أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - مصطفى مجدي الجمال - تحيا الآلة الكاتبة















المزيد.....


تحيا الآلة الكاتبة


مصطفى مجدي الجمال

الحوار المتمدن-العدد: 3771 - 2012 / 6 / 27 - 18:14
المحور: سيرة ذاتية
    


تحيا الآلة الكاتبة

(1)

قابلني بالصدفة أحد أصدقائي القدامى.. القدامى جدًا.. وقال لي إنه يتابعني على مواقع التواصل الاجتماعي.. وباغتني ضاحكًا ومستنكرًا: "يا رجل أعرفك منذ 44 عامًا وأنت معارض.. حتى بعد الثورة مازلت على عادتك؟!!".. وأضاف "أفق لنفسك ولعيالك.. الثورة الآن ثورة جيل الفيس بوك وتويتر.. وقبلهم ثوار الفاكس في التسعينيات.. وأنت من جيل البالوظة الذي يسبق جيل الآلة الكاتبة يا رجل"!!

نعم.. منذ أن كنت في الصف الأول الإعدادي كانت لي ملاحظات طفيفة على نظام عبد الناصر، وخاصة القصص الرهيبة عن المخابرات وصلاح نصر، رغم أن هذا لم ينقص من حبي الطاغي- ككل أبناء جيلي- لعبد الناصر.. ثم تطورت الملاحظات إلى تحفظات بعد هزيمة 1967 وأعترف أن هذا أيضًا لم ينقص من إعجابي بعبد الناصر كزعيم وطني، ولكنني أخذت أبحث عن أفكار أخرى في العالم..

وفي الجامعة انتميت لتنظيم يساري أعطيته كل وقتي وحياتي، والله على ما أقول شهيد.. مررت بانتصارات عزيزة، وبنكسات مريعة أيضًا.. ولعل كلمة السر في كل حياتي الحافلة كانت القراءة، فقد كنت أقرأ منذ العاشرة كتب العقاد وطه حسين ويوسف السباعي ويوسف إدريس وعبد الرحمن الشرقاوي ويوسف الشاروني وأمين يوسف غراب وصبري موسي.. وكان لسلاسل كتب الهلال والمكتبة الثقافية ولمجلات الطليعة والكاتب والفكر المعاصر والمجلة والقصة وتراث الإنسانية.. وحتى منبر الإسلام، كان لها جميعًا أثر كبير في تشكيل نفسيتي وعقليتي اللتين تتسمان- فيما أزعم- بالانفتاح والالتزام في آن..

وكان أن تطورت صداقتي التي ليس لها مثيل مع سالم سلام القائد اليساري الكبير الذي يكبرني بثلاثة أعوام (أستاذ طب الأطفال الآن).. وهي الصداقة والزمالة التي كانت بداية لما أزعم أنه "فتوحات" يسارية كبيرة على أرض محافظة الدقهلية.. كان هذا في أوائل السبعينيات.. ولم يكن للتنظيم الذي ننتمي إليه اسم.. وذلك إمعانًا في السرية حسبما فهمنا وقتها..

كانت حولنا ومعنا مجموعة كبيرة جدًا من الطلاب اليساريين من كل الأنواع (محمد المخزنجي والمنسي قنديل الأديبان الكبيران، الدكاترة شفيق الجزار وعلاء غنام ومحسن الجمال والمرحوم سعد الشريف...، وما تلا هذا من أجيال رائعة تملأ كل فضاءات السياسة والصحافة والفن الآن) .. وكانت جامعة المنصورة وقتها متهمة بأنها "جامعة الشيوعيين" وهكذا كانوا ينظرون إلى وفودها في كل اللقاءات والمؤتمرات الطلابية على مستوى الوطن.. المهم أنني وسالم سلام شعرنا بأهمية أن تكون لنا مجلة نستخدمها كأداة في مفاتحة الكثيرين الذين نسعى لضمهم للتنظيم..

بالفعل أصدرنا مجلة باسم "حوار" كتبنا مقالاتها نحن الاثنين، وكتبتها أنا بخط يدي ونسخناها على ورق الكربون.. وبالفعل تحركنا معًا لتوزيعها.. وكان أول لقاء على قهوة مسلم التي كانت على رأس شارع العباسي وقتذاك، وكان يجلس عليها مجموعة من اليساريين أبناء بورسعيد المهجرين بالمنصورة، أذكر منهم المرحوم محمد السيد سعيد والفنان عباس الطرابيلي ومعهم الشاعر الكبير محمد يوسف.. وقدمنا لهم المجلة فقرأوها ونحن "مرعوبين" من أنظار المخبرين الذين كنا نعرف بعضهم بالاسم مثل "الصول عطية".. وهذا أمر طبيعي في مدينة غير كبيرة..

