أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - خليل كلفت - ثورة 25 يناير 2011 فى النصف الأول من 2012 - القسم الأول















المزيد.....



ثورة 25 يناير 2011 فى النصف الأول من 2012 - القسم الأول


خليل كلفت

الحوار المتمدن-العدد: 3776 - 2012 / 7 / 2 - 10:07
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    



محتويات الكتاب

مقدمة ...........................................................................................
القسم الأول:
1: الثورة المصرية بين ربيع الأمل وخريف اليأس (28 ديسمبر 2011) .................................
2: معادلات سياسية تحكم الثورة المصرية الراهنة (16 يناير 2012) ...................................
3: الثورة المصرية وآفاق الديمقراطية الشعبية من أسفل (5 فبراير 2012) ................................
(افتتاحية الحوار المفتوح فى الحوار المتمدن من 12 فبراير إلى 26 فبراير 2012) ........................
4: ثورة 25 يناير: سؤال السبب (ملخص حديث مُعَدّ للإلقاء فى مؤتمر بوزارة الثقافة عن الثورة) (8 مارس 2012) ...........................................................................................
5: سباق رئاسى محموم فى مصر بين مرشحين محتملين على رئيس محتمل لجمهورية غير محتملة (16 مارس 2012) .....................................................................................
6: طبيعة وآفاق الثورة المصرية (ملخص لافتتاحية الحوار المفتوح) (17 مارس 2012) .................
7: الانتخابات الرئاسية واحتمالات الصراع بين المجلس العسكرى والإخوان المسلمين (9 أپريل 2012)
8: من سؤال الأسباب إلى سؤال النتائج (كلمة أُلقيت فى 14 أپريل 2012 فى مؤتمر الثورة والثقافة بالمجلس الأعلى للثقافة، مصر) (10 أپريل 2012) ............................................................

القسم الثانى:

9: المهدى الرئاسى المنتظر فى مصر! ..............................................................
10: شعار "ثورتنا برلمان وميدان" مُخَدِّر جديد لقوى الثورة! ............................................
11: أسطورة الفترة الانتقالية وحقائق المسار الفعلى للتطورات فى مصر .................................
12: هاجس الحرب الأهلية فى مصر ................................................................
13: مأتم ديمقراطية المجلس العسكرى والإخوان المسلمين فجر الديمقراطية الشعبية فى مصر ............
14: مع متاهات أرقام الانتخابات فى مصر ...........................................................
15: محاكمة ثورية للرئيس مبارك وأسرته ورجاله وإلغاء الانتخابات الرئاسية الوشيكة وإسقاط الرئيس القادم ..
16: كلمات فى عشية جولة إعادة الانتخابات الرئاسية فى مصر .......................................
17: الانقلاب العسكرى المكمّل ......................................................................
18: هل يتمخض الربيع العربى عن تأسيس دول إسلامية؟ ............................................

















1
الثورة المصرية
بين ربيع الأمل وخريف اليأس
(نُشر بجريدة السفير اللبنانية فى 29 ديسمبر 2011 بعنوان: "بين الثورة والثورة المضادة")

كيف يبدو الآن ذلك الأمل الهائل الذى فتحت به الثورة منذ عام آفاقا رحبة أمام كل الشعوب العربية التى ثارت وتلك التى حلمت بالثورة على فساد واستبداد حكامها؛ الأمل فى حياة يتمتع فيها الشعب بالحرية والعدالة والكرامة الإنسانية؟ وكان يبدو أن الأمل يقين لا يتزعزع كما كان يبدو أن الثورة هى الخلاص والمخلِّص، وما يزال الأمل كما كان وربما أكبر مما كان فى سوريا واليمن رغم الأخطار، فيما تطل أخطار كبرى برأسها فى البلدان التى تحقق فيها إسقاط الديكتاتور وحلقة ضيقة فقط من رجاله، أعنى فى تونس ومصر وليبيا! وأمام مفارقة الأمل لدى الشعب الذى يكتوى بنار مرحلة مفزعة من مراحل الحرب الأهلية فى سوريا واليمن، والمخاوف والتوجس وحتى اليأس عند الكثيرين لدى الشعوب التى بدت منتصرة فى مصر وتونس وليبيا، تراوغنا حقيقة ما نحن فيه وتدفعنا إلى بحث متواصل عنها، لنعرف بموضوعية: أين نحن، وإلى أين نسير، وماذا يخبئ لنا المستقبل؟
فلماذا ينقلب يقين التفاؤل لدى الشعوب التى بدت منتصرة إلى التشاؤل وحتى التشاؤم فى كثير من الأحيان؟ وربما كان من المفهوم والمتوقع تماما أن يسود التفاؤل والثقة ويقين الانتصار لدى الشعوب المشتبكة فى الحرب الأهلية بينها وبين الأنظمة الحاكمة؛ انطلاقا من صمودها الطويل رغم عشرات الآلاف من الشهداء والمصابين، واستلهاما لسقوط سفاح ليبيا رغم استخدامه الإجرامى الجنونى لكل قدراته الحربية، فمن المتوقع تماما أن تؤدى الحرب الطويلة ضد ثورات شعبية سلمية إلى تطهير أكثر جذرية لهذه البلدان من رجال الأنظمة الحاكمة عند سقوطها النهائى.
أما الشعوب التى بدت منتصرة فى تونس ومصر وليبيا فلها شأن آخر تماما، وهذا منطقى ومعقول ومفهوم. وبالطبع فإن لكل بلد من هذه البلدان أوضاعه النوعية المختلفة للغاية، ورغم هذا الاختلاف فهناك تشابه يجمع مصر وتونس بعيدا جدا عن ليبيا. فقد اتخذ الجيش فى حالة تونس موقفا جوهره إنقاذ النظام بدون زين العابدين بن على وعصابته المباشرة وقد كان، غير أن اللعبة السياسية صارت فى أيدى ساسة النظام المحنكين لتستقر فى نهاية المطاف فى أيدى المعارضة بقيادة الإسلام السياسى فى شخص حزب النهضة بقيادة الغنوشى.
وفى مصر تدخل المجلس الأعلى للقوات المسلحة بصورة مباشرة من خلال انقلاب عسكرى من نوع انقلاب القصر أىْ الانقلاب العسكرى الذى يحافظ فى حالتنا على نظام ودولة الرأسمالية المصرية التابعة للرأسمالية العالمية مع تقديم كباش فداء ثمينة تتمثل حتى فى رأس النظام وأسرته وحلقة ضيقة من أقرب المقربين من رجاله. وكما هو متوقع فى مثل هذه الأوضاع زعم المجلس العسكرى أن تدخله بتنحية مبارك وتولى إدارة البلاد كان لحماية الشعب والثورة والثوار، ويعرف كل مراقب للتطورات السياسية فى بلدان العالم الثالث كله ومنها البلدان العربية أن الثورات الشعبية لا تحتاج إلى حماية الجيوش وأن الثورات الناجحة انتصرت على جيوش تضربها بكل قدرتها العسكرية.
ولا جدال فيما أعتقد فى أن تونس تعمل على قدم وساق على استعادة الاستقرار أىْ نفس نظام ودولة الرأسمالية المتخلفة والتابعة رغم ما يبدو على السطح: إن ما هو جوهرى ليس حكم زين العابدين بن على أو أسرته أو علمانيته المزعومة فى مقابل الحكم الإسلامى؛ فالأمر الجوهرى المشترك بين هذين الحكميْن اللذين يبدوان مختلفين كثيرا هو نفس الرأسمالية التابعة المستمرة ودولتها ونظامها مع بن على أو مع حزب النهضة. ومهما بدا أن ديمقراطية ما تجرى إقامتها فإن البداية فقط هى التى ستكون كذلك أما الشعب التونسى فينبغى أن يركز على الثمرة الحقيقية لمثل هذه الثورات: الديمقراطية الشعبية من أسفل بأحزابها ونقاباتها ونضالاتها ومقاومتها!
وفى العادة، يجرى الحديث عن الثورة المضادة عندما تمتشق طبقة حاكمة ودولتها ونظامها السلاح فى مواجهة ثورة فعلية. والثورة الفعلية قائمة بالطبع، فما هى مكونات الثورة المضادة؟
وتتمثل التعبيرات السياسية المباشرة عن الطبقة المالكة وثورتها المضادة فى كبار رجال الأعمال والمؤسسة العسكرية ومختلف الأجهزة الأمنية والمخابراتية والتشريعية والحكومة وكذلك أحزابها: الأحزاب التى تشكل الثورة المضادة وتستند إلى قطاعات مهمة من الطبقة المالكة مهما تكن الادعاءات الأيديولوجية لهذه الأحزاب وهى الحزب الوطنى المنحل رسميا والقائم فعليا والإسلام السياسى وبالأخص الإخوان المسلمون والسلفيون والأحزاب الليبرالية اليمينية أىْ الوفد والمصريون الأحرار والحزب المصرى الديمقراطى الاجتماعى، وهى جميعا تمثل الرأسمالية الكبيرة مهما تكن عضويتها من مختلف طبقات المجتمع المتوسطة والعاملة والشعبية والفقيرة، كما هو الحال مع كل حزب سياسى فى العالم. وبهذا فقط نفهم التحالف غير المقدس وغير المخلص بين هذه الأحزاب والطغمة العسكرية الحاكمة.
فالثورة المضادة هى باختصار رجال الأعمال والمجلس العسكرى والإخوان المسلمون والسلفيون الوهابيون والليبراليون اليمينيون والحزب الوطنى "الفعلى"، وتعمل كل هذه الجهات على الوصول بالبلاد إلى بر الأمان والاستقرار، استقرار الاستغلال والفساد والاستبداد، على جثة الثورة والثوار وكل من يثور أو يتمرد على أوضاع الشعب من بين أبنائه. وقد عبرت هذه القوى عن طبيعتها كثورة مضادة بصراحة ما بعدها صراحة طوال عام 2011. والمثال الأبرز هو أن الإخوان والسلفيين لم يناضلوا ضد نظام مبارك وعندما قام ذلك النظام بالتنكيل بالإخوان المسلمين فى الانتخابات البرلمانية فى أواخر عام 2010 أىْ قبل الثورة مباشرة لم يحركوا ساكنا وعندما اندلعت الثورة وقفوا بعيدا عنها طوال أيام خوفا من أن يستهدفهم نظام مبارك وعندما تأكدوا أنهم أمام ثورة حقيقية قادرة على حمايتهم انضموا إليها فقووها وتقووا بها وبمجرد أن اكتسبوا شرعية كانت هدفهم من الانضمام إلى الثورة انفصلوا عنها وهرولوا إلى التفاوض مع نظام مبارك حتى قبل تنحيته وانسحبوا من الميدان بعد التنحية تماما، ولم يكتفوا بهذا بل وقفوا على طول الخط ضد الثورة وتظاهراتها واعتصاماتها وإضراباتها وكل أشكال نضالها. ونسقوا بصورة وثيقة مع المجلس العسكرى فى إدخال البلاد فى النفق المظلم لانتخابات برلمانية ورئاسية واسستفتاءات دستورية متكررة لفصل الشعب لفترة غير قصيرة عن نضالات الثورة. ورغم ابتعادهم عن أىّ نضال حقيقى ضد نظام حسنى مبارك ورغم تحالفهم مع نظام رجال مبارك العسكريين الذين حلوا محله ضد الثورة فإنهم يريدون نقل السلطة إليهم باعتبارهم مدنيين رغم رفضهم القاطع للدولة المدنية.
ولا تكتمل هذه المقدمات إلا بوضع الثورة فى مكانها فى الصورة الكلية للوضع الراهن. وكانت الشرارة التى أطلقها عشرات الآلاف من الشباب فى 25 يناير 2011 قد تحولت إلى ثورة شعبية شارك فيها عشرات الملايين مدفوعة إليها بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتردية للطبقات العاملة والشعبية والفقيرة وهى أوضاع متشابهة فى أغلب بلدان العالم العربى والعالم الثالث كله وبدرجة أقل نسبيا فى العالم كله كما توضح الحركة المعادية للرأسمالية فى أمريكا وأوروبا واليابان. وقد استند تأثير الدومينو على هذه الأوضاع المشتركة فى العالم العربى. والحقيقة أن هذه الأوضاع لم تتغير إلى الأفضل بل تدهورت خلال العام الأول لثورات الربيع العربى. ولا ينبغى أن يتصور أحد أن الشعوب ستعود إلى الاستكانة والخضوع والرضوخ ولا ينبغى أن يستبعد أحد أن مراحل أخرى للثورة على نطاق واسع صارت قريبة وحتى وشيكة وتحلّ الذكرى السنوية الأولى للثورة لتكون مناسبة لإحياء الثورة لتحقيق مطالب الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية التى عرفت الشعوب أنها من حقها مع ارتفاع مستويات وعيها وتسييسها مع الثورة. ولا ينبغى أن ننسى أن موجات الثورة ومبادراتها وأنشطتها واحتجاجاتها ونضالاتها قد تواصلت طوال العام وتعاقبت صفوف الشهداء وطلاب الشهادة ببسالة وفدائية نادرتين وامتلأت الميادين بالمظاهرات والاعتصامات والمسيرات والوقفات الاحتجاجية وغيرها.
وعندما قرر المجلس العسكرى تنحية مبارك كان قد اختار طريق التصفية التدريجية للثورة بدلا من طريق الحرب الأهلية ضد الشعب الذى اختاره القذافى والأسد وعلى عبد الله صالح؛ باعتبار أن هذا الطريق ينتهى فى العادة إلى هزيمة الطبقة الحاكمة ودولتها ونظامها كما حدث فى ليبيا وكما يوشك أن يحدث فى اليمن وسوريا. غير أن سلوكه العنيف طوال العام بمذابحه فى ماسبيرو وشارع محمد محمود وأمام مجلس الوزراء فى شارعىْ مجلس الشعب والشيخ ريحان يجعله ينزلق فيما أراد تفاديه فى البداية أىْ الانزلاق إلى طريق العنف المفرط المتصاعد البالغ الخطورة على النظام قبل الشعب وعلى الثورة المضادة قبل الثورة.
ومن المتوقع على كل حال أن يواصل المجلس العسكرى الحكم من وراء الكواليس مهما كان المدنى الذى سيستلم منه السلطة كرئيس للجمهورية أو كحزب أو تحالف حزبى حاكم. وهناك تصورات تروج فى كثير من الأحيان عن صفقة بين المجلس العسكرى والإخوان المسلمين تصل إلى حد تسليم السلطة لهؤلاء الأخيرين. وهناك بالطبع صفقات منذ بداية الثورة وإلى الآن؛ وهى تفسر سلوك كل من المجلس والإخوان طوال العام. غير أن صفقة الخداع المتبادل لا يمكن أن تصل إلى مستوى تسليم السلطة للإخوان الذين يعلم الجنرالات أنهم سيكونون أول ضحاياه إذا استلم الإخوان السلطة حقا، ومن هنا إصرار المجلس على ألا تشكل الأغلبية البرلمانية الحكومة، وعلى ألا يناط بالبرلمان إعداد الدستور، بالإضافة إلى تمسك المجلس العسكرى بمدنية الدولة فى مواجهة رفضها من جانب الإخوان، وكذلك إصراره على وضع متميز للجيش فى الدستور العتيد، هذه الأشياء التى صارت نقاط توتر واختلاف بين الفريقين.
هناك إذن خطر الانزلاق فى طريق العنف على أيدى المجلس العسكرى، وهناك بالطبع خطر صعود الإسلام السياسى، أىْ خطر الدولة الدينية، وفى كل الأحوال خطر التأثير المجتمعى للإسلام السياسى. ومن الضرورى بالطبع أخذ التناقضات القائمة والصراعات المحتملة بين قوى الثورة المضادة فى الاعتبار بوصفها قوة مضافة إلى قوى الثورة. وفى هذا الصراع الكبير المفتوح بين الثورة والثورة المضادة لا ينبغى حساب قوى اليسار والتقدم والديمقراطية والليبرالية اليسارية بالقوة العددية المباشرة بل ينبغى أن نضيف إليها قوة كبرى هى دخول الطبقة العاملة على الخط إلى جانب الثورة بعد أن خسر المجلس العسكرى والإسلام السياسى قلبها.
والحقيقة أننا لسنا إزاء ثورة اشتراكية ولا إزاء ثورة اجتماعية لأسباب يطول شرحها بل إزاء ثورة سياسية شعبية فى السياق التاريخى للتبعية الاستعمارية ككل بلدان العالم الثالث الأكثر نموذجية. وفى هذا السياق تكون الثمرة الحقيقية لمثل هذه الثورات هى الديمقراطية الشعبية من أسفل بعيدا عن أوهام أن يكون النظام الحاكم ذاته ديمقراطيا أو غير ديكتاتورى وعادلا أو غير فاسد إلا بقدر ما تستطيع هذه الديمقراطية الشعبية من أسفل (التى تشمل عناصرها العدالة الاجتماعية المنتزعة إلى جانب الحرية المنتزعة مع تطويرهما وحمايتهما بصورة متواصلة) أن تفرضه على النظام الحاكم فى هذه الفترة أو تلك.
28 ديسمبر 2011

















2
معادلات سياسية
تحكم الثورة المصرية الراهنة

1: قد يكون عنوان هذا المقال غريبا لأنه قد يوحى بإضفاء طابع الرياضيات على السياسة وبالأخص على ثورة شعبية يغلب عليها طابع العفوية من الناحية الأساسية، وليس طابع الحساب الدقيق، فيكون من الصعب تماما التنبؤ بتطوراتها التى تحكمها عوامل بالغة التعقيد والتشابك. وكأمثلة بارزة: لم يكن بمستطاع أحد أن يتوقع اندلاع ثورة شعبية هائلة كثورة 25 يناير 2011 رغم نضالات كبيرة سبقتها، وحتى رغم اندلاع مظاهرات 25 يناير، ورغم تردى الأوضاع الاجتماعية-الاقتصادية للشعب؛ وهذا على كل حال شأن كل الثورات السياسية الشعبية التى يستحيل التنبؤ بها؛ ولم يكن بمستطاع أحد أن يتوقع أن تتطور الأحداث على طريق الانقلاب العسكرى وتنحية الرئيس بصورة أقرب إلى السيناريو التونسى بدلا من سيناريوهات أخرى كانت واردة منها السيناريو الليبى أو اليمنى أو السورى وبالتالى اختيار طريق التصفية التدريجية للثورة بدلا من طريق الحرب الأهلية؛ وكان كثيرون لا يتوقعون أن يكون اكتساح الإخوان المسلمين والسلفيِّين بهذا الحجم المفزع؛ بالطبع بالاعتماد على الفقر والجهل والمرض أىْ الحالة الفعلية لقطاعات واسعة من الشعب وباستخدام تزييف إرادة الشعب بكل الوسائل ومنها الترويع والتزوير المباشر. لم يكن بوسع أحد أن يتصور تطورات الثورة فضلا عن أن يتوقعها أو يتنبأ بها غير أننى أقصد بهذا التعبير وقائع وحقائق وعوامل وأوضاعا تحيط بالثورة والثورة المضادة وبهذا الصراع المفتوح بينهما وهى بطبيعتها وبجانبها الأكبر أقرب إلى "الوقائع" منها إلى "التوقعات والتنبؤات". ومثل هذه الوقائع أشياء عنيدة مهما قيل إن الثورة المصرية نسيج وحدها بحيث لا يمكن تقييمها على أساس العلم السياسى المقارن ولا على أساس السوابق التاريخية للثورات السياسية المماثلة فى العالم الثالث أو العالم كله، فى التاريخ الحديث أو المعاصر، ومهما قيل عن ارتباط هذه الخصوصية الفريدة بطبيعة الشعب المصرى وسماته وخصائصه الفريدة وطبيعة مكوِّنه الحضارى بحيث يرتبط هذا النوع من التفكير فى كل الأحوال بتفاؤل لا تشوبه شائبة من الشك أو التشاؤم وبمبالغة قد تصل إلى أن ثورتنا سوف تغيِّر العالم مادامت قد انتقلت شرارتها وعدواها المباركة إلى المراكز الرئيسية للنظام الرأسمالى وإلى كثير من توابعه فى العالم الثالث. وبطبيعة الحال فإنه لا يمكن إنكار خصوصية وفرادة وعبقرية كل ثورة سياسية والصعوبة البالغة فى تقدير المدى المتوقع لنجاحها؛ غير أنه لا يمكن أيضا تجاهل خصوصية وفرادة وعبقرية الواقع الاجتماعى السياسى المحلى والإقليمى والعالمى ومختلف القوى الفاعلة فيه والتى قد تكون شروطا مواتية أو غير مواتية لنجاح الثورة والتى لا يمكن مع ذلك أن تضع حدودا جبرية حديدية تسجن بداخلها كل جدل الصراع المفتوح بين الثورة والثورة المضادة بكل جوانبه الأساسية وبكل تفاصيله. فما هى هذه الحقائق الفاعلة فى تطورات ثورتنا والتى لا ينبغى تجاهلها بحال من الأحوال والتى ينبغى أن نجعل من فهمها على وجهها الصحيح قوة مضافة إلى الثورة وقواها الحقيقية.
2: وتتمثل المعادلة الأولى والأساسية للثورة فى سياقها التاريخى. فهى ثورة من الثورات السياسية النموذجية لشعوب العالم الثالث (إذا وضعنا نضالات حركات الكفاح المسلح جانبا)، لأنها ثورة سياسية فى سياق التبعية الاستعمارية والرأسمالية التابعة كما هو حال العالم الثالث. ولا شك فى أنها ليست ثورة اشتراكية لأنها ليست ثمرة نضال اشتراكى ثورى للطبقة العاملة بقيادة حزب شيوعى ثورى فى سبيل انتصار الثورة الاشتراكية. كما أنها ليست ثورة سياسية تتوِّج ثورة اجتماعية لتحويل مصر إلى بلد صناعى مستقل فى الإطار التاريخى للنظام الاجتماعى الرأسمالى؛ ذلك أن حالة الثورة السياسية الرأسمالية يسبقها تحول رأسمالى تدريجى طويل للصناعة الحديثة والسوق الرأسمالية والرأسمالية الزراعية والتقدم العلمى والثورة الفكرية والأدبية التقدمية التى تمهِّد للتغيير الثورى، وهو تحوُّل يحتاج إلى ثورة سياسية تزيل كافة العراقيل من طريق هذا التحول الرأسمالى ليواصل تطوره على مدى زمن طويل آخر بعد الثورة السياسية إلى أن يحقق النظام الرأسمالى نضجه واستقراره؛ ولم تعرف مصر ولا بلدان ثورات الربيع العربى ولا بلدان العالم الثالث مثل هذا التطور نتيجة لوقوعها تحت سيطرة التبعية الاستعمارية فى المستعمرات وأشباه المستعمرات. وإذا كانت إحدى المهام الكبرى للثورة السياسية فى سياق ثورة اجتماعية أىْ فى سياق تحول رأسمالى جذرى تتمثل فى نقل السلطة السياسية من أيدى طبقة اجتماعية قديمة إلى أيدى الطبقة الرأسمالية التى قادت الثورة بمصالحها والأيديولوجيا الخاصة بها فإن ثورات العالم الثالث لا تنقل السلطة من طبقة إلى طبقة؛ فباختصار تتواصل التبعية الاستعمارية وتتواصل سيطرة الرأسمالية التابعة وتتواصل سلطتها السياسية. وهناك استثناء وارد عندما يتسع نطاق المواجهة من خلال حرب أهلية أو من خلال انقلاب عسكرى حيث تجرى إعادة تكوين طبقة رأسمالية تابعة جديدة من حيث أفرادها مستمرة من حيث طبيعتها الرأسمالية التابعة أىْ أنه لا يتغير شيء جوهرى من وجهة نظر مصلحة الشعب حيث لا فرق بين طبقة رأسمالية تابعة قديمة تتكون حول شاه إيران وطبقة رأسمالية تابعة جديدة تتكون حول آيات الله فى إيران الجديدة. ومن هنا شهدت مصر ثورة 1919 وانقلاب 1952 العسكرى الذى أيده الشعب فصار بنعمة الله ثورة شعب وتشهد الآن ثورة 25 يناير 2011؛ غير أن التبعية الاستعمارية والطبقة الرأسمالية التابعة تتواصلان رغم إعادة تكوين الطبقة المالكة مرتين على الأقل فى أعقاب الانقلاب العسكرى فى 1952 ومن خلال سياسة الانفتاح وبيع القطاع العام فى عهدىْ السادات و مبارك. وهذه معادلة اجتماعية اقتصادية سياسية تحكم ثورتنا والثورات العربية الراهنة فهى ليست ثورات اشتراكية كما أنها ليست حتى ثورات رأسمالية لخلق بلدان صناعية مستقلة وهى تجرى بالتالى فى سياق استمرار التبعية الاستعمارية والطبقة الرأسمالية التابعة؛ فهل يجوز بعد كل هذا وصفها بأنها ثورات سياسية مع أنها لن تنقل السلطة السياسية إلى الشعب من خلال ممثلين حقيقيِّين له ولثورته؟ والواقع أن السلطة تبقى للرأسمالية فى واحد من شكليْها المحتمليْن: سلطة نفس الطبقة المالكة الرأسمالية التابعة الراهنة فى حالة الثورتيْن المصرية والتونسية، فى حالة استمرار نفس السيناريو الحالى، أو سلطة طبقة رأسمالية تابعة جديدة تتكون من خلال نُخَب جديدة تتمخض عنها الحرب الأهلية كما يحدث الآن فى ليبيا وكما يُحتمل أن يحدث غدا فى سوريا وربما فى اليمن. فلماذا نصف هذه الثورات بأنها سياسية مع أنه ليس من الوارد أن تستولى الثورات أو الشعوب على سلطة الدولة؟ الحقيقة أننا نصف هذه الثورات بأنها سياسية لأنها تهدف - إلى جانب أهداف ومطالب العدالة الاجتماعية وتغيير أسس توزيع الثروة – إلى إعادة تنظيم أسس ممارسة السلطة السياسية انطلاقا من تحقيق وممارسة الديمقراطية الشعبية من أسفل، وهذا مفهوم للثورة السياسية يختلف تماما عن المفهوم الكلاسيكى للثورة السياسية فى العصر الحديث كما حدثت فى البلدان التى صارت بلدانا صناعية متقدمة.
3: وبطبيعة الحال فإن القوى الفاعلة التى تشكل ذلك الحَدَّ من المعادلة الذى يخص الثورة المضادة أىْ بالسياق التاريخى المتمثل فى التبعية للرأسمالية العالمية المشار إليها فى الفقرة السابقة تتألف من تحالف واسع النطاق محليا وعربيا وعالميا: الرأسمالية الإمپريالية العالمية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية والأنظمة العربية بقيادة المملكة العربية السعودية فى تحالف واسع مع الأنظمة المحلية وهو تحالف بعيد تماما عن البساطة. وفى مصر تتألف قوى الثورة المضادة من الطبقة الرأسمالية التابعة المالكة وكان "حُكْم الشخص" (مبارك وأسرته) يمنع الطبقة المالكة من أن تكون طبقة حاكمة كما كانت تمنع الحزب الوطنى الديمقراطى "الحاكم" من أن يكون حزبا حاكما حقيقيا، وبالتالى كان جانب كبير من الاضطهاد والقهر يقع على الطبقة المالكة والحزب الوطنى الديمقراطى رغم المصالح وحتى الإمپراطوريات الاقتصادية الواسعة ورغم قِيَم وممارسات الفساد الواسعة النطاق التى شملت الحياة السياسية والاقتصادية والدولة والمجتمع من القمة إلى القاع. وتتألف هذه الطبقة الحاكمة التابعة للإمپريالية العالمية من قطاعات ذات أيديولوچيات سياسية متباينة فهى قطاعات يملكها رجال أعمال ينتمون إلى الحزب الوطنى وجماعة الإخوان المسلمين والسلفيِّين والأحزاب الليبرالية القديمة والجديدة بالإضافة إلى ما يملكه الجيش كمؤسسة وچنرالاته كرجال أعمال بصورة مباشرة أو غير مباشرة. فإذا كانت الثورة بعيدة تماما عن أن تكون ثورة اشتراكية وعن أن تكون ثورة اجتماعية ذات محتوى رأسمالى صناعى استقلالى، وإذا كانت سلطة الدولة ستبقى لنفس الطبقة، ومادامت تتصارع طموحات قوى سياسية متنوعة تنتمى إلى نفس الطبقة للانفراد بالسلطة أو للمشاركة فيها بقوة، فى وقت يتصاعد فيه مطلب تسليم السلطة من المجلس العسكرى إلى المدنيِّين ويتقدم فيه حزب الإخوان المسلمين بأغلبيته الپرلمانية بالائتلاف مع السلفيِّين أو غيرهم باعتباره المقصود بالمدنيِّين رغم معارضته لفكرة الدولة المدنية، فما هى المعادلات السياسية التى تحكم التطورات السياسية المقبلة من أعلى أىْ من حيث إعادة بناء مؤسسات الدولة وأجهزتها؟
4: رأينا فى الفقرة الثانية أن المعادلة السياسية التاريخية البنيوية الإستراتيچية تحكم على الثورة بألا تتجاوز الحدود التاريخية لثورة فى العالم الثالث حيث تتواصل التبعية الاستعمارية واقتصاد وسلطة الرأسمالية؛ كما رأينا أن الانقلاب العسكرى الذى أطاح ﺑ مبارك تحت ضغط الثورة الشعبية لحماية النظام وتصفية الثورة اختار سيناريو التصفية التدريجية للثورة بدلا من سيناريو الحرب الأهلية؛ لماذا؟ لأن سيناريو الحرب الأهلية المتواصلة إلى النهاية لا مناص من أن يؤدى إلى نجاح الثورة وتصفية النظام الحاكم والطبقة المالكة ذاتها وتكوين طبقة رأسمالية تابعة جديدة وإعادة بناء سلطتها كما تبيِّن تجارب تاريخية كثيرة. وبالتالى فإن هذه المعادلة السياسية الظرفية، أىْ سيناريو التصفية التدريجية للثورة بدلا من سيناريو الحرب الأهلية التى هى من الناحية الجوهرية تصفية عنيفة للطبقة المالكة ذاتها ودولتها ونظامها، تحكم على قوى الثورة المضادة فى مصر بالدخول، مهما تحالفت واتحدت فى مواجهة الثورة وقواها، فى مرحلة مباشرة من الصراع على السلطة فيما بينها، وهنا تتعدد الانتخابات الپرلمانية والرئاسية والاستفتاءات ويتكاثر المرشحون المحتملون لرئاسة جمهورية لم يوضع الدستور الذى سيقرر هل ستكون رئاسية أم پرلمانية ولم يتحدد بالتالى مدى أهمية منصب رئيس الجمهورية فى الترتيبات القادمة، ويشتد على وجه الخصوص اشتباك قوى الثورة المضادة فى صراع محتدم على الانفراد بالسلطة أو تقاسمها. ولا جدال فى أن تناقضات المصالح بين قوى الثورة المضادة تصب فى مصلحة تطور الثورة وسيرها إلى الأمام ونجاحها حيث تمثل قوة مضافة إلى قوى الثورة.
5: وفى هذا السياق للمعادلة البنيوية الإستراتيچية والمعادلة الظرفية التاكتيكية تتكاثر التقديرات والتوقعات والتنبؤات سواء من حيث استمرار انتهاج المجلس العسكرى الحاكم للسيناريو التدريجى فى تصفية الثورة بعيدا عن سيناريو الحرب الأهلية فى ليبيا وسوريا واليمن أو من حيث الصفقات والتحالفات والائتلافات فيما بين المجلس العسكرى والإسلام السياسى والليبرالية اليمينية والحزب الوطنى المنحل قانونا القائم فعليا وهى الصفقات والتحالفات والائتلافات التى ستحكم التطورات المؤسسية القادمة. فهل يستمر وإلى متى سيناريو التصفية التدريجية للثورة من خلال احتوائها وتفريغها من محتواها؟ من الجلى بطبيعة الحال أن المذابح التى ارتكبها المجلس العسكرى الحاكم فى ماسپيرو وشوارع محمد محمود وقصر العينى ومجلس الشعب والشيخ ريحان وغيرها تدفع فى اتجاه تصوُّر أن يتخلى چنرالات المجلس العسكرى بصورة تدريجية عن السيناريو الحالى منزلقين فى اتجاه سيناريو الحرب الأهلية ضد الثورة. غير أن احتمال هذا التحول ضئيل للغاية فى تقديرى الذى يقوم على أخذ مصلحة الطبقة الرأسمالية التابعة ودولتها ونظامها ومجلسها العسكرى فى الاعتبار، ذلك أن سيناريو الحرب الأهلية سيكون مدمِّرا تماما للطبقة الرأسمالية ذاتها، ولا ينبغى مطلقا أن نستبعد أن چنرالات المجلس العسكرى ومستشاريه المحليِّين والأمريكيِّين يدركون هذه الحقيقة بكل وضوح. وهناك سبب آخر بالغ الأهمية هو أن سيناريو الحرب الأهلية يمكن أن يؤدى فى مرحلة من مراحله إلى رفض المجتمع الدولى للنظام المصرى إدراكا منه لحقيقة أن بلوغ الحرب الأهلية إلى مرحلة خطيرة تكاد تساوى نهاية النظام مما يجعل من صميم مصلحة الغرب الرهان على خيول أخرى. على أن بين هذين السيناريوهين مساحة تجعل المذابح غير مستبعدة دون أن تصل إلى حد الانزلاق إلى الخيار الأسوأ الذى يشكل كارثة على الحكام قبل المحكومين. وبالطبع فإن معادلة تفادى الحرب الأهلية، هذه المعادلة التى تتفق مع مصلحة الطبقة الحاكمة، تتوقف فى نهاية المطاف ليس على مجرد وجود المصلحة بل على السلوك السياسى الفعلى بما يتفق معها بعيدا عن الغباء السياسى الذى يعتمد الحل الأمنى بصورة كلية كما رأينا غير مرة مع الاستعانة بأبواق الدعاية دون تقديم أىّ تنازل حقيقى، ولا شك فى أن الغباء السياسى عامل أساسى من عوامل التاريخ كله قديمه وحديثه ومعاصره.
6: أما الصفقات والتحالفات والائتلافات فيما بين المجلس العسكرى وأحزاب الإخوان المسلمين والسلفيِّين وأحزاب الليبرالية اليمينية وأحزاب الحزب الوطنى، وهى الصفقات والتحالفات والائتلافات التى ستحكم التطورات المؤسسية القادمة، فإنها تثير أسئلة لا تنتهى: هناك أولا سؤال تطرحه بكل قوة تطورات ترتَّبت عليها تقديرات أكدتها تطورات جديدة، فقد فتحت الثورة الباب واسعا لجماعة الإخوان المسلمين والجماعات السلفية والجهادية المختلفة للإسلام السياسى بدخول معترك الحياة السياسية الرسمية بفضل الشرعية التى اكتسبتها هذه القوى من خلال المشاركة فى بعض أيام الثورة فى أواخر يناير وأوائل فبراير 2011، ومن خلال تفاوضها مع نظام مبارك قبل تنحيته ومع المجلس العسكرى بعد ذلك، وتوطدت صفقات الإخوان المسلمين بالذات مع المجلس العسكرى فأبلوا بلاء حسنا فى مقاومة الثورة وقواها واحتجاجاتها ومظاهراتها واعتصاماتها وإضراباتها وعملوا كاسرى إضراب لمصلحة المجلس العسكرى وترسخت الصفقة بتصدى الإسلام السياسى كله لتمرير مهزلة التعديلات الدستورية والإعلان الدستورى وكل فرمانات المجلس العسكرى وللدفاع عن المجلس فى كل إجراءاته وحتى جرائمه فى كثير من الأحيان وصولا إلى الانتصار الساحق فى الانتخابات الپرلمانية من خلال تزييف إرادة الشعب مستعينين بالجهل والفقر والمرض لدى قطاعات من الشعب وبالترويع والتزوير المباشر، وصولا إلى الإصرار على تشكيل الحكومة وإعداد الدستور والبحث عن مرشح ملائم لهم لمنصب رئاسة الجمهورية بالإضافة إلى الاتصالات مع أمريكا والتطمينات لأمريكا وإسرائيل بشأن معاهدة السلام وووعود وإشارات التأقلم مع المجتمع الدولى. وبطبيعة الحال فإن السؤال المنطقى مع كل هذا هو: هل يعنى تسليم المجلس العسكرى السلطة للمدنيِّين تسليمها لحزب العدالة والحرية الإخوانى ولأىّ ائتلاف محتمل له مع السلفيِّين؟ ويرد المجلس العسكرى بالقول بأن مدنية الدولة خط أحمر، وبأن الجيش سيتمتع دستوريا بحصانة ميزانيته، وبأن تشكيل لجنة إعداد الدستور لن يُترك للإسلام السياسى، وينشر شائعات حول انزعاجه الشديد بسبب الانتصار الساحق للإخوان والسلفيِّين وسوء أداء الليبراليِّين كما قيل، كما يروِّج لفكرة أن مصر جمهورية رئاسية وأن تشكيل الحكومة بالتالى لا يقوم على الأغلبية الپرلمانية لحزب أو تحالف بين أحزاب بل يكلف رئيس الجمهورية من يشاء رغم أن الممارسة الفعلية فى عهود عبد الناصر و السادات و مبارك تمثلت فى تكليف حزب النظام الذى كان دائما حزب الأغلبية (فى شكل الاتحاد القومى أو الاتحاد الاشتراكى أو الحزب الوطنى الديمقراطى) بتشكيل الحكومة؛ وكل هذا لا يُطَمْئِن كثيرين يرون أن الطغمة العسكرية والولايات المتحدة والسعودية تعمل معا على تسليم السلطة للإخوان باعتبارهم الأقدر سياسيا وأيديولوچيًّا على تصفية الثورة وحماية النظام الرأسمالى التابع للإمپريالية. ومهما يكن من شيء فإننا لا نستطيع أن نتجاهل مصاعب حقيقية أمام هذا الاحتمال الذى لا يجوز أيضا استبعاده بصورة مطلقة. ذلك أن "تمكين" السيطرة الإخوانية سوف يشكل تهديد محتملا إلى حد كبير على المجلس العسكرى وچنرالاته ويهدد بحبس الطبقة المالكة التى تريد أن تعيش فى العالم المعولم اقتصاديا وثقافيا وترفيهيا فى قمقم نظام أشبه بالسعودية منه بتركيا بالإضافة إلى أنه لا يملك حلا سحريا للمشكلات الاقتصادية والاجتماعية لمصر ولا قدرةً على تحقيق أهداف ومطالب الثورة ولا رغبةً فى ذلك ولا مهربا من ذلك، كما أنه بحكم طبيعته الأيديولوچية وبحكم حلفائه المرجَّحين والجماعات المتطرفة التى ستنشأ تحت مظلته أو تهبط من معطفه، وبحكم عدم خبرته فى الحكم والإدارة، سيكون الأكثر استعدادا للانزلاق إلى مواجهة تفتح الطريق أمام سيناريو الحرب الأهلية والصراع الطائفى؛ هذا السيناريو الذى سبق أن رأينا أنه سيكون كارثة على الطبقة ودولتها ونظامها. وبالتالى فإن احتمال صعود الإسلام السياسى إلى سدة الحكم فى مصر لا يزعج الثورة والمثقفين فحسب بل يزعج أيضا قطاعات حاسمة من الطبقة الحاكمة والنظام. على أن أنصاف الحلول جاهزة على كل حال وهى تتمثل فى السيطرة الفعلية من وراء الكواليس للمجلس العسكرى مهما كانت الأغلبية الپرلمانية ومهما كان الحزب الذى سيشكل الحكومة ومهما كان شخص رئيس الجمهورية وذلك لفترة طويلة بما فيه الكفاية لاستقرار النظام من جديد. لماذا؟ لأن المجلس العسكرى هو الذى يمثل القوة الأساسية المؤهلة لحماية النظام فى نظر القوى المحلية والعالمية والعربية الفاعلة فى التطورات فى مصر والعالم العربى وعلى وجه الخصوص أمريكا والغرب وكذلك دول الخليج (بالإضافة، فيما يتعلق بدول الخليج، إلى دعم قوى الإسلام السياسى فى مصر خاصةً من جانب السعودية وقطر). ورغم أن الغرب لم يعد يرحب بالانقلابات العسكرية والأنظمة العسكرية التى تتمخض عنها فإن دوله تحدد مواقفها وفقا لمصالحها وليس وفقا لمبادئها الديمقراطية المزعومة، كما أنها ستبرر موقفها من النظام المصرى بدعوى أن الانقلاب جاء فى سياق ثورة شعبية ضد نظام مبارك وأنه كان ضروريا لتفادى مستويات أعلى من العنف. ولكن هل يمكن أن ينقلب موقف الإخوان المسلمين إذا أصرّ المجلس العسكرى على إقصائهم مما يرون أنه حقهم الطبيعى فى تشكيل الحكومة وتكوين لجنة إعداد الدستور بحيث يتحولون إلى معارضة حقيقية للنظام العسكرى؟ غير أنهم جعلوا المجلس العسكرى أملهم وبوابتهم إلى مستقبل قد لا ينبغى تعجُّله وكما كانوا يهادنون مبارك على طول الخط ويريدون الآن أن ينفردوا بغنائم إسقاطه دون وجه حق من نضال حقيقى ضد نظام مبارك ودون مشاركة حقيقة فى الثورة ضده مستخدمين مشاركتهم الانتهازية القصيرة جدا فى الثورة (لمدة أسبوعين) كمؤهل للقفز على السلطة تحت السيطرة الفعلية العليا للمجلس الأعلى فإنهم ومن باب أولى سيقدمون فروض السمع والطاعة للمجلس العسكرى الذى "اضطر" فى ظروف عصيبة إلى منحهم فرصة عمرهم السياسى.
7: وبالطبع فإن التعارضات والتناقضات فى صفوف قوى الثورة المضادة لا تقف عند هذا الحد غير أن التناقض بين القطاعات الحاسمة من الطبقة المالكة، التى تتطلع الآن إلى أن تكون طبقة حاكمة حقا بحزب يعبِّر عنها، مع الأيديولوچيا السياسية للإخوان والسلفيِّين وبالتالى التناقض بين هؤلاء الأخيرين وبين المجلس العسكرى الذى يعمل على تحويلهم إلى بيادق فى لعبته الكبرى هما أهم هذه التناقضات وبإدراكها والاستفادة منها يمكن للثورة أن تأتى بقوة مضافة إلى قوتها وقواها من خارجها، حيث تفتح شبكة معقدة من العلاقات والتعارضات بين القوى الرأسمالية المحلية والإقليمية والعالمية ثغرة حقيقية فى وحدة ليست جرانيتية بالمرة بين قوى الثورة المضادة. وذلك بدلا من إغماض العين عن هذه التناقضات والنظر إلى وحدة مختلف قطاعات الطبقة المالكة فى مصر وكأنها وحدة فولاذية أو جرانيتية لا تترك مجالا لاختلاف الرؤى وحتى المصالح الفرعية داخل الطبقة وكأن مبارك والإخوان كانوا يمثلون تحالفا مقدسا ليقوم بإحيائه الإخوان والمجلس العسكرى!
8: وفى هذا السياق من العوامل الحاكمة لسيرورة وصيرورة جدل الصراع بين الثورة والثورة المضادة فى مصر، وهى تتمثل فى عوامل سلبية تحدد طبيعة الثورة وتَحُدّ من آفاقها ولا تفتح أمامها سوى أفق الأهداف العقلانية بعيدا عن أوهام الرؤوس الساخنة كما تتمثل فى عوامل أخرى إيجابية بصورة واضحة؛ فى هذا السياق لا تكتمل المعادلة إلا بوضع حَدِّها الآخر فى مكانه، وأعنى قوى الثورة التى تتصاعد أنشطتها الثورية التمهيدية هذه الأيام استعدادا لموجة كبرى مأمولة من موجات ثورة يناير. وفيما تقترب الذكرى السنوية الأولى لثورة يناير المجيدة المستمرة، تتطلع قوى الثورة إلى تلك الذكرى على أمل تحويل الذكرى إلى إحياء وتجديد وإلى انطلاقة كبرى جديدة. فهل يوجد لهذا الأمل فى إحياء الثورة ما يبرره حقا؟ والواقع أن الثورة لم تمت حتى نفكر فى إحيائها، ولن نعود بالذاكرة إلى الوراء سوى أسابيع قليلة لنرى الثورة فى عنفوانها فى موجتها التى بدأت فى 19 نوڤمبر وتواصلت حتى الثلث الأخير من ديسمبر، أىْ الشهر الماضى، بعد أن أسقطت حكومة عصام شرف، وفرضت على المجلس العسكرى بهلوانيات جديدة مثل تقديم تاريخ تسليم السلطة لرئيس جمهورية منتخب وتشكيل المجلس الاستشارى، على أن الإنجاز الأهم لتلك الموجة الثورية تمثل فى تلقين المجلس العسكرى درسا بالغ القسوة فحواه ألا يفكر مرة أخرى فى استخدام العنف ضد احتجاجات الشعب كما فعل مع مجموعة صغيرة من المحتجين من أهالى الشهداء والمصابين فكان ذلك الحدث شرارة انطلاق موجة 19 نوڤمبر الثورية التى كانت فى جانب من جوانبها علامة بارزة فى مسيرة الثورة فى مجال الدفاع عن الممارسة الفعلية لحقوق وحريات الاحتجاج والتظاهر والاعتصام والإضراب دون تدخل أمنى، وكانت من الناحية الموضوعية بالطبع تمهيدا مباشرا للفعل الثورى فى الذكرى السنوية الأولى للثورة فى 25 يناير 2011. أىْ أنه لا يفصلنا عن نهاية تلك الموجة الثورية سوى أقل من شهر! كما شهد هذا الشهر الفاصل بين موجة ثورية مضت وموجة ثورة كبرى مأمولة نشاطا لم يتوقف: مؤتمرات ومسيرات وحملات فى الأحياء فى سبيل مزيد من تسييس الشعب وفضح سياسات وممارسات وأكاذيب الثورة المضادة بقيادة المجلس العسكرى؛ ولم يمرّ يوم واحد دون احتجاجات جديدة فى كل مكان بمسيرات وإضرابات واعتصامات ومظاهرات ووقفات احتجاجية وقطع للطرق والسكك الحديدية على نطاق واسع رغم دهشة رئيس الوزراء الجديد القديم، الجنزورى، متسائلا عن كنه الصلة بين الانتخابات وقطع الطرق متناسيا أن قطع الطرق والسكك الحديدية ارتبط ليس بالانتخابات بل بتفاصيل بعينها فيها ولكنْ أساسا بسبب رغيف العيش مرة وأنبوبة البوتاجاز مرة أخرى وجوع الشعب إلى الخبز والوقود والدفء فى شتاء الجنزورى القارس، وطوال الفترة التالية للثورة وحتى الآن تشهد ردود الفعل الجماهيرية البالغة القوة وحتى العنف على الأوضاع المتردية على أننا فى زمن الثورة وعلى سبيل المثال تحوَّل الاحتجاج على مصنع أجريوم الخطير إلى ثورة فى دمياط كما تحوَّل الاحتجاج على محطة الضبعة النووية فى محافظة مرسى مطروح إلى اقتحامها وتدمير المنشآت النووية فيها ومثل هذه التطورات عديدة ومعنى هذا أن الشعب المصرى قد ابتعد عن الاستكانة وصار يرد على المظالم بقوة وحسم رغم مطالبة المجلس العسكرى للشعب بالصبر على الجوع والتشرد والمرض صبرا جميلا إلى أن يأتى فرج قريب ليس على الله ببعيد! ويضاعف من الغضب الشعبى والثورى الموقف المتواطئ الذى يقفه المجلس العسكرى تجاه الانتخابات الپرلمانية، فرغم الوقائع التى تتواتر أنباؤها عن تزوير واسع النطاق يصل حجمه وفقا لبعض التقديرات إلى ملايين الأصوات، ورغم صناديق بطاقات الانتخابات التى كانت ملقاة فى الشوارع والطرق، ورغم اتساع نطاق الانتهاكات لقانون الانتخابات، ورغم اتساع نطاق الطعون والشكاوى والشكوك، لا يحرك المجلس العسكرى ساكنا محتفلا بهذا العرس الديمقراطى الفريد الذى كان فى الواقع من أسوأ الانتخابات فى تاريخ مصر وكان بالتأكيد أسوأها من حيث خوضها تحت رايات طائفية مسعورة، ويسلك المجلس العسكرى هنا أيضا سلوك النعامة التى تدفن رأسها فى الرمل فلا ترى؛ غير عابئ برد الفعل الشعبى والثورى على هذا السلوك استمرارا لنفس الغباء السياسى، ولكنْ أيضا استمرارا بالخطة الجهنمية التى وضعها لإغراق الشعب والثورة فى سلسلة لا نهاية لها من الانتخابات والاستفتاءات المتكررة كسلاح أساسى فيما يسمى بالمرحلة الانتقالية لإبعاد الشعب عن الفعل الثورى. وتمثلت نتائج الانتخابات التى لا يصدقها عقل يعرف مبادئ حساب الاحتمالات، أو حتى أىّ حساب، فى هذا الپرلمان الطائفى الشائه الباطل الذى جاء على هذا النحو بفضل كل وسائل وأدوات تزييف إرادة الشعب ومنها التزوير المباشر والأصوات المدفوعة الثمن وتصويت ملايين الأميِّين وتسويد البطاقات الانتخابية. فنحن إذن على موعد لا شك فيه مع ردّ الفعل الثورى على كل هذا فى الذكرى الوشيكة للثورة!
9: ومنذ الإضرابات العمالية فى المرحلة الأولى من الثورة واتساع نطاق الاحتجاجات العمالية والمهنية المسماة بالفئوية ورغم اندلاع احتجاجات واسعة الانتشار ولكنْ فى مناطق متباعدة طوال الفترة السابقة، ظل تركيز الفعل الثورى العام المركز فى ميادين وشوارع مصر تتخذ شكل الموجات الثورية التى كانت تحقق منجزات مهمة وتكشف عن مستويات أعلى من الوعى والتسييس وعن انقشاع الأوهام عن المجلس العسكرى أو عن حكومة عصام شرف وتأتى مرة بالرئيس السابق إلى القفص متَّهَما بارتكاب أبشع الجرائم وتسقط حكومة عصام شرف مرة أخرى إلى جانب منجزات أخرى عديدة أهمها جعل ممارسة حقوق الاحتجاج بكافة أنواعه خطا أحمر لا يجوز للمجلس العسكرى أن يتخطاه. ويمكن القول إن حركة الثورة من خلال هذه الموجات الثورية اقتصرت على القوى الثورية اليسارية والتقدمية والاشتراكية والليبرالية اليسارية والديمقراطية الأكثر إخلاصا للثورة وأهدافها، أىْ أنها اقتصرت على دائرة واسعة ملأت الميادين والشوارع ظلت نواتها الصلبة هى القوى التى مهدت للثورة وأطلقت شرارتها وقادتها واستمرت بها من خلال الموجات الثورية وفيما بينها. وصمدت هذه القوى الثورية بصلابة وبسالة فى مواجهة كل قوى الثورة المضادة وبالأخص المجلس العسكرى وأدواته الأمنية والإعلامية المباشرة وقوى الإسلام السياسى من إخوان مسلمين وسلفيِّين، هذه القوى التى ظلت تهاجم الثورة والثوار بضراوة وحشية. وإذا كنا نتحدث عن فعل ثورى كبير مأمول فى المدى الوشيك الذى تمثله الذكرى الأولى للثورة فإنما نتحدث فى المحل الأول عن فاعلية هذه القوى الثورية، التى يظل التحدى الكبير أمامها هو مدى قدرتها على أن تكون قاطرة تجذب إلى الفعل الثورى من جديد الملايين من بنات وأبناء الشعب المصرى. ومن المتوقع بالطبع أن تعمل الدولة وقوى الإسلام السياسى على فرض طابع احتفالى خالص على يوم 25 يناير بالذات غير أن الفترة اللاحقة يمكن أن تكون ملكا خالصا لقوى الثورة بعزيمة متجددة.
10: على أن الحدّ الثورى الكبير فى معادلة الصراع المفتوح بين الثورة والثورة المضادة يتمثل فى الطبقة العاملة وبقية الطبقات الشعبية. وكانت الثورة قد اكتسبت طابعها الطبقى بانضمام عشرات الملايين من أفراد هذه الطبقات مدفوعة بضرورة تغيير شامل وعميق لأوضاعها الاجتماعية الاقتصادية المتردية ولم تتغير تلك الأوضاع بل تفاقمت وازدادت تدهورا خلال العام المنصرم بعد الثورة مع تفاقم التضخم والبطالة. وكان الطابع الطبقى للثورة يتأكد ليس فقط من خلال انفجار غضب الملايين فى الشارع والميدان بل كذلك من خلال الإضرابات العمالية التى كانت حاسمة فى الأسابيع الأولى للثورة. كما كان هذا الطابع الطبقى المباشر للثورة يتأكد من خلال التركيز على المطالب المتعلقة بالحد الأدنى للأجور وبأدوات النضال المتمثلة فى حق تكوين النقابات وحق الإضراب وغير ذلك. وزعم المجلس العسكرى أن تحقيق هذه المطالب مستحيل من الناحية المالية فى الوقت الحاضر وقدم نصيحته الغالية بل أمره العالى للشعب كله بالصبر الجميل. ولأن الثورة حلقات متماسكة فإن من شأن عودة الطبقة العاملة إلى الإضراب الواسع النطاق لتحقيق أهداف الثورة من شأنها أن تجذب إلى الاحتجاج والثورة كافة العاملين والمهنيِّين والعكس صحيح. ومن الخطأ الفادح بطبيعة الحال أن نجزم باستئناف الطبقة العاملة والطبقات الشعبية لحركتها الإضرابية فى فترة بعينها استنتاجا من تردى أحوالها الاجتماعية الاقتصادية التى كانت قائمة على كل حال طوال عقود طويلة. غير أن واقع أننا نعيش فى زمن الثورة، فى زمن شهد حركة إضرابية خلال العام المنصرم وبالأخص فى بداياته دون أن تتحقق أهداف تلك الحركة، فى زمن ثبت فيه أن نظام الطغمة العسكرية لا يحمل بشارة للشعب، فى زمن شهد تنظيم مذابح لبنات وأبناء الشعب، فى زمن عمدت فيه الدولة إلى إرهاب الدولة باستخدام العنف المفرط من جانب الشرطة والجيش واستخدام واسع النطاق لسلاح الترويع بتنظيم جيش كامل من البلطجية وإطلاق سراح المجرمين ليعيثوا فى الأرض فسادا؛ ... هذا الواقع يجعل من استئناف الحركة العمالية الإضرابية فى مدى منظور احتمالا له ما يبرره بل حتى يرجِّحه. ومهما يكن من شيء فإن حقيقة أن ثورة الطبقة العاملة فى سبيل تحسين شروط استغلالها وأدوات نضالها من العوامل الحاسمة فى المعادلات السياسية التى تحكم الثورة تجعل من انفجار هذه الثورة شرطا لا غنى عنه لنجاح الثورة فى تحقيق أهدافها التى أمكن إيجازها فى الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، كما يمكن إيجازها أيضا فى عبارة الديمقراطية الشعبية من أسفل. ويخشى كثيرون أن تكون هذه الثورة مستبعدة انطلاقا من الاكتساح الانتخابى الذى حققه الإخوان المسلمون والسلفيون بما يعنى تأييد الطبقة العاملة والطبقات الشعبية والفقراء كافة للإسلام السياسى الذى يقف بحزم ضد الثورة والذى يجعل من المجلس العسكرى صنما معبودا من دون الله. غير أننا رأينا الوسائل التى تحقق بها هذا الاكتساح. وإذا كان الإسلام السياسى ينطلق ليس من الأيديولوچيا الخاصة به بل من مصالح الطبقة المالكة التى يمثل تعبيرا سياسيا عن قطاعات مهمة فيها فإن الطبقة العاملة بدورها لها مصالح لا تلتقى بمصالح تلك الطبقة وتدركها بوضوح متزايد مع التسييس المتزايد الذى تأتى به الثورة كل يوم.
11: والحقيقة أن الديمقراطية الشعبية من أسفل هى الثمرة النضالية الحلوة التى تخرج بها الشعوب من ثوراتها الناجحة فى كل مكان. وهى لا تعنى أن المجتمع أو البلد قد صار ديمقراطيا أو أن الدولة قد صارت ديمقراطية. فالمجتمع الطبقى لا يكون ديمقراطيا كما أن الدولة التى هى أداة فى أيدى الطبقة الاستغلالية الحاكمة لا يمكن أن تكون ديمقراطية، بل لا مناص من أن يكون هذا المجتمع ديكتاتوريا ولا مناص من أن تكون هذه الدولة ديكتاتورية. وتعنى الديمقراطية الشعبية من أسفل أو الديمقراطية من أسفل أو الديمقراطية ببساطة أن تمتلك الطبقات الشعبية أدوات النضال والحقوق والحريات التى انتزعتها وصارت تمارسها، والإطار العام الديمقراطى الذى صارت تفرضه على الطبقة الحاكمة ودولتها ونظامها وتنظيمها للمجتمع. وتتمثل مكوِّنات الديمقراطية الشعبية من أسفل فى الأحزاب المتعددة المستقلة عن سلطة ونظام ودولة الطبقة الحاكمة، هذه الأحزاب التى تفرض التعددية الحقيقية على البلاد، وتتمثل فى النقابات العمالية والمهنية المستقلة التى تدافع بفعالية عن حقوق وحريات الطبقات الشعبية فلا تمثل نفوذ السلطة الحاكمة على هذه الطبقات كما يكون الحال فى الدولة الإدماجية (الكورپوراتية)، وتتمثل فى مختلف أشكال جمعيات المنتجين الصغار واتحادات المستهلكين، وتتمثل فى الصحافة الحرة التابعة للأحزاب والنقابات ومختلف الجماعات التى تنتمى إلى الطبقات الشعبية من العمال والفلاحين وفقراء الريف والمدينة، وتتمثل فى استقلال القضاء والتحقيق الفعلى لكل المطالب العادلة للقضاء الجالس والقضاء الواقف وتمتُّع المواطنين جميعا بالتقاضى أمام قاضيهم الطبيعى بعيدا عن القضاء الاستثنائى والعسكرى، وتتمثل فى انتزاع مكاسب عينية كبرى مثل التحقيق الفعلى للحد الأدنى العادل للأجور المربوطة بتطور الأسعار وتحسين شروط العمل وبدلات البطالة للعمال ولكل العاملين، ومثل التحقيق الفعلى لمطالب الفلاحين المتعلقة بالجوع إلى الأرض وبالأسعار المجزية وبمختلف صور تطوير نوعية حياة الفلاحين، ومثل التحقيق الفعلى للرعاية الصحية المتكاملة والشاملة والتأمين الشامل وتطوير المستشفيات والحل الجذرى لمشكلات الأطباء وباقى العاملين فى المجال الطبى والصحى من حيث الأجور وتحسين شروط وأوضاع العمل، وتتمثل مكوِّنات الديمقراطية الشعبية من أسفل فى التطوير الجذرى للتعليم بكل مراحله وتحقيق مجانيته الكاملة وإنصاف المعلمين بمرتبات مجزية مربوطة مثل كل أجور العاملين فى البلاد بالأسعار، وتقتضى الديمقراطية من أسفل التحقيق الدستورى والفعلى للمساواة بين المواطنين دون تمييز بسبب الدين أو المعتقد أو اللون أو الإثنية، وكذلك التحقيق الفعلى لتضمين كل الحقوق والحريات المنتزعة فى الدستور بصياغات واضحة قاطعة حاسمة لا يجرى تقييدها بقوانين، مع إعادة صياغة القوانين كإطار عام يعكس قدرة الديمقراطية من أسفل، عن طريق نضالاتها المتواصلة، على فرض السيادة الفعلية للقانون. ومن البديهى أنه بقدر ما يتم النجاح فى إجبار السلطات المعنية الحالية والقادمة على التحقيق الفعلى لمطالب الثورة سيجرى تأمين أن تسير الحياة الطبيعية وكذلك الإنتاج وإعادة البناء بصورة طبيعية جنبا إلى جنب مع تطورات الثورة التى لا تريد الفوضى ولا تعمل على تعطيل الحياة بكل مقتضياتها وضروراتها بل تعمل على إنصاف الشعب من خلال انتزاع حقوقه وحرياته وأدوات نضاله فى سبيل التطلع ليس فقط إلى حياة كريمة بل كذلك إلى تصنيع البلاد وتحديثها على قدم وساق كشرط لإنقاذها من المصير البائس الذى ظلت تتجه إليه، مع العالم الثالث كله، بسرعة مخيفة وللتحقيق الفعلى للاستقلال، هذا الاستقلال الذى لا يتحقق إلا بالتحول إلى بلد صناعى كشرط لا غنى عنه للتخلص من التبعية الاستعمارية؛ وهذا أفق لا ينبغى إغلاقه أمام الثورة بشرط استمراها بعمق متزايد وعلى مدى طويل معتمدة فى كل ذلك على عمق ونضج وجذرية الديمقراطية الشعبية التى تنجح الثورة فى تحقيقها.
16 يناير 2012



















