أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - مصطفى القلعي - في عبثيّة الاتّكاء على الفراغ ردّ على دعاة -الثورة بلا قادة-















المزيد.....


في عبثيّة الاتّكاء على الفراغ ردّ على دعاة -الثورة بلا قادة-


مصطفى القلعي

الحوار المتمدن-العدد: 3757 - 2012 / 6 / 13 - 11:45
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


لم تنفكّ أصوات سياسيّين ومسؤولين تولّوا بعد الثورة وزعماء أحزاب طالعة بعد الثورة تعلن في اطمئنان كبير أنّ الثورة التونسيّة لا قادة لها. والحقيقة أنّ هذه الأصوات تخفي بقدر ما لا تكشف؛ تخفي عجزها هي عن قيادة الثورة أو حتى عن المشاركة فيها بأيّ شكل من الأشكال. فلكأنّ في المسكوت عنه من كلام هؤلاء أنّ الثورة هبة سماويّة مباركة (أعني من التبريك والتتريك لا من البركة) فلا حرج أن نركب ونقود ونسوس ونغنم دون رفّة من خجل. هذا المقال محاولة للتصدّي إلى هذه الأصوات المروّجة للاتّكاء على الفراغ، إنّه محاولة لترسيخ صورة المشهد التونسيّ قبل الثورة وبيان دور النقابيّين في الثورة التونسيّة.
• حول المشهد السياسيّ التونسيّ قبل الثورة:
المشهد السياسيّ في تونس مشهد بانوراميّ متنوّع خلافا للصورة التي حرص نظام 7 نوفمبر الديكتاتوريّ المخلوع على ترويجها عن هذا المشهد. في تونس قبل ثورة 14 جانفي/ يناير هذا المشهد: حزب حاكم ومعارضة. لن أتحدّث في هذا المقال عن الحزب الذي كان حاكما لأنّه تمّ حلّه بحكم قضائيّ، وبعد المحاسبة والمقاضاة، عادت ممتلكاته إلى صاحبها الشرعيّ؛ الشعب التونسيّ. وإنّما سأتحدّث عن المعارضة.
المعارضة التونسيّة لنظام 7 نوفمبر المخلوع قبل سقوطه معارضتان؛ علنيّة معترف بها وسريّة. والمعارضة العلنيّة منقسمة هي أيضا إلى معارضتين؛ موالية وممانعة على النمط اللبناني. فقد استعار نظام 7 نوفمبر التجربة اللبنانيّة الديمقراطيّة لا لنشر الديمقراطيّة بل ليستفيد منها في توطين الاستبداد بالرّأي وبالفعل السياسيّين، بعد أن جرّدها من صفتها الديمقراطيّة.
1. المعارضة الموالية لنظام 7 نوفمبر:
كانت المعارضة الموالية في تونس منقسمة إلى نوعين أيضا. فمنها ما نشأ معارضا فعليّا كحركة الديمقراطيّين الاشتراكيّين التي أسّسها السياسيّ والمناضل التونسيّ الكبير أحمد المستيري، وحزب الوحدة الشعبيّة والاتّحاد الديمقراطيّ الوحدويّ، والأخيران ذوي توجّهات قوميّة، والحزب الاجتماعيّ التحرّري ذي التوجّه الليبراليّ. غير أنّ هذه الأحزاب الأربعة تحوّلت إلى أحزاب موالاة بفعل صفقات سريّة أبرمت مع نظام السّابع المخلوع، وبعد أن تمّ تغيير زعاماتها السياسيّة الراديكاليّة بزعامات كرطونيّة، وبعد إقصاء كلّ المناضلين الحقيقيّين أو إرضاء من بقي منهم بشكل من الأشكال.
ومن هذه الأحزاب المعارضة الموالية من نشأ مواليا. ونعني أساسا حزب الخضر للتقدّم ذا الواجهة الإيكولوجيّة والعمق الدستوريّ. وكم كان علاء خميري، وهو أحد تلاميذي، محقّا ومصيبا حين وصفه بهذا الوصف: "أخضر من الخارج وأحمر من الدّاخل"!! تعليقا على مقال في موضوع الإيكولوجيا منشور في موقع مجلّة الأوان الإلكترونيّة(1).
