أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الإستعمار وتجارب التحرّر الوطني - عبد الغني سلامه - الأبارتهايد بين إسرائيل وجنوب إفريقيا 2-2















المزيد.....


الأبارتهايد بين إسرائيل وجنوب إفريقيا 2-2


عبد الغني سلامه
كاتب وباحث فلسطيني

(Abdel Ghani Salameh)


الحوار المتمدن-العدد: 3777 - 2012 / 7 / 3 - 10:43
المحور: الإستعمار وتجارب التحرّر الوطني
    


التفرقة العنصرية في فكر وممارسة جنوب إفريقيا وإسرائيل

في العشرين من تشرين الثاني عام 1963 اعتمدت الأمم المتحدة الإعلان العالمي للقضاء على كافة أشكال التمييز العنصري (ميثاق الأبارتهايد). وفي العام 1966 أعلنت الجمعية العامة عن يوم 21 آذار اليوم العالمي لمكافحة العنصرية، وهو اليوم الذي يصادف ذكرى مذبحة شاربفيل، التي ذهب ضحيتها 69 شخصا كانوا خارجين في مظاهرة سلمية ضد نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا.

والواضح في الميثاق هو أن المجتمع الدولي، وأيضاً القانون الدولي، يعتبران الأبارتهايد جريمة غير مقتصرة على جنوب أفريقيا، بل جريمة يمكن أن ترتكبها أي دولة، وأن واجب المجتمع الإنساني في حالة أنه وُجد دولة ترتكب هذه الجريمة أن تتخذ كافة الإجراءات القانونية والإدارية والاقتصادية بحقها، مثل فرض العقوبات والمقاطعة الشاملة ومحاكمة الجناة، حتى تتوقف عن ارتكاب الجريمة.

ولم يتوقف المجتمع الدولي في محاربته العنصرية عند ميثاق الأبارتهايد؛ فقد صدرت عدة مواثيق دولية أخرى تعتبر الأبارتهايد جريمة لا تختلف عن الإبادة الجماعية والعبودية المحظورة دوليا، (مثل ميثاق روما، مؤتمر ديربان). وهذه المواثيق الدولية تعتبر أن أي دولة تُسخّر قوانينها وسياساتها لانتهاك حقوق الإنسان، أو لاضطهاد فئة معينة من المجتمع (عرقية أو إثنية أو قومية أو دينية) بغية إبقاء أو إدامة سيطرة النظام الحاكم أنها ترتكب جريمة الأبارتهايد .
والأبارتهايد، أو التمييز العنصري يعني التعامل مع أشخاص متساوين بشكل مختلف، وتفضيل بعضهم على بعض على خلفية الانتماء القومي أو الديني أو الطائفي، أو بسبب اللون، أو العنصر أو الجنس. ويقابله المساواة، وهي إعطاء حقوق متساوية للبشر دون الالتفات إلى الفوارق العرقية أو الجنسية أو الدينية وما إلى ذلك. أما كلمة "أبارتهايد" فهي مشتقة من لغة "الأفريكانز"، وتعني الفصل أو التفرقة. والتمييز العنصري بحسب تعريفه في الإعلان العالمي لمكافحة العنصرية في البند الرابع: "هو كل تمييز، أو إخراج من المجموع، أو تحديد، أو تفضيل بحجج تستند إلى العنصر، اللون، الانتماء العائلي، الانتماء القومي أو الإثني، تكون نتيجته أو وجهته تعريض الحقوق الأساسية في الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية أو في أي مجال آخر للخطر".

