أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - شعراء الانحطاط الجميل















المزيد.....



شعراء الانحطاط الجميل


أفنان القاسم

الحوار المتمدن-العدد: 3747 - 2012 / 6 / 3 - 15:14
المحور: الادب والفن
    


الأعمال الكاملة


الدراسات (8)


د. أفنان القاسم


شعراء الانحطاط الجميل


مقالات فولتيرية


إلى صُنع الله إبراهيم





أدونيس

أدونيس شاعر الانحطاط الجميل؟ ليس في هذا شيء من قدح، وإنما تقريظ لشاعر في عصر انحط إلى درجة لم يعد فيه للجميل مكان، أو، وهذا أقرب إلى فكرتي، في لحظة الانحطاط العربي القائمة حيث تطغى الدمامة، ويلطم القبح الوجوه بل الكيان، ومن يقول الكيان يقصد أول ما يقصد الذات الكائنة في أعماقه والقصائد التي هي صور وعي الذات، نجد رغم كل شيء بعض شعر جميل، شعر أدونيس واحد منه، والجمال بالطبع هنا نسبي، بإمكانه أن يكون في أدنى مستواه بالمقارنة مع القصيدة الجميلة في عصر ازدهر، وازدهر الشعر فيه. وإصرارًا منا على مبدأ النسبية في حالتنا الانحطاطية وحالة غيرنا أيًا كان غيرنا يمكن القول إذن إن الانحطاط جميل في بعض نواحيه، وكل ما انحط ليس دميمًا. وهنا تكمن الخطورة في مقولة كهذه إذا ما استغلت من طرف الذين هم من وراء هذا الانحطاط، الغرب ومن لف لفه من أسياد شرق دميم، الغرب السياسي والشرق السياسي على التحديد، لئلا نقع في مطب التعميم واستعداء شعوب كل شعب على طريقته مستعبد من طرف سلطة أشكال قمعها كطرائق قمعها متعددة، والأخطر من هذا إذا ما ضرب الشاعر على الوتر نفسه، ضاربًا بالقصيدة عرض الحائط، وهمه الوحيد أن يبلغ شأوًا بعيدًا، فيكون أجمل شعراء الانحطاط لا صاحب أجمل قصيدة قيلت في عصر الانحطاط. وهذه، مع الأسف، حال أدونيس عند لهاثه على أعتاب جائزة تأتي من الغرب، وكأن على الغرب أن يقرر إذا ما كان أدونيس الشاعر الذي هو بيننا، وما يتبع ذلك من رضوخ كلي لنظام ليس من السهولة الدخول فيه، وأستطيع الجزم، كعارف قضى في الغرب حوالي الأربعة قرون، أن من سابع المستحيلات دخول "طالب القرب منه" فيه إلا إذا سلم بشروطه، واستسلم لها كلية، كمنهزم من عندنا، إلى حد الرضوخ الكامل. ونجدنا نشك حتى في رضوخ أدونيس الكامل للغرب، الذي لن يحظى منه على هذا "الشرف"، في زمن يريدون فيه رضوخ العراق والعالم العربي أولاً وأخيرًا، ورضوخ الإنسان العربي، ومحو كل أثر حضاري له، محوه هو وشعره وأدبه وتراثه وتاريخه وكليته، فمن هو أدونيس أمام هدف مدمر كهذا؟ وما هي قيمة قصائده، إن بقيت لقصائده قيمة، في صميم مخطط من جهنم؟
ومع ذلك، يصر الرجل على سلب الشاعر الذي كانه من شاعريته، ويمضي على درب أقصى ما يصل فيه إلى استلاب الشخصية.
كيف نفسر هذا عند أدونيس؟
يردد أدونيس كما يردد بعض الكتاب الأمخاخ العرب منذ رفاعة الطهطاوي إلى يومنا هذا مقولة بائدة لكثرة ما اجترت دون أن تفهم فهمًا صائبًا، مقولة "فهم الآخر"، فعن أي آخر يتكلم؟ يجيبك عن الإنسان في الغرب، أو الإنسان في إسرائيل، أو الإنسان في هونولولو، ولكن خاصة في الغرب وإسرائيل، فالإنسان في الغرب وإسرائيل يلخص كل الإنسانية كما توجب نوبل، بعد أن يفتعل كلمات مفخمة، وكأنه لا يخاطب إلا أعضاء لجنة التحكيم السويدية، ليبدي لهم موقفه "الكوني"، ويستدر عطفهم عليه، فهو شاعر لا يتململ في أمر يتعلق بمصائر البشر (دومًا في الخط ذاته الإسرائيلي والغربي)، فوق الملل، ويتجاهل عن عمد أن فهم الآخر أو عدمه في عصرنا لا يجري إلا بقرار يحاك في دهاليز البيت الأبيض، لأن فهم الآخر أمر سياسي لا إنساني، جزء لا يتجزأ من عولمة متوحشة تقودها أمريكا همها الوحيد الربح والهيمنة، وآخر ما يهمها فهم الآخر. على الصعيد الإنساني، يمكن للمرء أن يبني علاقات سليمة، متينة، مع كل شعوب الأرض، مهما كانت الظروف، أيًا كانت الشروط، اجتماعية، دينية، طبقية، أو غيره، وفي ردح من الزمن قصير، لا يحتاج إلى عشرات السنين دون أن نصل إلى ذلك كما هو حالنا اليوم مع الاستعمار الإسرائيلي في فلسطين، وأمس مع الاستعمار الفرنسي في الجزائر. أما على الصعيد السياسي، حيث كل شيء يتم حسب قانون الصراع من أجل البقاء والبقاء للأقوى، فهم الآخر لا بد أن يمضي من هنا، والغرب، الأقوى في الزمن الراهن، لن يدعك تمضي لا من هنا ولا من هناك، فيجعل من الآخر عقبة كأداء في الفهم والتفاهم، ولا يتورع عن عمل كل ما في وسعه من وسائل اقتصادية، عسكرية، وتكنولوجية بربرية من أجل تركيع شعوب بأكملها طالما بقيت له في ذلك مصالح، ولا يبدو في الوقت الراهن أن مصالحه قد قاربت على الانتهاء.
الحرب اللبنانية الإسرائيلية في الصيف الماضي وصمود المقاومة وانتصاراتها على الآخر السياسي، العسكري، البربري، الكولونيالي-الجديد-القديم، غيرت من فهمنا لهذا المفهوم، فهم الآخر، ومفاهيم أخرى كثيرة إن لم يكن لكل المفاهيم إلا لدى أدونيس ومن هم على شاكلته من طالبي القرب من سلطة نوبل وكل سلطة من غير نوبل. هذا الآخر الذي همه الوحيد تدميرنا يمكن مواجهته باللغة التي يفهمها: الحرب، ويمكن الانتصار عليه، للوصول إلى الآخر الإنساني، والتحدث إليه، فتح حوار مفتوح معه، عن كل شيء يخص هذه القرية الكبرى التي هي عالمنا اليوم. لكن لأدونيس كل الحروب ليست عادلة (كذا!)، وانه مع فهم الآخر (كذا)، الآخر، الآخر، وما أدراك ما الآخر (ألف كذا)، فاسمعيني يا لجنة التحكيم، واسمعني يا غرب، أرى كيف تدمر إسرائيل بأحدث الأسلحة الأمريكية الفتاكة لبنان، فأساوي بين حربها الإجرامية وحرب حزب الله وباقي فصائل المقاومة، بين المحتل ومحارب الاحتلال، بين المعتدي والمعتدى عليه، بين القاتل والضحية، بين مجازر البشر الجماعية ومجازر الميركافا البطولية. حرب الدفاع عن النفس وعن الأرض، الحرب العادلة، يساويها أدونيس بحرب الجنرالات الإسرائيليين السفاحين الشيزوفرينيين. يتردد، ينتبه إلى أنه يتوجه إلى جمهور من المشاهدين العرب لا الغرب، فيتهم نفسه بالسذاجة، لأن موقفًا كهذا في ظرف كذاك لهو بالفعل محير، ليس من السهل تبريره، وعلى الخصوص بعد أن قدمنا كل شيء، كل شيء على الإطلاق، في سبيل ما يدعى بفهم الآخر، ولم نجد في المقابل إلا الصد من الطغمة الحاكمة التي لديها برنامج عريض لتركيعك وتدميرك من اللازم تنفيذه، وتبًا للآخر وكل آخر حتى ولو كان كل شعراء العالم وليس فقط أدونيس الذي لا يعطي أي بديل، فيعود إلى ترداد الآخر وما أدراك ما الآخر، وكان من الأجدر به ترداد الذات، نعم، فهم الذات، هذا ما كان يجدر بأدونيس ترداده.
لا، أدونيس ليس ساذجًا، أراد الجائزة، وهو يعمل بكل حذق لنيلها: لقد ترجم كل كتبه، وليس هذا فقط بل والدراسات التي كتبت عنه، والتعليقات التي دارت حول هذه الدراسات، والتعليقات على التعليقات، والتعليقات حول التعليقات على التعليقات، لقد جند جيشًا عرمرمًا للترويج له، له وله وحده، فهو لا يرى أحدًا غيره شاعرًا لا قبله ولا بعده، في الجرائد والمجلات، على إنترنيت، وغذى الشائعات، ولقد ذهب إلى حد ترجمة أعضاء لجنة التحكيم السويدية إلى العربية عملاً بالقول المأثور مثلما تداين تدان.
ربما قال قائل ما يفعله أدونيس من أجل نيل الجائزة شيء طبيعي بالنظر إلى مكانة الرجل الشعرية، فلننظر إليه من هذه الناحية.
جاءت قصيدة أدونيس في مرحلة مخاض عسيرة للقصيدة العربية الحديثة، قصيدة الشعر الحر، وقد تميزت باستعارات غامضة عن علاقات البشر والأشياء ومقلدة للمقدس الشعري كما هو عليه لدى سان-جون بيرس، والذي كانت الطبيعة خير معبر عنه. ربما كان في الأمر شيء جديد فيما يخصنا، أما فيما يخص الغرب، وبالأحرى فيما يخص تطور القصيدة العالمية، فالأمر لا يعدو أكثر من نسخ على نسخ. قصيدة نيويورك مثلاً حيث انتصار الفعل الشعري على الموت ما هي سوى تكرار لما قاله المثل الأعلى القصيدي لأدونيس سان-جون بيرس قبله بعقود، قصائده الفلسفية المملة ولكنها قبل ذلك تكرار لأفكار أكل الدهر عليها وشرب في الغرب الليبرالي، نعم، يجب القول "ليبرالي"، وليبرالي مفرط الليبرالية كما هي حاله في الوقت الراهن، أشكاله المترجمة التي فقدت كل موسيقية لغتنا وكل شحناتها الداخلية وإيحاءاتها الخارجية، لهي من السذاجة (وهنا السذاجة في محلها) لدرجة يصعب ابتلاع كل ما يقوله هذا السان-جون بيرس العربي! لقد أوشك للتطابق بينهما أن يكون كاملاً حتى في مساريهما الحياتيين، فكلاهما قد غادر بلده (طفش من بلده؟ هو قال لي لما كنا ندرّس في السوربون معًا منذ حوالي الثلاثة عقود لبنان وما أدراك ما لبنان سأعود إلى لبنان ولم يعد إلى اليوم!) غداة الحرب، سان-جون بيرس غداة الحرب العالمية الثانية إلى نيويورك، وأدونيس غداة الحرب الأهلية في لبنان إلى باريس، دون أن يعود لا الواحد ولا الآخر على الرغم من كل ذلك الادعاء النوستالجي حتى بعد أن نال سان-جون بيرس جائزة نوبل، كدت أقول حتى بعد أن نال أدونيس الجائزة، فهما صنوان، وهي تعطى مرة واحدة، إذن لماذا يطالب بها؟ أيطالب بها من جعل من نفسه اله اليونان أم علي أحمد سعيد إسبر؟ أتكون هناك جوائز لآلهة من غير تلك التي تشك في نفسها أو تلك التي تبالغ في عظمتها، فتأتي الجائزة لترميم صدع في ذاتيتها؟ ثم الجائزة الحق تذهب لمن صنع طفرة في الشعر على صعيد الكون، وطبعه في صيرورته كما فعل بودلير ورامبو والسياب، أما وقد مات الشعر، وصارت الرواية قصيدة عصرنا، فلن يكون لأدونيس وغير أدونيس هذا "الشرف" القادم من ستوكهولم وغير ستوكهولم، وهو إن كان، فسياسي، عدم فهم الآخر مغطى بفهم الآخر.