وقد شاب تأسيس هذا الحزب الكثير من الالتباس والالتفاف على القانون وعلى الشرعيّة الدستوريّة. ففي بداية الألفيّة الثالثة، شرع جملة من المثقّفين والمناضلين النقابيّين في التفكير في تأسيس حزب إيكولوجيّ مؤمنين بأنّ الساحة الإيكولوجيّة هي ساحة النضال المعاصر الأشدّ إلحاحا ضدّ الجشع الرّأسماليّ الذي يوشك أن يؤدّي إلى إبادة الحياة على كوكب الأرض. وكان هؤلاء المناضلون، الذين كان يقودهم عبد القادر الزيتوني، قد باشروا بإجراءات المطالبة بتأشيرة العمل القانونيّ.
غير أنّ نظام 7 نوفمبر التفّ على نضالات هؤلاء. وفاجأ الجميع بتشكيل حزب إيكولوجيّ صوريّ أسندت رآسته إلى منجي الخمّاسي(2) الذي كان من قيادات الحزب الاجتماعيّ التحرّريّ الموالي للسلطة والذي كان يرأسه حينها منذر ثابت. فتمّت مكافأة سياسيّ موال بتسليمه مقاليد حزب لم يناضل من أجله. كما لم يعرف عن منجي الخمّاسي أيّ نشاط بيئيّ قبل ذلك. وبدا "حزب الخضر للتقدّم" في السّاحة السياسيّة التونسيّة إبنا مدلّلا لحزب التجمّع الدستوريّ الحاكم حينها، يعمل بإمرته. وهو حزب يقول من يعرف الساحة السياسيّة من التونسيّين إنّه كان متّصلا اتّصالا مباشرا بدوائر الحزب الحاكم وبجهاز الرئاسة مباشرة. وتمّ إدخاله في أجندة النظام لتعديل السّاحة السياسيّة لاسيما المعارضة منها لبن علي. فصار، من موقعه المعارض، ينطق بلسان الحزب الحاكم ورئيسه بن علي(3). وكثيرا ما كان شديدا على المناضلين والمعارضين للنظام أكثر من النظام نفسه.
وقد كوفئ "حزب الخضر للتقدّم" على طاعته بأن أسند إليه مقرّ فاخر في شارع فرنسا بشارع بورقيبة أمام تمثال ابن خلدون وفي مقابلة السفارة الفرنسيّة في قلب العاصمة تونس. وسرعان ما حصل على التمويل العموميّ. وصارت له جريدة ناطقة بلسانه لا علاقة لعنوانها "التونسيّ" بمجال نشاط الحزب وهو البيئة. وامتلأ الحزب بالوصوليّين والفائضين عن حاجة حزب التجمّع الحاكم. وفاجأ بن علي الساحة السياسيّة حين أسند إليه ستّة (06) مقاعد برلمانيّة في الانتخابات التشريعيّة الأخيرة لسنة 2009 قبل الإطاحة به، منها مقعد لتجمّعيّة أخذته باسم الحزب عن جهة قابس بالجنوب التونسيّ. ولا يزال التونسيّون يتذكّرون الخطبة العصماء التي قالتها هذه النّائب(4) باسم حزب الخضر للتقدّم في مفتتح جلسات البرلمان التونسيّ المعيّن بعد الانتخابات المذكورة. وهي خطبة في تمجيد ليلى بن علي زوجة الرئيس التونسيّ المخلوع بن علي!!
غير أنّ هذا الحزب البيئيّ فشل في استقطاب المناضلين البيئيّين الحقيقيّين ومناضلي اليسار بصفة عامّة. وهذا كان من الأدوار التي أوكلت إليه. فكلّ من يقترب من هذا الحزب يُفاجأ بخطابه الدستوريّ النوفمبريّ السافر الذي يكشف ولاءه للرئيس وتبعيّته لحزب التجمّع بما لا يترك فرصة لأيّ مناضل صادق ليقترب منه(5). ولذلك لم يتمكّن الحزب من استقطاب غير الانتهازيّين والمطرودين من حزب التجمّع والمتقاعدين من أجهزة البوليس والقليل من الفنيّين والتكنوقراطيّين الذين لم تكن لهم انتماءات سياسيّة. وهذا التوصيف ينطبق تماما على حزب آخر موال بل منافس لحزب الخضر في الموالاة للحزب والنظام الحاكمين، نعني الحزب الاجتماعيّ التحرّريّ الذي سبق ذكره. أحزاب الموالاة هذه كانت تجتهد في ابتكار الآليّات للتعبير عن ولائها التامّ لبن علي وليّ نعمتها سواء بجعله مرشّحها في الانتخابات الرئاسيّة أو بالقبول بأداء دور الكمبارس أمامه لتزيين نصره "الديمقراطيّ" أو بالمشاركة في تفعيل حملته الانتخابيّة أو تمويلها أو بمهاجمة خصومه وكلّ المعارضين له أو لحزبه؛ حزب التجمّع الدستوريّ المنحلّ.
