقتها الثورات، بالاستسلام لأىّ حكم فاسد ومستبد مرة أخرى بسهولة. وعندما تصل إلى السلطة أحزاب إسلامية فى البلدان العربية المعنية فإنها تجد نفسها أمام ثورات مستمرة من المرجَّح أن تناضل باستماتة فى سبيل تحقيق أهداف الثورة فى صورة ديمقراطية شعبية تقوم على الخبز والحرية. ولا شك فى أنه يوجد، كما سنرى، اختلاف كبير بين ليبيا وسوريا اللتين كان طريق الحرب الأهلية فيهما أداة تصفية الثورة من ناحية، ومصر وتونس اللتين ساد فيهما طريق التصفية التدريجية للثورة من ناحية أخرى. ومن هنا فإن خطر فرض نظام إسلامى بعد النجاح فى الإطاحة بالنظام يظل أكبر فى كلٍّ من ليبيا وسوريا.
5: وتتمثل مشكلة رابعة فى واقع أن هذه الأحزاب والحركات ظلت منذ نشأتها الأولى مضروبة ومقهورة ومضطهَدة ومن هنا فإنها تفتقر إلى الخبرة السياسية اللازمة للتصارع مع المشكلات الكبيرة التى تواجهها، وللنجاح فى إنشاء نظام سياسى مستقر، وفى إدارة الدولة والاقتصاد. ورغم النجاح فى إنشاء جماعات وحركات وأحزاب سياسية إسلامية سرية والاستناد إليها فى التأثير السياسى والتجنيد الواسع النطاق وتوسيع الصفوف والارتباط الوثيق بجماهير شعبية فإن نجاح الإسلام السياسى فى السيطرة المنفردة على الحكم بسرعة أمر بالغ الصعوبة فى الوقت الذى تمثل فيه السرعة البالغة مفتاح السيطرة بالطرْق على الحديد وهو ساخن بدلا من اتجاه التطورات نحو الاستقرار على غير هواه سواء من حيث استعادة مؤسسات الدولة لسيطرتها بعيدا عن تأثير فعال للإسلام السياسى من ناحية، أو انتزاع الجماهير العاملة والفقيرة للديمقراطية الشعبية بكل قدرتها فى المدى المرئى على الدفاع عن حقوق وحريات الشعب وتحقيق الأهداف الحقيقية للثورة.
6: وعندما نأخذ فى الاعتبار مختلف هذه الميول والاتجاهات، والميول والاتجاهات المضادة، فى سياق الصراع بين الثورة والثورة المضادة، تبرز بمزيد من الوضوح طبيعة الفُرَص التى تنفتح أمام الإسلام السياسى والعقبات التى تقف أحجار عثرة فى طريقه. ويمكن القول إن الفرص المواتية لاستمرار الثورة ترتبط ارتباطا عكسيا باتجاه محتمل للنظام السابق إلى استعادة سيطرته السابقة المستقرة أو اتجاه محتمل للإسلام السياسى إلى فرض سيطرته الجديدة المستقرة، فهذان هما العدوان اللدودان للثورة. ولهذا فإن هذين الاتجاهين يعملان متحالفيْن أو منفرديْن على تصفية الثورة التى ينبغى أن تقاوم استعادة النظام السابق. وينبغى أن نلاحظ هنا أن استعادة النظام السابق يمكن أن تتحقق بطريقة من طريقتين: الأولى، قيام المؤسسات الحاكمة السابقة باستعادة النظام فى شكل عسكرى صريح مباشر، أو فى شكل مدنى تتسربل به السيطرة العسكرية الفعلية، والثانية، نجاح الإسلام السياسى فى الإطاحة بالنظام العسكرى المباشر أو غير المباشر وبالتالى عودة الجيش إلى الثكنات، بحيث نكون إزاء دولة دينية. وهناك دائما احتمال الجمع بين الاتجاهيْن أو الميليْن العسكرى والدينى عن طريق تقاسُم السيطرة الفعلية فى مصر مثلا بين المجلس الأعلى للقوات المسلحة والإسلام السياسى، أو الجمع بين السيطرة الفعلية للمجلس الأعلى ودور يقوم به الإسلام السياسى صاغرًا كشريك أصغر بهدف التسلل إلى المؤسسات الحساسة من موقع أفضل للانقضاض فى ظروف مواتية على السلطة.