باريس 2007




















محمود درويش

من أين أبدأ مع هذا الشاعر الكامن في الاستعارة؟ بطل الاستعارة هو لا ريب في زمن عربي انحط إلى حد خلا فيه من كل جمال، وبطل الإيقاع في قصيدة نثر يلهث على أعتابها شعراء ظنوا شعرهم شعرًا ومن الإنشاء جعلوا أرضًا تيهاء، وبطل الإلقاء في كل عاصمة تقيم له عرسًا، وتحول مآتمها إلى أفراح.
كيف أرى في هذا الشاعر؟
كيف أراه؟
كيف أريه دون استعارة؟ وأخلع عنه قميص العروض؟ كيف أبصره من خارج القصيدة، مذ نطق "سجل أنا عربي"، وطرق أبواب السياسة؟ أحد لم يتساءل عن الدور السياسي الذي لعبه محمود درويش منذ ترك حيفا إلى أن عاد إلى حيفا، فالضجيج من حوله، والعجيج من حول شعره، وهالة القداسة التي أضفتها أجهزة الإعلام على شخصه قد عملت كلها على تقديم الشاعر وتأخير السياسي، بالرغم من رقعة "شاعر المقاومة" التي ألصقت به، تسمية طالما رفضها محمود درويش تحت ادعاء أن شعره "كوني"، مصطلح فضفاض، ولكنه كاف لحجب المحتجب، وستر المستتر، وتسليط الضوء على شاعر عابر للحدود، الحدود الإسرائيلية على الخصوص، والتي تلخص في مفهومه كل الكونية، وكل الإنسانية، وبالتالي لا بأس من كل الاتصالات العلنية بالإنساني والكوني الإسرائيلي! هذا هو السر في "نجومية" محمود درويش اليوم على حساب درويش محمود الأمس، قصيدته قادرة على الدخول في عملية تلميعه لإخفاء الرجل الثاني الذي فيه، "كل شيء صورة فيه" ص 76 من ديوان "هي أغنية هي أغنية"، الأهم والأخطر! والسؤال الأول المتأخر حقًا (فنحن أيضًا وقعنا ضحية الاستعارة) الذي نطرحه بخصوص إبعاده من طرف الإسرائيليين (هو يقول خرج بطوع يديه) منذ ثلاثة عقود أو ينيف، لماذا هو؟ لماذا لم يكن سميح القاسم أو توفيق زياد أو إميل حبيبي أو غيرهم من زملاء "النضال" الذين على كل حال كان لكل واحد دوره في (ومن) إسرائيل ذاتها؟ نقول حالاً بسبب استعارة محمود درويش المتقلبة المتقولبة المنتمية إلى فصيلة التطريب، وبالتالي الأقل بعدًا عن أفئدة جمهوره الطنان العربي من المحيط إلى الخليج والأكثر قربًا من سديم الذاكرة حين لا يجري الكلام بدون تمويه، وبسبب شخصية محمود درويش نفسه، فهو امرأة في ثوب رجل، ورجل في ثوب سياسي، وسياسي في ثوب شاعر، علاقاته سهلة مع صحافييه، وكل طالب ود من مطبليه، رغم صعوده إلى أعلى مراتب السلطة، وتسلطه، وصعوبة طبعه، وعصبيته إن لم يكن عصابه، لكن كل هذه التناقضات تصب في صالح الدور المرسوم له.
لنكن واضحين كيلا يتهمنا البعض بالتحامل على الرجل والتهجم عليه، وما أسهل ذلك. لنحك عنه من ناحيتين فقط: الاعتراف بإسرائيل والاعتراف به.
تملغم الاعترافين واضح في النقطتين التاليتين:
* اعتراف مصر بإسرائيل إثر اتفاقيات مخيم داوود وبمحمود درويش إثر إدخاله مكتب الخالدين في جريدة الأهرام، وهو الشاعر الشاب، إلى جانب محفوظ وإدريس والحكيم.
* اعتراف جمهورية الفاكهاني بمحمود درويش إثر فرضه على رئيس تحرير مجلة شؤون فلسطينية كنائب له بانتظار الاعتراف بإسرائيل.
لتمرير الاعتراف لا بد من تعميم فكرة الاعتراف، ولتعميم فكرة الاعتراف لا بد من تمرير الاتصالات، اتصالات "كونية" و"إنسانية" وخاصة "ثقافية" خالصة. وهنا ستبدأ تحركات من صرح في القاهرة غداة تركه حيفا "بدلت موقعي ولم أبدل موقفي"، موقفه النضالي كما توهمنا في ذلك الوقت البعيد، نحن السذج، ضحايا الاستعارة.
محمود درويش أول من تقابل علنا مع مثقفين إسرائيليين في الوقت الذي كانت فيه الاتصالات السرية السياسية تدور على مستويات أخرى في أوروبا.
محمود درويش أول من التقى في وضح النهار بيساريين إسرائيليين لأن على فكرة الاعتراف أن تمضي من اليسار إلى اليمين.
محمود درويش أول من استقبل وزيرًا إسرائيليًا رسميًا أو هذا استقبل ذاك، وزير الثقافة، ولقاء خطير كهذا سيمر، وهو قد مر، بكل سهولة، فهو لقاء بين مثقفين وإنسانيين كونيين، وان لم يكن الوزير الإسرائيلي شاعرًا أو حتى ثلث شاعر أو ربعه، هذا لا يهم، فاللقاء على كل حال كان سياسيًا، وقد حقق لإسرائيل ولمن وقعوا سنوات فيما بعد اتفاقيات أوسلو قفزة نوعية.
غدا محمود درويش رئيسًا لتحرير شؤون فلسطينية ومقربًا جدًا من ياسر عرفات الذي كان يتوجه الشاعر إليه على صفحات المجلة بالقول "قائدي وصديقي" لنلمس الدرجة التي تجمع بين هذين الشخصين بعد أن صارت فكرة الاعترافات بل الاتصالات مبتذلة، يمين أو يسار هذا لا يهم، فأين اليمين؟ وأين اليسار؟ المهم أن قائده وصديقه "ساب على حل شعره"، ذلك الأصلع الذي لا شعر له، خاصة بعد الخروج من بيروت، ودخول محمود درويش لعبة بيع البلاد من بابها السياسي العريض، وذلك بقبوله أن يكون عضوًا في اللجنة المركزية لمنظمة تمرير الحلول التصفوية.
غير صحيح ما يقال إنه استقال لموقفه المعارض لاتفاقيات أوسلو (نعود هنا إلى المقولة الهزيلة لموقعي وموقفي)، فالاتفاقيات تمت بعلمه أو دون علمه (كما يشاع للتعمية وللتبرير المتأخر عامة) أثناء تربعه على كرسي "وزير" لقائده وصديقه، ولكن لأن مهمته انتهت. وعلى كل حال تاريخ محمود درويش السياسي ينفي ما ينفيه، وسيظل ضالعًا حتى النخاع في عملية التسوية لصالح إسرائيل التي آخر مكافأة منها السماح له بإقامة "عرس حيفاوي" يؤكد إلى الأبد الاعتراف بإسرائيل الذي أصبح هذا الاعتراف اليوم في خبر كان، فالأهم اليوم هو التطبيع، وما جاءت حفلة "شاعر المقاومة" في حيفا إلا لتعميم فكرة التطبيع ولا شيء غير فكرة التطبيع، وكالاعتراف التطبيع مجاني، تدميري، كارثي، دون أي شيء بالمقابل. أما على المستوى الشخصي، فكل شيء، وخاصة مكسبه "الكوني" الأكبر من كبير، فبعد أن فتحت له أبواب حيفا، فتحت له أبواب مسرح الأوديون في باريس!
أينما ذهب هذا الرجل ليشعر تجد واحدًا من النظام جالسًا في الصفوف الأولى يصفق له، وليس أي واحد، وزير أو أمير، يسبه أحيانًا ويصفق له، غريب أمره، وغريبة علاقاته. تصريحاته تدور في فلكين، فلك إسرائيل وفلك النظام العربي: "إسرائيل تخاف من السلام" ليبرر كل جرائم إسرائيل، وليضفي عليها هذا البعد الإنساني، الخوف، حتى من سلام لا يتماشى مع أهدافها، فخوفها له أسبابه الوجودية في أعين العالم عندما يلخص الغرب هذا العالم! ولا يقول إسرائيل لا تريد السلام بكل بساطة، لأنها خلقت لنفيك، ونفيك يعني الذهاب حتى النهاية في تنفيذ برنامجها الجهنمي دون أن تأبه بك ولا بغيرك.
بعد انفصال حماس عن سلطة أبي العباس يتهكم: "صارت لنا دولتان"، وهذا بالضبط ما تسعى إسرائيل إلى تكريسه من باب فرق تسد، وعندما حصل على جائزة "مبارك على الجزمة" كما يقول المثل الشعبي، يتمنى "عودة مصر إلى الصف العربي"، وهو يعلم تمام العلم أن رب مصر لن يعيدها إلى الصف العربي (أي صف عربي؟) المهم للنظام المصري أنه على عكس صاحب "تلك الرائحة" و"نجمة أغسطس" المبدع الفنان الموقف المشرف والموقع الأصيل قَبِلَ الجائزة، وهذا ما يكفيه كدعم له ومسح لسواد سحنته، إضافة إلى أن درويش يذكّر، وهذا هو الأهم، بكل الاتفاقيات المخزية، ووقوف إسرائيل بالمرصاد لأي خرق لها. ويدّعي هنا، في القاهرة، أن جائزته المباركية التي لا بورك له فيها لكل الشعراء العرب، كما يدّعي هناك، في حيفا، أنه شاعر كل الفلسطينيين، فمن يخوله حق هذا الادعاء الدميم؟ لكنه يعمم وقصده تارة التواضع وتارة التعظيم، وفي كلتا الحالتين يسعى إلى إلحاقنا بقافلة المسودين من أبناء عربنا. كما أنه على استعداد لدعم النظام العربي حتى دون جائزة، تصريحاته إثر سلسلة الانفجارات في فنادق عمان عن الأردن "البلد الصغير المسالم الأمين"، والكل يعلم إلا الشاعر الذكي أن ما جرى من صنع المخابرات الأردنية اللاذكية. وتصريحاته عن قائده وصديقه: "اشتقنا له ولكن لا نريد آخر مثله" دعما للمخزي سيء الذكر الذليل الذي على رأس شركة أوسلو للبيع والتصدير، فهو ليس مثله، و "لكل واحد أسلوبه" في الانبطاح والانتكاح وغيره، ودفاعًا عن سلطة على غرار سلطة فيشي من تفصيل أمريكي إسرائيلي، وبسبب ذلك، بغض النظر عن مصلحته، فقد نجح في تحقيق كل ما عجز عنه المتنبي الحامل لكتابه دومًا بيمينه المصدّر لديوانه الذي سنعرض له بيساره. والأنكى من كل هذا مؤتمره الصحفي بعد موت محفوظ كأحد وُرّاث جائزة يدّعي أن "التفكير فيها مرض، ولكن إن أتت فأهلاً وسهلاً بها"! وهو إن تثاءب أو تجشأ سكرتيره الترجمان في باريس جاهز ليترجم له، ليش؟ هوه ممثل سلطة "أبو العباس بلا لباس" كما يقول المثل الشعبي في اليونسكو عالفاضي؟ وسكرتيره الترجمان في لندن جاهز ليترجم له، وسكرتيرته الترجمانة في ستوكهولم! وخاصة المطبعجي الذي له في باريس ألف جاهز ليطبع ويسوق ليس فقط في باريس بل وفي كل عواصم "الكونيين"، وان شئت "العالميين"، "الحضاريين"، "النظيفين" فيما يبدون، و"القذرين" فيما يخفون. ومن يرى فيه كمن يلوي عنق النظام العالمي لمخطئ، فهو موجود دومًا في الخط الأول هناك، أليسه "كونيًا"؟ في باريس يهنئه السفير الإسرائيلي لموقفه من ضحايا الهولوكوست (نعود مرة أخرى وأخرى إلى مقولة موقفي وموقعي الهزيلة)، وفي تل أبيب يثني عليه وزير التربية الذي أدرج شعره "الكوني" في مناهج التعليم، وقبل هذا وذاك يعترف به شارون شاعرًا للأرض، أية أرض؟ يعترف به جهارًا وعلانية كما اعترف بشارون هذا وغير هذا وكل هذا بفضل هذا جهرًا وعلانية. أما إن سألته عن فاجعة الإنسان العربي اليومية يجيبك أن القول فيها "لمن المحرمات"، وعن هذه المحرمات نريده أن يحكي أو إلى الأبد يصمت، لكنه لا يفهم، لا يريد أن يفهم دلالات الصمت المزلزل.
ليس محمود درويش نموذج المثقف المتداعي أمام السلطة لأنه جزء من السلطة، وليسه الذي لا يؤثر قيد أنملة في سياستها لأنه جزء من سياستها، وفي هذا السياق هو أرفع قليلاً من هشام شرابي، وأدنى كثيرًا من كويلو، الواحد والآخر من صنع مصدر مشبوه، مهما سعى، حتى وإن نال جائزة نوبل، لن يرقى إلى قامة ماركيز أو نيرودا. أينه من ملاحم ماركيز ونيرودا؟ أينه من روايات آراغون وبودلير؟ أينه من نثريات جيد وجينيه؟ كل نثرياته تذهب إلى الماضي لتكرسه أبدًا إلى المستقبل. نعم، أين مسرحياته الشعرية، الأوبراهات، الروايات؟ أين فلسفته الكونية؟ أين ثقله الأدبي العالمي؟ شهرته المؤثرة المغيرة الضاربة في أعماق البشر والحجر على حد سواء؟ هو يدعي النجومية والموهبة، سنترك له النجومية، وسنرى في هذه الموهبة.
بداية أدعي أنني الوحيد الذي كتب عن محمود درويش ونشر ودرّس في الجامعات بكل ذلك الاندفاع (لا أريد أن أقول بكل ذلك العمق الذي كان همي الأساسي في ذلك الوقت، لأني لو أعدت عنه الكتابة اليوم بعد انزياح العلني السياسي عن الخفي الدلالي لما قلت ما قلت)، وبشهادة الشاعر نفسه أن دراستي حول قصيدته "مديح الظل العالي" أحسن ما كتب عنه. لذلك ما سأقوله من نقد حامض اليوم لا يعني على الإطلاق تحاملاً على هذا الشاعر المخيب لأمل القصيدة "الكونية" أو تراجعًا من طرفي، لأني سأتكلم بلسان ديوانه "هي أغنية هي أغنية"، الذي يعتبره نقاد وكالات الأنباء الرسمية الديوان القطيعة مع ماضي درويش الشعري "المحلي" "الفلسطيني" "المتخلخل" لينهج نهج "الكوني" "الأممي" "المتغلغل"، وكأن استشعار الفاجع في حياة شعب أيًا كانت المقاربة الفنية له يدني من قيمة القصيدة، وكأن استصراخ الإنساني (يصرخ الشاعر في إحدى قصائده "أين إنسانيتي؟" ص 76) يعلي من قيمة القصيدة، وكأن الحديث عن الزهر والنحل والبحر يصيب قلب الكون! إذن هذا الديوان "الكوني" عبارة عن أغنيات "حميمية"، ولأنه أغنيات على "فانتازيا الناي" ص 65 برأي نقاد وكالات الأنباء الرسمية هو "كوني"، أغنيات كما يشير إليها العنوان الذي لا يخلو من تهكم ضمني وعدم اكتراث لا يتماشى مع ثيمات ديوان تبدو جادة للوهلة الأولى ( الحب، الغربة، العزلة، العقدة، العقيدة، الهزيمة…) ولا مع أشكاله التعبيرية (من القصيدة النثرية غير الموقعة إلى القصيدة النثرية الموقعة أو شبه الموقعة المتقوقعة: سراب، غياب، باب ص 95، أو عقيدة، قصيدة، بعيدة، ص 96، أو أو صحيحة، فضيحة، قريحة ص 98). أضف إلى ذلك أن الرصانة التي هي شأن أساسي في شعر درويش تخلي المكان للتسلية عندما يعترف الشاعر أن "عليه أن يجد الغناء لكي يسلي من يسلي" 111، وهو لن ينجو بالتالي من "مهارات اللغة" ص 92.
هذا ما أردنا الوصول إليه: مهارات اللغة التي لا يتمكن درويش من النجاة منها ليسلي من يسلي! فشعره "الكوني" هذا حسب نقاد وكالات الأنباء الرسمية فاقد للكوني وحتى للمحلي إن لم يكن للبروي الذي كانه لأنه ذاهب على الدوام من استعارة البطولة إلى بطولة الاستعارة: إنها الكتابة الموزاييك، الفسيفساء، الزخارف: "من فضة الموت الذي لا موت له" عنوان إحدى قصائده، فذلكة وشطارة ولعب بالكلمات فقط لا غير! الموت الذي لا موت له، أي موت؟ وأية حياة؟ ومن فضة الموت، أية فضة؟ وأي نحاس؟ افهم إن استطعت! لا سريالية ولا عبث ولا هلوسة ولا إعجاز بل تعجيز، شرط من شروط الكوننة! "أنطعم خيلنا لغة، أنسرجها الكناية؟" ص 109 هذا هو شغله الشاغل: الكناية القاضمة للنص، الاستعارة البالعة له، المهارة اللغوية الهاضمة له، لماذا يطعم إذن؟: "لو عدت يومًا إلى ما كان لن أجدا/ غير الذي لم أجده عندما كنت" ص 24، أو "لو عدت يومًا إلى ما كان لن أجدا/ الحب الذي كان والحب الذي سيكون" ص 26، أو أو "أنا كائن فيما أكون/ وأنا أنا" ص 83، كان أكون سأكون، تفلت منه المقولة الشكسبيرية، فيردد وأنا أنا، ويفشل في الغناء على طريقة أم كلثوم: وانا وانا وانا وانا/ وانا ما اعرفشي/ ما اعرفشي انا. قال لي عز الدين المناصرة منذ أكثر من حول بشحنة من الهزء والسخرية محمود يغني، وسميح يغني، ولست أدري من أيضًا يغني، كنت مخطئًا عندما استهجنت قوله. الآن أفهم ما قاله لي شاعر الخليل، والآن أفهم ما قاله لي طلبتي في مراكش، إنهم توقفوا عن سماع أم كلثوم، وانصبوا على سماع محمود درويش الذي كنت أظن ذلك مخطئًا لسحره الثوري عليهم لا الغنيوي! ويا ليته يغني كما يوجب الغناء، كل شعره كليشيهات (خذ أي بيت، أيًا كان "لا أستطيع الرجوع إلى أول البحر/ لا أستطيع الذهاب إلى آخر البحر" ص 52)، الصدر ينفي العجز، والعجز ينفي الصدر، والإيقاع لديه متصنع "هي أغنية لا شيء يعنيها سوى إيقاعها" ص 114 قافيتها (خذ أي بيت، أيًا كان "ليس لي وجه على هذا الزجاج/ الشظايا جسدي/ وخريفي نائم في البحر/ والبحر زواج" ص 87) ما أزنخ هذه القافية! ما أزنخ معاني هذه الأبيات… دلالاتها! ولو أنها كانت بمستوى أغنية أسمهان لنفس القافية من غير كلمتي زجاج وزواج المفخمتين والمحشوتين حشوًا "فرق ما بينا ليه الزمان/ والعمر كله/ ده العمر كله/ بعدك هوان" لهان الأمر. يتكرر الشيء نفسه في سائر هذه القصائد "الكونية" حسب نقاد وكالات الأنباء الرسمية. أما المنفر الممل، فلا يقف عند "أقراص منع الحمل والحنطة" ص 89 حين حديثه عن بيروت، هناك مفردات تستغرب كيف يستعملها كاتب "كوني" رهيف الحس مثله: "الزنزلخت" ص 8، "باض" ص 14، "قاع" ص 70، "تمتصني" ص 75، "ثقب" ص 109، إلخ. وما أبشع هذا السجع في قصيدته عن سميح القاسم، ما أبشع هذه القصيدة التي تدعي الانتماء للصداقة الصحيحة الصداقة الصادقة: "سؤالي غلط/ لأن جروحي صحيحة/ ونطقي صحيح، وحبري صحيح، وروحي فضيحة/ أما كان من حقنا أن نكرس للخيل بعض القصائد قبل انتحار القريحة؟" ص 98. صحيحة وصحيح، فضيحة وفضيح، قريحة وقريح، هذا الذي كله غلط، وليس سؤاله فقط! شعره "الكوني" كله سجع مقفى، يجبر القلم (خيول الشاعر) على الكتابة، على الكناية، ولا يجري على السليقة، ومع ذلك يقول ص 102 سنكتب من غير قافية، القافية له متعبة! لكن الروح الفضيحة التي له لا تتعب، تكشف لنا أن سميح كان رقاصًا "هل ترقص الباسادوبلي" ص 98، صفة قديمة كانت خافية عنك يا عز الدين، فواحد يرقص والآخر يغني! وأنه كان "يعبر في شارع المومسات"، الحدث إنساني، لكن الحديث عنه بقلم عزيز للأعز في هذا المكان الخاص ينتمي إلى باب الفضح الذي أخذ صفة لروح الشاعر، وليس "لأن الكتابة تثبت أني أحبك" ص 102 كما يقول درويش لتدارك ما ركز عليه من سلوك محرج في شخصية سميح، ولا "لأن يديك يداي، وقلبي قلبك" الصفحة نفسها، بسذاجة مربكة لمستواها الضعيف كما كنا نقول لبعضنا ونحن طلبة في الثانوية! أو كما كان يقول عبد الوهاب "آديني شايف بعيني اللي شايفه بعينه" ألف علامة تعجب لا لعبد الوهاب العظيم وإنما لعدم الابتكار والشكل الكليشوي الأوسلووي والتقليد. لا، هذه قصيدة عن صداقة غير صادقة ليس بسبب روح درويش الفضيحة فقط ولكن أيضًا لتكلف كل كلمة فيها.
كلمة عن المضمون. لا أريد أن أتكلم عن الفلسفة التي تهزنا في شعر محمود درويش هزًا لأن لا فلسفة هناك، وإنما شطط فكري ومهارة لغوية لا يصمدان لحظة واحدة في وجه فصل فلسفي واحد من رواية "تحت سماء الكلاب" لصلاح صلاح مثلاً، ولا لشاعريته على الرغم من كونه روائيًا وليس شاعرًا، وعلى الرغم من أن مواضيعه "محلية" بحتة وليست "كونية". كنا نجلس في إحدى مقاهي الحي اللاتيني، أعترف اليوم أن محمود درويش كان لديه الحق أن يغضب مني في السبعينات عندما أطريت قصيدته "يا أمي" التي شتمها، وكاد يهيل الدنيا على رأسي، لأنه كان يعتبر نفسه قد تطور بالنسبة لمرحلة تلك القصيدة. الآن آن الأوان كي أغضب منه بدوري لأن الرواية قد تطورت كثيرًا بالنسبة لكل شعره وكل مراحل قصيدته التي تبدو ساذجة اليوم ومدرسية.
مضامين هذا الشاعر "الكوني" على اختلافها تدور كلها حول أنا مغترة أنا فحلة (أنا الصهيل يقول وهو يقوم بفعل الحب) أنا متباهية بقضيبها قضيب الحصان، عقدة القضيب أو عقدة أوديب تسيطر على الشاعر في كل قصائده حتى أنه يخصص لها قصيدة برمتها، قصيدة "أوديب" ص 79 (وأنتِ جلدي يقول وهو في فرج المرأة) وبحلاوتها إلى حد الأنا والعسل يتماهيان (واشربي عسل القتيل أنا القتيل يقول وهو يقذف منيه المشبه هنا بالعسل الذي تشربه المرأة استعارة) وبنبوتها (دثريني دثريني يقول كما قال النبي حين هبط عليه الوحي وهو، أي درويش، قد انتهى من النكاح الذي يعتبره كاجتراح النبوة) "أنا الصهيل وأنت جلدي، دثريني دثريني، واشربي عسل القتيل/ أنا القتيل" ص 67، أنا نرجسية إلى حد الازدواج في عشقها لنفسها "أنا العاشق السيئ الحظ/ نرجسة لي وأخرى عليّ" ص 47، مازوخية إلى حد التلذذ بالعذاب "آن للشاعر أن يقتل نفسه/ لا لشيء، بل لكي يقتل نفسه" ص 75، وعل عكس هذا الادعاء اللاجريء "خفف عن الناس سادية العصر" سادية إلى حد التلذذ بالتعذيب ليس طلبًا للتلذذ الجنسي وإنما للتلذذ "الخرابي" عندما يحل العدم في الذات وفي الأشياء، فيّ، وفيك، وفينا "لا شيء فيّ، ولا أمامي، كي أرى خبيزة حمراء في هذا الخراب/ لا شيء فيك لكي أضحي بالمدائح والجسد/ لا شيء فينا كي نعود إلى مساءلة الطبيعة والطبائع" ص 112، ويكون العجز كليًا أمام الطبيعة والطبائع بمعنى الإنسان أمام ذاته. لا شيء، عدم، واستلاب، وإقصاء الأنا عن "آخر الأعداء من أبناء أمه" ص 112إن لم يكن محوها بكل بساطة. وعندما يتكلم عن "العبث الشقي" ص 114 كالعدم والاستلاب لا يقول كيف؟ وأين؟ أسبابه؟ كنهه؟ ليس لأنه لا يدرك ذلك، وإنما لأنه يتحاشى ذلك لتعبر قصيدته حدود النظام العربي والنظام الغربي. عاش في باريس سنوات لا تعد ولا تحصى، ولم يفهم لماذا "يقولون" له: "انتظر" "لا تقف" "لا تسر" ص 111، لم يفهم من هم، من هو عدوه: "الحرب فر لا تحارب خارج الكلمات. قلت: من العدو؟" ص 111. لا يريد أن يفهم، لا يريد أن يرى بوصفه "كونيًا" في الخريف إلا "دهب باريس"، وفي الأيروتزم إلا "الكاما سوترا" قصيدته التي تنتمي إلى مزبلة الوعي كما يقول المحللون النفسانيون، يبقى عائمًا على سطح الأشياء، يتحاشى الغوص فيها، لا يريد أن يجرح مشاعر أرباب الجوائز! عاش في باريس سنوات لا تعد ولا تحصى، وغير "شخينا على أمريكا مزيكا" من "مديح الظل العالي"، لم أسمعه قال كلمة واحدة ينتقد فيها الغرب كما توجب مأساتنا به. وقد أدهشني أن أسمع أنه غنى أخيرًا في باريس للعراق وعن العراق على طريقة المغني الأشقر المغناج كلود فرانسوا ( يغني هذا الكلو كلو، كما يدعى هنا في باريس، العاشق السيئ الحب، ويغني ذلك الدرويش العاشق السيئ الحظ! ص 47) بمصاحبة العود والناي، يقول "الناي آخر ليلتي. والناي أول ليلتي. والناي بينهما أنا" ص 66، يا هلا! إذ كيف يغني الشاعر "الكوني" الذي هو عن موضوع محلي، وفوق هذا سياسي؟ فاجعة العراق ليست فاجعة كونية تستأهل الكتابة عنها! ودم العراقيين ليس أزرق! كيف ستعبر هذه القصيدة حدود النظامين؟ المشكل أن هذا هو مشكل محمود درويش الأكبر! همّ محمود درويش الأكبر الطاغي على سذاجة الفكر في نهاية الأمر، وبسببه جاء الفكر ساذجا! أما امحاء معالم العدو من داخل الخطاب الشعري: "قلت: من العدو؟"، وعدم تحديده لا بالاسم ولا بالإشارة، عدم تحديد من هم وراء الهزيمة التي يسعى إلى "نسيانها" ص 105 ولا يستطيع إلا تكريسها "أنسى البداية كي أسير إلى البداية" ص 105 (عرفات صاحبه وأبو العباس طاحبه وكل الأنظمة العربية العميلة)، فشعره جزء من الخطاب السائد السادومازوخي، يصب في صالح السلطة، لهذا السبب تنهال الجوائز عليه والدعوات واللقاءات الحارة ويخصه مضيفوه بالنزول في الأجنحة الخاصة بأغنى الأغنياء والحضور الرسمي لحفلاته الغنّاء، أليست "هي أغنية"؟ أتكون نانسي عجرم زميلته التي يحضر إلى جانبها في مهرجانات جرش الانكشارية أحسن منه؟ أتسبقه في ميدان الدروشة؟ وهو نهج ينتمي إلى ادعاء لاجريء آخر يتميز به أسلوب هذا الشاعر "الكوني"، وبسبب هذه "الكونية" التي لا تكف عن قمع القصيدة لديه، هو يقول متطلبات الشعر والشعرية، وفي الحقيقة ليصفق له الحكام العرب أبناء أمه كالحكام غير العرب أبناء عمه وخاصة هؤلاء الأخيرين.

باريس 2007




سميح القاسم


تناديني يا ابن عمي، وأنت اليوم شيخ، وفوق هذا أشبه بماء الذهب!
له يا ابن العم، فضحتنا!
ستكون كلماتي إليك مرة، كالعلقم مرة، لا لأني أقول فيك ما يقال لأول مرة، وإنما لأدفع عنك الأذى!