بعد اللقاء والمناقشات، قال لي سالم: علينا تغيير اسم المجلة لأنه نفسه اسم مجلة "مشبوهة" تصدر في بيروت، وعاتبني لأنني كتبت في إحدى المقالات تعبير "الحرب الأكتوبرية".. وهو ما قد يعني ترديدًا لفكرة أن حرب أكتوبر كانت بالتواطؤ مع الأمريكان.. اعترفت له بأن "داء البلاغة" قد أصابني.. وتذكرت عبارة مدرس اللغة العربية "التغيير في المبنى يجب أن يدل على تغيير في المعنى"..

لكنني بادرته بالقول إن المشكلة ليست في هذا أو ذاك.. المشكلة أنه لا توجد لدينا آلة كاتبة.. وبالآلة الكاتبة يمكن أن "نكسر الدنيا"!! وهكذا ظلت هذه الآلة هاجسًا لا يفارق خيالي.. وكانت حيازتها بطريق غير شرعي كافية لأن تقضى بسببها أعوامًا طويلة خلف القضبان.. وعندما تطورت آلياتنا في طباعة المنشورات كنا نكتب بقلم "الاستنسل" على ورق الحرير وقد اشتريته وقتها من مكتبة السروي بالسكة الجديدة، ثم نطبع المنشورات على برواز خشبي به شبكة حريرية فوق سطح زجاجي، مستخدمين الرولة وهي اسطوانة مطاطية متحركة يستخدمها النقاشون.. وهي الآلة المسماة تقليديًا بالاسم الحركي "عزيزة".. لكن ظلت المشكلة بالطبع أن المنشور مكتوب في النهاية بخط اليد، وهي مخاطرة كبرى كان يتحملها الفدائيون منا..

(2)

مرت الأيام.. وتم ضمي للجنة المركزية عام 1979 (وكانت تجتمع على حلقات) وكنت الأصغر سنًا، وأشهد أن رفاقًا عظامًا لست في حل من ذكر أسماء معظمهم قد تعاملوا مع قيادتي التنظيمية لهم بكل بساطة وتواضع وحب (أذكر منهم المرحومين المناضل العمالي الكبير عطية الصيرفي والمناضل الفلاحي الفذ محمد عراقي).. كما كنت أشعر بسعادة سرية لأنني أعمل عن كثب وأجتمع مع رفاق كبار أذكر منهم المرحومين زكي مراد الزعيم بالفطرة، ونبيل الهلالي محامي الشعب، ومحمد علي عامر القائد العمالي الخالد، ومبارك عبده فضل المحترف التنظيمي، وحسين عبد ربه المحامي والسينارست وأسطورة التنظيم، وعيد صالح القائد الاسكندراني، وعبد المجيد الدويلي الزعيم الفلاحي، وحسين فهمي الصحفي الكبير، ومحمد الجندي الناشر والمترجم، وسيف صادق المنظم الموهوب.. وآخرين كثيرين ذوي قامات عالية لا أستطيع ذكرهم.. وحدث أن تعرض التنظيم/ الحزب لضربة قوية جدًا في مارس 1981 واعتقل نصف زملائي من أعضاء اللجنة المركزية..

وذات يوم استثنائي في حياتي طلبني للقائه رفيق كبير بالمنصورة يمكن أن تقول عنه إنه الأب الروحي لكل المناضلين من أجل الديمقراطية في مصر منذ السبعينيات على وجه الخصوص.. وبعد مناورات معقدة في الطريق على سبيل الاحتياط الأمني وصلت إلى منزله، فقد كان اتصالي به حتى وقتذاك من الأمور الممنوعة، بل إننا كنا نفتعل الخلافات والمشادات فيما بيننا في الندوات العامة، على سبيل تأمينه كجوهرة يجب الحفاظ عليها بكل ثمن.

