أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - أحمد جرادات - لبردى ضفاف كثيرة: يومان في دمشق















المزيد.....

لبردى ضفاف كثيرة: يومان في دمشق


أحمد جرادات

الحوار المتمدن-العدد: 3768 - 2012 / 6 / 24 - 04:08
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    





"ومعذرة اليراعة والقوافي جلال الرزء عن وصف يدقُّ
من قصيدة "نكبة دمشق" للشاعر أحمد شوقي، 1926

تمهيـد
عندما قصفت قوات الاحتلال الفرنسي دمشق بالطائرات في عام 1926 هزَّ ذلك الحدث الجلل وجدان السوريين والعرب جميعاً، واستهولَ أمير الشعراء أحمد شوقي تلك الجريمة فكتب قصيدته الشهيرة "نكبة دمشق".
كان ذلك في عام 1926، أما اليوم فلم يعدْ بردى صافياً رقراقاً كما كان، بل بات محمَّلاً بأشلاء السوريين ومخضباً بدمائهم، البريء منهم والمذنب، ولم يعد صباه رقيقاً وعليلاً، بل صار عاصفاً ولافحاً، ولم يعد لبردى ضفتان فقط، كأي نهر وكل نهر، بل أصبح له ضفاف عديدة، وعِرة وشائكة ودامية.
كانت خريطة الصراع آنئذ بسيطة ومفهومة: قوات الاستعمار الكولونيالي الفرنسي في جبهة، وسوريا والعرب أجمعين في جبهة أخرى. أما اليوم فإن النكبة أشد هولاً وضخامةً، وخريطة الصراع أكثر تعقيداً وتداخلاً. النكبة اليوم ليست نكبة دمشق وحدها، بل نكبة سوريا كلها والعرب جميعاً، وخريطة الصراع أصبحت تضم لاعبين عديدين، محليين وعرباً وإقليميين ودوليين.

يومان في دمشق
لعل الوقت القصير، لكن الثمين، الذي قضيتُه في دمشق في فترة الانتخابات البرلمانية في سورية لا يسمح لي بتقديم تحليل متماسك للأوضاع الراهنة في هذا البلد. ولذا فإن هذا المقال أقرب إلى أن يكون بمثابة وعاء لانطباعات ذاتية تكوَّنت لدي من المقابلات والأحاديث المتفرقة مع مواطنين سوريين، والجولة على عدد من صناديق الاقتراع التي نظَّمتها وزارة الإعلام السورية لأعضاء الوفود الأردنيين والعرب والأجانب من نشطاء وصحفيين ومحللين، والرحلة المفيدة والممتعة في مجلس الشعب برفقة أصدقائي، الكاتبين سعود قبيلات وهدى فاخوري والناشط الحقوقي سليمان قبيلات، التي اصطحبتنا فيها مديرة الإعلام في مجلس الشعب الأستاذة ميساء نعامة، وهي سيدة تتسم بالانفتاح الفكري والسياسي وعدم التعصب الحزبي، فضلاً عن الدماثة وحسن الاستماع، وتنتمي إلى تيار التجديد والإصلاح في حزب البعث الحاكم. كما عملتْ السيدة نعامة على ترتيب لقاء غير رسمي، اتَّسم بالصراحة والبعد عن الخطابات البروتوكولية إلى حد كبير ودار فيه حوار مفيد للغاية، مع رئيس مجلس الشعب الأستاذ محمود الأبرش.
وكنا قبل ذلك قد جُلنا في أرجاء مبنى البرلمان السوري العريق الواقع في قلب دمشق، وهو أحد المباني المسجَّلة في قائمة التراث العالمي. وقد لفتت أنظارنا جميعاً لوحة تزيِّن أحد أروقته وتضم صور وأسماء أعضاء المؤتمر السوري الأول، 1919-1920، يتوسطهم رئيس المؤتمر هاشم الأتاسي- كان ذلك قبل أن تُرسم خطوط وتُغرز دبابيس سايكس- بيكو وسان ريمو على الخريطة العربية، وتُقام عليها دول ما أنزل الله بها من سلطان تمترسْنا خلف أسوارها وتلهَّينا بتمجيدها وشغلنا بصنع أعلامها وسارياتها وتأليف أناشيدها الوطنية والهتاف لزعمائها والدعاء لهم بطول البقاء في الحكم، ولا نزال نتحدث عنها كدول عظمى، إما تكاذباً للمحافظة على مصالحنا داخل الأسوار المحصنة وإدامتها، أو تفكيراً رغبوياً لإشباع توْقنا المشروع إلى أن تكون لنا أوطان ذات شأن لا نخجل بها أمام العالم، وسعياً إلى تحقيق السلام النفسي كي لا نغرق في الكآبة ويدمرنا الإحباط. وقد كُتب تحت كل صورة اسم صاحبها واسم "القضاء" (وليس الدولة) الذي جاء منه: ابراهيم هنانو من حلب وعبد الحميد البارودي من حماة وعبد الرحمن الرشيدات من عجلون والشيخ رشيد رضا من بيروت ورشيد ابراهيم من الناصرة، وهكذا... وطن واحد وشعب واحد حقاً، لا شعاراً أجوف.