أعترف أني لم أكن أعلم بهذا التحول الحياتي في شخصيتك إلا هذه الأيام، وأنا أبحث على إنترنيت عن قصائد جديدة لك أنقدها. في البداية قلت أنت مازح لا بد، فعهدي بك خفيف الظل أعذبه، كم من مرة بسملت في بداية تلاوتك لخطاب أو قصيدة، وأنت الشيوعي؟ وكم من مرة قرأت الفاتحة على قبر ماركس أو إنجلز، وأنت في يمينك البيان؟ أعدت قراءة تصريحاتك التي زادتني حيرة على حيرتي، وما تأكدت إلا بعدما قرأت في بعض قصائدك مقاطع لا تقال إلا في الزوايا وتكايا الأولياء، فلم أنم ليلتي، نعم، لم أنم ليلتي من الصدمة، ليس لأنك آمنت، فالدين ككل إيديولوجيا أمر شخصي، قدسي، اختيار وقناعة، وأنت لست أول من نهج هذا النهج، ومن قبلك كان غارودي، ولكن لأنك تنكرت بفعل كهذا لكل ماضيك، لكل القيم التي كانت لك، تلك القيم التي "ليست قمصانًا وثيابًا داخلية وجوارب نغيرها بسرعة" كما تقول، وهذا الذي نزل كالسكين على قلبي، شيء مثل هذا يأتي منك! شيء مثل هذا استطاعوا به عليك! في أي عصر نحن ساد الانحطاط فيه إلى حد أمكن لكل شيء فيه أن يمشي على من كنا نعتبرهم ليس الشعر، وإنما حضارة الشعر والنثر والعصر، أتذكر دراستي القديمة عنك؟ مرة أخرى أقول، ليس لأنك أصبحت مسلمًا صالحًا أم طالحًا، فهذا شأنك، يمكنك أن تغدو صابئيًا أو بوذيًا أو حتى يهوديًا، وإنما أن تتنكر لماضيك، أن تنأى عن جوهرك، أن ترفض تاريخك الشخصي وإن ادعيت العكس، أن هذا لا يتعارض مع نهجك "النضالي"، "الكتابي"، "الحياتي"، إلى آخر ذلك من تبرير أعرف أنه لا يريحك، ولن يريحك، إلا إذا انكسر شيء في مخك كما انكسر عظم ساقك في ذلك الحادث المروع الذي نجوت منه لتبقى لنا - ويا لحظنا - سالمًا معافى. ستقول لي المواقف السياسية تتغير كفلسفة المرء واعتقاداته، وأنا لا يسعني إلا أن أتفق معك، ولكن أن تنجر لتسقط في فخ الخطاب السائد، أن تحايث داخل الوعي المريض، أن تهادن سلطة لا تهادن وتحابي أخرى لا تحابى، فهذا مرفوض، ألف مرة مرفوض. وماذا سيقول قارئك؟ حتى ذلك الموحد المسبح اليوم مثلك؟ النقيّ؟ الذي ولد مسلمًا، وظل على إسلامه كأمه وأبيه ؟ هل سيصدّق؟ هل سيصدقك؟ أأحكي لك عن المصداقية؟ عن الكلمة الصادقة؟ الصدق، حتى وإن كان الصدق لديك كشاعر كذبًا؟ أنت كبير، تعرف كل هذا. وما هذه النكتة البائخة: "عرفت بنشاطك السياسي مع انتماء حزبي واضح ومحدد ثم أصبحت فوق الحزبية والأحزاب"؟! فلتسمح لي، يا سميح، إذن أن أعود إلى الوراء، وأقول ما كنت أود قوله قبل اكتشاف هذا التحول في شخصيتك، هذا التحول الأخطر في تدجين الذات بعد تدجين المثل الذي ما جاء إلا ليؤكد قولي. ومع ذلك، أتمنى أن أكون مخطئًا، ومهما يكن من أمر، أنا لا أريد أن أخسرك. أنا من يحبك بالفعل، أقول في وجهك كل الذي أريد أن أقول في وجهك، ولست كالآخر الذي يقول لك "يدي يدك وقلبي قلبك"، ويطعنك في ظهرك بدافع "روحه الفضيحة". كان لنا الهم نفسه، والغم نفسه، وأكلنا في باريس من صحن واحد، الصحن نفسه، أتذكر؟ وكما تقول عندما تنتقل في عمودك في "كل العرب" من موضوع إلى موضوع: نقطة. سطر جديد.
دورك. دور ركاح والاتحاد ودورك أنت وباقي شلة "المناضلين" إميل حبيبي، توفيق زيّاد، ومحمود درويش قبل أن يغادركم على الخصوص. تدجين العرب داخل إسرائيل، ما يدعون بعرب 48، والعرب خارج إسرائيل، كل عربنا المستعربة قبل التطبيع بكثير، وبعد التطبيع بقليل. تهولون كما فعل الحكام العرب فينا عشية النكبة فيما يخص الأوائل تحت ذريعة يا ناس أي تحرك لنا هو علينا: سيطردوننا، سيذبحوننا، سيشلون عرضنا، حتى وإن كان التحرك على علاقة بأقل المطالب الحياتية بعيدًا كل البعد عن السياسة في إسرائيل وأهوالها. تخوّفون، ترعبون، وقبل هذا وذاك تخدّرون كما فعل الحكام العرب فينا عشرات السنين قبل النكبة لتكون النكبة. وفي كل مرة يبرك الأهل - إذ يقال أناخ البعير فبرك - ينعتون إلى اليوم ب"الشجاعة والمسؤولية والحكمة"، أليسها كلماتك في آخر مقالة قبل آخر مقالة لك عما جرى مؤخرًا في البقيعة؟ ستقول لي سلطة مجرمة وقوات مدججة وهم ينتظرون أقل حركة، وأنا أقول لك، لا يا سيدي، سلطة جبانة، وقوات لن تجرؤ على الإطلاق بعد الذي جرؤت عليه مرة إطلاق رصاصة واحدة، وإن جرى ثانية، فلن يجري ثالثة، لن يمكنها تصفية أقلية عن بكرة أبيها هي في حقيقتها أكثرية. أسائبة هي الأمور والعالم يرى اليوم ويسمع حتى ما يجري في عقر دارك؟ وقبل أن أصل إلى ما أريد الوصول إليه أسألك إن غيّر سلوك "شجاع حكيم ومسئول" كهذا منذ الاحتلال الأول للبلاد شيئًا من أوضاع الناس؟ لا شيء على الإطلاق. الوضع الاجتماعي المزري يا الله البائس يا "بؤس الفلسفة"، في معناه الماركسي والديني، بقي على ما هو عليه، التفرقة العنصرية، التمييز العلني، القمع النفسي، الاستغلال، الاستملاك، الاسترقاق، القمع الثقافي، القهر حقًا القهر، القهر اليومي، في الشارع، وفي البيت، في الظلام، وتحت الشمس، في هذا "الوطن الرائع رغم كل شيء" كما تقول أنت. لماذا هو رائع يا ابن العم؟ ولماذا هذه الرغم كل شيء؟ أو بالأحرى ما هي هذه الرغم كل شيء؟ وطنك هذا أنا لا أراه على الإطلاق رائعًا، بسبب كل شيء. أيوه كل شيء. من الإبرة إلى رأس الفيل! لا رائع هو ولا جميل، بل بشع ودميم، ما أشد بشاعته ودمامته! روعة الوطن لا تقاس ببحره أو سمائه أو جنانه، بطبيعته الخلابة، جماله لا ينتمي إلى معايير الطبيعة، وروعته إلى تضامن الأهل في محنة سرمدية، وأنت أدرى بما كانت تقوله جارية معاوية عن فلاة جدب جاءت منها، وأهل إن ضنوا عليها كرام، جمال الوطن هو بالحقوق التي تعود على المواطن، كرامته، خبز يومه، مستقبل أطفاله… وأولاً وقبل كل شيء حريته. أينه من كل هذا وطنك الرائع؟ لم يتغير شيء في حياة الأهل كما لم يتغير الخوف الذي زرعتموه في صدور كان من اللازم الكشف عنها والنزول إلى الشوارع، وليطلقوا نيرانهم ما أرادوا، إنهم لن يطلقوها جبنًا، وهم إن فعلوا، فليطلقوها ما شاءوا. نريد عشرين ألف كفر قاسم التي تتغنى بمأساتها ذكرى لا عبرة، لا تدفع إلى الهرب كما كان قصد الأعداء من يهود وعرب وغير عرب ويهود، أمس من الأرض ومواجهة الأعداء، واليوم من الذات ومواجهة الحقيقة، هذا ما كان على ركاح أن يثقف به جماهيره، أن ترى الذات في المرآة وتواجه الحقيقة، هذا ما كان على كتابنا أنتم يا حملة الشعلة في الصفوف الأوائل أن تصرخوا به (يصرخ الأخ الآخر "أين إنسانيتي" لا في الزمن المناسب ولا في المكان المناسب)، هذا ما كان على جهنم أن تشتعل تحت أقدامهم، ساعتئذ تعال يا سميح، وتكلم عن "وطنك الرائع رغم كل شيء"! أنا لا أدعو إلى العنف، اللاعنف وسيلة غاندية ناجعة لمواجهة الطغمة الحاكمة إسرائيلية كانت أم عربية، ولكن إذا كان العنف جوابًا للعنف من أجل التغيير في إسرائيل والبلدان العربية أنا مع. أعطوا للناس رغبة في تغيير المعاني، معاني الوجود، واتركوا لهم الطريقة التي يرونها مناسبة، فالناس ليسوا رعاعًا. ارفعوا عنهم يد الوصاية، وانظروا كيف يتصرفون على طريقتهم بشجاعة ومسؤولية وحكمة. الخط نفسه في جريدتك اليوم كالاتحاد الأمس، التدجين، الترويض، التطويع، الترويع، التركيع، وأمرنا معها أخطر، فصفحاتها كما تقول مفتوحة لكل الاتجاهات ليس للاتجاه الماركسي الشيوعي وحده، بمعنى تحييد المتدين وغير المتدين، والخدمة التي تدعي تقديمها لأهلنا المدجنين لا المدججين هي في الواقع خدمة للطغمة. وبالمناسبة أسألك ما الذي تفعله جريدة كهذه، مثل تلك، في إسرائيل غير إقصاء الناس عن افتكاك حقوقهم والإبقاء عليهم في أوضاعهم على ألا يتحركوا إلا داخل الإطار الرسمي المرسوم لهم؟ لماذا لم تصدر يا سميح جريدة بالعبرية "كل اليهود" بدلاً من "كل العرب"، جريدة تؤثر فيهم، وتزعزع، أم أنه العديم أبو عمار ممولك (هسه جاي تدافع عن ضريحه قال كلف مليوني دولار والفيلا تاعك كم كلفت بالله عليك؟) هو الذي أملى عليك ما أملى ليكسر شوكة الاتحاد لا معاريف وشوكتهم الإعلامية؟ بالله عليك، من يسمع منهم بهذه الجريدة الخنفشارية التي أنت مبسوط على نشر اسمك وصورتك فيها؟ سأتكلم عن تدجين العرب المستعربة في مكان لاحق. نقطة. سطر جديد.
اليهودي. تحشو اليهودي في كل شيء لازمة للكتابة حتى غدا هذا لك ليس تبريرًا للكتابة بل للوجود، ويجري ذلك على الكتابة ماضية كانت (شطبت ما شطبت من كتبك بعد أوسلو ضد الصهيونية والطغمة والاحتلال، استعاراتك العفوية الكبيرة المعنى البعيدة الدلالة التي دخلت السجن من أجلها، وأبقيت على ما اعتبرته إنسانيًا في اليهودي) أم حاضرة، مقالاتك كلها ورسائلك، من رسالتك إلى محمود درويش التي تحكي فيها عن المأساة الأرمنية بتاريخ 16 سبتمبر 1986 حتى آخر مقالة لك في 9 نوفمبر الماضي، والتي تحكي فيها عن "اليهود المدنيين المسالمين". بمعنى أنك تقدم منذ عشرات السنين في كل مرة هدية مجانية للطغمة الحاكمة في النظام الإسرائيلي فقط لتذكّر بموقفك الشخصي من يهودي ويهودي، والأخطر من كل هذا، عندما تخلط الأوراق، فتجعل من مذبحة الأرمن مذبحة لليهود، أحد منهم لم يطلب أبدًا منك أن تجعل منه امتداد التاريخ ومحور الإنسانية ومأساة للكون، أحد منا لم يطلب أبدًا منك أن تجعل من مأساة اليهودي مأساة لنا، وهذا ما نرفضه تمامًا، وأخطر الأخطر عندما تماهي بين الجلاد والضحية في اللحظة التي تقول فيها "يتداخل الأرمني في التركي واليهودي في الأرمني والفلسطيني في اليهودي واليهودي في الألماني والألماني في الأرمني"، هذا التداخل الذي تعتبره قوة للفلسطيني لهو ضعف له وإضعاف لقضيته، فأينه في هذا الخليط البليط تاعك؟ هو جلاد تارة وضحية أخرى، وليس "الضحية"، خاصة وأن مأساته ابنة زماننا، وعلينا إبرازها هي وحدها لنفحم عدونا، ولا نجعل منه، أي العدو، ضحية لازمنية ميتافيزيقية تهبط علينا بكللها وعلى العالم، وهذا هو بالضبط ما ترمي إليه الدعاية الصهيونية في الغرب اليوم سيد العالم لتكون سيدته بعد السيادة على ذاكرته، ولتكون مرجعيته الوحيدة بعد التعتيم المزمن المتواصل على محارق أخرى ذهب ضحيتها عشرات الملايين من روس وغجر وشيوعيين ومقاومين من شتى الملل للاحتلال النازي. هل تسمعني يا سميح؟ أن يسودوا العالم في ذاكرته، وأن يقوموا باستغلال عذابات بشرهم - نعم، بتلك الخسة - من أجل تحقيق كل مآربهم السياسية، وهم ينجحون، إذن لماذا يعترفون بمأساتك؟ هؤلاء أناس لا يعترفون إلا بمأساتهم هم مهما حاولت الكلام عنهم بإنسانية لتحكي (لتبرر حكيك) عن مأساتك (اسأل عشرات الكتب التي كتبتها أنا بالهاجس نفسه تقل لك هذا). لكنك لم تتعلم شيئًا من معجزات المقاومة اللبنانية في الحرب الأخيرة، لم تغير لا أنت ولا غيرك من جحافل كتابنا الميامين الكتاب السلطويين السلطويين (بفتح السين واللام من سلطة الخيار والفقوس) يسارًا كانوا أم يمينًا شيئًا من فكرك أو خطابك، وكأن هذه المقاومة الفذة ما كانت. أولئك أناس لا يمكن إلا دفعهم دفعًا إلى الاعتراف بك، الطغمة ومن لف لفها من "مدنيين مسالمين" برأيك "يهود مساكين" كما كانت تروج مكاتب المنظمة الصهيونية في مصر وغير مصر قبل قيام إسرائيل وطنك الرائع على وطنك، جاءوا بالطغمة إلى الحكم بأصواتهم الانتخابية، وسكتوا عن جرائمها. أولئك أناس يرفضون كل شيء، إذن ارفض كل شيء بعد أن قدمت كل شيء، وتنازلت عن كل شيء، كل شيء يا رب العالمين، كل شيء حتى عن عورات نسائك... دون جدوى. ارفض من يرفضك، ولا تعترف إلا بمن يعترف بك! ستقول لي هذا ما يسعون إليه ليبقوا الأمور على ما هي عليه، وأنا أقول لك بهذا أو بغير هذا هم ليسوا بحاجة إلى تبرير يبقون من أجله الأمور على ما هي عليه، لأن رفضهم لك من جوهر وجودهم القائم على نفيك بل محوك من الوجود، وهؤلاء النشامة هزازو الخصور نزلاء مراحيض تونس أمس الذين هم هم نزلاء مراحيض رام الله اليوم، الذين بول مراحيض العالم أنظف منهم، أبناء العديم الذي رباهم على يديه وأحسن تربيتهم (ليش يا سميح ذكرتني بكتابي "أربعون يومًا بانتظار الرئيس" في فضائحهم الله يسامحك)، الذين جعلوا من أولمرت بعد موت هذا إلى جهنم وبئس المصير أمهم وأباهم، سيذهبون إلى أنابوليس قال ليفاوضوا، على لباساتهم ربما، أبقيت لهم لباسات؟ وفي الواقع إسرائيل هي التي ستفاوض إسرائيل. كيف يفاوض العميل سيد العميل؟ ولكم افهموا يا أولاد الشليتة ألف مقاوم مسلح كما يوجب التسلح في جنوب لبنان هزمهم بجيوشهم الجرارة وقنابلهم الذرذرية وأساطيلهم البحرية! هذا هو الكلام الوحيد الذي يفهمونه، الذي يدفعهم إلى التفاوض معك بوصفك فلسطينيًا والاعتراف بك. لكنهم نساء موساديات كلهم، الرجل الوحيد فيهم كونداليزا الرز، العبدة كما تقول أمي العنصرية. اعترف إذن بالذي يعترف بك ولا تعترف بالذي لا يعترف بك، وبعدئذ تعال وحدثني عن الإنساني عندهم وعندنا. هذا ما علمني إياه بيريس ونتنياهو وأولمرت، ومن قبلهم شارون ومائير ودايان. ولكنك في هذه النقطة لن تتفق معي، وستبقى ركاحي رغم تدينك مثل اللورد بايرون الذي تقول "يشبهك في تفاصيل الحياة"، والذي بقي مسيحيًا رغم رقعة الخليع التي ألصقت به. نقطة. سطر جديد.
التطبيع. لماذا تركت نفسك لعبة طائعة في يد النظام العربي كما تركت نفسك لقمة سائغة بين أسنان النظام الإسرائيلي؟ لماذا تركتم أنفسكم يا "شلة" المناضلين كلكم طائعين خانعين للنظامين المستبدين؟ لماذا جعلتم من الخداع وطنيتنا ومن الأوهام أكلنا وشرابنا؟ قصائدكم، مواقفكم، رواياتكم، كل كتاباتكم، دعمكم للعديم... كنا نعتبرها تحديًا لإسرائيل، وفي الواقع عملتم على احتلال إسرائيل لضمائرنا، ومهدتم لتوقيع العديم معها الذي استغلكم واستغلنا. ولكن الغريب في الأمر أنكم أتقنتم أدواركم حتى آخر اللعبة، فهل هي تربية ركاح لكم؟ ومن هذا الباب دخلت مصر بأمر من العديم كما تروي رغم أنك "ضد التطبيع"، ما هذه المسخرة؟ هذا موقف لا علاقة له إلا بالنفاق، إذن لماذا؟ إذا ما قال لك هذا الشخص ارم بنفسك من ناطحة سحاب في ترمسعيا، هل ترمي بنفسك؟ إميل حبيبي خسر كل سمعته لأن هذا قال له أن يقبل جائزة إسرائيلية. جنى النظام المصري على ظهرك أكبر المكاسب التي لن أعددها هنا، فهي معروفة للقاصي قبل الداني، وتعامل معك كواحد في جيشه، نعم كأنباشي في وزارة الدفاع، جيش حولوه من جيش لحماية وطن إلى جيش لحماية فرد، من قوة تخشى إسرائيل ويلها إلى أخرى يخشى من ويلها الناس، الضباط فيه غدوا تجارًا أو مقاولين، والكتّاب له مروجين ومطبلين، اسأل الدكتور عصفور العصافير تاعهم يخبرك. وبعد أن وقع الأردن أو قبل أن يوقع لا أذكر تمامًا دخلت عمان، وكنت أنا آنذاك هناك، الكل جاء ليلقاك إلاي، أتدري لماذا؟ لأن النظام قد استقبل من قبلك النواب العرب في الكنيست ومن بعدك النواب اليهود. كانت هذه طريقة الملك حسين الكيّسة - فهو قد كان طبيبًا نفسيًا ماهرًا في ترويض الشعوب - في تمرير التطبيع على شعبه، فالتطبيع لديه يمضي بالتطويع، التدجين التدريجي الذي بقي شغله الشاغل وشغل الأمريكان معه حتى بعد أن تم التوقيع على معاهدة بأرخص الأثمان إلى أن فضلوا ابنه على أخيه، وقد أعياهم الاستمرار في اللعب على كل الحبال، وإنفاق السي آي إيه لملايين الدولارات رواتب على هذا وذاك أولهم الملك. ثم الملك حسين كان يستحي، يخفي كل شيء كيلا يبدو عميلاً، ولا يقبل إلا بالقدس وكل الضفة، وليس كالعديم الذي قبل بغزة وأريحا أولاً، فلم نطلع معه لا بأول ولا بآخر. لهذا تركوا الأول، وذهبوا إلى أوسلو مع الثاني. لقد كتبت فيهما كتابًا بالفرنسية، في الثاني وفي الأول، قبل أن يموت الأول والثاني، ليس كغيري ممن تشاطر بعد موتهما، عبرت فيه عن رأيي فيهما بصراحة قاسية "دفاعا عن الشعب الفلسطيني، كيف ولماذا فبركوا ياسر عرفات؟"، وروايتين "بيروت تل_أبيب" و"أبو بكر الآشيّ"، لم تقرأها، ولكنك لا تعرف الفرنسية. عميل شريف إذن خير من وطني دجال، إذا ما وضعنا قول نجيب محفوظ المأثور "عاهرة شريفة خير من شيخ دجال" في السياق الذي نحن فيه (حذار من التعميم هناك الشيخ الدجال وهناك الشيخ المناضل الذي نجله ونحترمه)، ألم تزل تذكر هذا القول؟ على عكس ابنه الذي لا يستحي (الأمريكان لهذا السبب)، فهو لم يرث عن أبيه هذه الصفة لمحنك في السياسة، حال لسانه يقول في شعبه، أنا العميل بن العميل وطلاّع المنايا، متى تأمر أمريكا وإسرائيل أن أقوم على أموركم وأقعد إلى أبد الآبدين تعرفوني - أيوجد شعب صفر أو شبه شعب كهذا؟ أيوجد بلد خزق أو شبه بلد كهذا تعتقل فيه توجان الفيصل تاج المليك وتمنع من الترشيح ثم تدفع دفعًا إلى مغادرته - شعب يعامله ماشية للكاهن ورعيته (هناك أوصاف أخرى عرضتها لهذا العبد الله الثاني، ولو! بستحوش فخورين بالثاني لمملكة قال عمرها كم يوم يخجل المؤرخون من ذكرها في حولياتهم وفي فرنسا كانت منذ قرون عندما تسمع بلويس السادس عشر وهنري السابع عشر وفرنسوا الثامن والعشرين، أقول ستقف على أوصاف أخرى طريفة لهذا العبد الله الثاني في روايتي "عساكر" الصادرة بالفرنسية، ولكنك أنت لا تعرف الفرنسية). ومع ذلك، على الرغم من الأول والثاني، لم تزل تزور الأردن، وما همك أن تغزو الأردن إسرائيل اقتصاديًا وثقافيًا، أن تشتريه، أن تبتلعه، أن تدخل في عقول أبنائه بعد أن دخلت في عقول جلاديه، فنحن مطعّمون بامرئ القيس والمتنبي وأبي العلاء المعري حسب قولك، بقرون (القرون النابتة في رؤوس الحيوانات والبشر ربما) من الثقافة والأدب تحمينا من كل جراثيم التطبيع. أين منا شعب ليس له سوى المزامير تراثًا وعموس عوز كاتبًا؟ سيتقاسم هذا الأخير مع الروح الفضيحة الجائزة الآتية من السويد نص نص بعد أن يجعلهم أبو العباس بلا لباس يوقعون على عجيزته ذاك العجوز المتصابي وقل أفنان قال، جائزة نص نص سيعطونها لصاحبنا ليس للقيمة "الكونية" التي تميز شعره، وإنما لأن لجنة التحكيم ستجد له مكانًا على قده تحت غطاء الآخر أو في "علبته السوداء" عنوان إحدى رواياته. هوه العديم أحسن الذي تقاسم مع غيره منهم ولأنهم هم نفس الجائزة تلت تلت؟ ومن باب دمشق دخلت لتحيّي أول من تحيّي حافظ الأسد، جزار حمص وحماة، ولكن ذاكرتك ضعيفة، ولتمهد للأخطر، للتوقيع، بعد مساهمتك في التطويع، التدويخ (كلمة التخدير هنا ضعيفة كذاكرتك، اسأل نيرفانا ركاح تخبرك)، وهذه المرة التطبيخ. لأذكّرك أن الأسد كالقذافي كنيازوف اللذين تصف كلاً منهما محقًا بالطاغية الدكتاتور المستبد، ولكن أين مصداقية ما تقول والأسد الأب كالابن ليس أحسن منهما. أين مصداقيتك عندما تكتب لأهلنا في البقيعة إن "قلبك كان وسيكون دائمًا إلى جانب الأحرار (أينهم؟)، وفي صف الشرفاء (أينهم؟)، وفي مواجهة الباطل (أيّه؟) الذي لا يمكن إلا أن يزهق (كيف؟)، إن الباطل كان زهوقًا" يا سيدي الشيخ، وقد "عدت من سفر في الأسبوع الماضي" من... دبي، من عند أناس لا علاقة لهم فيما تدعيه بشيء. يقولون لك شاعر كبير، خلص تروح تركض، كما ركض من قبلك بيريس وغير بيريس دون أن تكون به حاجة جالوت عصره ذاك إلى أن يسميه أحد لا بالكبير ولا بالصغير. أتدرك على الأقل خطورة ما تفعل، أم أنك قاعد تبرر كما هو عهدي بك دومًا تبرر؟ غداة مولد المحروس وطن محمد على الأعداء والأخوة الأعداء، أي منذ سبع وعشرين سنة، التقينا في باريس، وحدثتك عن طلبتي اليهود كيف يشاركون بالمظاهرات لفلسطين بينا في المقاهي يترامى الشبان المغاربة، وهم يجرعون كؤوس البيرة كأسًا في إثر كأس. في ذلك الوقت البعيد، أخذت تبرر: الاستغلال، الإعلام، الإرهاق، عدم التسييس، الغربة، التغرب، الاغتراب، التغريب… إلخ، واليوم تعيد في مقالتك الأخيرة الكلام نفسه عن الاستبدادي والمستعبد. وبعد أن تسألك صحيفة الشرق الأوسط السعودية يا حاج عن الصحة والأحوال وخاصة الطبيخ الذي تحب أو تكره (والله العظيم أنا لا أسخر)، فهذا هو مستوى قراء هذه الجريدة، تطلب منك بحياء أو استحياء لست أدري رأيك في أوضاعنا الحالية، فتعيد ما قلته منذ عشرات السنين لصحفي تونسي أضاع الطريق ليجد نفسه في القدس قبل أن نضيع القدس وكل الطرق إليها (أتذكره؟) "الوضع القائم يسبب لي القرف وعندي الغثيان... الوضع العربي كارثة"، تعميم وهرب إلى الأمام أو إلى الوراء، فأنت تطالب بسماجة لم أعهدها فيك من قبل ب"العودة إلى الخلافة الفاطمية شرط أن تتم مبايعتك خليفة للعرب". بعد حرب لبنان 2006 وانتصار المقاومة الفذ، انتهى عهد المزاح يا سميح (أجري الحوار قبل الحرب)، انتهى عهد التبرير، انتهى عهد التدجيل: هجومك المحق على طاغية (القذافي)، وأنت جاي من عند الأوسخ (العويس). هذا العويس سألوه، يا سميح، ذات مرة، إن كان يقرأ، يكتب، يفكر، قال لهم أنا أفكر، سألوه فيم تفكر، قال في "إيري"! هؤلاء هم خليجيو الإير أصحابك، الاستبداديون، وكل الذين يدورون في فلكهم من كتاب وقراء أميين، دون أن أعني طبعًا شعوبهم التي أحترمها ولا أحترم سلبيتها. نقطة. سطر جديد.
كتابتك. تقول " ذات يوم سألوني كيف تكون حالتي حين أقبل على الكتابة. قلت: اسألوا سيدة في مرحلة الحيض"، له يا ابن العم، هذه المرة ألف مرة فضحتنا! حيض! أفهم الآن لماذا قصائدك الأخيرة هابطة المستوى، فهي أشبه بالحياض الذي هو دم الحائض! وماذا عن مرحلة انقطاع الحيض؟ الإياس كما يقال، هل تتوقف الكتابة؟ وأنت، كيف لما تزل تكتب في هذا العمر؟ لا، قليل من الجد. قرأت لك على إنترنيت "يا جبهة السفاح لا تتشامخي"، "القصيدة العمّانية"، "تعالي لنرسم معا قوس قزح"، "بطاقات معايدة إلى الجهات الست"، "في القرن العشرين"، "ألا تشعرين"، "الخفافيش"، و"منتصب القامة أمشي". كتبت كما أظن ما بين 2001 و2007، فتواريخ "الويب" ليست أكيدة، أي قسم منها قبل تدينك وأخرى بعده. حاولت أن أرى في الأشكال بغض النظر عن تواريخها، فهذا من اختصاص كتّاب تاريخ الأشكال من نقاد غير موجودين عندنا يعكفون على دراسةٍ سير-ذاتيةٍ وتحليل تاريخي للأشكال والمفاهيم الشعرية من أجل شرح تحولاتها، وأردت أن أنظر إلى الابتكار في قلمك ليس فيما يبدي وإنما فيما يقترح، وكما يقول العالم اللساني دانيال بريوليه: "إن "أنا" المبدع تعيد ابتكار أو تغيير الإرث المستوفى تمامًا بشكل أو بآخر والذي من المحتمل التنكر له من طرف قرائه أو المطالبة به". وما حصل معي وقصائدك، يا سميح، التنكر لأشكالها مع الأسف التي تعيد ابتكار الإرث المستوفى - تسميه سلمى خضراء الجيوسي التي أحترم وجهة نظرها مرحلة سميح ما بعد الحداثة - لأنها، أي قصائدك، إما أن تعود بالقصيدة الحديثة إلى حقبة ما قبل الحداثة، القصيدة التقليدية (العلاقة هنا واضحة بين قيمك الدينية التقليدية الجديدة وقصائدك التقليدية الجديدة، هناك قيم ثورية للدين لكن وعيك مريض حتى متدينا)، وأسوق هنا مثلاً قصيدة "يا جبهة السفاح لا تتشامخي" و "القصيدة العمّانية"، وإما أن تتراجع بالقصيدة الحديثة نفسها (الخفافيش، في القرن العشرين، ألا تشعرين… إلخ) عندما تعجز عن الارتقاء بها إلى قامة قصيدة سعدي يوسف العملاقة الذي له مني جائزة أكبر من نوبل وقبلة على خد قلمه المبدع العظيم، وحتى عند الأوائل من الرواد السياب، نازك الملائكة، البياتي، لاحظ أنني أتكلم عن أشكال بعض القصائد الاستثنائية عندهم. هذا لا يعني أنني القارئ الوحيد لك، فهناك من قرائك ما يجد نفسه في قصائدك، ولا يكتفي بحق المطالبة بها لنفسه بل يذهب به الأمر إلى حد محاكاتها، والإدلاء في إرثك الشعري بدلوه. إنها قصيدتك الشعبية "منتصب القامة أمشي"، وربما بسبب نمطها الشعبي هذا. قصيدتك تقول: منتصب القامة أمشي/مرفوع الهامة أمشي/ في كفي قصفة زيتون/وعلى كتفي نعشي/قلبي قمر أحمر/قلبي بستان/فيه العوسج/فيه الريحان/شفتاي سماء تمطر/نارا حينا حبا أحيان/في كفي قصفة زيتون/وعلى كتفي نعشي/وأنا أمشي وأنا أمشي/ أما المجهول المحاكي لهذه الأبيات في محاولة تجدها على إنترنيت ضمن حوارات القراء جاءت بعد قصيدتك، فقد استطاع بكلمات بسيطة أن ينظم أخرى مماثلة تتحول الصرامة فيها إلى ظرافة، ولهذه الظرافة إن لم يكن الطرافة باع عريض في الشعر الشعبي، الذي يبقى حديثًا مهما كان عتيقًا، فلا تنطبق عليه شروط الحداثة: منتصب القامة أمشي/ونفسي آكل محشي/الفول وجّع بطني/واللحمة لونها وحشني/أحب أعرفكم بنفسي/محمود ف البطاقة ده اسمي/وملامح العروبة ف رسمي/وحزن بيمزع قلبي/لما بشوف الخوله/ببيعوا ف تراب بلدي/ونرجع ونقول المهم/قوموا احشوا المحشي/وحاكل الحلة وحدي… يا سلام! الفورية والعفوية وتلك النفحة نفحة الساخر والجد (بكسر الجيم) الخاصة بإرث الغناء الشعبي دوختني تدويخًا يا ابن العم، وجعلتني على راسي أمشي! هذا لا يعني أن أمرك مع القصيدة الحديثة وأمر كل الشعراء العرب معها سيتجددان، لا لجفاف القريحة أو إن شئت الملكة كما يحاول البعض تبرير هبوط مستوى كل هذا الشعر، وإنما لأن القصيدة قد أخلت مكانها تماما للرواية. ستقول لي هذا لأنك روائي تقول ما تقول، وأنت أيضًا روائي، ألم تكتب "إلى الجحيم أيها الليلك" وغير "إلى الجحيم أيها الليلك" لا أذكر كم؟ لأن القصيدة الحديثة لم تعد لا حديثة ولا قديمة، القصيدة دون أن تكون لا حديثة ولا قديمة انتهت. اسمع ما يقوله أبوللينير يوم صعود القصيدة الحديثة وتدشين الحداثة: "هوس المغامرة - المغامرة الشعرية بشكل أساسي: إن الشاعر مدعو للتنافس مع السينما الوليدة بمعنى أن "ينظم صورًا"، أن يبدي روح اكتشاف تماثل روح "العلماء" الذين "يرصدون دون هوادة عوالم جديدة تكشف عن نفسها عند كل مفرق طرق من مفارق طرق المادة". يمتلك الخيال "مدى لا نهائي"، ومن اللائق أن نبقي "اسم الشعراء إلى جانب أولئك الذين ينصبون الجدد والمعالم في الفضاءات الخيالية الضخمة". في نهاية الأمر، يجد العلم والفن نفسيهما شريكين في البحث نفسه عن "تنظيمات جديدة". ستلد هذه التنظيمات "تلك الأعمال الجديدة عن فن الحياة الذي ندعوه التقدم". ولكن هذه الكلمات التي لأبوللينير قيلت في بداية القرن الماضي، مائة عام قبل أن "ينتهي" التقدم و"تنتهي" القصيدة معه، قبل أن "تنتهي" تلك "التنظيمات الجديدة" التي يطلق عليها اليوم مصطلح الحداثة، فلم يعد هناك ما يجدر اكتشافه من عوالم جديدة وابتكاره إلا واكتشفناه وابتكرناه، لم تعد هناك قدرة على المضي أبعد مما جرى مع القصيدة مثلها مثل العلم، وربما أجدني أبرر هنا دون أن أشاء "ردتك" وانكفاءك وعودتك إلى أشكالها التقليدية. ما أريد أن أصل إليه: أكبر خدمة يقدمها الشعراء اليوم للشعر أن يكتبوا الرواية! ليس لقرار عاجل أو نزوة عابرة، ولا لرفض قاطع أو قبول حماسي، وعلى كل حال الكسالى من الشعراء وحدهم هم الذين سيواصلون النظم لعقم أدواتهم أو فقرها، فكتابة الرواية ليست مهمة سهلة، والشعر فيها ناحية واحدة فقط من نواحيها. إذا استطاع أحد منهم أن يخوض غمارها، وأن يجعل منها مغامرته، فليكن، وإلا فليصمت إلى الأبد. لقد فهم الشعراء هنا في الغرب هذا منذ أمد طويل، وجعلوا من الرواية ملحمة العصر لأن العصر هو الذي جعل منها ملحمته، وأنت ذو باع عريض في هذا الفن، فأتحفنا، بشرط أن تهدي روايتك لي. نقطة. سطر جد... نقطة الختام... مؤقتًا.