لم يدم اللقاء أكثر من ربع ساعة.. وكانت خلاصته إبلاغي بموعد مبهم- عن غير القنوات التنظيمية المرعية- مع شخص آخر في القاهرة لا يقل موقعه السياسي خطورة وأهمية وحساسية.. كان الاثنان أهم شخصيتين تقريبًا في حزب يساري جبهوي آخر.. أبديت للزميل الذي أبلغني بالموعد انطباعي عن الزميل المطلوب لقاؤه، بأنه "أجريسيف" أي عدواني أكثر من اللازم.. فقال لي "لا تحكم عليه قبل أن تتعامل معه".. ففهمت أنني لست بصدد مقابلة وإنما معاملة..

أحسست بثقل على صدري لا أعرف مصدره.. وذهبت في الزمان والمكان المضروبين بكازينو بوسط القاهرة في السابعة صباحًا.. كانت هذه المرة الأولى التي أطالع فيها عن كثب عيني الثعلب من خلف منظاره الطبي.. لكنه في الحقيقة كان كريمًا ولطيفًا لأبعد الحدود ودخل إلى الموضوع بأسرع الطرق، وشعرت أنه يتمتع بدهاء غامض من فرط بساطته..

حكى لي عن الضربة البوليسية الأخيرة وكيف أن الأمن يضرب الحزب عن طريق ضرب مطبعته، وأن طريقته مبسطة تتمثل في زرع عضو، ثم يحصل هذا العضو على الأوراق الحزبية من مسئول الخلية، ويتم بعد هذا تتبع حركة الأوراق دون اعتقال لأحد في السلسلة حتى يصل في النهاية إلى "الفرن" (المطبعة التي قد لا تزيد عن ماكينة رونيو والتي كانت أيامها تساوي القنبلة الذرية!!!).. وختم كلامه بمديح لشخصي (أرجو إعفائي من ذكره) وقال: "أنت الذي تستطيع إيقاف هذه اللعبة السخيفة المتكررة" التي شبهها بالكرة العرضية التي يمررها مصطفى عبده إلى الخطيب في منطقة الجزاء ليحرز الهدف..

ارتعبت.. لا خوفًا على أمني فحسب.. وإنما من فداحة المهمة التي لم أمارسها من قبل إلا ممارسات الهواة على المستوى المحلي.. وانزعجت حينما طلب مني الاختفاء تمامًا من الحياة العامة.. وظننت أن هذه فرصتي للتملص من المهمة الكئيبة.. قلت إنني يمكن أن أموت لمجرد التفكير في هذا، وإن تصرفًا كهذا يمكن أن يتسبب في إحباط الكثيرين من حولي، كما أنه سيلفت أنظار الأمن أكثر خاصةً وقد سبق للعقيد أحمد موافي مفتش مباحث أمن الدولة بالمحافظة أن قال لي في مقابلة روتينية بعد إنهاء خدمتي كضابط احتياط عام 1978 (وهذه بالمناسبة كانت المرة الثانية لإبعادي عن الجيش) إنهم يعتبرونني من النوع "الأيديولوجي" المداوم، وليس "الهوائي" العابر الذي لا يستمر في النشاط الفعال أكثر من خمس سنوات..

المذهل أن الزميل اقتنع بحججي ولكن النتيجة جاءت عكسية وازداد إصرارًا على أن أقوم بالمهمة.. وهكذا كان علي أن أقوم بثلاثة أنواع من الأنشطة المتناقضة: النشاط العلني الجماهيري في الكتابة والندوات والمظاهرات، والنشاط التنظيمي العادي كمسئول عن قطاع يضم مناطق حزبية في سبع محافظات (فضلاً عن مسئوليات أخرى رئيسية في التثقيف والنشرة الداخلية والأمن الحزبي..)، وأخيرًا هذا النشاط الخطر الجديد..

قبل نهاية اللقاء الخطير، والذي لم يستمر أكثر من نصف ساعة بسبب طبيعتنا العملية نحن الاثنين.. سألت الزميل وماذا سأستلم من إمكانيات مادية وبشرية لبدء العمل.. قال: "لا شيء على الإطلاق، وهذا لمصلحتك حتى لا يدخل عليك أي أحد لا تعرفه أو تثق فيه شخصيًا".. بل قال لي "إياك أن تقبل أي مساعدة من مكتب التنظيم الحزبي سواء في صورة بشر أو أماكن أو مواد، فهم يتصورون أنهم عباقرة ولكنهم أغرقونا بدل المرة ثلاثًا".. ولم يفته أن ينغص عليّ أكثر بأن ذكرني بالزميل إبراهيم البدراوي الذي قبض عليه- للمصادفة التعسة- في ضاحية سندوب بالمنصورة وهو يستلم آلة طباعة رونيو نتيجة وشاية عميل اخترق المكتب إياه، وكانت النتيجة أن حوكم البدراوي أمام محكمة عسكرية وقضى ثلاثة أعوام بالسجن الحربي..أسقط في يدي من هول الصراحة والذكاء..