وأحزاب الموالاة هذه تمّ إشراكها في المشاورات التي أجراها الوزير الأوّل المكلّف بتشكيل الحكومة الأولى بعد سقوط نظام 7 نوفمبر، محمد الغنوشي، والتي تمّ إسقاطها بعد اعتصاميْ(6) القصبة1 والقصبة2. غير أنّ محمد الغنّوشي لم يسند إلى أيّ منها حقيبة وزاريّة. فهو كان، بحكم تواجده على رأس حكومة النظام المخلوع طيلة 13 سنة، على وعي تامّ بأنّها أحزاب كارتونيّة لا حجم لها ولا قيمة في الشارع ولا قدرة لها على التأثير والفعل بحكم ضعف قواعدها. وكان على دراية أيضا بأنّه أذرع خلفيّة لحزب التجمّع المقبور. فمجرّد إشراكها في الحكومة هو تدعيم لحزب النظام المخلوع، وهو لم يتمّ حلّه بعد، بما يعني تزايد الرّفض الشعبيّ لهذه الحكومة.
2. المعارضة الممانِعة:
كانت المعارضة الممانعة، الناشطة قانونيّا في الساحة السياسيّة التونسيّة آن حكم نظام بن علي الدستوريّ النوفمبريّ، متشكّلة من أحزاب ثلاثة هي: حزب التكتّل الديمقراطيّ من أجل العمل والحريّات (تأسّس سنة 1994)، وحركة التجديد وريث الحزب الشيوعيّ التي تحوّلت إلى حركة ديمقراطيّة ذات أصول شيوعيّة، والحزب الديمقراطيّ التقدّميّ الاشتراكيّ العلمانيّ. وقد لاقت الأحزاب الثلاثة أشكالا متعدّدة من التضييق على أنشطتها ومؤسّساتها الإعلاميّة. فقد منعت من عقد مؤتمراتها ومجالسها الوطنيّة. وحرمت من حقّها في التمويل العموميّ. وحرمت جرائدها من حصّتها في الإعلان. وكثيرا ما منعت من الترويج والبيع فجمعت من الأكشاك. ولوحق مناضلوها في أعمالهم وبيوتهم بالتشويه والإفراد والعزل وغيرها ممّا ابتكرته أجهزة البوليس السياسيّ من أفانين التضييق والتشديد والحرمان.
هذا الوضع منع هذه الأحزاب الممانعة من توسيع قاعدتها الجماهيريّة ومن إبلاغ أفكارها وأطروحاتها للناس. وهو ما يفسّر ضعف مشاركتها في الثورة التونسيّة وضآلة دورها في التأثير في الشارع التونسيّ. أحزاب الممانعة تمّت استشارتها في تشكيل حكومة الغنّوشي التي لم تصمد طويلا، كما أشرنا أعلاه. وقد شارك إثنان منها فيها. فيما علّق حزب التكتّل من أجل العمل والحريّات برئاسة الدكتور مصطفى بن جعفر(7) مشاركته قبل أن يعلن امتناعه عن المشاركة فيها.
3. المعارضة السريّة:
كانت تتشكّل من طرفين متعارضين إيديولوجيّا، نعني الطرف اليساريّ، والشيوعيّ منه أساسا، والطرف الإسلاميّ. وإن كان الطرف الإسلاميّ منحصرا في حركة النهضة في ظلّ ضآلة التيّار السلفيّ في تونس، فإنّ الطرف الشيوعيّ متعدّد ومنقسم. فمنه الوطنيّون الديمقراطيّون (و.ط.د) الذي يرأسه شكري بلعيد، وحزب العمّال الشيوعيّ (P.O.C.T) الذي تأسّس في 3 جانفي/ يناير 1986 ويرأسه حمّه الهمّامي، والحزب الاشتراكيّ اليساريّ المنشقّ عن حزب العمّال الذي يرأسه محمد الكيلاني، ومنه حزب العمل الوطنيّ الديمقراطيّ (ع.و.د) الذي يرأسه عبد الرزّاق الهمّامي.