7: ويعنى ما سبق أن النظام السابق أو المستعاد، سواء أكان مباركيا "فُلُوليًّا" أو إسلاميا إخوانيا، ليس نظاميْن بل هو فى الحقيقة، ورغم ظاهر الأمور، نظام واحد. ذلك أنه فى الحاليْن نظام الرأسمالية الكبيرة التابعة للإمپريالية. وقد يستند هذا النظام إلى حكم ذرائعى، أو حكم قومى، أو حكم إسلامى، غير أن هذه التوجهات لا تغيِّر من الطبيعة الرأسمالية والتابعة التى لا يمكن أن يُفلت منها نظام من الأنظمة العالم-الثالثية النموذجية. وفى ضوء حقيقة أن ثورات الربيع العربى ليست ثورات اشتراكية فلا مفرّ من أن تكون محصلة الصراع بين الثورة والثورة المضادة هى استمرار نظام الرأسمالية التابعة. غير أن هذا إنما يكون فى المدى المباشر من أعلى، على حين تكون السيطرة من أسفل للديمقراطية الشعبية. وإذا أخذنا فى الاعتبار خصائص وعناصر ومكونات هذه الديمقراطية المباشرة فإن هذه الأخيرة تمثل نقلة تاريخية للشعب من حيث مستويات المعيشة الكريمة والأجور العادلة والتأمين الصحى الشامل وإقرار وممارسة التعددية الحزبية وحقوق التظاهر والاعتصام والإضراب واستقلال النقابات العمالية والمهنية ووضع دستور جديد يضمن الحريات وحقوق الإنسان وإلغاء القوانين المقيدة للحريات واستقلال القضاء والصحافة وحرية العقيدة وإقرار وممارسة تحرير المواطنة من كل تمييز على أساس الدين أو النوع أو الإثنية وتطوير التعليم وغير ذلك. وبطبيعة الحال فإن استمرار النظام الرأسمالى التابع باستبداده وديكتاتوريته من أعلى وبالفساد الملازم له يمثل خطرا متواصلا يهدد بسحق الديمقراطية الناشئة إذا عجزت عن الدفاع عن نفسها بعودة الشعب إلى السُّبات التاريخى.
8: ونعود إلى سؤال عنوان هذا المقال: هل يتمخض الربيع العربى عن تأسيس دول إسلامية؟ وفيما يتعلق بمصر، وكما سبق ورأينا، فإن بلدان الثورات التى استمرت إلى الآن تشهد صراعًا متعدد الأطراف يمكن إيجازه فى أنه صراع بين قوى ثلاث تنتمى اثنتان منها إلى الطبقة الرأسمالية الكبيرة: إحداهما تمثيل سياسى لقطاعات عسكرية ومدنية سادت منذ حركة 1952، والأخرى هى قوة الإسلام السياسى. أما القوة الثالثة فهى الكتلة التاريخية الناشئة المدنية المتنوعة للغاية وغير المنظمة سياسيا فى حزب واحد أو أحزاب متعددة قوية ناضجة أو جبهة واحدة ومنها القوى الحقيقية للثورة وكذلك كل حزب قد يساعد فى مرحلة أولى مؤقتة بطبيعتها على إقرار التعددية الحزبية فى البلاد. وفى مجرى هذا الصراع المرير المتشابك فى مصر، يدور صراع متعدد المراحل والمظاهر على السلطة بين القوتيْن المنتميتيْن إلى الرأسمالية الكبيرة إحداهما بقيادة المجلس الأعلى للقوات المسلحة والثانية بقيادة جماعة الإخوان المسلمين وحزبها. وفى الوقت نفسه تعمل هاتان القوتان متحالفتيْن أو متعاونتيْن أو منفردتيْن، على قدم وساق، على تصفية الثورة التى ينبغى بدورها أن تواصل نضالها الثورى ضد الدولة العسكرية لإحداهما والدولة الدينية للأخرى. ولا يعنى هذا تركيز نضال الثورة فى المدى المباشر من أجل الدولة المدنية ضد العسكرية أو من أجل الدولة العلمانية ضد الدينية. إن ما يجرى بالفعل هو بناء مؤسسات دولة الثورة المضادة وينبغى الابتعاد تماما عن المشاركة فى هذه العملية الشريرة وعن التركيز بطريقة تدور حولها على المقاطعة، أو ما يسمى بالإبطال، والمقاطعة هى الموقف السليم بدلا من "فُكَيْرَة" الإبطال بحجج واهية أثبتت عدم جدواها، فمثل هذا التركيز إنما يعنى الدوران حول الاستفتاءات والانتخابات الپرلمانية والرئاسية مع ادِّعاء مقاطعتها أو إبطال الأصوات فيها بدلا من التركيز على الفعل الثورى وبناء مؤسسات الديمقراطية الشعبية.
