أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - سليمان سمير غانم - ميثرا و طقوس العبادة الميثرائية في الإمبراطورية الرومانية















المزيد.....



ميثرا و طقوس العبادة الميثرائية في الإمبراطورية الرومانية


سليمان سمير غانم

الحوار المتمدن-العدد: 3773 - 2012 / 6 / 29 - 08:42
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


الديانة الميثرائية: في اليونانية Μιθραϊσμός، في اللغة الإنكليزية Mithraism، تعرف بالإيطالية ب Mitraismo. هي ديانة هندو أوربية شرقية، مكرسة لعبادة إله الشمس الفارسي ميثرا، المعروف باليونانية ب ميثراس ( Μίθρας ).
الإله ميثرا: اشتق اسمه من لفظة ميهرا في اللغة الفارسية القديمة التي تعني مهرجان و ذلك للدلالة على الإحتفالات التي كانت تقام له. هو إله النور و الحكمة لدى الهندوس و الفرس، الموطن الأصلي له إيران، جاء ذكره في أقدم الكتب المقدسة لدى الهندوس (ريك فيدا) باسم ميثرا. كان الإله ميثرا في الأصل، إلها ثانويا مساعدا لإله السماء الهندوسي (فارونا) حسب الديانة الفيدية. أما في الوسط الإيراني، فكان إلها مساعدا لإله النور و الخير أهورمزدا في صراعه مع قوى الشر، هذا ما ساهم في تجسيده لصفة إله محارب لدى الفرس، أو اعتناقه من قبل الجنود الرومان، ذلك عبر خلفيته المحاربة التي ترسخت في العقلية الفكرية للمعتقدين بالديانة الميثرائية، الذين كانوا بأغلبهم من المؤسسة العسكرية في الجيش الروماني أو الفارسي على السواء. في كتاب الأفستيا الزرادشتي، الذي يعتبر الكتاب الديني الرسمي للزرادشتيين، ورد اسم ميثرا كإله للنور و الحقيقة، عدو الكذب و الخطيئة، و أنه يعاقب كل من يحلف يمينا كاذبا أو ينحرف عن الحق و النزاهة، كما ورد بأنه يهب الصحة، الصداقة و الرجاء للذين يمجدونه و يؤمنون به. كان يعرف لدى الفرس أيضا باسم يازور التي تعني باللغة الفارسية القديمة ( المنقذ) أو الفادي. تشير بعض المصادر التاريخية إلى أن الميثرائية ترجع إلى القرن السادس عشر قبل الميلاد لدى الفرس، و أن الإله ميثرا ذكر لأول مرة في المصادر الكتابية في عام 1350 ق.م كان قد ذلك في أحد نصوص الاتفاق بين الملك الحثي شوبيلوليوما و الملك الميتاني ماتيوازه. ظلت عبادة ميثرا منتشرة في إيران حتى تم إلغاء طقوسها من قبل زرادشت، الذي عبر إنتشار تعاليمه ضعفت التأثيرات أو الإشارات إلى إستمرار عبادة ميثرا بقوة في إيران، أي أنها لم تعد بالقوة نفسها التي كانت قبل ظهور زرادشت على المسرح الديني الفارسي. في العهد الإخميني، على الرغم من إعتناق ملوك الفرس للزرادشتية، إلا أن تسامحهم الديني سمح بإنتشار الميثرائية ضمن حدود الإمبراطورية، و عاد الإله ميثرا للظهور إلى جانب أهورمزدا، مصورا كإله للشمس، حتى أن أكاسرة الفرس كان يستمدون قوتهم منه، ليتخذ تاج الملوك الإخمينيين هيئة قرص الشمس المعبرة عن عين الإله ميثرا. إذا كانت عبادة ميثرا قد إنتهت من فارس في العصور الكلاسيكية، بعد غزو الإسكندر الأكبر لفارس، إلا أن عبادته لم تغب عن مسرح الأحداث، بل أخذت منعطفا آخر، ذلك عبر إنتشارها بين الإغريق و الرومان خلال العصور الكلاسيكية. هنا علينا التمييز بين الميثرائية الرومانية التي كانت وجهة نظر الإغريق و الرومان في أواخر العصر الهلينستي بإله الشمس الفارسي ميثرا، و التي كانت مختلفة عن الديانة الميثرائية الفارسية التي تقول المصادر التاريخية أنها كانت مقتبسة عن ديانة بابل، أي كانت متوراثة لدى الفرس عن ديانات بابل بعد الغزو الفارسي لبابل على يد كورش الكبير، فنحن نعلم بوجود إله الشمس (شمش) لدى الرافديين، الذي ربما عبر إختلاط عبادته مع عبادات الفرس المجوسية نشأت الميثرائية الفارسية. لذلك فموضوع بحثنا اليوم هو بحث في الميثرائية الرومانية بعيدا عن الميثرائية الفارسية و تأثيراتها الشرقية. سنعتمد فيه على مراجع و أبحاث تستقي معلوماتها التاريخية من الإكتشافات الأثرية و الرسوم و الكتابات الميثرائية في المعابد الميثرائية الرومانية فقط.
إنتشرت عبادة ميثرا بين الإغريق في نهاية العهد الهلينستي أي في القرن الأول قبل الميلاد، من خلال إختلاط الإغريق بالفرس و الشعوب الشرقية بعد فتوحات الإسكندر الأكبر، فقام الإغريق من خلال احتكاكهم بالفرس بنقل هذه الديانة الى أراضيهم و أماكن تواجدهم، لاسيما في حوض المتوسط الشرقي، اليونان، أسيا الصغرى و سوريا. بعض المصادر التاريخية تشير إلى أن الإغريق بعد احتلالهم لبلاد الرافدين، تأثروا في بابل بالديانات الشرقية بعد أن كانوا قد اطلعوا على الديانة الزورانية أي الزمنية البابلية و التي عبر اختلاطها بمعتقدات الإغريق نشأت الميثرائية الإغريقية أو بالأصح الرومانية.
في العهد الروماني، تشير المصادر التاريخية الرومانية إلى أن الفيلق الروماني الخامس عشر Legione XV الذي كان يرابط على حدود الإمبراطورية الفارسية في منطقة Comogene قرب أرمينيا في القرن الأول الميلادي، كان قد نقل جسم العقيدة الميثرائية إلى الجيش الروماني بشكل كبير و مؤثر.