والشيوعيّون على اختلاف أطيافهم لاقوا نفس المعاملة العنيفة من قبل النظام النوفمبريّ المخلوع. فقد منعوا من أيّ نشاط سياسيّ في الجامعة التونسيّة وخارجها. وتعرّضوا للتنكيل والنفي والتعذيب في السجون والتضييق في الحياة والحيف في العمل. غير أنّهم تمكّنوا من النفاذ إلى النقابات المهنيّة والعمّاليّة بمختلف قطاعاتها، حيث وجدوا فيها ملاذا شرعيّا للتواجد والنشاط. فلقد سيطر الشيوعيّون على مختلف النقابات في التعليم والصحّة والبريد والمحاماة وغيرها من القطاعات.
ولا يخفى ما بين هذه التيّارات الشيوعيّة من اختلاف. ولا يكاد يكون للإسلاميّين وجود يذكر في العمل النقابيّ. أمّا القوميّون غير الموالين لحزب التجمّع الحاكم كبعض الناصريّين وبعض العصمتيّين والبعثيّين والعروبيّين والمناضلين الوطنيّين الديمقراطيّين (م.و.د)، فقد نفذوا أيضا إلى بعض النقابات لاسيّما نقابات التعليم الثانوي.
وأمّا حزب المؤتمر من أجل الجمهوريّة الذي يتزعّمه د. منصف المرزوقي فلم يكن له وجود في السّاحتين السياسيّة والنقابيّة قبل الثورة. ويذكر د. منصف المرزوقي أنّه أسّس هذا الحزب في المنفى بفرنسا مطلع الألفيّة الثالثة (سنة 2001). وكان د. المرزوقي معارضا صلبا أزعج النظام المخلوع وأقضّ مضجعه. وبدأت مشاكل المرزوقي عندما رشّح نفسه لرئاسة الجمهوريّة منافسا لبن علي في أوّل انتخابات رئاسيّة تونسيّة سنة 1994. وكان حينها طبيبا مباشرا في مستشفى سوسة بالسّاحل الشرقيّ التونسيّ. وتسبّب له ذلك في أن يكون عرضة لاستفزازات بوليسيّة ولمضايقات كثيرة من مليشيات حزب التجمّع المنحلّ. وانتهى به الأمر إلى الطّرد من العمل، ثمّ السّجن فترات متقطّعة. فاختار، بعد أن سدّت السّلطة أمامه منافذ الحياة والنشاط، إلى الهجرة إلى الخارج حيث واصل النضال. وكان المرزوقي أوّل المبشّرين بقرب سقوط نظام بن علي حين كانت أبواقه تردّد أنّه "نظام قويّ وسليل دولة وطنيّة" قبل سقوطه بأيّام معدودات(8).
إذن، المعارضات بأطيافها اليساريّة والإسلاميّة والقوميّة رغم قواعدها النقابيّة والشعبيّة العريضة لم تتمّ استشارتها في تشكيل حكومة الغنوشي السّاقطة. وهو ما يفسّر هشاشة هذه الحكومة وعجزها عن إرضاء التونسيّين. فلقد أراد محمد الغنّوشي أن تكون حكومته وسطيّة معتدلة مشكّلة من المعارضة الممانعة لإرضاء الشارع التونسيّ. غير أنّها معارضة ضعيفة لا تملك الشارع. ولم تتمكّن من التماسك أمام الضغط الشعبيّ العارم لاسيّما أنّ أكبر قوّة شعبيّة ظلّت تراقب الأحداث وهي غير متّفقة مع خيارات الغنّوشي، نعني الاتّحاد العامّ التونسيّ للشغل.
4. العمل النقابيّ إسفين مدقوق في خاصرة السلطة:
ولعلّ في خروج كلّ المظاهرات الشعبيّة قبيل سقوط نظام بن علي المخلوع وبعده من مقرّات الاتّحاد ودوره الجهويّة والمحليّة دليلا على قوّة الاتّحاد وتوسّع قواعده الشعبيّة، من جهة، وعلى قدرته على تحريك الشارع، من جهة ثانية. تبعا لذلك، فإنّه مخطئ من يعتقد أنّ الثورة التونسيّة من الفراغ جاءت، لا ممهّد لها. فالنضال النقابيّ في تونس كان، منذ العهد البورقيبيّ، الإسفين المدقوق في خاصرة السّلطة. فهو، إلى جانب طبيعته المطلبيّة المهنيّة النقابيّة، يمثّل السّاحة التي فيها حافظت أطياف اليسار الاشتراكيّ واليسار القوميّ والعروبيّ على تواجدها وفعلها وأثرها وتأثيرها في المجتمع.