3
الثورة المصرية
وآفاق الديمقراطية الشعبية من أسفل
(افتتاحية الحوار المفتوح فى الحوار المتمدن)

تمهيد:
1: أعتقد أن هذا الحوار المفتوح ينبغى أن يركز على الثورة العربية الحالية بمختلف أبعادها وآفاقها: طبيعتها وأسبابها وألغازها وأهدافها وفُرَصها وأوهامها وتحدياتها وأخطارها وسيناريوهات مساراتها واحتمالات امتداداتها إلى بلدان لم تلحق بالثورة بعد، والمحصلة النهائية فى بلدان الثورة من حيث طبيعة الأنظمة القادمة فيها، والأحوال المتوقعة فى هذا البلد العربى أو ذاك وفى العالم العربى بكامله وفى العالم الثالث بأكمله وفى العالم بأسره. ومن المفهوم تماما أن تحتاج تغطية كل هذه الأسئلة والمسائل والقضايا إلى جهود فكرية هائلة تبذلها أقلام كثيرة للكتاب والمفكرين والمحلِّلين السياسيِّين العرب؛ ورغم تقديرى لجهود كثيرة لكتاب عديدين فإننى أرى فى حدود اطلاعى المحدود عربيا والأوسع نسبيا مصريا أن هذه الجهود غير كافية لحمل الوعى الثورى بصورة كافية إلى هذه الثورات التلقائية العفوية بوعيها العفوى الجنينى، بحيث يكون هذا الوعى الثورى قادرا على إنضاج وعى الجماهير الشعبية وحتى قياداتها المباشرة وعلى تسييس هذه الجماهير بالقدر الكافى لتحديد الاتجاهات وتصحيح المسارات وإنجاح الثورات بفضل الفهم الصحيح لطبيعتها وآفاقها القريبة الأكثر ترجيحا وآفاقها البعيدة المحتملة التى يصعب التنبؤ بها وإنْ كان يمكن الحديث عن شروط ضرورية من جانب وبالغة الصعوبة من جانب آخر لتحقيق تطلعات وطموحات وأمانى المدى البعيد. ومن المؤسف أن يتقاعس كتاب سياسيون كثيرون عن الإسهام النشيط فى تطوير المناقشة حول الثورات للوصول إلى رؤية واضحة أو نظرية ناضجة تنطلق منها قيادة أكثر وعيا ونضجا للممارسة الجماهيرية الثورية. أما كاتب هذه السطور فإنه يدرك تماما أن جهده المتواضع لن يغطى فى المحل الأول سوى جانب محدود من أسئلة الثورة المصرية مع ملاحظات من بعيد جدا عن الثورات فى بقية البلدان العربية؛ وهذا قصور أعترف به مع ملاحظة أن الثورات التى تفجرت فى البلدان العربية الخمسة عزلت المراقب السياسى فى كل بلد منها داخل بلده بسبب التطورات الكثيرة المتلاحقة فى كل بلد بحيث تُغرق هذه التطورات بعواصفها وأعاصيرها وفيضاناتها وزلازلها ودمائها ومهامها طاقة كل كاتب على التفكير والإنتاج الفكرى. وتنطبق سمة المحدودية هذه ليس فقط على هذا الحوار المفتوح بل تشمل كل مقالاتى عن الثورة؛ وهى جميعا منشورة فى الحوار المتمدن منذ مقالى عن ثورة تونس وإلى يومنا هذا وستصدر خلال أيام عن دار نشر بالقاهرة فى كتاب يضم كل مقالاتى فى هذه الفترة باستثناء مقال نُشر فى مجلة السفير اللبنانية ومقال آخر نُشر فى الحوار المتمدن لأنهما مكتوبان ومنشوران بعد إرسال الكتاب إلى المطبعة. وبالتالى فإن الأفكار الصحيحة والخاطئة التى حملتها تلك المقالات يمكن أن تكون ضمن موضوعات هذا الحوار المفتوح.
ثورة أم انتفاضة أم هوجة؟:
2: من المنطقى أن تكون طبيعة الثورة مسألة قابلة للنقاش والخلاف، أما الأمر الغريب والمثير حقا فهو أن يحتدم النقاش والخلاف حول مسألة هل ما نشهد فى العالم العربى ثورات أصلا أم هى "مجرد" انتفاضات باعتبار الانتفاضة أقل منزلة ومكانة من الثورة على سُلَّم هيراركى مفترض للحركة الشعبية الجماهيرية من تمردات وهبات وعصيانات ومعارضات ومقاومات وانتفاضات وثورات! وصحيح أن الصلة بين التسميات والمسميات وثيقة غير أن أىّ حركة فى حجم الثورة بالذات تقدِّم نفسها بكل بساطة بوصفها ثورة. ويقاس الحجم هنا بالمكان والزمان وعمق التغيير المستهدف فإذا كانت ثورة بفضل شمولها لبلد بكامله أو لبلدان بكاملها من حيث المكان ولفترة طويلة لا تستغرق أياما أو أسابيع أو أشهر بل تمتد إلى أعوام من حيث الزمان وبفضل شمولها لنسبة هائلة من سكان بلد أو بلدان وللسواد الأكبر من الجماهير العاملة والشعبية والفقيرة وبفضل التغيير العميق الذى يمثل الهدف الموضوعى للحركة بحكم حجمها الهائل واستمرارها وتحوُّلها إلى النشاط العام الرئيسى لشعب أو شعوب يجمع بينها المكان والزمان وعمق المعاناة وبالتالى عمق التغيير المطلوب الذى لخصته الشعوب فى شعار "الشعب يريد إسقاط النظام"؛ فإننا نكون بالتأكيد إزاء ثورة سياسية شعبية، إزاء شعب ثار على أوضاعه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لإحداث تغيير تاريخى فى هذه الأوضاع بكل جوانبها الديمقراطية والسياسية والاجتماعية ومن حيث مستويات معيشة الجماهير الشعبية. وأعتقد أننا ينبغى أن ننصرف من المناقشات العقيمة حول المسألة المفتعلة المتحذلقة المتمثلة فى سؤال هل هى ثورات أصلا إلى التفكير العميق فى طبيعتها وأهدافها وآفاقها لتقوم ممارسة الشعوب العربية للثورة على رؤية أو نظرية واضحة للثورة الشعبية السياسية الجارية فى البلدان العربية الخمسة التى ثارت شعوبها دون شك وبدأت الدخول أو توشك على الدخول بقوة واندفاع وعناد وإصرار فى سنة ثانية لهذه الثورة أو الثورات، مع حالة من الترقب المبرَّر تماما للثورات "المحتملة" للشعوب فى بلدان عربية أخرى بحكم أوضاع الاستغلال والتبعية والفساد والاستبداد المتماثلة وبحكم البدايات والإرهاصات الثورية التى عرفتها هذه البلدان جميعا تقريبا خلال عام انطلاق الثورة العربية.
3: وهناك نوع من التفكير لا يستهان بمدى انتشاره حتى بين المثقفين مؤداه أن الثورة تكون ثورة فقط عندما تنجح فى تحقيق أهدافها. والحقيقة أن الثورة تكون أو لا تكون ثورة بوقوعها أو عدم وقوعها بالسمات السابقة الذكر. فإذا استنتجنا أننا إزاء ثورات سياسية شعبية كما سبق القول فإنه لا مناص من استنتاج أن الثورة يمكن أن تنجح كما يمكن أن تفشل وبالتالى فإن النجاح وإنْ كان الهدف الطبيعى لثورة ليس بحال من الأحوال معيار تصنيفها كثورة. وكانت الثورة الفرنسية الكبرى ثورة ليس فقط لأنها نجحت فى تحقيق هدفها الموضوعى أىْ تحقيق النظام الرأسمالى بل بحكم معايير التصنيف التى سبقت الإشارة إليها، وكانت الثورة الصينية العظمى ثورة بنفس المعايير رغم أنها فشلت فى تحقيق هدف إقامة نظام اشتراكى كما أراد الحزب الشيوعى الذى قاد تلك الثورة دون أن يدرك هدفها الموضوعى الحقيقى الذى نجحت الثورة فى تحقيقه وهو النظام الرأسمالى الراهن. ومن ناحية أخرى فإن النجاح بدوره ينبغى أن يقاس بمعايير سليمة حيث يخطئ من يقيس نجاح ثورة سياسية من ثورات العالم الثالث كما هو الحال بالنسبة لثوراتنا الراهنة بمعايير الثورة الاشتراكية أو بمعايير الثورة الرأسمالية (البرچوازية)، فنحن إذْ نفترض أهدافا وهمية زائفة لثورة إنما نفقد كل أساس لمعرفة طبيعة نجاحاتها وإخفاقاتها. وبطبيعة الحال فإن التقدير السليم لأهداف ثورة ولمعايير النجاح والفشل فى تحقيقها أمر يرتبط بصورة كاملة بالفهم الصحيح لطبيعة الثورة وهذا بدوره يتوقف على الإدراك الواضح لكل سمات وخصائص وأبعاد السياق التاريخى للثورة المعنية.
4: وإذا كانت الثورة شعبية ولا جدال فى أنها شعبية بحكم النضال الثورى المتواصل للملايين وعشرات الملايين من الجماهير العاملة والشعبية فإن الحديث عن كونها ثورة سياسية يثير الجدال من جديد. فالثورة السياسية تنقل السلطة من طبقة إلى طبقة متناقضة جذريا معها على حين أن من المستبعد تماما أن تقوم ثوراتنا الراهنة بهذا. فلأسباب يطول شرحها ويمكن الإلمام بها بإيجاز فى نقطة تالية ستظل السلطة فى البلدان العربية المعنية فى أيدى الطبقة الرأسمالية التابعة حتى بعد النجاح الكامل لهذه الثورات فى إحداث تغيير تاريخى لمجتمعاتنا بتحقيق الديمقراطية الشعبية من أسفل. فكيف نكون إزاء ثورة سياسية مع أن مفهوم الثورة السياسية يتمثل فى نقل السلطة من طبقة إلى طبقة متناقضة جذريا معها: من طبقة إقطاعية إلى طبقة رأسمالية أو من طبقة رأسمالية إلى الطبقة العاملة؟ ولأن من العبث أن نسمى ثورتنا ثورة سياسية بهذا المعنى فسوف نرى فى نقطة تالية فى سياق هذا الحديث لماذا نسميها ثورة سياسية بمعنى متواضع نسبيا وإنْ كانت كفيلة بإحداث تغيير سياسى واجتماعى تاريخى فى بلدان الثورة كما سبق القول!
طبيعة الثورات العربية الراهنة:
5: يمكن أن تحدث الثورة السياسية فى سياقات تاريخية مختلفة اختلافا جوهريا بحيث تكون لدينا أنواع من الثورة السياسية وبحيث تكون لكل نوع تنويعاته المتباينة أو المتقاربة. وإذا ركزنا الحديث عن ثورات العصر الحديث يمكن القول إن الثورة السياسية تأتى فى سياق ثورة اجتماعية كما حدث تاريخيا بالفعل (الثورات السياسية الرأسمالية أو البرچوازية فى سياق الثورة الاجتماعية الرأسمالية التى تنقل المجتمع من نمط الإنتاج الإقطاعى إلى نمط الإنتاج الرأسمالى) وقد تتخذ شكل الثورة السياسية الجماهيرية (ثورة 1789 الفرنسية على سبيل المثال) كما أنها قد تتخذ شكل الثورة السياسية الفوقية التى تُحْدِثها فى سياقها التاريخى ثورة اجتماعية رأسمالية فوقية فى شكلها اليونكرى الپروسى ونموذجها الأنقى ثورة أريستقراطية الميچى فى الياپان. وقد أدت هذه الثورات الاجتماعية التى هى ثورات التحول الرأسمالى وأدواتها السياسية المتمثلة فى الثورات السياسية عند مستويات بعينها من تطورها إلى نشأة وتطور ونضج رأسماليات البلدان التى صارت بلدانا رأسمالية صناعية متقدمة رغم تنوُّع مستويات تقدُّمها وخصوصية تركيبة كل بلد منها. وتنتمى إلى هذه الثورات تلك الثورات السياسية المسماة بالاشتراكية التى حدثت فى سياق التحول إلى الرأسمالية أىْ فى سياق الثورة الاجتماعية الرأسمالية فأدت رغم فكر وإخلاص قياداتها الماركسية إلى بلدان صناعية رأسمالية عبر رأسمالية الدولة والبيروقراطية ونموذجها الأمثل ثورة أكتوبر 1917 البلشڤية فى روسيا.
6: ونتيجة، من جهة، لتأخر باقى بلدان العالم عن اللحاق برأسمالية الغرب وبانتشارها ممتدة إلى مناطق أخرى فى العالم فى "الشمال"، ونتيجة، من جهة أخرى، لنشأة وتطور عالم البلدان التى صارت بلدانا صناعية رأسمالية متقدمة فى السياق التاريخى للثورة الاجتماعية الرأسمالية وأداتها المتمثلة فى الثورة السياسية أىْ نتيجة لسيطرة البلدان الصناعية التى صارت إمپريالية على باقى العالم، والسيطرة بالتالى على سيرورتها وصيرورتها، نشأ عالم المستعمرات وأشباه المستعمرات الذى سُمِّىَ عند بلوغ العالم مرحلة بعينها انقسم فيها، أو بدا أنه انقسم فيها، إلى ثلاثة عوالم تحمل أرقام الأول والثانى والثالث، بتسمية العالم الثالث التى ما تزال تلتصق به رغم الأوضاع المتغيِّرة. وشهد هذا العالم الثالث بدوره ثورات يمكن وصفها بالثورات السياسية لأنها رغم عدم مساسها بصورة جوهرية بالتبعية الاستعمارية وعدم نقلها للسلطة من طبقة اجتماعية إلى طبقة اجتماعية أخرى كانت تدور مع هذا حول أهداف كبرى تتعلق بالاستقلال الوطنى والديمقراطية والعدالة الاجتماعية. وقد حالف النجاح الساحق بعض هذه الثورات فيما انكفأت أخرى فلم تحقق أهدافها إلا بصورة جزئية ومؤقتة فى أفضل الحالات. وعلى سبيل المثال نجحت الثورة السياسية الشعبية الكبرى فى الصين فى تحويل الصين الشعبية إلى بلد صناعى رأسمالى متقدم، فى ظل أوضاع محلية وعالمية خاصة، رغم مشكلات عميقة ما تزال قائمة، وحققت استقلالها الوطنى فى هذا السياق ولم يُقَدَّر لقضية الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية أن تنجح إلا بصورة جزئية ومؤقتة فى سياق الشعارات الاشتراكية والشيوعية على سطح عملية تحوُّل رأسمالى. وفى المقابل انكفأت الثورة السياسية الشعبية الإيرانية على نفسها وغرقت فى مستنقع الدولة الدينية الاستبدادية والتبعية الاستعمارية اقتصاديا والتضخم والبطالة والإفقار رغم ما سمحت به الثروة النفطية من تقدُّم فى بعض المجالات التى يأتى فى مقدمتها مجال السلاح، ورغم العداء المستحكم بينها وبين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروپى وإسرائيل وبلدان رأسمالية وإمپريالية أخرى سياسيا وبالأخص فيما يتعلق بمشروعها النووى. وهناك بالطبع انقلابات عسكرية تطلعت أحيانا إلى ما تطلعت إليه الثورات السياسية فصارت انقلابات عسكرية أيدها الشعب وصارت بنعمة الرب ثورات نموذجها الأكمل انقلاب يوليو 1952. وكما هو متوقع فى ثورات العالم الثالث كقاعدة تجيئ الثورات وتذهب وتبقى التبعية الاستعمارية والرأسمالية المحلية التابعة وديكتاتوريتها حيث تتواصل التبعية الاستعمارية فى مصر على سبيل المثال بعد ثورة 1919 و"ثورة" 1952 ومن المتوقع أن تستمر حتى بعد ثورة 25 يناير 2011. وقد جاءت ثورة 1919 بالديمقراطية الشعبية من أسفل، وعصف بها الانقلاب العسكرى فى يوليو 1952 لأنه انقلاب عسكرى ليس من المفترض أن يتهادن مع ديمقراطية شعبية قائمة وناهيك بأن يسمح بقيام ديمقراطية جديدة، ومن المأمول أن تنجح الثورات الراهنة فى أن تتمثل محصلتها فى الديمقراطية الشعبية من أسفل فهى الثمرة الناضجة الحلوة الوحيدة التى تخرج بها الشعوب من ثوراتها السياسية المماثلة وهى تمثل تغيُّرا تاريخيا فى حالة المجتمع ليس فقط من حيث الحريات والحقوق الديمقراطية بل من حيث تحوُّل شامل فى الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للطبقات العاملة والشعبية والفقيرة.
7: وكما تأتى الثورات السياسية فى العالم الثالث فى سياق النظام المستقر للتبعية الاستعمارية بوصفها كذلك، تأتى الثورات السياسية كذلك فى سياق نظام رأسمالى مستقر فتنجح أو تفشل إستراتيچيًّا رغم نجاحات جزئية مهمة. وكانت ثورة الشباب فى 1968 فى أوروپا ثورة سياسية هزت فرنسا بالذات فى سياق نظام رأسمالى مستقر وكانت نجاحاتها جزئية فلم تحقق أهدافا لاسلطوية كبرى، على حين أن الثورات السياسية فى "الكتلة الشرقية" وبالأخص فى نموذجها الأكثر أهمية أىْ روسيا كانت ثورات سياسية ناجحة بامتياز فقد حققت فى سياق نظام رأسمالى قائم فى بلد صناعى كبير ودولة من الدول العظمى أهدافا كبرى تتمثل فى تحويل الاقتصاد الرأسمالى للبلاد من شكل رأسمالية الدولة إلى شكل الرأسمالية من الطراز الغربى النموذجى تحت لافتة اشتراكية السوق بالإضافة إلى نشأة ونموّ الديمقراطية الشعبية من أسفل. وبالطبع فإن ثورات أوروپا الشرقية والجنوبية تتنوع ومنها ثورات سياسية حدثت فى سياق رأسمالية صناعية متقدمة فى روسيا وبعض البلدان القليلة الأخرى فيما حدثت ثورات سياسية أخرى فى سياق أشبه بسياق الرأسمالية التابعة فى العالم الثالث فى بلدان أخرى فى أوروپا الشرقية والجنوبية وفى أغلب دول الكومنولث التى استقلت بمفهوم القانون الدولى فقط عن تبعيتها السابقة للاتحاد السوڤييتى السابق، وعن تبعيتها الراهنة لروسيا والرأسمالية العالمية.
8: ولأن السياقات التاريخية للثورات السياسة تختلف وتتنوع إلى هذا الحد، يغدو من الضرورى أن ندرك بوضوح السياق التاريخى لثوراتنا العربية وبالتالى طبيعة هذه الثورات والأهداف النابعة من هذه الطبيعة. وإذا كان العالم الحديث والمعاصر قد انقسم إلى عالمين العالم الصناعى الرأسمالى الإمپريالى وعالم الرأسمالية التابعة فيما يسمى بالعالم الثالث (وسبب الانقسام هو سيطرة العالم الأول على العالم الثالث أو الثانى بالأحرى) فقد صار للثورة السياسية سياقان تاريخيان: سياق الثورة الاجتماعية وسياق التبعية الاستعمارية. وقد شرحت هذين السياقين فى عدد من مقالاتى ويمكن العودة إليها فى سياق تقدُّم هذا الحوار. ويمكن أن أكرر هنا أننا لسنا إزاء السياق التاريخى لثورة اشتراكية ببداهة غياب شروط هذه الثورة فى الوقت الحالى ليس عندنا فقط بل فى العالم كله بلا استثناء، كما أننا لسنا إزاء السياق التاريخى لثورة رأسمالية بحكم واقع التبعية الاقتصادية والسيطرة الاستعمارية؛ هذا الواقع الذى قطع طريق تطور الرأسمالية الصناعية فى بلدان العالم الثالث كله ومنها بلدان عالمنا العربى. ومعنى هذا أنه ليس من المفترض أن تحقق هذه الثورات السياسية تحولا اجتماعيا تاريخيا إلى رأسمالية صناعية متطورة تضع حدا للتبعية الاستعمارية لأن مثل هذا التحول يفترض تطورا اجتماعيا اقتصاديا صناعيا طويل الأمد قبل الثورة يكون نموه التراكمى قد أحدث التحول الفعلى قبل انفجار الثورة السياسية التى تنقل إلى طبقته القيادية أىْ الطبقة الرأسمالية الصناعية سلطة الدولة. وعلى أساس إدراك واضح لطبيعة الثورة تتحدد الأهداف النابعة منها ويمكن تلخيصها جميعا كما سبق القول فى هدف واحد واضح هو الديمقراطية الشعبية من أسفل. ومن مثل هذا الهدف المحدد يمكن أن تنبع الإستراتيچيات والتاكتيكات الملائمة لتحقيقه بدلا من متاهات يلقى بنا إليها غياب رؤية واضحة.
الصراع المفتوح بين الثورة والثورة المضادة:
9: وقبل أن ننتقل إلى مناقشة قضايا تتعلق بإستراتيچيات وتاكتيكات الديمقراطية الشعبية من أسفل، سيكون من المناسب أن نفكر جيدا فى المسار الفعلى المتوقع للصراع الحالى بين الثورة والثورة المضادة. وإذا كانت الديمقراطية الشعبية من أسفل هى الهدف الطبيعى لمثل هذه الثورة من وجهة نظر مصلحة حياة ونضال الطبقة العاملة والطبقات الشعبية جميعا فإن المسار المتوقع للثورة المضادة هو ذلك الذى يقود فى نهاية المطاف إلى استمرار نفس النظام بنفس الطبقة الرأسمالية التابعة الحاكمة الآن مع بقاء سلطة الدولة فى أيدى هذه الطبقة. وكما سبق القول فإن بقاء النظام الرأسمالى يمكن أن يتحقق من خلال طريقيْن محتمليْن نظريا وقائميْن فعليا للصراع من جانب الثورة المضادة فى بلدان الثورات العربية فى الوقت الحالى: هناك الطريق التونسى المصرى وهناك الطريق الليبى السورى اليمنى، والطريق الأول هو طريق أو إستراتيچية التصفية التدريجية للثورة، والطريق الثانى هو طريق أو إستراتيچية التصفية العنيفة أو الحربية للثورة.
10: ويبدو أن طريق التصفية التدريجية للثورة أكثر ملاءمة لمصالح كلٍّ من طرفىْ الصراع أىْ لكلٍّ من الثورة والثورة المضادة. والمسار الطبيعى لهذا الطريق ملائم للثورة لأنها يمكن فى سياقه أن تجد الوقت لتنمو وتتطور وتنضج من خلال صراعات ونضالات ومعارك متواصلة فتزداد الجماهير وقياداتها تسييسا ووعيا بالثورة وأهدافها وصولا إلى تأسيس الديمقراطية الشعبية من أسفل؛ مع تفادى المجازر والمذابح والإبادات الواسعة النطاق كما شهدنا فى ليبيا وكما نشهد الآن فى سوريا واليمن. وهذا الطريق ملائم تماما من الناحية الموضوعية للثورة المضادة فهو يساعدها على الاحتفاظ بالنظام الرأسمالى وبالطبقة الرأسمالية التابعة وبالتبعية الاستعمارية التى تمدها بشبكة أمان من التحالفات الدولية التى تحميها داخليا ودوليا ومن البديهى أنه سيكون على هذه الطبقة الرأسمالية التابعة الإقدام بالمقابل على تضحيات وتنازلات يمكن أن تضطر إليها، ويمكن تلخيصها فى التسليم فى المدى القصير والمتوسط بمقتضيات الديمقراطية الشعبية من أسفل من حريات وحقوق ومستويات معيشة أفضل على أساس أجور أفضل وشروط عمل أفضل وعلى أساس استقلال القضاء وحرية الصحافة وشمول الرعاية الصحية وغير ذلك مضحيةً بجانب من أرباحها ومداخيل فسادها وغير ذلك. وهنا تكون الديمقراطية من أسفل ضريبة بقاء الطبقة الحاكمة التى لا مناص من أن تدفعها تحت ضغط استمرار الثورة. والأساس المزدوج لنجاح هذا الطريق يتمثل، من جهة، فى استمرار الثورة بنضالاتها الثورية بالإضراب والتظاهر والاعتصام وكل الأشكال الفعالة للاحتجاج الثورى السلمى، ويتمثل، من جهة أخرى، فى استمرار الثورة المضادة فى طريق التصفية التدريجية للثورة الذى اختارته عندما قام المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية بالانقلاب العسكرى الذى أطاح بالرئيس السابق لحماية النظام ضد الثورة وليس لحماية الشعب وثورته كما يزعم المجلس العسكرى وحلفاؤه من الإخوان المسلمين والسلفيِّين والليبرالية اليمينية وقادة وأنصار الحزب الوطنى، بدلا من مواصلة مذابحه المتكررة ضد الشعب والتى يمكن أن تفتح الباب أمام الانزلاق فى طريق الحرب الأهلية.
11: والحقيقة أن مصير الطبقة الرأسمالية المالكة بصورة مباشرة والحاكمة بصورة غير مباشرة (وهى ذاتها الثورة المضادة بشحمها ولحمها عندما تندلع ثورة فعلية) يتوقف فى سياق الصراع بين الثورة والثورة المضادة على اختيار الثورة المضادة لأحد الطريقيْن المذكوريْن أعلاه فى تصفية الثورة: طريق التصفية العنيفة (الحربية) كخط أساسى رغم عدم غياب التعامل مع مبادرات سياسية سلمية أو طريق التصفية التدريجية (السلمية) كخط أساسى رغم عدم غياب استخدام مستويات من العنف وحتى المذابح والمجازر المنظمة كوسائل إضافية فى خدمة طريق التصفية التدريجية. وتختار الطبقة الحاكمة هذا الطريق أو ذاك وفقا لتقديراتها وحساباتها وكذلك وفقا لمستوى تماسكها الداخلى ومدى انسجام قواها ومؤسساتها وأجهزتها وقطاعاتها وأقسامها. ورغم أن طريق التصفية التدريجية للثورة هو الخيار الأفضل للطبقة الحاكمة إلا أن أوضاعها الفعلية وتقديراتها وحساباتها التى تحتمل الخطأ و الصواب، يمكن أن تورِّطها فى الانزلاق إلى طريق التصفية العنيفة الحربية للثورة!
12: وكما سبقت الإشارة فإن النظام الرأسمالى التابع باقٍ فى الحاليْن، فى طريق التصفية التدريجية للثورة كما فى طريق التصفية الحربية للثورة، ما دام البديل الاشتراكى للرأسمالية غير وارد فى برنامج مثل هذه الثورات التى لا تهدد بالتالى بقاء النظام الرأسمالى التابع. غير أن طريق التصفية التدريجية يمكن أن يؤدى، حتى فى حالة نجاح الثورة فى تحقيق هدفها الموضوعى أىْ الديمقراطية الشعبية من أسفل، إلى بقاء نفس الطبقة الرأسمالية التابعة مهما ضحَّت بكباش فداء من قادتها ورجال دولتها ورجال اقتصادها. أما طريق الثورة العنيفة/الحربية للثورة فإنه يهدد فى حالة نجاح الثورة، رغم بقاء الرأسمالية التابعة كنظام اجتماعى اقتصادى سياسى، بتدمير الطبقة الرأسمالية المالكة والحاكمة بأفرادها ورجال أعمالها وأصحاب شركاتها وكتلها ومختلف أقسامها لصالح إعادة تشكيل طبقة رأسمالية تابعة جديدة انطلاقا من نُخَب جديدة كان بمستطاعها قيادة الثورة لأنها تشكل جزءًا لا يتجزأ منها أو لأنها استطاعت سرقتها. فمن جهات عديدة تساهم قوى الثورة محليا وقوى متنوعة إقليميا ودوليا فى تدمير الطبقة الرأسمالية التى تحارب شعبها بكل قوة جيشها. وهنا تنتقل سلطة الدولة من طبقة رأسمالية تابعة مهزومة إلى طبقة رأسمالية تابعة تمر بعد ذلك بمختلف أطوار التكوين والنمو والتطور والنضج كطبقة. وقد حدثت إعادة تشكيل الطبقة الرأسمالية لصالح طبقة جديدة وانتقال السلطة إليها، رغم الاستبقاء المحتمل لبعض عناصر الطبقة الرأسمالية المهزومة، فى تجارب ثورية وغير ثورية عديدة منها البلدان الفاشية المهزومة فى الحرب العالمية الثانية، ومنها ثورات ثمانينات وتسعينات القرن العشرين فى البلدان الناشئة عن انهيار وتفكك الاتحاد السوڤييتى السابق وبلدان رأسمالية الدولة التى انتحلت الاشتراكية والشيوعية فى شرق وجنوب أوروپا، وهى تحدث حاليا من أعلى فى الصين الشعبية بقيادة الحزب الشيوعى الصينى، كما حدثت فى تجارب عديدة فى العالم الثالث مع التأميمات وصعود أشكال من رأسمالية الدولة التابعة كما حدث فى إيران فى سياق إحلال الجمهورية الإسلامية محل نظام الشاهنشاه. وفى مصر أعيد تشكيل الطبقة الرأسمالية التابعة المهزومة غير مرة كما حدث فى سياق انقلاب 1952 العسكرى بإصلاحه الزراعى وتمصيراته وتأميماته و"تنميته"، وكما حدث فى سياق الانفتاح والخصخصة وتصفية القطاع العام فى عهدىْ السادات و مبارك. ويعتقد كاتب هذه السطور أن تقديرات وحسابات المجلس العسكرى (بالطبع بالاستعانة بخبرائه ومستشاريه المصريِّين والأجانب "المحتملين") لاحتمالات هذا الخطر بالذات فى حالة انتهاج طريق التصفية الحربية للثورة هى التى دفعت المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية إلى خيارها الإستراتيچى المتمثل فى طريق التصفية التدريجية للثورة رغم كل أشكال القمع الأمنى العنيف التى ارتكبها بمذابحه واعتقالاته ومحاكماته العسكرية والإعلامى والأيديولوچى. ذلك أن الطريق الحربى سوف يعنى فى حالة نجاح الثورة، أو حتى فى حالة استمرارها بقوة لفترة طويلة، إلى انهيار الطبقة المالكة الحاكمة الحالية وإحلال طبقة رأسمالية تابعة جديدة محلها. وقد أمكن اختيار هذا الطريق التدريجى انطلاقا من غياب البديل الاشتراكى فهنا تدرك الطبقة الحاكمة أنها لا تحارب وظهرها إلى الحائط. ويتحدث كثيرون عن "خروج آمن" يسعى إليه المجلس العسكرى أو يُسْمَح له به انطلاقا من تصور خاطئ يفصله عن الطبقة الحاكمة التى ينتمى إليها والتى يدافع عن وجودها واقتصادها وسلطتها واستقرار نظامها ولا يبحث عن "مخرج آمن" لأفراده وثرواتهم ومصالحهم.
تاكتيكات المجلس العسكرى فى الثورة المضادة:
13: وإذا وضعنا جانبا أسطورة أن المجلس الأعلى قد تدخَّل فى السياسة لحماية الثورة والشعب على أساس نظرى عسكرى عام انطلاقا من واقع تاريخى يتمثل فى أن كل الثورات المكلَّلة بالنجاح قد انتصرت فى مواجهة جيوش قوية تضربها بكل قوتها فلا حاجة للشعوب إذن لحماية أحد، فقد كان الواقع الفعلى عندما تدخل المجلس العسكرى فى السياسة فى بداية الثورة هو أن الثورة كانت قد ألحقت هزيمة عسكرية ساحقة بجيوش وزارة الداخلية. والسؤال المنطقى هنا هو: مِمَّنْ كان المجلس العسكرى يحمى الشعب والثورة؟ من نفسه؟! والواقع أنه لم يحمهما حتى من نفسه هو! فعندما جرى فتح السجون واستخدام البلطجية على أوسع نطاق لترويع الثورة والشعب كان المجلس العسكرى حاضرا بجيشه فى الشوارع والميادين فى مختلف مدن مصر، ومنذ ذلك الحين لم يكف المجلس عن مطاردة الثوار بقنابل الغاز والرصاص الحى فى كل مكان وعن تنظيم المذابح فى ماسپيرو وشارع محمد محمود مع بداية موجة 19 نوڤمبر 2011 من موجات الثورة المصرية، وشوارع قصر العينى والشيخ ريحان ومجلس الشعب فى أواخر تلك الموجة فيما سُمِّىَ بأحداث مجلس الوزراء، وأخيرا هذه المذبحة المروِّعة فى بورسعيد. ولا مجال هنا لإحصاء ما لا يُحْصَى من كل أنواع الهجمات العنيفة والتهجمات المشينة على نضالات الثورة فضلا عن إثارة الفتن وسياسة "فَرِّقْ تَسُدْ" وحملات التشويه والافتراء مدعوما فى كل ذلك بمواقف وجهود حلفائه من الإخوان المسلمين والسلفيِّين والليبرالية اليمينية وأنصار وأتباع الحزب الوطنى المنحلّ وأحزابه "غير المنحلة".
14: ويمكن القول إن هذا السلوك السياسى للمجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية ينطلق من إستراتيچية شاملة هدفها حماية النظام واستعادته حتى بالتضحية بعدد من رؤوسه، من جهة، وتصفية الثورة بطريقة تدريجية باحتوائها وتفريغها من معناها، من جهة أخرى. وعلى أساس هذه الإستراتيچية، جرى اعتماد التاكتيكات التى بدأت بالانقلاب العسكرى الذى أطاح بالرئيس مبارك (وهو انقلاب قصر بمعنى الانقلاب ضد القيادة السياسية للنظام من داخل النظام ولمصلحة إنقاذه وحمايته) بعد إجباره مع إعلان تنحيته على اتخاذ قرار بعنصر رئيسى من عناصر سياسة الفترة اللاحقة يتمثل فى تحديد مَنْ يحل محله وذلك بتكليف المجلس الأعلى بتولِّى سلطات رئيس الجمهورية، وكان قد أمر قبل ذلك بيوم واحد بإجراء تعديلات على الدستور لتكون نقطة انطلاق التاكتيكات التشريعية فى الفترة الانتقالية اللاحقة. ومع انهيار قوات وزارة الداخلية فى الأيام الأولى للثورة، ومع الاضطرار إلى حل مجلسىْ الشعب والشورى فى وقت لاحق، صار المجلس الأعلى يتولى السلطة التنفيذية الأساسية (سلطات رئيس الجمهورية وقيادة الجيش ووزارة الداخلية) والسلطة التشريعية والرقابية للپرلمان وصار "الكل فى الكل" كما يقال فى حكم البلاد، وكل هذا بالاستناد إلى شرعية الانقلاب العسكرى مع ورقة توت هشة ممزقة لا تستر عورات المجلس الأعلى تتمثل فى تكليف الرئيس له بصورة غير دستورية بتولِّى سلطة الدولة. وباعتماد هذه الإستراتيچية والبدء بتولِّى السلطة شرع المجلس الأعلى فى تطبيق تاكتيكاته الموضوعة سلفا والمستجدة وفقا لتطور الأحداث. وكانت الإطاحة بالرئيس مبارك ضربة معلم من جانب المجلس الأعلى باعتباره وفقا لرؤيته نقطة تجميع رفض قوى الثورة جميعا للنظام وموضع إجماعها وكان الإجماع ينعقد بصورة عامة على هذا بالفعل بين قوى الثورة، هذا التعبير الفضفاض الذى جمع بين قوى شاركت فى الثورة للحصول على غنائمها وجوائزها فى أسرع وقت وخانت الثورة فور تحقيقها لهدفها فلم تكن فى حقيقتها قوى ثورية بل كانت فى الواقع من قوى الثورة المضادة، وقوى ثورية حقيقية قامت بالإعداد للثورة وتفجيرها وقيادتها والسير بها إلى الأمام والاستمرار بها إلى يومنا هذا عبر مختلف موجات الثورة ونضالاتها ومعاركها وأنشطتها. وهكذا استطاع المجلس الأعلى تحقيق تهدئة وإنْ مؤقتة للثورة والحصول على ثقة وإنْ مؤقتة من أقسام كبيرة من قوى الثورة والشعب. وانطلاقا من هذه الضربة الناجحة التى لا يستهان بتأثيرها على تطور الثورة فى تلك الفترة المبكرة تتابعت التاكتيكات الخبيثة.
15: وبالطبع استغلَّ المجلس الأعلى، المسمَّى زورًا بالجيش، مع الاختلاف الجذرى بينهما، تلك "الثقة" المكتسبة وارتدى مظهر داعم الثورة وحاميها وراعيها ومنقذها وضمانة تحقيقها لأهدافها والمنظم الواعى المخلص لإيقاعها ووقع خطاها وخطواتها زاعما إدراكه للطابع التدريجى الاضطرارى لتحقيق المطالب خاصة فى غياب الأساس الدستورى للتغيير المنشود والموارد المالية اللازمة لتلبية مطالب العدالة الاجتماعية. ومستغلًّا أيضا ما اعتبره تسليما إنْ لم يكن ترحيبا من الشعب بحكمه فى الفترة الانتقالية، تلكأ أو تباطأ أو رفض الاستجابة لمطالب الثورة المتعلقة بالمجلس الرئاسى المدنى والحريات والحقوق والعدالة الاجتماعية، وراح يطبق بقية تاكتيكاته الخبيثة. ولأنه لا مجال هنا لتفصيل ما تم تفصيله من جانب كتاب كثيرين خلال عام كامل، يمكن الحديث هنا فى خطوط عريضة عن تاكتيكات أربعة مجالات أساسية: 1: التعامل مع الرئيس المخلوع ورجاله والعديد من رؤوس الفساد وكذلك مع عدد من مؤسسات نظامه، 2: التعامل مع إعادة بناء المؤسسات "الشرعية" للبلاد، 3: التعامل مع قضية التحالف مع بقية قوى الثورة المضادة، 4: التعامل مع النضالات الثورية. وسأتحدث عن هذه الأشياء بالإيجاز اللازم هنا.
16: وفيما يتعلق بالتعامل مع مبارك وأسرته ورجاله ومؤسساته، عمد المجلس الأعلى فى مرحلة أولى استغرقت أشهر عديدة بترك مبارك ورجاله وأجهزته يتفرغون لتهريب أموالهم وبعض أشخاصهم وترتيب أوضاعهم وأوراقهم وفَرْم وثائق إدانتهم قبل اتخاذ أىّ إجراءات قانونية ضدهم بحبسهم على ذمة قضايا أو التحقيق معهم، مع تقديمهم إلى المحاكمة عند الاضطرار تحت ضغط الثورة وكانت موجة 8 يوليو 2011 الثورية هى التى أدخلت مبارك فى قفص الاتهام بعد الثورة بقرابة نصف عام. واليوم بعد الثورة بعام كامل ما تزال المحاكمات تراوح مكانها محاطة بالشكوك حول جديتها من حيث إجراءات التقاضى ومن حيث الأحكام المتوقعة ومن حيث الابتعاد عن جوهر ما ينبغى أن يحاكم عليه رئيس جمهورية والحلقة الضيقة من رجاله المحبوسين ومطلقى السراح؛ وذلك بدلا من محكمة ثورة عادلة. ولم يتم حل الحزب الوطنى إلا بعد مماطلات طويلة دون حل محلياته ومع السماح بإنشاء أحزاب بقيادة كوادره وتضييق عدد كوادره الخاضعين للعزل إلى مجموعة ضيقة. وجرى اتباع أسلوب التغاضى والتجاهل والتهاون مع والتستر على مرتكبى أفظع الجرائم أثناء وبعد الثورة بما فى ذلك مرتكبى المذابح الشنيعة منذ المذابح الكبرى فى ميادين التحرير فى يناير 2011 إلى مذبحة بورسعيد البشعة الرهيبة فى فبراير 2012.
17: وفى مجال التعامل مع إعادة بناء المؤسسات "الشرعية" للبلاد، شهدنا الإصرار العنيد للمجلس العسكرى على الاحتفاظ بالحزب الوطنى ومجلس الشعب ومجلس الشورى وحكومة أحمد شفيق وقانون الطوارئ مع رفض أىَ اقتراب من إلغاء القوانين المقيدة للحريات. ولم يجر حل مجلس الشعب أو مجلس الشورى أو الحزب الوطنى أو حتى حكومة أحمد شفيق إلا بصورة اضطرارية بعد التباطؤ المتواطئ الذى كان طويلا جدا فى حالة حل الحزب الوطنى وفشل كل محاولة عنيدة للاحتفاظ بالمؤسسة المعنية من هذه المؤسسات. ولم يَرْفَع المجلس الأعلى حالة الطوارئ إلا بعد الثورة بعام كامل مع استثناء لحالة البلطجة وهو استثناء يُلغى مغزى رفعها حيث يسهل إلصاق تهمة البلطجة على جميع المناضلين كما يفعل المجلس الأعلى بالفعل دون تطبيقها على البلطجية الذين يستخدمهم هذا المجلس نفسه ومختلف الأجهزة الأمنية فى البلاد، ومع الالتفاف حول مسألة أن الهدف الرئيسى فيما يتعلق بقانون الطوارئ ليس مجرد رفع حالة فرضه بل إلغاء هذا القانون الاستبدادى ذاته وإعداد قانون عادى للطوارئ. وانطلاقا من قرار أعلنه الرئيس المخلوع فى بيان له (مساء الخميس 10 فبراير 2011 أىْ فى اليوم السابق على إعلان استقالته أو إقالته) بتعديل خمس مواد دستورية وإلغاء مادة سادسة، قام المجلس بتشكيل لجنة مشبوهة للقيام بالتعديلات المطلوبة سرعان ما جرى سلقها والاستفتاء عليها فى 19 مارس 2011 أىْ بعد تنحية مبارك بشهر وأسبوع تقريبا لتتوالى فرمانات مراسيم المجلس بقوانين منها الإعلان الدستورى وقوانين مجلسىْ الشعب والشورى وقانون الأحزاب وهو أسوأ من قانون الأحزاب فى عهد الرئيس السابق وقانون تجريم التخريب ضد الإضرابات والاعتصامات العمالية المسماة بالاحتجاجات الفئوية فى المحل الأول وقوانين عديدة آخرها قانون الأزهر وقانون الانتخابات الرئاسية. وعلى أساس هذه التعديلات الدستورية والتشريعات المسلوقة على عجل تم تطبيق خطة جهنمية لصرف الثوار عن الثورة لفترة ممتدة من خلال استفتاءات وانتخابات پرلمانية ورئاسية متكررة تقترب الآن من نهاية مرحلة من مرحلتيها بانتهاء انتخابات مجلس الشعب وبدء انتخابات مجلس الشورى للبدء فى إعداد الدستور وانتخاب رئيس للجمهورية ربما لانتخابات لاحقة إذا تم احترام خارطة الطريق الموضوعة فى التعديلات الدستورية والإعلان الدستورى؛ تلك الخارطة التى تم خرقها غير مرة على كل حال. وهكذا يكون قد تم بناء المؤسسات "الديمقراطية" المطلوبة لتسليم السلطة للمدنيَّين وعودة الجيش إلى ثكناته وانتقال المجلس الأعلى إلى الحكم من وراء الكواليس. وكان الهدف المزدوج من وراء كل هذا يتمثل، من جانب، فى تأسيس شرعية جديدة تستند زورا إلى الثورة ليستظل بها النظام الجديد القديم و، من جانب آخر، لصرف طاقات الثورة إلى الاستفتاءات والانتخابات لفترة غير قصيرة بعيدا عن الثورة ونضالاتها. وفيما يتعلق بهذا الجانب الأخير، يبدو أن الثورة احتفظت بطاقاتها المتجددة على مواصلة نضالاتها التى لا تهدأ إلا لتتفجر من جديد وإنْ كان هذا الجانب قد أثر بصورة سلبية فى بعض توجهات وشعارات ونقاط تركيز القوى الحقيقية للثورة.