طلبت منه ألا يتعجلني في الإنجاز، فرد بأنهم متعجلون جدًا، لأن أفضل دفاع عن زملائنا المحبوسين هو أن تستمر عجلة إصدار المطبوعات حتى يتأكد البوليس أنه لا فائدة من احتجازهم.. وكان هذا أروع استخدام منه للنخوة والأخلاق الرفاقية..

(3)

وجدت نفسي بين يوم وليلة تحت هَمّ ثقيل ولا أستطيع البوح به لأحد.. كانت الخطوة الأولى هي تجنيب عدد من زملائي الحزبيين الذين جندتهم للحزب بنفسي.. فأقنعتهم بصعوبة بالابتعاد عن العمل العلني (بلغ عددهم 13 زميلاً) تمهيدًا لبناء جهاز فني (مطبعة) وشبكتين تبادليتين للاتصال.. وقلت لنفسي إن المهم البحث عن طرق حديثة للطباعة غير الرونيو التقليدية..

غير أن الأهم كان أن أكيف حياتي ونشاطي مع المهمة الجديدة، ووضعت قواعد هذا بنفسي، فابتكرت طرقًا لاختبار الأمان كنت أمارسها يوميًا كعادات روتينية أحيانًا حتى لا تلفت الأنظار.. وقررت أن يكون لكل نشاط في المجال الجديد مبرر علني.. فكنت مثلاً إذا ذهبت إلى (س) من زملاء المهمة الخاصة أنطلق بعدها على الفور إلى (ص) ذي النشاط العلني والموجود في مكان قريب، وأكاد أقول للمخبرين: هيا صوروني"!!

وبعد مغامرة معقدة جدًا استطعنا شراء آلة تصوير (ناسخة) وكانت وقتها صيحة العصر.. ورغم أنها مكلفة بالنسبة للطباعة، إلا أنها تتصف بالإتقان وسرعة الإنجاز وانعدام الأثر.. وكان من حسن حظنا أن الشركة التي باعت الآلة لنا كانت من نوع التوكيلات المحلية في بداية عصر الانفتاح والتي لا تدوم أكثر من عام أو عامين، وتنتهي عادة بالتصفية أو الذوبان بمعنى الكلمة بعد النصب على الشركة الموردة.. ومن ثم فهي لم تبلغ الضرائب أو الأمن أو أي جهة رسمية بعملياتها.. وحينما علمت بغلق الشركة تنفست الصعداء لأنني كنت أشعر بالذنب تجاه الزميل الرائع الذي اشترينا الآلة ببطاقته الشخصية، وقد وافق على أداء هذا العمل دون أدنى نقاش ونفذه بحرفية وثقة رغم أنه لم يكن من المجموعة التي تعمل معنا في هذا النشاط الخاص، وحرصنا كل الحرص على الابتعاد عنه، وهو حتى اليوم لم يسألني مرة واحدة عما فعلناه يومئذ..

أذكر أن ثمن الآلة وقتها كان أربعة آلاف جنيه، وكان هذا هو أكبر مبلغ رأيته أو حملته في حياتي حتى وقتذاك.. وكان لا بد من وضع الآلة في مكان عام حتى يتسنى لنا الحصول على الأحبار والورق والصيانة بطريقة طبيعية.. فكان أن أنشأنا هذا المكان أو المكتب.. وكان قرارنا بضرورة أن تعمل الآلة بشكل تجاري محدود ودون حماس بالطبع حتى لا تتلف سريعًا.. كما أنني كنت أتوق إلى تحسين حال مطبوعاتنا، حيث كنت أشعر بالغيرة والنقمة وأنا أشاهد عند باعة الجرائد مجلات الإسلاميين (الدعوة، الاعتصام، المختار الإسلامي...) بينما مطبوعاتنا نحن على حالتها المزرية.. وبالمناسبة كانت قضيتهم المركزية وقتها هي حرب أفغانستان والتبرير للتحالف مع "أهل الكتاب" الأمريكان ضد الملاحدة الشيوعيين حسب تعبيراتهم..