توسع الإمبراطورية الفارسية أيضا، لاسيما في آسيا الصغرى كان قد ساعد كثيرا على انتقال الديانة الميثرائية الى أراضي الإمبراطورية الرومانية
بعد إنتشار الديانة الميثرائية بين الرومان بشكل ملحوظ في نهاية القرن الأول قبل الميلاد، أصبحت الديانة الميثرانية جزء من ديانات الرومان كديانة وافدة شرقية غير أصيلة، أي أنها لم تكن من أصول يونانية أو رومانية كما هي حال الأغلبية العظمى من ديانات الرومان، يشير الباحثون في تاريخ الأديان أن عبادة ميثرا تحولت مع الرومان إلى مرتبة دين عالمي، تمارس طقوسه في أراضي الإمبراطوريات المعروفة في تلك الحقبة. إشارات عديدة تؤكد بداية انتشار الديانة الميثرائية في أراضي الإمبراطورية الرومانية قبل العهد الروماني، في نهاية العصر الهلينستي، لا سيما ضمن الممالك التي شكلها الإغريق بعد موت الإسكندر، كالإمبراطورية السلوقية و الإمبراطورية البطلمية. تقترح الفرضية أيضا، بأنه في نهاية العصر الهلينستي، بعد زوال ممالك الإغريق السياسية على أثر إنتصارات روما المتتالية، خصوصا بعد العام 65 قبل الميلاد، ورث الرومان في القرن الأول قبل الميلاد إرث الإغريق الحضاري في الكثير من المجالات و منها الناحية الدينية، فكانت آلهة الرومان على نفس مبدأ الديانة الإغريقية، يرى ذلك بشكل واضح في شكل مجمع الآلهة الرومانية، المقتبس بكل تفاصيله عن الإغريق، كان من بين الأديان التي ورثها الرومان عن الإغريق مظاهر العبادة الميثرائية و طقوسها السرية. يبدو أيضا، أن المواجهات العسكرية، التي تجددت بين روما و فارس بعد القرن الميلاي الأول، كانت قد زادت في زخم اختلاط الرومان بالفرس، عن طريق المواجهات الحربية أولا، من ثم عن طريق التبادلات التجارية بين قطبي العصور الكلاسيكية آنذاك روما و فارس.
في العصر الروماني المتأخر، لاسيما بين القرنين الثاني و الرابع الميلادي، اجتاحت الديانة الميثرائية بشكل لافت أراضي الإمبراطورية، منتشرة بطريقة كبيرة لدى الأباطرة و النبلاء الرومان، و بدرجة أكبر في صفوف الجنود الرومان، لا سيما المتواجدين أو الذين خدموا على الجبهة الشرقية، الذين بدورهم قاموا بنقلها الى أراضي الإمبراطورية بشكل عام، و العاصمة روما بشكل خاص.
في ذلك الزمن، أي بين القرن الأول و الرابع الميلادي، نلاحظ مواقف مختلفة للأباطرة الرومان من العقيدة الميثرائية، يلاحظ أن العلاقة بدأت بشكل جيد و متوازن، لترتفع و تصل إلى مرتبة ممتازة عبر إعتناق الأباطرة للديانة الميثرائية في القرون الميلادية الأولى، لتنتنهي بعلاقة سيئة بعد إنتشار المسيحة و إعتناقها من قبل الأباطرة في القرن الرابع الميلادي، أي اعتناقها من قبل الامبراطور قسطنطين و خلفائه. لاستحضار العلاقة بين الأباطرة و العقيدة الميثرائية في القرون الميلادية الأولى، سنتابع المعلومات الواردة في المصادر التاريخية الرومانية، نبدأ مع الإمبراطور Nero Claudius نيرون، الذي وصل إلى العرش الروماني في عام 37 ميلادي، في فترة حكمه، شرع الإمبراطور نيرون العبادة الميثرائية كديانة مسموحة ضمن أراضي الإمبراطورية و تبنى فكرها كإحدى الديانات الوثنية المنتشرة في أراضي الإمبراطورية. بعد عهد الإمبراطور نيرون و في عهد أسرة الأباطرة الفلافيين Flavi في العام 72 ميلادي توسع جسم العبادة الميثرائية في أراضي الإمبراطورية، خصوصا في المناطق العسكرية الإمبراطورية على الدانوب، في غاليا، بريطانيا و شمال أفريقيا، مقتصرا بشكل خاص على مدن الموانئ البحرية. في زمن الإمبراطورLucius Septimius severus سبتيموس سيفيروس و الأسرة السيفيرية من بعده، كان للميثرائية مكانة مميزة لديهم، ساعدت هذه المكانة على إنتشارها بشكل كبير، متزامنة مع تأسيس العديد من المعابد على شرف ميثرا، الذي أصبحت عبادته الدين الرسمي للجيش الروماني خلال عهد سبتيموس سفيروس و خلفائه. في عهد الإمبراطور الرومانيGordianus III Marcus Antonius غورديانوس الثالث، في القرن الثالث الميلادي و خلال عهده الذي اتسم بسخونة المواجهات مع الفرس، نلاحظ أنه تم سك عملة رومانية تحمل صورة الإله ميثرا. في عام 307 ميلادي خلال فترة حكم الإمبراطور ديوكليسانوس نرى أن الإمبراطور فام بإقامة و تكريس معبد لميثرا في Garnunto غارنونتو بمقاطعة بانونياPannonia . بعد عهد الإمبراطور ديوكليسانوس و خلال صراع كل من الأباطرة غاليريوس، ليشنيوس، قسطنطين على الحكم، كان الأباطرة الثلاثة قد قدموا القرابين للإله ميثرا في معابده داخل أراضي الإمبراطورية و تشير المصادر إلى أنهم كانوا يعتبرونه مصدر الشرعية التي يستمدون منها سلطتهم، حتى أن الإمبراطور قسطنطين الأول قبل اعتناق المسيحية كان قد قدم القرابين للإله ميثرا، حتى أننا في موضوع الرؤية الذي تحدث عنها كإشارة مسيحية خلال صراعه مع الإمبراطور مكسنتيوس، نلاحظ أن الإمبراطور قسطنطين، كان قد روى بأنه رأى إشارة الصليب تحت قرص الشمس الذي يمثل ميثرا و الذي كان قسطنطين نفسه يعبده، هنا علينا التساؤل، هل حاول قسطنطين بهذه القصة استرضاء المسيحيين في جيشه ؟ خصوصا أن جيشه كان يتألف من الميثرائيين و أكثرية مسيحية ؟ فاختلق حكايته التي لم تسلم من التشكيك بروؤيته للصليب تحت قرص الشمس، حتى يثير حماسة المسيحيين في الجيش ؟! شكوك كثيرة تطرح، خصوصا عندما نعلم أن الإمبراطور لم يتلق العماد المسيحي إلا و هو على فراش الموت ! هنا على الرغم من كل القصص المتضاربة، نرى المكانة المرتفعة لعبادة الشمس داخل أراضي الإمبراطورية و تقديسها حتى من قبل الأباطرة منذ القرن الأول الميلادي و حتى القرن الرابع الميلادي. في عهد خلفاء قسطنطين و بعد إنتصار المسيحية بشكل نهائي و ترسيخ قواعدها الثابتة بعد مؤتمر نيقية 325 ميلادي، نلاحظ أن الديانات الباطنية كانت قد ضعفت فترة من الزمن خلال حكم أولاد الإمبراطور قسطنطين، لكنها عادت إلى الواجهة و بزخم قوي في عهد الإمبراطور Flavius Claudius Giulianus جوليان المرتد و الذي في عهده ازدهرت الديانات الوثنية من جديد، حيث ألغى الإمتيازات الممنوحة للمسيحيين و أعطى إمتيازات واسعة للوثنيين. في نهاية القرن الرابع الميلادي، مع إستلام الإمبراطور تيودوسيوس Teodosius Flavius لعرش الإمبراطورية الرومانية، نلاحظ في عهده قرار المنع الشهير الذي حرم ممارسة أي طقس ديني غير الطقس المسيحي، كان القرار مؤرخ في 392 ميلادي، هنا بدت الديانات الوثنية محاصرة بشكل تام و منها الميثرائية التي و إن استمرت فترة غير معلومة بعد قرار المنع الإمبراطوري، إلا أنها في النهاية اضمحلت و اندثرت كغيرها من الديانات القديمة الباطنية في الإمبراطورية. من خلال هذه المعلومات نستنتج أن الديانة الميثرائية كانت ديانة الكثير من الأباطرة الرومان بين القرن الثاني و الرابع الميلادي، نلاحظ أيضا، بأنها كانت دين الجنود و النبلاء الرومان، عبر تكريسها كدين ذكوري محرم على المرأة.
ملاحظة أخرى على الديانة الميثرائية و انتشارها بين الأباطرة و النبلاء و الجند الرومان. نقرأ في التاريخ الروماني في حقبة الجمهورية، أي في نهاية القرن الثاني و بداية القرن الأول قبل الميلاد، عن مجموعة من الحكام أو الملوك معروفة ب Sovrani del ponto الذين حكموا مقاطعة في شمال شرق آسيا الصغرى، بالقرب من البحر الأسود، هؤلاء الحكام كانوا يحملون اسم Mitirdate المعروف بالعربية مثريدتس، من أشهرهم Mititrdate VI Eupatore الذي يذكر بين عامي 111 قبل الميلاد و 63 قبل الميلاد، تصفه المصادر الرومانية بأنه واحد من أكثر المعارضين للجمهورية الرومانية، نرى في النحت النصفي الذي يمثله عاهلا رومانيا، لكن بدلا من أن يضع التاج على رأسه أو إكليل الغار حسب العادة، يضع قبعة على شكل أسد، هنا لا نعرف ما إذا كان رمز الأسد على علاقة بالديانة الميثرائية، خصوصا أنه يشير إلى مرتبة متقدمة في الدين الميثرائي، و هي المرتبة الرابعة، أمر آخر يرسخ الشك حول هذه الملاحظة، خصوصا أن الاسم الذي يحمل مقطع لفظة ميثرا يدل على وجود علاقة بالديانة الميثرائية، اللافت في الموضوع أيضا، أن أغلب ملوك السلالة داخل الأراضي الرومانية كانوا يحملون في اسمهم المركب اسم الإله ميثرا ! عثر مؤخرا على مجموعة دروع حربية تعود إلى الحقبة الرومانية في المقاطعة نفسها و كانت تحمل رمز قرص الشمس أيضا.
تواجه الباحثين في تاريخ الديانة الميثرائية، إشكالات متعددة، أولها متعلق بطبيعة الديانة و الأسرار الباطنية الميثرانية، التي تعيق الكلام بشكل واضح عن جسم إنتشار العقيدة و أماكن تواجدها في أراضي الإمبراطورية. المشكلة الثانية متعلقة أيضا بأزمة المصادر التي تكلمت عن الميثرائية و طقوسها، لاسيما المصادر المسيحية التي تتكلم عن الميثرائية بطريقة متحيزة، فنرى معلومات في المصادر المسيحية، تصفها على الدوام بأنها مجرد هرطقة، وهو أمر شائع جدا في تلك القترة في الصراع بين ديانات الشرق الأدنى، وصل الصراع بين الديانتين الذروة بين القرن الثاني و الرابع الميلادي، نعلم من المصادر التاريخية، أن الميثرائية كانت الخطر الأكبر على المسيحية منذ انتشارها في ولايات الإمبراطورية، ذلك عائد لتشابه الكثير من طقوسها مع المسيحية، نلاحظ أيضا أنها بقيت تشكل خطرا كبيرا على المسيحية حتى القضاء عليها بشكل رسمي، خلال إنتصار المسيحية كدين رسمي للإمبراطورية، عبر مرسوم المنع الإمبراطوري الذي أصدره الإمبراطور تيودوسيوس 392 ميلادي و القاضي بمنع ممارسة أو إعتناق طقس أي دين من الأديان غير الدين المسيحي ضمن الأراضي التابعة للإمبراطورية الرومانية.
أيضا المصادر الوثنية الأخرى التي تكلمت عن موضوع الديانة الميثرائية، كانت متحيزة لجهة دياناتها الوثنية، لذلك جاءت كتاباتها بعيدة عن المنطق العلمي، الأمر الذي أتاح المجال لإنتشار المعلومات المغلوطة عن الديانة الميثرائية، بينما نرى و بسبب الطبيعة الباطنية و السرية للطقس الميثرائي، لا يلاحظ وجود أي كتابات ميثرائية تدحض التهجم المباشر عليها من قبل الأديان الأخرى، أو ترد عليها، و هذه صفة تشترك فيها أغلب الأديان الباطنية، فتبقى ممارساتها و طقوسها و عباداتها سرية باطنية، لا يعرفها أحد سوى أفراد الجماعة نفسها، التي لا نجدها تخلف أي أثر كتابي أو أي مصدر توثيق ظاهري خارج الدائرة الضيقة لمعتنقيها.