9: والوضع الفعلى فى مصر هو ذلك الصراع الذى احتدم بقوة فى الأشهر الأخيرة بين المجلس الأعلى على رأس القطاعات الرأسمالية والقوى السياسية التى تصطف وراءه، وبين الإخوان المسلمين على رأس الإسلام السياسى. ولم يأت المجلس بالرئيس المنتخب محمد مرسى إلى رئاسة الجمهورية، وسط غموض وشكوك وشائعات، إلا بعد حكميْن قضائييْن بحل مجلس الشعب وتثبيت ترشيح أحمد شفيق، وقرار من وزير العدل بمنح الضبطية القضائية لرجال المخابرات والشرطة العسكرية، وتشكيل جديد لمجلس الدفاع الوطنى، وإعلان عسكرى يجعل من القوات المسلحة دولة داخل الدولة، كما يجعل منها عزبة للمجلس الأعلى، ويقيد سلطات رئيس الجمهورية، ويسمح بقيام المجلس بتشكيل الجمعية التأسيسية للدستور فى حالة تعثُّر تشكيلها الحالى. وبالطبع فإن الدعاوى القضائية المرفوعة حاليا سوف تحسم، وربما اليوم، أمر كل أو بعض هذه التطورات. ومن الغريب أن مثقفين ممن ظلوا يعارضون السلطات الدستورية المطلقة لرئيس الجمهورية يتمادون فى اعتراضهم على هذا الإعلان الدستورى فيهاجمون فى الفضائيات تقليص سلطات رئيس الجمهورية لحساب المجلس الأعلى. ويفقد هؤلاء المثقفون البوصلة المرشدة لأن كثيرين منهم أثبتوا فى الفترة التالية للثورة أنهم من عَبَدَة النظام الرئاسى بحجة جديدة فحواها أن هذه المرحلة تحتاج إلى رئيس قوى وكأن الرئيس المخلوع كانت تنقصه القوة. كذلك فإن منح السلطات المطلقة لرئاسة الجمهورية لرئيس ينتمى إلى جماعة الإخوان المسلمين التى تعمل على إقامة دولة إسلامية أمر بالغ الخطورة. ولا يعنى هذا تأييد بقاء سلطات حاسمة من سلطات رئيس الجمهورية مع المجلس الأعلى الذى ما كان ينبغى أن يكون فى موقع أىٍّ من السلطتيْن التشريعية والتتنفيذية؛ والحقيقة أنه اغتصب هاتين السلطتين بحكم "شرعية" الانقلاب العسكرى، رافضا كل مطلب آخر للثورة فى كل محطات الفترة المسماة بالانتقالية.
10: ومهما يكن مصير الدعاوى القضائية المرفوعة أمام القضاء الإدارى فإن الأمر الأكيد هو أننا لسنا إزاء تسليمٍ للسلطة السياسية للرئيس المنتخَب، فالواقع أن الرئيس المنتخَب هو الذى أثبت أنه كان بوسعه أن يقبل بلقب الرئيس أو بشيء أشبه بهذا بدون سلطاته؛ ربما معتمدا فى تغيير المعادلة على الضغط الإخوانى فى الميدان. وهناك مَنْ يُعَلِّلون أنفسهم بأوهام وأمانى أن يكون محمد مرسى رئيسا لكل المصريِّين على أساس أنه استقال من الجماعة والحزب المعنيَّيْن. والحقيقة أن الاستقالة الشكلية لا تلغى حقيقة أن برنامجه السياسى والاقتصادى هو برنامج الجماعة والحزب اللذين يمحضهما الولاء من أعماقه. كذلك فإن فوز كلٍّ من محمد مرسى و أحمد شفيق، بهذه النسبة فى الإقبال إنْ صحَّت، وبهذه الأعداد إنْ صدقت، يدل ليس على تأييد حقيقى بهذا الحجم للأول أو الثانى بل يدل بوضوح على الخوف من عودة نظام حسنى مبارك من جانب والجمهورية الإسلامية من جانب آخر. ولا شك فى أن الإسلام السياسى الإخوانى يَلْقَى مقاومة كبيرة من جانب قطاعات حاسمة من الطبقة الرأسمالية الكبيرة بقيادة المجلس الأعلى، ومن جانب قوى رأسمالية ليبرالية ناشئة، ومن جانب الثورة. ومن الجلى أن الطريق المصرى الذى ابتعد عن خيار الحرب الأهلية فى تصفية الثورة لخطورتها على الرأسمالية الكبيرة واختار طريق التصفية التدريجية يمثل الخيار الأفضل للثورة المضادة وكذلك للثورة، بفضل الزمن المتاح لتطور ونضج الثورة، ومن المحتمل بالتالى أن تحقق الثورة المصرية ديمقراطيتها الشعبية المنشودة مهما كانت مستويات الاستبداد الديكتاتورى للرأسمالية من أعلى. وسيكون هذا نجاحا حقيقيا كبيرا لثورتنا فى مجال تفادى الدولة الدينية بجمهوريتها الإسلامية الإخوانية، رغم بقاء الرأسمالية التابعة لأن المحتوى الموضوعى للثورة لا يشمل الإطاحة بالرأسمالية.