ودارت عجلة العمل بنجاح معقول.. ولكن ظلت المشكلة أننا نحصل على المواد التي نطبعها منسوخة في مكان آخر لا نعرف عنه شيئًا.. واعتبرت هذا ثغرة لا بد من سدها سريعًا.. وعاد إلى الحنين إلى الآلة الكاتبة.. ولكن وقف أمامي حائل أن شراء آلة كاتبة جديدة يتطلب أن تذهب بها إلى أمن الدولة كي "يأخذ بصمتها"، أما شراء آلة قديمة فيعني بالضرورة أن يبلغ البائع أمن الدولة كي يخلي مسئوليته، وإذا لم تذهب بنفسك وتبلغ فإن هذا سيكون بمثابة إبلاغ عن نفسك.. غير أن هذه المشكلة وجدت لها حلاً بمحض صدفة سعيدة جدًا..

قبل هذا كانت الأحداث السياسية عام 1981 قد تطورت بسرعة وقام السادات بضربته الأمنية الكبرى في 3 سبتمبر حيث اعتقل مئات المعارضين في ليلة واحدة حتى لم يتبق خارج السجون سوى خمسة فقط من أعضاء اللجنة المركزية أنا أحدهم.. وحدث أن عبود الزمر ضابط المخابرات الجهادي خطط لاغتيال السادات أثناء زيارته للمنصورة، وأعلن السادات هذا بنفسه في خطاب له وأسماه "الولد الهربان".. ولك أن تتخيل طبيعة الإجراءات الأمنية في المدينة وقتذاك.. فقد كانت الدوريات المسلحة تجوب الشوارع لإثبات الحضور والترهيب..

في هذه الأجواء الصعبة جاءني زميل عزيز جدًا وهمس في أذني بأن فلان- وهو أحد أقاربه- يريد بيع آلات كاتبة.. وفلان هذا كان أحد العاطفين على الحزب ويقرأ مطبوعاته.. ولم أكن أعلم أنه قد افتتح في بيته محلاً لتدريب طلاب دبلوم التجارة على هذه الآلات.. وسبب البيع أنه سيتزوج من أوربية وأن هجرته ستتم فجأة وخلال أيام.. لم أشك إطلاقًا في العرض.. فأنا أثق في زميلي ثقة عمياء.. إلا أنني كنت أتعجب من طباع الشخص صاحب الآلات الذي رأيته بضع مرات فهو حين يجلس معك تجده فجأة قد نام أو يبدو كمن نام.. طبع أم مرض لا أعلم.. وكان هذا مثار تهكم بالطبع.. لم أتردد وقررت المجازفة.. بل لم يخطر ببالي قط أن هناك مجازفة..

في الصباح كنت بالقاهرة واجتمعت مع الزميل/ الثعلب وعرضت عليه الفكرة دون تفاصيل فحاول إثنائي للحقيقة، لكنني صممت، وقلت له هل يمكن أن يأتيني بالمبلغ ذلك اليوم فأخرج من جيبه على الفور مبلغ 400 جنيه لشراء ثلاث آلات بسعر الواحدة 120 جنيه.. وساعتها عنّت لي ملاحظة جانبية، وهي السعادة بأن لدينا زملاء موسرين يحمل أحدهم في جيبه حوالي 12 ضعف راتبي..

عدت إلى المنصورة منتصرًا وأنجزنا الاتفاق مع صاحب الآلات الكاتبة، دون أن ألتقي به، على أن يتم التسليم ليلة سفره حماية لأمنه.. وكانت هذه الليلة من أطول الليالي التي عشتها..

(4)

كان البائع سيسافر في الفجر، فاتفقنا على أن نذهب إليه في التاسعة والنصف مساءً.. قررنا أولاً التخزين في شقة الزميل المتفاني المرحوم سعد الحنفي المحامي، ومن للمفارقة الساخرة أن تلك الشقة كانت ملاصقة تمامًا لسور سجن المنصورة (كان الزملاء من نزلائه يسمونه سجن المنصورة السياحي بسبب موقعه الحي قبالة الاستاد والتساهل السائد فيه).. وجاء زميل مهندس بسيارته في الموعد المضروب وذهبنا إلى المحل.. ساعة وصولنا كان البائع بالفعل يغلق الباب الجرار.. وبسرعة البرق أخرج ثلاث كرتونات بها الآلات وأعطيته النقود.. ولم يمر ربع ساعة حتى كنا في شقة سعد، ومضى الزميل الآخر بسيارته سريعًا..