للإطلاع على نموذج من المصادر المسيحية المتحيزة في طرح موضوع الديانة الميثرانية، نستطيع أن نضرب مثلا على الموضوع رسالة القديس جيروم Hieronymus ، المرسلة إلى القديس ترتليان Tertullianus و هي رسالة تعود إلى القرن الرابع الميلاي، أي العصر الروماني المتأخر، تتحدث الرسالة، التي ينقل تفاصيلها القديس جيروم عن شهادة أحد الجنود الرومان من معتنقي الميثرائية، و يقول فيها، أنه حصل من الجندي على تفاصيل عن الميثرائية و طقوسها، داخل الرسالة يشرح القديس جيروم المراحل السبعة التي يمر بها المريد في الديانة الميثرائية، يصف فيها أيضا، طقس العماد أو التنقية التي يجب أن يطبق على المريد الداخل لمعرفة الأسرار و الطقوس الدينية. في نهاية الرسالة يصف القديس جيروم الميثرائيين بالهراطقة أو الزنادقة Haereticorum الواردة حرفيا في الرسالة، مع العلم أن المسيحية استقت الكثير من تعاليمها عن الميثرائية كونها الديانة الأكثر قدما منها، يرى ذلك في عدة إقتباسات، أولها الإله الفادي أو المخلص و ليس آخرها طقس العماد أو التنقية Purificatory.
كانت المعلومات و الدراسات الواردة عن الديانة الميثرائية دوما متحيزة أو مكتوبة من قبل الخصوم الدينيين المعاصرين، لا سيما المصادر المسيحية. نلاحظ أيضا أن المعلومات النادرة الواردة عنها في المصادر الوثنية، أتت بدورها غير منهجية ولا ترتقي إلى مرتبة معلومات دقيقة تاريخيا و علميا، بل كانت دوما تكهنات و تخمينات عن ماهية الديانة الميثرائية من قبل الخصوم.
في القرن العشرين، مع تطور الدراسات التاريخية بشكل عام والكلاسيكية بشكل خاص في دول أوروبا الغربية، تغيرت الكثير من المفاهيم التي كانت تخص الفكر الديني، الذي كانت تشوبه في غالب الأحيان وجهة نظر الديانة المسيحية فيه، التي كانت دوما تعطل البحث المنهجي العلمي، و لم تستطع الدراسات التحرر من غيبياته الواردة في الكتاب المقدس بشقيه العهد القديم و العهد الجديد، لكن بالمقابل برز في ذلك الوقت الكثير من الباحثين المهمين في تاريخ الأديان، الذين تخلوا عن النزعة الدينية للباحث في التاريخ، اهتموا فقط بالجانب المادي الأثري، كانوا بمعظمهم أكاديميين مختصين في تاريخ الأديان في العصور الكلاسيكية داخل أراضي الإمبراطورية الإغريقية الرومانية و خارجها، شملت دراساتهم أيضا عدة أديان شرقية أخرى من أبرزها الزرادشتية. كان أغلبهم مسلح بالمنهجية العلمية في البحث التاريخي، من أولهم في هذا المجال؛ أي مجال دراسة الديانات ضمن أراضي الإمبراطورية الرومانية، الباحث البلجيكي المهم فرانز كيومونت Franz Cumont الذي اعتمد منهجا مغايرا في طريقة التعاطي مع الأديان التي كانت منتشرة في أراضي الإمبراطورية، فكان منهجه العلمي البحت يعتمد فقط، على دراسة الكتابات و الرسوم الجدارية للمعابد الميثرائية المكتشفة في أراضي الرومانية، و العمل على تحليلها لناحية كونها مادة حضارية تفصح عن الكثير من المعلومات المهمة في البحث. بعد الباحث فرانز جاء العديد من الباحثين اللذين أغنوا الدراسات التاريخية الدينية التي كانت سابقة أو متزامنة مع ديانات الرومان، فوصلوا بأبحاثهم إلى الكثير من المراحل المتقدمة التي وضحت صورة الميثرائية و الطقوس الميثرائية، من هؤلاء الباحثين، الباحث الايطالي Julius Evola جوليوس إيفولا، الباحث البريطاني جون هينيلس Jhon Hinnels و مؤخرا الباحث الإيطالي Stefano Arcella. من خلال دراسات فرانز كيومونت و هؤلاء المؤرخين تغيرت الكثير من المفاهيم المغلوطة التي كانت منتشرة عن الميثرائيين و طقوس عباداتهم، و استطاع الباحث فرانز عبر أبحاثه عن الميثرائيين الوصول إلى إعادة هيكلة شكل الدين الميثرائي و توضيح بنيته بشكل قريب إلى الحقيقة، بعيدا عن الخرافات المنسوجة عن هذه الديانة الباطنية، فوق ذلك ساعدت الإكتشافات الأثرية للعديد من المعابد الميثرائية في توضيح الروؤية بشكل جلي، مما ساعد الأثريين والمؤرخين على وضع هيكل علمي للطقوس و العبادة الميثرائية بعد أن كانت غير واضحة.
في بحثنا المختصر هذا سنعتمد على أبحاث هؤلاء المؤرخين لإعطاء فكرة عن الدين الميثرائي عبر دراسة طقوسه و رموزه المكتشفة في المعابد، التي تعطي معلومات مادية بحتة، تساعد على فهم العقيدة الميثرائية بشكل قريب إلى المنطق. نبدأ أولا مع معبد الميثرائيين، أو كنيس الميثرائيين الذي كان مركزا للممارسة و استقبال الطقس الديني ضمن المجموعة الدينية الميثرائية.