11: ويمكن القول إن حظ الثورة المصرية فى التطور أفضل من حظ الثورة التونسية رغم ريادتها لهذه الثورات بلا منازع. ولا يقتصر الفارق فقط على أن حزبا إسلاميا تولَّى بصورة مبكرة هناك السلطتين التشريعية والتنفيذية رغم وجود قوى أخرى فى النظام الجديد وفى المجتمع، بل يشمل هذا الفارق قوة وعمق استمرار الثورة فى مصر إذا أخذنا فى الاعتبار احتجاجاتها التى ما تزال ضخمة، وأهدافها التى لم تتحقق بعد حيث تتردى الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للطبقة العاملة والجماهير العاملة والفقراء والمهمَّشين والمحرومين تحت خط الفقر.
12: وعندما نتجه بأنظارنا إلى ليبيا القريبة منا جغرافيا ولكنْ البعيدة عنا من حيث إدراكنا لواقعها السياسى بحكم الطبيعة الخاصة المنغلقة لنظام القذافى فإننا نجد الرؤية غائمة رغم مظاهر الإسلام السياسى التى تطفو على السطح وربما تغوص وتتجذر فى العمق. وبالطبع فإن النظام المتطرف للحكم البالغ الاستثنائية للشخص وعصابته هناك واختيار طريق الحرب الأهلية بلا تردد وبدم بارد وبوحشية ضارية كان لا مناص من أن يؤديا إلى القضاء تماما على الطبقة الرأسمالية الريعية الضيقة للغاية وكذلك إلى غياب دولة تملك حدا أدنى من التماسك وبالتالى القدرة على مقاومة الإسلام السياسى الذى أتى من السرية إلى العلن ومن المهجر إلى الداخل. على أن هذا لا يعنى أن الإسلام السياسى وحده فى الساحة وعلينا أن نتذكر أن الثورة انفجرت وتطورت لفترة غير قصيرة فى وضع إستراتيچى يتميز بغياب دور فعال محسوس للإسلام السياسى فهناك إذن مجال لقوى متنوعة وبالتالى احتمال مستوى من الديمقراطية الشعبية ومقاومة إحكام سيطرة الإسلام السياسى على السياسة والاقتصاد والمجتمع.
13: ويختلف الوضع فى سوريا البعيدة عنا جغرافيا ولكنْ القريبة نسبيا من ناحية معرفتنا بواقعها السياسى العام للغاية. ورغم الضربات القاصمة التى كان قد وجهها الأسد الأب إلى الإخوان المسلمين، والحصار اللاحق من جانب نظام الأسد الابن وحزب البعث، واتساع نطاق المهجر الإخوانى بالتالى، فإن الوضع السورى يختلف كثيرا عن ليبيا. وإذا كان خيار طريق الحرب الأهلية لتصفية الثورة مشتركا بين النظامين فقد كانت هناك اختلافات كبيرة بين البلدين فى خصائص الحرب الأهلية الدائرة فيهما. والفارق الجغرافى الحاسم بين سوريا وليبيا واضح جلى. ففى سوريا تتواجد مدن وأرياف البلاد متصلة على الأرض ومتداخلة ومتشابكة على العكس تماما من ليبيا التى تتناثر فوق صحاريها المترامية مدن وواحات متباعدة قد تصل المسافة بين إحداها والأخرى أحيانا إلى مئات الكيلومترات، وكان هذا مفيدا عسكريا لكلٍّ من نظام القذافى وقوى وقوات الثورة فى آن معا. فقد أتاح الفاصل الجغرافى الطبيعى لكلٍّ من الطرفين التمركز والتطور بعيدا عن هجوم الآخر استعدادا لزحف كلٍّ منهما على الآخر فى مراحل لاحقة. ويختلف هذا عن الاتصال الجغرافى الذى سمح للجيش السورى القوى بالانتشار السريع بدباباته ومدافعه