كانت السعادة تغمرنا، سعد وأنا.. وفتحنا الكراتين لنفرح بالنفائس التي اغتنمناها، أي الآلات الثلاث ماركة أوبتيما/ الممتازة صناعة ألمانيا الشرقية.. وكانت المفاجأة الصاعقة أن إحدى الآلات ذات لوحة مفاتيح انجليزية.. شعرت بالخيبة تكاد تشل تفكيري.. قلت لا بد أن البائع قد أخطأ في ظل "اللهوجة" التي تمت بها العملية..

قلت لسعد لا بد أن نعود له.. قال لي أنت مجنون؟.. ولكن بعد نقاش استمر عشرة دقائق كنا نضع الآلة اللقيطة في الكرتونة معًا.. كان كل ما أفكر فيه وأخشاه بل أخجل منه أن يتهمني الزملاء بالسذاجة وأن هناك من نصب عليّ. بالطبع لم تكن هناك وسيلة لاستعادة الزميل الذي مضى بالسيارة، ولم يكن بالشقة تليفون. وكنا تحت ضغط الوقت الضيق جدًا للحاق بالرجل لتبديل الآلة.

خرجت أنا وسعد في هذه الليلة البهيمة نحمل كرتونة ثقيلة الوزن وفي مناخ أمني يصعب وصفه، ووقفنا أمام السجن لنوقف سيارة تاكسي.. قلت لسعد: أوقف سيارة بها راكب حتى لا نقع في سيارة مرسلة إلينا بشكل خاص، وهي من قواعد التأمين المعروفة، خاصة وأن وجهي من الوجوه المحفوظة عند المخبرين.. وبالفعل أوقفنا سيارة يوجد بها رجل يرتدي جلبابًا أبيض بجوار السائق.. وقلنا له عن وجهتنا فوافق على اصطحابنا..

دخلت أنا إلى السيارة أولاً ثم أدخل سعد الكرتونة فألهمني الله قول: "حاسب حاسب حتى لا يتكسر"!! ربما كان السبب أنني لمحت السائق يلتفت بكل جسمه وينظر إلى الكرتونة بعينين خارقتين.. ووضعت الكرتونة على ساقي.. لكن سعد الشهم- رحمه الله- أخذها مني قائلاً: "عنك..عنك أنت".. وهكذا أصبح من الواضح أننا نحمل "طقم صيني" أو شيئًا من هذا القبيل..

بعد تحرك السيارة استأنف السائق حديثه مع الراكب الآخر.. وكان آخر ما يمكن أن نتوقعه.. قال: "..وركب ولد سني ومعه واحدة منقبة من ميدان الطميهي ونزلوا في عزبة الشال.. وأخذت راجل طويل بدقن من مدينة السلام للشيخة عائشة..".. وهكذا استمر التقرير فجحظت عيوننا.. على الفور بادرت سعد بالحديث: "الست حماتك دي ناوية على إيه.. وأنت هاتجيب لها دا كله منين.. مش أما تسدد تمن أقساط المخروب النجف الأول"..

بسرعة أدرك سعد مقصدي فجاراني وأبدع في الحوار فقد كان قصاصًا مطبوعًا.. وتنفست الصعداء بعدما لاحظت أن السائق لم يعد ينظر لنا في المرآة.. غير أن الصاعقة الكبرى كانت أن توقف السائق فجأة أمام بوابة مديرية الأمن (مبنى مكافحة المخدرات الآن).. لحظتها أحسست أن كل شيء انقضى ولاحت أمام عيني صورة إبراهيم البدراوي والمحكمة العسكرية.. وكأننا ذهبنا من جوار السجن إلى السجن نفسه بأرجلنا.. أي مصيبة تلك..

أخبرني سعد فيما بعد أنه كاد يفقد السيطرة على نفسه وشعر كمن يضع الهرم على ساقيه.. وقطع لحظة الذهول هذه قول السائق: "معلش يا جماعة الحاج صاحب العربية هو اللي هيوصلكم".. لم ننبس ببنت شفه كما يقولون.. نزل الرجل ودخل من بوابة المديرية وسمعت الجندي يقول له "مساء الفل يا حضرة الصول".. أي "فُل" هذا؟! واستدار الحاج ليقود السيارة.. وكان لدي بقية من جبروت ودم لم ينشف لأقول له "منور ياحاج"!! فنظر إلي سعد نظرة هائلة وعاد إلى ما هو فيه..