18: والمظهر الأكثر بروزا للتحالف الطبقى الذى عمل المجلس الأعلى على إنشائه يتمثل فى المحل الأول فى التحالف مع قوى سياسية تعبِّر عن أقسام وقطاعات متعددة من نفس الطبقة: طبقة الرأسمالية الكبيرة التابعة. ورغم كل المحاولات الفاشلة بمعظمها لاستمالة تيارات أو قيادات من شباب الثورة، كان تركيز المجلس الأعلى منذ البداية على التفاوض مع ممثلى قوى الإسلام السياسى وبالأخص الإخوان المسلمين والليبرالية اليمينية. وكان التحالف ناجحا بكل معنى الكلمة لأن هذه القوى تنتمى جميعا إلى الطبقة الرأسمالية التابعة. فالمجلس الأعلى يمثل رأس الحربة فى الطبقة وسلطة دولتها ونظامها وفى الثورة المضادة، كما أنه فاعل اقتصادى رئيسى بحكم سيطرته على اقتصاد الجيش وامتيازاته، وبحكم كون أعضاء المجلس والكثيرين من كبار القادة العسكريِّين من ذوى الرُّتَب العليا فى الجيش جزءًا لا يتجزأ من الطبقة الرأسمالية التابعة. كما أن قادة الإخوان المسلمين والسلفيِّين والوفد والمصريِّين الأحرار والحزب الديمقراطى الاجتماعى المصرى والحزب الوطنى وأحزابه الجديدة وغيرهم ممثِّلون سياسيون لمصالح وقطاعات كبرى من الرأسمالية الكبيرة التابعة. وتمثل أحزاب وحركات وجماعات هذه القوى الطبقة المذكورة رغم أن غالبية عضويتها تنتمى إلى الطبقة العاملة والطبقات الشعبية والفقيرة وهذه طبيعة الأشياء فهذا شأن كل الأحزاب الرأسمالية الكبيرة فى كل مكان. وإذا كانت قيادات هذه الأحزاب والجماعات تتاجر بأيديولوچيات بعينها وتخفى مصالحها الحقيقية فإن قواعدها غالبا ما تكون بعيدة عن مثل هذا الاتجار بل تمثل ضحايا تلك الأيديولوچيات واليوتوپيات ووقود معاركها. وتؤلف هذه القوى معا أركان حرب الثورة المضادة التى هى الطبقة الحاكمة وسلطة دولتها ونظامها عندما تمتشق السلاح فى زمن الثورة الفعلية. على أن تباعُد الأيديولوچيات واختلاف التاريخ السياسى بما فى ذلك الخلافات المدمرة للثقة بينها والتنافس المحموم بين مختلف كتل وقطاعات نفس الطبقة الواحدة على الغنائم والجوائز السياسية والاقتصادية للثورة تبتعد بهذه القوى عن الانسجام الجرانيتى الفولاذى المفترض أو المتوهَّم لأقسام طبقة واحدة بحيث لا تعرف التعارض والتناقض بل تجعل العلاقات وحتى التحالفات بينها حافلة بالتناقضات؛ ويجدر بقوى الثورة أن تفهم طبيعة وأشكال ومستويات هذه التناقضات وأن تدرك أن استفادتها منها تمدُّها بقوة مضافة، بعيدا عن التصورات الشعبوية التى تتجاهل التناقضات فيما تركز على الوحدة بين قطاعات الطبقة الواحدة.
19: وتتعدد نقاط ونواحى ومناحى تعامل المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية مع الثورة والنضالات الثورية. وبالطبع وكما هو متوقع، صارت الثورة شعار المعادين لها قبل أن تكون شعار المؤمنين بها، فصار الجميع يشهدون للثورة، ويتغنون بالثورة، ويلهجون بالثناء على الثورة! وصارت عظمة الثورة العبارة الأولى الافتتاحية حتى لبدء الهجوم عليها والافتراء ضدها وكيْل الضربات إليها. وقد بدأ المجلس الأعلى عهده بمحاولات استثمار ما صوَّر المجلس وتصوَّر كثيرون أنه حماية للثورة من جانب الجيش الذى قال وقيل إنه لم يبادر إلى استخدام العنف. وسرعان ما اتضح أنه يستخدم مزيجا من العنف والاستمالة فى التعامل مع القوى الحقيقية للثورة. على أن محاولات استمالة شباب الثورة تراجعت بسرعة وتفاقم استعمال العنف وحتى العنف المفرط الذى وصل مرارا إلى حد تنظيم المذابح. وكانت الاستمالة الناجحة حقا هى تلك المفاوضات الأريحية مع قوى سياسية بعينها وخاصة مع جماعة الإخوان المسلمين فى سياق التحالف الذى سبقت الإشارة إليه فى فقرة سابقة مع الجماعة المذكورة بالذات. أما القوى الحقيقية للثورة فقد عوملت بتاكتيكات التصفية التدريجية التى مزجت بين حملات الافتراء والتشويه والهجوم الأيديولوچى والإعلامى العدوانى المتواصل ضد الثورة من جانب المجلس العسكرى وحلفائه، وصرف الثوار عنها بتكتيكات تكثيف الاستفتاءات والانتخابات ومختلف إجراءات إرساء قواعد تأسيس شرعية النظام الجديد القديم، وكذلك بالعنف المباشر بالاعتقالات الواسعة النطاق والمحاكم والأحكام العسكرية والتعذيب والمذابح المنظَّمة فى كثير من الأحيان. ويمكن القول باختصار أن المجلس العسكرى واصل قمعه المتعدد الأشكال للثورة متسلحا بالقوات المسلحة والشرطة وبقوى سياسية أبرزها الإخوان المسلمون والسلفيون. وكما سبق القول فإن المجلس الأعلى لم يحقق أىّ مطلب من مطالب الثورة إلا عند اشتداد ضغط الحشود المحتجة، وتمسك بعناد بقانون الطوارئ وفرض حالة الطوارئ عن طريق استثناء البلطجة، وعمل على توفير كل الضمانات اللازمة لجعل الدستور الجديد أشبه ما يكون بالدستور المعطل حاليا، وعمد إلى إصدار قوانين جديدة بمراسيم للتضييق الشديد على قيام الأحزاب وتجريم المظاهرات والاعتصامات والإضرابات، وتمادى فى استخدام العنف والتعذيب والمذابح، وهو يواصل العمل بلا هوادة على التصفية التدريجية للثورة مع إحاطتها بهواجس ومخاوف الانزلاق إلى الطريق الآخر: طريق الحرب الأهلية! ويصاب رجل الشارع والثوار والمحللون بالحيرة إزاء هذا السلوك الاستفزازى المتواصل للمجلس الأعلى بمذابحه وبالكثير من قراراته وإجراءاته، بوصف كل هذا متناقضا بحدة مع خيار التصفية التدريجية؛ حيث يغدو السؤال الملحّ: هل يريد هذا المجلس التخلِّى عن خيار التصفية التدريجية للثورة واللجوء بدلا من ذلك إلى خيار التصفية العسكرية العنيفة لهذه الثورة؟ أم هو الغباء السياسى؟ وقد اعترض رفيق عزيز من كُتاب الحوار المتمدن على حديثى فى مقال من مقالاتى فى الحوار المتمدن عن الغباء السياسى، غير أن من الضرورى أن ندرك أن الغباء السياسى ظل عاملا فاعلا أساسيا طوال التاريخ!
تاكتيكات وشعارات الثورة:
20: تركزت الأهداف الأساسية لهذه الثورة السياسية بامتياز، كما عبرت شعاراتها المعبِّرة عن مطالبها، على إسقاط النظام مطالبةً بالحرية والعدالة، وبرزت فى المقدمة الشعارات المطالبة بإسقاط الرئيس مبارك، والدستور، والپرلمان بمجلسيه، والحزب الوطنى الحاكم، وقانون الطوارئ، والفساد، وتحقيق الحريات والحقوق الديمقراطية، وعلى رأسها حقوق التظاهر والاعتصام والإضراب، والمساواة بين المصريِّين على أساس المواطنة دون تمييز على أساس العقيدة أو نوع الجنسين (المرأة والرجل) أو غير ذلك، واستقلال القضاء، وحرية الصحافة، والعدالة الاجتماعية بالمستويات المعيشية اللائقة بالأجور العادلة المرتبطة بالأسعار، والحياة الكريمة، والرعاية الصحية، والتعليم المجانى، والقضاء على البطالة الواسعة النطاق، والاستغلال الوحشى، والغلاء الفاحش، والتضخم الجامح، والأسعار المسعورة، وغير ذلك. وظل الشعار الأساسى للثورة هو: الشعب يريد إسقاط النظام. فماذا يعنى النظام؟ وماذا يعنى إسقاطه؟ ولعل من الملائم أن نقول إن النظام إنما يعنى فى هذا السياق عدة أمور أساسية منها شكل الحكم المتمثل حاليا فى نظام الحزب الواحد الذى ورث الاتحاد الاشتراكى القديم مهما سمح إلى جانبه بقيام أحزاب ديكورية هزيلة بحكم التضييق الپوليسى والإدارى والقانونى عليها مع ترسانة من القوانين والترتيبات التى تحظر التأسيس الحر للأحزاب وغيرها من أدوات النضال السياسى والاجتماعى والاقتصادى والنقابى والفكرى، مع ترسيخ هياكل وآليات شاملة لتزييف إرادة الشعب فى الانتخابات العامة والمحلية كل عدة أعوام عن طريق التزوير والبلطجة والترويع وشراء الذمم والقيود التشريعية والقانونية غير الدستورية، وفى ظل وكنف مثل هذا الشكل الديكتاتورى الپوليسى للحكم تنمو وتعشش كل أشكال وأنواع الفساد، هذا الفساد الذى أمسك بخناق المجتمع المصرى من رأسه إلى أصابع أقدامه، وهو فساد لا يقتصر على شكله الرئيسى المتمثل فى تكوين الثروات الطائلة التى تتكدس فى بنوك سويسرا وغيرها بفضل الاستغلال الفاحش واللصوصية والنهب على أوسع نطاق، وبالأخص من خلال الخصخصة التى تمت بأساليب لصوصية للقطاع العام وأملاك وأراضى الدولة، بل يمتد هذا الفساد إلى كل مناحى ومجالات الحياة العامة بصورة شاملة من خلال الرشاوى فى كل خطوة واستغلال النفوذ فى كل معاملة وعند كل منعطف. والحقيقة أننا، كما سبق القول، إزاء ثورة سياسية لن يتحقق نجاحها إلا بإسقاط هذا النظام بشكل حكمه الديكتاتورى وبكل آليات فساده وبكل رجاله وبكل تراكم ثرواته من خلال التأميم والمصادرة واسترداد أموال الدولة التى هى أموال الشعب. ورغم الأهمية الحاسمة لشكل الحكم فإن إسقاط النظام يعنى ضمن ما يعنى هدمه وبناء نظام جديد بالكامل ليس بشكل الحكم فحسب بل بكل نتائج عقود طويلة من تراكم الثمار المرة للفساد فى ظل كل الرئاسات السابقة والذى بلغ ذروته فى ظل رئاسات الرئيس مبارك.
21: وتعاقبت موجات الثورة بعد الانكشاف الواضح للخديعة الكبرى التى روَّجها المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية التى قامت بتسويق نفسها كحامية وضامنة للثورة. فقد تواصل الاستشهاد وآلاف الإصابات وجرائم التعذيب والإهانة وآلاف الاعتقالات والإحالة إلى المحاكم العسكرية وحملات الافتراء ومختلف ابتكارات صرف الناس بعيدا عن النضالات الثورية بالانتخابات وغيرها. وصارت الموجات الثورية هى التى ترسل الرئيس ورجاله إلى قفص الاتهام وتسقط الحكومات وتجبر المجلس رغم عناده على تنازلات وإجراءات. ورغم الرفض العنيد من جانب المجلس وحلفائه لسلطة مجلس رئاسى مدنى، ظل هذا المطلب مطروحا بقوة طوال العام، وكانت موجة 8 يوليو 2011 الثورية هى التى تبلورت فيها محصلة تراكمات فى مواجهة السلوك السياسى والأمنى للمجلس وتمثلت هذه المحصلة فى حفر هوة هائلة بين الثوار والمجلس ظلت تزداد حدة إلى أن تحولت مع مذبحة ماسپيرو ومذبحتىْ أوائل وأواخر موجة 19 نوڤمبر 2011 الثورية إلى قطيعة، وصارت شعارات إسقاط المجلس والمشير وتسليم السلطة إلى المدنيِّين هى موضع التركيز فى الاحتجاجات الثورية اللاحقة. وهنا جاءت انتخابات مجلس الشعب لتدفع إلى مقدمة التطورات پرلمانا يسيطر حزب الحرية والعدالة الإخوانى وحزب النور السلفى على واحد وسبعين فى المائة من مقاعده تضاف إليها مقاعد إسلامية أخرى ولم تَعُدْ الأحزاب الليبرالية اليمينية واليسارية والمستقلون تحوز حتى على الثلث المعطل وهكذا صارت الأحزاب التى تُعَدّ أدوات مباشرة للدولة الدينية تمثل سلطة التشريع والرقابة فى مصر. ووجد شعار تسليم السلطة للمدنيَّين تجسيده فى شعارات تفصيلية متقاربة من الناحية الجوهرية تتلخص فى تسليمها قبل الانتخابات الرئاسية لمجلس الشعب الإخوانى السلفى أو لرئيسه الإخوانى أو للجنة تحسم اختيار عضويتها الأغلبية الإخوانية السلفية، وصار الوضع يهدد حتى اختيار لجنة الدستور مهما أحاط نفسه بالقيود والقواعد، كما صار يهدد انتخاب رئيس الجمهورية بواقع أن أغلبية القاعدة الانتخابية فى مصر صارت للمنادين بالدولة الدينية، مهما علا صوت الحديث عن التوافقية التى تفرضها فى الواقع قوى الأغلبية على كل حال. وفى أعقاب الموجة الراهنة للثورة التى بدأت فى 25 يناير 2012 وارتفاع تيارات الموجة الثورية الجديدة بعد المذبحة المروِّعة التى استشهد فيها أربعة وسبعون من شباب الأولتراس مع نحو ألف مصاب فى بورسعيد وسقوط شهداء جدد فى القاهرة والسويس مع آلاف المصابين فيهما فى مجرى الاحتجاجات على مذبحة بورسعيد، هذه الاحتجاجات المتواصلة والمتصاعدة إلى الآن، بدأ الحديث الآن عن التعجيل بانتخابات رئاسية مسلوقة بدورها بحيث يكون لدينا رئيس للجمهورية فى أپريل القادم أىْ بعد قرابة شهريْن من الآن. وينطوى كل هذا على أرجحية وضع سلطة دولة نفس الطبقة الرأسمالية التابعة فى أيدى دعاة الدولة الدينية كنتيجة مباشرة لمطالب وشعارات الثورة التى نادت بالدولة المدنية الديمقراطية، مع عدم إغفال حقيقة أن ميزان القوة يفرض بوجه عام أن تبقى السلطة الفعلية فى أيدى المجلس الأعلى من وراء الكواليس على مدى فترة كافية لإعادة بناء نفس النظام بصورة مستقرة من جديد، وهى فترة قد تستغرق أعواما. ويدعو هذا التناقض الفظ بين الأهداف الحقيقية للثورة ونتائجها الوشيكة للبحث عن تفسير يبدو أنه يكمن فى غياب رؤية واضحة لدى الثورة، غير أن كثيرين لا يرون تناقضا بين الأهداف الأصلية المستمرة وهذه النتائج المباشرة على أساس دعوى أن الإسلام السياسى، الذى يعانى بدوره تناقضات فى صفوفه، لا يملك حلًّا سحريا للمشكلات والأوضاع الاجتماعية الاقتصادية بحيث يغدو محكوما عليه بالفشل وعلى حكمه بطابع مؤقت، وهذا أمر غير مضمون على الإطلاق ولنا عبرة فى حكم آيات الله فى الجمهورية الإسلامية الذى استطال لأكثر من ثلاثة عقود رغم العجز الطويل عن كبح جماح التضخم أو الحدّ من البطالة!
22: ويعتقد كاتب هذه السطور أنه كان من الملائم للثورة مقاطعة كل هذه الاستفتاءات والانتخابات الپرلمانية والرئاسية والتبنى الحازم لإستراتيچية "لا" للمجلس الأعلى المعادى للثورة و "لا" للإسلام السياسى الإخوانى السلفى المعادى للثورة، وعدم الإقدام على اللعبة الخطرة المتمثلة فى الوقوف فى صف أحدهما ضد الآخر بدعوى أن الإسلام السياسى يتمثل فى مجلس نيابى منتخب بوصفه پرلمان الثورة مع أننا نعلم كيف جرت الانتخابات وكيف تحقق الانتصار فيها لقوى فى صفوف الثورة المضادة تماما مثل المجلس العسكرى الذى هو مركز قيادة الثورة المضادة. وكان الملائم لتطور الثورة مع منحها فترة ممتدة من الزمن أن تتواصل كثورة لا تلتفت إلى ألاعيب المجلس الأعلى على رأس الثورة المضادة، وأن تركز على معارك تحقيق مكوِّنات الديمقراطية الشعبية من أسفل. وعلى كل حال فإن انتهاء الانتخابات الپرلمانية والرئاسية لا يمكن أن يعنى انتهاء الثورة بل يعنى بداية مرحلة جديدة من الثورة: ضد النظام الجديد القديم مهما اختلف سطحه الأيديولوچى!
23: والحقيقة أن مشكلة غياب الرؤية الثورية هو الذى يقف وراء مشكلة شعارات الثورة ونقاط تركيز مختلف الموجات الثورية. ولعل من البديهيات التى لا يختلف عليها اثنان أن أحد العوامل الأساسية لمصير ثورة أىّ ثورة تتمثل فى وعيها بنفسها وإدراكها الواضح لطبيعتها والنتائج المرجوة منها وبالتالى الأهداف التى يجرى النضال لتحقيقها وهو وعى يتولد وينمو وينضج عند طليعة ثورية كما يتولد وعى تلقائى عفوى بالوضع القائم والحلم بوضع مختلف بصورة بالغة التعقيد لدى جماهير الشعب. ولعل من الواضح أيضا أن كل ثورة تشتمل على عنصرىْ التلقائية التى لا ثورة بدونها والوعى الذى قد يكون ناضجا أو غير ناضج وأن التقاءهما وتفاعلهما أمران حافلان بالتعقيد. ومن الجلى كذلك أن دينامية التلقائية وحيويتها وقوة وعمق دوافعها أشياء ضرورية لصمودها فى مواجهة الثورة المضادة واستمرارها واستعدادها للتسييس وانفتاحها على المزيد والمزيد من الوعى الثورى فى سياق تعلُّمها فى مدرسة الممارسة العملية بكل تجاربها وخبراتها ونجاحاتها وإخفاقاتها. كما أن من الجلى أن حالة الوعى القائمة فى مجتمع ولدى شعب قبل الثورة وعند اندلاعها هى التى تشكل مستوى الوعى الثورى لفترة غير قصيرة؛ هذا الوعى الذى يتطور بفضل الممارسة وعِبَرِها ودروسها مع صلة وثيقة بالأساس المعرفى والنظرى والسياسى للطليعة التى تحمل هذا الوعى. وإذا كان التقاء التلقائية والوعى قائما فى مجرى نضال طويل استغرق عقودا طويلة قبل انفجار الثورة فإنه يكون من المتوقع أن تكون القيادة الناضجة للطليعة الثورية الواعية قد تحققت وارتفع مستوى دورها القيادى فى الثورة من حيث الرؤية الواضحة لطبيعتها وأهدافها الحقيقية بعيدا عن تهويل أوهام الرؤوس الساخنة وبعيدا كذلك عن التهوين الانتهازى الذى لا يُغتفر فى زمن الثورة. أما إذا كان هذا الالتقاء بين الوعى والتلقائية أحدث عهدا فإن النتيجة السلبية لذلك لا يمكن تفاديها. والحقيقة أن الحديث عن التلقائية والوعى كعنصرين متميزين وقابلين للتفاعل لا يعنى أن الحركة التلقائية تخلو من أىّ وعى. إننا نتحدث عن بشر يندمج وجودهم الاجتماعى ووعيهم الاجتماعى حيث يشكلان معا وفى كل لحظة كُلًّا واحدا مهما يكن بالغ التعقيد. ذلك أن الحركة التلقائية تنطوى على الوعى التلقائى أو العفوى أو الجنينى، ويتولد هذا الوعى من التجربة الفعلية لهؤلاء البشر المنخرطين فى الحركة التلقائية فى حياتهم العامة واليومية بكل جوانبها السياسية والاقتصادية كما يأتى من تأثير مختلف المذاهب والأيديولوچيات والأفكار المتصارعة التى يمور بها المجتمع الذى يعيشون فيه. وكما كانت نقطة انطلاق الثورة المصرية الراهنة وكذلك باقى الثورات العربية - فيما يسمى فى الغرب بالربيع العربى على منوال ربيع پراغ - هى تلك الشرارة الشبابية الأولى التى امتلكت قدرا أعلى من الوعى بالقياس إلى باقى الطبقات الشعبية بالأوضاع الاجتماعية والاقتصادية التى تعانيها هذه الطبقات ذاتها وبالاستغلال والفساد والاستبداد، هذه الآفات التى وصلت إلى حدود قصوى نتج عنها تجريف كل أساس اقتصادى لحياة الجماهير العاملة مع قهرها بالاستبداد والقمع وفرض حياة لا تليق بالبشر على جماهير الشعب. واستطاعت هذه الشرارة أن تفجر ثورة فى مصر منذ 25 يناير 2011 وفى أوقات متقاربة قبل وبعد ذلك ثورات فى بلدان عربية أخرى. وكان لدى هذه الجماهير الثائرة ضد الحياة اللاإنسانية المفروضة عليها الوعى العفوى الكافى للانفجار فى ثورة وكان لدى جيل له خصائص جديدة تماما من الشباب وعى أعلى نسبيا وروح عنيدة من الصلابة والبسالة والتفانى والفداء والشهادة والاستماتة فى النضال حتى النهاية فى سبيل حياة كريمة تليق بالبشر. وعند هذا المستوى يمكن القول إن الشعار الأساسى للثورة كان صحيحا تماما وكذلك كانت الشعارات المتفرعة عنه والمتشعبة منه. وهكذا كان وعى الشعب الذى ثار وعيا تلقائيا عفويا بحقيقة الأوضاع الاقتصادية الاجتماعية التى يعانيها، وكان وعى الطليعة التى فجرت الثورة وعيا أعلى وإن كان يموج بالتيارات الفكرية والسياسية التى لا تُعَدّ ولا تُحْصَى بالإضافة إلى كونها كقاعدة عامة تيارات ومجموعات غير منظمة فى أشكال حزبية أو تنظيمية أخرى؛ الأمر الذى ابتعد بالطليعة عن أن تشكل قيادة متبلورة مهما تتعدد التيارات، والذى يحمل فى طياته رغم كل أمجاد هذه الطليعة وأساليبها النضالية الحافلة بالفاعلية والتجديد والابتكار احتمالات تورطها فى مزالق من شأنها أن تفرز أثناء بعض الموجات الثورية ونضالاتها تصورات وشعارات خاطئة قد تنحرف بالثورة إلى مسار يلحق بها الضرر ويجعل مناضلاتها ومناضليها نهبا للتقلبات والإحباطات والشكوك بعد كل موجة للثورة لا تستطيع أن تحقق الأهداف التى أبرزتها شعاراتها.
24: ولا حاجة بى إلى التذكير بأن التصفية المنهجية للحياة السياسية طوال قرابة ستين عاما وليس فقط فى عهد الرئيس المخلوع على يد الانقلاب العسكرى تحت ضغط الثورة، بعد عقود طويلة سابقة من استبداد القصر الملكى والإدارة الاستعمارية البريطانية وفى عهود ملكية متعاقبة رغم الحريات النسبية التى عصف بها انقلاب 1952 العسكرى، كانت وراء هذا التصحُّر العام لوعى كل من الشعب وطليعته فى مجرى عودة متواصلة إلى الوراء اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا وثقافيا وفكريا مع تقدُّم متواصل للقوى السياسية الماضوية الرجعية إلى أن انفجر الشعب فى ثورة سياسية هائلة جعلتها تطورات عديدة فى العقد الأخير ممكنة. على أننا لا نستطيع أن نتوسع هنا فى مناقشة تلك التطورات الاجتماعية والسياسية التى ترتبط فى المحل الأول بوصول إفقار الشعب إلى حدود قصوى وما تولد عن ذلك من معارضة عنيدة سياسية وإضرابية أخذت تنمو فى السنوات السابقة للثورة مع النتائج المباشرة لاتساع نطاق تأثير ثورات تكنولوچيات المعلومات والمعرفة كالإنترنت والفضائيات والتليفون المحمول وغيرها؛ هذه الأشياء التى ساعدت على مزيد من وعى الناس بحقيقة حياتهم وبأسباب ونتائج شقائهم وبالكوارث التى تهدد مجرد بقائهم. غير أن كل هذه العوامل التى ساعدت على ارتفاع مستوى وعى الشعوب بشقائها كانت تساعد فى الوقت نفسه على تدهور هذا الوعى على مستوى التفسير والتغيير وكانت هذه فرصة ذهبية لتطور وصعود الإسلام السياسى. وتمثلت المحصلة النهائية فى أن تصفية الحياة السياسة لم تترك مكانها فى الحال لفكر تقدمى ناضج وكان هذا عاملا سلبيا لا مناص من أن تعانى الثورة وطليعاتها وقياداتها الكثيرة المتنوعة نتائجه كما تمثلت فى اتساع نطاق النفوذ الفكرى لتقديس أو تديين السياسة وتسييس الدين أو المقدَّس، وتغوُّل مختلف الأصوليات فى كل مكان فى العالم على اتساعه وخاصة فى العالم الثالث والعالم العربى.
قضايا متنوعة:
25: وهناك قضايا بالغة الأهمية لم يَعُدْ يتسع لها المجال هنا، بعد أن استطال هذا الحديث ربما أكثر مما ينبغى، منها الثورة النسائية الهائلة التى تبلورت فى خضم الثورات العربية الراهنة من خلال الدور الذى قامت به النساء كتفا لكتف مع الرجال. والواقع أن المرأة كانت بكل أجيالها فى أىّ بلد من بلدان الثورة العربية الخمسة تتقدم الصفوف على قدم المساواة مع الرجل ولا شك فى أن قضية تحرُّر المرأة ستعرف انطلاقة جديدة أثناء وبعد هذه الثورات وسيصبّ هذا التطور فى مجرى تحديث البلدان العربية وتطوير ديمقراطيتها الشعبية من أسفل وكافة قضايا هذه البلدان فى المستقبل صوب التصنيع والاستقلال وكل الآفاق التى يمكن أن تكون هذه الثورات مقدِّمة لها.
26: وينبغى أن أشير إلى الحروب الأهلية التى عرفتها الثورات العربية والتى نرجو أن تكون قد وضعت أوزارها فى ليبيا مع نهاية نظام معمر القذافى، والتى ما زالت تدور فى اليمن رغم رحيل على عبد الله صالح، والتى تدور رحاها حامية ومروِّعة فى سوريا رغم بدء تضييق الخناق عربيا ودوليا على بشار الأسد. وأعتقد أن استمرار الحرب الأهلية الراهنة فى هذه البلدان لفترة طويلة من شأنه تمزيق الطبقات الرأسمالية التابعة الحاكمة فيها لصالح إعادة إنتاج أنظمة رأسمالية تابعة جديدة على العكس من الطريق التونسى المصرى: طريق التصفية التدريجية للثورة. وهذه الرأسمالية التابعة لا يمكن تفاديها لأننا لسنا إزاء ثورات البديل الاشتراكى الغائب عربيا وعالميا فى هذه الحقبة التاريخية. وتجد هذه الثورات بدورها نفسها فى مواجهة مخاطر ركوبها وسرقتها من جانب قوى الإسلام السياسى ربما فى اندماج مع قوى قبلية فى اليمن بالذات. على أن الجذوة المتقدة الهائلة لهذه الثورات لن تنتهى بسيطرة هذه القوى على سلطة الدولة والتى ستجد نفسها مجبرة على انتهاج طريق التصفية التدريجية؛ هذا الطريق الذى يتلاءم مع استمرار الثورة لانتزاع الديمقراطية الشعبية من أسفل بالمفهوم الشامل الذى يجعل من تأسيسها ونموها وتطورها انقلابا تاريخيا فى شروط الطبقة العاملة والطبقات الشعبية فى هذه البلدان. ومن المحتمل أن يكون الثمن المرتفع المدفوع من جانب شعوب هذه البلدان الثلاثة فى الحروب الأهلية شرطا مواتيا لوصولها إلى ديمقراطية شعبية أعمق مما يمكن أن نتوقعه فى تونس بل حتى فى مصر. وهناك مخاطر كثيرة بالطبع. هناك احتمال تحوُّل اليمن السعيد إلى دولة فاشلة فى سياق نوع كارثى من الصوملة وإنْ كان من المتوقع أن ترمى المملكة العربية السعودية بكل ثقلها لدرء هذا الخطر فهو خطر داهم عليها بصورة مباشرة كبلد نفطى كبير ظالم مجاور. أما سوريا فإن السقوط القريب المرجح لنظام بشار الأسد سوف يوجه ضربة قاصمة إلى حزب الله وربما إلى حد ما إلى بعض فصائل المقاومة الفلسطينية وإلى النفوذ الإيرانى فى المنطقة العربية إذا وضعنا العراق جانبا، وعلى كل حال فإن من شأن ضربة عسكرية إسرائيلية أمريكية محتملة لإيران أن تكون بالغة التأثير على أوضاع سوريا وحزب الله فى مواجهة الداخل اللبنانى والخارج الإسرائيلى وكذلك على أوضاع العراق. وإذا كان واقع أن سوريا بلد تحتل إسرائيل أراضيه فى هضبة الجولان قد ظل رادعا ضد أىّ عمل عسكرى ضد جيشها تفاديا لشبهة ضربه لصالح إسرائيل فإن تمادى النظام السورى فى قمعه الوحشى حقا والموقف العربى الجديد يرفعان إلى حد كبير هذا الحرج عن أىّ عمل عسكرى تقوم به بلدان عربية أو تركيا أو حلف الأطلنطى تلمظا على مصالحها فى سوريا ما بعد بشار الأسد وربما لن تكون هناك حاجة إلى التدخل العسكرى إذا انهار النظام بسرعة، خاصةً نظرا لأن حقائق الجغرافيا تجعل التدخل العسكرى فى سوريا أصعب كثيرا منه فى ليبيا.
27: أما البلدان العربية التى توقف فيها ما بدا أنه الثورة فى صلة وثيقة بتأثير الدومينو وفى سياق أوضاع اقتصادية واجتماعية وسياسية متشابهة من حيث بؤس الشعوب وسيطرة الاستبداد وانتشار الفساد (رغم أن بعض هذه الشعوب لاتعانى جوع الخبز) عند البدايات والإرهاصات لأسباب متنوعة (الجزائر وعمان والسعودية والكويت والعراق وموريتانيا وچيبوتى)، أو استقرت عند مستويات أدنى نسبيا (الأردن والمغرب والبحرين فى سبيل الملكية الدستورية)، أو ما تزال مرشحة (السودان بالذات)، أو لم تمرّ عليها رياح الثورة أصلا (اتحاد الإمارات وقطر)، وهناك كلٌّ من لبنان (بوضعه الخاص) وفلسطين (بإرهاصات ثورة "الشعب يريد إسقاط الانقسام" دون أمل حقيقى)، وكنت قد كتبت مقالا مستقلا عن كلٍّ من تونس وليبيا كما تعددت فى بعض مقالاتى الإشارات إلى بعض البلدان العربية وحتى الوقفات الطويلة نسبيا عند سوريا والسعودية وفلسطين وليبيا من جديد؛ غير أنها جميعا تمثل آراء مراقب من بعيد، وهذا قصور اعترفتُ به فى فقرة سابقة. وعلى كل حال فإن رياح التغيير يمكن أن تصل إلى هذه الشعوب بصورة عامة وإلى بعضها بصورة خاصة فتلحق بقطار الثورة فى مواقيت لا يستطيع التكهن بها أحد.
28: وكانت هناك فى الأعوام الأخيرة فى سياق الأزمة المالية العالمية تقديرات باندلاع ثورات الجوع فى الكثير من مناطق العالم الثالث وبتداعيات مهمة وأحيانا كارثية فى بعض بلدان الشمال. ولا شك فى أن ثورات و/أو كوارث العالم الثالث محتملة إنْ لم تكن مرجَّحة، كما أن بلدانا غربية مثل اليونان وإيطاليا وإسپانيا والپرتغال صارت مهددة وكذلك منطقة اليورو بوجه عام بأخطار اقتصادية فادحة، وتُمْسِك الأزمة المالية/الاقتصادية بخناق الولايات المتحدة الأمريكية مركز الرأسمالية ومركز الأزمة وبالعديد من البلدان الصناعية وتُلقى بظلال كثيفة على اقتصاد الصين التى تعتمد صناعتها على التصدير الواسع النطاق، وتتطور حركات الاحتجاج تحت شعار "احتلُّوا" وول إستريت أو فرانكفورت أو لندن أو غيرها، غير أن هذه الحركة العالمية الضخمة الموارة ليست حركة اشتراكية بحال من الأحوال وإنْ كانت حركة معادية للرأسمالية. وينبغى أن نبنى تقديراتنا لصيرورة ثوراتنا على هذا الأساس.
آفاق قد تفتحها الديمقراطية الشعبية من أسفل:
29: والواقع أننا جزء من العالم الثالث، وإذا كان السياق التاريخى لثوراتنا العربية وهو سياق التبعية الاستعمارية هو العدوّ الأول لثوراتنا الذى يحصرها فى إطار طبيعة بعينها وأهداف تنبع منها، فإن مصير العالم الثالث هو الخطر الأكبر الذى يهدد مجرد بقائنا المادى ذاته، وفيما وراء الآفاق التى تغلقها أمامنا تبعيتنا الاستعمارية تنغلق آفاق قاتمة يرسمها مصير العالم الثالث الذى تقرره نتائج كئيبة لتراكمات طويلة العهد لنفس هذه التبعية الاستعمارية. وبطبيعة الحال فإنه لا يوجد أمامنا "خروج آمن منقذ" إلا بالتحول إلى بلدان صناعية هو شرط الاستقلال وهو أيضا شرط البقاء. ولن تنفتح هذه الآفاق أمامنا إلا فى شروط التطور والنضال التى يمكن أن تحققها ثوراتنا الراهنة فى إطار الديمقراطية الشعبية من أسفل. وسأنقل فى الفقرة التالية نص فقرة عن هذه الديمقراطية فى مقال سابق لى (معادلات سياسية تحكم الثورة المصرية الراهنة؛ 16 يناير 2012) بهدف إبراز عناصرها بدلا من إعادة تأليف تلك الفقرة.
30: والحقيقة أن الديمقراطية الشعبية من أسفل هى الثمرة النضالية الحلوة التى تخرج بها الشعوب من ثوراتها الناجحة فى كل مكان. وهى لا تعنى أن المجتمع أو البلد قد صار ديمقراطيا أو أن الدولة قد صارت ديمقراطية. فالمجتمع الطبقى لا يكون ديمقراطيا كما أن الدولة التى هى أداة فى أيدى الطبقة الاستغلالية الحاكمة لا يمكن أن تكون ديمقراطية، بل لا مناص من أن يكون هذا المجتمع ديكتاتوريا ولا مناص من أن تكون هذه الدولة ديكتاتورية. وتعنى الديمقراطية الشعبية من أسفل أو الديمقراطية من أسفل أو الديمقراطية ببساطة أن تمتلك الطبقات الشعبية أدوات النضال والحقوق والحريات التى انتزعتها وصارت تمارسها، والإطار العام الديمقراطى الذى صارت تفرضه على الطبقة الحاكمة ودولتها ونظامها وتنظيمها للمجتمع. وتتمثل مكوِّنات الديمقراطية الشعبية من أسفل فى الأحزاب المتعددة المستقلة عن سلطة ونظام ودولة الطبقة الحاكمة، هذه الأحزاب التى تفرض التعددية الحقيقية على البلاد، وتتمثل فى النقابات العمالية والمهنية المستقلة التى تدافع بفعالية عن حقوق وحريات الطبقات الشعبية فلا تمثل نفوذ السلطة الحاكمة على هذه الطبقات كما يكون الحال فى الدولة الإدماجية (الكورپوراتية)، وتتمثل فى مختلف أشكال جمعيات المنتجين الصغار واتحادات المستهلكين، وتتمثل فى الصحافة الحرة التابعة للأحزاب والنقابات ومختلف الجماعات التى تنتمى إلى الطبقات الشعبية من العمال والفلاحين وفقراء الريف والمدينة، وتتمثل فى استقلال القضاء والتحقيق الفعلى لكل المطالب العادلة للقضاء الجالس والقضاء الواقف وتمتُّع المواطنين جميعا بالتقاضى أمام قاضيهم الطبيعى بعيدا عن القضاء الاستثنائى والعسكرى، وتتمثل فى انتزاع مكاسب عينية كبرى مثل التحقيق الفعلى للحد الأدنى العادل للأجور المربوطة بتطور الأسعار وتحسين شروط العمل وبدلات البطالة للعمال ولكل العاملين، ومثل التحقيق الفعلى لمطالب الفلاحين المتعلقة بالجوع إلى الأرض وبالأسعار المجزية وبمختلف صور تطوير نوعية حياة الفلاحين، ومثل التحقيق الفعلى للرعاية الصحية المتكاملة والشاملة والتأمين الشامل وتطوير المستشفيات والحل الجذرى لمشكلات الأطباء وباقى العاملين فى المجال الطبى والصحى من حيث الأجور وتحسين شروط وأوضاع العمل، وتتمثل مكوِّنات الديمقراطية الشعبية من أسفل فى التطوير الجذرى للتعليم بكل مراحله وتحقيق مجانيته الكاملة وإنصاف المعلمين بمرتبات مجزية مربوطة مثل كل أجور العاملين فى البلاد بالأسعار، وتقتضى الديمقراطية من أسفل التحقيق الدستورى والفعلى للمساواة بين المواطنين دون تمييز بسبب الدين أو المعتقد أو اللون أو الإثنية، وكذلك التحقيق الفعلى لتضمين كل الحقوق والحريات المنتزعة فى الدستور بصياغات واضحة قاطعة حاسمة لا يجرى تقييدها بقوانين، مع إعادة صياغة القوانين كإطار عام يعكس قدرة الديمقراطية من أسفل، عن طريق نضالاتها المتواصلة، على فرض السيادة الفعلية للقانون. ومن البديهى أنه بقدر ما يتم النجاح فى إجبار السلطات المعنية الحالية والقادمة على التحقيق الفعلى لمطالب الثورة سيجرى تأمين أن تسير الحياة الطبيعية وكذلك الإنتاج وإعادة البناء بصورة طبيعية جنبا إلى جنب مع تطورات الثورة التى لا تريد الفوضى ولا تعمل على تعطيل الحياة بكل مقتضياتها وضروراتها بل تعمل على إنصاف الشعب من خلال انتزاع حقوقه وحرياته وأدوات نضاله فى سبيل التطلع ليس فقط إلى حياة كريمة بل كذلك إلى تصنيع البلاد وتحديثها على قدم وساق كشرط لإنقاذها من المصير البائس الذى ظلت تتجه إليه، مع العالم الثالث كله، بسرعة مخيفة وللتحقيق الفعلى للاستقلال، هذا الاستقلال الذى لا يتحقق إلا بالتحول إلى بلد صناعى كشرط لا غنى عنه للتخلص من التبعية الاستعمارية؛ وهذا أفق لا ينبغى إغلاقه أمام الثورة بشرط استمراها بعمق متزايد وعلى مدى طويل معتمدة فى كل ذلك على عمق ونضج وجذرية الديمقراطية الشعبية التى تنجح الثورة فى تحقيقها.
5 فبراير 2012