شكل الصراع...مضمون الصراع
يبدو لي أن الصراع الضاري الدائر في سوريا وعليها وحول مستقبلها ليس فحسبْ صراعاً عمودياً محدد الحواف بين نظام الحكم ككتلة واحدة في جبهة، وبين تحالف التدخل الخارجي المعادي له في الجبهة المقابلة: حلف الناتو، ولا سيما الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وتركيا، والأنظمة العربية الرجعية وعلى رأسها مشيخات الخليج، ولا سيما السعودية وقطر، وجماعات المعارضة المسلحة التي تزوِّدها هاتان الدولتان بشتى أنواع الأسلحة ومختلف أنواع العملات الصعبة المغموسة بالنفط (البترودولار والبترويورو والبتروباوند...)، والجماعات السلفية الوهابية، ولا سيما تنظيم القاعدة، الذي بدأ الهجرة إلى "دار الحرب" الجديدة بإرسال كتائب المقاتلين والانتحاريين وخبراء التفجير والتفخيخ إلى "ساحة الجهاد الأعظم" في سورية؛ وإنما هو أيضاً صراع أفقي متداخل في بنية النظام الحاكم بين أطرافه ومكوِّناته المختلفة. وهذا باعتقادي هو الشكل الأشد خطورة والأكثر ترشيحاً لحسم المعركة المحتدمة في البلاد.
وفي هذا الصدد أمكنني ملاحظة ثلاثة تيارات أو مكوِّنات رئيسية في جبهة النظام: التيار الإصلاحي، التيار المحافظ، التيار النيوليبرالي، فضلاً عن المكوِّن العابر للمكونات الأخرى.
- المكوِّن الأول يضم المؤيدين لإجراء إصلاحات ديمقراطية سياسية وقانونية في الدستور (انتخاب رئيس الدولة وتحديد مدة ولايته وإلغاء المادة الثامنة التي تنص على أن حزب البعث هو الحزب القائد للدولة والمجتمع)، وفي القوانين الرئيسية (قوانين الأحزاب والانتخابات والجمعيات)، وفيما يتعلق بمكافحة الفساد المستشري في جسم الدولة والحزب والأجهزة الأمنية؛ فضلاً عن الحرص على دعم المقاومة ضد إسرائيل، وحزب الله على وجه الخصوص، والتحالف الاستراتيجي مع إيران. ويجدر أن أشير هنا إلى أنه خلافاً لما هو حاصل في البلدان العربية التي شهدت ثورات أو انتفاضات شعبية ضد حكامها المستبدين في ما أُطلق عليه مصطلح "الربيع العربي" الملتبس والذائع الصيت، فإن الرئيس بشار الأسد هو الذي يتزعَّم هذا التيار الإصلاحي. ولهذا السبب بالذات، فضلاً عن أنه هو الضامن لعدم الاستجابة لمحاولات إشعال حرب أهلية حتى الآن، أرى أن الجبهة المعادية للنظام السوري تسعى إلى قطف رأس بشار الأسد بالذات وتصب جام شعاراتها وهتافاتها ضده تحديداً، وليس ضد النظام، بل إن ثمة في الجبهة المناوئة من اقترح نائبه "السني" فاروق الشرع بديلاً عنه، على غرار "السيناريو اليمني".
- المكوِّن الثاني هو تيار المحافظين أو من يُطلق عليهم اسم "الحرس القديم". ويبدو أن هؤلاء لا يريدون أي تغيير أو إصلاح، ويحرصون على دوام الحال على ما هو عليه، أي دوام مناصبهم ومكاسبهم ونفوذهم، والاستحواذ على كعكة الحكم كلها، وهم يعضُّون عليها بالنواجذ ومستعدون للذود عنها بالأسنان والأظافر، ليس في مواجهة المعارضة فحسب، بل حتى في مواجهة التيار الإصلاحي في الحكم، إلى حد الاستعداد للتمرد أو النـزول إلى الشارع إذا لزم الأمر. ويحاجج هؤلاء بأنهم هم الذين حملوا على أكتافهم عبء بناء البلد وحمايته والدفاع عنه وأنهم وصلوا إلى سدة الحكم بكفاحهم. وهم الذين يملأون الميادين والشوارع تأييداً للنظام. وفيما يتعلق بالانتخابات البرلمانية فإنهم يؤمنون بأنهم يستحقون أن يحصدوا أغلبية المقاعد في البرلمان لأنهم يمثلون الأغلبية، فتعدادهم يربو على ثلاثة ملايين بعثي، في حين أن عدد أعضاء الأحزاب الأخرى، القديمة والجديدة، الموالية والمعارضة، مجتمعةً، لا يتعدى الآلاف في أحسن الأحوال ويتساءلون: أليست هذه من أصول الديمقراطية التي تنادي بها المعارضة! وهذه ربما تكون حقيقة، لكن ثمة حقيقة أخرى لا يتم الاعتراف بها، وهي احتكار السلطة، في القانون والممارسة على السواء، لما يربو على أربعة عقود في مناخ من تجريف الحياة السياسية الحقيقية وإحكام القبضة الأمنية على مفاصل البلاد.
وفيما يخص العملية الانتخابية نفسها، فإلى جانب عدم تمكُّن وزارة الداخلية من إجراء الانتخابات في ما يسمى "بالمناطق الساخنة"- وهو أمر مفهوم- فقد شابها الكثير من المخالفات، التي احتجَّت عليها المعارضة السلمية الداخلية الإصلاحية، والتي لا تخلو منها أية عملية انتخابية في أية دولة عربية أو عالم ثالثية، إلى جانب تكرار بعض الأساليب القديمة في تقديم قوائم المرشحين البعثيين وحلفائهم من غير البعثيين في ما كان يُطلق عليه تاريخياً اسم "الجبهة الوطنية التقدمية"، وإن جاءت هذه المرة تحت اسم جديد، وهو "قائمة الوحدة الوطنية". ويُذكر في هذا السياق أن الأسلوب و"الجبهة" كانا طوال عقود سابقة محل تندُّر من قبل القوى الأخرى، حيث شاعت تسميتها بـ "الجبهة الوطنية التقدمية لصاحبها حزب البعث العربي الاشتراكي". وذلك على الرغم من أن الرئيس الأسد أقدم على خطوة جديدة وذات أهمية تمثلت في انتخاب المرشحين البعثيين لعضوية البرلمان من قواعد الحزب، وليس بالتعيين من قبل القيادة العليا كما جرت العادة، وذلك في ظني بهدف الحؤول دون وصول بعض الوجوه القديمة إلى البرلمان و"إقناع" البعض الآخر بعدم الترشح، في محاولة لإقصائهم عن المشهد السياسي، مع تفادي وقوع صدام معهم.
- أما المكون الثالث فهو تيار الليبراليين الجدد، الذين يشكلون فئة البرجوازية الطفيلية، وخاصة الكومبرادور المرتبطين بالمراكز الرأسمالية العالمية ودول النفط والغاز الخليجية العربية. وهؤلاء هم حلفاء "موضوعيون" للجبهة المناهضة للنظام، وإن كانوا داخله الآن. وهذه الفئة الطفيلية هي المسؤولة عن تهميش وإفقار الريف السوري وضرب الصناعة الوطنية وتدمير الحِرف الصغيرة، وبالتالي عن أسباب انفجار الاحتجاجات الأولى. ويبدو أن الطبقات الشعبية في سورية بدأت تكتوي بنارهم مثلما اكتوينا نحن في الأردن بنار أنشطتهم الطفيلية، من جراء خطط الخصخصة وبيع القطاع العام و المضاربة بالأراضي والتبعية للرأسمالية المتوحشة ونهب المال العام وازدياد الفقراء فقراً والأغنياء غنى وتآكل الطبقة الوسطى واستشراء الفساد. ونحن نعلم يقيناً وبالتجربة الملموسة أن الزواج بين البزنس والسلطة لا يثمر سوى عائلة الفساد والاستبداد.
- يضاف إلى التيارات الثلاثة آنفة الذكر مكوِّن عابر للمكونات الأخرى، يضم أشخاصاً يشغلون مناصب مختلفة على اتساع هرم السلطة، ممن لديهم علاقات أو تربطهم خيوط بواحد أو أكثر من أطراف التحالف المناهض، مالياً وسياسياً وأمنياً. وما قصة محافظ حمص السابق ومخطط البنية التحتية للمدينة والأنفاق التي استخدمتها المعارضة المسلحة لتهريب الأسلحة والأموال والرجال، والتي كُشف عنها النقاب ويتداولها المواطنون السوريون العاديون إلا قمة جبل الجليد.

