|
تمرّد الروح على قفصها الطيني .. مواجهات كازانتزاكي
عيسى الصباغ
الحوار المتمدن-العدد: 3768 - 2012 / 6 / 24 - 12:07
المحور:
الادب والفن
الشعراء ، الشعراء الحقيقيون ، هم أولئك الذين يلمسون روح الأرض بأصابعهم ، ويملؤون صدورهم بالعواصف . هل قال أحد قبلي هذه الكلمات ، لا اعتقد ، فهي من موحيات كازانتزاكي وكتاباته الرائعة . كازانتزاكي شاعر أوّلا ، وشاعر أخيرا ، وما بين أولّه وأخيره تدفّقت أعماله الخالدة . وهو راءٍ أيضا بمعنى آخر هو الذي رأى كلّ شيء . حينما كان طالبا في كلية الحقوق – جامعة أثينا – وكان ذالك في عام 1901 ، كتب الى أحد أصدقائه قائلا :(أحاول طرد الشعراء من مكتبي ، والشعر من قلبي ، فليذهبْ هوغو لسافيني ، ولامرتين لجيرنغ ، والشعر للواقع ، ومع ذلك ففي اللحظة التي أكتب اليك فيها أتمعن فيما كتب دانتي ومانزوني ، بينما مكتبي مزيّن بهوغو وسومولوس ) . الشعر قدره ، وقد ولد ليكون شاعرا . على نحو مبدع وظّف شعره في رواياته ، فليس صعبا أن تحسّ الأرواح المعذّبة ، المكافحة تخطف بين سطورها ، ولا يطول بك الأمر أن تجد نفسك تسعى خلف فراشاته الملوّنة ،وطيوره المغرّدة . انظر كيف يصف أمّه في (تقرير الى غريكو) :( امتزجت أمّي في ذاكرتي بالأكاسيا والكناري بشكل خالد لا يقبل الانفصال ، وأنا لا استطيع أن أشمّ رائحة الأكاسيا أو أسمع صوت الكناري دون أن أحسّ أمّي تنهض من قبرها في أعماقي ، وتتحد بالأريج والزقزقة ) . هذه رؤية صوفية أو قل إنها معنى سامٍ من معاني وحدة الوجود . إنه يرى الأشياء متّحدة ، ومتداخلة بعضها ببعض ، وبوضوح أعمّ ، كان يرى الذوات والظواهر والأشياء يتجلّى بعضها في بعض . هذا الأمر يذكّرنا بالراهب الذي كان يشير الى الطير محلّقا في فضائه ، فيقول : هذا أخي . هذا الموقف الذي وقفه كازانتزاكي ، والموقف هنا استعمله بالمعنى نفسه الذي استعمله النفّري في مواقفه ، وهو المرتبة أيضا في الكتاب المهم (مراتب الوجود ) لصدر الدين القونوي تلميذ المتصوف الأشهر ابن عربي ، أعود فأقول إن الموقف الذي وقفه الشاعر اليوناني ، والمرتبة التي صعد اليها ، إنما هي حقيقة تجاربه وخبراته وكفاحه في الحياة . لِمَ لا وهو القائل في تقريره : ( أيها القارئ ستجد في هذه الصفحات الأثر الأحمر الذي خلفته قطرات من دمي ، الأثر الذي يشير الى رحلتي بين الناس والعواطف والأفكار ) . وطوال رحلته في عالمنا كان ينزف ويئنّ ويتوجع ، ويدوّن نزفه وأنينه ، وحينما اقول كان ينزف ويئنّ لا أعني الفعلين بمعناهما المعجمي أو الرومانسي ،بل كان ينزف ويئنّ بشمولية كونية كاملة . دعني أوضّح هذه الشمولية الكونية ، فهي مهمّة الى حدّ بعيد ، وهي نقطة ارتكاز الشعر الحقيقي ومع ذلك تبدو هنا غامضة . هل سمعتَ صراخ الشجرة وأنت تهوي على جذعها بفأسك الحاد اللاصف ؟ هل أحسستَ بلوعة الحجر واشمئزازه فيما أنت ترميه في بركة للقذارة ؟ لماذا تصرخ بالسائق أن يتوقف حينما يخطف من أمام سيارته قطّ مشرّد أو كلب سائب ؟ هذه هي الروح الكونية العالية ، والتجانس الرفيع بين الموجودات . لذلك قال للأطباء قُبيل وفاته : ( أوَتعلمون ؟ الشعراء لا يموتون أبدا ، على كلّ حال تقريبا أبدا ) و(تقريبا ) هذه من متطلبات الخطاب البشري ، فالشاعر هو الذي رأى حقيقة الموت والحياة وامتدّ بصره الى ما بعد هاتين الظاهرتين المرتبطتين بالوجود ، تذكّر الآية القرآنية في سورة (ق) :(لقد كنتَ في غفلةٍ عن هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرُك اليومَ حديد ) . من قال إن الموت نهاية الحياة ؟ إنه شكل من أشكالها ، تحوّل في مظهرها . لا أذكر من قال هذه العبارة الأخيرة ، ولكن هناك جانب في الحياة هو التحوّلات البايولوجية والكيمياوية ، والموت تحوّل . لقد أوصى كازانتزاكي أن يُكتب على شاهدة قبره هذه العبارة : ( لا آمل في شيء ،لا أخشى شيئا ، أنا حر ) . إذن الموت تحرّر وعتق . لا يقول الشعراء هذا تسويغا للأمر أو أخذه على وجه المجاز أو ليُبدي نوعا من المكابرة والتحدّي . بل إنها الحقيقة كلّ الحقيقة تلك التي يؤمن بها الشاعر . العالم أو الكون دفقات من الحياة لا تتوقّف . أليس هو تجليا للمبدع الأول ، للخالق ، لله ، فكيف يموت الله ؟ من هذه الحقيقة تنبثق مواقفه الفكرية والسياسية كافةً . كان يرى في كلّ إنسان مسيحا قادرا على قهر الإغراءات ، وإذلال الغوايات صعودا الى الروح السامية ، النبيلة التي يتساوى في فيئها البشر جميعا . ويخيّل لي أنه كان يؤمن بأن الشيوعية هي واحدة من تمثلات تلك الروح التي لا يمكن للإنسان أن يصل إليها إلا بأن يسلك طريق الجلجلة ، طريق الآلام . اسمعْ ما يقول : ( إن كلّ لحظة من حياة المسيح هي صراع وانتصار ، لقد قهر الفتنة القاهرة لرغبات الإنسان البسيط ، قهر الإغراءات ، وعمل دون هوادة على إحالة اللحم الى روح. ) . ليس فيما يقول تحوّل بايولوجي أو إحالة كيمياوية ، هذا جانب أشرنا اليه فيما سلف ، لكنه الآن في مرحلة أسمى إنه يتحدّث عن صراع الإنسان وأوجاعه ، إخفاقاته وانتصاراته . هل قلت إخفاقات ! لا اعتقد أن هذه الكلمة موجودة في قاموس كازانتزاكي ، الإخفاق وجه آخر للانتصار ( مثلما الموت وجه آخر للحياة ) إنه شوط في مسيرة الإنسان ، مشوار لابد منه للوصول أيّ وصول . اصغِ اليه مرة أخرى كيف يصف الروح الإنسانية المنتصرة : ( إن روح البشرية زخم وكبرياء ، صرخة وسط الصمت الجبان الذي لا يحتمل ، رمح يقف منتصبا لا ينحني ويمنع السماء من أن تسقط على رؤوسنا ) . هذه رؤية دينية ، عفوا دعني أصوّب عبارتي ، إنها صياغة جديدة للدين ، إعادة ترتيب البيت الديني على وفق منظور نابع من الروح الكلية من الله الذي أدفأ مخلوقاته بحلوله فيها ، من ظهوره الماثل في أصغرها وأكثرها تواضعا وصولا الى التجليات العظيمة التي تخطف الأبصار ، وتجعل الارواح في ارتعاش مهيب . هذا المنظور الجديد للدين ، وهذه الرؤية الثورية ، تعدّ رفضا للأشكال التقليدية المتوارثة للدين ، إذ تشكّلت عبر التاريخ ، وارتبطت بمصالح الحكام والنبلاء وكبار رجال الدين ، وقد أوقعت العداوة بينه وبين الكنيسة ، فاتهمته بالإساءة الى الدين استنادا الى فقرات وردت في روايته ( الكابتن ميخاليس ) التي ترجمت للعربية تحت عنوان (الأخوة الأعداء ) ، فوجّه الى كهنة الكنيسة رسالة جاء فيها : ( أيها الآباء المقدّسون لقد أعطيتموني لعنة ،وأنا أعطيكم أمنية ، إذ أتمنى أن يكون ضميركم ناصعا مثل ضميري ، وأن تكونوا أخلاقيين ومتديّنين بالقدر الذي عليه أنا من