كما أنّ العمل النقابيّ كان في أغلبه معارضا عصيّا على الترويض النوفمبريّ رغم التضييقات والتهديدات والتعنيف في أحيان كثيرة. فلم تخل السّاحة التونسيّة يوما من مشاحنات وتجاذبات بين النقابيّين في مختلف القطاعات وبين السلطة. وكثيرا ما نفّذت النقابات المهنيّة، لاسيما قطاع التعليم المناضل، إضرابات كاسحة خلخلت أركان النظام وهزّت استقراره. ورغم تخوين النظام النوفمبريّ المقبور للمناضلين النقابيّين، والذين كان أغلبهم من أبناء اليسار، فإنّه لم ينجح يوما في كسر شوكة العمل النقابيّ ولا في تهفيت المدّ النقابيّ في كافّة القطاعات العموميّة والخاصّة وفي كلّ جهات تونس.
كثيرا ما ردّد النّاس، ولا يزالون يردّدون، أنّ الثورة التونسيّة كانت بلا زعامات(9). لكنّ هذا الترديد ناتج عن قصور في الرؤية بسبب افتقارها للقراءة السوسيوسياسيّة (sociopolitique) وللاطّلاع على التاريخ الحيّ وغير الرّسميّ للشعب التونسيّ. لم تأت الثورة التونسيّة من عدم. إنّ مثل هذا الكلام، إذا أعفيناه من قراءة حسن النوايا وسوئها، يحمل الكثير من الدّلالات السلبيّة، لعلّ أسوأها الدّلالة على أنّ الثورة التونسيّة ثورة انفعاليّة وجدانيّة بلا ذاكرة ولا إعداد ولا استعداد. أمّا الإعداد والاستعداد بمعناهما اللوجستيّ والبرنامجيّ فلا يمكن أن يدّعي أحد وجودهما. وأمّا التمهيد الطويل الأمد الذي لعبت فيه النقابات المهنيّة المنضوية تحت لواء الاتّحاد العام التونسيّ للشغل الدور الرئيسيّ فهو الذي بنى أساس هذه الثورة وصنع لها ذاكرتها.
فلم تطلع الثورة التونسيّة من فراغ، إذن. والقائلين بالفراغ القياديّ متّكئون على العبث. ولا سند لهم غير جهلهم بالسّاحة التونسيّة وغير محاولتهم البائسة للتستّر على تخاذلهم أمام التاريخ حين كان شعبهم في حاجة إليهم. فلم تكن ثورة الشعب التونسيّ عبارة عن مجرّد انفعال وجدانيّ شعبيّ مع شابّ مقهور أحرق نفسه. وإنّما كانت هذه الحادثة بمثابة الشرارة القادحة لبركان غاضب شحذه النقابيّون وأعدّوه للحظة الصفر الموعودة. كان النقابيّون، واليساريّون منهم خصوصا في القطاعات المهنيّة وفي الساحات الطلاّبيّة والتلمذيّة، يرفعون شعار "يسقط 7 نوفمبر.. يسقط جلاّد الشعب" منذ مطلع تسعينيّات القرن العشرين، ونظام بن علي لم يستقرّ بعد.
والحاصل بعد إجراء انتخابات المجلس الوطنيّ التأسيسيّ التونسيّ ﻠ 23 أكتوبر 2011، هو فوز حزب النهضة الإسلاميّ الذي كان محظورا والذي كانت أنشطته مغلقة بين المنتمين إليه في الخارج كثيرا وفي الدّاخل قليلا، أوّلا، وحزب المؤتمر من أجل الجمهوريّة الذي تأسّس في الخارج والذي لم تكن له قواعد نقابيّة ولم يكن يُذكر في الدّاخل، ثانيا، وحزب التكتّل من أجل العمل والحريّات الذي كان ناشطا ضمن المعارضة الممانعة القانونيّة في الدّاخل نشاطا يوصف بكونه نخبويّا لا جماهريّا، ثالثا. فالكثير ممّن هيّأوا للثورة لم يفوزوا باتخاباتها. هذا حكم الجماهير.. هذا حكم الصندوق الانتخابيّ. وتونس للجميع.