وفي كتابه "العنصرية كما شرحتها لابنتي"، يعرّف الأديب المغربي "الطاهر بن جلون" العنصرية بأنها "اعتقاد الفرد أو المجموعة بالتفوق والتميز عن الآخرين، بسبب لون البشرة أو العرق". ويعتبر "بن جلون" أن العنصرية سلوك سلبي شائع في كل المجتمعات، يكتسبه الأفراد في الأجواء غير الصحية، إلا أن المجتمعات المتحضرة تنبذ هذا السلوك. أما التفرقة العنصرية فهي فصل مجموعة اجتماعية أو إثنية عن الباقي، ومعاملتها معاملة سيئة. ويستخدم المتعصبون العنصرية والدين لدفع الناس للحقد والكراهية، وإذكاء مشاعر الخوف من كل ما هو أجنبي أو مختلف، وبالتالي فهي من أهم أسباب نشوب الحروب. وقد دأب المستعمرون على تبني العنصرية لتبرير جرائمهم وتسلطهم على الشعوب الأخرى، بحجة أنهم بدائيون وهمج وفي مرتبة أقل من البشر..

ولتشخيص أشكال التمييز العنصري المتبعة في إسرائيل، من المهم معرفة أن إسرائيل كانت قد صادقت على الإعلان العالمي للقضاء على كافة أشكال التمييز العنصري في العام 1979، وأعلنت انضمامها إليه. كما جاء في ما يُعرف بـِ"وثيقة الاستقلال": "على دولة إسرائيل أن تضمن المساواة في الحقوق الاجتماعية والسياسية بشكل تام لكل مواطنيها، دون الالتفات إلى الدين، العرق، الجنس". كما عرّف القانون الإسرائيلي العنصرية بأنها "ملاحقة، إهانة، احتقار، عداء، عنف، التسبب بأضرار تجاه مجموعة سكانية بسبب اللون، أو الانتماء العرقي أو القومي أو الإثني".

والمحكمة الإسرائيلية العليا تعتمد في قراراتها المساواة كمبدأ أساسي في الدولة، كما تقر بحق التعبير عن الرأي، وبالحق بتكوين أحزاب سياسية، وبحق التظاهر. وتعتبر أن نشر أقوال عنصرية، أو المس بالمشاعر الدينية، أو التمييز في العمل والتعليم، أو منع الانتفاع من المرافق العامة على خلفيات قومية أو عرقية أو دينية تعتبر كلها مخالفة للقانون، وتستوجب العقوبة.
وعلى الرغم مما تدعيه إسرائيل بشأن المساواة وإدانتها للعنصرية، إلا أن الكنيست صادق على عشرات القوانين التي تضمن الحقوق الجماعية لليهود، والتي تكون عادة على حساب المواطنين العرب، كما تبنّت الحكومة عشرات القرارات، واتخذت مئات الإجراءات التي تنطوي على تفرقة عنصرية واضحة ضد المواطنين العرب، بدءً من رصد موازنات ضئيلة للقرى والمدن العربية، أو عدم اعترافها بعشرات القرى والتجمعات البدوية، وانتهاء بتنفيذ القانون بشكل عنصري وغير متساوي.

ولإثبات عنصرية إسرائيل، لا يجب التوقف عند عقد المقارنات بين ممارساتها وممارسات نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، بحيث تصبح هذه المقارنات مجرد تشبيه بين نظامين قمعيين عنصريين بهدف الترويج للقضية الفلسطينية؛ لأن الأبارتهايد ليس مجرد لائحة من الممارسات التي ارتكبها النظام العنصري في جنوب أفريقيا نقارنها مع ممارسات الدول الأخرى، لنقول أنها هذا النظام أو ذاك شبيه بالأبارتهايد. فإذا أثبتنا أن إسرائيل تمارس مثل هذه الممارسات العنصرية، فإنها بذلك لا تكون شبيهة بالأبارتهايد؛ بل تكون هي نفسها دولة أبارتهايد.