بعد أن تمالكت أعصابي نظرت إلى سعد فوجدته جامد الوجه وفي عالم آخر.. ربما كان يلعن اليوم الذي عرفني فيه.. وطلبت من الحاج أن ينزلنا في مكان بوسط الطريق لقضاء حاجة طارئة تذكرناها.. وبالفعل كان.. ونزلنا من السيارة مهزوزي الرُكَب.. وعلى الفور التقطنا أول تاكسي جاء وركبناه إلى مقر النصاب الذي وضعنا في هذه الورطة العجيبة التي كادت أن تقضي على حاضرنا ومستقبلنا..

من حسن الطالع أننا بمجرد أن وصلنا كان النصاب/ النائم على نفسه مازال واقفًا أمام المحل ويودع بعض الناس.. ما إن رآنا ومعنا الكرتونة حتى انهار مظهره.. بادرته: "بقى تعمل كده فينا؟!".. فلما ادعى الجهل بمقصدي قلت له: "اديتنا مكنة انجليزي ليه؟".. قال فيما يشبه التهتهة: "أنا قلت يمكن تحبوا تكتبوا حاجة للأجانب"!!! قلت له: "لا.. عشان المكنة الانجليزي ثمنها أقل بعشرين جنيهًأ"!!!

لم أطل الحديث.. وتم تغيير الآلة بسرعة الصاروخ.. وانطلقنا في تاكسي إلى مكمننا بجوار السجن.. وما أن عدنا حتى خارت قوانا.. وجلسنا مذهولين من تصاريف القدر.. ثم فجأة انفجرت في الضحك.. أما سعد فقد كان ضحكه هيستيريًا كأنه يريد أن يسمع نزلاء السجن كلهم.. وأخذنا نتذكر الساعة الرهيبة التي مضت بكل تفاصيلها ونقهقه.. وفجأة قال لي سعد الله يرحمه ودموع الضحك في عينيه: "دماغك ناشفة.. صرمة.. بس جدع وقلبك ميت".. وذهب ليعد لنا الشاي..

(5)

انقسمت الآلات الثلاث.. واحدة تركناها في شقة سعد كاحتياطي استراتيجي فهو محامٍ ومن المبرر تمامًا أن تكون عنده آلة كاتبة، ولم يكن قد اشترى واحدة بسبب ظروفه المالية الصعبة واستعداده للزواج..

والآلة الثانية ذهبت بها للقاهرة في رحلة خاطفة.. وكان زميلنا المرحوم إبراهيم وردة المناضل الكبير (من سندوب أيضًا) يمتلك سيارة تاكسي فطلبت منه أن يأتي إلىّ ساعة آذان المغرب في أحد أيام رمضان، حيث ذهبنا إلى الشقة ووضعنا الآلة في قفة (حاوية من خوص مشهورة في الريف المصري) وغطيناها بقماش.. وانطلقنا.. ولم يكن إبراهيم يجيد القيادة ليلاً.. وكدنا نصطدم بسيارة لوري لنموت أو نصاب ومعنا هذا السر اللعين.. ومن هول الخضة توقفنا بالسيارة لفترة على جانب الطريق..

وصلنا بالسلامة إلى القاهرة، وتحديدًا حي الشرابية الشعبي حيث كان المرحوم أحمد مصطفى (النوبي الجميل الشهير بلومومبا والذي كان يعمل بدار المستقبل العربي) جالسًا على مقهى بجوار بيته وسلمناه القفة، التي بدت مثل "زيارة تحية" آتية بخير الريف فصعد بها أولاد إلى بيته وأمسك هو بنا كي يقوم بالواجب معنا فرفضنا أن نمكث ثانية واحدة، فقال لي غاضبًا ومتهكمًا: "ماتحنبظهاش قوي"..

أما الآلة الثالثة فكانت من قسمتي ونصيبي، ووضعتها في شقة استأجرناها للزميل والصديق الرائع المرحوم عماد فكري (زوج المناضلة هدى توفيق فيما بعد).. وكان عماد ابن القاهرة لا يزال وقتها طالبًا في بكالوريوس الصيدلة بجامعة المنصورة.. وكنت أذهب إليه في مسكنه بعد منتصف الليل كلما حانت ساعة العمل.. ومن مزايا عماد أنه كان كتومًا إلى حد يغيظ، وكان منضبطًا إلى حد يشعرك بالرغبة في تقبيل جبينه..