4
ثورة 25 يناير: سؤال السبب
(ملخص حديث مُعَدّ للإلقاء فى مؤتمر بوزارة الثقافة عن الثورة)

لا يوجد فى تفسير أسباب الثورات الشعبية شيء من قبيل: واحد + واحد = اثنين!
وإذا قلنا إن السبب ماثل فى صميم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية المتردية، أوضاع المستويات البالغة التفاقم من الاستغلال والفساد والاستبداد نتيجة للرأسمالية التى تقودها شراهتها بالضرورة إلى تجريف كل أساس اقتصادى لحياة وحتى بقاء الشعوب، فإننا نقدم بذلك وصفا عاما لأوضاع يمكن أن تستمر معها استكانة شعبٍ أعواما وحتى عقودا دون أن تصل مقاوماته واحتجاجاته إلى مستوى الثورة مع أن مثل هذه الأوضاع هى الخلفية الاجتماعية السياسية التى لا يمكن بدونها أن تتفجر ثورة شعبية تستحق هذا الاسم.
ولا مناص بالتالى من الانتقال من هذه الخلفية الإستراتيچية العامة إلى الأسباب والعوامل الظرفية التى تشعل النار فى وقود جاهز للاشتعال. وفى حالتنا الخاصة كان هناك بالتأكيد تأثير الدومينو القادم من الثورة التونسية التى فجرها بدورها عامل ظرفى يتمثل فى انتحار مواطن تونسى فقير بإحراق نفسه ولم تتحرك مصر إلا بعد أن حققت الثورة التونسية بالفعل المعجزة المذهلة المتمثلة فى إجبار الديكتاتور على الرحيل.
على أن الثورات لا تنفجر عند توفُّر كل عامل ظرفى أو تأثير دومينو رغم تردى الأوضاع. وقد شهدنا فى المنطقة العربية رغم التناظر العام من حيث تردى الأوضاع الاجتماعية السياسية مستويات متفاوتة من ردود الفعل من جانب الشعوب. وهناك بالطبع جزء لا يتجزأ من هذه الأوضاع يتمثل فى تطور الاحتجاجات والتطورات فى بلد دون آخر فى الأعوام السابقة للثورة. ودون أن نأخذ فى اعتبارنا هذه الخلفية الاجتماعية العامة، وتأثير الدومينو، وكذلك الاحتجاجات والتطورات فى الأعوام القليلة السابقة للثورة المصرية السياسية الشعبية الكبرى (وكذلك باقى ثورات ما يسمى بالربيع العربى) فإن سؤال السبب وراء الثورة سيغدو لغزا بالغ الإبهام. على أن حقائق ومعادلات تنطوى عليها مجموعة الأسباب البالغة التعقيد الماثلة وراء تفجر الثورة تطرح مباشرة قضية جدل السبب والنتيجة أىْ طبيعة الثورة وآفاقها بحكم إطارها التاريخى وخصائص قواها الفاعلة.
وقد عملت دوائر بعينها فى أعقاب الثورة على إغراق أىّ محاولة اجتماعية أو تاريخية لفهم هذه الثورات فى بحر من النظريات الفيزيائية التى تبرز اللايقين، وتعلن موت كل تفسير تاريخى للتاريخ، وكانت النتيجة المنطقية هى إعلان تفسير اللاتفسير فى فهم أسباب الثورة وبالتالى استحالة أىّ توقع للتطورات والآفاق والنتائج!
8 مارس 2012

