وإذا أردنا أن نفهم الأبارتهايد الإسرائيلي على حقيقته، لا بد من النظر إليه بشمولية على أنه يتضمن كافة القوانين والسياسات والممارسات الإسرائيلية ذات العلاقة بالشعب الفلسطيني بأسره، وليس فقط في الضفة الغربية وقطاع غزة. فإذا كانت ممارسات وسياسات الاحتلال تعسفية، وأنها تتسم بسمات وعناصر الأبارتهايد؛ فإن الأهم من ذلك هو النظر للركن الأساسي من الأبارتهايد الإسرائيلي المتمثل بالجانب الأيديولوجي الفكري للحركة الصهيونية. والذي يقوم أساسا على فكرة عنصرية؛ حجر الأساس فيها أن اليهود هم قوم مميزون، ومن واجبات هذا القوم أن يقيم دولة، وأن هذه الدولة لا بد لها أن تكون يهودية، ومن البديهي أن هذه الدولة حتى تقوم ستضطهد وستقصي الآخرين، الذي هم من وجهة نظرها مجرد أغيار (جوييم)، خُلقوا لخدمة اليهود. ولذلك اعتبرت الأمم المتحدة الصهيونية شكلا من أشكال العنصرية، وأصدرت قرارا بذلك عام 1975، ثم عادت وتراجعت عنه عام 1992، في فترة الهيمنة الأمريكية على الأمم المتحدة.

أول مثال على الأبارتهايد الإسرائيلي هو طرد السكان العرب من أراضيهم وتشريدهم عام 1948، ثم عدم الاعتراف بحقهم في العودة، رغم صدور قرار دولي بذلك (القرار 194). فهذا انتهاك لحقوق الإنسان يهدف لإبقاء اليهود كأغلبية ديموغرافية، بغرض إبقاء السيطرة للإسرائيليين اليهود؛ (وهي الفئة القومية الدينية التي ترتكب الجريمة من خلال أجهزة الدولة بموجب القوانين والسياسات والممارسات). والمثال الآخر على الأبارتهايد الإسرائيلي صدور قانون الجنسية الذي يتعامل مع العرب في إسرائيل كمواطنين من الدرجة الثانية، يشبه وضعهم وضع الملونين والهنود في جنوب إفريقيا حين أعطوا حق التصويت في البرلمان الثلاثي بصورة شكلية دون أن يكون لهم سيادة. وما زالت إسرائيل تنظر للعرب كخطر ديمغرافي، لا كمواطنين متساوين مع غيرهم. ولم يتوقف الأمر عند ذلك؛ بل امتد ليشمل كل ما تمثله سياسات وممارسات التمييز العنصري الممنهج بين الإسرائيلي اليهودي والفلسطيني، لعل أهمها وأخطرها سياسات التهويد المنظمة للقدس والنقب والجليل والمدن العربية. وقائمة هذه السياسات والممارسات طويلة.

وهناك أمثلة كثيرة على الأبارتهايد الإسرائيلي، تم توثيقها من قبل جمعيات حقوقية، مثل جمعية حقوق الإنسان في الناصرة، وجمعية الدفاع عن حقوق المهجرين داخليا في إسرائيل، ومركز مساواة في حيفا، وأيضا من قبل منظمات يهودية إسرائيلية مثل "زخروت" واللجنة الإسرائيلية ضد هدم البيوت.
وفي تقرير أعده مركز مساواة، أشار الكاتب "خليل حداد" إلى عشرات الأمثلة التي تُظهر أشكالا عديدة من التمييز العنصري ضد العرب، وأن هذا التمييز لا يقتصر على المؤسسات الرسمية، بل يمتد لقطاعات واسعة في المجتمع الإسرائيلي نفسه. ومن الأمثلة: اعتداء على مواطنين عرب، المس بالمشاعر الدينية، وتدنيس المقابر العربية، وتحويل المساجد إلى متاحف، هدم بيوت، عدم السماح للعرب بترميم بيوتهم، أو بناء مساكن جديدة، عدم منح المواطنين العرب فرص متساوية في التوظيف، تصريحات عنصرية لمسؤولين في الدولة، جمعيات وأحزاب يمينية متطرفة تحرض ضد العرب، مظاهرات استفزازية لجماعات استيطانية في المدن العربية والمختلطة، تمييز في الأنشطة الرياضية، هتافات عنصرية في مدرجات الجمهور أثناء المباريات الرياضية، تمييز في تقديم الخدمات العامة، قمع الشرطة للمظاهرات العربية بقسوة وعنف شديدين، كما حدث في أكتوبر 2000 حين قتلت الشرطة 13 شابا عربيا أثناء مظاهرات سلمية، ولم يتوقف مسلسل القتل عند تلك الحادثة، إذْ يشير التقرير إلى مقتل 41 عربيا بعد ذلك، على أيدي الشرطة والجيش وشركات حراسة خاصة، ومتعصبين يهود. وفي معظم الحالات كان القضاء يتساهل مع المعتدين ويتم تبرئتهم، أو إنزال عقوبات طفيفة جدا بحقهم. ولعل أشهر مثال على ذلك حين حكمت محكمة إسرائيلية على لمقدم "شدمي" قائد لواء الجيش الذي اقترف مذبحة كفر قاسم عام 1956 بدفع غرامة مالية مقدارها قرش واحد !!