تفاقمت مشكلتي بعدما أنهى عماد دراسته.. فتمسكتا بالشقة.. وكنت لا أذهب إليها إلا في حالة العمل.. ومن المضحك أن صوت نقر الآلة الأوبتيما كان يقرقع في سكون الليل.. فكنت أضعها فوق بطانية.. وأغلق كل النوافذ بستائر من بطاطين حتى لا يخرج الضوء.. فحتى إذا سمع أحدهم صوت الآلة لن يظن أنه آتٍ من الشقة غير المأهولة.. وفي كل الأحوال دربت نفسي على اللمس الرقيق للمفاتيح الحديدية فادحة الصوت..

غير أن الخسارة التي ألمت بي أنني بعدما كنت متعودًا على الكتابة بطريقة اللمس اضطررت لأن أكتب بإصبع واحد لضمان عدم وقوع أخطاء في الكتابة، فلم نكن في رفاهية من الوقت والأمان حتى نخطئ ونصحح.. ومازلت على هذه الحال حتى اليوم أنقر بإصبع واحد..

كانت المواد التحريرية تأتيني مكتوبة بخط اليد.. فكنت أعرف وأخمن خط من هذا وخط من ذاك.. ومن الطريف أن الزميل الثعلب طلب مني في أول مرة يسلمني المخطوطات أن أعيدها له بعد الكتابة.. فقلت له: "من الذي يحتاج ثقة الآخر؟!" .. وصممت على أن أقوم بإعدام الأوراق بنفسي في مكان النسخ.. وكنت أمزق كل ورقة لإرب صغيرة بعد كتابتها.. وأنثرها في الهواء وأنا في طريق العودة من الشقة..

وقد حدث في بعض الأوقات أن تدهورت الأمور جدًا.. فلم تكن تصلني أوراق مكتوبة، وكان الثعلب يعطيني الأفكار الرئيسية شفاهة وأقوم أنا بكتابتها من رأسي مباشرة على الآلة الكاتبة.. أي خط إنتاج متكامل يبدأ من الكتابة ويمر بالنسخ والطباعة ثم ينتهي بالتوزيع..

.. أنظر لكل ما سبق.. وأقول لنفسي أي جيل كنا مع كل هذه المشاق والتعاسة.. لكنها كانت شقاوة تنعش الألباب والأرواح..



#مصطفى_مجدي_الجمال (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- افرحوا أنتم !!!
- سموم اللغة الثورية الهابطة
- محاكمة القرن.. خطوة خطيرة نحو صدام معقد
- الثورة المضادة أفعى برأسين
- كل رجال البرادعي
- إنقاذ ثورة مصر من الضياع
- طرائف يسارية
- حتى لا تحترق مصر
- جبهة أم منابر حزبية
- يسار ب 3 رؤساء
- اليسار والاختيار
- ثلاث -شرعيات-.. و -كروكي- لصدام هائل وشيك
- مصر.. لحظة تاريخية مجنونة
- دروس متعددة ليسار يجب أن يتحد
- للدكتاتورية المحتملة في مصر.. وجهان
- الثورة المنشولة
- حوار مع خليل كلفت
- الثورات وأمراض اليسار العربي الخلقية والمكتسبة [1/2]
- ماسبيرو وثقافة -الكيد الثوري-!!
- الشيوعيون العرب في الحقبة السوفيتية (استرجاع)


المزيد.....




- صدمة في الولايات المتحدة.. رجل يضرم النار في جسده أمام محكمة ...
- صلاح السعدني .. رحيل -عمدة الفن المصري-
- وفاة مراسل حربي في دونيتسك متعاون مع وكالة -سبوتنيك- الروسية ...
- -بلومبيرغ-: ألمانيا تعتزم شراء 4 منظومات باتريوت إضافية مقاب ...
- قناة ABC الأمريكية تتحدث عن استهداف إسرائيل منشأة نووية إيرا ...
- بالفيديو.. مدافع -د-30- الروسية تدمر منظومة حرب إلكترونية في ...
- وزير خارجية إيران: المسيرات الإسرائيلية لم تسبب خسائر مادية ...
- هيئة رقابة بريطانية: بوريس جونسون ينتهك قواعد الحكومة
- غزيون يصفون الهجمات الإسرائيلية الإيرانية المتبادلة بأنها ضر ...
- أسطول الحرية يستعد للإبحار من تركيا إلى غزة


المزيد.....

- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي
- تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون / سعيد العليمى


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - مصطفى مجدي الجمال - تحيا الآلة الكاتبة