المعبد الميثرائي: يسمى ميثرايوم Mithraeum أي المكان المكرس لعبادة ميثرا، هو البناء الذي يجتمع فيه أتباع الديانة لممارسة طقوسهم السرية، و إقامة حفلات العماد و تقديم القرابيين. من أهم المعابد الميثرائية في العالم، ميثرايوم كركلا في ايطاليا و المعروف بالايطالية ب Mitreo delle Terme di Caracalla و هو من أكبر المعابد الميثرائية المكتشفة في العالم موجود في روما ضمن سور المدينة القديمة. المعبد الآخر الأكثر أهمية هو ميثرايوم أوستيا المعروف ب Mitreo di Ostia الموجود أيضا في روما وهو الأشهر في العالم لناحية وضعه الإنشائي المحفوظ بشكل جيد، مع مذبحه و رسوماته الجدارية، مما أتاح للباحثين إعطاء فكرة واضحة عن المعابد الميثرائية و طقوس العبادة فيها. لدينا أيضا العديد من المعابد الميثرائية الأخرى و المشهورة الموجودة داخل الإمبراطورية الرومانية، منها معبد سان كلمنت، معبد سانتا بريسكا. خارج أراضي روما، أيضا، لدينا العديد من المعابد الميثرائية المنتشرة في اليونان، آسيا الصغرى و سوريا التي إكتشف فيها مؤخرا معبد للميثرائيين في مدينة دروا أوربوس الأثرية على الفرات.
و لشرح بنية أو هيكلية المعبد الميثرائي، يجب أن نوضح أن المعبد الميثرائي كان يقام في كثير من الأحيان في كهوف طبيعية أو في أبينة مهيئة خصيصا لتشبه هيئة كهف طبيعي في جبل، غالبا كانت تحت الأرض، بحسب التصورات الميثرائية فان إنطباع صورة بزوغ الشمس من ناحية الجبال و غروبها خلف الجبال، تشمل تفسيرا لدى الميثرائيين يقول أن إله الشمس ميثرا يخلق و يغرق خلف الجبال عبر عملية الشروق و الغروب في كل يوم، لذلك وجب بناء معبد شبيه بهذه الصورة عبر كهف طبيعي أو صناعي في جبل. أيضا عندما يكون ممكنا يتم تأسيس الميثرايوم ضمن مبنى قائم أو تحته. نأخذ كمثال حي، ميثرايوم أوستيا في روما، الذي يتكون من مبنى على هيئة كهف طبيعي، المساحة الداخلية مستطيلة تقريبا، المبنى تحت الأرض يضم رواقا طويلا حوالي خمسة عشر متر، لا وجود للنوافذ فيه، في أغلب الأحيان لا يدخل الضوء إليه، على طول جانبيه يوجد مقعد خشبي لجلوس أعضاء الطقس الديني الممارس، في نهاية الرواق، عند منتصفه تماما ينتصب المذبح المكرس للإله ميثرا، الذي في أغلب الأحيان يحتوي على رسم Tauroctony الذي يمثل رمز الميثرائيين الأهم و المحوري و الذي يضم نحتا أو تصويرا للإله ميثرا و هو يهم بنحر الثور، مع رسوم أخرى محيطة به تمثل تصورات ميثرائية سنتطرق لها في فقرة الرمز الميثرائي لاحقا.
السقف في الميثرايوم غالبا ما يكون مزين برسوم تجسد قبة السماء مع الشمس و النجوم بالإضافة إلى الكواكب و الأبراج. بسبب كون الديانة الميثرائية ديانة باطنية، نجد أن المعبد الميثرائي يختلف من حيث الحجم عن المباني الدينية الكبيرة للديانات الأخرى التي كانت مسموحة بشكل ظاهري كالمعابد أو الكنائس الرومانية، بينما نرى الميثرايوم دوما بحجم صغير ومساحة صغيرة، فهو مخصص لإقامة الطقوس الدينية للجماعة الميثرائية، التي غالبا تنتهي بمأدبة مشتركة لعناصر المجموعة، الذين لا يتجاوز عددهم بضع عشرات. تلعب المياه دورا مهما في الميثرايوم، فهي رمز يستخدم للتنقية و التطهر، في الميثرايوم، إن لم يكن النبع أو الشلال خلف المذبح طبيعي، فغالبا يستعاض عنه بصنع شلال أو نبع صناعي فهو من أهم الأساسيات في معابدهم.
بالنسبة للطقوس الديينة للميثرائيين، يجب أن نشير إلى أن الميثرائية دين ذكوري، ينتشر فقط بين الأباطرة، النبلاء و الجنود، بمعنى أن الأسرار و الطقوس الميثرائية لم تكن تعلم للنساء ضمن المجموعة الدينية، وهي بذلك كانت حصرا على الرجال فقط. الموضوع الآخر هو أن العبادة الميثرائية كانت مرتبطة بتراتبية دينية متصلة مع عالم الكواكب و الفلك، نراه بشكل واضح في أساسيات العقيدة و هي عبادة إله الشمس و التراتبية الدينية للكواكب بالنسبة لهم، عبر ترميز معناها بشكل باطني و وضعها في مراتب يجب على المريد أن يعبرها و يتجاوزها حتى يتوصل إلى التماهي في العقيدة الميثرائية.
للإطلاع على طقس الميثرائيين بشكل جيد، نحاول في الفقرة توضيح مراتب الدين المثيرائي السبعة المرمزة بالكواكب وهي :
Corax (corvus; Mercuruis)1- و هي المرتبة الأولى في الدين الميثرائي و التي يدخل فيها المريد لتلقي الأسرار و الطقوس و ممثلة برمز الغراب الذي ساعد ميثرا على استرجاع الثور عبر دلالته له بمكان تواجده، يوافق المرتبة كوكب عطاردMercurius ..
Cryphius o Nymphus ( Occultum aut sponsus; Veneris) 2- و هي المرتبة الثانية في العقيدة الميثرائية و ترمز للسحر و التنجيم عبر رمز العريس ، يوافق المرتبة كوكب الزهرة Veneris .
Milia Passuum (Miles, Mars) 3_ و التي تسمى ميليا و ترمز للجندي، ربما عائدة إلى طبيعة إنتشار الديانة بشكل كبير في صفوف الجنود الرومان، يوافق هذه المرتبة كوكب المريخ Mars.
Leo (Leonis;Iuppiter) 4_ مرتبة الأسد و هي المرتبة الرابعة لدى الميثرائيين، يوافق المرتبة كوكب المشتري Juppiter.
Perses (Persarum;Luna) 5_ المرتبة الخامسة في الميثرائية و تسمى الفارسي، توافق كوكب القمر Luna.
Heliodromus (Nuntius solis;sol) 6- و هي المرتبة السادسة في الديانة الميثرائية و تعني الهيول أو رسول الشمس، و توافق كوكب الشمس Solis .