وشبِّيحته فى كل نقطة فى البلاد فى ظرف بعيد عن أن يكون مواتيا لقوى الثورة وقوات الجيش الحر التى تقاتل ببسالة. وهناك فارق آخر بالغ الأهمية يتمثل فى طول فترة الحرب الأهلية بالمقارنة مع ليبيا. كما أن هناك أيضا فارق الجوار الجغرافى-السياسى فى سوريا على العكس من ليبيا، ففى مقابل فتح الحدود الليبية مع تونس ومصر للأجانب المغادرين، فيما يبقى الليبيون المقيمون بالداخل والقادمون من الخارج فى بلدهم، كان هناك ملاذ آمن لأعداد هائلة من اللاجئين السوريِّين فى تركيا بالذات، وهناك بالطبع أعداد أقل ذهبت إلى لبنان والأردن. وكانت وما تزال هناك بالطبع ضغوط ومساعدات تأتى من هذا الجوار الذى يشمل أيضا إسرائيل والعراق وإيران عبْرَ العراق (باعتبار بقاء النظام السورى مصلحة إيرانية فى المنطقة العربية بحكم علاقاته بالنفوذ الإيرانى فيها من خلال سوريا وحزب الله فى لبنان وحماس فى غزة فى مواجهة إسرائيل )، بالإضافة إلى الدعم السياسى والدپلوماسى وقَدْرٍ من الدعم العسكرى من روسيا، وربما من إيران والعراق وحزب الله لدعم نظام بشار الأسد، وربما من سنة العراق ولبنان وتركيا لدعم الثوار. وكانت لتركيا أهمية خاصة فى استضافة وحماية اللاجئين وكذلك فى خلق جو فى بعض الفترات باحتمال التدخل بما فى ذلك التدخل العسكرى الأمر الذى كان يدعم معنويات الثوار فى المدى المباشر ويخذلهم فى المدى الأطول، ولا شك فى أن هذا كان عاملا غير مشجِّع للنظام السورى فى الفترة الأولى إلى أن أيقن أن تركيا تنبح ولا تعضّ. ولعبت تهديدات الغرب نفس الدور المزدوج بالنسبة لكل من الثورة والنظام. وبالطبع فإن وجود سوريا فى قلب الشرق الأوسط جعل ويجعل الاهتمام بها كبيرا فى المنطقة وفى العالم غير أن تدخُّل العالم أمر بالغ الصعوبة وخاصةً بالمقارنة بالسهولة النسبية للتدخل فى ليبيا بسبب تداخُل وتشابُك جماهير الثورة والقوات السورية المسلحة، كما أن الدافع القوى الذى كان يمثله النفط الخفيف والقريب جدا من أوروپا فى حالة ليبيا يظل غائبا فى حالة سوريا. وهناك العامل السياسى المهم من الزاوية التى نهتم بها هنا وهو أن الزمن الممتد نسبيا أتاح للإخوان المسلمين السوريِّين فى داخل وخارج البلاد أن يشاركوا بصورة مكثفة فى الاحتجاجات السلمية وربما فى الاشتباكات العسكرية بصورة تؤهلهم لأن يكونوا شريكا مهما أو الشريك الأكثر أهمية فى تقاسُم السلطة التى يمكن أن تعقب السقوط المحتمل بل المرجَّح لنظام بشار الأسد. وكما سبق القول فإن طريق الحرب الأهلية فى تصفية الثورة كما حدث فى ليبيا وسوريا يؤدى على الأرجح إلى انهيار النظام والدولة والطبقة فاتحا الباب أمام احتمال سلطة إخوانية بالاشتراك مع القادة العسكريين للجيش الحر.
14: أما فى اليمن فإنه يمكن القول إن التعقيد القبلى فيه أكثر من ليبيا قد يكون عقبة كبرى فى طريق الثورة وكذلك فى طريق السيطرة الإسلامية الجهادية بالإضافة إلى العقبة السعودية والأمريكية أمام أىٍّ من هذين التطورين المتناقضيْن.