خطط وسيناريوهات بديلة
بعد إحباط الخطة (أ)، التي استهدفت إسقاط النظام عن طريق شن حرب خارجية على سورية بغطاء أممي على غرار السيناريو الليبي، بفضل الفيتو المزدوج الروسي- الصيني في مجلس الأمن وصلابة الموقف الروسي على الأرض، لا يزال في جعبة التحالف المناهض لسورية مزيد من الخطط والسيناريوهات:
الخطة (ب): إشعال حرب أهلية- طائفية مذهبية؛
الخطة (ج): تدبير انقلاب عسكري- أمني على نار هادئة في حالة توفر عناصر النجاح لتنفيذه؛ الخطة (د): شن حرب استنزاف طويلة الأجل، من خلال تنفيذ عمليات إرهابية بالتفجيرات والسيارات المفخخة والعمليات الانتحارية والهجمات العسكرية وعمليات الاختطاف وقطع الطرق وتخريب المنشآت، بهدف زعزعة أمن واستقرار المجتمع، وليس النظام فحسب. وينبغي ألا يغيب عن البال تدفق الأموال الخليجية التي لا تنضب إلى الجماعات المسلحة التي تتكاثر وتهاجر إلى سورية من مختلف البلدان، وما يرافقها من حملات إعلامية عربية وعالمية هائلة ومنسقة وما ينتج عن كل ذلك من تفاقم المشكلات الاقتصادية والاجتماعية وحتى النفسية للمواطنين، من ارتفاع أسعار السلع الأساسية واحتكارها من قبل التجار وازدياد معدلات البطالة وتعمُّق الفقر وفقدان الأمان ومعه الأمل. ومن الواضح أن الخطة (د) هي التي يتم تنفيذها حالياً.