Pater noster (Pater Saturnus) 7-و هي المرتبة السابعة و الأخيرة في الديانة الميثرائية و التي تنتهي بإتحاد المريد في الديانة بالإله الأب الذي يرمز له في الديانة الميثرائية بكوكب زحل Saturnus.
كانت هذه المراتب، هي المراتب الأساسية في الدين الميثرائي، التي تقسم إلى سبعة مراتب، كل مرتبة منها تحت حكم جرم من الأجرام السماوية، أيضا كانت المراتب الأربعة الأولى، سهلة للتقدم الروحي بالنسبة للمريد أو الداخل في الطقس الميثرائي من جديد، لكنها كانت تصبح أكثر صعوبة في المراتب الثلاثة الأخيرة. أيضا كان لكل جرم سماوي باب يدخل منه إلى المجال الكوكبي و كان يرتبط بيوم من أيام الأسبوع، نراه أيضا يترافق بطبيعة أحد المعادن، فكانت مرافقة الكوكب لطبيعة معدن من المعادن، أمر شائع جدا لدى الميثرائيين. ففي الباب الأول نرى القمر و معدن الفضة، في الباب الثاني نرى كوكب عطارد يوافق معدن الحديد، في الباب الثالث كان كوكب الزهرة يرافق معدن القصدير، في الباب الرابع كان كوكب الشمس يواكب معدن الذهب، في الباب الخامس كان كوكب المريخ يواكب معدن خليط، في الباب السادس كان كوكب المشتري يواكب معدن البرونز، في الباب السابع الأخير كان كوكب زحل يواكب معدن الرصاص. كانت هذه المعادن و اختلاطاتها و مواكبتها لطبيعة الكواكب و النجوم تشرح للمريدين في الديانة الميثرائية بطريقة سرية، وكان يشرح لهم تبدل مواضعها و تأثيراتها كنجوم ذات طاقة حيوية على الأرض و الإنسان حتى درجة إعتبارها أربابا أو آلهة للخلود.
يقول الباحث فرانز كيومونت، أن الرومان كان لديهم المؤهلات لاستقبال دين، يعتمد على الكواكب و الأجرام السماوية، فقبل إنتشار الديانة الميثرائية لديهم، كانت الآلهة ترتبط بكوكب من الكواكب، مثلا نجد الإله هيلوس إلها للنور و الشمس، أيضا الإله جوبيتر كان يرمز إلى كوكب المشتري لديهم، هذا ما سهل فكرة تقبلهم لديانة كالديانة الميثرائية المرتبطة بالفلك والأجرام السماوية، لا سيما الشمس و تأثيراتها على الفصول و تقلب المواسم في الكرة الأرضية.
كانت المراحل الثلاث الأخيرة في الميثرائية، هي المراتب التي يتم فيها اصطفاء المريد من عالم المادة في الإتحاد مع الإله عبر دخوله بداية من الباب الأساسي باب القمر، الذي سمى بالفارسي، من ثم التماهي مع قرص الشمس المسمى بالهيولى، أو رسول الشمس، عبر الضوء و الشعاع الذي يجسد الحجاب، للوصول فيما بعد إلى الغاية أو المعنى، أي الاتحاد مع الأب، كوكب زحل، المرحلة الأخيرة في الديانة الميثرائية وهي مرحلة الخلود المطلق.
كان الميثرائيين أيضا بتبعون للدخول في الطقس الديني العماد الذي يسمونه التطهر و التنقية، و الذي كان على المريد ممارسته للسماح له بالدخول في الديانة و تلقي السر الميثرائي الباطني، فكان عماد الميثرائيين مشابها جدا لطقوس العماد المسيحية، هنا السؤال الذي يطرح نفسه هي نسبة تأثير الديانتين في بعضهما البعض، خصوصا خلال فترة المنافسة بينهما بين القرن الثاني و الرابع الميلادي، و السؤال الأهم: ما هو أثر الميثرائية في طقوس العبادة المسيحية إذا اعتمدنا الوجود الأقدم للميثرائية كديانة؟
الموضوع الأهم للطرح كقرينة مادية أثرية مساعدة على تحليل الطقوس الميثرايئة بشكل علمي، هي رمز الميثرائيين الأهم ταυροκτόνος المعروف بالانكليزية Tauroctony المعروف في الإيطالية ب Tauroctonia الذي هو عبارة عن رسم على الفريسك أو نحت يجسد الإله ميثرا يهم بنحر الثور كأضحية لإله الشمس، عن جانبي النحت أو الرسم نرى إله الشمس من على يمين النحت، و إله القمر من على يسار الإله ميثرا، نرى أيضا الغراب، الذي يجسد حسب الأسطورة الطائر الذي دل ميثرا على مكان الثور الهارب، منحوتا بالقرب من إله الشمس، هنا ترمز المنحوتة إلى أهميته في العقيدة، فعن طريقه استطاع ميثرا استرجاع الثور و نحره، نرى هذه الأهمية لطائر الغراب يتردد صداها في ديانات شرقية كثيرة، تظهر بوضوح في موضوع النبي نوح و الفيضان و أنه كان الطائر الذي دل البشر على اليابسة بعد الطوفان. بالعودة إلى موضوع النحت الميثرائي، نرى الإله ميثرا في النحت يهم بنحر الثور في منطقة الرقبة، بينما نلاحظ إنقضاض كائنات أو حيوانات أخرى على الثور من الجهة السفلية من بينها نرى الكلب، الأفعى و العقرب، هنا تجسد هذه الكائنات أبراج سماوية أو نجوم معروفة في علم الفلك. لدراسة المعنى الذي يجسده رمز الميثرائيين تاوروكتونوس ταυροκτόνος سنقوم بالإطلاع على تأويلات الباحثين في هذا المجال، لعرض فرضياتهم العديدة حول الموضوع، نبدأ بالباحث Mario Untersteiner، نرى أن تأويله يرجع إلى مقارنة النحت الميثرائي مع منحوتات مشابهة لمنحوتات مدارس النحت أو تطور النحت خلال عام 200 قبل الميلاد، يبرر نظريته بقوله أن هذا التجسيد لنحر الثور يعود إلى مدرسة نحت مدينة بيرغامو Pergamo في إيطاليا، و أن الكثير من المنحوتات، كانت متشابهة مع معنى الرمز الميثرائي، أو تجسيد مشابه له، يشير الباحث إلى أنها كمنحوتات، مقتبسة عن تصورات للإسكندر الأكبر في وضعيات مشابهة. في نفس الموضوع، الباحث فرانز كيومونت يشير إلى