باريس 2007













خيري منصور

خذ هذا الخبر، ولا ترتعد في فراشك!
ألا تعلم أيها القارئ العربي أن طه حسين، عميد الأدب العربي في زمانه، كان يكتب في مجلة تمولها المنظمة الصهيونية؟
خذ هذا الخبر، ولا تسقط أرضًا بطولك وعرضك!
ألا تعلم أن خيري منصور وإلياس خوري ورشاد أبا شاور، الأول شاعر فلسطيني غير ذائع الصيت كما هي حال ثلاثي شعراء الانحطاط الجميل الذين تحدثنا عنهم، ولكنه أكثر ثرثرة من ثلاثتهم، والثاني روائي لبناني يقول عن نفسه "عالمي"، والثالث روائي فلسطيني يرفض هذه الرقعة، يكتبون منذ عدة سنوات ضوئية من زمن الإعلام الإلكتروني في جريدة أسسها الموساد، جهاز المخابرات الإسرائيلية؟
الأول كان يعرف.
والثلاثة الآخرون عرف منهم اثنان، إلياس خوري وخيري منصور، جعلتهما يعرفان أنا بنفسي، ولم يعرف رشاد أبو شاور الكلمة الحرة إلا الآن معك يا قارئي، وكلي خشية على قلبه الغالي على قلبي من الصدمة.

ولم يكن طه حسين وحده، بل هو وابنه مؤنس وابنته أمينة، وتوفيق الحكيم، وسهير القلماوي، وسليمان حزين، ومحمد رفعت، وأحمد نجيب الهلالي، وحسين فوزي، ومحمد عوض، وعزيز فهمي، وسلامة موسى يا رب موسى، ولويس عوض، وفؤاد صروف، وريمون فرانسيس... و... و... وآخرون من رموز ثقافتنا المعاصرة (كتاب محمود عوض الفريد "... وعليكم السلام"، دار المستقبل العربي، مصر الجديدة، 1984ص ص 105-106.

المجلة اسمها "الكاتب المصري".

والجريدة اسمها "القدس العربي".

ومن العنوانين تفهم أول ما تفهم أيها القارئ العربي اتساع الفضاء الذي من واجب عدوك الوجودي تغطيته مع تطور الأهداف من أرض مصر إلى أراضي كل العرب. ومن المكان الذي فيه تصدران الأولى من القاهرة والثانية من لندن، تلاحظ أول ما تلاحظ أيها القارئ العربي استراتيجية جنرالات الحرب الإعلامية الإسرائيلية المرتبطة بأهمية المكان كارتباط الدال بالمدلول في علم الألسنة.

مجلة الكاتب المصري الذي صدر العدد الأول منها سنتين ونصف السنة قبل نكبة النكبات في شهر نوفمبر 1945 كان يملكها أربعة من أسرة هراري اليهودية، وكان الكل يعلم بأمرهم وأمرها، والدليل على ذلك مهاجمة بعض الصحف المصرية لها، واتهامها مجلة صهيونية تسعى للسيطرة على كبار الكتاب والصحفيين المصريين من أجل صرف اهتمامهم عن أهداف الصهيونية في فلسطين، وإلهاء القارئ بمواضيع أدبية لا دخل لها بالسياسة. الأربعة الهراري إذن لم يكن هدفهم الدعاية للصهيونية بل بكثير كان أخطر، كان الهدف إسكات الألسن في بلد عربي كبير مثل مصر، كما يقول المؤلف المتميز، بلد يتزعم الأمة العربية، ويعمل زعماؤه من أجل القومية والوحدة العربية، والإقلاع عن توجيه أي هجوم على اليهود أو نقد لهم أو إثارة مشكلة فلسطين على صفحات الجرائد المصرية، لأن ذلك كان سيجرهم إلى مهاجمة اليهود، وكان هذا هو ما حاولته مجلة الكاتب المصري.
اقرأ أيها القارئ العربي قسطًا مما كتب عميد الأدب العربي في العدد الثالث/يونيو 1946، أي أقل من عامين بشهر واحد على نكبة النكبات، في وصف مثير للشفقة على المهاجرين اليهود الذين كانوا يستقلون سفينة من لبنان إلى فلسطين، فيقول كصاحبنا سميح القاسم ستين عامًا بعد نكبة النكبات عن هؤلاء "اليهود المساكين": "كانوا إما من الكهول المضطهدين أو من الأطفال والصبية اليتامى أو النساء الأيامى... فقد كانت السفينة تحمل ألفًا أو نحو ألف من ضعاف اليهود المهاجرين من الأطفال والصبية الذين لم يبلغوا الحلم ومن النساء الأيامى... وهؤلاء البائسون يهبطون من السفينة في نظام، ترتفع أصواتهم البائسة المتهالكة بغناء لست أدري أكان يصور الفرح والمرح وانتصار الفاتحين، أو كان يصور الحزن والبؤس وانكسار المطرودين، أم كان يصور هذا كله في وقت واحد"! ص 106.
عميد الأدب العربي لا يدري أنه غناء الفاتحين، وهو إن درى، يحاول إخفاء ذلك تحت غطاء "كل هذا في وقت واحد" ليخفف من موقف مزعج لمموليه، ويذهب إلى مدى أبعد في وصفه لهؤلاء الكهول المضطهدين والأطفال اليتامى والنساء الأيامى ليسترضيهم، ويستعطف قارئه، وهو يدري أنه يضلل قارئه، يضللك أنت أيها القارئ العربي في جسد أخيك قبل أن تكون اليوم قلبًا وعقلاً وجسدًا لأخيك، بعد أن غيّب الرجال القادرين على حمل السلاح ممن اغتصبوا فلسطين، وكأن الهولوكوست ما انتقى آخرين غيرهم!
يطلق محمود عوض صرخة مدوية: "إن القارئ المصري الذي قرأ هذه الكلمات كان يقرأ خداعًا كبيرًا انتقل إليه في اللحظة التي دخل فيها بناء الدولة الصهيونية على حدود مصر مرحلته الأخيرة. ونحن نغفر للقارئ أن ينخدع، ولكننا لا نغفر أبدًا لأديب كبير أن ينخدع، فخديعته التي تتم مرة واحدة، تقود إلى خديعة جديدة مع كل قارئ جديد" ص ص106-107.
أصحيح هذا؟ أيمكن لكاتب "في الأدب الجاهلي" أن ينخدع؟ أن تنطلي الكذبة عليه؟ الذي قوض العقول، وظننا أنه كان يحدث فيها ثورة على الماضي بينما هي ثورة علينا في سبيل أن يرضى عليه أندريه جيد صديقه، ويقول عنه بالنسبة إلى البرابرة من أهله متمدنًا!
ثم يضيف محمود عوض: "ولكن هذا النموذج كان متمشيًا تمامًا مع الإطار السياسي العام، في بلد يقوم على حدوده خطر يمس أمنه ومستقبله، ومع ذلك في كل مرة يتاح له أن يتنبه ويستيقظ، يجد من يدير له عينيه إلى اتجاه آخر. إن هذا الإطار كان متكررًا في الدول العربية جميعًا، ومع ذلك، فان زاوية اهتمامنا هنا هي مصر بالذات، باعتبارها الدولة الأكبر، والتي يتوقف أمنها مباشرة وطوال تاريخها كله على ما يجري في فلسطين. وإذا لم تكن مصر نفسها تدرك ذلك في الوقت المناسب، فان عدوها القادم أدرك ذلك مبكرًا، ومن هنا كان تركيز وضخامة النشاط الصهيوني في مصر، نشاط كان الحد الأقصى لأهدافه هو الحصول على موافقة مصر على ما يجري في فلسطين، والحد الأدنى هو تحييد مصر - أو بعبارة أخرى تخدير مصر - بالنسبة لما يجري في فلسطين" ص 107.
نعم، عندما يتعلق الأمر بفلسطين، تخدير مصر، تخمير مصر، تدمير مصر في عقلها، في قلبها، في صميمها، كما هو أمرهم إلى اليوم معها!
رأيت إذن أيها القارئ العربي كيف تم تحييد مصر عن طريق تخديرها بأقلام المشاهير من كتابها، واليوم تجري الأمور كما جرت بالأمس الأمور، وكأننا لم نزل على أبواب الأمس، من أجل تحقيق الهدف التالي: تقنين العالم العربي من محيطه إلى خليجه، غضبه، رفضه، سخطه، عزمه، جموحه، صموده، عناده، من أجل القبول بإسرائيل كأمر واقع، كقدر، كحكم الهي، لا بالدعاية لها، بل على العكس اقذف بها ما طاب لك واشتم مع من تقذف بهم من الحكام العرب وتشتم، فتأخذ مكانها "الصحيح" في ضميرك، هذا ما يدعوه الدكتور أسامة فوزي ب"اختراق الحاجز النفسي" لديك الذي تم بالفعل عن طريق مؤسستين إعلاميتين إحداهما إخبارية مقروءة، جريدة القدس العربي، والثانية إخبارية مرئية، فضائية الجزيرة القطرية، وذلك منذ سنوات عديدة، نبرة الواحدة أو الأخرى الثورجية المزايدة تلقى صدى في النفوس، تدغدغ الأحاسيس، وتروي الظامئ من الأفواه، لهذا يكون اهتمام القراء كالمشاهدين بالواحدة وبالأخرى بينا هم يوغلون في الأوهام.
اسمع أيها القارئ العربي ما يقوله لي تأكيدًا على ما أقول بخصوص جريدة القدس العربي، في رسالة إلكترونية، رشاد أبو شاور الكلمة الحرة، ولكن الذي انطوت عليه الكذبة دون أن يشاء: "هذه الصحيفة يا أخي أفنان هي الصوت الوحيد الجريء والصادق والشجاع في بلاد العرب، وهي لهذا تحظى بتقدير كثيرين في بلادنا"! نجح اختراق الحاجز النفسي إذن بعد أن غدت هذه الجريدة، التي جعلت لها من الجرأة ثوبًا، ومن الكذب صدقًا، ومن الجبن شجاعةً، لقارئها الصوت الوحيد الذي يصم أذنيك أيها القارئ العربي، ويوصد روحك، لست وحدك، فهي تحظى بتقدير الكثيرين!
لقد تم الاختراق على أكبر وجه، وجاء عهد ما أدعوه بتقنين ردود فعلك أيها القارئ العربي باتجاه تطبيع مجاني لن يعود عليك بشيء، ولن يعيد لنزلاء مجاري رام الله إلا ما أفرزوه من بول على أدمغتهم، بعد امتصاص نقمتك، وتكريس استسلامك الأبدي، فهذه أنظمة كلها ضعيفة وعميلة، وتلك إسرائيل آفة الآفات وكل باقي الأوصاف التي دأبت على قراءتها أو سماعها، ولكن القوية المتغطرسة الهيابة التي لا حيلة ولا قوة في أمرك معها. خلال الحرب اللبنانية الأخيرة لم تأت هذه القناة بالحرب إلى بيتك وكل بيت ليسيل دمك مع من سال دمه في المجازر، وإنما بكل جنرالاتهم المتغطرسين على الرغم من الهزيمة المرة التي ألحقها حزب الله بهم وشتى فصائل المقاومة، وخلال قراءتك للصفحة التاسعة من جريدة القدس العربي الخاصة بكتاب إسرائيليين غير بريئين جعلت هذه الجريدة كتاباتهم بكل يسر تمضي إلى ضميرك وكل ضمير ليستنزفوك مع من استنزفوه في عقله، كتابات لا تردح لإسرائيل هذه المرة أو للحكام العرب، وإنما تحلل "بموضوعية"، تناقش بشكل "متحضر"، وتعطيك دروسًا في "الديمقراطية"، دون أن يسمح لك صاحبها اللاديمقراطي بالرد عليها! لهذا ترى عطوان معلّقًا دائمًا للردح (شجاع وجريء وصادق وصوت وحيد) على شاشة قناة الجزيرة، للصلة العضوية بينهما (العضو تحت كل معانيه بما فيها الانتكاحية) من أجل تحقيق الهدف الموسادي الأسمى: احتكارك!