فهل سينصف الصندوق الانتخابيّ الشعب التونسيّ؟ خوفي من الأذرع السوداء..؟؟
----------------------------------------------
(1) راجع، إن شئت، مقالي: "الإيكولوجيا والديمقراطيّة" المنشور في مجلّة الأوان الإلكترونيّة بتاريخ: 9 كانون الأوّل/ ديسمبر 2009.
(2) منجي الخمّاسي ممنوع من السّفر الآن. وهو من الأمناء العامّين الأربعة لأحزاب الموالاة الذين اتّهمتهم لجنة تقصّي الحقائق حول الرّشوة والفساد بتلقّي مبلغ خمسين ألف دينار تونسيّ (حوالي 40 ألف دولار) رشوة من الرّئيس المخلوع أثناء الأسبوع الأخير من حكمه لمساعدته في إيقاف عصف الثورة. وتقول اللجنة إنّ بحوزتها وثائق بذلك.
(3) من أطرف ما ابتكره "حزب الخضر للتقدّم" تعبيرا عن موالاته للنظام أنّه لم يقدّم مرشّحا للانتخابات الرئاسيّة 2009 بل اعتبر بن علي مرشّحه فيها. وقام بحملة مساندة انتخابيّة فاجأت حتى حزب الرّئيس؛ حزب التجمّع الدستوريّ. فقد سيّر "حزب الخضر للتقدّم" قافلة من السيّارات المؤجّرة المزيّنة بشعارات المساندة لبن علي والمديح له في كامل ولايات الجمهوريّة التونسيّة. وهو ما لم يفعله حزب الرّئيس نفسه!!
(4) "النّائب" صفة لمن ينوب عن غيره. وهي، بهذا المعنى لا تؤنّث. فإن تمّ تأنيثها هكذا: "النّائبة"، تغيّر معناها لتصبح دالّة على المصيبة والكارثة. وهذا من الأخطاء الشائعة فإنّنا نسمع كثيرا ممّن تنتخب نائبا تسمّي نفسها "نائبة"، وهي بذلك تشتم نفسها أيّما شتيمة.
(5) وهو ما حصل معي ومع بعض الأصدقاء والرّفاق. فقد دعاني أحد كوادر الحزب إلى مقرّه المركزيّ لحضور تجمّع انتخابيّ سياسيّ، أثناء الحملة الانتخابيّة التشريعيّة والرئاسيّة لسنة 2009، فذهبت فسمعت العجب العجاب. فلكأنّني كنت في اجتماع شعبة دستوريّة.
(6) القصبة: هي الساحة المقابلة لمقرّ الحكومة التونسيّة أو الوزارة الأولى كما تسمّى في تونس، فيها اعتصم شباب تونسيّ من كافّة الجهات اعتصاما أوّل لإسقاط الوزراء الدستوريّين من حكومة الثورة، واعتصاما ثانيا لإسقاط حكومة الغنّوشي برمّتها. وكلّف الرئيس التونسيّ المؤقّت فؤاد المبزّع الباجي قايد السبسي (84 عاما)، بتشكيل حكومة جديدة. وقايد السبسي هو رجل دولة في عهد بورقيبة شغل حقائب الداخليّة والخارجيّة وغيرها. ثمّ ترك العمل السياسيّ مطلع التسعينيّات في عهد بن علي. ولم يعد إليه إلاّ في مارس/ آذار 2011 لخلافة محمد الغنوشي في لحظة عاصفة من تاريخ تونس.
(7) كان حزب التكتّل من أجل العمل والحريّات من الفائزين في انتخابات المجلس الوطنيّ التأسيسيّ التونسيّ المقامة بتاريخ 23 أكتوبر بعد حزبي النهضة الإسلاميّ والمؤتمر من أجل الجمهوريّة العروبيّ اليساري العلمانيّ. ويرأس الآن الدكتور مصطفى بن جعفر، الأمين العامّ للتكتّل، المجلس الوطنيّ التأسيسيّ. فيما يتولّى منصف المرزوقي رئيس حزب المؤتمر رئاسة الجمهوريّة. أمّا رئاسة الحكومة فقد تولاّها حمادي الجبالي الأمين العام لحزب حركة النهضة، والرّجل الثاني فيها، بعد رئيسها الشيخ راشد الغنّوشي. وبالمناسبة لا رابطة عائليّة أو غيرها تربط الشيخ راشد الغنوشي بمحمد الغنوشي الوزير الأوّل التونسيّ الأسبق في زمن بن علي وفي الحكومة الأولى والثانية بعد الثورة المطاح بهما، والذي تردّد اسمه في هذا المقال.