15: أما احتجاجات السودان التى قد تتطور فى أجواء المناخ العربى الراهن إلى ثورة أو نصف ثورة، كما قال لى مثقف سودانى صديق فى مكالمة تليفونية مع السودان اليوم منذ قليل، والتى قد تدفعها الأوضاع السياسية والاقتصادية المتردية إلى التصعيد، رغم ما يمكن أن يُحْبطها من مخاوف تثيرها تجربة الربيع العربى القاسية والوحشية فى أكثر من بلد وبالأخص فى ليبيا واليمن وسوريا، فمن الأفضل ألَّا نعبُر الجسر قبل الوصول إليه. وينطبق الشيء ذاته على إرهاصات ما تزال جذوتها متقدة فى الأردن والمغرب والبحرين.
16: ويتمثل الاستنتاج العام فى أن استيلاء الإسلام السياسى على السلطة السياسية فى بلدان ثورات الربيع العربى ليس قَدَرًا محتوما وإنْ كان خطرا محتملا لا يمكن استبعاده، وربما بصورة تدريجية تستغرق زمنا، فى بعض بلدان طريق الحرب الأهلية بالذات بعد انهيار واقع فى ليبيا ومحتمل فى سوريا، ووضع ملتبس فى اليمن السعيد.
26 يونيو 2012



#خليل_كلفت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ثورة 25 يناير 2011 فى النصف الأول من 2012 - القسم الأول
- هل يتمخض الربيع العربى عن تأسيس دول إسلامية؟
- الانقلاب العسكرى المكمِّل
- كلمات فى عشية جولة إعادة الانتخابات الرئاسية فى مصر
- محاكمة ثورية للرئيس مبارك وأسرته ورجاله وإلغاء الانتخابات ال ...
- مع متاهات أرقام الانتخابات فى مصر
- مأتم ديمقراطية المجلس العسكرى والإخوان المسلمين فجر الديمقرا ...
- أساطير الجبال والغابات - برنار كلاﭭيل
- هاجس الحرب الأهلية فى مصر
- أساطير البحيرات والأنهار - برنار كلاڤيل
- أضأل امرأة فى العالم - كلاريس ليسپكتور
- أسطورة الفترة الانتقالية وحقائق المسار الفعلى للتطورات فى مص ...
- مقالات مترجمة فى الفن التشكيلى
- أساطير البحر - برنار كلاڤيل
- تسع قصائد للشاعر البرازيلى: مانويل بانديرا
- سبع قصائد لناظم حكمت
- غنوة
- مشاكل تخلُّف (قصيدة)
- الإعداد للموت (قصيدة)
- أربع قصائد لبورخيس


المزيد.....




- الحرب على الاونروا لا تقل عدوانية عن حرب الابادة التي يتعرض ...
- محكمة تونسية تقضي بإعدام أشخاص أدينوا باغتيال شكري بلعيد
- القذافي يحول -العدم- إلى-جمال عبد الناصر-!
- شاهد: غرافيتي جريء يصوّر زعيم المعارضة الروسي أليكسي نافالني ...
- هل تلاحق لعنة كليجدار أوغلو حزب الشعب الجمهوري؟
- مقترح برلماني لإحياء فرنسا ذكرى مجزرة المتظاهرين الجزائريين ...
- بوتين: الصراع الحالي بين روسيا وأوكرانيا سببه تجاهل مصالح رو ...
- بلجيكا تدعو المتظاهرين الأتراك والأكراد إلى الهدوء
- المكتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي: مع الجماهير ضد قرارا ...
- بيان تضامن مع نقابة العاملين بأندية قناة السويس


المزيد.....

- سلام عادل- سيرة مناضل - الجزء الاول / ثمينة ناجي يوسف & نزار خالد
- سلام عادل -سیرة مناضل- / ثمینة یوسف
- سلام عادل- سيرة مناضل / ثمينة ناجي يوسف
- قناديل مندائية / فائز الحيدر
- قناديل شيوعية عراقية / الجزءالثاني / خالد حسين سلطان
- الحرب الأهلية الإسبانية والمصير الغامض للمتطوعين الفلسطينيين ... / نعيم ناصر
- حياة شرارة الثائرة الصامتة / خالد حسين سلطان
- ملف صور الشهداء الجزء الاول 250 صورة لشهداء الحركة اليساري ... / خالد حسين سلطان
- قناديل شيوعية عراقية / الجزء الاول / خالد حسين سلطان
- نظرات حول مفهوم مابعد الامبريالية - هارى ماكدوف / سعيد العليمى


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية - خليل كلفت - ثورة 25 يناير 2011 فى النصف الأول من 2012 - القسم الثانى