5
سباق رئاسى محموم فى مصر
بين مرشحين محتملين على رئيس محتمل لجمهورية غير محتملة
1: يحتدم فى مصر الآن سباق محموم بين مرشحين محتملين من قوى الثورة وقوى الثورة المضادة على رئيس محتمل لجمهورية غير محتملة ولكنْ فى اتجاه واحد بحكم طبيعة السباق ونتائجه: تصفية الثورة. وتشير كل المؤشرات إلى أن الرئيس القادم سيكون رئيسا رمزيا مجردا من السلطة الحقيقية، لجمهورية رمزية مجردة من كل شروط الجمهورية الحقيقية: حيث لا استقلال ولا ديمقراطية ولا دولة قانون، تماما كما كانت هذه الجمهورية منذ قيامها فى بداية الخمسينات! وهذا السباق المحموم يشارك فيه الجميع فلا يكاد يستثنى قوة من القوى السياسية: قوى الثورة جنبا إلى جنب مع قوى الثورة المضادة! وتتداخل وتتعارض وتتلاقى وتتصادم فى هذا السباق المحتدم حسابات لمصالح متنوعة طبقية وحزبية وفردية. ويكثر ويتكاثر المرشحون المحتملون كل يوم فلا قوى الثورة المضادة تتفق على مرشح واحد تقف جميعا وراءه وربما كان هذا منطقيا تماما لاختلاف حسابات المصالح بين قطاعاتها وقواها وأحزابها وانشقاقاتها وكذلك لحسابات أخرى تتعلق بالزعامات الفردية وحب الرئاسة، ولا قوى الثورة تتفق على مرشح واحد تقف جميعا وراءه لتعظيم فرص نجاحه فى سباق غير متكافئ على كل حال؛ بحكم أشياء كثيرة متنوعة ليس أقلها شأنا غياب المعايير الضرورية لانتخابات نزيهة أو نصف نزيهة أو عُشْر نزيهة فى مصر. ويتمثل الأمر الأكثر خطورة فيما يتعلق بقوى الثورة، بكل صفوفها الأمامية والخلفية، فى أنها تخوض هذا السباق أصلا (كما خاضت السباقيْن الپرلمانييْن السابقيْن) وتُوَجِّه كل طاقاتها إلى انتخابات پرلمانية ورئاسية عبثية بدلا من توجيهها إلى الفعل الثورى الذى يمكنه وحده أن ينقذ الثورة من المآزق التى تتورط فيها وأن يسير بها إلى الأمام. وهكذا تندفع قوى الثورة "وراء" مخططات وإستراتيچيات وتاكتيكات قوى الثورة المضادة فى اتجاه واحد: تصفية الثورة!
2: فما الذى يحرِّك ويدفع كل هذه القوى السياسية المتعارضة المصالح وكل هؤلاء المرشحين المحتملين المتعارضين ويوحدهم فى السير فى هذا الاتجاه المدمر؟ ومن المنطقى تماما أن توجِّه قوى الثورة المضادة كل طاقاتها إلى ركوب الثورة وسرقتها وتصفيتها وتدميرها باعتبار ذلك قضية حياة أو موت للطبقة الحاكمة ودولتها ونظامها ومختلف قطاعاتها والقوى والأحزاب والمجموعات السياسية المعبرة عنها. فالثورة المضادة بحكم التعريف ضد الثورة مهما تغنت كل قوى الثورة المضادة باسمها وعظمتها، ومهما لهجت ألسنتها بالثناء المنافق المكشوف عليها ليلا ونهارا. وهناك بالطبع قوى ثورة مضادة "تحب بل حتى تعشق" الثورة حقا لأنها فتحت أمامها فرصة تاريخية كبرى للقفز على الحكم غير أنها معادية للثورة وقواها وأهدافها الحقيقية ولا تكنّ لهذه الأشياء سوى الكراهية والحقد والنوايا الشريرة والعزم الراسخ على العمل المشترك مع باقى قوى الثورة المضادة على تمزيقها إربا إربا وتصفيتها ووأدها ودفنها وحراسة مدفنها بعد ذلك عن طريق تجريم الديمقراطية وتحريم المدنية وتمكين الدولة الدينية ودولة الخلافة. وبالتالى فإن مواقف قوى الثورة المضادة منطقية وتنسجم تماما مع مصالحها الحيوية التى تتمثل فى سرعة استعادة النظام (بالطبع بدون قيادة مبارك وأسرته ومجموعة ضيقة من رجاله المقربين من بين عصابته الرئاسية) على جثة الثورة، مستخدمةً، ضمن أسلحة أخرى، سلاح الاستفتاءات الدستورية والانتخابات الپرلمانية والرئاسية لاستخلاص شرعية جديدة والشروع فى إعادة البناء: إعادة بناء الأجهزة الأمنية لخدمة دولتها وشرعيتها وإعادة بناء الاقتصاد لسيطرتها فى ظل التبعية الاستعمارية القائمة المستمرة.
3: وإذا كانت قوى الثورة المضادة تركز، بصورة منطقية تماما، على الانتخابات التشريعية والانتخابات الرئاسية (وهى جميعا انتخابات غير دستورية ولا شرعية لها سوى شرعية الانقلاب العسكرى الذى أطاح بالرئيس السابق مبارك) فإن ما يحتاج إلى تفسير هو كثرة مرشحيها رغم محاذير تشتيت أو تفتيت الأصوات. والحقيقة أن المسار الفعلى للانتخابات الرئاسية الوشيكة لا مكان فيه لمغزى كبير لتشتيت الأصوات لأن نتائج الانتخابات سوف تُحْسَم سلفا بالصفقات المتوقعة التى لا مناص منها، والتى تتواتر أنباؤها منذ الآن، بين المجلس العسكرى وباقى قوى الثورة المضادة، ذلك أن اختيار الرئيس القادم يتم وفقا لمواصفات يحددها ويطبقها المجلس العسكرى بحيث يكون الرئيس العتيد طوع بنانه. ويبقى أن العدد الكبير للمرشحين المحتملين الذين يتحولون الآن إلى مرشحين فعليِّين ارتبط باعتبارات متنوعة تنطوى على تاكتيكات كما تنطوى على أوهام. فقد توهم أشخاص كثيرون أن "تلعب البلية"، ولم يكن أمامهم على كل حال عندما استحوذت عليهم مثل هذه الأوهام سوى ضرب أكثر من عصفور بحجر واحد هو حجر الترشيح أو الترشُّح الاحتمالى. فالمرشح أو المترشح المحتمل لأسباب سياسية حزبية قد يترشح كبالونة اختبار لمدى شعبيته أو شعبية حزبه لحسابه أو لحساب جهة حزبية أو غير حزبية ما وراءه، وقد يترشح لبناء قوة لنفسه أو حزبه أو جماعته للاستناد إليها فى الإقدام على تحركات سياسية تالية، وقد يترشح لأسباب شخصية وعائلية (لرفع شأن سجلّه الشخصى وشأن سجلّ عائلته)، ولأن اختلافات الرؤى أدت إلى انقسامات فى صفوف الإسلام السياسى كمثال صارخ كان كل مرشح محتمل ينتمى إليه يعمل على بناء شعبية لنفسه ولمجموعته لمنافسة حزبه الأصلى لانتزاع قيادته أو لجرّه وراءه والحصول على تأييده فى الانتخابات الرئاسية من خلال إثبات تفوقه على مرشحين محتملين آخرين للإسلام السياسى. وحتى لا يكون هناك أدنى غموض فى المقصود بالمرشحين المحتملين المنتمين إلى الثورة المضادة فإنهم المنتمون بصورة مباشرة أو غير مباشرة إلى قوى الثورة المضادة أىْ إلى المجلس العسكرى والإسلام السياسى والليبرالية اليمينية ورجال الحزب الوطنى المنحل بالإضافة إلى مستقلين ترتبط تجربتهم السياسية أو الفكرية بدولة الطبقة الحاكمة، وبنظام مبارك الذى كانوا من رجاله ذات يوم، وأولئك الذين لم يشكلوا معارضة حقيقية يسارية أو اشتراكية أو ليبرالية ذات يوم وينطلقون بالتالى من رؤية الطبقة الرأسمالية التابعة لمختلف القضايا السياسية والاقتصادية. ولا شك فى أن "احتمال" انتخابات نزيهة إلى حد ما كانت تغذى أوهام كثير من هؤلاء المرشحين المحتملين. ويدرك هؤلاء المرشحون المحتملون أن هذا الترشيح الاحتمالى سيكون مفيدا لهم على كل حال من خلال تعزيز مراكزهم كأشخاص ومجموعات وشلل فى مواجهة أىّ تطورات محتملة ضدهم فى المستقبل، فمثلا: وَضْع الفريق أحمد شفيق المرشح السابق لرئاسة جمهورية مصر، بحكم ما يحتمل أنه سيكون، سيكون أقوى من الوضع الحالى لهذا المطرود من الحكم.
4: وبالطبع فإن معظم هؤلاء المرشحين المحتملين على دراية كاملة بحقيقة أن منصب رئيس الجمهورية سيكون خاضعا للسيطرة الفعلية من وراء الكواليس للمجلس العسكرى مهما كان شخص الرئيس؛ ولكنهم لا يبالون. ويتسابقون جميعا على منصب لم يحدد الدستور الذى لم يُكتب بعد طبيعته لأنهم يعلمون أن الجمهورية الپرلمانية مستبعدة تماما من وجهة نظر النظام الحاكم، ويؤيدون جميعا الجمهورية الرئاسية بزعم أن حزب الأغلبية فى الجمهورية الپرلمانية سيركز على مصالحه الحزبية الضيقة، وكأن تجربتنا السابقة فى مصر لم تكن مع رؤساء جمهوريات كانوا فى الوقت نفسه رؤساء أحزاب، وكأن الجمهورية الرئاسية منعتهم من التركيز على مصالح الطبقة الرأسمالية التابعة وأفرادها وشللها وجماعاتها وعصاباتها وعلى المصالح الحزبية وعلى المصالح الشخصية والفردية فى عهود كل الرؤساء منذ قيام الجمهورية فى البلاد! وهناك عَبَدَة الديكتاتورات والمستبدين والطغاة الذين يرفعون شعارا مؤداه أن مصر بحاجة إلى رئيس قوى، وكأن الرؤساء السابقين الذين قادوا البلاد إلى الكوارث لم يكونوا أقوياء وجبابرة وطغاة وأنصاف آلهة! كما أن الحديث عن نظام رئاسى پرلمانى مختلط أو الفصل بين سلطات تشريعية وتنفيذية وقضائية متوازنة ليس سوى ذر للرماد فى العيون.
5: وإذا كانت صفقات "انتخاب" رئيس للجمهورية بين قوى الثورة المضادة تحركها دوافع أصيلة تتمثل فى تصفية الثورة فإن السؤال الحقيقى يتعلق هنا بموقف قوى الثورة أو حتى القوى التى عارضت نظام مبارك بصورة متماسكة نسبيا وانضمت إلى الثورة مهما كانت رؤاها ضبابية أو حتى معتمة. وتعلم قوى الثورة علم اليقين أن وصول مرشح منها إلى منصب رئاسة الجمهورية من رابع المستحيلات، كما تعلم علم اليقين أن الانتخابات سيتم حسمها بصفقة بين قوى الثورة المضادة، كما تعلم علم اليقين أن الشخص الذى سيشغل هذا المنصب سيكون تحت سيطرة المجلس العسكرى من وراء الكواليس، فلماذا تريد قوى الثورة ويريد مرشحوها هذا المنصب الذى لا يقدم شيئا إيجابيا على حين تُلحق المشاركة فى الانتخابات الرئاسية الأضرار الفادحة بالثورة من خلال ترسيخ السير فى الدروب والمسارات والمتاهات التى يحددها نظام المجلس العسكرى بعيدا عن الفعل الثورى؟!
6: فما الذى يحرِّك ويدفع قوى الثورة المصرية وكل مرشحيها المحتملين الذين يأخذون الآن فى التحول إلى مرشحين فعليِّين فى هذا الاتجاه المدمر؟ إن الأوْلَى بهذه القوى والأحزاب (ومرشحيها الرئاسيِّين) أن تركز طاقاتها المحدودة "بالفعل" فى فترات بعينها، وإنْ كانت غير محدودة "بالقوة" بوجه عام فى زمن الثورة، على تطوير الثورة بدلا من المشاركة فى تصفية الثورة، حتى بعد أن رأينا الحصاد المر للمشاركة فى الانتخابات الپرلمانية بدلا من مقاطعتها. ومع هذا تمضى هذه القوى بإصرار عنيد فى طريق المشاركة فى الانتخابات الرئاسية العبثية؛ وهى عبثية، أولا، لأنه لن يفوز مرشح من مرشحيها بالمنصب الذى سيُحسم بصفقة، وثانيا، لأن رئيس الجمهورية القادم سيكون أضعف رئيس جمهورية يحكم مصر لأنه لن يمارس سلطاته الدستورية فى الوضع الجديد. فلماذا كل هذا الإصرار بلا طائل، بلا أمل فى الفوز، وبلا سلطة فى حالة فوز افتراضى؟
7: هناك بالطبع أوهام مرشحين محتملين من قوى الثورة عن شعبيتهم، وبالتالى أوهام توسيع هذه الشعبية واستغلالها فى إثبات أن لقوى الثورة أو لحزب من أحزابها شعبية ينبغى أن يضعها النظام فى حسابات سلوكه السياسى فى المستقبل. وهناك بالطبع الأمجاد الذاتية الحزبية والشخصية التى يجدّ السعى إليها من خلال الانتخابات. وهناك بصورة خاصة فكرة استغلال الفرص التى تفتحها فترة الدعاية الانتخابية فى نشر الدعاية الثورية عن أهداف ومطالب الثورة. وتنطوى هذه الفكرة الأخيرة على مغالطة تقوم على موازنة خاطئة بين فرص الدعاية الثورية التى تسمح بها فترة قصيرة وضيقة ومقيَّدة من دعاية الانتخابات الرئاسية وفرص الدعاية الثورية التى تسمح بها فترات مفتوحة وواسعة وبلا قيود من الفعل الثورى. وهكذا توضع الطاقات الثورية فى المكان الخاطئ والعقيم بالتالى بدلا من وضعها فى المكان الصحيح والمثمر بالتالى.
8: وتنتشر أحيانا بين قوى الثورة إحباطات تعقب ثورة تطلعات فى سياق هذه الموجة أو تلك من موجات الثورة عندما لا تتحقق شعارات وأهداف جرى التركيز عليها وإعلان عدم توقف المظاهرات وعدم فض الاعتصامات قبل تحقيقها. وقد تكرر هذا مرارا ربما مع كل موجة وبالتأكيد مع كثير من اللحظات المهمة فى كل موجة. وهناك حجة دفاع عن المشاركة ضد المقاطعة تتمثل فى غياب بديل الفعل الثورى لأن الثورة سُرقت فلم نَعُدْ فى زمن الثورة. ومعنى هذا من وجهة نظر الرؤية السياسية التى تستند إليها هذه الحجة أننا نعود الآن إلى زمن الثورة المضادة المنتصرة متجهين إلى استقرار النظام الرأسمالى التابع وأننا ننتقل من تاكتيك مقاطعة الانتخابات الذى يفترض زمن الصراع بين الثورة والثورة المضادة إلى تاكتيك المشاركة الذى تفترضه الظروف العادية المستقرة وغير الثورية بعد انتصار الثورة المضادة فى معركة تصفية الثورة. وهكذا يبدو أن المعركة انتهت بالضربة القاضية، وأن زمن الفعل الثورى قد وَلَّى وانقضى وانتهى، وأنه لا بديل عن النضال الشرعى والدستورى والانتخابى مهما كانت ثماره هزيلة، وأنه آن الأوان للانصراف عن ميادين التحرير إلى مقار الانتخابات والنضالات اليومية البسيطة. والحقيقة أنه يمكن القول إن الثورة المصرية مرت إلى الآن بأربع موجات ثورية؛ حيث تمثلت الموجة الأولى فى زلزال 25 يناير 2011 والأسابيع التالية، وكانت الموجة الثانية هى موجة 8 يوليو 2011، وكانت الموجة الثالثة هى موجة 19 نوڤمبر 2011، وتمثلت الموجة الرابعة فى موجة 25 يناير 2012. وكانت لكل موجة من موجات الثورة إنجازاتها المهمة. والأهم أن الموجة الأخيرة لم تمض على تياراتها القوية سوى أسابيع قليلة وما زالت امتداداتها متواصلة أمام أعين وتحت أسماع الجميع فى كل مكان فى مصر. فكيف يمكن لشخص أن يتصور أن زمن الثورة قد وَلَّى مع أن موجتها الأخيرة لم يمض عليها وقت طويل؛ فوق أن تياراتها مستمرة ومحتدمة بأشكال أخرى تتمثل فى الاحتجاجات المسماة بالفئوية إلى جانب أنشطة ومبادرات عامة للثورة ما تزال موجودة فى الميدان والمصنع وفى كل مكان؟!
9: وبالتالى فإن السؤال المنطقى حقا هو: وما البديل؟ فهل هناك مجال فعلى لنضال فعلى بعيدا عن المجال الذى تفتحه الانتخابات الرئاسية الآن والپرلمانية من قبل؟ غير أن السؤال الحقيقى هو استمرار الثورة والجواب الحقيقى هو استمرار الثورة! ليس بمعنى أن نعمل على نفخ الحياة فى ثورة انتهت بل بمعنى البحث عن طُرُق وأساليب ووسائل وأدوات تطوير هذه الثورة التى ما زالت مستمرة بكل عنفوانها. وإذا كانت الثورة قد انتهت فعلا كما يعتقد أشخاص فى صفوف قوى الثورة، وكما يبشر نفسه وأنصاره الدكتور محمد بديع المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين عندما يقول: "إننا نرى في بلادنا مصر وفي منطقتنا بل في العالم أجمع الآن– تقلبات وصراعات طال أمدها، واشتد سعارها، واكتوى الناس بلهيبها لكنها توشك أن تنجلي وتنطفئ نيرانها" حيث "آن الأوان لكي تعود حضارة الإسلام لتشرق من جديد على البشرية كلها، وتملأ الأرض عدلاً ونورًا بعدما مُلئت ظلمًا وفجورًا" (كما جاء فى بوابة الأهرام 15 مارس 2012)؛ .... إذا كانت الثورة قد انتهت فإنه يمكن لقوى الثورة أن تفعل ما تشاء، أن تعيش إحباطها العميق أو أن تنتقل بمرونة إلى إستراتيچيات وتاكتيكات ومواقف تتلائم مع فترات استقرار النظام الرأسمالى التابع. غير أننا أشرنا منذ قليل إلى تهافت هذه الرؤية المتشائمة بانتهاء الثورة فى صفوف قوى الثورة والمتفائلة عند جماعة الإخوان المسلمين وبين باقى قوى الثورة المضادة. بل الثورة مستمرة شئنا أم أبينا فهذه ظاهرة "موضوعية" لا جدال فيها مهما كانت مخاوف أو رؤى أو مواقف أو إحباطات الطليعة بكل روافدها وتياراتها وأيديولوچياتها. ذلك أنه لا مناص من أن تتواصل هذه الثورة التلقائية الكبرى إلى أن تتحقق أهدافها الأساسية، مع إدراك أن أمواجها يمكن أن ترتفع وتنخفض، تمتد وتتقلص، تقوى وتضعف، تنشط وتستريح، ولا ينبغى النظر إلى فترات انخفاض أمواجها على أنها مؤشر حاسم على تراجع وانحسار الثورة بصورة نهائية، فربما كانت مجرد استراحة من استراحات محارب عنيد لا يلقى سلاح نضاله الثورى فى سبيل حقوقه. ولعل من الجلى أن الثورة صارت خبز يوم شعب لا يمر يوم من أيامه دون مقاومات عديدة فى مواقع عديدة فى طول البلاد وعرضها. والسؤال البديهى هنا هو: ألا يمثل هذا النشاط الثورى اليومى المتواصل للعمال والعاملين والمهنيين والطلبة وباقى فئات الشعب مجالا واسعا توضع فيه الطاقات الثورية للطليعة بأفرادها وجماعاتها وأحزابها ونقاباتها العمالية والمهنية لتطوير هذه الاحتجاجات والاعتصامات والإضرابات والمظاهرات من حيث الوعى والتنظيم وتحقيق الأهداف الملائمة لكل فترة؟
10: وتفوت المنادين بالمشاركة فى الانتخابات الرئاسية اليوم والپرلمانية أمس حقائق بسيطة: حقيقة أن الثورة الشعبية التلقائية الكبرى مستمرة، حقيقة أن أنشطة الثورة التى يمكن النظر إليها فى بعض الأحيان وفى بعض الأحوال على أنها أنشطة متدنية إنما هى إعداد متواصل لأحداث دراماتيكية أو "مشهدية"، كما يقال، حقيقة أن تصوُّر أن الثورة تستمر دائما بنفس قوتها الأولى واندفاعها الأول أو أنها تحقق أهدافها بسرعة فى فترة قصيرة: فى يوم فى شهر فى سنة فى سنتين، خطأ يقودنا إلى خطأ الحكم المتسرع بأن الثورة فشلت أو انتهت أو انتهى زمنها.
11: البديل إذن هو الفعل الثورى بالمشاركة النشيطة الفعالة فى احتجاج ثورى أو توعية ثورية وسط الاحتجاجات التى لا تهدأ أو بناء أو تنشيط أو تفعيل أو تطوير حزب أو حركة أو نقابة مستقلة. فما الذى قادنا إلى هذا التركيز على الاستفتاءات الدستورية والانتخابات الپرلمانية والرئاسية بدلا من التركيز على تطوير الثورة؟ أعتقد أن الثورة فى موجتها الأولى ركزت بصورة صحيحة على السلطة السياسية، على رأسها وقمتها وقياداتها وعلى قمم مؤسساتها بالإضافة إلى مجموعة من الأهداف السياسية والاجتماعية العامة. وكان هذا التركيز هو السبب فى الإنجازات المهمة التى تحققت خلال تلك اللحظة التاريخية وتعمقت وترسخت فى المراحل اللاحقة. غير أنه كان من نتائج ذلك التركيز الشديد الصحيح تماما على السلطة السياسية العليا ومؤسساتها الأساسية استمرار نفس التركيز على مؤسسات الدولة، هذا التركيز الذى قام فى المراحل التالية بدور مضلل يلقى بطبيعة الثورة وأهدافها الكامنة فيها إلى مناطق مبهمة. والحقيقة أن هذه النقطة تحتاج إلى مقال مستقل فى سياق نقد تفصيلى لرؤى وبرامج ومواقف وتاكتيكات وشعارات قوى الثورة، ولا يتسع المجال هنا إلا لإبداء قليل من الملاحظات المتعلقة بهذه النقطة.
12: وكان شعار "الشعب يريد إسقاط النظام" شعارا يمثل إستراتيچية الثورة، وتمثلت استجابة قوى الثورة المضادة فى أنها رأت فيه شعارا غايته إسقاط رئيس النظام وأسرته ومجموعة تضيق أو تتسع من رجاله، فيما أرادت قوى الثورة بهذا الشعار إسقاط النظام وليس الاقتصار على إسقاط رأسه أو قمته أو قيادته العليا. وسرعان ما تبلور هدف إحلال مجلس رئاسى مدنى انتقالى محل القيادة السياسية العليا على أن يتم تكليفه بتحقيق الأهداف السياسية الديمقراطية والاقتصادية الاجتماعية للثورة. وكانت أبرز المهام والأهداف فى تلك المرحلة إلى جانب رحيل الرئيس وأسرته ورجاله تتمثل فى حل مؤسسات الدولة أو النظام فلا فرق فى ظل مثل هذا الحكم (وبالأخص حل مجلسىْ الشعب والشورى) على أساس دستور جديد، وحل الحزب الوطنى، وإطلاق حريات تكوين الأحزاب والنقابات والجمعيات والروابط والاتحادات، وحرية الصحافة والإعلام، وحريات التظاهر والاعتصام والإضراب ومختلف أشكال الاحتجاج السياسى والاقتصادى والاجتماعى، واستقلال القضاء وإلغاء القوانين المقيدة للحريات وإلغاء المحاكم الاستثنائية، وإلغاء قانون الطوارئ ورفع حالة الطوارئ، وإعادة هيكلة أجهزة الأمن والمخابرات، وتحقيق مستويات معيشة كريمة لكل المواطنين من خلال أجور مرتبطة بالأسعار وشروط عمل ملائمة وخلق فُرَص عمل كافية وتوفير الرعاية الصحية الشاملة، وغير ذلك.
13: وتمثلت الإنجازات الأولى فى إسقاط الرئيس وأسرته وحلقة ضيقة من عصابته (وإنْ بانقلاب عسكرى من داخل النظام ولمصلحته فكانت له عواقبه الوخيمة)، وفى عودة الروح إلى الشعب المصرى ودخوله بكامله فى مرحلة ثورة كبرى وكسر حاجز الخوف وإمساكه بزمام المبادرة السياسية وفى نجاحه فى إلحاق هزيمة ساحقة ومهينة بأجهزة القمع فى سياق دفاع بطولى عن النفس، وكذلك فى مجال التعرية الشاملة لطغيان وفساد النظام أمام الشعب كله وأمام العالم كله. وقد تحققت بعد ذلك بخطوة متلكئة بعد خطوة متلكئة وبالتدريج ("بالقطارة" فى الحقيقة) أهداف وشعارات أخرى مثل حل مجلسىْ الشعب والشورى والحزب الوطنى، ورفع "حالة" الطوارئ (مع استثناء يُلغى القاعدة) مع بقاء قانون الطوارئ الاستبدادى ذاته، وكذلك توسيع مجال تكوين الأحزاب (رغم قيود جديدة)، وإجراء تعديلات دستورية طالبت بها حركات سياسية مهدت للثورة فى الأعوام السابقة للإطاحة ﺑ مبارك، تلك التعديلات التى كانت تمثل شيئا إيجابيا قبل الثورة فصارت تمثل كابوسا كأساس غير دستورى لتشريعات وقوانين وسياسات ونُظُم تدَّعى الدستورية مع أنها غير دستورية انطلاقا من الاستفتاء عليها وإصدار الإعلان الدستورى على أساسها.
14: ولأن الرئيس تم خلعه ولم يتم سجنه كما لم تتم محاكمته طوال قرابة ستة أشهر كان لا مناص من مواصلة النضال من أجل محاكمته على جرائمه قبل الثورة وجرائمه أثناء الثورة قبل وبعد الإطاحة به، ولأن الرئيس حل محله المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية، بصورة انتقالية مؤقتة، فتولَّى سلطاته الدستورية بحكم شرعية الانقلاب كان لا مناص من توجيه الاهتمام إلى الانتخابات الرئاسية، ولأن المؤسسات التى تم حلها لم يتم إحلالها كان لا مناص من توجيه الاهتمام إلى الانتخابات الپرلمانية، ولأنه لم يتم الرضوخ فى البداية لحكم المجلس العسكرى إلا بوصفه حكما مؤقتا غايته ستة أشهر كان لا مناص مع حدوث فجوة متزايدة الاتساع بينه وبين الثورة من توجيه الاهتمام نحو إنهاء الحكم العسكرى وتسليم السلطة لمجلس رئاسى مدنى توافقى (ونلاحظ هنا أن الإسلام السياسى كان قد أخرج نفسه بحكم تحالفه مع المجلس العسكرى من أىّ حسابات توافقية ولم يحدث انقشاع أوهام قوى الثورة نهائيا عن الإخوان المسلمين وباقى قوى الإسلام السياسى وبالتالى الطلاق البائن بين الإسلام السياسى وقوى الثورة إلا خلال الموجة الثورية الثالثة التى بدأت فى 19 نوڤمبر 2011 وذلك بعد أن عمق الإخوان المسلمون والسلفيون بسلوكهم المعادى للثورة التناقض والفجوة بينهم وبين قوى الثورة). وجرى كل ما لا مناص منه بأقصى التركيز من جانب قوى الثورة. ومن هنا صار التركيز على القضايا المتعلقة بالسلطة العليا أشد من التركيز على قضية تطوير الثورة فى اتجاه هدفها الكبير، أىْ هدف الديمقراطية الشعبية من أسفل، وعلى حساب هذا الهدف فى الحقيقة لاسيما وأن تطورات الصراع بين الثورة والثورة المضادة أضافت قائمة طويلة من جرائم النظام الجديد إلى قوائم جرائم النظام السابق، وصار على رأس القائمة حق شهداء الثورة على الثورة متمثلا فى سرعة محاكمة القتلة والحكم عليهم وتنفيذ هذا الحكم.
15: وبحكم الضباب الذى صار يحجب حقيقة طبيعة الثورة عن طليعتها وقياداتها وقواها، هذه الطبيعة التى لم يتم إدراكها بوضوح تام، ساد عدم إدارك حقيقة أن هدف الثورة الكامن فى صميمها إنما يتمثل فى الديمقراطية الشعبية من أسفل. وبالتالى فإنه بدلا من التركيز بقدر المستطاع على هدف تحقيق هذه الديمقراطية، جرى التركيز بأكثر كثيرا من المستطاع على إصلاح السلطة السياسية من أعلى لتحقيق الديمقراطية من أعلى. وساد فى البداية وحتى فى مراحل لاحقة وحتى فى الوقت الحالى أحيانا اعتقاد بأن السلطة سوف تنتقل من الطبقة الرأسمالية التابعة للإمپريالية العالمية إلى قوى الثورة التى ستقيم الديمقراطية من أعلى، وبالتوازى والتكامل مع هذا ساد اعتقاد بأن الديمقراطية تتمثل فى الفصل بين سلطات تشريعية وتنفيذية وقضائية متوازنة. وبما أن مثل هذا النوع من التفكير يقود إلى تصوُّر مؤداه أن پرلمانا يأتى أعضاؤه من صفوف قوى الثورة فى إطار دستور جديد ديمقراطى ويقوم على الفصل بين السلطات الثلاث المتوازنة ويمنحه بالتالى الاستقلال والتوازن يمكن أن يكون وحده التجسيد الحى فى الواقع الفعلى لمفهوم الديمقراطية بالمعنى الحقيقى.
16: وكان هذا يعنى نسيان وتجاهل أن النظام الرأسمالى (المتقدم المستقل تماما مثل المتخلف التابع) يقوم ليس فقط على فصل سلطات متوازنة (وهى غير متوازنة فى الحقيقة) بل يتكامل هذا الفصل القانونى الشكلى مع التوحيد أو الاندماج الفعلى بحكم انتماء هذه السلطات جميعا إلى الطبقة الرأسمالية الحاكمة التى تحكم من خلال هذه الأدوات التى تشكل معا ما نسميه بالدولة على أساس دستور نفس هذه الطبقة. فالپرلمان هو پرلمان الطبقة الرأسمالية الحاكمة وسلطتها التشريعية، ومؤسسة رئاسة الجمهورية و/أو مجلس الوزراء يمثلان سلطتها التنفيذية، فيما يمثل القضاء سلطتها التشريعية التى يحكمها دستورها ويصدر تشريعاته وقوانينه للحفاظ على والدفاع عن مصالحها الأساسية. وباختصار فإن الپرلمان هو پرلمان الطبقة الرأسمالية الحاكمة والرئاسة رئاستها والقضاء قضاؤها والدستور دستورها والجمهورية جمهوريتها والدولة دولتها وهى تتألف من كل هذه المؤسسات بكل فروعها وامتداداتها؛ وإذا كان من وظائف هذه الدولة تخفيف الصراع بين الطبقات (وفى الحقيقة تأجيجه فى كثير من الأحيان) فإن هذه الوظيفة قائمة أصلا لحماية مصالح وسيطرة واستبداد واستغلال ونفوذ وفساد الطبقة الرأسمالية. وينطبق هذا على البلدان الرأسمالية المتقدمة انطباقها على البلدان الرأسمالية التابعة، كما ينطبق من الناحية الجوهرية على الجمهورية الرئاسية والجمهورية الپرلمانية على السواء، وعلى الملكية المطلقة والملكية الدستورية/الپرلمانية على السواء. أما الاعتقاد الذى ساد بأن السلطة السياسية ستنتقل بنجاح الثورة الجارية من الطبقة الرأسمالية التابعة إلى قوى الثورة فكان يرجع أيضا إلى عدم إدراك طبيعة الثورة وطبيعة أهدافها النابعة من خصائصها. ذلك أن الثورة السياسية التى تأتى فى سياق ثورة اجتماعية (كما كان الأمر فى ثورات البلدان الرأسمالية الصناعية الحالية) تنقل السلطة من الطبقة المالكة والحاكمة فى إطار النظام الانتقالى القائم قبل الثورة إلى الطبقة الرأسمالية المالكة والحاكمة بعد الثورة، حيث ينتقل إلى سيطرتها الطبقية كل من الاقتصاد والسلطة السياسية وكل شيء آخر. أما ثورات العالم الثالث أىْ المستعمرات وأشباه المستعمرات السابقة فإنها لا تحدث فى سياق الثورة الاجتماعية بمفهومها الصحيح وإنما تحدث فى سياق التبعية الاستعمارية حيث تبقى السلطة بعد نجاح الثورة المعادية للطبقة الرأسمالية التابعة فى أيدى نفس الطبقة، ونكون بالتالى أمام استمرار التبعية واستمرار الطبقة الرأسمالية التابعة واستمرار سلطتها واستمرار شكل متغير من أشكال ديكتاتوريتها مهما نجحت ضغوط الديمقراطية الشعبية من أسفل عليها أو تقلصت هذه الديمقراطية تحت ضرباتها. ولا يعنى هذا إغلاق نتائج الصراع بين الديمقراطية الشعبية من أسفل مع الطبقة الرأسمالية التابعة واستغلالها وديكتاتوريتها من أعلى بعد ثورة ناجحة على وضع ساكن أو سكونى إستاتيكى فقد شددتُ فى كتاباتى السابقة على احتمال انفتاح آفاق أوسع من التصنيع والتقدم والاستقلال (وحتى الثورة الاشتراكية عند اكتمال شروطها الأممية) أمام قوى الثورة التى تجسد الديمقراطية الشعبية من أسفل.
17: ومهما يكن من شيء فقد أدى سوء التفاهم فيما يتعلق بطبيعة الثورة الحالية والأهداف المنطقية لمثل هذه الثورة إلى التركيز الصحيح على محاكمة القيادة السياسية للنظام السابق على جرائمه قبل الثورة وأثناء الثورة وعلى محاكمة أركان النظام الجديد المسمَّى بالانتقالى على جرائمه أثناء وبعد الثورة. على أن هذا أدى إلى تكريس التركيز على إصلاح وترميم السلطة العليا ومؤسسات الدولة على حساب تطوير الثورة كما سبق القول. وتمثلت ثمرة شهور من التركيز (بين أشياء أخرى) على محاكمة مبارك وأسرته ورجاله فى وضع الرئيس السابق فى قفص الاتهام فى الموجة الثانية للثورة، التى بدأت فى 8 يوليو 2011. وكانت وما تزال هناك من أسفل "ثورات" إيجابية لا حصر لها ضد الإدارة "المرفوضة" والمديرين "المرفوضين" فى مختلف المواقع الصناعية والإدارية والإعلامية ومختلف الشركات والجامعات وغيرها. غير أن هذا التكريس للتركيز على إصلاح الدولة من أعلى أدى إلى أخطاء.
18: ولأن المجلس الأعلى هو الذى يتولى حكم وإدارة البلاد (ودون وجه حق)، ولأنه يحكم ويدير البلاد بالطريقة العسكرية الأوامرية المعهودة، ولأنه نظم مذابح دموية لقوى الثورة من خلال الجيش أو من خلال وزارة الداخلية أو من خلال البلطجية، ولأنه لم يف بوعوده فى الرحيل فى موعد محدد سابق، ولأنه أثار الشكوك بشأن استعداده للرحيل أصلا، ولأن مؤشرات ودلائل وتحليلات لا حصر لها ترجِّح أنه سوف يتولى السلطة الفعلية لأعوام طويلة قادمة بصورة غير رسمية من وراء الكواليس مهما كانت الحكومة ومهما كان رئيس الحكومة ومهما كان رئيس الجمهورية،.... لكل هذا أصبح رحيل المجلس العسكرى الشعار الأبرز بين شعارات الثورة، فقد تنامى شيئا فشيئا إلى أنْ تبلور تماما وبرز بقوة منذ موجة 8 يوليو الثورية وترسخ إلى حد جعل الثورة تطالب بتسليم السلطة على الفور؛ ولمَنْ؟ لأعداء آخرين للثورة فى صفوف قوى الثورة المضادة، فى شخص مجلس الشعب أو رئيسه أو لجنة يعيِّنها أو باقتراحات تضم قيادات من الإسلام السياسى رغم مواقفه المعادية للثورة. ومن الناحية التاكتيكية جرى فى كثير من الأحيان ربط وقف المظاهرات أو فض الاعتصامات بالرحيل الفورى للمجلس العسكرى وكانت الاعتصامات تنفض و"ترحل" دون أن يرحل المجلس العسكرى، بكل الإحباطات الناشئة من ذلك، إلى حد صار معه مثل هذا التاكتيك مثيرا للضحك. والواجب الإلزامى بالطبع هو المطالبة برحيل المجلس العسكرى ورفض حكمه المباشر وكذلك حكمه غير المباشر من وراء الكواليس، بشرط ألا يتحول رحيل المجلس العسكرى إلى "جَنُّونَة" كما حدث مرارا بدلا من المطالبة برحيله بمعنى دعائى مع وضع الطاقات الجبارة للثورة فى هذه الموجة الثورية أو تلك حول مطالب بالغة الأهمية يمكن أن تتحقق بالتركيز الشديد الضاغط عليها بحيث يكون تحقيقها قهرا سياسيا مباشرا للمجلس العسكرى وكسرا لإرادته العنيدة كما حدث عند إجباره على وضع الرئيس السابق فى قفص الاتهام متهما بقتل أبناء "شعبه" ويا للعار! وبتاكتيكات صحيحة كان وما يزال من الممكن المطالبة برحيل ومحاكمة المجلس العسكرى كشعار دعائى وتحقيق أهداف مهمة مثل تحديد حد أدنى للأجور مع ربط الدخل بالأسعار، ومثل محاكمة الرئيس السابق ليس فقط على جرائمه أثناء وبعد الثورة بل على جرائمه هو ونظامه خلال ثلاثين عاما من حكمه مع التعجيل بمحاكمته هو ورجاله بدلا من المماطلة السياسية الطابع فى الوقت الحالى بالتلاعب بإجراءات القضاء. أقول هذا رغم أننى طالبت وأطالب بإقالة ومحاكمة المجلس العسكرى على جرائمه السياسية والأمنية أثناء وبعد الثورة (وكذلك جرائمه المحتملة أو المرجَّحة فى الحقيقة قبل الثورة)، وتشكيل قيادة عسكرية جديدة للقوات المسلحة المصرية من ضباط وجنود مؤيدين للثورة ومؤهلين لهذه القيادة، وينحصر اعتراضى على طريقة الصراع مع هذا المجلس على أساس لا للمجلس العسكرى، لا لمجلس الشعب، لا للإسلام السياسى، لا لرجال وأحزاب الحزب الوطنى، لا لليبرالية اليمينية، لا لكل قطاعات الرأسمالية التابعة الحاكمة ولكل تعبيراتها السياسية بكل تجليلتها، لا للأحزاب ذات المرجعية الدينية التى هى أدوات إقامة الدولة الدينية على جثة الدولة المدنية العلمانية، و.... نعم للاستفادة بالتناقض بين قوى الثورة المضادة دون أىّ تحالف مع أىّ قوة منها ضد أخرى.
19: ويتمثل ما هو أكثر خطورة مما سبق فى حقيقة أن تكريس التركيز على إصلاح السلطة من أعلى يدفع قوى الثورة وبالأخص شبابها إلى اندفاع نحو الاستفتاءات الدستورية والانتخابات الپرلمانية والرئاسية فى سباق محموم مع قوى الثورة المضادة على تنفيذ الخطة الموضوعة للتصفية التدريجية للثورة وهى خطة الانتخابات الپرلمانية والرئاسية! وذلك بدلا من الفعل الثورى وتطوير الثورة وبناء الديمقراطية الشعبية من أسفل من خلال المعارك الثورية فى الميادين والشوارع والمصانع والجامعات ومجالات أجهزة الإعلام والمجالات النقابية العمالية والفلاحية. ففى العالم الثالث والمنطقة العربية ومصر لا قيمة للپرلمان وفى أوضاعنا الراهنة لا قيمة أيضا لرئيس الجمهورية وهذه المؤسسات جميعا إنما هى أدوات دولة الطبقة الحاكمة. ويوفر زمن الثورة مجالات واسعة للدعاية الثورية خارج مناسبات مثل هذه الانتخابات الپرلمانية والرئاسية التى ينبغى أن نقاطعها لتركيز طاقاتنا وجهودنا على الفعل الثورى على العكس من اتباع تاكتيك المشاركة فيها فى الفترات العادية التى يسود فيها استقرار النظام الرأسمالى فلا توجد حتى نضالات ثورية ذات وزن.
20: وتتعدد الأمثلة على نتائج سلبية نبعت من تكريس التركيز على "إصلاح" السلطة السياسية من أعلى، على أن المجال الذى لا يتسع للتوسع فى ضرب الأمثلة وتحليلها يضطرنا إلى التركيز على الفكرة الرئيسية فى هذا المقال: مقاطعة الانتخابات الرئاسية الوشيكة التى تمثل مهزلة حقيقية ولا حاجة بنا إلى مزيد من تأكيد عبثيتها التى تتمثل (بين أشياء أخرى) فى أنها ليست سوى انتخابات شكلية يتم حسمها بالصفقات التى تتحول إلى أصوات فى صناديق الانتخابات جنبا إلى جنب مع كل الأساليب الأخرى المكرسة مصريا وعربيا وفى العالم الثالث كله فى تزوير الانتخابات وكذلك تلك المكرسة لتزييف إرادة الشعوب فى العالم كله، والأهم أننا بصدد انتخاب أضعف رئيس جمهورية لأنه سيكون فى الحقيقة رئيسا پروتوكوليًّا ليس لأنه سيكون رئيسا فى جمهورية پرلمانية بل لأنه سيكون "الأراجوز" الذى تحركه رؤوس أصابع المجلس العسكرى من وراء الكواليس. ومع هذا ارتفع عدد المرشحين إلى الآن إلى المئات وسيتحول مرشح محتمل تُقْبَل أوراقه منهم إلى مرشح فعلى وسيتسابق هؤلاء المرشحون الفعليون على رئيس محتمل سيتحول إلى "أراجوز" فعلى لجمهورية غير محتملة لأنها مجردة من كل الخصائص الديمقراطية حتى الشكلية للجمهورية الحديثة!
16 مارس 2012















6
طبيعة وآفاق الثورة المصرية
(ملخص لافتتاحية الحوار المفتوح)

أولا: تقديم
1: حملت افتتاحيتى للحوار المفتوح فى الفترة من 12 إلى 26 فبراير على صفحات موقع مؤسسة الحوار المتمدن هذا العنوان: الثورة المصرية وآفاق الديمقراطية الشعبية من أسفل. وتدور هذه الندوة كما أفهمنى الدكتور أحمد الأهوانى حول ذلك الحوار المفتوح بافتتاحيتى وتعليقات القراء والقارئات وردودى عليها. وقد تمنيت على الرفيق رزكار عقراوى المسؤول البارز بمؤسسة الحوار المتمدن نشر هذه الندوة بكاملها على صفحات موقعها فرحب بذلك كما رحب بنشر إصدارات حزب العمال والفلاحين من الآن فصاعدا، وأرجو أن تفعل كل أحزاب اليسار نفس الشيء لضمان وصول مواقفها إلى اليسار العربى أينما كان بسرعة وعلى نطاق واسع.

ثانيا: ثورة سياسية شعبية بلا أدنى شك
2: لأسباب متنوعة هناك مَنْ يرون أننا لسنا إزاء ثورة. وتتعدد الرؤى والمعايير التى ينطلق من جهاتها المختلفة الرأى الذى ينكر أنها ثورة. هناك، مثلا، مَنْ يتصور أن هذا الحدث الكبير لم يقلب حياتنا البائسة رأسا على عقب كما ينبغى وفقا لهذا التصور أن نتوقع من ثورة. والحقيقة أنه لا توجد ثورة تفعل ذلك فى غمضة عين. بل إن الثورة الاشتراكية ذاتها لا تستطيع أن تفعل هذا فى الأجل القصير وحتى المتوسط، بل إنه لا مناص من أن تؤدى الثورات غير الاشتراكية إلى إعادة تنظيم المجتمع وفقا لمصالح طبقة استغلالية جديدة على أساس انتقال السلطة السياسية والسيطرة الاقتصادية إلى هذه الطبقة، أما الشعوب فقد تخرج منها بمكاسب حقيقية يمكن إيجازها فى عبارة الديمقراطية الشعبية، أو الديمقراطية الشعبية من أسفل، أو الديمقراطية من أسفل، أو ببساطة: الديمقراطية، التى لا يمكن إلا أن تكون شعبية ولا يمكن إلا أن تكون من أسفل. وهناك مَنْ يتصور على هذا النحو أهدافا للثورة ويحكم بأنها ليست ثورة لأنها لم تحقق هذه الأهداف. وهناك مَنْ يرى أننا لا نستطيع الحكم على حدث كبير بأنه يمثل أو لا يمثل ثورة إلا بعد نجاحها أو فشلها بحيث نعتبرها ثورة فى حالة النجاح فقط، مع أنه يكفى للحديث عن ثورة أن يثور شعب عن بكرة أبيه ولفترة ممتدة ولأهداف سياسية واجتماعية أساسية كبرى بالمعايير الحقيقية الكامنة فى صميم طبيعة الثورة، غير أن الثورة، مع أنها ثورة، قد تنجح وقد تفشل، قد تنتصر وقد تُهْزَم؛ وويل لثورة مهزومة! وهناك بوجه خاص إنكار مفهوم الثورة السياسية على ثورتنا انطلاقا من أن الثورة السياسية تقودها طبقة اجتماعية جديدة تنتزع، فى حالة نجاحها، السلطة السياسية من أيدى طبقة اجتماعية حاكمة سابقة، باعتبار أن هذا لا ينطبق على الثورة المصرية كما أنه لا ينطبق على باقى ما يسمى بثورات الربيع العربى. وهذا، بالطبع، صحيح باعتبار أن ثوراتنا الراهنة ومعظم ثورات العالم الثالث تنتهى إلى استمرار الطبقة الرأسمالية التابعة فى السلطة السياسية مع استمرار التبعية الاستعمارية بعد كل ثورة مهما كانت مكاسب الطبقة العاملة وباقى الطبقات الشعبية، غير أننا هنا إزاء مسألة شائكة لا يمكن النجاح فى مناقشتها وحسمها قبل التوصل إلى تفسير علمى دقيق لطبيعة الثورات السياسية فى العالم الثالث.