أن أغلب الدراسات التي تمت في القرن العشرين حول رمزية النحت الميثرائي أكدت أن موضوع الثور كأضحية يرجع بأصوله إلى ديانات إيران القديمة. التأويل الأكثر أهمية و الذي أثار الجدل حول صحة تأويله في القرن العشرين أتى عبر الباحث David Ulansey عام 1991، الذي قارن فيه بين فكرة الرمز الميثرائي و النظرية الفلكية (سبق الاعتدالات) المعروفة باللغة الإنكليزية تاريخيا ب ( precession of the equinoxes )، التي كان أول من تحدث عنها وشرحها بشكل واضح العالم الفلكي الإغريقي Іππαρχος، Hipparkhos، هيبارخوس النيقاوي نهاية القرن الثاني قبل الميلاد أي قبل ظهور الميثرائية في أراضي الإمبراطورية بقليل، في هذه النظرية يشرح هيبارخوس أن هناك عدة تحولات أو تأثيرات على كوكب الأرض أو المخلوقات تنتج من التغييرات التي نتشأ عن تحركات أبراج الفلك، ذلك كونها تترك فراغات أو مجالات يختلف تأثيرها حسب بعد أو قرب كوكب الأرض المتحرك من النجوم الثابتة و لا سيما الشمس. يشرح هيبارخوس نظريته بتخيل محور عمودي يمتد في الفراغ بين الكرة الأرضية و الشمس، هذا المحور يتغير مكانه باستمرار، ذلك عبر حركة الكرة الأرضية و إنتقالها من مسار إلى مسار آخر، هذا الإنتقال هو ما ينتج عن فراغاته المساحة المختلفة لبعد الأرض بالنسبة للأبراج الفلكية، فتأثيرات الكواكب على الأرض تنشأ من هذه الحركة و تظهر تأثيراتها المختلفة على حواف كوكب الأرض، كون الأرض جسم شبه كروي، مفلطح و جاحظ في منطقة خط الإستواء. هذه التأثيرات أو التغييرات ترى أول نتائجها على الأرض بتعاقب الفصول، و إختلاف درجة حرارة الأرض باستمرار، عبر حركتها إقترابا أو إبتعادا عن كوكب الشمس. الباحث David Ulansey عمل على إسقاط هذه الظاهرة الفلكية على الرمز الميثرائي، على إعتبار أن الأبراج الفلكية و الأجرام السماوية هي من أساسيات الدين الميثرائي، فيفترض بأن رسم أو نحت سيطرة الإله ميثرا على الثور من جديد، يشير إلى تموضع برج الثور في السماء و تحركاته، فعندما يخرج برج الحمل من المدار ويدخل برج الثور، يحدث الإعتدال الربيعي كنتيجة لهذ التغييرات الفلكية، و نحن نعلم ما لهذا الوقت أو التغيير، من تأثيرات في الديانات ذات الأصل الشرقي عامة، ففي هذا الوقت تعود الحياة إلى الأرض عبر فصل الربيع و الخضرة، هنا يشير الباحث في فرضيته إلى أن الميثرائيين ينسبون هذه الظاهرة إلى الإله ميثرا، الذي يسيطر على برج الثور و يجعله يعود بالقوة إلى محوره، بذلك تعود الحياة من جديد لكوكب الأرض و الكائنات الساكنة له، هنا يكون ميثرا حسب الفرضية، مسيرا للكون أو واهب الخلق و الحياة وفق التصورات الميثرائية.
أيضا في النحت الميثرائي، دوما نرى خروج القمح من تحت الرقبة في المنطقة التي يطعن فيها ميثرا الثور، هنا تتحدث المصادر التاريخية عن تأويل يشير إلى أنه من نخاع الثور كان قد خلق القمح و النباتات الأخرى، بينما من دمه خلق المشروب المقدس أي الخمر.
بالنسبة للدخول في الطقس الديني الميثرائي، كان يجب على المريد كشرط أساسي لتلقي السر الديني، أن يخضع للتطهر بالماء أي التنقية، المشابهة لطقس العماد لدى أديان أخرى كالمسيحية و الصابئة و غيرها، فهو عملية أساسية لقبول المتعلم الجديد قبل الدخول في الطقوس الميثرائية، حتى أننا نلاحظ أن وجود شلال الماء أو نبع الماء، ركن أساسي في المعبد الميثرائي، إن لم يكن طبيعيا يتم الإستعاضة عنه بمصدر ماء صناعي.
كانت هذه المعلومات، من أهم المعلومات المادية التي توصلت إليها الدراسات و التنقيبات الأثرية حول العقيدة الميثرائية، لا شك أن هذه الدراسات، كانت قد أغنت المعلومات عن الميثرائيين و عملت على جلاء صورة الكثير من الأفكار المغلوطة عنهم، بل ساهمت أيضا في نزع تهمة الهرطقة المنسوبة إليهم من قبل الخصوم، لتثبت الدراسات أن الخصوم ولا سيما المسيحيين كانوا هم من اقتبسوا الطقوس الميثرائية خصوصا أن، الديانة الميثرائية أقدم وجوديا بقرون.
تبقى المشكلة في التعاطي مع هذا النوع من الديانات الباطنية، في عدم وجود مصادر كتابية أو توثيقية يتحدثون فيها عن أنفسهم ، لذلك فمهما وصلت الدراسات الآثرية و التاريخية عنها إلى مراحل متقدمة، لن تستطع الوصول إلى فهم حقيقي للفلسفة التي تحملها، أو الفكر الحقيقي الذي يحمله معتنقيها، فعندما نقرأ عن المراتب الفلكية في الديانة الميثرائية و نعلم أنها تؤلف مراحل، نستنتج أن كل مرحلة من المراحل كانت تتسم بفلسفة معينة، خصوصا عندما نعلم أن المريد، كان يتجاوز المراتب الأربعة الأولى بسهولة، لكنه يحتاج الى زمن طويل للدخول أو لتجاوزالمراتب الثلاثة الأخيرة، هنا تكمن تعقيدات الفلسفة الميثرائية و التي لا يعلمها إلا معتنقي الديانة و طقوسها السرية. لذلك تركز بحثنا بشكل عام، على وصف الطقس أو الهيكلية الدينية بالإعتماد على المعطيات الأثرية الموجودة في المعابد فقط، عن طريق الرسوم و الكتابات و العناصر المعمارية لمعبد الميثرائيين المسمى ميثرايوم و تحليل معاني الرمز الميثرائي تاوروكتونوس.