مقالان ساخران ودلالات في منتهى الجدية
لعل استعراضاً سريعاً لمقاليْن ساخريْن نُشرا صبيحة الانتخابات في جريدة تابعة للدولة، وهو بحد ذاته أمر إيجابي ولافت، (جريدة تشرين، 8 مايو/أيار 2012) يعطينا فكرة عن حجم التذمر في الأوساط الشعبية وبين السياسيين والمثقفين.
في المقال الأول بعنوان: "حكومتنا الموقرة...وعائلتنا الكريمة" يقول كاتبه وليد معماري إنه "بعد مشاورات ومداولات واستعراض الواقع من حولنا، وتطنيش المسؤولين عن النظر فيما آلت إليه أمورنا، وإقرار الجميع بمبدأ "فالج لا تعالج"، حيث لا توجد آفاق منظورة وغير منظورة لتحول الجائعين إلى شبعانين، وتخلي الكاسبين عن مكاسبهم،" أقر مجلس العائلة بالإجماع خطة معيشية من ستة بنود تشمل الطعام والإنارة والتدفئة واللباس والمواصلات والمتفرقات. وبموجب هذه الخطة العائلية المقترحة سيتم الاستغناء عن كل شيء تقريباً والاكتفاء بالزيتون والزيت والزعتر، شريطة دهن الرغيف بالزيت عن بُعد؛ والاستعاضة عن التدفئة بالبطانيات وعن نور الكهرباء بالشمعات؛ وشراء الملابس من البالة، مع الاستغناء عن الملابس غير المرئية (أي الملابس الداخلية والجوارب)؛ والتوقف عن ركوب سيارات التاكسي مع تشجيع رياضة المشي؛ والامتناع عن شراء الكتب والصحف، مع جواز استعارة الصحف القديمة ""لأن القديمة مثل الجديدة من حيث مدحها لأداء الحكومة."
وتنص المادة السادسة والأخيرة على ضرورة "عدم تبليغ هذه الخطة للمسؤولين باعتبارهم عن إصلاحاتهم لاهون... وتحويلها إلى اللامسؤولين، عسى أن يقرأوا الفاتحة على أرواحنا."