ثالثا: طبيعة الثورات العربية الراهنة
3: ينبغى أولا التمييز بين الثورة الاجتماعية والثورة السياسية فى العصر الحديث. وأعنى بالثورة الاجتماعية التحول الرأسمالى التدريجى أصلا والسريع العاصف بعد تطور الرأسمالية فى العالم، فيما تعنى الثورة السياسية الثورة الجماهيرية الشعبية المفاجئة التى تتمثل وظيفتها التاريخية فى إزالة العقبات والعراقيل والقيود من طريق الثورة الاجتماعية، أىْ التحول الرأسمالى المتواصل قبل وبعد الثورة. وبالطبع فإن الثورة الاجتماعية وأداتها السياسية المتمثلة فى الثورة السياسية تصنعان معا ما يمكن أن نسميه الثورة السياسية فى السياق التاريخى للثورة الاجتماعية. ونسترشد هنا بنصيْن شهيريْن من ماركس: " ففى معرض حديثه فى "رأس المال عن "عملية تحويل أسلوب الإنتاج الإقطاعىّ إلى أسلوب إنتاج رأسمالىّ" يشتمل النص الأول على الفكرة المهمة المتمثلة فى أن الثورة السياسية ليست عاصفة عاتية تنقضّ فجأة تحت سماء صافية، وليست ضربتها العنيفة المفاجئة، بل هى "الدَّاية" (القابلة أو المولِّدة): "العنف داية كل مجتمع قديم حامل بمجتمع جديد. وهو ذاته قوة اقتصادية". ومن الجلىّ أن المقصود بالعنف هنا هو الثورة السياسية. وفى النص الثانى ( "معجم الماركسية النقدى"، الصادر عن صفاقس وبيروت، فى 2003)، نقرأ، نقلا عن أعمال ماركس و إنجلس الكاملة: "كل ثورة تلغى المجتمع القديم [...] ثورة اجتماعية، وكل ثورة تلغى السلطة القديمة [...] ثورة سياسية".
4: وقد تتخذ الثورة السياسية شكل الثورة السياسية الجماهيرية (ثورة 1789 الفرنسية على سبيل المثال) كما أنها قد تتخذ شكل الثورة السياسية الفوقية التى تُحْدِثها فى سياقها التاريخى ثورة اجتماعية رأسمالية فوقية فى شكلها اليونكرى الپروسى ونموذجها الأنقى ثورة أريستقراطية الميچى فى الياپان. وقد أدت هذه الثورات الاجتماعية التى هى ثورات التحول الرأسمالى وأدواتها السياسية المتمثلة فى الثورات السياسية عند مستويات بعينها من تطورها إلى نشأة وتطور ونضج رأسماليات البلدان التى صارت بلدانا رأسمالية صناعية متقدمة رغم تنوُّع مستويات تقدُّمها وخصوصية تركيبة كل بلد منها.
5: ونتيجة، من جهة، لتأخر باقى بلدان العالم عن اللحاق برأسمالية الغرب وبانتشار هذه الأخيرة ممتدة إلى مناطق أخرى فى العالم فى "الشمال"، ونتيجة، من جهة أخرى، لنشأة وتطور عالم البلدان التى صارت بلدانا صناعية رأسمالية متقدمة، أىْ نتيجة لسيطرة البلدان الصناعية التى صارت إمپريالية على باقى العالم، والسيطرة بالتالى على سيرورتها وصيرورتها، نشأ عالم المستعمرات وأشباه المستعمرات الذى سُمِّىَ عند بلوغ مرحلة بعينها بالعالم الثالث فالتصقت به التسمية رغم الأوضاع المتغيِّرة.
6: وشهد العالم الثالث بدوره ثورات يمكن وصفها بالثورات السياسية لأنها رغم عدم مساسها بصورة جوهرية بالتبعية الاستعمارية وعدم نقلها للسلطة من طبقة اجتماعية إلى طبقة اجتماعية أخرى كانت تدور مع هذا حول أهداف كبرى تتعلق بالاستقلال الوطنى والديمقراطية والعدالة الاجتماعية. وقد حالف النجاح بعض هذه الثورات فيما عجزت غالبيتها عن تحقيق أهدافها إلا بصورة جزئية ومؤقتة فى أفضل الحالات. فقد نجحت الثورة السياسية الشعبية الكبرى فى الصين فى تحويل الصين الشعبية إلى بلد صناعى رأسمالى متقدم، وفى المقابل انكفأت الثورة السياسية الشعبية الإيرانية على نفسها وغرقت فى مستنقع الدولة الدينية الاستبدادية والتبعية الاستعمارية اقتصاديا والتضخم والبطالة والإفقار رغم ما سمحت به الثروة النفطية من تقدُّم فى بعض المجالات التى يأتى فى مقدمتها مجال السلاح. وهناك بالطبع انقلابات عسكرية تطلعت أحيانا إلى ما تطلعت إليه الثورات السياسية فصارت انقلابات عسكرية أيدها الشعب وصارت بنعمة الرب ثورات نموذجها الأكمل انقلاب يوليو 1952.
7: وكما هو متوقع فى ثورات العالم الثالث كقاعدة تجيئ الثورات وتذهب، وتبقى التبعية الاستعمارية والرأسمالية المحلية التابعة وديكتاتوريتها حيث تتواصل التبعية الاستعمارية فى مصر على سبيل المثال بعد ثورة 1919، وانقلاب يوليو 1952 العسكرى، ومن المتوقع أن تستمر حتى بعد ثورة 25 يناير 2011. وقد جاءت ثورة 1919 بديمقراطية شعبية من أسفل، وعصف بها الانقلاب العسكرى فى يوليو 1952، ومن المأمول أن تتمثل محصلة الثورات الراهنة فى الديمقراطية الشعبية التى تمثل تغيُّرا تاريخيا فى حالة المجتمع ليس فقط من حيث الحريات والحقوق الديمقراطية بل من حيث تحوُّل شامل فى الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للطبقات العاملة والشعبية والفقيرة.
8: وإذا كان العالم الحديث والمعاصر قد انقسم إلى عالمين هما العالم الصناعى الرأسمالى الإمپريالى وعالم الرأسمالية التابعة فيما يسمى بالعالم الثالث (وسبب الانقسام هو سيطرة العالم الأول على العالم الثالث أو الثانى بالأحرى على الأقل الآن بعد زوال الكتلة الشرقية) فقد صار للثورة السياسية سياقان تاريخيان: سياق الثورة الاجتماعية وسياق التبعية الاستعمارية، فى غياب الثورة الاجتماعية بالمفهوم الوارد أعلاه، أىْ فى غياب التحول الرأسمالى والثورة الصناعية.
9: ولا شك فى أننا لسنا إزاء السياق التاريخى لثورة اشتراكية ببداهة غياب شروط هذه الثورة فى الوقت الحالى ليس عندنا فقط بل فى العالم كله بلا استثناء، كما أنه لا شك فى أننا لسنا إزاء السياق التاريخى لثورة رأسمالية بحكم واقع التبعية الاقتصادية والسيطرة الاستعمارية؛ هذا الواقع الذى قطع طريق تطور الرأسمالية الصناعية فى بلدان العالم الثالث كله ومنها بلدان عالمنا العربى. ومعنى هذا أنه ليس من المفترض أن تحقق هذه الثورات السياسية تحولا اجتماعيا تاريخيا إلى رأسمالية صناعية متطورة تضع حدا للتبعية الاستعمارية لأن مثل هذا التحول يفترض تطورا اجتماعيا اقتصاديا صناعيا طويل الأمد قبل الثورة يكون نموه التراكمى قد أحدث التحول الفعلى قبل انفجار الثورة السياسية التى تنقل إلى طبقته القيادية أىْ الطبقة الرأسمالية سلطة الدولة. وعلى أساس إدراك واضح لطبيعة الثورة يتمثل هدف الثورة فى الديمقراطية الشعبية من أسفل، هذا الهدف المحدد الذى تنبع منه الإستراتيچيات والتاكتيكات الملائمة لتحقيقه بدلا من متاهات يلقى بنا إليها غياب رؤية واضحة.
رابعا: الصراع المفتوح بين الثورة والثورة المضادة
10: وقبل أن ننتقل إلى مناقشة قضايا تتعلق بإستراتيچيات وتاكتيكات الديمقراطية الشعبية من أسفل، سيكون من المناسب أن نفكر جيدا فى المسار الفعلى المتوقع للصراع الحالى بين الثورة والثورة المضادة. وإذا كانت الديمقراطية الشعبية من أسفل هى الهدف الطبيعى لمثل هذه الثورة من وجهة نظر مصلحة حياة ونضال الطبقة العاملة والطبقات الشعبية جميعا فإن المسار المتوقع للثورة المضادة هو ذلك الذى يقود فى نهاية المطاف إلى استمرار نفس النظام بنفس الطبقة الرأسمالية التابعة الحاكمة الآن مع بقاء سلطة الدولة فى أيدى هذه الطبقة. ويمكن أن يتحقق بقاء النظام الرأسمالى من خلال طريقيْن محتمليْن نظريا وقائميْن فعليا فى سياق الصراع الحالى: طريق أو إستراتيچية التصفية التدريجية للثورة (طريق تونس ومصر)، وطريق أو إستراتيچية التصفية العنيفة أو الحربية للثورة (طريق ليبيا وسوريا واليمن).
11: ويبدو أن طريق التصفية التدريجية للثورة أكثر ملاءمة لمصالح كلٍّ من طرفىْ الصراع أىْ لكلٍّ من الثورة والثورة المضادة. والمسار الطبيعى لهذا الطريق ملائم للثورة لأنها يمكن فى سياقه أن تجد الوقت لتنمو وتتطور وتنضج من خلال صراعات ونضالات ومعارك متواصلة فتزداد الجماهير وقياداتها تسييسا ووعيا بالثورة وأهدافها وصولا إلى تأسيس الديمقراطية الشعبية من أسفل؛ مع تفادى المجازر والمذابح والإبادات الواسعة النطاق كما شهدنا فى ليبيا وكما نشهد الآن فى سوريا واليمن. كما أن هذا الطريق ملائم تماما من الناحية الموضوعية للثورة المضادة فهو يساعدها على الاحتفاظ بالنظام الرأسمالى وبالطبقة الرأسمالية التابعة وبالتبعية الاستعمارية التى تمدها بشبكة أمان من التحالفات الدولية التى تحميها داخليا ودوليا. ومن البديهى أنه سيكون على هذه الطبقة الرأسمالية التابعة التسليم فى المدى القصير والمتوسط ببعض عناصر مقتضيات الديمقراطية الشعبية من أسفل من حريات وحقوق ومستويات معيشة أفضل على أساس أجور أفضل وشروط عمل أفضل وعلى أساس استقلال القضاء وحرية الصحافة وشمول الرعاية الصحية وغير ذلك مضحيةً بجانب من أرباحها ومداخيل فسادها وغير ذلك. وهنا تكون الديمقراطية من أسفل ضريبة بقاء الطبقة الحاكمة التى لا مناص من أن تدفعها تحت ضغط استمرار الثورة. والأساس المزدوج لنجاح هذا الطريق يتمثل، من جهة، فى استمرار الثورة بنضالاتها الثورية بالإضراب والتظاهر والاعتصام وكل الأشكال الفعالة للاحتجاج الثورى السلمى، ويتمثل، من جهة أخرى، فى استمرار الثورة المضادة فى طريق التصفية التدريجية للثورة الذى اختارته عندما قام المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية بالانقلاب العسكرى الذى أطاح بالرئيس السابق لحماية النظام ضد الثورة.
12: والحقيقة أن مصير الطبقة الرأسمالية المالكة بصورة مباشرة والحاكمة بصورة غير مباشرة يتوقف فى سياق الصراع بين الثورة والثورة المضادة على اختيار الثورة المضادة لأحد الطريقيْن المذكوريْن أعلاه فى تصفية الثورة. وتختار الطبقة الحاكمة هذا الطريق أو ذاك وفقا لتقديراتها وحساباتها وكذلك وفقا لمستوى تماسكها الداخلى ومدى انسجام قواها ومؤسساتها وأجهزتها وقطاعاتها وأقسامها. ورغم أن طريق التصفية التدريجية للثورة هو الخيار الأفضل للطبقة الحاكمة إلا أن أوضاعها الفعلية وتقديراتها وحساباتها التى تحتمل الخطأ والصواب، يمكن أن تورِّطها فى الانزلاق إلى طريق التصفية العنيفة الحربية للثورة!
13: وكما سبقت الإشارة فإن النظام الرأسمالى التابع باقٍ فى الحاليْن، ما دام البديل الاشتراكى للرأسمالية غير وارد فى برنامج مثل هذه الثورات التى لا تهدد بالتالى بقاء النظام الرأسمالى التابع. غير أن طريق التصفية التدريجية يمكن أن يؤدى، حتى فى حالة نجاح الثورة فى تحقيق هدفها الموضوعى أىْ الديمقراطية الشعبية من أسفل، إلى بقاء نفس الطبقة الرأسمالية التابعة مهما ضحَّت بكباش فداء من قادتها ورجال دولتها ورجال اقتصادها. أما طريق التصفية العنيفة/الحربية للثورة فإنه يهدد فى حالة نجاح الثورة، رغم بقاء الرأسمالية التابعة كنظام اجتماعى اقتصادى سياسى، بتدمير الطبقة الرأسمالية المالكة والحاكمة بأفرادها ورجال أعمالها وأصحاب شركاتها وكتلها ومختلف أقسامها لصالح إعادة تشكيل طبقة رأسمالية تابعة جديدة انطلاقا من نُخَب جديدة كان بمستطاعها قيادة الثورة لأنها تشكل جزءًا لا يتجزأ منها أو لأنها استطاعت سرقتها. فمن جهات عديدة تساهم قوى الثورة محليا وقوى متنوعة إقليميا ودوليا فى تدمير الطبقة الرأسمالية التى تحارب شعبها بكل قوة جيشها. وهنا تنتقل سلطة الدولة من طبقة رأسمالية تابعة مهزومة إلى طبقة رأسمالية تابعة تمر بعد ذلك بمختلف أطوار التكوين والنمو والتطور والنضج كطبقة. وقد حدثت إعادة تشكيل الطبقة الرأسمالية لصالح طبقة رأسمالية جديدة وانتقال السلطة إليها، فى تجارب ثورية وغير ثورية عديدة منها البلدان الفاشية المهزومة فى الحرب العالمية الثانية، ومنها ثورات ثمانينات وتسعينات القرن العشرين فى البلدان الناشئة عن انهيار وتفكك الاتحاد السوڤييتى السابق وبلدان رأسمالية الدولة فى شرق وجنوب أوروپا، وهى تحدث حاليا من أعلى فى الصين الشعبية بقيادة الحزب الشيوعى الصينى، كما حدثت فى تجارب عديدة فى العالم الثالث مع التأميمات وصعود أشكال من رأسمالية الدولة التابعة كما حدث فى إيران فى سياق إحلال الجمهورية الإسلامية محل نظام الشاهنشاه. وفى مصر أعيد تشكيل الطبقة الرأسمالية التابعة المهزومة غير مرة كما حدث فى سياق انقلاب 1952 العسكرى بإصلاحه الزراعى وتمصيراته وتأميماته و"تنميته"، وكما حدث فى سياق الانفتاح والخصخصة وتصفية القطاع العام فى عهدىْ السادات و مبارك.
14: وأعتقد أن تقديرات وحسابات المجلس العسكرى لاحتمالات هذا الخطر بالذات فى حالة انتهاج طريق التصفية الحربية للثورة هى التى دفعت المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية إلى خيارها الإستراتيچى المتمثل فى طريق التصفية التدريجية للثورة رغم كل أشكال القمع الأمنى العنيف التى ارتكبها بمذابحه واعتقالاته ومحاكماته العسكرية. وقد أمكن اختيار هذا الطريق التدريجى انطلاقا من غياب البديل الاشتراكى فهنا تدرك الطبقة الحاكمة أنها لا تحارب وظهرها إلى الحائط. ويتحدث كثيرون عن "خروج آمن" يسعى إليه المجلس العسكرى انطلاقا من تصور خاطئ يفصله عن الطبقة الحاكمة التى ينتمى إليها والتى يدافع عن وجودها واقتصادها وسلطتها واستقرار نظامها ولا يبحث عن "مخرج آمن" لأفراده وثرواتهم ومصالحهم.
خامسا: تاكتيكات المجلس العسكرى فى الثورة المضادة
15: وهناك بالطبع أسطورة شائعة تزعم أن المجلس الأعلى قد تدخَّل فى السياسة لحماية الثورة والشعب. وانطلاقا من أساس نظرى عسكرى عام ومن واقع تاريخى يتمثل فى أن كل الثورات المكلَّلة بالنجاح قد انتصرت فى مواجهة جيوش قوية تضربها بكل قوتها فإنه لا حاجة بالشعوب إذن لحماية أحد، فقد كان الواقع الفعلى عندما تدخل المجلس العسكرى فى السياسة فى بداية الثورة هو أن الثورة كانت قد ألحقت هزيمة عسكرية ساحقة بجيوش وزارة الداخلية. والسؤال المنطقى هنا هو: مِمَّنْ كان المجلس العسكرى يحمى الشعب والثورة؟ من نفسه؟! والواقع أنه لم يحمهما حتى من نفسه هو! فقد جرى فتح السجون واستخدام البلطجية على أوسع نطاق لترويع الثورة والشعب وكان المجلس العسكرى حاضرا بجيشه فى الشوارع والميادين فى مختلف مدن مصر، ومنذ ذلك الحين لم يكف المجلس عن مطاردة وملاحقة قوى الثورة عسكريا وإعلاميا وقضائيا.
16: وعلى أساس إستراتيچية شاملة هدفها حماية النظام واستعادته، جرى اعتماد التاكتيكات التى بدأت بالانقلاب العسكرى الذى أطاح بالرئيس مبارك (وهو انقلاب قصر بمعنى الانقلاب ضد القيادة السياسية للنظام من داخل النظام ولمصلحة إنقاذه وحمايته) بعد إجباره مع إعلان تنحيته على اتخاذ قرار بعنصر رئيسى من عناصر سياسة الفترة اللاحقة يتمثل فى تحديد مَنْ يحل محله وذلك بتكليف المجلس الأعلى بتولِّى سلطات رئيس الجمهورية، وكان قد أمر قبل ذلك بيوم واحد بإجراء تعديلات على الدستور لتكون نقطة انطلاق التاكتيكات التشريعية فى الفترة الانتقالية اللاحقة. وكانت الإطاحة بالرئيس مبارك ضربة معلم من جانب المجلس الأعلى باعتباره وفقا لرؤيته نقطة تجمُّع رفض قوى الثورة جميعا للنظام وموضع إجماعها وكان الإجماع ينعقد بصورة عامة على هذا بالفعل بين قوى الثورة الحقيقية التى قامت بالإعداد للثورة وتفجيرها وقيادتها والسير بها إلى الأمام والاستمرار بها إلى يومنا هذا عبر مختلف موجات الثورة ونضالاتها ومعاركها وأنشطتها وقوى شاركت فى الثورة للحصول على غنائمها وجوائزها فى أسرع وقت وخانت الثورة فور تحقيقها لهدفها فلم تكن فى حقيقتها قوى ثورية بل كانت فى الواقع من قوى الثورة المضادة. وهكذا استطاع المجلس الأعلى تحقيق تهدئة وإنْ مؤقتة للثورة والحصول على ثقة وإنْ مؤقتة من أقسام كبيرة من قوى الثورة والشعب. وانطلاقا من هذه الضربة الناجحة التى لا يستهان بتأثيرها على تطور الثورة فى تلك الفترة المبكرة تتابعت التاكتيكات الخبيثة.
17: وبالطبع استغلَّ المجلس الأعلى، تلك "الثقة" المكتسبة وارتدى مظهر داعم الثورة وحاميها وراعيها ومنقذها وضمانة تحقيقها لأهدافها والضابط الواعى المخلص لإيقاعها ووقع خطاها وخطواتها زاعما إدراكه للطابع التدريجى الاضطرارى لتحقيق المطالب خاصة فى غياب الأساس الدستورى للتغيير المنشود والموارد المالية اللازمة لتلبية مطالب العدالة الاجتماعية. ومستغلًّا أيضا ما اعتبره تسليما إنْ لم يكن ترحيبا من الشعب بحكمه فى الفترة الانتقالية، تلكأ أو تباطأ أو رفض الاستجابة لمطالب الثورة المتعلقة بالمجلس الرئاسى المدنى والحريات والحقوق والعدالة الاجتماعية، وراح يطبق بقية تاكتيكاته الخبيثة. ويمكن الحديث هنا فى خطوط عريضة عن تاكتيكاته فى أربعة مجالات أساسية.
18: وفيما يتعلق بالتعامل مع مبارك وأسرته ورجاله ومؤسساته، عمد المجلس الأعلى فى مرحلة أولى استغرقت أشهر عديدة بترك مبارك ورجاله وأجهزته يتفرغون لتهريب أموالهم وبعض أشخاصهم وترتيب أوضاعهم وأوراقهم وفَرْم وثائق إدانتهم قبل اتخاذ أىّ إجراءات قانونية ضدهم بحبسهم على ذمة قضايا أو التحقيق معهم، مع تقديمهم إلى المحاكمة عند الاضطرار تحت ضغط الثورة وكانت موجة 8 يوليو 2011 الثورية هى التى أدخلت مبارك فى قفص الاتهام بعد الثورة بقرابة نصف عام. واليوم بعد الثورة بعام كامل ما تزال المحاكمات تراوح مكانها محاطة بالشكوك حول جديتها من حيث إجراءات التقاضى ومن حيث الأحكام المتوقعة ومن حيث الابتعاد عن جوهر ما ينبغى أن يحاكم عليه رئيس جمهورية والحلقة الضيقة من رجاله المحبوسين ومطلقى السراح، ولم يتم حل الحزب الوطنى إلا بعد مماطلات طويلة ومع السماح بإنشاء أحزاب بقيادة كوادره وتضييق عدد كوادره الخاضعين للعزل إلى مجموعة ضيقة. وجرى اتباع أسلوب التغاضى والتجاهل والتهاون مع والتستر على مرتكبى أفظع الجرائم أثناء وبعد الثورة بما فى ذلك مرتكبى المذابح الشنيعة منذ المذابح الكبرى فى ميادين التحرير فى يناير 2011 إلى مذبحة بورسعيد البشعة الرهيبة فى فبراير 2012.
19: وفى مجال التعامل مع إعادة بناء المؤسسات "الشرعية" للبلاد، لم يجر حل مجلسىْ الشعب والشورى أو الحزب الوطنى أو حتى حكومة أحمد شفيق إلا بصورة اضطرارية بعد التباطؤ المتواطئ الذى كان طويلا جدا فى حالة حل الحزب الوطنى وفشل كل محاولة عنيدة للاحتفاظ بالمؤسسة المعنية من هذه المؤسسات. ولم يَرْفَع المجلس الأعلى حالة الطوارئ إلا بعد الثورة بعام كامل مع استثناء لحالة البلطجة وهو استثناء يُلغى مغزى رفعها مع الالتفاف حول مسألة أن الهدف الرئيسى فيما يتعلق بقانون الطوارئ ليس مجرد رفع حالة فرضه بل إلغاء هذا القانون الاستبدادى ذاته وإعداد قانون عادى للطوارئ. وجرى "سلق" التعديلات المسماة بالدستورية والاستفتاء عليها فى 19 مارس 2011 لتتوالى مراسيم المجلس بقوانين منها الإعلان الدستورى وقوانين مجلسىْ الشعب والشورى وقانون الأحزاب وقانون تجريم التخريب ضد الإضرابات والاعتصامات العمالية المسماة بالاحتجاجات الفئوية فى المحل الأول وقوانين عديدة آخرها قانون الأزهر وقانون الانتخابات الرئاسية. وعلى هذا تحددت خطة جهنمية لصرف الثوار عن الثورة لفترة ممتدة من خلال استفتاءات وانتخابات پرلمانية ورئاسية. وهكذا يكون قد تم بناء المؤسسات "الديمقراطية" المطلوبة لتسليم السلطة للمدنيَّين وعودة الجيش إلى ثكناته وانتقال المجلس الأعلى إلى الحكم من وراء الكواليس.
20: والمظهر الأكثر بروزا للتحالف الطبقى الذى عمل المجلس الأعلى على إنشائه يتمثل فى المحل الأول فى التحالف مع قوى سياسية تعبِّر عن أقسام وقطاعات متعددة من نفس الطبقة: طبقة الرأسمالية الكبيرة التابعة. وكان تركيز المجلس الأعلى منذ البداية على التفاوض مع قوى الإسلام السياسى وبالأخص مع الإخوان المسلمين والليبرالية اليمينية. وكان التحالف ناجحا بكل معنى الكلمة لأن هذه القوى تنتمى جميعا إلى الطبقة الرأسمالية التابعة. فالمجلس الأعلى يمثل رأس الحربة فى الطبقة وسلطة دولتها ونظامها وفى الثورة المضادة، كما أنه فاعل اقتصادى رئيسى بحكم سيطرته على اقتصاد الجيش وامتيازاته، وبحكم كون أعضاء المجلس والكثيرين من كبار القادة العسكريِّين من ذوى الرُّتَب العليا فى الجيش جزءًا لا يتجزأ من الطبقة الرأسمالية التابعة. كما أن قادة الإخوان المسلمين والسلفيِّين والليبرايين اليمينيين ورجال الحزب الوطنى وأحزابه الجديدة وغيرهم ممثِّلون سياسيون لمصالح قطاعات كبرى من الرأسمالية الكبيرة التابعة. وتؤلف هذه القوى معا أركان حرب الثورة المضادة. على أن تباعُد الأيديولوچيات واختلاف التاريخ السياسى بما فى ذلك الخلافات المدمرة للثقة بينها والتنافس المحموم بين مختلف كتل وقطاعات نفس الطبقة الواحدة على الغنائم والجوائز السياسية والاقتصادية للثورة تبتعد بهذه القوى عن الانسجام الجرانيتى الفولاذى المتوهَّم لأقسام طبقة واحدة بحيث لا تعرف التعارض والتناقض بل تجعل العلاقات وحتى التحالفات بينها حافلة بالتناقضات؛ ويجدر بقوى الثورة أن تفهم طبيعة وأشكال ومستويات هذه التناقضات وأن تدرك أن استفادتها منها تمدُّها بقوة مضافة، بعيدا عن التصورات الشعبوية التى تتجاهل التناقضات فيما تركز على الوحدة بين قطاعات الطبقة الواحدة.
21: وفيما يتعلق بتعامل المجلس الأعلى مع الثورة والنضالات الثورية، صارت الثورة، كما هو متوقع، شعار المعادين لها قبل أن تكون شعار المؤمنين بها، وصار التغنِّى بعظمة وروعة الثورة العبارة الأولى الافتتاحية لبدء الهجوم عليها، وسرعان ما اتضح أن المجلس يستخدم مزيجا من العنف والاستمالة فى التعامل مع القوى الحقيقية للثورة. على أن محاولات استمالة شباب الثورة تراجعت بسرعة وتفاقم استعمال العنف وحتى العنف المفرط الذى وصل مرارا إلى حد تنظيم المذابح. وقد عوملت القوى الحقيقية للثورة بتاكتيكات التصفية التدريجية التى مزجت بين حملات الافتراء والتشويه والهجوم الأيديولوچى والإعلامى العدوانى المتواصل ضد الثورة، وصرف الثوار عنها بتكتيكات تكثيف الاستفتاءات والانتخابات ومختلف إجراءات إرساء قواعد تأسيس شرعية النظام الجديد القديم، وكذلك بالعنف المباشر بالاعتقالات الواسعة النطاق والمحاكم والأحكام العسكرية والتعذيب والمذابح المنظَّمة فى كثير من الأحيان. وقد تمادى فى استخدام العنف والتعذيب والمذابح، وهو يواصل العمل بلا هوادة على التصفية التدريجية للثورة مع إحاطتها بهواجس ومخاوف الانزلاق إلى الطريق الآخر: طريق الحرب الأهلية! ويصاب رجل الشارع والثوار والمحللون بالحيرة إزاء هذا السلوك الاستفزازى المتواصل للمجلس بمذابحه وبالكثير من قراراته وإجراءاته، بوصف كل هذا متناقضا بحدة مع خيار التصفية التدريجية؛ حيث يغدو السؤال الملحّ: هل يريد هذا المجلس التخلِّى عن خيار التصفية التدريجية للثورة واللجوء بدلا من ذلك إلى خيار التصفية العسكرية العنيفة لهذه الثورة؟ أم هو الغباء السياسى؟ والحقيقة أن علينا أن ندرك أن الغباء السياسى ظل عاملا فاعلا أساسيا طوال التاريخ!
سادسا: تاكتيكات وشعارات الثورة
22: تركزت الأهداف الأساسية لهذه الثورة السياسية بامتياز، كما عبرت شعاراتها المعبِّرة عن مطالبها، على إسقاط النظام مطالبةً بالحرية والعدالة، وبرزت فى المقدمة الشعارات المطالبة بإسقاط الرئيس مبارك، والدستور، والپرلمان بمجلسيه، والحزب الوطنى الحاكم، وقانون الطوارئ، والفساد، وتحقيق الحريات والحقوق الديمقراطية، وعلى رأسها حقوق التظاهر والاعتصام والإضراب، والمساواة بين المصريِّين على أساس المواطنة دون تمييز على أساس العقيدة أو نوع الجنسين (المرأة والرجل) أو غير ذلك، واستقلال القضاء، وحرية الصحافة، والعدالة الاجتماعية بالمستويات المعيشية اللائقة بالأجور العادلة المرتبطة بالأسعار، والحياة الكريمة، والرعاية الصحية، والتعليم المجانى، والقضاء على البطالة الواسعة النطاق، والاستغلال الوحشى، والغلاء الفاحش، والتضخم الجامح، والأسعار المسعورة، وغير ذلك. وظل الشعار الأساسى للثورة هو: الشعب يريد إسقاط النظام. فماذا يعنى النظام؟ وماذا يعنى إسقاطه؟ يعنى النظام فى هذا السياق عدة أمور أساسية منها شكل الحكم المتمثل فى نظام الحزب الواحد الذى ورث الاتحاد الاشتراكى القديم مهما سمح إلى جانبه بقيام أحزاب هزيلة بحكم التضييق الپوليسى والإدارى والقانونى عليها مع ترسانة من القوانين والترتيبات التى تحظر التأسيس الحر للأحزاب وغيرها من أدوات النضال السياسى والاجتماعى والاقتصادى والنقابى والفكرى، مع ترسيخ هياكل وآليات شاملة لتزييف إرادة الشعب فى الانتخابات العامة والمحلية كل عدة أعوام عن طريق التزوير والبلطجة والترويع وشراء الذمم والقيود التشريعية والقانونية غير الدستورية، وفى ظل وكنف مثل هذا الشكل الديكتاتورى الپوليسى للحكم تنمو وتعشش كل أشكال وأنواع الفساد، هذا الفساد الذى أمسك بخناق المجتمع المصرى من منبت شعره إلى أصابع أقدامه، وهو فساد لا يقتصر على شكله الرئيسى المتمثل فى تكوين الثروات الطائلة التى تتكدس فى بنوك سويسرا وغيرها بفضل الاستغلال الفاحش واللصوصية والنهب على أوسع نطاق، وبالأخص من خلال الخصخصة التى تمت بأساليب لصوصية للقطاع العام وأملاك وأراضى الدولة، بل يمتد هذا الفساد إلى كل مناحى ومجالات الحياة العامة بصورة شاملة من خلال الرشاوى فى كل خطوة واستغلال النفوذ فى كل معاملة وعند كل منعطف. والحقيقة أننا، كما سبق القول، إزاء ثورة سياسية لن يتحقق نجاحها إلا بإسقاط هذا النظام بشكل حكمه الديكتاتورى وبكل آليات فساده وبكل رجاله وبكل تراكم ثرواته من خلال التأميم والمصادرة واسترداد أموال الدولة التى هى أموال الشعب. ورغم الأهمية الحاسمة لشكل الحكم فإن إسقاط النظام يعنى ضمن ما يعنى هدمه وبناء نظام جديد بالكامل ليس بشكل الحكم فحسب بل بكل نتائج عقود طويلة من تراكم الثمار المرة للفساد فى ظل كل الرئاسات السابقة والذى بلغ ذروته فى ظل رئاسات الرئيس مبارك.
23: وتعاقبت موجات الثورة بعد الانكشاف الواضح للخديعة الكبرى التى روَّجها المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية التى قامت بتسويق نفسها كحامية وضامنة للثورة. فقد تواصل الاستشهاد وآلاف الإصابات وجرائم التعذيب والإهانة وآلاف الاعتقالات والإحالة إلى المحاكم العسكرية وحملات الافتراء ومختلف ابتكارات صرف الناس بعيدا عن النضالات الثورية بالانتخابات وغيرها. وصارت الموجات الثورية هى التى ترسل الرئيس ورجاله إلى قفص الاتهام وتسقط الحكومات وتجبر المجلس رغم عناده على تنازلات وإجراءات. ورغم الرفض العنيد من جانب المجلس وحلفائه لسلطة مجلس رئاسى مدنى، ظل هذا المطلب مطروحا بقوة طوال العام، وكانت موجة 8 يوليو 2011 الثورية هى التى تبلورت فيها محصلة تراكمات فى مواجهة السلوك السياسى والأمنى للمجلس وتمثلت هذه المحصلة فى حفر هوة هائلة بين الثوار والمجلس ظلت تزداد حدة إلى أن تحولت مع مذبحة ماسپيرو ومذبحتىْ أوائل وأواخر موجة 19 نوڤمبر 2011 الثورية إلى قطيعة، وصارت شعارات إسقاط المجلس والمشير وتسليم السلطة للمدنيِّين هى موضع التركيز فى الاحتجاجات الثورية اللاحقة. وهنا جاءت انتخابات مجلس الشعب لتدفع إلى مقدمة التطورات پرلمانا يسيطر حزب الحرية والعدالة الإخوانى وحزب النور السلفى على واحد وسبعين فى المائة من مقاعده تضاف إليها مقاعد إسلامية أخرى ولم تَعُدْ الأحزاب الليبرالية اليمينية واليسارية والمستقلون تحوز حتى على الثلث المعطل وهكذا صارت الأحزاب التى تُعَدّ أدوات مباشرة للدولة الدينية تمثل سلطة التشريع والرقابة فى مصر. ووجد شعار تسليم السلطة للمدنيَّين تجسيده فى شعارات تفصيلية متقاربة من الناحية الجوهرية تتلخص فى تسليمها قبل الانتخابات الرئاسية لمجلس الشعب الإخوانى السلفى أو لرئيسه الإخوانى أو للجنة تحسم اختيار عضويتها الأغلبية الإخوانية السلفية، وصار الوضع يهدد حتى اختيار لجنة الدستور مهما أحاط نفسه بالقيود والقواعد، كما صار يهدد انتخاب رئيس الجمهورية بواقع أن أغلبية القاعدة الانتخابية فى مصر صارت للمنادين بالدولة الدينية، مهما علا صوت الحديث عن التوافقية التى يفرضها على كل حال المجلس العسكرى وقوى الأغلبية. وفى أعقاب الموجة الراهنة للثورة التى بدأت فى 25 يناير 2012 وارتفاع تيارات الموجة الثورية الجديدة بعد المذبحة المروِّعة التى استشهد فيها قرابة مائة وربما أكثر من شباب الأولتراس مع نحو ألف مصاب فى بورسعيد وسقوط شهداء جدد فى القاهرة والسويس مع آلاف المصابين فيهما فى مجرى الاحتجاجات على مذبحة بورسعيد، تدل مؤشرات عديدة على أرجحية وضع سلطة دولة نفس الطبقة الرأسمالية التابعة فى أيدى دعاة الدولة الدينية كنتيجة مباشرة لمطالب وشعارات الثورة التى نادت بالدولة المدنية الديمقراطية، مع عدم إغفال حقيقة أن ميزان القوة يفرض بوجه عام أن تبقى السلطة الفعلية فى أيدى المجلس الأعلى من وراء الكواليس على مدى فترة كافية لإعادة بناء نفس النظام بصورة مستقرة من جديد، وهى فترة قد تستغرق أعواما. ويدعو هذا التناقض الفظ بين الأهداف الحقيقية للثورة ونتائجها الوشيكة للبحث عن تفسير يبدو أنه يكمن فى غياب رؤية واضحة لدى الثورة، غير أن كثيرين لا يرون تناقضا بين الأهداف الأصلية المستمرة وهذه النتائج المباشرة على أساس دعوى أن الإسلام السياسى، الذى يعانى بدوره تناقضات فى صفوفه، لا يملك حلًّا سحريا للمشكلات والأوضاع الاجتماعية الاقتصادية بحيث يغدو محكوما عليه بالفشل وعلى حكمه بطابع مؤقت، وهذا أمر غير مضمون على الإطلاق ولنا عبرة فى حكم آيات الله فى الجمهورية الإسلامية الذى استطال لأكثر من ثلاثة عقود رغم العجز الطويل عن كبح جماح التضخم أو الحدّ من البطالة!
24: وأعتقد أنه كان من الملائم للثورة مقاطعة كل هذه الاستفتاءات والانتخابات الپرلمانية والرئاسية والتبنى الحازم لإستراتيچية "لا" للمجلس الأعلى المعادى للثورة و "لا" للإسلام السياسى الإخوانى السلفى المعادى للثورة، وعدم الإقدام على اللعبة الخطرة المتمثلة فى الوقوف فى صف أحدهما ضد الآخر بدعوى أن الإسلام السياسى يتمثل فى مجلس نيابى منتخب بوصفه پرلمان الثورة مع أننا نعلم كيف جرت الانتخابات وكيف تحقق الانتصار فيها لقوى فى صفوف الثورة المضادة تماما مثل المجلس العسكرى الذى هو مركز قيادة الثورة المضادة. وكان الملائم لتطور الثورة مع منحها فترة ممتدة من الزمن أن تتواصل كثورة لا تلتفت إلى ألاعيب المجلس الأعلى على رأس الثورة المضادة، وأن تركز على معارك تحقيق مكوِّنات الديمقراطية الشعبية من أسفل. وعلى كل حال فإن انتهاء الانتخابات الپرلمانية والرئاسية لا يمكن أن يعنى انتهاء الثورة بل يعنى بداية مرحلة جديدة من الثورة: ضد النظام الجديد القديم مهما اختلف سطحه الأيديولوچى!
25: والحقيقة أن غياب الرؤية الثورية هو الذى يقف وراء مشكلة شعارات الثورة ونقاط تركيز مختلف الموجات الثورية. ولعل من البديهيات التى لا يختلف عليها اثنان أن أحد العوامل الأساسية لمصير ثورة أىّ ثورة تتمثل فى وعيها بنفسها وإدراكها الواضح لطبيعتها والنتائج المرجوة منها وبالتالى الأهداف التى يجرى النضال لتحقيقها وهو وعى يتولد وينمو وينضج عند طليعة ثورية كما يتولد وعى تلقائى عفوى بالوضع القائم والحلم بوضع مختلف بصورة بالغة التعقيد لدى جماهير الشعب. وكان لدى هذه الجماهير الثائرة ضد الحياة اللاإنسانية المفروضة عليها الوعى العفوى الكافى للانفجار فى ثورة وكان لدى جيل له خصائص جديدة تماما من الشباب وعى أعلى نسبيا وروح عنيدة من الصلابة والبسالة والتفانى والفداء والشهادة والاستماتة فى النضال حتى النهاية فى سبيل حياة كريمة تليق بالبشر. وعند هذا المستوى يمكن القول إن الشعار الأساسى للثورة كان صحيحا تماما وكذلك كانت الشعارات المتفرعة عنه والمتشعبة منه. وهكذا كان وعى الشعب الذى ثار وعيا تلقائيا عفويا بحقيقة الأوضاع الاقتصادية الاجتماعية التى يعانيها، وكان وعى الطليعة التى فجرت الثورة وعيا أعلى وإن كان يموج بالتيارات الفكرية والسياسية التى لا تُعَدّ ولا تُحْصَى بالإضافة إلى كونها كقاعدة عامة تيارات ومجموعات غير منظمة فى أشكال حزبية أو تنظيمية أخرى؛ الأمر الذى ابتعد بالطليعة عن أن تشكل قيادة متبلورة مهما تتعدد التيارات، والذى يحمل فى طياته رغم كل أمجاد هذه الطليعة وأساليبها النضالية الحافلة بالفاعلية والتجديد والابتكار احتمالات تورطها فى مزالق من شأنها أن تفرز أثناء بعض الموجات الثورية ونضالاتها تصورات وشعارات خاطئة قد تنحرف بالثورة إلى مسار يلحق بها الضرر ويجعل مناضلاتها ومناضليها نهبا للتقلبات والإحباطات والشكوك بعد كل موجة للثورة لا تستطيع أن تحقق الأهداف التى أبرزتها شعاراتها.
26: ولا حاجة بى إلى التذكير بأن التصفية المنهجية للحياة السياسية طوال قرابة ستين عاما (وليس فقط فى عهد الرئيس المخلوع) على يد الانقلاب العسكرى، بعد عقود طويلة سابقة من استبداد القصر الملكى والإدارة الاستعمارية البريطانية وفى عهود ملكية متعاقبة رغم الحريات النسبية التى عصف بها انقلاب 1952 العسكرى، كانت وراء هذا التصحُّر العام لوعى كل من الشعب وطليعته فى مجرى عودة متواصلة إلى الوراء اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا وثقافيا وفكريا مع تقدُّم متواصل للقوى السياسية الماضوية الرجعية إلى أن انفجر الشعب فى ثورة سياسية هائلة جعلتها تطورات عديدة فى العقد الأخير ممكنة. على أننا لا نستطيع أن نتوسع هنا فى مناقشة تلك التطورات الاجتماعية والسياسية التى ترتبط فى المحل الأول بوصول إفقار الشعب إلى حدود قصوى وما تولد عن ذلك من معارضة عنيدة سياسية وإضرابية أخذت تنمو فى السنوات السابقة للثورة مع النتائج المباشرة لاتساع نطاق تأثير ثورات تكنولوچيات المعلومات والمعرفة كالإنترنت والفضائيات والتليفون المحمول وغيرها؛ هذه الأشياء التى ساعدت على مزيد من وعى الناس بحقيقة حياتهم وبأسباب ونتائج شقائهم وبالكوارث التى تهدد مجرد بقائهم. غير أن كل هذه العوامل التى ساعدت على ارتفاع مستوى وعى الشعوب بشقائها كانت تساعد فى الوقت نفسه على تدهور هذا الوعى على مستوى التفسير والتغيير وكانت هذه فرصة ذهبية لتطور وصعود الإسلام السياسى. وتمثلت المحصلة النهائية فى أن تصفية الحياة السياسة لم تترك مكانها فى الحال لفكر تقدمى ناضج وكان هذا عاملا سلبيا لا مناص من أن تعانى الثورة وطليعاتها وقياداتها الكثيرة المتنوعة نتائجه كما تمثلت فى اتساع نطاق النفوذ الفكرى لتقديس أو تديين السياسة وتسييس الدين أو المقدَّس، وتغوُّل مختلف الأصوليات فى كل مكان فى العالم على اتساعه وخاصة فى العالم الثالث والعالم العربى.
سابعا: آفاق قد تفتحها الديمقراطية الشعبية من أسفل:
27: والحقيقة أن الديمقراطية الشعبية من أسفل هى الثمرة النضالية الحلوة التى تخرج بها الشعوب من ثوراتها الناجحة فى كل مكان. وهى لا تعنى أن المجتمع أو البلد قد صار ديمقراطيا أو أن الدولة قد صارت ديمقراطية. فالمجتمع الطبقى لا يكون ديمقراطيا كما أن الدولة التى هى أداة فى أيدى الطبقة الاستغلالية الحاكمة لا يمكن أن تكون ديمقراطية، بل لا مناص من أن يكون هذا المجتمع ديكتاتوريا ولا مناص من أن تكون هذه الدولة ديكتاتورية. وتعنى الديمقراطية الشعبية من أسفل أن تمتلك الطبقات الشعبية أدوات النضال والحقوق والحريات التى انتزعتها وصارت تمارسها، والإطار العام الديمقراطى الذى صارت تفرضه على الطبقة الحاكمة ودولتها ونظامها وتنظيمها للمجتمع. وتتمثل مكوِّنات الديمقراطية الشعبية من أسفل فى الأحزاب المتعددة المستقلة التى تفرض التعددية الحقيقية فى البلاد، وتتمثل فى النقابات العمالية والمهنية المستقلة التى تدافع بفعالية عن حقوق وحريات الطبقات الشعبية فلا تمثل نفوذ السلطة الحاكمة على هذه الطبقات كما يكون الحال فى الدولة الإدماجية (الكورپوراتية)، وتتمثل فى مختلف أشكال جمعيات المنتجين الصغار واتحادات المستهلكين، وتتمثل فى الصحافة الحرة التابعة للأحزاب والنقابات ومختلف الجماعات التى تنتمى إلى الطبقات الشعبية من العمال والفلاحين وفقراء الريف والمدينة، وتتمثل فى استقلال القضاء والتحقيق الفعلى لكل المطالب العادلة للقضاء الجالس والقضاء الواقف وتمتُّع المواطنين جميعا بالتقاضى أمام قاضيهم الطبيعى بعيدا عن القضاء الاستثنائى والعسكرى، وتتمثل فى انتزاع مكاسب عينية كبرى مثل التحقيق الفعلى للحد الأدنى العادل للأجور المربوطة بتطور الأسعار وتحسين شروط العمل وبدلات البطالة للعمال ولكل العاملين، ومثل التحقيق الفعلى لمطالب الفلاحين المتعلقة بالجوع إلى الأرض وبالأسعار المجزية وبمختلف صور تطوير نوعية حياة الفلاحين، ومثل التحقيق الفعلى للرعاية الصحية المتكاملة والشاملة والتأمين الشامل وتطوير المستشفيات والحل الجذرى لمشكلات الأطباء وباقى العاملين فى المجال الطبى والصحى من حيث الأجور وتحسين شروط وأوضاع العمل، وتتمثل مكوِّنات الديمقراطية الشعبية من أسفل فى التطوير الجذرى للتعليم بكل مراحله وتحقيق مجانيته الكاملة وإنصاف المعلمين بمرتبات مجزية مربوطة مثل كل أجور العاملين فى البلاد بالأسعار، وتقتضى الديمقراطية من أسفل التحقيق الدستورى والفعلى للمساواة بين المواطنين دون تمييز بسبب الدين أو المعتقد أو اللون أو الإثنية، وكذلك التحقيق الفعلى لتضمين كل الحقوق والحريات المنتزعة فى الدستور بصياغات واضحة قاطعة حاسمة لا يجرى تقييدها بقوانين، مع إعادة صياغة القوانين كإطار عام يعكس قدرة الديمقراطية من أسفل، عن طريق نضالاتها المتواصلة، على فرض السيادة الفعلية للقانون. ومن البديهى أنه بقدر ما يتم النجاح فى إجبار السلطات المعنية الحالية والقادمة على التحقيق الفعلى لمطالب الثورة سيجرى تأمين أن تسير الحياة الطبيعية وكذلك الإنتاج وإعادة البناء بصورة طبيعية جنبا إلى جنب مع تطورات الثورة التى لا تريد الفوضى ولا تعمل على تعطيل الحياة بكل مقتضياتها وضروراتها بل تعمل على إنصاف الشعب من خلال انتزاع حقوقه وحرياته وأدوات نضاله فى سبيل التطلع ليس فقط إلى حياة كريمة بل كذلك إلى تصنيع البلاد وتحديثها على قدم وساق كشرط لإنقاذها من المصير البائس الذى ظلت تتجه إليه، مع العالم الثالث كله، بسرعة مخيفة وللتحقيق الفعلى للاستقلال، هذا الاستقلال الذى لا يتحقق إلا بالتحول إلى بلد صناعى كشرط لا غنى عنه للتخلص من التبعية الاستعمارية؛ وهذا أفق لا ينبغى إغلاقه أمام الثورة بشرط استمراها بعمق متزايد وعلى مدى طويل معتمدة فى كل ذلك على عمق ونضج وجذرية الديمقراطية الشعبية التى تنجح الثورة فى تحقيقها.
17 مارس 2012
