(8) أتحدّث عن برهان بسيّس بالذات أحد أقوى أذرع نظام بن علي الإعلاميّة. وقد نطق بهذا الكلام في برنامج "الاتّجاه المعاكس" على قناة الجزيرة القطريّة يوم الثلاثاء 11 جانفي/ يناير 2011. وقد تدخّل، حينها د. المرزوقي عبر الهاتف من باريس، وكان يتابع البرنامج، ليؤكّد أنّ نظام بن علي المافيوزيّ انتهى وأنّه على الشعب التونسيّ ألاّ يتراجع عن ثورته وألاّ يصدّق وعود بن علي الكاذبة بالتشغيل والإصلاح. وهو ما أغضب برهان بسيّس ودفعه إلى شتم المرزوقي.
(9) أكثر من ردّد هذه الفكرة رئيس الحكومة المتخليّة بعد انتخابات المجلس الوطنيّ التأسيسيّ، الباجي قايد السّبسي. وقد اتّكأ عليها كثيرا لتحجيم دور المعارضين والمنتقدين والمناوئين لحكومته ليسحب البساط من تحت كلّ من يدّعي الثوريّة أو من يتكلّم باسم الثورة أو باسم الشعب. بمعنى آخر كان قايد السّبسي يستعملها للمحاججة والمماحكة والمزايدة السياسيّة.



#مصطفى_القلعي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- محمود درويش - سميولوجيا الحصار وعزلة الكائن الفلسطينيّ
- الكتابة والاستبداد
- الألعاب والاستلاب
- كنّا هنا.. وما كانوا هنا
- الملح.. الوجود استعارة
- «المرأة نصف المجتمع»؟؟
- باقة زهور إلى الاتّحاد العامّ التونسيّ للشغل
- العقل الأخلاقي والبراغماتيّة السياسيّة في تونس المعاصرة
- مسؤوليّة اليسار في تاريخ تونس المعاصر
- قطاع الصحّة في تونس: تكريس لاستغلال الكادحين وإتاحة فرصة الت ...
- الحياة رقصة
- اليسار العربيّ عاطل إيكولوجيّا
- رأس المال والقيم
- رسالة إلى أصدقائي النهضويّين التونسيّين
- الريّف والعولمة.. هجرة النّمل احتجاجا


المزيد.....




- نتنياهو لعائلات رهائن: وحده الضغط العسكري سيُعيدهم.. وسندخل ...
- مصر.. الحكومة تعتمد أضخم مشروع موازنة للسنة المالية المقبلة. ...
- تأكيد جزائري.. قرار مجلس الأمن بوقف إسرائيل للنار بغزة ملزم ...
- شاهد: ميقاتي يخلط بين نظيرته الإيطالية ومساعدة لها.. نزلت من ...
- روسيا تعثر على أدلة تورّط -قوميين أوكرانيين- في هجوم موسكو و ...
- روسيا: منفذو هجوم موسكو كانت لهم -صلات مع القوميين الأوكراني ...
- ترحيب روسي بعرض مستشار ألمانيا الأسبق لحل تفاوضي في أوكرانيا ...
- نيبينزيا ينتقد عسكرة شبه الجزيرة الكورية بمشاركة مباشرة من و ...
- لليوم السادس .. الناس يتوافدون إلى كروكوس للصلاة على أرواح ض ...
- الجيش الاسرائيلي يتخذ من شابين فلسطينيين -دروعا بشرية- قرب إ ...


المزيد.....

- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل
- شئ ما عن ألأخلاق / علي عبد الواحد محمد
- تحرير المرأة من منظور علم الثورة البروليتاريّة العالميّة : ا ... / شادي الشماوي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - مصطفى القلعي - في عبثيّة الاتّكاء على الفراغ ردّ على دعاة -الثورة بلا قادة-