وفي المقال الثاني بعنوان: "أغنية الحب الخائب بين الناخب والنائب"، تتناول الكاتبة هيفاء عجيب موضوع الانتخابات البرلمانية بسخرية لاذعة صبيحة التوجه إلى صناديق الاقتراع، فتقول إنها كانت تشعر بالحيرة حيال المرشح الذي ستمنحه صوتها، فراحت تتمشى في الشوارع وتتأمل أسماء وصور وشعارات المرشحين لعلها تهتدي إلى ضالتها. وهي وإن أطلقت سهام سخريتها على أصناف المرشحين، فإنها تسلط بين السطور ضوءاً خاطفاً على المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي يكابدها الشعب: فهذا مرشح الاقتصاد الحر "أي رئيس نادي الواحد والأربعين" على حد قولها- وفي هذا إشارة إلى عصابة الليبراليين الجدد كما فهمتُها- وذاك يصف نفسه بأنه المرشح الشامل، بينما هي تريد مرشحاً تعرف ما هو عمله واختصاصه بالضبط. فتتحول إلى مرشح ثالث، وهو صاحب محطة محروقات، ولكنها تتذكر أن قلب المواطن موجوع من ذكرى الكازيات وأصحابها وأزمة المازوت والبنزين الخانقة. وفي شارع آخر تتوقف أمام صورة مرشح يحمل شهادة ماجستير في الانترنت، ولكنها لا تثق في أنه سيتمكن في حال نجاحه من نقل البلد "من عصر الحكومة العاملة على الفحم إلى عصر الحكومة الإلكترونية".
أما زميله من حمَلة الشهادات فإنه حاصل على درجة ماجستير في الإدارة، وسيقضي على الترهل الإداري والبيروقراطية. بيد أنها تشك في أنه يستطيع حل اللغز التالي: كيف يمكن إنفاق 500 مليون ليرة على إنشاء كراج سيارات، اللهم إلا إذا كان ذلك الكراج مخصصاً للمركبات الفضائية القادمة من الكواكب الأخرى؟ (إشارة إلى الفساد ونهب المال العام). وتتوقف أمام صورة مرشح بشاربيْن معقوفيْن إلى أعلى كشوارب "العقيد أبو شهاب" ولكن من غير كلام تحت الصورة، وتتساءل عمَّ سيفعل هذا المرشح بهذين الشاربين إذا جلس تحت القبة، هل سيمسك بالشارب الأيسر ويحلف أنه سيحل مشكلة العشوائيات أم يمسك بالأيمن ويُقسم أنه سيضع حداً لمشكلة الاستملاكات ( ومن المعروف أن الأخيرة من المشاكل التي أسهمت في اندلاع الاحتجاجات).
وأخيراً لفت انتباهها إعلان يطلب فيه المرشح استئجار ثلاثة آلاف مندوب، يعني جيشاً كافياً لاقتحام قلعة حصينة، فأدركت أن البزنس ينوي التقدم لخطبة يد السلطة، وهنا تكمن أم الكوارث.
وبعد أن تعبتْ قدماها من التجوال بين لافتات المرشحين وإعلاناتهم، وصلت إلى لافتة كُتبت عليها عبارة "الأمانة والإخلاص" فقالت في نفسها: "هذه هي ضالتي". توقفتْ أمام المحل واشترت سندويشة شاورما، لكن ليس من "سيخ" انتخابي (في إشارة إلى استخدام المال السياسي في الانتخابات).
ولا يخفى أن نشر مثل هذين المقالين في صحيفة تابعة للدولة على الرغم من أن مقص الرقيب لا يزال يعمل على الأرجح، إنما يعكس في ظروف سورية الراهنة مؤشرات خطيرة على حقيقة الأوضاع المعيشية القاسية للطبقات الشعبية وتجريف الحياة السياسية في سورية وأثر ذلك على مآلات الصراع في هذا البلد.