وبسبب تنامي مشاعر العنصرية في المجتمع الإسرائيلي أشار تقرير صادر عن جمعية حقوق المواطن أن العام 2006 شهد زيادة قدرها 26% في الحوادث المرتبطة بعنصرية ضد العرب. وفي استطلاع للرأي أعدته الجمعية تبين أن 75% من اليهود لا يقبلون السكن بجانب مواطنين عرب، وأن 61% منهم غير مستعدين لاستقبال عرب في بيوتهم، وأن 55% يفضلون الفصل بين العرب واليهود في الأماكن العامة وأماكن الترفيه.
وإذا كانت إسرائيل قد حظرت منذ عام 1985 الأحزاب السياسية التي تتبنى الكاهانية باعتبارها أيديولوجيه عنصرية مكشوفة، ومنعت حركة كاخ التي كان يتزعمها مائير كاهانا من الترشح للكنيست في 1988، إلا أنه بعد استلام اليمين الصهيوني الحكم (الليكود وحلفائه من الأحزاب الدينية) ظهرت بعض الحركات الكاهانية، ثم ازدادت وتيرة الاستيطان على نحو غير مسبوق، وبدأت ملامح اليمين الديني والتعصب تطغى على مظاهر الحياة الاجتماعية في إسرائيل، مع زيادة في قوة وتأثير المستوطنين ورجال الدين على القرار الإسرائيلي؛ ما يعني أن إسرائيل تأخذ منحى التطرف واليمين أكثر فأكثر، وستبدأ عما قريب بتبني القوانين العنصرية علانية، وبدون مواربة.

واليوم، وفي ظل الحكومة اليمينية، تتصاعد عمليات مأسسة نظام الأبارتهايد في إسرائيل، من خلال سلسلة من التشريعات والقوانين التي تقترحها الجهات المتطرفة داخل الكنيست؛ كقانون المواطنة الذي بشّر به زعيم "إسرائيل بيتنا" افيغدور ليبرمان؛ هذا القانون فتح شهية حزب "شاس" اليميني الديني لاقتراح تعديلات جديدة عليه تدعو إلى إسقاط حق المواطنة عن كل من تثبت عليه تهمة عدم الولاء للدولة باعتبارها يهودية، فضلا عن قانون النكبة، الذي يحظر على الفلسطينيين إحياء فعاليات ذكرى النكبة، وقانون لجان القبول في ما يسمى بالبلدات الجماهيرية، وقــــوانين أخرى تؤسس بمجــــملها لنظام أبارتهايد تؤطره القوانين، بنفس النموذج الذي مثله الحزب الوطني في جنوب إفريقيا.