الأخلاق والتديّن ) . لاحظ الكلمة الأخيرة في هذا التصريح (والتدين) . إنه يتمتّع بقدر عالٍ من التدين ، ولكن ليس ذلك التدين المعروف لدى رجال الدين وأتباعهم من البسطاء ، إنه دين نابع من الأصل ، من المُنشىء الأول ،وليس بغريب أن يكون الشعر وسيلته وطريقته للوصول الي ذلك المُنشىء . في رحلته الى جبل آتوس – يذكر ذلك في تقريره الى غريكو – اصطحب معه صديقه الشاعر اليوناني الكبير أنغيلوس سيكليانوس ، وقد كان آنذاك شابا صغيرا في مقتبل العمر كصديقه كازانتزاكي ولم يكن قد حاز على شهرته الواسعة التي حصل عليها فيما بعد ، وقد وصفه كازانتزاكي في تلك الرحلة بأنه شاعر من فصيلة الصقور ، بصفقة واحدة من جناحه يصل الى الأعالي ، وكلاهما آنذاك تنخر روحه الحيرة . وعند صعودهما جبل آتوس حيث صوامع الرهبان المعتكفين شاهدا شجرة لوز . وقف الشاعر أمامها وقد غرس الشكّ مخالبه في روحه المعذبة وأنشد :
قلت للشجرة حدّثيني يا أخت عن الله فأزهرت ... شجرة اللوز .
هذا ما أسميه التوحّد ، ويسميه الفلاسفة الإلهيون : الوحدة المطلقة . يقول العفيف التلمساني وهو أحد المتصوفة المسلمين : ( إذا انكشف المحجوب فما ثمة غير ولا سوى ) ما من شيء غير الله ولا أحد سواه . هذا ما يراه المتصوفون وهم عنوان آخر للشعراء الرائين . وكتنويع بنيوي على مقولة التلمساني ، يقول كازانتزاكي في مشهد مؤثر يقتلع الروح من ارتباطاتها المادية : ( ذات ليلة بينما كنت أعبر الحيّ التركيّ سمعتُ امرأة تغنّي موالا شرقيا بصوت مليء بعاطفة حزينة متشنّجة ، كان الصوت عميقا وأجشّ وكئيبا ينطلق من حنايا المرأة ، ويملأ الليل باليأس والسوداوية الحزينة ، وحين أحسستُ أنه من المستحيل عليّ أن أتابع السير ، وقفت أنصت ورأسي مائل الى الجدار ، لم استطع أن التقط أنفاسي ، ولما لم تعدْ روحي المختنقة قادرة على التلاؤم مع قفصها الطينيّ تدلّت من قمة رأسي ، وراحت تتردّد في أن تطير أم لا ، لم يكن الصدر الأنثوي للمرأة التي تغنّي مترعا بالحبّ أو الغبطة ، بل كان مترعا بالصرخة ، بأمر موجّه الينا لكي نحطّم قضبان سجوننا المؤلّفة من الأخلاق والخجل والأمل ، وأن نسلّم أنفسنا وأن نهدر أنفسنا أو نتوحّد مع العاشق الرهيب المُغوي الذي يكمن منتظرا في الظلام والذي نسمّيه الله ) . أما أن يكون كازانتزاكي قد ضاقت عليه العبارة حينما قال : ( يكمن منتظرا في الظلام ) أو أنه يعني تلك البقعة الكامنة في قلب النور والتي تبدو لأعيننا الفانية المحدودة معتمة ، في حين أن الأنوار تنبعث منها . وفي كلّ الأحوال إن الانتظار ينطوي على دعوة للقاء مع العاشق الأبدي الذي يغوينا بالاتحاد معه . لاحظ معي فقد سمعتَه يتحدّث عن (صرخة) . تلك هي تمرّد الروح ، وتحرّر العاطفة من القفص الطينيّ الذي وجدنا أنفسنا مسجونين فيه ، وسوف تتكرّر تلك الصرخة كثيرا في سائر أعماله الروائية والشعرية والفلسفية . إليك مثلا آخر ، يقول في تقريره : ( إنها رحلة الإنسان يحمل قلبه في فمه وهو يصعد جبل مصيره الوعر القاسي . فروحي كلّها صرخة وأعمالي تعقيب على هذه الصرخة ) . الشعراء الحقيقيون المكتوون بحرائق الوجود يصرخون لا يكتبون ، لذلك تلامس قصائدهم شغاف القلوب ، وتهزّ أرواحنا من الأعماق ، وفي كثير