خاتمـة
في مثل هذه الظروف تبرز الأسئلة الأكبر والأخطر: هل سيتمكن النظام من الصمود؟ هل سينجو من هذه المطاردة الدموية التي يستميت فيها صيادو الائتلاف المناهض الذي يضم حلف الناتو والعثمانيين الجدد والمحميات النفطية العربية الرجعية والتيار الإسلاموي الوهابي؟ إذا كان الجواب بنعم، فأي جناح أو تيار في النظام هو الذي سيصمد أو ينجو؟ هل سيبقى المجتمع، ولا سيما الفئات المؤيدة للنظام أو الصامتة أو المتربصة، صابراً على مثل هذا الوضع إلى أن يُحسم نهائياً لصالح النظام؟ إلى أي مدى؟ وإلى متى؟
من هنا أرى أن العامل الأكثر حسماً، من بين عدد لا حصر له من العوامل الداخلية والخارجية، سيعتمد على علاقات القوى داخل النظام نفسه ومواقف وسلوك التيارات المكونة له في عالم لا ثبات فيه إلا للمتغير.

عوْد على بدء
ردَّ عناصر من السلفية الوهابية رداً "بليغاً" على قصيدة شوقي "نكبة دمشق" بشن عدة هجمات هدفت إلى تحطيم تمثال الشاعر العربي الكبير والفيلسوف أبو العلاء المعري، أحمد بن عبدالله بن سليمان (363- 449 للهجرة) الذي كان قد خاطبهم قبل نحو ألف عام بكل رقة ورفق وحنو في رثائه الفقيه الحنفي الحلبي:
"خفِّف الوطء ما أظن أديم الـ أرض إلا من هذه الأجساد"
فسارَعوا إلى تلبية ندائه، لكن بمحاولة تحطيم تمثاله المقام على أديم البلدة التي احتضنته وسُميت باسمه فخلَّدها وخلَّدته، لأن التمثال صنم وعبادة الأصنام شرك بالله، ولأن المعري كافر وملحد، ولأن بعضهم ذهب إلى القول إن المعري من أسلاف عائلة بشار الأسد. هي إذن "غزوة مباركة" مركَّبة ضد الشرك، والكفر والإلحاد، ومساهمة في الثورة على حكم بشار الأسد، وهي حرب ضروس لا مجال فيها لتخفيف الوطء على أديم أرض المعرة.



#أحمد_جرادات (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295


المزيد.....




- متى تتوقعون الهجوم على رفح؟ شاهد كيف أجاب سامح شكري لـCNN
- السعودية.. القبض على شخصين لترويجهما مواد مخدرة بفيديو عبر و ...
- مئات الغزيين على شاطئ دير البلح.. والمشهد يستفز الإسرائيليين ...
- بايدن يعلن فرض الولايات المتحدة وحلفائها عقوبات على إيران بس ...
- لماذا تعد انتخابات الهند مهمة بالنسبة للعالم؟
- تلخص المأساة الفلسطينية في غزة.. هذه هي الصورة التي فازت بجا ...
- شاهد: لقطات نشرها حزب الله توثق لحظة استهدافه بمُسيرة موقعًا ...
- ألمانيا تطالب بعزل إيران.. وطهران تهدد بمراجعة عقيدتها النوو ...
- مهمات جديدة أمام القوات الروسية
- مسؤول إيراني: منشآتنا النووية محمية بالكامل ومستعدون لمواجهة ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - أحمد جرادات - لبردى ضفاف كثيرة: يومان في دمشق