وإذا انتقلنا لرصد الممارسات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين في القدس والأراضي المحتلة عام 1967، سنجد مستوى أعلى من التمييز العنصري؛ كالاعتداءات التعسفية، وانتهاكات لحقوق الإنسان، ومصادرة الحقوق الطبيعية والمدنية، وتقييد الحريات، وأعمال العنف والقتل والإبعاد والاعتقال وهدم البيوت والقصف ومصادرة الأراضي والاستيطان والجدار العازل والحواجز العسكرية وغيرها من الممارسات التي صنفتها تقارير دولية جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية، وأدانتها منظمات حقوق الإنسان.

وبناء على ما تقدم، يتضح لنا أن الاحتلال الإسرائيلي يتسم بالكثير من سمات الاستعمار الاستيطاني، وفي نفس الوقت، يحوي الكثير من أسوأ سمات التمييز العنصري؛ فإذا تميز نظام الإبارتهايد في جنوب إفريقيا بإنكار الحقوق السياسية والمدنية للسود، وأن سياسته العنصرية كانت ظاهرة ومكشوفة، بل ومحمية بموجب القانون، ولا يخجل من الإعلان عنها وتبريرها وتشريعها؛ فإن الأمر في الحالة الإسرائيلية مختلف؛ فقد لاحظنا كيف أن التشريعات الإسرائيلية ترفض العنصرية، وتدينها على المستوى القانوني والنظري، وكيف تطبق إسرائيل العنصرية على المستوى الفعلي، ولكن بشكل موارب ومخادع.
فعلى سبيل المقارنة، كانت حكومة جنوب إفريقيا تمنع السود من استخدام المرافق العامة كالمستشفيات والحدائق والشواطئ والمواصلات والمباني الحكومية والجامعات والمدارس التي كانت جميعها مخصصة للبيض فقط، وكانت تمنع السود من دخول أحياء البيض، من العمل في الكثير من الوظائف، وتحرمهم حق التصويت، وتحدد أماكن إقامتهم، وتحد من حرية تنقلهم ..إلخ، بينما لا توجد في إسرائيل هذه القائمة من الممنوعات على المواطنين العرب، بل أنها منحتهم حق المواطنَة والحق بتشكيل أحزاب والتصويت والترشح في البرلمان.

ومقابل هذا الاختلاف بين النموذجين (الإسرائيلي والجنوب إفريقي) من السهولة رصد الكثير من أوجه التشابه بينهما؛ فعلى سبيل المثال بدأت حكومة الحزب الوطني في جنوب إفريقيا أواخر الخمسينات من القرن الماضي بوضع قبائل السود في مناطق معزولة، ودعمت تشكيل حكومات في هذه المناطق، واعترفت بها كأقاليم مستقلة، بحيث يكون لكل منطقة رئيس من الشعب الأصلي وعلم ونشيد وطني، وقد عُرفت بالبانتوستانات أو المواطن المستقلة. لكن هذه البانتوستونات بقيت تحت سيادة الحكومة المركزية لدولة جنوب إفريقيا، تعتمد عليها بشكل كامل في الجانب المالي، وفي العلاقات الخارجية، وقد وُضع لكل بانتوستان أجهزة أمنية، وظفت الجزء الكبير من أهاليها الأفارقة، ليس للدفاع عن أمنهم، بل للدفاع عن مصالح حكومة الأبارتهايد، وأمن المستوطنين.

وفي هذا الجانب يتماهى الاحتلال الإسرائيلي مع النظام العنصري في جنوب إفريقيا؛ فقد قامت إسرائيل بتجزئة المناطق الفلسطينية إلى بانتوستونات معزولة عن بعضها بشكل شبه كامل، فهناك ما يسمى "داخل الخط الأخضر"، التي يحظر على الفلسطينيين (سكان الضفة الغربية والقطاع) دخولها، إلا بموجب تصاريح خاصة، لا تُمنح بسهولة. وهناك منطقة القدس، التي أصبح مجرد دخولها مهمة شاقة وصعبة وأحيانا مستحيلة، وتتطلب تصاريح خاصة. وهناك قطاع غزة والضفة الغربية التي صار التنقل فيما بينها شبه مستحيل، وكل منطقة منها صارت مغلقة ومحاطة بالجدران والأسلاك الشائكة والمعابر الحدودية التي يتحكم بها جنود الاحتلال. وحتى الضفة الغربية نفسها صارت مجزأة إلى ثلاث مناطق: شمال، ووسط، وجنوب، وصارت كل مدينة وبلدة محاطة بالمستوطنات والحواجز العسكرية والطرق الالتفافية.