كيف أتم الموساد، جهاز المخابرات الإسرائيلي، تأسيس جريدة القدس العربي؟

سأوجز هنا ما جاء في مقال أسامة فوزي الموثق والمزيل لأدنى شك:
* عبد الباري عطوان صاحب جريدة القدس العربي الصحفي الوحيد الذي قبل بأن يكون على رأس المشروع الموسادي لماضيه المتسعود المخزي واستعداده للعمل حتى مع الشيطان من أجل حفنة مال ينتفع بها.
* بعد الوقوع على الكبش، كبش الفداء، الأمور الأخرى سهلة أو بالأحرى كانت جاهزة، بناية لشخص إسرائيلي إنجليزي اسمه أرنولد ادوارد معروف بوصفه عميلاً متقاعدًا لجهاز المخابرات الإسرائيلية، وصديقًا شخصيًا لعطوان، وتمويل عن طريق شركة مملوكة لعميل الموساد هذا نفسه "بلاك آرو" أو تحويلات كان محمود أبو الزلف صاحب جريدة القدس المقدسية الذي يدعوه الشخاخون أولاده عميد الصحفيين الفلسطينيين يقوم بها وسيطًا بين الإسرائيليين وعطوان لئلا ينفضح أمر هذا الأخير. لاحظ أيها القارئ العربي كيف يتغطون بالقدس الشريف هؤلاء العملاء ليستغلوك تارة وتارة ليبتزوك.
أيها القارئ العربي أنا لا أكذب عليك كما أن أسامة فوزي لا يكذب عليك، وان بدا الأمر ضربًا من خيال!
الوثائق كلها موجودة بالأسماء والمبالغ وأرقام الحسابات!
أيها القارئ العربي أنا لا أخترع شيئًا كما أن أسامة فوزي لا يخترع شيئًا، وإن بدا الأمر كفيلم هوليودي باهظ الإنتاج!
الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين في كتاب أصدره عام 1980 "الحريات الصحفية في ظل الاحتلال الإسرائيلي" يقول إن أبا الزلف صاحب جريدة القدس المقدسية، الذي يحول مئات آلاف الجنيهات الإسترلينية إلى عطوان صاحب جريدة القدس العربي اللندنية، يتمول من الحاكم العسكري الإسرائيلي.
أيها القارئ العربي أنا لا أغررك، وأسامة فوزي لا يغررك، ليس من أخلاقنا أن نغرر الناس، وإن بدا الأمر جنونًا أو أنه الجنون!
اليوم تأتي هذا العبد للباري الذي هو منه براء أموال من قطر، لكرم شيخها أو جحشها، فيحمل قلبه الحنيّن عن إسرائيل، عار أمه، عبئًا في هذه الجريدة التي كان من الأجدر تسميتها القدس العبري، وفي تلك الفضائية التي كان من الأجدى تسميتها الغواصة النووية في بحرنا أشبه بتلك التي باعتها ألمانيا لإسرائيل أو أهدتها لجرائمها فيهم من أجل جرائمهم فينا، وأكبر جريمة يرتكبونها في حقنا الجريمة الإعلامية، أكبر جريمة نرتكبها في حق أنفسنا أن نقرأ هذه الجريدة أو نشاهد تلك القناة، فقاطعهما أيها القارئ العربي. قاطع على الخصوص الصوت الدجال عبد الباري عطنان (من عطن)، "الصوت الأكثر جرأة في الصحافة العربية" كما يقول رشاد أبو شاور الكلمة الحرة الكلمة المخدوعة، صاحب "البكاء على صدر الحبيب"، أول من أشهر سيفه (هذه الرواية) في وجوه نزلاء مراحيض عمان قبل أن يغوصوا حتى شوشتهم في ششم بيروت وتونس ورام الله، ومن بعده أنا، بعد أن حذوت حذوه، وتمثلت أمره، في "أربعون يومًا بانتظار الرئيس"، فتعال نبك الحبيب، أين الحبيب، وقد ضاع كل الأحبة! الصوت الأكثر إجرامًا بوعينا عندما تعرف أن مقالات صفحتها التاسعة تحرر يوميًا في إسرائيل، وأن "تنبؤات" عطنانها الجريئة التي دومًا في محلها ما ترمي إليه إسرائيل: سيفشل مؤتمر أنابوليس، وإذا به يفشل، سيفشل اللبنانيون باختيار رئيسهم، وإذا بهم يفشلون، سيغدق عليّ سيف الإسلام القذافي بالمال، وإذا به يغدق! تنبؤ يصل إلى حد النبوة، وجرأة ترقى إلى مستوى الفرادة، وشجاعة لا مثيل لها!
أيها القارئ العربي كن شاهدًا على ما أقول، إن سمعت عن عبث غير عبث وغير معقول معقول وعوالم لم ولن تكون وهي فينا ومن حولنا، هذه القصص التي أرويها لك جزء منها، من صميم الواقع هي، وإن بدت لا تمت إلى الواقع بصلة!

كل شيء يهون إلا أمرك يا خيري منصور!

تحليلي لماذا لم يتوقف خيري منصور عن الكتابة في الجريدة الموسادية على الرغم من تحذيري إياه هو التالي:
خيري منصور ضالع حتى النخاع مع عبد الباري عطنان، وكتاباته على كل حال دون أن يكون مرتزقًا موسادي التجنيد مثله مثل عطنان تسير في الخط الذي أقام الموساد هذه المؤسسات من أجله، كتاباته عبارة عن مؤسسة موسادية، ترمي إلى تحقيرك أيها القارئ العربي، وجعلك مسخًا، مقابل الرفع من شأن الآخر وما أدراك ما الآخر، الغرب، ومن قال غربًا كانت إسرائيل شرقًا.
سأوضح فكرتي بمَثَل عن كتاباته وآخر عن سلوكه، سلوكه معي، أنا الأعمى، أعمى البصر والبصيرة!
سأبدأ بسلوك هذا الرجل، وحسبي ما توجه به إلى رشاد أبو شاور الكلمة الحرة، رشاد، يا كابي الرماد!: "قرأت ما كتبته عن الشاعرين، وأحسب أنه لا توجد محرمات، وتابوهات تمنع تشريح كل شيء، فحياتنا أصبحت كالدمل الصيني، الخمج ينمو، ويكبر، وينتفخ تحت في العمق، بينما على السطح لا تظهر سوى أعراض تحير الغشيم، والحليم ..." أنا الغشيم الحليم بأمرك يا خيري منصور!
* خيري منصور كان يعمل في وزارة الإعلام العراقية مخبرًا مع الدكتور علي جعفر العلاق الذي كان برتبة عقيد في المخابرات العراقية.
* خيري منصور كان يعمل منسقًا للمخابرات العراقية مع الصحف والمجلات بعد أن تأزمت العلاقة بين صدام حسين والنظام الأردني.
* خيري منصور غدا ولم يزل، فمن يسقط في الشبكة إلى الأبد يسقط، عميلاً للمخابرات الأردنية على زملائه الصحفيين والكتّاب بعد أن احتفظ بهذا الشرف (يقول عنه محمود درويش "قهوتنا الصباحية" كناية عن افتتاحياته) مع المخابرات العراقية، إذن هو عميل مزدوج. وبهذه الصفة، لهذه الصفة، فُرض من قبل أحمد عبيدات يوم كان رئيسًا للمخابرات على الشاعر عبد الرحيم عمر مدير دائرة الثقافة والفنون في عمان مصححًا في مجلة أفكار ثم كاتب افتتاحيات في جريدة الدستور ومسئولاً عن قسمها الثقافي باتجاه الكتّاب الغشيمين الحالمين أمثالي، وكم من مرة حذرني صديقي الغالي على قلبي الدكتور فهمي جدعان "كل هؤلاء الصحفيين مخابرات" كان يقول لي لما كنت أسأله لماذا لا يكتب في صحافة الأردن، ولم أفهم ما لم أفهم إلا اليوم. أتذكّر اليوم ما كان يسعى خيري منصور إليه للصعود أكثر، من مخبر إلى وزير مثلاً، فغيره من الوزراء العملاء ليسوا أحسن منه علاّمة زمانه الموسوعي حافظ القواميس عن ظهر قلب وكل أسماء الكتّاب في الغرب حتى ماسحي أحذيتهم، يخاطب الملك حسين بيا أيها الديمقراطي، قال الملك حسين ديمقراطي! ويقضي ليله ونهاره بانتظار أن يهديه القصر سيارة تريحه من امتطاء باصات السرفيس! أتذكر علاقاته مع عميل المخابرات الآخر سيء الذكر خالد الكركي الذي فبركته المخابرات قطعة قطعة مذ كان عميدًا لشؤون الطلبة في الجامعة الأردنية، عميدًا لشؤؤن الطلبة؟ جاسوسًا على الطلبة، إلى أن غدا رئيسًا على هذه الجامعة ليمارس سياسة التخويف وسن قوانين التأديب على طلبتها، هذا الشخص الذي لم تحسن أمه تأديبه، طلبتي أنا يوم عاملتهم كما كنت أعامل الآخرين المحظوظين في السوربون، فأزلت عن صدورهم أطنانًا من الضغط والكبت الحديديين، وجعلتهم يذوقون ولو القليل طعم الحرية. أما مع هذا الكركي الهجين الذي ترفض الشامخة الكرك أن يكون ابنها، فالفساد المستشري والتجاوزات، وآخر ما جد إلغاء حفل التخريج السنوي، فرحة الطلبة وعيدهم الغالي على قلوبهم وقلوبنا. كان هذا الكرّ يوم كنت في عمان عام 1995 وزيرًا للإعلام (اقرأ أيها القارئ العربي روايتي الضخمة في كل رموز النظام "أبو بكر الآشيّ")، وكان الخيدع لاصقًا دومًا في قفاه، ولما كنت أسأله إذا ما كان يسعى إلى منصب في الوزارة، كان يؤكد دون أن يؤكد، فكم كان غاضبًا على وضعه المادي والمهني أو هكذا يبدي، كم كان ساخطًا على الدستور أو هكذا يبدي، كم كان حاقدًا على الدنيا أو هكذا يبدي، ويتمنى ترك الأردن أو هكذا يبدي، والذهاب إلى الصين لو أمكنه أقصى بلد أو هكذا يبدي، فهل هو وخز الضمير في لحظة ندم، أن يهرب أبعد ما يكون من ماضيه، أن ينزع عنه جلده أو هكذا يبدي؟
* خيري منصور كان دومًا معي في لباسي عندما كنت في عمان، فتحت له قلبي وبيتي، ولم يفتح لي بيته مرة واحدة، فنقل حتمًا كل ما في قلبي وأسرار بيتي إلى جهاز المخابرات بعد تجنيده من أجل الكشف عن نواياي، كاتب "الأربعين يوما" أنا، فيما يخص النظام الأردني (عندما اتفقت مع الخرع نبيل الشريف على الكتابة في الدستور قال لي هذا أول ما قال: "لا تشتم ياسر عرفات"، وكأن هذا الرجل شغلي الشاغل، وكان خيري منصور يثنيني عن كتابة أي مقال سياسي، وكذلك كان خليل السواحري، عميل ملثم آخر، يشتم العائلة المالكة كلما التقينا، ولا يوفر، ليسجل ردود فعلي) تقارير عني مقابل عشرة دنانير لكل تقرير، كان هذا هو ثمن الاذلال، وبخاصة الوصمة. أضف إلى ذلك أنني كنت العصفور والعصفور الآخر اللذين رماهما بحجر واحد لما رافقني في حلي وترحالي ليبيّض سمعته على كتفيّ في عين من يعرفه، وليزيل الشك من رأس من لا يعرفه.

من قتل غالب هَلَسا؟

خيري منصور الذي كان يقضي جل وقته مع غالب هلسا كما كان يقضي جل وقته معي وجدوا هذا الأخير جثة هامدة في بيته الدمشقي عدة أيام بعد موته، فهل مات غالب القلم السليط الشاب الذي كانه في السابعة والخمسين قتلاً؟ أيكون مصيره من مصير ناجي العلي دون أن نعلم؟ صنو خيري مهزوم عبد الباري عطنان حقق السكوتلاند يارد معه بعد مصرع ناجي العلي (كان شغل عطنان الشاغل تحري كل صغيرة وكبيرة عن ناجي) ثم تركوه يذهب في حاله، فالأجهزة التي كانت من وراء مصرع الكاريكاتيريست المزعج أجهزة صديقة (موساد، رصد فتح…) وهذا يدل على أنه واحد منها (كنت أظن أنه يموّل من طرف أبي عمار _ يا محاسن الصدف _ فكتبت عن ذلك مخطئًا في خاتمة طبعة كتابي الأولى "40 يومًا"). الشيء نفسه اليوم، وهو يلقب بن لادن على الفضائية الغواصة النووية بالشيخ، بدافع الاحترام والتبجيل، ولا يقلب الإنجليز الدنيا على رأسه، فهم يعلمون أنه منهم، كما كان بن لادن منهم، زملاء، الأول للسي آي إيه، والثاني لكل من يدفع، والتكتكة الموسادية هي الأبدع!

سأعرّج على كتابات ذلك الذي تفعّى، ولو أنها لا تستأهل التعريج.
في آخر مقال له في القدس العربي تحت عنوان "فصول وأصداء" يكتب أول ما يكتب: "كتب الكثير عن ظاهرة التماهي، وعن تورط المغلوب بمحاكاة الغالب، لكن التجليات الميدانية لهذه الظاهرة بقيت خارج مدار الرصد، رغم أن ما يقال عن الظاهرة يبقى من حيث الرؤية على الأقل في النطاق الخلدوني، وقد يبلغ أطروحة مالك بن نبي وما يوازيها من كتابات د. فرانز فانون حول المغلوب للأفكار والصورة التي نسجها له الغالب كي يبقى أسير الحالة بحيها أو بموتها".
فلتلاحظ أيها القارئ العربي البنية الفكرية اللابريئة لهذا الكاتب العميل المزدوج، كل كتابة ليست بريئة هذا صحيح، لكنها هنا ليست بريئة مرتين، الأولى عندما يضع الكاتب نفسه في محور يفوق قامته "التجليات الميدانية لظاهرة تماهي المغلوب بالغالب والتي بقيت خارج الرصد" ليقوم برصدها هو، يقال بالتعظيم يخفى الادعاء الدميم، وأنا أضيف وكل ما هو دميم في الشخص نفسه، ولكن أيخفي التعظيم الوصمة التي على الجبين؟ مهما حاول هذا الخيدع الخداع سيبقى مكشوفًا أمره، على الأقل نحن الذين وقفنا على أمره أمس واليوم مئات آلاف القراء لهذه الجريدة التي افتضحت لديك يا قارئي الحر. بالطبع أنا لا أفهم ما يعنيه بالتجليات الميدانية، لا أفهم كل ما يقوله، أيقصد بهذه التجليات مقالته من باب التعظيم أم التحقير؟ التعظيم يلغي التحقير تارة والتحقير يلغي التعظيم تارات لأنه، كما هو عهده في كل مقالاته، يسعى إلى القبض على خناق القارئ ليهينه فوق إهانة، وليذله فوق إذلال، ليصل في النهاية إلى تقنين روحه، وهنا تكمن عدم براءة الكتابة الثانية عنده، انه مؤسسة مخابراتية كما قلت! هدفه أن يبحث في ظاهرة تماهي الغالب في المغلوب ظاهرة مسلمًا بها، لاحظ استعمال هذين المصطلحين الخطيرين "الغالب والمغلوب" لازمة كتابية، "الشرق والغرب"، "الأرض والمريخ" إذ لا يتغير إلا المصطلح فقط في كل كتاباته، حتى أن تماهيه هو في الغرب الذي ربما يحس به القارئ ليس تماهيًا بالمعنى النفسي أو الاجتماعي، لأن كل شيء مخطط له سلفًا عنده، والهدف دومًا واحد، أن يتركك أيها القارئ العربي تلهث تحت وطأة أغلالك، فتأتي إسرائيل، لتجنيك ثمرة ناهية.
تماهي الغالب في المغلوب يأخذ عند هذا الخيدع مسارًا أخطر عندما تزخر كتاباته بالمراجع الغربية كتبًا وكتّابًا ومؤلفين ومؤلفات وفنانين وفنانات ومطربين ومطربات وحلاقين وزبالين وطبالين وطباخين وطباخات وكأنه موسوعة زمانه! انظر أيها القارئ العربي كم اسمًا أجنبيًا جاء في هذا المقال (وكل مقال) ليس من أجل تحسيسك بالتماهي وغالبك وإنما بالدونية وان كان الكاتب يرمي إلى فضح مثل هذا الإحساس كما يدعي: فرانز فانون، غايتان بيكون (من هو، لا أعرفه)، بواديفير (لا أعرفه)، بلزاك، شكسبير، مارلين مونرو (أعرفها)، إديث (يقول إديث كما يقال بالإنجليزية ولا يقول إديت كما يقال بالفرنسية، هو لا يعرفها) بياف، لورنس أوليفيه، أنطوني كوين، همنغواي، فرانسواز ساغان، ألبير كامو، بروست، إليوت، نسي تحية كاريوكا، أوف (أوف ليس اسم كاتب، وإنما من التعب "أوف")...
هذا الحشد الكبير من الأسماء في كل مقال له، أحيانًا لم أسمع في حياتي عنها، لهو من عمل مؤسسة ذات أرشيف ضخم كجهاز المخابرات مثلاً، فهل تكتب مقالات هذا الخيدع أو بعض منها في الدهاليز والغرف السوداء؟ أحيانًا الأسلوب يتغير، اقرأ مقالته "مقاربة أولى لقصيدة النثر" وهذه التي بين يدينا تلاحظ أن هناك فرقًا بين طول الجمل في الواحدة و قصرها في الأخرى وخاصة الطريقة التي صيغت كل واحدة فيها، أسلوبهما، ثم هو يقول إنه قرأ كتابين موسوعيين لغايتان بيكون وبواديفير، فبأي لغة قرأهما، بالفرنسية؟ وهو لا يقرأ الفرنسية، بالإنجليزية؟ وهو لا يتكلم كلمة ونص بالإنجليزية، أم بالعربية، فمن ترجمهما؟ لكنه لا يفيدك بمعلومة واحدة عن مراجعه، هناك عدة خيري منصور إذن، يقرأون نصوصًا تدور في فلك التدجين، ويأخذون عنها ملاحظات يعطونه إياها، فيصيغها على هواه. خيري مثله مثل عبد الباري كلاهما يهيء له جهاز المخابرات، الأول المخابرات الأردنية، والثاني المخابرات الإسرائيلية، أو يكتب له المقالات، الواحد للصفحة التاسعة، والآخر لكل الصفحات!
باقي المقال لا يستأهل القراءة، مستواه من مستوى جائزة الشيخ آسف الجحش محمد راشد المكتوم التي أخجل من الحديث عنها، ويتباهى بها (بدولاراتها) هذا الخيدع، ولكني سأعلق بكلمة صغيرة على الثيمة الأساسية "تماهي الغالب بالمغلوب" حين اتكائه على ما درج قوله بمحفوظ بلزاك العرب، وليلى بعلبكي فرانسواز ساغان العرب، وهند رستم مارلين مونرو العرب، هوه غلطان مش هند رستم تحية كاريوكا...، ويقول "لم يحدث ولو مرة واحدة أن أطلق الفرنسيون على بلزاك أو بروست أو ساغان أسماء عربية، كما أن الإنجليز لم يقولوا بأن شكسبير المتنبي البريطاني، وت. س. إليوت حافظ إبراهيم الإنجليزي". وأنا أقول له لا يا سيدي، اللهجة القاطعة في جملتك "لم يحدث ولو مرة واحدة" وفي كل جملك لإبهار القارئ وتجريده من كل تفكير والتي تريدها أن توحي ب"العالم بأمره" ترتد عليك لتأكيد "العالم بجهله"، فقد شبه الإنجليز سلمان رشدي بجيمس جويس، والأمريكان توم وولف إن كان أرشيفك الخاص جدًا قد قرأ له أو سمع عنه وبأي لغة، مبتكر ما يسمى في أمريكا "الصحافة الجديدة" ومبدع "محرقة الأباطيل" شبهوه ببلزاك، ورشيد بوجدرة أيضًا ببلزاك، وموليير براسين حتى أنهم ذهبوا إلى حد القول إن هذا كتب مسرحيات ذاك... هذا تقليد هنا غايته الأولى دعائية في مجتمع استهلاكي، والثانية إطرائية، لا تشعر الكاتب أو أمته بالتماهي والمغلوب وإنما بالتماهي والقيم الإبداعية وجمال الكتابة، ونحن لو عكسنا الآية، فكان نجيب محفوظ الفرنسي وبلزاك المصري، لو أسس محفوظ للرواية كنوع إبداعي، لو عاش قي القرن الماضي كما عاش بلزاك، لأطلق الفرنسيون على هذا لقب بلزاك نجيب محفوظ فرنسا، وكانوا به فخورين.
أردت أن أتوقف هنا لولا قصيدة هذا الخيدع الأخيرة عن "حامل الفانوس في ليل الذئاب" سركون بولص.
العنوان جد معبر في السياق الذي نحن فيه.
سوف لن أستطرد رأفة بك يا قارئي الحر، لنقرأ فقط أول مقطع: غالي سركون بولص/لم أره منذ ثلاثة عشر خريفا/وربيعين/غير أن المائدة العرجاء في ذلك المقهى/الذي ترتاده القطط العمياء/كانت مطلية بغيابه اللامع/وكلما مررت بالحيدر خانة/كنت أتعثر بخطوة نسيها/أو بظل جان النحيل/الذي ينتأ الرغيف من جيب سترته/ويسميه الأمن الغذائي...
حاولت سبر التخييل الشعري لأجل تفكيك ما يعتريه من استيهام (فانتازم) يكون للحلم (أو الهلوسة) عنصره الأساسي، فالقصيدة بشكل أو بآخر "تأبينية" تنهل من ذكريات ماضية، ذكريات كالحلم هي أو أنها الحلم، لكني اصطدمت بالمصطلح الشعري (حيدر خانة، ينتأ الرغيف، أمن غذائي، مائدة عرجاء، قطط عمياء، مطلية بغياب لامع: مطلية ولامع يذكرنا هذا بقدم عرجاء في حذاء بين يدي ماسح أحذية أعمى، وإذا ما كان اللامع هو الغياب، فهل غياب سركون بولص لامع كالحذاء؟ … الخ)، هذا المصطلح على علاقة أقرب بالحاضر وتفاصيله المادية المنفرة: غياب سركون بولص لامع كالحذاء أو أن سركون بولص هو حذاء بكل بساطة، فتفلت الاستعارة كفضاء صغير في القصيدة من يد الشاعر، وبدل أن تكون الغاية منها إطراء مشوبًا بالتأسف على لحظة مضت من حياة الشاعر، يغدو عكس الإطراء هو المرجح، مما يمنعك من السبات، الدخول في وعي القصيدة، ولا يجعلك تُوغل في دهاليز الماضي، التحليق مع موضوع التأبين، سركون بولص.
سركون بولص، وهو نائم في مركب نوح، عنوان أحد دواوينه، يتمرد على الخيدع، ويرفض القصيدة.
قبل أن أعرف ما عرفت، عندما كنت ببراءة مشمش نابلس وخوخ جنين، طلبت إليه أن يتوقف عن كل كتابة من غير القصيدة، لكنه لم يتوقف عن كتابة المقالة، فأضاع القصيدة، وأضاع المقالة. هكذا ظننت. اليوم أعرف أن هناك سببًا جوهريًا آخر، إضاعة الذات، فكيف يجدها؟ لن يجدها، وهو لهذا لا يفعل سوى التخفي تحت الأقنعة، يجعل مني قناعًا تارة، ومن سركون تارة أخرى، يخفي الوصمة بأطنان من الأسماء والكلمات.
تذكر إذن أيها القارئ العربي طه حسين... توفيق الحكيم... سلامة موسى يا رب موسى... وكل الباقين منذ نصف قرن أو ينيف كيف كانوا حجارة شطرنج بين أصابع عدوك. وتذكر اليوم محمود درويش، وسميح القاسم، وأدونيس، وأسوأ الأسوأ خيري مهزوم الذي مهما حاول لن يقهرك بكلماته، ولعظمة قضيتك كلماته هذه ستتمرد عليه.
تذكر أيها القارئ العربي عبد الباري عطنان، ولا تنس أن صراعك من أجل الوجود لم ينته بعد ولن ينتهي إلا متى استعدت أرضك وكرامتك، أرضك التي جرى احتلالها بالسلاح أو التي جرى احتلالها بالكلمات، وكرامتك التي لا شيء يصونها غير وعيك ويقظتك.