مراجع البحث :

F.Cumont, Le religioni orientali nel paganesimo romano, Bari, 1913

J. Evola, Note sui Mesteri di Mithra, in “Via della tradizione”,I, 4, Roma 1971, pp. 187.195

G. Sfameni Gasparro, Il mitarismo: una struttura religiosa fra “tradizione” e “invenzione”, Roma 1979, pp
349.380

D. Ulansey, The Origins of the Mithraic Mysteries: Cosmology and Salvation in the Ancient World, New York: Oxford University 1989.

S. Arcella, I misteri del sole. Il culto di Mithra nell Italia antica, Napoli 2002.



#سليمان_سمير_غانم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بين اقرأ واسأل يوجد قبر الأمة الفكري
- عندما يصبح دين الشعب أهم من وجود الشعب (من نحن،عرب أم مسلمون ...
- حنين إلى عقل القرن الثاني و الثالث الهجري (المعتزلة)
- أدلجة المجتمع و عبثية الاسلام السياسي
- الإله المتجسد بين الوسط الاغريقي الهيليني و الديانة المسيحية
- الشرق الأدنى من عبادة المرأة الى استعبادها


المزيد.....




- نزل قناة mbc3 الجديدة 2024 على النايل سات وعرب سات واستمتع ب ...
- “محتوى إسلامي هادف لأطفالك” إليكم تردد قنوات الأطفال الإسلام ...
- سلي طفلك مع قناة طيور الجنة إليك تردد القناة الجديد على الأق ...
- “ماما جابت بيبي” تردد قناة طيور الجنة الجديد 2024 على النايل ...
- مسجد وكنيسة ومعبد يهودي بمنطقة واحدة..رحلة روحية محملة بعبق ...
- الاحتلال يقتحم المغير شرق رام الله ويعتقل شابا شمال سلفيت
- قوى عسكرية وأمنية واجتماعية بمدينة الزنتان تدعم ترشح سيف الإ ...
- أول رد من سيف الإسلام القذافي على بيان الزنتان حول ترشحه لرئ ...
- قوى عسكرية وأمنية واجتماعية بمدينة الزنتان تدعم ترشح سيف الإ ...
- صالة رياضية -وفق الشريعة- في بريطانيا.. القصة الحقيقية


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - سليمان سمير غانم - ميثرا و طقوس العبادة الميثرائية في الإمبراطورية الرومانية