وليس هذا التقسيم هو التشابه الوحيد مع بانتوستونات جنوب إفريقيا العنصرية؛ بل هناك أيضا التشابه في تقييد حرية التنقل والتي يجري فرضها على الفلسطينيين بقسوة، ويتم تنفيذها من خلال نظام التصاريح، وبواسطة نشر حوالي 540 حاجزا عسكريا ونقطة تفتيش، مع متاريس وخنادق وإغلاقات على الطرق. وهذا النظام فيه تشابه كبير مع "نظام إجازة المرور" في دولة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، ولكن مع تشدّد أكثر. وربما يتفوق عليه، خاصة في مسألة شق طرق خاصة بالمستوطنين يحظر على الفلسطينيين استخدامها.

الفرق بين الحالتين، أن إسرائيل لم تسعى للإعتراف بكل منطقة معزولة كإقليم مستقل كما فعلت جنوب إفريقيا، ربما لأن تجربة جنوب إفريقيا لم تنجح على الصعيد الدولي، ولم تعترف أي دولة أجنبية بالبانتوستانات كدول مستقلة، ولكنها ربما في المستقبل - إذا ما استمر الانقسام الفلسطيني - تعترف بكلٍ من حكومة غزة، والضفة الغربية كدولتين مستقلتين. أو تسعى للإعتراف بدولة فلسطينية غير مستقلة، تكون مجزأة ومقسمة وغير متصلة جغرافيا.
ومثال آخر للتشابه تجسده الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، التي تُذكّر بالأجهزة الأمنية في جنوب إفريقيا؛ حيث آلاف الفلسطينيين يقبعون في السجون الإسرائيلية، والذين تثير أوضاعهم الكثير من الادعاءات المتكررة عن تعرضهم للتعذيب والمعاملة القاسية. لا بل أن الأجهزة الأمنية الإسرائيلية تتجاوز في ممارساتها القمعية نظيرتها في جنوب إفريقيا؛ حيث التدمير واسع النطاق للمنازل، تجريف وتخريب الأراضي الزراعية، والتوغل العسكري والاغتيالات المنظمة؛ ويكفي الإشارة هنا إلى أنه لم يتم أبدا بناء جدار للفصل بين البيض والسود في جنوب أفريقيا، كما هو الحال في فلسطين.

ومقارنة السجون الإسرائيلية بسجون جنوب إفريقيا تدل على أن إسرائيل تتفوق بكثير على نظيرتها، فلدى مطالعتي مذكرات نيلسون مانديلا في كتابه "رحلتي الطويلة من أجل الحرية" لم أجد أثرا يُذكر عن حالات تعذيب، كما يحدث باستمرار وبشكل فظيع في السجون الإسرائيلية، وتكفي الإشارة إلى أن أطول فترة أمضاها سجين في جنوب إفريقيا كانت لنيلسون مانديلا (28 عاما)، بينما تحتجز إسرائيل مناضلين فلسطينيين مضى على سجنهم أكثر من ثلاثين سنة، وهناك أحكام بالسجن تصل آلاف السنين، وهناك جثامين مسجونة، وهناك العشرات قضوا في السجون تحت التعذيب.