إياك أن تنسى.


باريس 2007


































إلياس خوري

دعوني أسرد عليكم ملخص قصة كتبتها في باريس سنة 1980:
كان يا ما كان في قديم الزمان شاعر ثوري يحب عاملة في أحد المصانع اسمها مارجريتا، يقول فيها الشعر، ويستوحي منها قصائده عن العمل والعمال. وكل مرة ينشد لهم فيها قصيدة، كان هؤلاء يحملونه على الأكتاف، ويهتفون له بقوة، فينشد أخرى، ثم أخرى. وذات يوم، يجمد الشاعر على مرأى سيسيليا، ابنة رب العمل، وهي تصفق له، وتبتسم، فسحرته ابتسامتها، وذهب معها أول ما فتحت له باب سيارتها. انطلقت به في شوارع باريس الشتائية، وإذا بالسيارة تقفز من الشارع إلى رصيف السين، وتستقر على ظهرها، فطلبت سيسيليا بعد أن وجدت نفسها بين ذارعي الشاعر أن يتزوجها. في يوم العرس، كانت كل باريس تشرب الشمبانيا، وترقص بكل أبهتها، مزينة بأثمن مجوهراتها، وأكثر ثيابها أناقة. طلبت سيسيليا من الجميع الصمت والاستماع إلى آخر قصيدة للشاعر تقال من فمه. وضع قدمًا على كرسي من مخمل، وأخرى على فخذ إحدى المعجبات، وعلا من فوق رؤوسهم كملك يعتلى العرش، وألقى:

أراكم عرايا في ثيابكم الثمينة أيها السعداء!
جميلون كلكم لكن مارغريتا أجمل
نهدها أجمل من كل النقود
وشفتها أجمل من كل باقات الورد
وقدمها الصغيرة أحلى قدم
تَذْكُرُني الآن كما أذكرها بلا ندم
هل يندم الشاعر وفي قصائده كل مرايا العالم تشتعل؟
هل يندم الشاعر عندما يعرف أن مارغريتا تبكي
ومن دمعها تصنع العطر
ومن عرقها تصنع ثياب السهرة
هي أيضًا لن يطالها الندم
لأنها أحبت قاطف الكرز
ومشعل الورد في الجسد
لن تندم مارغريتا لن تندم
وإلا ما انصهر الحديد
وما خلع الشعر ثوب الشتاء!

صفق المدعوون للشاعر بحمية، هجم بعضهم، وحملوه على أكتافهم في أجواء الموسيقى وصيحات الإعجاب. أخذوه إلى زاوية، وشرب الويسكي معهم، ثم جرب الحشيش، وعرج على النبيذ، ثم عاد إلى القصيد من جديد. ومرة أخرى، علا على الأكتاف، وقلبه يهتز، وسيسيليا تحاول التعلق به دون أن تنجح. فُتحت كل الأبواب للشاعر، أبواب المسارح، وقاعات الشرف، والنوادي الخاصة، الخاصة جدًا، وذاعت شهرته في أوربا وآسيا وأمريكا وإفريقيا... فذهب لينشد قصائده في كل مكان في العالم، في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين القائمة على وَرِِكِ جنوب لبنان، في بلدان النفط، في القرى السوداء، وفي جامعات كاليفورنيا. وبمناسبة وجوده هناك، أخرجت له هوليود فيلمًا تسبيحًا له. عند عودته إلى باريس، قالت له سيسيليا:
- لقد أصبحت شاعرًا عالميًّا.
ترامى على الكنبة تعبًا. جاء خادمه، وساعده في خلع ثيابه. نظر الشاعر إلى سيسيليا، ثم همهم:

مارغريتا سأدفع الثمن
ثمن هواك
كفاني عذابًا
المجد هنا وأنت هناك!

وإذا بسيسيليا تصرخ منتحبة:
- كفاني أنا عذابًا، أنا المعذبة وحدي!
ارتمت على صدره، وراحت تضربه بقبضتها، وهو يسألها:
- هل جننتِ؟
مسحت دمعها، وهددته:
- إذا لم تنسَ تلك الفتاة قتلتك!
أراد الشاعر أن يلقي قصيدة عن الغيرة، ولكنه فضل السكوت. ومنذ ذلك اليوم، لم يفتح فمه ثانية، لا ليقول شعرًا، ولا ليأكل الكافيار.
في أحد الأيام، وهو يحدق في الليل، ويسقط في الصمت، دفع عليه بعض المقنّعين الباب، وألقوا في حضنه رأس مارغريتا، ثم صدرها، ثم بطنها، ثم حوضها، ثم فخذيها، ثم ساقيها، ثم قدميها، وتركوه منشلاً بين أشلائها.
بعد سنة من الزمن على تلك الحادثة، جاءت سيسيليا لترى الشاعر الذي كان قد بقي طوال كل تلك المدة في نفس المكان، وهو يحدق في الليل، ويسقط في الصمت، فلم تجده. كان يقف فوق قنطرة، ويحدق في نهر السين، لما رمى بنفسه في مائه الضحل، فكان أثر انتحار الشاعر على سيسيليا مدمرًا، سبب لها الجنون، وقضت باقي عمرها في مستشفى الأمراض العصبية بجوانفيل، وهي لا تكف عن ضرب نفسها بحجر ومناداته.
انتحار الشاعر، من مجموعتي القصصية "كتب وأسفار"، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1990.

كتبت هذه القصة عن محمود درويش، وهي تنبئ بما صار عليه درويش محمود سنوات قبل ما صار عليه، ولكنها تنطبق على كل كاتب ثورجي متسلق متقلب شتان بين ما يقول وما يفعل، شتان بين النظرية لديه والتطبيق، وهذا أمر إلياس خوري، إضافة إلى صفة المافيوي، شلته المقدسة التي يكتب لها وعنها. شخصية الأدباء المناضلين العرب الكاريكاتيرية في روايتي "أربعون يومًا بانتظار الرئيس" استوحيتها من شخصيته بعد لقائي الأول والأخير به في مؤتمر لكتاب آسيا وأفريقيا في تونس أواخر الثمانينات، ولكن الخطر كل الخطر ليس في شخصيته، بيضاء كانت أم سوداء، وإنما في كتاباته. وقبل أن أتطرق لهذه الكتابات السياسية منها أو الروائية أود أن أذكر الوقائع التالية:
يتذكر إلياس خوري الآن فقط بعد فوات الأوان الفساد والتسلط والإثراء غير المشروع كما يقول… الذي يعصف بحركة فتح وهو الذي كان عضوًا فيها.
يتذكر إلياس خوري الآن فقط بعد فوات الأوان دور سوريا المخابراتي في لبنان وهو الذي كان يدعى إلى دمشق ليشارك في ندواتها الأدبية ومؤتمراتها.
يتذكر إلياس خوري الآن فقط بعد فوات الأوان "أصولية" حزب الله وهو الذي كان يدّعي ولم يزل الوقوف إلى جانب المقاومة.
وينسى إلياس خوري أنه خسر سمعته الأدبية، على الأقل لدى الشريحة التي أمثلها، بمعنى غالبية الناس، عندما قبل جائزة ياسر عرفات، تمامًا كما قبل إميل حبيبي الجائزة الإسرائيلية.
يتناسى إلياس خوري كتابي عن السقوط الفلسطيني الذي قال له الشاعر الفنان والصديق الأمين إلياس لحود إنني قلت فيه ما عجزوا جميعًا عن قوله، وكعادته عندما يحرج بقي صامتًا.
والأهم من هذا كله، ينسى إلياس خوري أنه يعمل في جريدة القدس العربي التي يمولها الموساد، ويتجاهل الأمر تمامًا، للثلاثمائة جنيه إسترليني عن المقال الواحد هذا صحيح، ولكن أيضًا لغاية أخرى في صدر يعقوب ليست التطبيع لا سمح الله، فكل كتاباته تطبّع تحت غطاء "الإنساني" و"الكوني" و "الدمعي" فهو كما سنرى يراهن على دموع البرابرة... إلى آخره، وإنما لتكون هذه الجريدة مفتاحه إلى الغرب عندما نعرف أن مقالاته تترجم لجرائد هامة مثل لوموند ولوموند دبلوماتيك وغيرهما، ولتكون طريقه المفروش بالورد إلى الصحافة الإسرائيلية، معاريف، هآرتز، ايديعوت أحرنوت...

مقالاته. لن ألح على لامصداقية هذا الرجل نتيجة لنقاط الاستدلال السابقة، ولا على ثورجية الخطاب لديه، أو مواقفه الديماغوجية، ولكني سأرد على بعض ما جاء فيها.
في كتابه "الأسلوبية"، بيير جيرو (تلفظ الجيم كما هي عليه في اللهجة المصرية)، العالم اللساني المعروف، اعتمادًا منه على رولان بارت، تغدو الكتابة وسيلة تفزيع عندما ترمي إلى إعطاء الكلمة بوصفها مفهومًا وحكمًا في آن واحد. ومن هذا النوع من الكتابة يشتق كل ما هو سياسي، إداري، بوليسي... وهكذا يمتلك كل نظام كتابته، كل إيديولوجيا كتابتها التي تفسد كل شيء تلمسه، تشوه قيمة الكلمات (ديمقراطية مثلاً، سلام، حرية)، وتحول الكلام عن وظيفته المؤثرة فيما حولها من أجل الإقناع، الإفحام، التخويف، جاعلاً منها أداة للغش، المكر، الخداع، والتضليل. صفحة 97، كوسيج، رقم 640، باريس.
لنأخذ أي مقال لهذا الكاتب، "هل دخل الوضع اللبناني في الجدار؟"، يبدأه بالعبارة التالية: "نستخدم في العامية عبارة دخل في الحائط كي نصف شخصًا أساء تقدير الأمور، فاندفع إلى اتخاذ موقف خاطئ يضعه في مأزق من الصعب الخروج منه". بالطبع الفقرة الأولى هذه من المقال تنفي حيادية العنوان الذي أجراه الكاتب في صيغة سؤال تفسد هذه الحيادية، وبعد شرح مفهوم "دخل في الحائط"، تنحاز الكتابة، لتشوه قيمة هذه الكلمات الشعبية والحكمة التي تحتوي عليها أو ترمي إليها، عندما يضيف "من الواضح أن لبنان اليوم دخل في الحائط، وأن الأزمة التي بدأت بشعار الثلث المعطل أو الضامن الذي أطلقه حزب الله تحولت إلى أزمة سياسية كبرى، وفتحت احتمالات الهاوية". انه لم يجعل من حكمه القاطع "لبنان اليوم دخل في الحائط" حكمًا للمفهوم فقط، وإنما جعل من نفسه محكمة عرفية عندما يؤكد على الأزمة السياسية الكبرى التي يكمن من ورائها حزب الله، وخاصة عندما يهوّل بالهاوية كاحتمال كارثي قبل أن يكون سيميائي الاحتمال.
أجدني لا أحتاج هنا إلى إعادة ما قالته الصديقة الرضية رضوى عاشور في مقالتها الممتازة عن حزب الله ردًا على هذا الكاتب، فلخطابه السياسي التهويلي هنا التضليلي والتزويري صلة وثيقة بالخطاب النقيض السائد، خطاب الذين في صف الإسرائيليين والأمريكان، دون أن يحتاجنا ذلك إلى تحليل يشمل المقال كله، بضع سطور منه وشت بإيديولوجيته السلطوية (بفتح السين واللام من سَلَطَة) تمامًا كما يقال يُقرأ الموضوع من عنوانه.
"حين ينفد الكلام" مقال في ذكرى موت ياسر عرفات يبدأه الكاتب بهذه العبارة: "تمر ذكرى ياسر عرفات وسط الصمت. لا تصدقوا أن الكلام الذي تستمعون إليه حشو، فلقد نفد الكلام، وصارت الكلمات أصواتًا بلا معنى".
نحن هنا وجهًا لوجه أمام مفهومين، الصمت والكلام، أحدهما نقيض الآخر حسب القاموس، وهنا أحدهما يحل محل الآخر أو أن الواحد هو عكسه فيما يخص الصمت "نفاد الكلام"، وفيما يخص الكلام "أصوات بلا معنى". الكتابة التخويف، التهويل، الكتابة البوليسية "لا تصدقوا، حشو" بل كلامه الحشو كما لو كنا بصدد قراءة تقرير مدبج للإيقاع بموضوع التقرير، هذه الكتابة البوليسية تلجأ إلى استعمال المفهوم "صمت، كلام" في غير معناه، وإلى جعله حكمًا "صارت الكلمات بلا معنى". والكاتب الحاكم بأمر النظام السياسي والمفرداتي الذي ينتمي إليه، الكاتب المحكمة، بعد الصمت والكلام لا يتورع عن مقاضاة اللغة أمّهما عندما يضيف: "ما يحيرني في اللغة، ليس قدرتها على التعبير، لأن هذه خصيصتها، بل قدرتها على حجب التعبير، بحيث تتحول إلى قبر للصمت، على الرغم من كل الضجيج الذي يثيره الكلام، بل ربما بسبب هذا الضجيج". بالطبع ندرك هنا التلاعب الصيغي والمعنيي (من معنى)، وندرك أيضًا الحكم العرفي "قبرًا للصمت" من طرف الكاتب/الحاكم على لغة في طبيعتها صمت وكلام، ولأنه لا يريد لها أن تبقى لدى قارئه في هذه اللحظة لحظة الكتابة على طبيعتها، لا ليدافع عمن يؤبنه (في مكان آخر يدعو عرفات بشكل متأخر جدًا بالقائد الأوحد كمن يوبخ نفسه)، بل ليضلل قارئه، فهو يرمي إلى انتقاد ورثة عرفات، ولو بشكل خجول، الصامتين في أمرهم معه يوم ذكرى موته بعد أن سبقوه في كل فنونه، ليستنهض قارئه (السجناء الفلسطينيون كي يتصدروا المشهد السياسي يقول) من أجل قضية هي منذ البداية خاسرة بسبب الدعم الأمريكي الإسرائيلي المشروط للطغمة في رام الله، ونظرًا لغياب المهدي الثوري المنتظر ما بينهم.
أما "أسرى الانتظار" فتبدأ بالسؤال التالي: "منذ متى صارت بلادنا عبئًا لا خلاص منه؟" سؤال بليغ ذو مغزى يكشف عن الحكم والمفهوم في آن، البلاد العبء الذي صارته، والذي لا خلاص منه. نبرة العبث هنا اعتباطية، فالكاتب لا يدري لماذا، ولذلك يعجز عن تضليل قارئه، يحاول (المقالة برمتها)، لكنه يفشل عندما يعترف: "نستطيع أن نقول إن البنية السياسية الطائفية أضاعت أو تكاد أن تضيع إنجازي التحرير والاستقلال الثاني، كما نستطيع أن نتكلم عن واقع لبنان كبلد صغير وسط عاصفة الصراعات الإقليمية والدولية التي تجتاح المنطقة، لكننا لا نستطيع أن نشرح للناس هنا (في باريس) لماذا عجز الوطنيون والديمقراطيون عن بناء أفق سياسي لا طائفي، يستثمر الإنجازين من أجل بناء الدولة، وطرح أفق نهضوي عربي يقاوم الاحتلالين الإسرائيلي والأمريكي".
بغض الطرف عن المصطلح الثورجي المجاني المفتضح المشوه في فحواه (نهضوي، وطني، ديمقراطي، تحريري، استقلالي، إنجازي...)، العاجز عن إفحام قارئه، يكبح القارئ جماح الخطاب المضلل، ويجعل من وعيه سبيله إلى الفهم، لماذا لم يستطع الكاتب أن يشرح للغرب لماذا عجز الوطنيون والديمقراطيون... الخ. وجوابه الفوري، ولكن المفحم للكاتب، وقد تبدلت الأدوار، لأن هؤلاء بكل بساطة ليسوا بوطنيين ولا بديمقراطيين، فلو كانوا كذلك، لجرت الأمور على غير ما جرت الأمور. وأضيف من عندي، ولأن العائلة/الطائفة (لا البنية السياسية الطائفية كما يقول فالمستنقع أكثر عمقًا) العائلة/الطائفة بمعناها البدائي هي التي تعيق بناء الدولة بمفهومها الحديث تمامًا كما كان الأمر خلال حرب المائة عام بين كاثوليك وبروتستانت على رؤوسهم عائلات وزمر تتصارع فيما بينها في غرب إلياس خوري الذي يعجز من أمامه عن إعطاء جواب شاف عن غائطه اللبناني، ولأن الزمر الاقتصادية التي على رأسها أسرة مثل أسرة الحريري لا تعمل إلا لإثرائها هي نفسها لا لإثراء لبنان وتأسيس بنية اقتصادية قوية تقوم عليها دولة قوية لا دولة شحاطات درزية وأخرى مارونية.
المقال الأخير قبل أن أنتقل إلى روايات هذا الكاتب الذي لا يكف عن التبجح قائلاً دون حياء انه "عالمي" عنوانه "الرقص الشرقي في غزة".
هنا المفهوم والحكم متوافقان، بمعنى أن الخطاب يفضح سلوكًا ونهجًا معينًا نحن معه مفهومًا وحكمًا دون أن يعني ذلك أن لكلينا النظام نفسه الذي ننتمي إليه والإيديولوجيا نفسها، ونحن هنا نختلف مع بارت وجيرو، فليس كل كتابة سياسية تفسد وتشوه، لأن وعي كل كتابة يختلف من واحد إلى آخر اختلاف كل إيديولوجيا عن أخرى.
وزير الثقافة الفلسطيني (لدينا وزراء؟) عبد الله أبو السبح أو أبو السبع (يا هلا بالنشامى!) يدلي بتصريحات غريبة عن منع الرقص الشرقي ومصادرة الكتب التي فيها صور لمادونا وقص مشاهد ما يدعوه في الأفلام بالإباحية. هذا الوزير الغبي الجاهل المحروم الذي لم يعرف في حياته فرجًا آخر غير فرج أمه لهو أولى بالاحتقار حتمًا، ومفهوم "الدكتور-الفقيه" الذي جعل منه الكاتب في الوقت ذاته حكمًا وسيفًا مسلطًا حين ربطه ب "نياته الرقابية"، أي نيات الدكتور-الفقيه، لهو في مكانه الصائب. ولكن هناك فقيه وفقيه، مثلما هناك شيخ وشيخ، وكاتب وكاتب، إلياس خوري لا يرى العالم كما نراه. الفقهاء كلهم بالنسبة له على شاكلة هذا الفقيه المريض، فيعمم، وفي التعميم يشمل مواقف أخرى لحماس وقيادييها يشكرون عليها. إنه يشطب بجرة قلم برنامج حماس الاجتماعي، وعنادها البطولي في مقاومة الاحتلال، قبل افتكاكها غزة من بين أنياب طغمة رام الله، وبسبب افتكاكها هذا (بالطبع بطولة هؤلاء الإخونجية الكرخنجية شيء آخر اليوم ومقاومتهم كمقاومة حزب الله مقاومة بطيخ عالسكين ولحى محناة ونعال وطنية سورية وإيرانية الأحد 03/06/2012). خطابه إذن خطاب متواطئ مزمن مع المتواطئين البائعين لكل شيء، وأول الأشياء أعراض نسائهم، هزازات الخصور في مواخير رام الله. هذا ما كان يجب على الوزير الغبي أن يطالب به، ألا يبيعوا البلاد، وتبًا ألف تب لأعراض نسائهم وكل النساء من أجل نسائهم! خطابنا إذن في مفهومه وحكمه مع كل من يسحب البساط شبرًا من تحت أقدام مضجع أبي العباس بلا لباس وباقي نزلاء مراحيض رام الله، فهي الطريقة الوحيدة التي بقيت لطردهم وكل كوابيسنا معهم، مع نابلس الجمهورية، والخليل الجمهورية، وطولكرم الجمهورية، وجنين المملكة، وأريحا الجمهورية، ورام الله الزنازين لهم هم ونساؤهم، في هذه المرحلة، أما فيما بعد، في مرحلة فلسطين الموحدة، الحرة، التي رمت عن كاهلها عبء الاستعمار الإسرائيلي/العباسي، فسنكون لحماس وغير حماس ألف سيف على رقابها، ولن نترك واحدًا أحمق كهذا الوزير الشاذ يحكمنا.

رواياته. أريد أن أتحدى في هذا المقام قارئ إلياس خوري أيًا كان أن يقرأ أيًا من رواياته وأن يكملها! اللهم إلا إذا ما كانت القراءة قطرية، وهذا هو حالي مع رواياته، مع رواية "الجبل الصغير" ورواية "باب الشمس" كل ما قرأت له، إن كانت قراءتي هذه تسمى قراءة. لا أريد أن أحكي عن الملل، فهذا سهل، ولا أريد أن أبرر لذلك، كما هو عهد النقاد الكلاسيكيين، بطول أو قصر النص، بمواضيعه، بشخصياته، بأساليبه، بتقنياته، بمفرداته... يمكن أن يكون السبب كل هذا إلى جانب، وهو الأهم، روائية الرواية لديه، بمعنى كيف تجعل من رواية رواية؟ يقال: شيء ما عفن في مملكة الدانمرك، وفي السياق الذي نحن فيه، شيء ما سمج لدى هذا الكاتب! وأجدني كلي دهشة من امتداح إدوارد سعيد له، لكن هذا، كما هو عهده في كل كتاباته، يسقط أحكامه على النص، ويجعل منه رائعة أو جزرة كما يريد ويهوى! سأكتب رؤية خاصة بإدوارد سعيد قريبًا.