من الأحيان ترعبنا . نحن مطمئنون لوجودنا الترابي الفاني العاري ، وحين تفاجئنا القصيدة خلال مسيرتنا الواهمة نرتعش ونهتزّ ونتفطّر كما يتفطّر الطين تحت الشواظ الحارقة للشمس . في عام 1907 منحت جامعة أثينا الجائزة الأولى لكازانتزاكي على مسرحيته (طلوع النهار) ، وقد عقّب الأستاذ الذي سلّمه الجائزة قائلا : ( إننا نتوّج الشاعر لكننا نطرد من هذا الهيكل العفيف الشاب الذي تجاسر على كتابة أشياء كهذه ) . هل يريد هذا الأستاذ أن يكرّر ما فعله إفلاطون حينما طرد الشعراء من جمهوريته ؟ لايمكنني أن أفهم هذا التقريض والهجاء في الوقت ذاته ، والذي صدر عن الأستاذ الجامعي المتّشح بالوقار ، إلا على نحو أشار فيه الى شيئين : الشاعر بكيانه الروحي المضيء ، الحارق ، والشاب بهيئته الطينية المعتمة ، يبدو أن الأمر قد التبس عليه ، فلن يستطع استيعاب اندماج الضوء بالعتمة ، تجانس الإله والإنسان ، الروح المحبوسة في القفص الطيني ،بهره النور الأخاذ ، وخذله الجسد المعتم ، إنها ثنائية غير متصوّرة ، لا يكاد يتحمّلها العقل البشري المجبول على المألوف ، أو الذي دُرّب على ما هو تقليدي وعرفي . هذا جانب من كازانتزاكي الشاعر الذي نعاه صديقه الشاعر الفرنسي ألان بوسكيه إذ قال : ( إنه لوجه من أرقى وجوه الأدب وأنبلها قد دخل لتوّه والى الأبد في ذاكرة بشر هذا الزمان ) . وبعد سنتين مرتا على وفاته ، كتب ألبير كامو الى زوجته : ( بغيابه يختفي واحد من أواخر فنانينا الكبار ، وأنا من ألئك الذي يستشعرون ، وسيواصلون الاستشعار ، الفراغ الذي خلّفه ) .
#عيسى_الصباغ (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
من أدبيات الفيسبوك .. خطاب الأسماء المستعارة
-
مسرح الملائكة..أقوى معلم للاخلاق وخير دافع للسلوك الطيب
المزيد.....
-
مصر.. الفنان أحمد عبد العزيز يفاجئ شابا بعد فيديو مثير للجدل
...
-
الأطفال هتستمتع.. تردد قناة تنة ورنة 2024 على نايل سات وتابع
...
-
ثبتها الآن تردد قناة تنة ورنة الفضائية للأطفال وشاهدوا أروع
...
-
في شهر الاحتفاء بثقافة الضاد.. الكتاب العربي يزهر في كندا
-
-يوم أعطاني غابرييل غارسيا ماركيز قائمة بخط يده لكلاسيكيات ا
...
-
“أفلام العرض الأول” عبر تردد قناة Osm cinema 2024 القمر الصن
...
-
“أقوى أفلام هوليوود” استقبل الآن تردد قناة mbc2 المجاني على
...
-
افتتاح أنشطة عام -ستراسبورغ عاصمة عالمية للكتاب-
-
بايدن: العالم سيفقد قائده إذا غادرت الولايات المتحدة المسرح
...
-
سامسونج تقدّم معرض -التوازن المستحدث- ضمن فعاليات أسبوع ميلا
...
المزيد.....
-
صغار لكن..
/ سليمان جبران
-
لا ميّةُ العراق
/ نزار ماضي
-
تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي
/ لمى محمد
-
علي السوري -الحب بالأزرق-
/ لمى محمد
-
صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ
...
/ عبد الحسين شعبان
-
غابة ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
اسبوع الآلام "عشر روايات قصار
/ محمود شاهين
-
أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي
/ بدري حسون فريد
-
أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية
/ علي ماجد شبو
المزيد.....
|