أما ممارسات وسياسات إسرائيل تجاه القدس وسكانها العرب، فهي مثال صارخ على تفوق الأبارتهايد الإسرائيلي على نظيره الجنوب إفريقي؛ حيث هناك تمييز واضح بين العرب واليهود، وقد هدمت السلطات آلاف المنازل لمواطنين بحجة عدم الترخيص، ومعروف أن المواطن العربي لا يستطيع ترميم بيته، أو بناء منزل جديد إلا بعد إتباع إجراءات بيروقراطية تستغرق أكثر من عشرة سنوات، وتتطلب دفع مبالغ باهظة لا يقدر عليها إلا الأثرياء، وفي المقابل تمنح كافة التسهيلات لأي يهودي يرغب بالسكن أو البناء. فضلا عن الإجراءات التمييزية المتعلقة بدفع الضرائب والهوية والإقامة وتلقي الخدمات، وتدهور الأحوال الاجتماعية والأمنية والاقتصادية بما لا يقارن بالأحياء والمناطق اليهودية.

يجدر الذكر أن وصف إسرائيل كدولة أبارتهايد، ليس بديل ولا يقلل من واقع إسرائيل كدولة استعمار إحلالي واحتلال عسكري؛ لكن هذا الوصف التحليلي يأتي لاستكمال فهمنا القانوني والسياسي للنظام الإسرائيلي، ويضع التمييز العنصري في مكانه الصحيح؛ كحجر الزاوية في السياسات الإسرائيلية. والجرائم التي يرتكبها الاحتلال في الضفة والقطاع تبقى جرائم حرب وانتهاكات لحقوق الإنسان، ويتضاعف فهمنا لمدى خطورة هذه الجرائم عندما نرى أنها ترتكب كجزء من جريمة أكبر تستهدف جميع الشعب الفلسطيني.

ممارسات الأبارتهايد في إسرائيل لم تعد خافية على أحد؛ وقد بدأ المجتمع الدولي يدينها، والعديد من الحكومات والمؤسسات اتخذت إجراءات عقابية ضد إسرائيل، كالمقاطعة، والدعوة لمحاكمة قادة إسرائيليين متورطين بجرائم حرب. حتى أن الأوساط الحاكمة في إسرائيل بدأت تعترف بأنها تواجه أسوأ لحظاتها التاريخية، وقد باتت منبوذة ومعزولة ومدانة أكثر من أي وقت سابق، ولم تعد تتمتع بالدعاية التي طالما روجتها وسائل إعلامها بأنها واحة الديمقراطية، وأنها الدولة الضحية، وأنها تسعى للسلام ..

وفي هذا السياق وضع الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر كتابا بعنوان: "فلسطين: السلام لا الأبارتهايد"، أما جون دوغارد مبعوث الأمم المتحدة الخاص السابق في الأراضي الفلسطينية، فقد أكد أن إسرائيل ترتكب ثلاثة انتهاكات تتعارض مع قيم وقوانين المجتمع الدولي، وهي الاحتلال والاستعمار والأبارتهايد، ومثله فعل كذلك الرئيس السابق للجمعية العامة للأمم المتحدة الأب ميغيل ديسكوتو عندما دعا المجتمع الدولي إلى تحمل مسؤولياته والوفاء بواجباته، والاعتراف بحقيقة أن إسرائيل دولة أبارتهايد .وأيضا السيدة "مايريد ماغواير" حاملة جائزة نوبل للسلام، التي وقفت أمام المحكمة الإسرائيلية العليا تدعو إسرائيل إلى وقف سياسة الأبارتهايد. قائلةً: "لن يكون هناك سلام في هذه المنطقة إلا بعد أن توقف إسرائيل سياسة الأبارتهايد والتطهير العرقي ضد الشعب الفلسطيني".
ومع ذلك، يجب أن لا نكتفي بحملات الإدانة والاستنكار (رغم أهميتها)، ولا بد من جهد سياسي ودبلوماسي وإعلامي لفضح الأبارتهايد الإسرائيلي، وأن يبدأ المجتمع الدولي بتحمل مسؤولياته الأخلاقية والقانونية، وأن يفرض عقوبات صارمة على إسرائيل، لإرغامها للانصياع للقانون الدولي. فقد آن الأوان لأن تواجه إسرائيل نفس المصير الذي انتهى إليه نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، لأنه في النهاية لا يصح إلا الصحيح