ومع ذلك، يتساءل المرء ما هو سر هذا الاهتمام الغريب بإلياس خوري في الغرب بغض الطرف عن إدراج اسمه إلى جانب درويش وأدونيس في العريضة البكائية المرفوعة للسفير الإسرائيلي من أجل ضحايا الهولوكوست!

أولاً وقبل كل شيء لأن خطابه لا يخرج عن الخطاب السائد كما رأينا، أضف إلى ذلك أنه مسيحي (ماركسي أو غيره هذا لا يهم، بل على العكس هذه الناحية جزء من الإغرابية التي تعجب الغرب) يكتب عن فلسطين. ما يعنينا ليس ماذا يكتب وعماذا يكتب، وإنما كيف يكتب: "على طريقة حكايات شهرزاد" كما تقول كلمة الغلاف لطبعة باب الشمس الفرنسية، وهذا يلخص كل استيهامات الغرب عن الحريم والرقص الشرقي والذكورة العربية وليالي بغداد قبل أن يحرق هذا الغرب ذاته حلمه فيها لعقدة وانتقام. رواية "الخروج الفلسطيني"، وهذا يذكر بالخروج اليهودي في العهد القديم الذي يشكل والعهد الجديد الدعامة الأولى في تربية الغرب كله. وعلى أي حال، المهم هو كيف تم تقديم هذا الخروج، والأهم كيف كان موقف إلياس خوري السياسي من الشخصية اليهودية، هذا الموقف الذي تقدم بآلاف الأميال موقف نجيب محفوظ من اتفاقيات مخيم داوود، والذي من أجله أكرموه بنوبل، جائزة رفضها سارتر وغير سارتر من عمالقة الأدب.
"الإسرائيلي ليس الشرطي فقط أو المحتل، انه "الآخر" الذي له تجربة إنسانية أيضًا، ونحن في حاجة لهذه التجربة. إن قراءتنا لتجربتهم لهي مرآة من أجل قراءتنا للتجربة الفلسطينية".
هذا ما صرح به للجريدة الإسرائيلية يديعوت أحرنوت، ونقلته جريدة الأومانيتيه الفرنسية في 28 مارس/آذار 2002، والذي يبدو للوهلة الأولى أمرًا عاديًا لو لم يجئ هذا التصريح من هذا المنبر الإسرائيلي الذي تضع تحته الجريدة الفرنسية خطًا، فالتجربة الإسرائيلية في بعدها التراجيدي الضارب في القدم كما يراها الإسرائيلي نفسه ليست المرآة فقط وإنما بوصلة كل التراجيديات الأخرى التي من جملتها الفاجعة الفلسطينية. لقد جرى التهميش، فانظر البقية الباقية الأخطر في تصريح هذا الكاتب: "عندما كنت أعمل على هذا الكتاب (رواية باب الشمس) اكتشفت أن "الآخر" هو مرآة "الأنا"، وبما أنني أكتب منذ ما يقارب نصف القرن عن التجربة الفلسطينية، من المستحيل قراءة هذه التجربة من غير أن تكون في مرآة "الآخر" الإسرائيلي".
أتراني أحلم؟ أتسمع يا قارئي ماذا يقول هذا المدّعي؟ أتدرك خطورة ما يقول؟ أم أنه يهذي؟ هو حتما يهذي. مستحيل قراءة تجربتنا من غير أن تكون في مرآة الإسرائيلي، شهداؤنا، تضحياتنا، نضالاتنا، دموع أمهاتنا أذهبها كلها بجرة قلم. كل تبرير آخر مرفوض، فأنا أعرف مسبقًا بماذا سيجيب إلياس، ولكن في هذا السياق، ومن هذا المنبر بالذات، ولأنه يتوجه هنا للقارئ الإسرائيلي، كل تبرير من طرفه مرفوض. في هذا المقام لا يمكن قبول هذا المقال. ويخرج إلياس عن المألوف، فهل هو في كامل قواه العقلية أم أن ذلك فقط من أجل اختراق الجدار الشاروني، نجده يقول في مقال مترجم له في جريدة لوموند يوم الأحد 25 أوت/آب 2002 "حب إجماعي لغزة" غداة الانسحاب الإسرائيلي (أنا أترجم هنا عن النص المترجم لعدم تمكني من الحصول على الأصلي) "عليّ أن أعترف بأني أحسست بالخطأ وأنا أرى دموع المستوطنين، فمن عادة لغة الدموع ألا تقاوم (بفتح الواو)، ولكن أمام دموع المستوطنين وهم على وشك تركهم لمستعمرات غزة لم يكن لدي انطباع أني أمام فاجعة إنسانية، بل بالأحرى أمام مشهد ميلودرامي. نعم، لقد أحسست بقليل من الذنب، يجب ألا تموت مشاعرنا أو تتحجر، ولا أحد يمتلك حقًا في ألا تمسسه امرأة تبكي أو طفل يضيع بين الجنود. يجب علينا أن لا نسمح للاحتلال وبربريته أن يجعل منا برابرة أو من أحاسيسنا أحاسيس جافة".
لن أعلق، لكني سأرد على هذا الكاتب عندما سيحتج عليّ لأني أغفلت باقي المقال تحت ادعاء أنه يدافع عن الفلسطينيين عندما يدخل في سرائر المستوطنين، ويقرأ ما يجب عليهم وما لا يجب عليهم، أن الدموع التي ذرفوها حين تركهم أرضًا ليست أرضهم يجب أن تذكرهم بدموع الفلسطينيين الذين طردوا من أرضهم... كما يقول، إلى آخر هذا القول الميلودرامي قوله، فهو كمن يراهن على وهم بينما تراهن لوموند على اختراق الحاجز النفسي لقرائها - وإلا لماذا ترجمت ونشرت هذا المقال؟ - بهذا الخصوص، تَرْكُ المستوطنين لغزة وهم يذرفون مر الدمع، فتُقدم الأمر كأقصى (وأقسى) تضحية منهم للفلسطينيين، كل ما يمكن لإسرائيل تقديمه.

قبل أن أعطي ملاحظاتي حول باب الشمس أود أن أرد على ادعاءين خطيرين لهذا الكاتب:
الأول أن هذه الرواية أول رواية عن النكبة التي "أبدًا لم تعالج في الأدب العربي والعالمي" حوار مع مجلة بوليتيس الخميس 12 فيفريه/كانون ثاني 2004، قصة النكبة التي "أبدًا لم تكتب في الأدب المعاصر" حوار مع الأومانيتيه المرجع السابق.
الثاني عندما يقول "المهزومون لا يكتبون التاريخ.. . بكتابتي لهذه الرواية فكرت أنه يمكن للمهزومين أن يكتبوا الأدب" حوار مع الأومانيتيه المرجع السابق.

الرد على الادعاء الأول. رواية باب الشمس مثلها مثل العديد من الروايات التي كتبت عن اللاجئين في المخيمات العربية - روايتي "الشوارع" من بينها - مع فلاش باكات، تروي قطعًا من حياة هؤلاء في فلسطين وخلال الترحيل عشية النكبة، أما رواية النكبة، الأولى في الأدب العربي ولدى الغرب، فهي روايتي "الباشا"، التي يغفلها إلياس خوري دون أدنى أمانة أدبية أو أخلاقية، مكتفيًا فقط بنبش نعوش الموتى، إميل حبيبي، غسان كنفاني، كتبوا نتفًا هنا وهناك أما أنا... أما أنا... رواية الباشا (صدرت بالفرنسية تحت عنوان "فلسطين عظمة ومصائب أرض ميعاد") التي تقول كلمة غلافها "فلسطين هي رواية الفاجعة الفلسطينية: كيف فعل الإنجليز لطرد الفلسطينيين من ديارهم سنة 1948؟ لقد تم إبراز المكائد التي حاكها الأرستقراطيون ولكن أيضًا كبار الموظفين وكبار الفلاحين، في رواية تلعب على عدة نبرات: سياسية، ملحمية، حلمية…". رواية النكبة إذن هي التي تروي كل الذي جرى من أحداث سنوات طويلة قبل وقوعها، وهذه هي حال روايتي الباشا التي نشرت 23 عامًا قبل صدور باب الشمس.
الرد على الادعاء الثاني. المهزومون لا يكتبون التاريخ؟ أيهم؟ أبدًا لم يشعر الفلسطينيون بالهزيمة، أبدًا لم يكونوا مهزومين، منكوبين نعم أما مهزومين فلا. عملت الأنظمة العربية على تهزيمهم، هذا صحيح، كما عملت على تهزيم كل العرب، فالكل إذن، عربًا وفلسطينيين، مهزّمون وليسوا مهزومين. الأنظمة العربية وحدها التي انهزمت، هي وكتبتها وحدهم الذين لا يمكنهم كتابة التاريخ، ولا الأدب، ولا شهادات ميلادهم، لكنه يكرر ما يريد النظام تلقينه، بوصفه أداة من أدواته. وبناء على ذلك هو المهزوم (وليس الفلسطينيين) الذي أمكنه كتابة هذه الرواية، فبأي حق يتكلم باسمهم؟ من خوّله حق التكلم باسم فلسطين بكل ذلك الادعاء الدميم؟ كتبت أنا عدة روايات مواضيعها فرنسية بحتة (مدام ميرابيل، باريس، ماري تذهب إلى حي بيلفيل...) ولم أجرؤ على الادعاء أني بذلك أعطي فرصة للغالبين بأن يكتبوا الأدب. ومن ناحية أخرى، الأدب الفلسطيني، أدبي على الخصوص، أدب كاتب حر بأتم معنى الكلمة، وبشعور الغالب والمنتصر على كل الأعداء، أدبي هذا قد أوفى الفاجعة الفلسطينية حقها: الباشا رواية النكبة، الشوارع رواية ما بعد النكبة، ثلاثية أم الجميع المسرحية الأولى منها مسرحية ما بعد النكبة، الكناري رواية النكسة، اسكندر الجفناوي رواية حرب عمان، بيروت تل أبيب رواية حرب بيروت، المسار أضخم رواية عربية وأول وآخر رواية عربية للآن عن صمود أهلنا عرب 48 وشخصية شعبان العملاقة (شخصيتهم) الذي ذاق الأمرين بين اليهود اليهود والعرب اليهود وبقي صامدًا متشبثًا بهويته وأرضه… الخ، لكن هذا الكاتب لا يعرف إلا ما يكتبه هو ولا يعرّف إلا بكتاباته.

باب الشمس. غير صحيح أن هذه الرواية كتبت على طريقة ألف ليلة وليلة، فإن ادعى الكاتب ذلك النص لا يدعي. في الواقع، هناك شذرات شهرزادية، الأسلوب مفروم مثل لحمة الكفتة، الفرم، وأحيانًا التشظي. أهذا بسبب امتزاج الماضي بالحاضر؟ خاصة التشظي؟ لكن الزمن يبقى مغلقًا، يظل ينغلق على نفسه. هل هذا بسبب لحظة الموت التي لا تأتي؟ فالبطل الأساسي الأول الكهل يونس قد دخل في مرحلة سبات عميقة (الكوما)، والبطل الأساسي الثاني الدكتور خليل قابع قرب سريره يحكي له عن هذا الماضي لينهضه من نومه. لكن الغوص في الماضي يأتي بطيئا، وبالتالي التطور الحدثي، مما يؤدي إلى التضخيم، في عدد الصفحات (528)، وفي كم كيلو كفتة فرمنا (الحكايات) مما يؤدي إلى تقزيمها. إذن "العملقة" شكلية لا غير، نفخ المضمون فقط لا غير، فماذا عن قيمته؟
تتراوح هذه الرواية بين روائية للتاريخ وتاريخية للرواية، وعلى عكس الرواية الأوتوبيوغرافية، على عكس الرواية الجماعية، على عكس الرواية الذاكرة كما تقدمها المترجمة، هي رواية ذات أدراج، بمعنى تضم حبكتها مشاهد غريبة عن الحدث الرئيسي (كوما البطل) مدرجة فيها كالجوارير. وإشكالية النص كله تكمن في هذه الغرابة اللاغرابة التي لا تدفعك إلى متابعة القراءة، وإنما إلى الضجر والهرب، فما بالك القارئ الأجنبي الذي لا يقرأ، يشتري الكتاب للجائزة التي حصل عليها أو للحملة الدعائية التي تدور حوله، ويضيفه إلى ديكور كتبه فقط لا غير. وبدلاً من أن ترشد القارئ الأجنبي الذي يقرأ تضيّعه، لهذا أثنت عليها الشللية الثقافية هنا في باريس، ولم تحاربها الدعاية الإسرائيلية. والدليل على ذلك، باعتراف الكاتب نفسه، "اصطدمت الرواية في إسرائيل بانتقادات سياسية، أما قيمتها الأدبية فقد اعترف بها" حواره مع بوليتيس. بالطبع سيعترف بها على الرغم من الانتقادات السياسية التي وجهت إليها، لأنها تصب في طاحونة التطبيع، ولأنها تعترف بدموع البرابرة دموعًا إنسانية، ولأنها في مكان آخر، وهنا تكمن الطامة الكبرى، تجعل من اليهودي غريبًا في مملكة الغرباء مبررًا ذلك ببيت عن أبي حيان التوحيدي "وكل غريب للغريب نسيب" ! ما أشد خطورة هذا القول في هذا السياق! جملة كهذه تبرر لكل المجازر، للاحتلال، للاغتصاب، لكل وجودهم في فلسطين! وتبعًا لذلك، جاءت الحكايات التي تدور في فلك الشخصية اليهودية أكثر جمالاً من حكاياتنا الفلسطينية، وان كانت أقل إقناعًا، فهذا الكاتب يقدم خدمة للمشروع الصهيوني برمته عندما يحكي عن يهودية لبنانية غادرت لبنان إلى فلسطين طفلة في الثانية عشرة، ويجعلها تحلم بالعودة إلى لبنان، وتبقى على هذه الحال دون أن تغادر إسرائيل كمئات الآلاف الذين غادروها إلى أوروبا أو أمريكا وباقي المنافي هربًا من جحيم وصفوه لهم بالفردوس، وهو النار المحرقة.

ملاحظات سجلتها أولاً بأول أثناء قراءتي لهذه الرواية:

. يا عمي هدا الكاتب عاملين زيطة حوله مش عارف ليش!
. أعتقد أن لا أحد يقرأه، يتناقلون عنه الكلام، هدا ما كان!
. "كانت أمك مصابة بمرض لا اسم له. كانت حلمتا ثدييها تلتهبان وتتساقطان حين يبدأ الطفل في الرضاعة منهما، فيموت الطفل من الجوع" البحث عن الغريب الشاذ المخالف للمألوف: وقبل هذا أم حسن التي تعرف يوم موتها، وقد عالجته الرواية كنوع من العرافة.
. بسبب الشاذ الغريب نذهب إلى شواذ اللغة.
. الغريب الشاذ المخالف للمألوف الخارق شطط هوس إسراف تبذير غرابة شذوذ هذيان خلط فوكنر هو ينفي.
. "أمك تتلوى ألما ولذة وهي تشعر بشفتيك تنهشان حليبها. أكاد أستمع إلى تنهداتها، وأرى اللذة التي تختمر في عينيها الثقيلتين الناعستين" أم! ألم ولذة لأم ترضع! أيعقل هذا؟ فرويد؟ هدا إلياس.
. "لا يحق لهذه الحكاية أن تتداخل بحكايتك التي تشبه الأساطير": تشبه الأساطير كيف؟ سيتدخل الكاتب.
. " أعرف أنك زهقت حكاياتي أنا أخبرك حكاياتك". اللغة الدارجة المستعملة سمجة غالبًا. زهق حكاياته عين الصواب.
. نقل بنقل عن أصحاب الحكايات الحقيقيين.
. عدنا إلى كنفاني وصاحبه الذي يمشي على الجمر. تتذكر دومًا أنك قرأت شيئًا من هذا في مكان ما.
. نموت ما نموت لايتموتيف مملة.
. موت يونس. الحديث عن الموت يشكل لازمة لأحاديثه (محط كلامه). نفهم لماذا "زهق" الآخر من حكاياته.
. الدكتور خليل أو إلياس خوري. سلطة الراوي الكلي العلم الكلي الوجود. لا يرينا بل ينقل لنا.
. لو تركه يحلم (هو في سبات، هو في كوما) لكان أفضل، لتحول الأسلوب من مباشر إلى لا مباشر، لحذف الممل والمضني، وأبقى على الجاذب والمشوق.
. يقول بيير جيرو تحليل الأحلام، الميثات، التيميّات، المركبات التحلينفسية... إلخ يسمح لنا بفهم الأهمية الخفية للخيال الكنائي بشكل أفضل.
. "لذلك اخترعوا التاريخ" من الذي يتكلم؟ إلياس يتدخل عن طريق الراوي، أو عن طريقه، يدفعه ليأخذ مكانه.
. أنا الآن في صفحة 25، القارئ يلهث من التعب، يموت من الملل.
. "كنت بطلاً وتضحك على الأبطال" دمّه تقيل، ما أبيخ دمّه، انه لا يشدك لا بصورة ولا بحدث ولا برمز (أتكلم عن الرمزية).
. أن تكرر "فلسطين" مائة ألف مرة هذا لا يعني أنك تكتب رواية عنها. أحيانًا لا تذكر فلسطين بالمرة، وتكون حاضرة بقوة في خيالك.
. "لا أحد يسيطر على الأرض ما دام سينتهي مدفونا فيها. الأرض تسيطر على الجميع وتأخذهم إليها" لماذا تكتفي بقول هذا، صفه لنا، وارسمه، واظهر لنا كل الدراما التي فيه.
. لغاية الآن ثرثرة على النيل.
. معلومات كثيرة في سطرين (صفحة 26).
. استطراد خروج عن الموضوع انحراف (بالنسبة إلى انحراف الشمس باب الشمس).
. يقول جاكوبسون نقلاً عن جيرو: تبعًا لعلاقات المجاورة التماس (مجاورة فضائية، معاصرة زمانية يقصد) يقوم الكاتب الواقعي بعمل استطرادات كنائية من الحبكة إلى الجو ومن الشخصيات إلى الإطار الفضائي_الزمني.
. "المرأة يا ابني جديدة دائمًا، رائحتها تدلك عليها" وإذا ما دفعتك هذه الرائحة إلى التفكير في الرائحة الأخرى يسقط جمال الدلالة في الاستعارة.
. إعادة لما سبق وقيل عن البسطاء الذين علمتهم الحياة.
. كتبت بالفرنسية: عدم إعادة تحديد المعايير التقليدية.
. "تضع اللكن على رأسها، وتنحني لتلتقط الأطفال في غابة الزيتون" أم سعد.
. معلومات كثيرة دفعة واحدة سنة 48 (صفحة 27).
. "أم حسن أخبرتني كل شيء عن فلسطين" طلّع روحي بفلسطين! كان من المفترض أن يفجر هذه الشخصية التي غدت كلاسيكية، ويجعل منها امرأة مجنونة كما فعلته أنا في روايتي بيروت تل أبيب، شخصية ضد_السائد. جنّت، فتصرفت لا كما يتصرف "العادي"، واجترحت كل "معجزات" الحرب، بغضبها على ابنها وحبها له، بثورتها على العالم، تصل إلى ما تصبو إليه: حماية الثورة من أعداء الثورة.
. "أعطتني غصنًا مليئًا بحبات البرتقال" كتاباتنا الأولى، كنفاني، رشاد، يحيى، رباح، أنا، هذه الكتابات التي أصبحت "مبتذلة" لتكرارها (عادل الأسطة يذهب إلى أبعد من ذلك بكثير في دراسته عن صورة اليهود عند هذا الكاتب، فيجد صدى لها لدى عشرات الكتاب الفلسطينيين وغير الفلسطينيين! تحية إلى صديقي الغالي على قلبي عادل).
. الوطن الوطن الوطن! لقد جرد الوطن من كل معنى سام لكثرة ما ألصقه في النص (الأسلوب الكولاج).
. "وطننا نحن" حتى وإن كانت النية صادقة لكنها غير مقنعة فنيًا.
. "كنت أظن الشعراء يكذبون حين يقولون إن الإنسان يعود إلى رحم الأرض" هدا إلياس.
. ترقيع إيديولوجي، خطاب ساد طويلاً لا يبعث فيه نفسًا جديدًا بل مكررًا. مقالات إلياس.
. حتى الصورة المبتكرة ليست مقنعة، تسعى لأن تكون جميلة.
. هنا تسييس للنص الروائي وليس العكس الوصول إلى روائية للنص السياسي، فتكون التقريرية، النبرة المباشرة، واللارمزية أو إعدام الترميز! ما أبيخه!
. "هل تذكر ماذا فعلت بعد استقالة عبد الناصر هام 67" سياسة.
. "لم أزعل" ومن قبل لم يبك على أم حسن، وظيفة هذا التناقض الوجداني لا تشحن النص بعبث الفاجع، باللامبالاة في الخطب.
. "وإذا مت هنا، حاولوا دفني هناك" هذه عبارة كانت تردد كثيرًا غداة النكبة أما اليوم؟ إنه لا يضعنا في جو زمن النص من جواه، لهذا يأتي قول كهذا من خارج الزمن السردي ليبدو شاذًا.
. "أصحيح أن الطفل حديث الولادة يكون سعيدًا" أسئلة كثيرة تعسفية أقرب إلى أسئلة الكاتب.
. "لا، ليس قتل الأب، كما يقولون في علم النفس" كتير! ومن قبل المتنبي، كتير!!! في آخر الفصل أبو جهاد، عبد الوهاب، وفيروز، أكتر من كتير!!!
. يكفيك أن تقرأ الجملة الأولى من كل فقرة لتفهم ما يود قوله، وتكمل هذه الرواية الضخمة في ساعة واحدة.
. "أنت أخبرتني عن غسان كنفاني, قلت انه جاءك بتوصية من الحكيم جورج حبش كي تخبره قصتك ويكتبها" مش معقول! كتبت بالفرنسية: هذا فظيع!
. "وأريد أن أؤكد لك أن كنفاني لو لم يقتله الإسرائيليون عام 1971"" هدا حاطط غسان كنفاني قدامه وقاعد!!
. جيرو: في الأسلوب المباشر ينتج المعبّر قول معبر ثان: أنا (أنت، هو) أقول: أنا (أنت، هو) جائع، أخرج! أنا أخرج! إلخ. ليس هنا إذن شيء آخر غير الجملة العادية التكهنية أو التعبيرية التي فيها يضطلع المعبّر الحاضر بقول (بصوت) معبّر غائب (يونس الذي يتكلم باسمه خليل)، الذي يمكن أن يكون هو نفسه.
. جيرو: في الواقع يتميز الأسلوب المباشر بافتراضات تعبيرية، وهو يسمح للمعبّر بالتعبير عن مشاعر وأحكام تقويمية (أنا مع الأسلوب غير المباشر).
. "الحقيقة يا سيدي إن نظرياتك حول الكهولة خاطئة، فالمسألة ليست في العيون والأسنان، إنها في الرائحة" له له له!!!
. "وفي تلك الأيام، في تموز 1968، وصل الأميركيون إلى القمر، ومشى أرمسترونغ على صفحته البيضاء" 1968 كتير! مش معقول!
. بارت: انتشار الوقائع السياسية والاجتماعية في حقل وعي الأدب أنتج كتابة "مناضلة" محررة تمامًا من الأسلوب (انتبه! لبارت هناك كتابة=قيمة لا قدر لها ومنتقصة وأسلوب=في معناه الجديد هو تعبيرية اللغويين) ومثل الكلام المهني للحاضر.
. جبرا إبراهيم جبرا صفحة 99. تاني!
. أم حسن عندما تعود إلى القرية المرحلين عنها وتسحب الطفل الذي نسته أمه من بين يدي اليهود، حكاية جميلة، لماذا يعلق "لا تعتقد أم حسن قامت بعمل خارق"، لماذا لا يترك التعليق لنا؟ لماذا لا ينفك يتدخل؟
. حكاية لصق حكاية، نعرف الخط الفاصل بين حكاية إلياس وحكايات الناس، إذن لا سيولة لا انسيابية هناك بل تعدد رواة وتعدد أساليب من دون تواشج (ما دعوته بالتشظي).
. "وشعر أسود يتلوّن بالشيب" للشيب لون واحد!
. "وقالت أم حسن، كما قال جميع الذين زاروا بيوتهم، كل شيء في مكانه، كل شيء بقي على حاله، حتى إبريق الفخار" يعيد ما نعرفه جميعا، ما قيل ألف مرة.
. حكاياته كلها مستهلكة.
. "قالت ماء أطيب من العسل" أم حسن أم أم سعد؟
. "لا يشربون إلا من القناني، مع أن مياه فلسطين أطيب مياه في العالم" نفس خط كنفاني، كان بإمكانه أن يقول هذا بشكل آخر.
. يتدخل الكاتب لأنه يبحث عن الإنساني عندهم قال!
. "روت ايللا دويك عن بيروت" الخط نفسه.
. "وأنا رجعت على الشحار والتعتير والفقر بهالمخيم" لغة مستهلكة لا تجديد فيها.
. الإنساني عندهم قال!
. عنصريون فيما بينهم.
. وهذه الحكاية العبرية من رواها له؟ هي أجمل من كل الحكايات الفلسطينية، مهارة الراوي تظهر هنا وهناك.
. يا الله يلعن سما... ما هذا التكرار الاجترار...
. المرح المستهلك، التواضع الكاذب، التكرار الهجين لما سبق وقيل!! النتيجة: النفور! عدم انتظار الحكاية القادمة بالشوق الذي كان مع حكايات شهرزاد.
. عقدة الشقراء، الجسد الأبيض، يقصد الأشكناز.
. "بكيت وقلت مستحيل، عدنان بطل، والأبطال لا يدخلون مستشفى المجانين. سحبت مسدسك وحاولت قتله" هذا حدث ضد السائد، منيح! ولكن...
. "اعبطوه وشموا رائحة فلسطين" استعارات أم كليشيهات؟
. "سحب يونس مسدسه وأطلق طلقة واحدة على رأس عدنان وصرخ: أعلنتك شهيدًا" الحدث جميل ولكن الباقي يخرب (يخرّي) كل شيء. لا يترك لنا المجال لحظة واحدة لنفكر لنتخذ موقفا على راحتنا، يتدخل!
. يحكي عن حرب أيلول 70، هل هذا إلياس الذي ذهب إلى عمان للانخراط في حركة فتح؟
. انفجار لبنان هو سبب لسبب آخر لا يقوله!! (انظر كتابي بالفرنسية: دفاعًا عن الشعب الفلسطيني كيف ولماذا فبركوا ياسر عرفات؟)
. "يجب أن نقول للعيب انه عيب" عنده حق لا عند الكاتب.
. "أما حين انقلب العالم بي في البرجاوي، وسقطت، فلم أنظر في الموت. احتلني الموت دون أن أدري، ولم أعرف أن أربعة من رفاقي قتلوا إلا في المستشفى. وحين عرفت أصابني خوف مجنون من أن أموت دون أن أعرف أنني ميت" هذه لقطات استثنائية في النص ولكن نادرة.
. "ليس صحيحًا أن الموتى لا يعرفون، فلو انتفت هذه المعرفة، لفقد الموت معناه، وصار مثل المنام، وحين يفقد الموت معناه، تفقد الحياة معناها، وندخل متاهة لا نخرج منها" أوف يا الله كتّرها! دبحنا بفلسفاته! هذا يدعى بالتهريج النصي!
. جيرو: رسامون دون رسم، شعراء دون قافية، مطربون دون صوت يعملون على إقصاء الكتابة التي تعود، من جهة أخرى، بعجلة، تحت شكل جديد متكلّف، لغيابها.