7
الانتخابات الرئاسية واحتمالات الصراع
بين المجلس العسكرى والإخوان المسلمين

1: يسود فى الوقت الحالى فى مصر تصوُّران متناقضان بشأن نقطة تتعلق بالانتخابات الرئاسية الوشيكة. ويؤكد أحدهما على وجود تحالف بعيد المدى بين المجلس العسكرى والإخوان المسلمين، وعلى أنهما يتجهان بالتالى إلى انتخاب رئيس جمهورية يتوافقان عليه؛ ويجرى تفسير كل تعارض يظهر بينهما على أنه يُخْفِى تنسيقا وترتيبات "تحت الترابيزة" لتوزيع الأدوار المرتبطة بمهمة مشتركة. ويشدِّد التصوُّر الثانى على أن التوترات والخلافات بين الفريقين بشأن أمور متعددة بصورة متزامنة آخرها ترشيح خيرت الشاطر لرئاسة الجمهورية إنما تعنى السير بخطى حثيثة نحو صدام كبير كان لا مناص منه أصلا يضع حدا للتحالف "المرحلى" القائم بين العسكر والإخوان طوال الفترة التالية للثورة. وفى سياق "لعبة الأسطول" (هذه التى يُفترض أنها تدور فى الخفاء تحت البحر حيث لا نرى القطع البحرية التى نريد إغراقها بل نعتمد على الحدس لتخمين مواقعها)، تصل الحيرة إلى حد قيام المحلِّل السياسى الواحد بالجمع بين مثل هذين الاتجاهين المتعارضين بتفسير ما يجرى فى الساحة بأنه إما تنسيق يقوم على التحالف أو صدام يقوم على إنهاء التحالف!
2: وينطلق هذان التصوُّران، وحتى الجمع بينهما، من وجود تحالف لا سبيل إلى الشك فيه بين المجلس والإخوان منذ الثورة. ويرتبط تقييمهما بقوة بالتالى بطبيعة هذا التحالف لمعرفة ما إذا كان تحالفا إستراتيچيًّا بعيد المدى أم تحالفا مرحليا اضطراريا يستفيد منه الطرفان رغم إدراكهما بوضوح تام أن عليهما أن يستعدا لمواجهة تداعيات نهايته الآتية دون إبطاء لا محالة، وكذلك لمعرفة ما إذا كان وقت فكّ التحالف قد حلّ الآن.
3: وبالطبع فإنه لا شك فى وجود تحالف بين المجلس العسكرى والإسلام السياسى بوجه عام والإخوان المسلمين بوجه خاص قام منذ الأسابيع الأولى للثورة. وكان احتياج طرفىْ التحالف إلى بعضهما البعض ضرورة لا غنًى عنها لكل منهما. والحقيقة أن حاجة المجلس، بعد انقلابه العسكرى ضد مبارك، إلى الإخوان المسلمين كانت امتدادا مباشرا لحاجة نظام مبارك إليهم بعد انفجار الثورة الشعبية. وكانت الحاجة إلى التحالف متبادلة والاستعداد للتحالف متبادلا. فقد أدرك نظام مبارك على الفور أنه يحتاج للقضاء على الثورة إلى حليف سياسى قوى وجاهز ومستعد وأن هذا الحليف ليس سوى الإسلام السياسى والإخوان على وجه الخصوص، حتى وإنْ كان ذلك الحليف المحتمل موجودا فى تلك اللحظة فى الميدان مطالبا بإسقاط نظام مبارك. وكان الإسلام السياسى بكل أطيافه جاهزا تماما ومستعدا تماما، فى سياق الاحتياط لاحتمال عدم قدرة الثورة على الإطاحة بالرئيس مبارك. وبكل سهولة ويسر عرف مبارك والإخوان طريقهما إلى بعضهما فالتقيا فى المفاوضات مع عمر سليمان كممثل للنظام البائد. ذلك أن الإخوان المسلمين أدركوا على الفور أن الثورة جعلت نظام مبارك يترنح، وأنهم اكتسبوا شرعية بلحاقهم بقطار الثورة بعد تردد، وأن الثورة فتحت أمامهم بابا واسعا للقفز على السلطة بالمشاركة فيها إنْ لم يكن بالانفراد بها، وأن عليهم أن ينتهزوا الفرصة السانحة فى التو واللحظة ("هنا والآن") ودون إبطاء.
4: وكان الإسلام السياسى جاهزا فى تلك اللحظة للتحالف مع مبارك لأن مشاركته فى الثورة نبعت ليس من كونه قوة ثورية معادية بحكم طبيعتها ذاتها لنظام الاستغلال والفساد، بل بدافع الاستفادة السياسية بلحظة تنطوى على احتمالات مواتية متنوعة، وكان مستعدا بكل مرونة لكل تلك الاحتمالات. كان مستعدا لفرض التحالف معه على نظام مبارك فى حالة عجز الثورة عن إسقاطه (وكان ينطلق فى هذا من دروس تجربة مهمة طويلة من التعاون فى أوقات مختلفة مع نظام السادات ونظام مبارك رغم تنكيل هذا الأخير به فى الفترة السابقة مباشرة للثورة)، كما كان مستعدا لفرض التحالف معه على نظام ما بعد مبارك فى حالة نجاح الثورة فى إسقاطه. وكان مفتاح فرض التحالف معه فى الحاليْن يتمثل فى المشاركة بكل قوة فى الثورة لفرض الشرعية على النظام وعلى الثورة فى آن معا. وكان هذا يعنى أن الإسلام السياسى بكل أطيافه "قوة من قوى الثورة" دون أن يكون بحال من الأحوال "قوة ثورية"، وكان هذا بدوره يعنى أن الإسلام السياسى "قوة من قوى الثورة المضادة" ما دامت إستراتيچية مشاركته فى الثورة تقوم على التحالف مع نظام مبارك أو مع نظام خلفاء مبارك ضد الثورة بهدف تصفيتها وبالتالى بهدف إنقاذ النظام فى الحاليْن وكذلك بهدف القفز على السلطة أو المشاركة القوية الفعالة فى السلطة وفى تحديد أسس إعادة بناء النظام من جديد.
5: وقد أدى هذا الطابع المزدوج لمشاركة الإسلام السياسى فى الثورة إلى طابعه المزدوج الذى تمثل فى أنه "قوة من قوى الثورة" وفى الوقت ذاته "قوة من قوى الثورة المضادة". وكان هذا الطابع المزدوج للمشاركة فى الثورة منطقيا تماما ومتسقا تماما مع الطابع المزدوج لوجود الإسلام السياسى ضمن نظام مبارك. ذلك أن مختلف قوى الإسلام السياسى إنما هى تعبيرات فكرية سياسية متعددة عن قطاعات مختلفة من الطبقة الرأسمالية المالكة والحاكمة التابعة للرأسمالية العالمية. إنها ليست قوى معلقة فى الهواء بل هى أحزاب سياسية "بالقوة قبل الثورة وبالفعل بعد الثورة" ترتبط طبقيا بالطبقة العليا فى البلاد كتعبير سياسى عن مجموعات كبيرة من رجال الأعمال الذين يملكون قطاعات كبيرة من الاقتصاد المصرى. وهى ليست امتدادا سياسيا لأيديولوچيات سياسية تعبر بأشكال متعددة عن فضائل دينية بل هى أيديولوچيات سياسية دينية تنغرز برسوخ فى مستنقعات المصالح الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للرأسمالية محليا وإقليميا وعالميا، وهى مصالح تقوم على الاستغلال الاقتصادى الاجتماعى الطبقى بالمعنى العلمى وبالتالى على الربح وأقصى الربح مع الانفتاح الشامل بالتالى على الفساد والاستبداد ضد الطبقات الشعبية.
6: ولا يتحدد الطابع الطبقى للإخوان المسلمين وباقى قوى الإسلام السياسى بواقع انتماء مئات الآلاف من الفقراء من أبناء الجماهير العاملة والطبقات الشعبية إلى هذه الجماعات والحركات والأحزاب وعضويتهم فيها إذْ إن كل الأحزاب الرأسمالية والإمپريالية فى العالم تتألف قاعدتها دائما من الملايين وعشرات الملايين من أبناء وبنات الطبقة العاملة والطبقات الشعبية رغم الطابع الطبقى الرأسمالى والإمپريالى لهذه الأحزاب، فهى القاعدة الشعبية التى تعبر عن السيطرة الفكرية والسياسية والثقافية للطبقة الرأسمالية على باقى المجتمع الذى تعانى طبقاته الشعبية من الأمية الفكرية والسياسية والثقافية، فهى بالتالى جماهير مضلَّلة مخدوعة. فكيف تناقضت هذه القطاعات الإسلامية من الرأسمالية المصرية مع قطاعات أخرى من هذه الطبقة لتكون فى خصومة سياسية طويلة قاسية مع كل الرئاسات السابقة من عبد الناصر إلى السادات إلى مبارك رغم فترات من التعاون أو التحالف فى مواجهة الشعب وقواه الثورية وانتفاضاته وثوراته؟ والحقيقة أنه لا غرابة فى هذا على الإطلاق، فالطبقة الرأسمالية فى كل بلد فى العالم لا تنتظم مختلف قطاعاتها فى حزب واحد بل تتعدد أحزابها وفقا لمدارس فكرية سياسية تنتشر داخل الطبقة الرأسمالية الكبيرة الواحدة التى يتألف النظام فيها من أحزابها الحاكمة وأحزابها المعارضة، وليست هذه المدارس الفكرية السياسية فى التحليل الأخير سوى اجتهادات متعددة لتحقيق المصلحة الرأسمالية الواحدة.
7: وكان لهذا الطابع المزدوج للإخوان المسلمين وغيرهم من قوى الإسلام السياسى مزايا وأضرار، وقد برزت المزايا فى لحظة واحدة هى لحظة الأيام الأولى للثورة وبرزت الأضرار فى كل لحظة تالية طوال أكثر من عام. وقد اعترفنا بصورة متكررة وبكل موضوعية بأن مشاركة الإسلام السياسى فى الثورة جعلته يقوِّى الثورة ويتقوَّى بها. ولا شك فى أن الثورة تقوَّتْ بتلك المشاركة. وكان هذا ينطوى على خير كثير لأنه ساعد على نجاح الثورة غير أنه كان ينطوى كذلك على شر مستطير لأنه كان لهذه المشاركة تأثير ضار بعيد المدى. فقد خدعت المشاركة فى الثورة قوى الثورة وبالأخص "القوى الثورية المخلصة حتى النهاية" التى جعلتها تجربتها السياسية المحدودة لا تدرك الطبيعة الحقيقية لأهداف المشاركة الإخوانية والإسلامية السياسية، وكان لهذا تأثيره الضار على كثير من المواقف والشعارات المهادنة من جانب الثورة فى كثير من لحظاتها إزاء جماعة الإخوان المسلمين وأحزابها وإزاء باقى جماعات وحركات وتيارات وأحزاب الإسلام السياسى. كذلك فإن مشاركة قوى الإسلام السياسى فى الثورة أدت إلى تقوية هذه القوى وصولا إلى تحالف النظام معها ضد الثورة، الأمر الذى أدى إلى تقوية الثورة المضادة ووقوفها صفا واحدا ضد الثورة ونجاحها فى فرض مسارات بعينها على تطور الأحداث فى الفترة السابقة. وعلى كل حال فإن الإسلام السياسى كان سيتحالف مع نظام مبارك ومع نظام خلفاء مبارك، حتى فى حالة عدم مشاركته فى الثورة، كما أن هذا النظام أو ذاك كان سيتحالف معه حتى فى هذه الحالة؛ غير أنه كان سيتحالف من موقع أضعف وزنا بما لا يقاس سواء من وجهة نظر الثورة التى كانت ستدرك طبيعة الإسلام السياسى بوضوح أو من وجهة نظر النظام الذى كان سيفرض عليهم شروطا أقسى للتحالف.
8: ومهما يكن من شيء فقد شاركت جماعة الإخوان المسلمين وباقى قوى الإسلام السياسى فى الثورة، وسرعان ما كشفت عن طبيعة هذه المشاركة كمشاركة مضادة للثورة فى الثورة. ورغم الأوضاع الاقتصادية الاجتماعية البالغة التردى للطبقات الشعبية فى مصر (وكذلك بالطبع فى باقى بلدان ثورات ما يسمى بالربيع العربى) لم تناضل قوى الإسلام السياسى ضد نظام مبارك بحال من الأحوال. ونعرف جميعا أن الأوضاع الاقتصادية الاجتماعية المتردية للشعب يمكن أن تستمر معها استكانة شعبٍ أعواما وحتى عقودا دون أن تصل مقاوماته واحتجاجاته إلى مستوى الثورة مع أن مثل هذه الأوضاع هى الخلفية الاجتماعية السياسية التى لا يمكن بدونها أن تتفجر ثورة شعبية تستحق هذا الاسم. ولا مناص بالتالى فى سبيل فهم تفجُّر ثورة من الانتقال من هذه الخلفية الإستراتيچية العامة إلى الأسباب والعوامل الظرفية التى تشعل النار فى وقود جاهز للاشتعال. وفى حالتنا الخاصة كان هناك بالتأكيد تأثير الدومينو القادم من الثورة التونسية. على أن الثورات لا تنفجر عند توفُّر كل عامل ظرفى أو تأثير دومينو رغم تردى الأوضاع. وقد شهدنا فى المنطقة العربية رغم التناظر العام من حيث تردى الأوضاع الاجتماعية السياسية مستويات متفاوتة من ردود الفعل من جانب الشعوب. وهناك بالطبع جزء لا يتجزأ من هذه الأوضاع يتمثل فى تطور الاحتجاجات والتطورات فى بلد دون آخر فى الأعوام السابقة للثورة. ودون أن نأخذ فى اعتبارنا هذه الخلفية الاجتماعية العامة، وتأثير الدومينو، وكذلك الاحتجاجات والتطورات فى الأعوام القليلة السابقة للثورة المصرية السياسية الشعبية الكبرى فإن سؤال السبب وراء الثورة سيغدو لغزا بالغ الإبهام.
9: وهنا ينبغى أن نشير إلى أن الإسلام السياسى لم يكن جزءًا من نضالات القوى السياسية فى مصر طوال أعوام قبل الثورة بل كان موقفه سلبيا تماما. بل إن هذا الإسلام السياسى لم يواجه بحركة احتجاجية ذات شأن تلك الملاحقات المتواصلة التى تعرضت لها قواه من اعتقالات وسجون وحملات تشويه وافتراء من جانب نظام مبارك. وبلغ ذلك الاضطهاد السياسى ذروته فى أواخر عام 2010 عندما تم تزوير الانتخابات الپرلمانية إلى حد إسقاط كل مرشحيهم لمجلس الشعب والتنكيل بهم بصورة مفزعة. ولزم الإخوان المسلمون جانب الصمت الرهيب. وعندما اندلعت ثورة 25 يناير 2011، وقف الإسلام السياسى بعيدا عن الثورة من باب الاحتياط والاحتراز لاحتمال فشلها ولم ينضم إلى الثورة إلا بعد أيام بعد أن تيقَّن من أنه إزاء ثورة شعبية سياسية كبرى قادرة على حمايته مُدْرِكًا أن إحجامه عن المشاركة فيها سيكون بمثابة انتحار سياسى وأن هذه المشاركة هى مفتاح الاعتراف بشرعيته من جانب كل الأطراف المعنية فى السياسة المصرية. وبمجرد الحصول على الشرعية المنشودة، ترك الإسلام السياسى أتباعه فى الميدان وراح يتفاوض مع عمر سليمان ممثلا لنظام مبارك، وفى تلك المفاوضات بدأت فى التبلور أسس التعاون والتحالف مع مبارك ثم مع حلفائه فى شخص المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية بمجرد قيامه بانقلابه العسكرى الذى أطاح بالرئيس السابق مبارك، وتبلورت معها إستراتيچية وتاكتيكات وأساليب وأدوات العمل المشترك مع باقى أطراف وقطاعات وقوى الثورة المضادة بقيادة المجلس الأعلى فى سبيل التصفية التدريجية للثورة المصرية. ووقف الإسلام السياسى على طول الخط ضد الثورة بمختلف موجاتها ونضالاتها وأنشطتها ونضالاتها واحتجاجاتها واعتصاماتها وإضراباتها وأفكارها ومواقفها.
10: ومن الجلى تماما أن الإخوان المسلمين كانوا سيتحالفون مع مبارك ضد الثورة لو لم يقم المجلس العسكرى بالانقلاب ضده والإطاحة به. فلم يكن التفاوض مع عمر سليمان عبثا بل كان لبحث أسس تحالف "اضطرارى" ولكنْ ضرورى ولا غنًى عنه فى آن معا من ناحية مبارك ومن ناحية الإخوان والإسلام السياسى. وكان الطابع المؤقت للتحالف واضحا تماما للطرفين، حيث كان التفاوض يجرى على خلفية عداء مستحكم بينهما، وبالأخص فى الفترة السابقة على الثورة، حيث جرت ملاحقة الإخوان المسلمين وجرى التنكيل بهم وإقصاؤهم وحرمانهم حتى من أىّ تمثيل پرلمانى فى أواخر عام 2010، كما سبق القول.
11: على أن الانقلاب العسكرى قام بتعديل "حدود" المعادلة. فعندما واجه مبارك الثورة بالعنف الوحشى سحقت الثورة قوات وأجهزة وزارة الداخلية، وأدرك نظام مبارك ضرورة الاعتماد على القوة السياسية والأيديولوچية للإسلام السياسى فتفاوض معه. إلا أنه بدا للمجلس الأعلى للقوات المسلحة أنه لا مناص من الإطاحة بالرئيس مبارك. فقد اتضح أن الثورة أعمق من أن يتم إخمادها بالجمع بين العنف من ناحية والتحالف مع الإسلام السياسى (والقطاعات الأخرى الليبرالية اليمينية من الطبقة الرأسمالية التابعة بالإضافة إلى رجال الحزب الوطنى فى كل مواقع السلطة والإدارة والاقتصاد) من ناحية أخرى، دون التخلص من مبارك باعتبار أن إسقاطه بدا موضع إجماع من أوسع قطاعات قوى الثورة. ويبدو أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية أدرك بوضوح أن دخول الجيش فى مواجهة شاملة مع الثورة لن يكون مجديا بل أنه سيكون كارثيا على النظام. ذلك أن الثورات الشعبية قدمت دروسا منها أن الشعب الأعزل أقوى من كل جيش مدجج بالسلاح وأن المواجهة مع الشعب تعنى هزيمة الجيش وأن مواصلة العنف الواسع النطاق يؤدى إلى الحرب الأهلية التى تنتهى ليس فقط بإلحاق الهزيمة بالجيش بل بضرب وتمزيق وتفكيك الطبقة الرأسمالية التابعة الحاكمة وفتح الباب أمام إحلالها بطبقة رأسمالية تابعة حاكمة جديدة تماما. وبدون الإطاحة بالرئيس مبارك كان لا مناص من التورط فى التصفية العنيفة الحربية للثورة وصولا إلى تصفية الجيش والنظام والطبقة الحاكمة وليس إلى تصفية الشعب أو ثورته. ولا شك فى أن الخبرة الأجنبية كانت حاضرة فى كل هذه الحسابات الدقيقة، الناضجة دون أدنى شك.
12: وعندما أطاح الانقلاب العسكرى (وكان انقلاب قَصْر؛ أىْ من داخل النظام بهدف إنقاذه) بالرئيس مبارك وأسرته وحلقة ضيقة من أقرب المقربين من رجاله، كانت أسس التحالف التى تبلورت بين الإسلام السياسى و مبارك قد صارت جاهزة فانتقلت إلى التحالف بين الانقلابيِّين العسكريِّين (بدلا من مبارك) والإسلام السياسى وبالأخص الإخوان المسلمين. فقد كان الانقلابيون بحاجة إلى تغطية سياسية تعتمد على قوة سياسية كبيرة كالإخوان المسلمين تساعدهم فى سياق تعاون وثيق على التصفية التدريجية للثورة. وقد نجحوا بالفعل فى إضعاف الثورة فى مرحلة أولى من خلال التخلص من مبارك، ومن خلال الاعتماد على كل القوى السياسية التى تعبِّر سياسيا عن مختلف قطاعات الرأسمالية التابعة من صفوف الثورة، ومن خلال التعاون الوثيق معها وبالأخص مع الإخوان المسلمين فى تحقيق المهام المتنوعة التى تقتضيها تصفية الثورة.
13: ويمكن تلخيص الأساس الجوهرى والمهمة الجوهرية لهذا التحالف فى عبارة العمل المشترك بين المجلس العسكرى والإسلام السياسى فى سبيل التصفية التدريجية للثورة. وتتعدد بالطبع الأسس والمهام المتنوعة التى تحقق الهدف الكبير الذى تنطوى عليه هذه العبارة. وتتمثل الجائزة الكبرى المشتركة التى يمكن أن تفوز بها مختلف القوى السياسية المعبرة عن مختلف قطاعات الطبقة الرأسمالية التابعة فى مصر (ومنها المجلس العسكرى والإسلام السياسى والليبرالية اليمينية وأحزاب الحزب الوطنى) فى إنقاذ الطبقة وإعادة بناء النظام على جثة الثورة مع مواصلة التغنى بعظمتها وروعتها. وتتعدد الجوائز الخاصة بكل قوة من قوى الثورة المضادة. فمن خلال هذا التحالف وتحقيق مهامه يستطيع الإسلام السياسى أن يقوم بترسيخ وجوده السياسى داخل نظام الطبقة الحاكمة بكل المكاسب الاقتصادية والمالية لمثل هذا التطور. ويمكن أن يصل هذا الوجود السياسى إلى ذروة الانفراد بحكم البلاد، أو يقف عند مستوى المشاركة القوية فى حكمها، كما يمكن أن يصير "رقما صعبا"، كما يقال، فى السياسة المصرية، بترسيخ شرعيته وتوسيع نفوذه، ولا شك فى أنه حتى تحقيق مجرد الحد الأدنى من هذا سيكون مكسبا تاريخيا للإسلام السياسى فى مصر، تمهيدا واستعدادا لتطورات سياسية لاحقة نحو التمكين وتطبيق الشريعة وإقامة دولة الخلافة!
14: وبالفعل فطوال أكثر من عام تواصل هذا التحالف بنجاح لا يمكن إنكاره كسلاح أساسى للثورة المضادة ضد الثورة الشعبية وأهدافها ونضالاتها ومبادراتها وأنشطتها ومظاهراتها واعتصاماتها وإضراباتها ومختلف احتجاجاتها. وواصل الإسلام السياسى تعاونه المطلق أو شبه المطلق مع المجلس العسكرى من خلال الهجوم على الثورة والافتراء عليها وكذلك من خلال إنشاء أدوات السيطرة الطبقية من التعديلات الدستورية إلى الإعلان الدستورى إلى الاستفتاءات والانتخابات الپرلمانية والرئاسية. وتمثلت جوائز الإسلام السياسى إلى الآن فى التعديلات الدستورية الملائمة له، والأغلبية الساحقة فى مجلسىْ الشعب والشورى، وتشكيل لجنة إعداد الدستور، والمطالبة كأغلبية بتشكيل الحكومة، ووجود عدد من المرشحين الإسلاميِّين لرئاسة الجمهورية لكل منهم شعبية كبيرة ومتعاظمة، وصولا إلى ترشيح خيرت الشاطر مؤخرا، وإردافه بالدوبلير محمد مرسى.
15: وتأتى التطورات الجديدة بعد الثورة بأكثر من عام فى سياق مسار تعددت محطات التعاون فيه: مقاومة كل مبادرة لتشكيل مجلس رئاسى مدنى يتولى السلطة كمرحلة انتقالية والتمسك بدلا من ذلك بإدارة المجلس العسكرى للبلاد، وتمرير الطريقة التى تم بها إعلان تخلِّى رئيس الجمهورية عن منصبه عن طريق جعل نائب رئيس الجمهورية عمر سليمان آنذاك يعلن ذلك بعيدا عن الإجراء الدستورى الصحيح عند استقالة رئيس الجمهورية من منصبه، والدخول فى مفاوضات واسعة النطاق مع مبارك ممثلا فى نائبه عمر سليمان ومع المجلس الأعلى بعد الانقلاب العسكرى للاتفاق على شروط التحالف وأسس إعادة بناء النظام، وتمرير التعديلات الدستورية من خلال التصويت عليها بنعم فى استفتاء 19 مارس 2011، والتسليم بالإعلان الدستورى والقوانين بمراسيم التى أصدرها المجلس وكذلك بتجاهل المجلس العسكرى للتعديلات الدستورية والإعلان الدستورى وغير ذلك عند الضرورة، وتأييد وتكريس طريق الانتخابات الپرلمانية والرئاسية ومعارضة البديل المتمثل فى طريق الفعل الثورى، ومعارضة كل النضالات الثورية بكل موجاتها وأشكالها ومليونياتها واحتجاجاتها المسماة بالفئوية والعمل بالتالى ككاسر إضراب، والتأييد بالصمت وحتى التبرير المباشر للمذابح البشعة التى استهدفت الثورة وإغماض العين عنها مع كلمات منافقة قليلة فقط فى قليل فقط من تلك المناسبات المأساوية، والهجوم المتواصل على قوى الثورة وشن حملات الافتراء والتشويه ضدها واتهامها بأنها تعمل على إحداث وقيعة بين "الجيش" والشعب وحتى اتهامها بالعمالة للاستعمار والصهيونية، والدفاع المتواصل عن الطغمة العسكرية وإجراءاتها وجرائمها المتواصلة وكذلك عن الاتفاقيات والمعاهدات الدولية وبالأخص معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل، وعقد اللقاءات وإجراء الاتصالات مع الولايات المتحدة لطمأنتها وطمأنة إسرائيل مما يؤكد أن الإسلام السياسى لا يأتى لتغيير شيء بل لاستعادة الاستقرار لنفس النظام مقابل مشاركته فى السلطة، ومقاومة أىّ محاولة لجعل الذكرى السنوية الأولى للثورة مناسبة لاستمرارها ببدء موجة جديدة من موجاتها. وفى سياق هذا المسار المخزى كانت الانتخابات الپرلمانية التى جاءت بالإخوان والسلفيِّين باستخدام كل وسائل وأدوات وأساليب تزييف إرادة الشعب، بما فى ذلك التزوير ﺑ "التسويد"، والرشاوى العينية والنقدية اعتمادا على الفقر والجهل والمرض، وصناديق البطاقات الانتخابية المستوفاة الملقاة على قارعة الطريق، وكشوف الناخبين التى تحيط بها شكوك، والدعاية العدوانية السوداء التى تبشر من يصوتون للإسلام السياسى بالجنة "خالدين فيها أبدا" وتُنْذر من يصوتون لغير الإسلام السياسى وخاصة أنصار الليبرالية والمدنية والعلمانية بجهنم وبئس المصير. وبعد السيطرة بالأغلبية المزيَّفة على مجلسىْ الشعب والشورى حان وقت دعم الطغمة العسكرية فى مذبحته الجديدة للأولتراس فى بورسعيد بما فى ذلك مطالبة وزارة الداخلية بالدفاع عن مقر الوزارة بلا حرج ضد المحتجين على تلك المذبحة، مع مسرحيات التحقيق واستقصاء الحقائق. وحان وقت التعارض مع المجلس العسكرى بالاعتراض على وثيقة السلمى ومدنية الدولة دفاعا عن المادة الثانية فى الدستور والمرجعية الإسلامية، وبالمطالبة بتشكيل الأغلبية الپرلمانية الإسلامية للحكومة فى مواجهة إصرار المجلس العسكرى على أن حق تشكيل الحكومة فى جمهورية رئاسية كمصر ليس للأغلبية بل لرئيس الجمهورية مع أن هذا كان يشكل الحكومة من "الأغلبية المزوَّرة" أيضا ولكنها كانت أغلبية الحزب الوطنى بلا منازع، وبالمطالبة بانتخاب مجلسىْ الشعب والشورى للجنة إعداد الدستور وهى اللجنة التى لفظتها القوى السياسية ومختلف الجهات التى تم أو لم يتم "حشر"ها فيها، وأخيرا باحتدام "حرب رئاسة الجمهورية" بين المجلس العسكرى ومختلف قوى الإسلام السياسى بقيادة الإخوان المسلمين.
16: ولا أظن أن الإخوان المسلمين اعتقدوا، فى أىّ وقت فى فترة ما بعد الثورة، أن المجلس سوف يسلِّمهم، فى سياق تحالفه معهم، حكم البلاد بكل أجهزته ومؤسساته التشريعية والتنفيذية بالإضافة إلى وضعهم المسيطر على مواقع فى القضاء وفى كثير من النقابات المهنية وغيرها. ولا أظن أنه خطر ببال المجلس العسكرى أن تحالفه مع الإخوان المسلمين سيمتد إلى تسليمهم حكم البلاد حتى تحت إشرافه الدقيق ووصايته. ومن المرجَّح أن الطرفين كانا يدركان جيدا طبيعة وحدود التحالف بينهما فنحن لسنا إزاء طرفيْن ساذجيْن. غير أن هذا الإدراك لم يكن من شأنه أن يمنع محاولة الاحتفاظ بالتحالف لأطول فترة ممكنة جلبا للمزايا والمغانم والجوائز ودرءًا للمخاطر والمغارم والألغام. وكانت الفترة المسماة بالانتقالية ستمتد لفترة أطول كما أراد لها الإخوان والعسكر إلا أن بعض قوى الثورة رفعت مطالب ملحَّة أدت إلى تقليص تلك الفترة بقرابة نصف عام وكان لا مناص من أن يؤدى قِصَر المدة التى ينبغى أن تتم فيها إعادة "ترميق وطلسقة وطبخ" بناء النظام "الجديد القديم" إلى الصدام الذى لا يمكن تفاديه والذى كان يقض مضاجع الطرفين منذ البداية بحكم أخطاره المحتملة على الطرفين. فقد تقلصت المدة التى كانت ستتم فيها الترتيبات والتسويات بين الطرفين من عام فى بداية السنة الجديدة حتى نهاية 2012 إلى نصف عام حتى منتصف عام 2012 ومن هنا تزايدت الضغوط والاحتكاكات وصراع الإرادات والعناد بين الطرفين تحت "كرباج" عامل الزمن. وكان أوان الصدام سيؤون على كل حال. فالشكوك المتبادلة بين الطرفين أقوى وأعمق من كل تحالف بينهما يقوم على الخداع المتبادل، والخنجر الذى يُخْفيه كل منهما وراء ظهره أقوى من كل مديح منافق وكلام معسول متبادلين بينهما، وبالتالى فإن عدم تقليص الفترة "الانتقالية" لم يكن من شأنه أن يمنع جوهر الصدام وإنما كان سيؤجله وربما كان سيُخفِّفه ويجعله أقل خشونة وأكثر سلاسة نسبيا بشرط أن يتعلم الإخوان فى الفترة الأطول التى كانت مفترضة ومن خلال مفاوضات وترتيبات تدريجية هادئة نسبيا أن عليهم أن يعرفوا حدودهم ويلزموا مكانهم ويقنعوا بما يُمْنَح لهم عن طيب خاطر ما دام قد حلَّ زمن صارت فيه حاجتهم إلى المجلس العسكرى أقوى من حاجته إليهم.
17: فهل كان من الممكن أن تندمج هذه التعابير السياسية الإسلامية عن قطاعات مهمة من الطبقة الرأسمالية الحاكمة التابعة للإمپريالية مع التعابير السياسية الأخرى عن باقى قطاعات هذه الطبقة الواحدة من المجلس العسكرى ومختلف أجهزة الأمن إلى رجال وأحزاب الحزب الوطنى المنحلّ إلى الليبرالية اليمينية؛ وكفى الله المؤمنين (وغير المؤمنين) القتال؟ ولماذا تصل العلاقات بين قطاعات نفس هذه الطبقة الواحدة إلى هذه الدرجة من العداء المستحكم الذى لا يسمح بتحالف إستراتيچى بينها وإنْ كان يتسع لتحالفات جزئية ومحدودة ومؤقتة؟ ولماذا يكون الصدام بينها محتوما؟ فى هذا يكمن فى حقيقة الأمر بيت القصيد! والحقيقة أن كل طبقة رأسمالية تواجه مستويات من هذه التناقضات والصراعات والصدامات الداخلية بين مختلف قطاعاتها وتكتلاتها وتعبيراتها السياسية. ذلك أن وحدة الطبقة الرأسمالية الكبيرة لا تكون وحدة متراصة أو جرانيتية أو فولاذية بحكم الطيف الواسع المتنوع لعناصرها المكونة فى الاقتصاد المادى (والمعرفى) وفى الرؤية الفكرية والسياسية. ولا تعنى الوحدة هنا تطابق مكونات تتمثل فى نُسَخٍ مكرَّرة من الأشخاص الحقيقيِّين والاعتباريِّين والأشياء المملوكة وطريقة امتلاكها وطريقة إدارتها، بل تمثل أنواعا وأشكالا وتنويعاتٍ وتلاوينَ من المصالح المرتبطة بقطاعات ومجالات للإنتاج والتوزيع، والمرتبطة بالتالى بمصالح متنوعة وحتى متعارضة بالداخل والخارج وفقا لطبيعة مصالحها الأساسية. كما تختلف هذه المكونات من حيث مستويات تطور مختلف القطاعات اقتصاديا وماليا وتكنولوچيًّا ومن حيث الارتباط ببقايا الرأسمالية وبالأخص من حيث الأيديولوچيات التى نشأت عليها والمدارس الفكرية التى تنتمى إليها والاجتهادات والرؤى والتصورات والمفاهيم التى تنطلق منها لفهم مصالح الطبقة وأولوياتها وطرق إدارة أوضاعها العادية وكذلك أزماتها. وإذا تذكرنا أننا شهدنا صراعات تاريخية داخل الطبقة الرأسمالية الكبيرة بين قطاعاتها وأيديولوچياتها وسياساتها وأحزابها وصلت فى كثير من الحالات إلى تطورات يمكن وصفها بالحرب الداخلية فى البلدان المتقدمة كما فى حالة الحرب الأهلية الأمريكية، وكما فى حالة صعود الفاشية والنازية، أو فى حالة ثورات أو انقلابات عسكرية كانت تنتهى إلى إعادة تشكيل الطبقة الرأسمالية الكبيرة، فإن العالم الثالث الذى يتميز بتعدد التشكيلات الاجتماعية الاقتصادية وعمق صراعات التراث والتجديد وقوة الأيديولوچيات الماضوية والتراثية والأصولية الدينية وبالأيديولوچيات القوموية أولى بالصراعات الداخلية بين عناصر ومكونات الطبقة الرأسمالية الكبيرة الواحدة من حيث هى طبقة اجتماعية مالكة وحاكمة ومسيطرة على الثروة والسلطة. وفى العالم الثالث الموبوء باستبداد الديكتاتوريات والحكم العسكرى والتطرف الحاكم والمعارض بعيدا عن أدنى درجة من درجات الليبرالية الغربية المسماة بالديمقراطية، تتغلغل تناقضات وتعارضات أوبئته الاجتماعية والأيديولوچية داخل الطبقة الرأسمالية الواحدة التى لا تكاد تجدر بتسمية الطبقة ولا بصفة الرأسمالية إلا بحكم تبعيتها للرأسمالية العالمية. وهنا يأتى ليضع النقط على الحروف تاريخ حديث ومعاصر من التشكلات الأيديولوچية والعسكرية التى حددت لها تراثاتها مسارات بعينها للحركة والعمل فورثت عداوات وولاءات وأساليب حكم وأساليب معارضة وتناطحات تخلق عداوات وتعمَّقها على مدى عقود. وهنا تغدو العلاقة داخل الطبقة الرأسمالية الكبيرة علاقة صراع، وحتى علاقة حربية، وعقبة كأداء فى طريق وحدة الطبقة الرأسمالية الواحدة، ويبدو الاندماج مستحيلا دون أن يؤدى هذا بالضرورة إلى الصدام العنيف حيث تبرز هنا حسابات دقيقة لعلاقات القوة، فيفضل الطرف الأقوى نسبيا أن ينسحب الطرف الأضعف نسبيا بهدوء عندما لا يكون هناك مناص من هذا الانسحاب الكبير، وهنا تنتقل المساومات إلى المكاسب الأقل شأن بما فى ذلك الرضى من الغنيمة بالإياب.
18: وكان تراث العقود السابقة فى مصر بين الحكام والإخوان وباقى جماعات الإسلام السياسى يُغلِّب الصدام والقمع رغم فترات من التعاون والتحالف مع هؤلاء الحكام كلٍّ فى زمنه. وقد أدى حمل السلاح واستخدامه واعتماد الإرهاب فى بعض الفترات من جانب جماعات الإسلام السياسى فى مصر إلى تعميق العداء والشك المتبادل وانعدام الثقة وتشديد القمع إلى درجة الوحشية فى فترات مختلفة وممتدة أحيانا، فى سياق اعتماد العهود المتعاقبة للرؤساء السابقين للحل الأمنى فى الغياب شبه الكامل لاعتماد الديمقراطية والصراع الفكرى. وقد أدت هذه العلاقة العدائية بدورها فى الظروف الجديدة إلى اندفاع الإسلام السياسى فى محاولة مستميتة لاغتنام الفرصة السانحة بسرعة قبل فوات الأوان بالسيطرة على كل مؤسسات الدولة وكل مفاتيح السلطة بعد إملاء دستوره الإسلامى: التحقيق الفعلى للأغلبية الساحقة فى مجلسىْ الشعب والشورى، ولتشكيل المجلسين للجنة الدستور لكتابة دستور إسلامى، ومحاولة سحب الثقة من حكومة الجنزورى تمهيدا لتشكيل حكومة إسلامية أو ذات طابع إسلامى، والدفع بالسيد خيرت الشاطر نائب مرشد جماعة الإخوان المسلمين مرشحا لرئاسة الجمهورية وبالدكتور محمد مرسى رئيس حزب الحرية والعدالة الإخوانى بشكل احتياطى واحترازى "لضمان استمرار مسيرة التحول الديمقراطى المنشود للوطن"، كما قيل، بين عدد من مرشحى الرئاسة الإسلاميِّين، الأمر الذى يخشى الإسلام السياسى معه أن يؤدى إلى تشتيت الأصوات، ولا ينبغى أن ننسى أن قانون العزل السياسى الذى يبحثه مجلس الشعب حاليا يؤدى فى حالة إقراره ليس فقط إلى استبعاد عمر سليمان و أحمد شفيق بل أيضا إلى إقالة المشير وچنرالات المجلس العسكرى وكثير من الحكام الحاليين والإدارة العليا بالبلاد من مناصبهم، وبطبيعة الحال فإن إقرار مثل هذا القانون أو حتى مجرد بحثه يصبّ الزيت على النار من وجهة نظر المجلس العسكرى الذى لن يصدِّق عليه.
19: ولا شك فى أن الاتجاه إلى استبعاد الشيخ حازم أبو إسماعيل شكل ويشكل فى الفترة القادمة نقطة مهمة من نقاط احتدام الصراع بين المجلس العسكرى والإسلام السياسى، ولا فى أن أصواته ستذهب بأغلبها إلى خيرت الشاطر أو محمد مرسى فى حالة استبعاد الشاطر. كما أنه لا شك فى أن ترشيح خيرت الشاطر للرئاسة بعد وعود وعهود متكررة سابقة بعدم التقدُّم بمرشح من جماعة الإخوان المسلمين أو حزبهم يمثل القشة التى قصمت ظهر البعير؛ أعنى التحالف العسكرى الإخوانى. وقد استطاعت مصر أن تنتج حالة غير مسبوقة من الاندفاع والهرولة نحو الترشح لمنصب لم يحدد الدستور ملامحه، وصار فيض طالبى الترشيح ربما فى أكبر مزاد رئاسى شهده العالم مهزلة حقيقية، إلى أن تقلصت القائمة فصارت القائمة القصيرة أكثر قليلا من عشرين مرشحا ومن المتوقع أن تزداد تقلصا باحتمال استبعاد حازم أبو إسماعيل و خيرت الشطر و أيمن نور، كما تحوم شبهات الجنسية الأجنبية حول آخرين. وإذا كان احتمال استبعاد الشيخ حازم هو المفاجأة الأولى بين مفاجآت عديدة فقد كانت المفاجأتان الخطيرتان حقا هما ترشح خيرت الشاطر نائب مرشد الإخوان المسلمين (أو محمد مرسى كمرشح احتياطى) واللواء عمر سليمان نائب الرئيس المخلوع ورئيس المخابرات العامة وصديق الولايات المتحدة وإسرائيل و"أستاذ الجاسوسية" كما تصفه الواشنطون پوست. وقد صارت عملية الانتخابات الرئاسية تتجه الآن بخطى حثيثة نحو المزيد من التعارض والصدام. وقبل قنبلة ترشيح عمر سليمان، كان اعتراض القوى السياسية على ترشيح خيرت الشاطر ينصبّ على رجوع الإخوان عن تعهدهم بعدم التقدم بمرشح إخوانى، مع أن من حق أىّ طرف أن يغيِّر موقفه مع تطورات جديدة، خاصة مع انقشاع أوهام الإخوان فيما يتعلق بجوائز الأجل القصير مثل رفض تشكيلهم للحكومة ورفض لجنة دستورهم وتركهم فى وضع مهين كپرلمان لا معنى له تحوَّل بالفعل إلى مسخرة (وبعد الترشح الأصلى والاحتياطى قوبل المرشحان والإخوان بروح العداء من جانب النظام وأبواق دعايته ومختلف أدوات قمعه الإدارى والفكرى والإعلامى)، ولم يتحدث أحد عن فظاعة الجريمتين المنسوبتين إلى الشاطر فى قضيتين: تسليح قسم من الشعب كميليشيات فى قضية، وغسيل الأموال فى القضية الأخرى، وإذا لم تكن القضيتان ملفَّقتين فكيف يمكن قبول رئيس جمهورية بمثل هذه المواصفات؟ وكيف رشحه الإخوان أصلا بمثل هذه المواصفات؟ كما انصبّ جانب من الاعتراض على كونه رجل أعمال وربما ميليارديرا فهو يمثل إذن مشروعا لتجديد التزاوج بين السلطة والمال، ومع وجاهة هذا الاعتراض فإن الاعتراض البالغ الأهمية الذى ينبغى أن ينصبّ على مشروع الجمهورية الإسلامية الرأسمالية التابعة للإمپريالية لدى الشاطر والإخوان ظل غائبا!
20: ويأتى ترشيح الشاطر و مرسى بعد انقشاع كل وهم لدى القوى السياسية والثورية عن الإخوان. فمن خلال تراجع أوهام التوافق والتوافقية والمجلس الرئاسى التوافقى والرئيس التوافقى أثناء وبعد الفترة التالية مباشرة للثورة بافتراض الإخوان جزءًا محتملا من هذه التوافقيات، بدأت بوادر التعارض بين الثورة وكلٍّ من المجلس العسكرى والإسلام السياسى بقيادة الإخوان من خلال مفاوضات الإخوان مع مبارك ثم مع العسكر، ثم من خلال معارضة الثوار لطريقة إجراء التعديلات الدستورية وصولا إلى تصويت ما بين خُمْس ورُبْع الناخبين ﺑ"لا" فى الاستفتاء على تلك التعديلات (وكان لهذه النتيجة مغزى تاريخى غير مسبوق فى الاستفتاءات والانتخابات المصرية منذ قيام الجمهورية)، وتزايد فَهْم قطاعات من الثوار لطبيعة إستراتيچيات وتاكتيكات المجلس العسكرى وكذلك لطبيعة سياسات الإخوان وحقيقة مواقفهم وسلوكهم السياسى وصولا إلى انقشاع الأوهام لدى الثوار وبالأخص منذ موجة 8 يوليو، أىْ الموجة الثانية، للثورة فيما يتعلق بالمجلس العسكرى إلى حد البدء منذ ذلك الحين فى المطالبة بإسقاطه، وبصورة مستمرة كان الإخوان المسلمون على رأس الإسلام السياسى يخسرون قلب الشعب والثورة مع الاتضاح السافر لتحالفهم مع المجلس العسكرى وتبريرهم لسلوكه السياسى والأمنى وحتى مذابحه المتكررة ومع اتضاح خيانتهم للثورة ووقوفهم ضد نضالاته. وبصورة تدريجية تبلور التعارض الواضح بين الثورة والإسلام السياسى، وبرزت الشعارات المعارضة ثم المعادية للإخوان المسلمين وتجلَّى هذا بوضوح فى الأشهر الأخيرة من عام 2011 وبالأخص منذ موجة 19 نوڤمبر، أىْ الموجة الثالثة، للثورة، وبصورة قاطعة لا رجعة فيها منذ احتجاجات الذكرى السنوية الأولى فى يناير 2012 والفترة التالية، أىْ فى مجرى الموجة الرابعة للثورة. أىْ أن القوى الحقيقية للثورة صارت تنظر إلى العسكر والإخوان على أنهما أهم وأخطر قوتين من قوى الثورة المضادة. ولا شك فى أن ترشيح السيد خيرت الشاطر وبالتالى خطر نجاحه على خلفية الصدام مع المجلس العسكرى الذى يريد رئيس جمهورية "أراجوزا أو طرطورا" يَسْهُل على المجلس العسكرى (الذى سيحكم البلاد من وراء الكواليس بعد التسليم "الرسمى" للسلطة لرئيس منتخب) ترويضه وتوجيهه، كان من عوامل ترشيح رجل من داخل النظام هو اللواء عمر سليمان رئيسا للجمهورية باعتباره رجل النظام. وهكذا فإن من المحتمل أن يدور التنافس الانتخابى الرئاسى الحقيقى بين عمر سليمان و خيرت الشاطر أو محمد مرسى (فى حالة استبعاد الشاطر)، أىْ بين دولة المخابرات والدولة الدينية، فى حالة أن لا يكون ترشيح عمر سليمان مجرد مناورة لرفع أسهم مرشح رئاسى آخر (والمقصود هو السيد عمرو موسى)! وذلك فى سياق صراع كبير محتمل بين المجلس العسكرى والإسلام السياسى.
21: وقد جاء ترشيح السيد عمر سليمان وسط صراع، على طريقة لعبة الذراع الحديدى (أو لىّ الذراع "برا دو فير" أو "بلاديفير" أو "ريسلينج")، أراده أو تورط فيه الإخوان المسلمون فيما سُمِّىَ صحفيا وشعبيا ﺑ"التكويش" أىْ محاولة جمع كل مؤسسات الدولة بكل سلطاتها وأجهزتها فى قبضة أيدى الإسلام السياسى وخاصة فى قبضة أيدى جماعة الإخوان المسلمين وحزب الحرية والعدالة ثم السلفيِّين وحزب النور، وبلغت اللعبة ذروتها بالترشيح الأصلى أىْ الشاطر والمرشح الدوبلير أىْ مرسى. وقد بدأ منذ الآن النضال ضد وصول عمر سليمان إلى الحكم وسوف يتواصل هذا النضال وسوف يتسع نطاقه، وينبغى أن يتصاعد النضال بنفس الهمة ضد وصول الإخوان المسلمين إلى الحكم أيضا. وتوضع الثورة الآن أمام خيارين أحلاهما مر كالعلقم: استعادة نظام مبارك (بدونه ولكن بأبرز رجاله أو حتى بشخص مثل عمرو موسى) والجمهورية الإسلامية الإخوانية. وبحكم العلاقة العضوية بين اللواء عمر سليمان والمجلس العسكرى فإن احتمال أن يكون مرشح المجلس للرئاسة وارد وربما كان احتمالا كبيرا على خلاف ترشُّح الفريق أحمد شفيق. وهناك بالطبع مرشحون يتمتعون بدرجات من الشعبية، ويبدو أنهم جميعا قابلون بدرجات متفاوتة للعب دور الرئيس الأراجوز أو الطرطور كغطاء للمجلس العسكرى القابع وراء الكواليس والحاكم من ورائها، وإذا كان اللواء عمر سليمان يختلف عن هؤلاء بحكم العلاقة العضوية مع المجلس وبحكم أنه كان الرجل القوى فى نظام مبارك (إذا استثنينا نجله بالطبع كمرشح للتوريث فى ذلك الحين)، فإنه لا يختلف عن باقى مرشحى الرئاسة بصفة جوهرية لأنه يأتى ليس بحكم قدرة ذاتية على فرض نفسه على المجلس بل بحكم "احتمال" استخدام المجلس له كمجرد أداة للمناورة أو من خلال محاولة فرضه رئيسا على الشعب المصرى.
22: إن على الثورة أن توحِّد صفوفها وتوسِّع جبهتها فى إطار وعلى أساس مقاطعة الانتخابات الرئاسية وليس بالمشاركة فيها بعد أن رأينا الحصاد المر للمشاركة فى الانتخابات الپرلمانية. ولا تعنى هذه المقاطعة اتخاذ موقف اللامبالاة إزاء الانتخابات الرئاسية بل ينبغى أن تكون هذه المقاطعة الموقف الذى تنطلق منه نضالات متواصلة لإسقاط مرشحىْ المجلس الأعلى والإخوان المسلمين وليس لحساب أىّ مرشح آخر سيكون فى النهاية ألعوبة فى أيدى المجلس العسكرى. وفى هذه النضالات ينبغى أن يكون التركيز على الفعل الثورى بعيدا عن المشاركة فى الانتخابات وعلى أساس واضح من رفض أىّ تعاون مع المجلس الأعلى ضد الإخوان المسلمين والإسلام السياسى أو مع الإخوان المسلمين والإسلام السياسى ضد المجلس العسكرى، فلا خيار فى الشر، كما يقولون.
23: ولا يمكن بالطبع استبعاد التوصُّل إلى تسوية يتم عقدها بين المجلس العسكرى والإخوان المسلمين يتم فيها إجبار الإخوان المسلمين على تقديم تنازلات مهمة ربما كان أبرزها التخلى عن تشكيل لجنة إعداد الدستور والتخلى عن الانفراد بتشكيل الحكومة مكتفين مثلا بمشاركة جزئية فيها مع ترك مسألة استمرار أو حل الپرلمان لقرار المحكمة الدستورية العليا. ولأن موقف الإخوان المسلمين قد ضعف كثيرا بسبب فقدانهم كثيرا من شعبيتهم نتيجة لسلوكهم السياسى والپرلمانى الباهت وغير الفعال، وكذلك بالطمع المتمثل فى التكويش الذى أدى إلى الصدام مع المجلس العسكرى فأظهر ضعف موقفهم فى ميزان القوة، وكذلك بالخلافات فى الجماعة والحزب من الداخل، فإن من المتوقع وربما من المرجح أن يقدموا تنازلات على طول الخط. ولا يمكن بالطبع استبعاد محاولات "عصلجة" من جانبهم رغبة فى حفظ ماء الوجه من ناحية، وأخذا فى الاعتبار لضغوط شباب الإخوان من ناحية أخرى، وأملا فى ضغوط أمريكية ربما سعوا إليها فى الفترة السابقة على المجلس العسكرى من ناحية ثالثة.
24: فإلى أين يمكن أن تؤدى "عصلجة" إخوانية؟ وإلى أين يمكن أن يؤدى تمرد إخوانى؟ والحقيقة أن النزول إلى الشارع قد صار صيحة رددها الشاطر وأطراف أخرى للإسلام السياسى منها حملة "لازم حازم".غير أن طرح هذا الحد الأقصى للصراع مع المجلس العسكرى من الميدان فى قفزة واحدة يعنى قلة أوراق الضغط فى أيديهم، حيث لا يملك مجلس الشعب سلطات نهائية لا فى إصدار القوانين ولا فى تشكيل الحكومات ولا فى تشكيل لجنة الدستور؛ فلا يبقى لها سوى التراجع المطلق أو النزول إلى الشارع. والسؤال هو: هل يمثل نزول الإسلام السياسى إلى الشارع ضغطا كافيا لإبقاء حازم أبو إسماعيل أو خيرت الشاطر على القائمة القصيرة أو لاستبعاد اللواء عمر سليمان من هذه القائمة؟ أو لمنع التزوير؟ والحقيقة أن الصراع من الشارع ضد النظام العسكرى يمثل أضعف أسلحة الإخوان المسلمين أو الإسلام السياسى لأن المجلس العسكرى يمكن أن يتساهل مع درجات منه، ولأنه قادر عند حدوث تصعيد خطير على توجيه ضربات قاصمة إليهم استنادا إلى اتهامات خطيرة جاهزة وإلى خرائط أمنية كاملة واستنادا إلى واقع أنهم لم يعرفوا النضال من الشارع بحكم تاريخهم الطويل فى مهادنة أولى الأمر منهم ولم تعرف بعض أقسامهم سوى العنف والإرهاب كوسائل للصراع، واستنادا على وجه الخصوص إلى فوزهم بازدراء شعبى واسع نتيجة لذيليتهم للمجلس العسكرى وتحالفهم معه ضد الثورة فى الفترة السابقة رغم زهوهم بالأغلبية الپرلمانية التى يعرفون أكثر من غيرهم كيف حققوها. والحقيقة أن ما يليق بالإسلام السياسى هو التراجع وليس الصدام، وإنْ كان التراجع لا يمنع نهاية التحالف بين المجلس العسكرى والإخوان المسلمين للتقهقر إلى تعاون أكثر تواضعا وأقل شأنا. وينبغى أن يكون واضحا أن انهيارا محتملا للتحالف بين المجلس العسكرى والإخوان المسلمين سوف يمثل انهيارا للمؤامرة المشتركة بينهما ضد الثورة، وهذا فى حد ذاته شيء حسن وقوة مضافة للثورة.
25: وهناك مخاوف لا مجال لاستبعادها من أن تكون الاتصالات الإخوانية الأمريكية السابقة والحالية قد جاءت على خلفية اتجاه أمريكى فعلى للاعتماد على الإخوان المسلمين فى حكم مصر، انطلاقا من أن خشية الولايات المتحدة الأمريكية من أن تؤدى إعادة بناء النظام على يد العسكر إلى تكرار أزمة نظام مبارك أو إلى اشتعال الثورة بقوة من جديد أو إلى عجز النظام عن التعايش مع تطورات ليبرالية تحمى الرأسمالية التابعة فى مصر من النتائج المنطقية لمثل هذا النظام. ولا شك بالطبع فى أن الولايات المتحدة تعمل على توثيق صلاتها مع مختلف القوى السياسية الفاعلة فى مصر، كما فى كل بلد آخر، ولا شك فى أنها يمكن أن تتخلى عن أىّ حلفاء لها لحساب قوة سياسية تتجه إلى الظفر بالسلطة فى مصر أو غيرها مهما تكن تلك القوة صعبة على الاحتواء بدلا من تصعيد العداء معها. غير أننى لا أعتقد أننا فى الوقت الحالى فى وضع سياسى يضطر الولايات المتحدة إلى أن تتخذ مثل هذا الموقف، فالإخوان المسلمون لا يشكلون الآن قوة تتجه إلى فرض سيطرتها، كما أن توجهاتهم الأيديولوچية والسياسية من شأنها أن تحيط سلطتهم بجماعات سلفية وأصولية تعتمد العنف والإرهاب، بالإضافة إلى أن الولايات المتحدة قد تستطيع أن تُمْلى مواقف بعينها على نظام محلى حاكم غير أنها لا تستطيع أن تأمر مثل هذا النظام بالعمل مباشرة ضد وجوده ذاته والانصراف ومغادرة المسرح، ويعنى هذا أن أىّ تشجيع أمريكى للإخوان المسلمين على الصدام مع المجلس العسكرى (وهذا مستبعد تماما على كل حال) لانتزاع السلطة ستكون عواقبه وخيمة.
26: وينبغى أن نعمل على تحرير عقول الثوار من كل تعويل على دور يقوم به رئيس قادم للجمهورية مهما كان شخصه فى إنقاذ الثورة، فلن ينقذ الثورة سوى نضالات الفعل الثورى. والواقع الفعلى هو أن الثورة مستمرة وهى تتواصل عبر أشكال بالغة التنوع وتنتشر فى كل أنحاء البلاد. والواقع الفعلى هو تصاعد النضالات العمالية والشعبية والاحتجاجات المسماة بالفئوية التى حققت نجاحات مهمة فى فرض مطالبها. وهناك من لا يتعرَّفون على الثورة إلا فى أشكالها المشهدية الدراماتيكية بمليونياتها وجماهيرها الحاشدة؛ مع أن حلقات الوصل قائمة بين كل أشكال الثورة، بين مليونية وإضراب فى مصنع، بين مظاهرة حاشدة أو اعتصام كبير ممتدّ ووقفة احتجاجية قد تكون متواضعة بحجمها ومطالبها. وتنتشر وتسيطر على الأجواء فى كثير من الأحيان إحباطات لا يبررها سوى ربط ثورة التوقعات بأجل قصير أو بحالة متواصلة من الحشود الجماهيرية. وينبغى أن نربط ثورة التوقعات بتصور أكثر واقعية لهذا الشيء غير الواقعى الذى يقلب الواقع بكامله رأسا على عقب، ولكنْ ليس على الفور وليس بضربة واحدة قاضية. ولا يعنى التصور الأكثر واقعية تقهقرا أو تراجعا أو انسحابا إلى الأمر الواقع لللاستسلام ورفع الرايات البيضاء أمام وحشية الثورة المضادة، بل يعنى أن الحلم الثورى لا يتحقق كما تتحقق الأحلام السعيدة فى الخيال أو الأحلام، بل يتحقق بمواصلة نضالات الثورة بكل أشكالها إلى أن تتحقق أهداف الشعب المتمثلة فى حياة كريمة فى ظل ديمقراطية شعبية من أسفل تفتح آفاقا أوسع أمام الحرية والرفاهية والتقدم والاستقلال الحقيقى.
9 أپريل 2012