#عبد_الغني_سلامه (هاشتاغ)       Abdel_Ghani_Salameh#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الأبارتهايد بين إسرائيل وجنوب إفريقيا 1-2
- إسرائيل على الجبهة الإفريقية 2 - 2 دراسة في العلاقات الإسرائ ...
- إسرائيل على الجبهة الإفريقية - دراسة في العلاقات الإسرائيلية ...
- مسيرة الحرية في جنوب إفريقيا العنصرية - الملخص والخاتمة
- مسيرة الحرية في جنوب إفريقيا العنصرية 3-3
- مسيرة الحرية في جنوب إفريقيا العنصرية 2-3
- مسيرة الحرية في جنوب إفريقيا العنصرية 1-2
- الفيزون في جامعة النجاح
- سبعة أشكال في حُبِّ وكُرْه الجَمال
- أثر الربيع العربي على المرأة العربية
- عيد الأم في الربيع العربي
- الإيمو .. الضحية والجلاد
- المتضامنون الأجانب والقرضاوي وزيارة القدس
- الموقف الملتبس من الثورة السورية
- هروب معلم وتلاميذه من المدرسة
- توطين جماعات الإسلام السياسي
- كيف واجهوا اللحظات الأخير قبل الموت ؟
- الفن على جبهة الصراع
- في عيد الحب
- فتاوى على الهواء، وبأسعار منافسة


المزيد.....




- شاهد ما حدث على الهواء لحظة تفريق مظاهرة مؤيدة للفلسطينيين ف ...
- احتجاجات الجامعات المؤيدة للفلسطينيين تمتد لجميع أنحاء الولا ...
- تشافي هيرنانديز يتراجع عن استقالته وسيبقى مدربًا لبرشلونة لم ...
- الفلسطينيون يواصلون البحث في المقابر الجماعية في خان يونس وا ...
- حملة تطالب نادي الأهلي المصري لمقاطعة رعاية كوكا كولا
- 3.5 مليار دولار.. ما تفاصيل الاستثمارات القطرية بالحليب الجز ...
- جموح خيول ملكية وسط لندن يؤدي لإصابة 4 أشخاص وحالة هلع بين ا ...
- الكاف يعتبر اتحاد العاصمة الجزائري خاسرا أمام نهضة بركان الم ...
- الكويت توقف منح المصريين تأشيرات العمل إلى إشعار آخر.. ما ال ...
- مهمة بلينكن في الصين ليست سهلة


المزيد.....

- روايات ما بعد الاستعمار وشتات جزر الكاريبي/ جزر الهند الغربي ... / أشرف إبراهيم زيدان
- روايات المهاجرين من جنوب آسيا إلي انجلترا في زمن ما بعد الاس ... / أشرف إبراهيم زيدان
- انتفاضة أفريل 1938 في تونس ضدّ الاحتلال الفرنسي / فاروق الصيّاحي
- بين التحرر من الاستعمار والتحرر من الاستبداد. بحث في المصطلح / محمد علي مقلد
- حرب التحرير في البانيا / محمد شيخو
- التدخل الأوربي بإفريقيا جنوب الصحراء / خالد الكزولي
- عن حدتو واليسار والحركة الوطنية بمصر / أحمد القصير
- الأممية الثانية و المستعمرات .هنري لوزراي ترجمة معز الراجحي / معز الراجحي
- البلشفية وقضايا الثورة الصينية / ستالين
- السودان - الاقتصاد والجغرافيا والتاريخ - / محمد عادل زكى


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الإستعمار وتجارب التحرّر الوطني - عبد الغني سلامه - الأبارتهايد بين إسرائيل وجنوب إفريقيا 2-2