8
من سؤال الأسباب إلى سؤال النتائج
(كلمة أُلقيت فى مؤتمر الثورة والثقافة بالمجلس الأعلى للثقافة، مصر)
1: كان حدث 25 يناير 2011 ثورة سياسية شعبية كبرى، وما تزال الثورة مستمرة. غير أن كثيرين يترددون، لأسباب متنوعة، فى اعتبار هذا الحدث التاريخى ثورة. ورغم أن الثوار اعتبروا حركتهم ثورة وسموها الثورة، بألف لام التعريف، فإن مراقبين كثيرين منحوها ألقابا أخرى أقلّ شأنا مثل الانتفاضة والهوجة وما أشبه. لقد ثار الشعب المصرى بكامله، بعشرات الملايين من بناته وأبنائه، فى طول البلاد وعرضها، ولفترة ممتدة، واضعا على عاتقه مهمة كبرى لا تقل عن "إرادة" إسقاط النظام (الشعب يريد إسقاط النظام)، واستطاع هذا الانفجار الشعبى التاريخى فى أيامه الأولى أن يُحْدِث بالضربة القاضية تغييرا كبيرا؛ وكان تغييرا شاملا حقا. وكان التغيير الأهم هو تغيير الشعب المصرى لنفسه، فقد تغيَّر الشعب حقا وفعلا: كسر حاجز الخوف، وافتتح زمن الثورة، وبعد أن كان مقهورا صار قاهرا لقاهريه، وبعد أن كان مهمَّشا منزويا تقدَّم بجرأة وبطولة إلى مقدمة المسرح السياسى، وبعد أن كان حبيس حالة المفعولية انتقل إلى حالة الفاعلية، وبعد أن كان تحت سيطرة دولة الفساد والاستبداد على وجوده ومصيره صار يسيطر بنفسه على قدره ومصيره، وباختصار خرج جنى الثورة من القمقم. وكان التغيير الثانى كما أراد هو تغيير النظام، ففى الأيام الأولى لثورته "السلمية" سحق بالضربة القاضية (فى حالة دفاع مشروع عن النفس) الأداة المباشرة الكبرى للحكم الديكتاتورى ورمزه الأكبر وأسطورته المسيطرة، أعنى وزارة الداخلية المصرية بكل أجهزتها وقواتها، وفى الأيام الأولى (فى منتصف الأسبوع الثالث للثورة) أسقط رأس النظام حيث كان لا مناص من أن يقوم المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية تحت ضغط الثورة بانقلاب عسكرى (وهو انقلاب قصر أىْ من داخل النظام ولمصلحته) أطاح برئيس الجمهورية ومعه أسرته وحلقة ضيقة من رجاله، ومعه التمديد والتوريث، ومعه ما يسمى بحكم الشخص. فعندما غيَّر الشعب المصرى نفسه استطاع أن يغيِّر النظام الاستبدادى الفاسد. وبعد أن جرى إخضاع الشعب للَّاتسييس المنهجى اكتسب تسييسه الجذرى بنفسه، بفعله الثورى الكبير، وكان لهذا التسييس شقَّاه المتكاملان: من ناحية، انكشاف الفساد بكل حجمه الهائل للشعب فى مجرى تعرية شاملة للنظام، ومن ناحية أخرى، اكتشاف الشعب لطاقته وقوته، لقدرته على التغيُّر والتغيير، هذه القدرة التى صارت بعد ذلك خبز يومه وأساس استمرار ثورته إلى الآن.
2: وقد قيل إن هذه الأحداث ليست ثورة لأنها تلقائية وعفوية مع أن الثورة الشعبية لا تكون إلا كذلك. وقيل إنها ليست ثورة لأنها تفتقر إلى قيادة ثورية منظمة ومع أن وجود مثل هذه القيادة يمكن أن يكون شيئا إيجابيا لصالح الثورة إلا أن غيابها (مع أنه يحرم الثورة من عنصر إيجابى مهم للغاية) لا يعنى أننا لسنا إزاء ثورة. وقيل إن الثورة الناجحة هى، وحدها ودون غيرها، الثورة، مع أن الثورة قد تنجح وقد تفشل فتظل مع هذا ثورة؛ ثم ما هى معايير النجاح والفشل؟ وهل يجوز أن نفترض لثورة أهدافا تتجاوز الأهداف الكامنة فيها موضوعيا لنستنتج من عدم تحقيق هذه الأهداف المفترضة دون مبرر حقيقى فشل الثورة، وبالتالى اعتبار أنها ليست ثورة أصلا؟ بل هناك من استنتج من استمرار الفقر أنها ليست ثورة وكأنها ثورة اشتراكية، أو كأن الثورة الاشتراكية تلغى الفقر فى غمضة عين، أو كأن المعركة ضد الفقر والإفقار قد انتهت مع أنها مستمرة ومرشحة للاستمرار فترة طويلة.
3: ومهما يكن من شيء فإن السؤال يبقى: كيف تغير الشعب بين عشية وضحاها، وكيف نجح فى التغيير، وكيف صار من المأمول أن يحقق المزيد من التغيير فى نفس الاتجاه؟ كيف إذن حدثت معجزة أن يتغير الشعب ويغيِّر؟ إنه سؤال السبب؛ وكما يقال فإنه إذا عُرِف السبب بطل العجب!
4: وإذا قلنا إن السبب ماثل فى صميم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية المتردية، أوضاع المستويات البالغة التفاقم من الاستغلال والفساد والاستبداد نتيجة للرأسمالية التى تقودها شراهتها بالضرورة إلى تجريف كل أساس اقتصادى لحياة وحتى بقاء الشعوب، فإننا نقدم بذلك وصفا عاما لأوضاع يمكن أن تستمر معها استكانة شعبٍ أعواما وحتى عقودا دون أن تصل مقاوماته واحتجاجاته إلى مستوى الثورة مع أن مثل هذه الأوضاع هى الخلفية الاجتماعية السياسية التى لا يمكن بدونها أن تتفجر ثورة شعبية تستحق هذا الاسم.
5: ولا مناص بالتالى من الانتقال من هذه الخلفية الإستراتيچية العامة إلى الأسباب والعوامل الظرفية التى تشعل النار فى وقود جاهز للاشتعال. وفى حالتنا الخاصة كان هناك بالتأكيد تأثير الدومينو القادم من الثورة التونسية التى فجرها بدورها عامل ظرفى يتمثل فى انتحار مواطن تونسى فقير بإحراق نفسه ولم تتحرك مصر إلا بعد أن حققت الثورة التونسية بالفعل المعجزة المذهلة المتمثلة فى إجبار الديكتاتور على الرحيل.
6: على أن الثورات لا تنفجر عند توفُّر كل عامل ظرفى أو تأثير دومينو رغم تردى الأوضاع. وقد شهدنا فى المنطقة العربية رغم التناظر العام فيها من حيث تردى الأوضاع الاجتماعية السياسية مستويات متفاوتة من الاستجابة من جانب الشعوب. وهناك بالطبع جزء لا يتجزأ من هذه الأوضاع يتمثل فى تطور الاحتجاجات والتطورات فى بلد دون آخر فى الأعوام السابقة للثورة. ودون أن نأخذ فى اعتبارنا هذه الخلفية الاجتماعية العامة، وتأثير الدومينو، وكذلك الاحتجاجات والتطورات فى الأعوام القليلة السابقة للثورة المصرية السياسية الشعبية الكبرى (وكذلك باقى ثورات ما يسمى بالربيع العربى) فإن سؤال السبب وراء الثورة سيغدو لغزا بالغ الإبهام. على أن حقائق ومعادلات تنطوى عليها مجموعة الأسباب البالغة التعقيد الماثلة وراء تفجر الثورة تطرح مباشرة قضية جدل السبب والنتيجة أىْ طبيعة الثورة وآفاقها بحكم إطارها التاريخى وخصائص قواها الفاعلة.
7: على أنه ينبغى، قبل أن ننتقل إلى جدل السبب والنتيجة، أن نركز أولا على سؤال السبب، أو بالأحرى مجموعة الأسباب البالغة التعقيد الماثلة وراء تفجر الثورة. وإذا كان من المنطقى أن نركز الآن ما دامت الثورة قد تفجرت، بالفعل، على نتائج الثورة وليس على أسبابها، فإن الأسباب هى أم النتائج، والقاعدة هى أن ما سبق الثورة هو الذى يتحقق من خلالها، وأن ماضى الثورة هو مستقبلها بأشكال جديدة هى ثمرة انصهار الماضى بأسبابه وعوامله ودوافعه وكل عناصره فى بوتقة الثورة صانعةً مساراتها المحتملة ونتائجها المتوقعة ومستقبلها المفترض.
8: والحقيقة أن الأسباب الكبيرة والصغيرة التى تضافرت فى لحظة الثورة إنما هى أسباب تراكمية وبالتالى نتائج تراكمية لأسباب سابقة. ولا تتضح حقيقة هذه الأسباب ولا نفهم مغزاها الحقيقى إلا عندما نفهم طبيعتها ومداها وعمقها ويحدث هذا عندما نربطها بنتائجها فى هذه اللحظة أو تلك، ولا نفهم طبيعتها إلا بربطها بعمق بطبيعة نتيجتها الأساسية الجوهرية؛ أعنى طبيعة الثورة وهذه الأخيرة، طبيعة الثورة، هى التى توضح لنا المسار العام لجدل الأسباب والنتائج، وللمسار العام والإطار العام للثورة، وتجعل بمستطاعنا بالتالى التحديد الدقيق للأهداف الكبرى للثورة دون تهويل أو تهوين. وقد عملت دوائر بعينها فى أعقاب الثورة على إغراق أىّ محاولة اجتماعية أو تاريخية لفهم هذه الثورات فى بحر من النظريات الفيزيائية التى تبرز اللايقين، والعشوائية، وصعوبة وحتى استحالة التنبؤ، وتعلن موت كل تفسير تاريخى للتاريخ، وكانت النتيجة المنطقية هى إعلان تفسير اللاتفسير فى فهم أسباب الثورة وبالتالى استحالة أىّ توقع للتطورات والآفاق والنتائج!
9: والنتيجة الأساسية الجوهرية للثورة، أىْ طبيعة الثورة، ليست شيئا، إنها بالأحرى علاقة؛ علاقة إيجابية من جانب وسلبية من جانب آخر بين قوى اجتماعية فى مصر تعبِّر عنها قوى سياسية بعينها، فهى علاقة بين الثورة وبين النظام الذى يتحول على الفور إلى ثورة مضادة، فالثورة المضادة ليست سوى النظام وقد امتشق السلاح لمواجهة الثورة، وهى علاقة بين وسائل وأدوات فعلية متغيرة مع أهداف وغايات تنتظم فى هدف كبير تستكشفه قوى الثورة شيئا فشيئا ويتعمق نضج فهمها شيئا فشيئا والابتعاد بالتدريج عن تخبطات وارتباكات الفترات الأولى للثورة. وبالطبع فإن الثورة السياسية، وكل ثورة، تُشعل لدى قواها ثورة تطلعات وتوقعات وأحلام وأوهام لا تتضح طبيعتها الحقيقية إلا بالتدريج، ومع الزمن، أثناء وبعد الثورة وفى الأجل الطويل. وهكذا تبدو الثورة عند مجرد حدوثها والتحقق من أنها ثورة بفضل حجم الحدث وامتداده الزمنى ثورة سياسية ينبغى أن ينتزع الشعب الثائر وقوى الثورة فى سياقها سلطة الدولة، وتبدو ثورة اجتماعية تحرر الشعب من الاستغلال والاستبداد والقهر والفقر والجهل والمرض والمهانة فى مجتمع جديد مختلف. وطبيعة الثورة التى تحددها أسبابها ودوافعها وعواملها هى التى توضح نصيب هذه التوقعات من الحقيقة والوهم، وعند أىّ اعتراض بأن نتائج الثورة ينبغى تحديدها على أساس معايير محددة دقيقة تُمْليها طبيعتها المحددة بدقة سرعان ما يجرى تفنيد ودحض الاعتراض بحجة أن ثورتنا نسيج وحدِها فى كل تاريخ العالم كله وبالتالى فإنها ستحقق لمصر والعالم المجتمع الذى حلمت به البشرية طوال تاريخها. غير أن السلوك السياسى الفعلى يتعارض مع كل هذا التفاؤل فى كثير من الأحيان لأن التاريخ يحقق ما ينطوى عليه وليس بالضرورة ما يتصوره البشر بعيدا عن منطقه. وهنا تحل الإحباطات والسوداوية محل فيض التفاؤل دون مبرر حقيقى أيضا لكل هذا التشاؤم فى مجرى ثورة مستمرة لا تزال.
10: على أن التحليل السياسى لا ينبغى أن يحصر كل رؤيته ومعاييره فى أحداث فترة راهنة محلية أو إقليمية أو عالمية، انطلاقا من شوڤينية وطنية سافرة؛ بل عليه أن يجمع بصرامة بين وقائع وقوى الحاضر ودروس التاريخ الحديث والمعاصر ومفاهيم ومعايير العلم السياسى والاجتماعى. وقد تعلم العلم السياسى من أحداث التاريخ فى القرون الأخيرة أن تاريخ أىّ بلد أو مجتمع مهما كانت خصوصياته وثيق الارتباط بقوانين التطور الاجتماعى دون حتمية جبرية بطبيعة الحال بحكم التفاعل المعقد مع عوامل داخلية وخارجية لا حصر لها. وينبغى بادئ ذى بدء التمييز من ناحية بين الثورة الاجتماعية والثورة السياسية، ومن ناحية أخرى بين الثورة فى البلدان التى صارت بلدانا صناعية والثورة فى بلدان العالم الثالث أو بدقة أكثر فى المستعمرات وأشباه المستعمرات سابقا. وكانت سمة ثورة البلدان الصناعية أنها كانت ثورة سياسية تستغرق سنوات تأتى فى سياق الثورة الاجتماعية التدريجية التى تستغرق عقودا أو قرنا أو أكثر قبل الثورة السياسية وزمنا طويلا آخر بعدها. وكانت الثورة الاجتماعية تعنى التحول الرأسمالى التدريجى الطويل مصنعا مصنعا واختراعا اختراعا ونظرية نظرية ومزرعة مزرعة وسوقا سوقا فى فترة سابقة على الثورة السياسية وكانت سمتها المميزة أنها لم تكن نظاما إقطاعيا بل كانت نظاما انتقاليا وكانت الثورة السياسية تقوم بوظيفة تاريخية هى إزالة العقبات والعراقيل من طريق الثورة الاجتماعية، من طريق التحول الرأسمالى الجارى، ومن هنا فإن الثورة السياسية تقوم بتحقيق ما سبقها لأن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة. وما سبق الثورة يمثل مستقبلها. ولأن النظام الرأسمالى قام واستقر فى الغرب أو فيما نسميه حاليا بالشمال مسيطرا على العالم وعلى بلدان العالم الثالث الحالى، بحيث تحول العالم إلى عالميْن يخضع أحدهما لسيطرة الآخر، فإن المستعمرات وأشباه المستعمرات السابقة التى تتطور منذ ذلك الحين تحت السيطرة الاستعمارية لم تشهد، وما كان يمكن أن تشهد والحالة هذه، ثورة اجتماعية أىْ تحوُّلا رأسماليا تلحق بفضله بالغرب الرأسمالى. ورغم أن شعار اللحاق بالغرب صار شعار التنوير فى كل البلدان التى تأخرت عن الرأسمالية، فقد لحقت بأوروپا الغربية بلدان مثل ألمانيا وروسيا وإيطاليا والياپان فى أوقات مختلفة وعلى دروب شتى متحولة إلى بلدان رأسمالية صناعية، فيما تحولت معظم بلدان القارات الثلاث إلى بلدان تابعة للرأسمالية العالمية، الاستعمارية. ولم تحدث فى هذه البلدان ثورات اجتماعية، أىْ تحول جذرى شامل إلى الصناعة والحداثة والرأسمالية بالمعنى الحقيقى. وعلى حين شهدت البلدان التى صارت بلدانا رأسمالية صناعية فى الغرب أو الشمال ثورات سياسية فى سياق ثورات اجتماعية كأدوات لهذه الأخيرة، عرفت المستعمرات وأشباه المستعمرات التى صارت بلدانا تابعة للرأسمالية العالمية ثورات سياسية فى السياق التاريخى للتبعية الاستعمارية وليس فى السياق التاريخى للثورة الاجتماعية. وهى بالتالى ثورات لا تؤدى، إلا فى حالات استثنائية مثل حالات الصين والنمور الآسيوية الأصلية فى ظروف تاريخية خاصة، إلى الرأسمالية المتقدمة والصناعة والتحديث والاستقلال الحقيقى، ولهذا تبقى هذه البلدان رغم الثورات رأسمالية متخلفة تابعة وبالتالى غير مستقلة إلا بمعنى الاستقلال فى القانون الدولى. وهذا ما ظل يحدث فى مصر منذ ثورة 1919 عبْر الانقلاب العسكرى المسمى بثورة 1952 وحتى ثورة 25 يناير 2011 الراهنة.
11: ومن البديهى أن بلادنا لا تشهد ثورة اجتماعية تنقل من الرأسمالية إلى الاشتراكية، ولا تشهد ثورة اجتماعية تنقل من الإقطاع أو من الرأسمالية التابعة إلى الرأسمالية بالمعنى الحقيقى؛ فما الذى يمكن أن تحققه الثورة فى بلادنا وفى الثورات العربية الراهنة وفى ثورات العالم الثالث بوجه عام ما دامت التبعية للرأسمالية الاستعمارية ستبقى وتبقى طبقتها المحلية الحاكمة بالذات أو بالواسطة، كما سيبقى الاستغلال والاستبداد والفساد والديكتاتورية من أعلى؟ أعتقد أن الثورة يمكن أن تحقق وضعا تاريخيا بالغ التقدم والأهمية، أىْ ما أسميه بين آخرين: الديمقراطية الشعبية من أسفل، أىْ الشكل الحقيقى الوحيد للديمقراطية فى مجتمع رأسمالى متقدم أو تابع، ذلك أن الديمقراطية كسمة مميزة لبلد لم تحدث فى أىّ مكان فى العالم منذ مولد هذه الكلمة الحالمة المضللة فى أثينا إلى يومنا هذا. أما الديمقراطية الشعبية من أسفل فقد كانت الثمرة الحلوة الوحيدة ولكنْ الكبرى لثورات البلدان الصناعية المتقدمة. وهى تعنى أدوات الشعب النضالية من أحزاب ونقابات وروابط واتحادات وحقوق تظاهر واعتصام وإضراب وأجور عادلة ورعاية صحية وتعليم جيد وصحافة حرة واستقلال القضاء وغير ذلك؛ ومن شأن هذه الأشياء أن تغير حالة الشعب. غير أن هذه الديمقراطية الشعبية من أسفل ذاتها ستغدو موضوع صراع بين الشعب والديكتاتورية من أعلى وإن كان من الممكن أن تفتح الباب أمام تطورات تاريخية مهمة لاحقة نحو آفاق لا يمكن القول بإغلاقها.
12: وتعود بنا هذه النتيجة الأساسية للثورة أىْ تحقيق الديمقراطية من أسفل فى بلد سيظل تابعا للإمپريالية إلى الأسباب، فالأسباب لم تتمثل فى نضال تاريخى طويل فى سبيل الثورة الاشتراكية كما أنها لم تتمثل فى ثورة اجتماعية تدريجية تتجسد فى تحوُّل رأسمالى جذرى شامل، ويبرز هنا سؤال لا يمكن تفاديه: كيف نرى ثورة سياسية فى ثورة لا تنتقل فيها سلطة الدولة من طبقة إلى طبقة وفقا لمفهوم وتاريخ الثورة السياسية؟ والحقيقة أن الثورة السياسية الشعبية فى مصر وبلدان ثورات ما يسمى بالربيع العربى وبلدان العالم الثالث بوجه عام إنما هى ثورات سياسية لأنها تهدف إلى إعادة بناء علاقات المجتمع السياسى غير أنها سياسية بمعنى أكثر تواضعا لأنها لا تنقل السلطة من طبقة أو طبقات إلى طبقة أو طبقات. وهكذا فإن حضور أسباب دفع إلى الثورة الشعبية كما أن غياب أسباب أخرى (غياب الثورة الاجتماعية فى المحل الأول) حكم على هذه الثورة بحدود لا تتخطاها. وهناك سبب بالغ الأهمية يتمثل فى ضعف وتشرذم قوى اليسار والديمقراطية والوطنية والليبرالية اليسارية التى مثلت شرارة الثورة التى نجحت فى اجتذاب عشرات الملايين فصارت ثورة شعبية كبرى، بفضل حزمة أخرى من الأسباب منها الضربات الپوليسية المتواصلة لليسار والقوى الديمقراطية فى عهود الرؤساء الثلاثة السابقين، ومنها انهيار قلعة اليسار الماركسى من داخلها بحكم الذيلية إزاء الرأسمالية الروسية التى ادعت الاشتراكية والسوڤييتية، ومنها قيام وانهيار الكتلة الشرقية المسماة بالاشتراكية بكل تأثيرها المدمر على الحركة الماركسية والاشتراكية والثورية فى العالم من أقصاه إلى أقصاه. كل هذا فى سياق اعتمدت فيه عهود عبد الناصر و السادات و مبارك الحل الأمنى ضد الإخوان المسلمين والإسلام السياسى والشيوعيين وكل حركة معارضة وكان هذا يصبّ فى ظروف تخلف البلاد والمجتمع والأرضية التراثية العامة إلى قوة الإسلام السياسى وضعف اليسار بالمعنى الواسع للكلمة.
13: وفى سياق كل هذا تميزت سيرورة الثورة وصيرورتها بازدواج حالة القوى الحقيقية للثورة: الضعف العددى النسبى، وغياب الرؤية الواضحة، مع الميزة الكبرى المتمثلة فى واقع أنها هى التى قامت بالإعداد للثورة وقيادتها والاستمرار بها إلى الآن بعناد وتفان وفدائية وبسالة فاستطاعت اجتذاب عشرات الملايين من بنات وأبناء الشعب المصرى إلى الثورة وكسبت بنضالاتها من أجل الشعب قلب الشعب، فيما خسر الإسلام السياسى الذى اتضح لكل ذى عينين أنه جزء لا يتجزأ من الثورة المضادة، بحكم انتمائه الطبقى والأيديولوچيا الدينية السياسية التى يتبناها، قلب الشعب نتيجة معاداته للثورة وخيانتها وذيليته إزاء المجلس العسكرى ووقوفه ضد نضالات الثورة على طول الخط.
14: والنتيجة الراهنة (ولا أقول أبدا: النتيجة النهائية) هى هذا الصراع الذى نشهده الآن بين دولة المخابرات بقيادة المجلس العسكرى والدولة الدينية بقيادة الإخوان المسلمين وبقية قوى الإسلام السياسى. وهذه النتيجة وثيقة الصلة بالأسباب التى يمكن إيجازها فى: تغيير الأوضاع الاجتماعية الاقتصادية المتردية للشعب وبالتبعية ضرورة امتلاك أدوات مستقلة للنضال الآن وفى المستقبل ضد هذه الأوضاع، وبعبارة أخرى: تفجرت الثورة لتحقيق الديمقراطية الشعبية من أسفل. والحقيقة أن الثورة لم تتفجر فى سبيل عدد من شعاراتها الأكثر إلحاحا فى الوقت الحالى؛ لم تتفجر لإنصاف أُسَر الشهداء والمصابين والمعتقلين الذين لم يكونوا من أسباب الثورة بل كانوا من نتائجها، ولم تتفجر لمنع الدولة الدينية التى كانت قواها المتجبرة حاليا منكمشة خوفا رغم التنكيل بها، ولم تقم لمنع عمر سليمان أو أحمد شفيق من الترشح لأن هذا لم يكن مطروحا أصلا فى سياق التمديد والتوريث لرأس النظام. بل قامت الثورة لإسقاط النظام. وضلل التحالف العسكرى الإخوانى الثورة وأغرقها فى طوفان من الاستفتاءات والانتخابات الپرلمانية والرئاسية بكل فيض إجراءاتها وقوانينها بمراسيم، كما أغرقها ذلك التحالف فى مذابح القمع العسكرى والأيديولوچى. وكان لانجرار قوى الثورة وراء إستراتيچيا الاستفتاءات والانتخابات الپرلمانية والرئاسية بدلا من الاعتماد على الفعل الثورى فى زمن الثورة عواقب وخيمة. والثورة جديرة الآن بأن تقاطع الانتخابات الرئاسية التى ستأتى على كل حال برئيس "أراجوز" وألعوبة فى يد المجلس العسكرى، غير أن المقاطعة لحساب الفعل الثورى بكل أشكاله وليس فقط بأشكاله المشهدية الدراماتيكية بحشود المليونيات لا تعنى اللامبالاة إزاء أخطار تنطوى عليها هذه الانتخابات. وبالتالى فإن من الواجب العمل على أساس لا للمجلس العسكرى ودولة المخابرات، ولا للدولة الدينية والجمهورية الإسلامية، من خلال الفعل الثورى وليس من خلال صناديق الانتخابات، والعودة إلى التركيز على الديمقراطية الشعبية من أسفل بكل أهدافها الأساسية بوصفها العبارة التى تلخص الأهداف الحقيقية للثورة السياسية الشعبية الكبرى الراهنة. وبهذا فقط يمكن أن تتوقع الثورة النتائج المنطقية لأسبابها ودواعيها، فى سبيل حياة حرة كريمة للشعب.
10 أپريل 2012



#خليل_كلفت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هل يتمخض الربيع العربى عن تأسيس دول إسلامية؟
- الانقلاب العسكرى المكمِّل
- كلمات فى عشية جولة إعادة الانتخابات الرئاسية فى مصر
- محاكمة ثورية للرئيس مبارك وأسرته ورجاله وإلغاء الانتخابات ال ...
- مع متاهات أرقام الانتخابات فى مصر
- مأتم ديمقراطية المجلس العسكرى والإخوان المسلمين فجر الديمقرا ...
- أساطير الجبال والغابات - برنار كلاﭭيل
- هاجس الحرب الأهلية فى مصر
- أساطير البحيرات والأنهار - برنار كلاڤيل
- أضأل امرأة فى العالم - كلاريس ليسپكتور
- أسطورة الفترة الانتقالية وحقائق المسار الفعلى للتطورات فى مص ...
- مقالات مترجمة فى الفن التشكيلى
- أساطير البحر - برنار كلاڤيل
- تسع قصائد للشاعر البرازيلى: مانويل بانديرا
- سبع قصائد لناظم حكمت
- غنوة
- مشاكل تخلُّف (قصيدة)
- الإعداد للموت (قصيدة)
- أربع قصائد لبورخيس
- الترجمة فى سياق ما بعد كولونيالىّ


المزيد.....




- محكمة تونسية تقضي بإعدام أشخاص أدينوا باغتيال شكري بلعيد
- القذافي يحول -العدم- إلى-جمال عبد الناصر-!
- شاهد: غرافيتي جريء يصوّر زعيم المعارضة الروسي أليكسي نافالني ...
- هل تلاحق لعنة كليجدار أوغلو حزب الشعب الجمهوري؟
- مقترح برلماني لإحياء فرنسا ذكرى مجزرة المتظاهرين الجزائريين ...
- بوتين: الصراع الحالي بين روسيا وأوكرانيا سببه تجاهل مصالح رو ...
- بلجيكا تدعو المتظاهرين الأتراك والأكراد إلى الهدوء
- المكتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي: مع الجماهير ضد قرارا ...
- بيان تضامن مع نقابة العاملين بأندية قناة السويس
- السيسي يدشن تنصيبه الثالث بقرار رفع أسعار الوقود


المزيد.....

- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي
- بصدد الفهم الماركسي للدين / مالك ابوعليا
- دفاعا عن بوب أفاكيان و الشيوعيّين الثوريّين / شادي الشماوي
- الولايات المتّحدة تستخدم الفيتو ضد قرار الأمم المتّحدة المطا ... / شادي الشماوي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - خليل كلفت - ثورة 25 يناير 2011 فى النصف الأول من 2012 - القسم الأول