انتهت الملاحظات صفحة 144.


باريس 2007












توضيح لإدوارد سعيد


هذه الكلمة رد على حملة التشهير التي شنتها ضدي مخابرات العالم أجمع بعد مقالي الشهير عن إدوارد سعيد في عرب تايمز.

مع اعتذاري إلى البرابرة عن كل هذا الإزعاج
كان بودي إهمال الضجة التي أثارها مقالي حول كتاب "الاستشراق" لإدوارد سعيد، فهي زوبعة في فنجان لن تلبث أن تمضي، لولا التباس الأمر على الصديق أسامة فوزي عندما ظن على خطأ أني وضعت إدوارد سعيد وعبد الباري عطوان في صف واحد، وعندما غاب عنه ما أقصد إليه في السطر الأخير من المقال حين قلت إن "إدوارد سعيد لا يخرج عن السائد في الفكر الغربي، فيقوم باستغراب يخدم مصالح الغرب الرسمي".
وللتوضيح أقول إن زاوية رؤية التي أنشر فيها مقالاتي ليس من اختصاصها الحديث عن العملاء في الوطن العربي، وإنما عن الشعراء والأدباء والفنانين الذين يعيشون في عصر انحط ببعضهم إلى درك باعوا فيه إبداعاتهم وأخلاقهم ومبادئهم، وأنا إن تعرضت بالحديث لعميل مخضرم مثل عبد الباري عطوان يعلم حتى الطير من هو أو آخر مثل خيري منصور تفوح رائحة العفن من مسام مخه، فهذا لأني كنت أراهن على حماية مبدعين اثنين فلسطينيين، نعم إلياس خوري الذي جعل من فلسطين فلسطينه رغم كل المآخذ التي أخذتها عليه، ورشاد أبو شاور توأم روحي، فشلت أم نجحت هذا أمر آخر، أو هو بالأحرى أمرهما وأمر شرف الكلمة عليهما. إذن ليس من اختصاصي الحديث عن العملاء لغرض الحديث عنهم كما حصل مع كل الحكام العرب، ولكن لأنهم ـ يا محاسن الصدف ـ كلهم كذلك. وليس من اختصاصي "الردح" لأجل "الردح"، وإنما لتقويم الأخطاء وإثارة النقاش الحر والبناء من حول مسائل جوهرية تتعلق بذبحنا اليومي.

إدوارد سعيد لا يخرج عن السائد في الفكر الغربي، ليس هذا بحاجة إلى إثبات، يكفيك أن تقوم بجولة في إحدى المكتبات لتجد كل كتبه معروضة أمامك، وليس هذا مأخذًا عليه، إذ يصدف أن تجد في هذا السائد ما يرضيك، كتابًا لشومسكي مثلاً أو لسعيد. لكن مشكل سعيد يبقى في مكان آخر، مشكل سعيد الأساسي هو كيف يكتب دراسة قادرة على استيعاب تقنيات الغرب النقدية، أي التمثل بالغرب، دون أن يدعه ـ أي الغرب ـ التمثل به. كتابات شومسكي مثلاً، على الأقل كتاباته الأولى التي تؤسس للنحو التوليدي، صحن جاهز للفكر الغربي بينا كتابات سعيد يستعير منها الغرب ما يشاء، إن شاء إدوارد سعيد أم أبى. وعلى أي حال، كل كتابة، وليست كتابة إدوارد سعيد فقط، تشي بشيء آخر غير الذي يريده المؤلف. وهنا تكمن الخطورة في وقوع هذه الكتابة بأيد ليست أمينة كأيدي الطغمة في الغرب أو أي طغمة أخرى، وتكريسها لصالحها. هذا ما جرى مع كتاب "الاستشراق"، وليس بالقدر ذاته مع باقي كتبه التي تعالج مواضيع أخرى لا تخدم برامج سياسية أو اقتصادية كسيرته الذاتية مثلاً. ولئلا يلتبس الأمر على القارئ حينما قلت في مقالي "يقوم باستغراب يخدم مصالح الغرب"، يجدر بي أن أحدد فيما يخص "مواضيع تخدم برامج" أنه ليس هو الذي يجعلها تخدم، وإنما هم الذين يجعلونها تخدم، حتى أنهم لا يترددون لحظة واحدة عن شطب ما لا يناسبهم، وأخذ ما يناسبهم لخدمة هذه البرامج دومًا. هذا ما حصل على سبيل المثال مع إدوارد سعيد في مقال له نشرته جريدة لوموند دبلوماتيك في طبعتها الأخيرة من شهر يوليو 2005 صفحة 10، وهذا ما يجري مع كل كتاب يُرَوَّجُ من خلاله (أُلح على قول إن شاء المؤلف أم أبى) لكل مشروع استغرابي أو استشراقي. بالطبع، لتفادي ذلك، على المؤلف أن يعي تمامًا خطورة الأدوات التي يستعملها، ولم تكن هذه حال إدوارد سعيد مع الأسف، من هنا جاء نقدي الحامض له. هذا لا يعني أبدًا أنني جعلت من إدوارد عميلاً للغرب ـ مسكين ايش خصه ـ ووضعته في صف واحد وعطوان أو حتى سميح ومحمود وهذا الأخير، كما أني عند نقدي لكتاب الواحد أو انتقادي لسلوك الآخر أرمي إلى زعزعة المفاهيم السائدة طوال عصور وعصور من القهر والاستعباد والاستلاب الثقافي والاجتماعي والاقتصادي، الوجودي بكل بساطة، وبسبب هذه المفاهيم هم يسودون على مخنا قبل أن يسودوا على دمنا وثرواتنا (هل أجبت على سؤالك يا أعز قارئ رقم 49 الذي يصرخ في تعليقه ما هذه الهستيريا الجماعية؟ ويسأل إن كان إدوارد سعيد غيّر من بؤسنا الألفي شيئًا؟)، نعم زعزعة المفاهيم، تحطيم الأيقونات، إحراق الدمى، لكنها قوة التحريف فيما يخص إدوارد سعيد وقوة التحوير فيما يخصني التي يلجأ إليها خصمك أو من لا يفهمك، والتي تحول ـ مؤقتًا ـ دون ذلك.

هذه الهستيريا الجماعية، هذه الشيزوفرينيا الجماعية، هذه الشيطانية الجهنمية الجماعية، هؤلاء الذئاب، المغول، البرابرة، ليسوا قراء عرب تايمز، وليسوا قرائي، بعض العاطفيين منهم أو المغرر بهم ربما، ولكنهم في معظمهم عملاء كل المخابرات في العالم، لا أقول في العالم العربي، بل في العالم، لأني من هذا المنبر زلزلت العالم تحت أقدامهم، إعلاميًا بكل التغلغل الإعلامي واجتياح الأدمغة منذ طه حسين إلى الجزيرة، وسياسيًا بكل العمالة والسقوط في أوحال الاغتصاب اليومي لمقدراتنا، ليس عمالة وسقوط نزلاء مراحيض رام الله فقط ولكن نزلاء مراحيض كل العواصم العربية أيضًا، وكنت على وشك الحديث لا كما يجري الحديث عن نزلاء مراحيض واشنطن (انظر نهاية مقالي عن "الاستشراق" المذيل برؤية قادمة عن جورج دبليو بوش حفيد ليو ستراوس)، الحديث والاستنهاض ورص الصفوف. لقد عادت بي هذه الأجواء الغريبة إلى ظلامية القرون الوسطى وابن رشد ومحاكم التفتيش دون أن يجري الحديث أبدًا عن مقالي، مناقشته، تفنيده، دحضه، وإنما التهجم عليّ وعلى ماضيّ الثقافي والتشكيك بوضعي المهني والعلمي. حتى أن عصابة واحد مثل كمال أبي ديب يعتبر نفسه عالمًا وعلاّمة قد أخذت على عاتقها مهمة إسقاطه في مزبلة النقد العربي، وكان أجدى به أن يدير حلقة للنقاش ـ يا سيدي حتى لو كنت واحدًا من تلامذتك الأميين ـ ويرفض ما جرى. إدوارد سعيد لو كان حيًا لرفض ما جرى، لما قَبِلت بالذي جرى قيمُه العليا وأخلاقه، لكنّ أبا ديب من النوع الذي ما أن تنتقده بتُفاهة حتى يأخذ بالرقص، وكأنك زلزلت الأرض تحت قدميه. أما الشامتون ممن نقدتُ فأحسنتُ، وفي مقدمتهم محمود درويش الذي تؤكد "يومياته" الأخيرة ما قلته فيه حيث بعوض عمان وذبابها هما البطل عنده كما صارت عند يفتوشينكو جرذان موسكو، فكأنهم يردّون إلى أنفسهم بضاعتهم، ويثبتون صحة كلامي فيهم.

يا من تظنون أنكم دافعتم عن إدوارد سعيد، إدوارد سعيد يرفضكم، وكل كتاباته ما كانت إلا لأنه لا يريدكم!

أحقا أنتم الأمين على تراثه؟ ورثته الشرعيون؟ إن كنتم كذلك تجدونه الآن يبكي منكم، ويبكي عليّ!

لن تكون لي رؤية قادمة من هذا المنبر (منبر عرب تايمز)

علينا أن نُثبِت وجودنا في معارك الأفكار إذا أردنا أن نَثبَت في معارك الوجود!

مع تحيتي لكل قارئ نزيه...





إدوارد سعيد

كانت دهشتي كبيرة، وأنا أقرأ في مقدمة كمال أبي ديب لكتاب إدوارد سعيد "الاستشراق"، أن هذا الكتاب يمثل "جزءًا من ثورة جديدة في الدراسات الإنسانية"، فعدا عن عدم التحديد العلمي لمصطلح "دراسات إنسانية" الذي لا معنى له إذ يجدر القول "دراسات العلوم الإنسانية" هناك مغالاة دأب عليها المستغربون العرب الذين كمال أبو ديب واحد منهم عندما يتعلق الأمر بزميل لهم يسلط الغرب الضوء عليه على الرغم من نقده الحاد له! ونجده يعزو هذه "الثورة الجديدة" إلى انتساب إدوارد سعيد إلى أعمال ميشيل فوكو، مثله الأعلى بالطبع كمستغرب، وهي لهذا "ثورة" و "جديدة"، على الرغم من أن هذا الكاتب الأمريكي من أصل فلسطيني ينفي ذلك (ص 56)، وأن قراءة سريعة لكتابه تكفي للوقوف على الوضعية المنطقية كمنهج في التحليل إلى جانب استخدامه ـ هذا كل ما فعله ـ للمنطوقات عند فوكو، بمعنى للعلاقات التي تربط بين كتابة وكتابة، ندعوها ممارسات خطابية، لهذا الكاتب أو ذاك حول موضوع محدد هو هنا "الاستشراق" في فترة محددة.
لا أريد أن أتمهل عند نرجسية كمال أبي ديب وتعاظمه كمترجم لكتاب "الاستشراق" عندما يلحق سيرته الذاتية بسيرة إدوارد سعيد ( لأول مرة في تاريخ الترجمة يسلط المترجم الضوء على أصله وفصله ماذا شغل وماذا فعل!) ولا إلى مقدمته التي يعيد فيها ما يقوله إدوارد سعيد ناسبًا إياه لنفسه، فينتحل أفكار الكاتب الذي ترجمه ومواقفه بل هو والكاتب يتماهيان، ولسان حاله يقول كل عظيم من ورائه عظيم! كما أنني لا أريد أن أدحض مفرداته مقابل مفردات رسخت في الوعي، فتشاطر، وغيّرها، وهمه على ما يبدو "الابتكار" (إنشاء بدلاً من خطاب، جغراسي بدلاً من جيوبوليتيكي، فو ـ سياسي بدلاً من فوق ـ سياسي، اليهو ـ سيحية بدلاً من اليهودية ـ المسيحية... الخ)، لكني لن أتردد عن تأكيد رداءة الترجمة، إنها الترجمة بالنسخ، أي شبه ترجمة لا ترجمة، فبدلاً من أن يفسر معنى النص من أجل التعبير عنه، تمسّك بخصوصياته الشكلية، فأبهم، وأساء.
الاستشراق، إدوارد سعيد، لماذا؟
أنا الوحيد الذي استقبل كتاب هذا الشخص بحذر، ونظر بتحسب إلى شخصيته الفردية (ادعاء، خيلاء، عجرفة) والفكرية (من داخل الفكر السائد في الغرب وإن وقف على يساره).
أنا الوحيد الذي رأى في هذا الكتاب الصادر سنة 1978 في نيويورك أداة دعائية في يد الغرب الرسمي، واحدة من أدواته، مهّد بها منذ ذلك الوقت البعيد، منذ ثلاثين سنة، لغزو الشرق ثقافيًا فسياسيًا وعسكريًا (يصرخ الغرب الرسمي:نعم، هذا نحن، وهذا أنتم، تماما كما جاء في هذا الكتاب، وكما جاء في هذا الكتاب، نحن من ينتجكم، ونحن من يستهلككم).
أنا الوحيد الذي كتب للمؤلف مفندًا كل ما جاء في الكتاب دون أن أنال منه ردًا بينما استجاب إلى دعوة سريعة من البيت الأبيض.
هناك استشراق واستشراق، استشراق سياسي يركز عليه إدوارد سعيد، واستشراق إنساني يشير إليه من وقت إلى آخر دون أن يعيره أدنى اهتمام، حتى أنه يذهب إلى حد "بتر الشرق والغرب بترًا كاملاً" ص 60، مطلب من المحال تحقيقه إلا في ذهن الكاتب حين يغيّب العلاقات الإنسانية الكونية التي من الطبيعي أن تفرض وجودها على العالمين. الاستشراق السياسي كما نفهمه نحن هو بالأحرى برنامج استعمارنا ككل برنامج استعماري آخر، الخصوصية الاستشراقية فيه التي يطرحها إدوارد سعيد ككارثة (يقول المصالح الكلية التي يكون فيها الشرق كمكان عجيب موضعًا للنقاش ص 39) شيء طبيعي في هذا البرنامج لتركيعنا، وما عدا ذلك، فتفلسف يبقى يدور في مجال البنى الفوقية للمعرفة. أما الاستشراق الإنساني أو الاستعراب كما يحلو للمستشرقين الذين عرفتهم تسميته (جاك بيرك الذي ترجم القرآن أحسن ترجمة، أندريه ميكيل الذي كتب موسوعته عن الجغرافيين العرب لا كأي واحد من العرب وأبدع كما لم يبدع أحد، دانيال ريج صانع القواميس وحفيد سندباد الذي حلله كما حلل ودافع عن ابن باجة من قبله ولم يدخر وُسعًا...)، وهذا الاستشراف الاستشراقي كما يحلو لي أن أسميه لدى كُتّاب عظام مثل خورخي لويس بورخيس، الأرجنتيني، ولكن الذي يعتبر نفسه الوارث الشرعي لألفي عام من الحضارة الغربية، والذي يرى في "ألف ليلة وليلة" أجمل عنوان لكتاب كتبه إنسان محاكيًا إياه في كل كتاباته والغرب كله معه، يحاول الغرب الرسمي تهميشه إن لم يكن طمسه، وقد ساهم إدوارد سعيد في تهميشه وطمسه، باعترافه هو: "لكن، ختامًا، ماذا عن بديل ما للاستشراق؟ هل هذا الكتاب منظومة تتخذ موقفًا ضد شيء ما وحسب دون اتخاذ موقف لصالح شيء آخر إيجابي؟" ص 322 ويبرر لعدم البديل وانعدام الموقف حينما يعترف أن مشروعه جاء لوصف نظام معين من الأفكار لا لإزاحته وإحلال نظام جديد محله. وهذا بالضبط ما نريده، أن يرينا كيف يتم إحلال نظام جديد محل النظام الإمبريالي الاستهلاكي الذي لا الشرق وحده يعاني منه بما أن الشرق، العربي، عنصر واحد من عناصره، وعلى عكس ما يحاول هذا الكتاب إظهاره ص 39 لم تكتسب الثقافة الغربية المزيد من القوة ووضوح الهوية بوضع نفسها موضع التضاد مع الشرق باعتباره ذاتًا بديلة، فالضعف الثقافي عام يعبر عنه في أقصى حالاته بؤسًا ما يدعى بالتلفزيون المزبلة مقابل الاستشراق المزبلة في السياق الذي نحن فيه وغموض الهوية بل فقدانها بكل بساطة في عصر التجميع والعلمنة. إنه لا يرينا كما أنه لا يفحمنا ببدائل لا باستيهامات، الاستشراق واحد منها، فجاء وصفه أحاديًا، وصف تملأه الكتب السابقة عليه، وكان التعميم منذ البداية ديدنَهُ، الغرب كتلة متراصة واحدة، والشرق كتلة متراصة واحدة.
أنا لا يهمني كيف الشرق "شُرقن" من طرف الغرب أو كيف الشرق "شَرقن" نفسه ص 322، وإنما كيف كان الموقف الشرقي من الغرب ـ لا أقصد الاستغراب (كالاستشراق) كاستيهامات تختبئ من ورائها السلطة وقوة السلطة وقمعها ونهبها ونفوذها وعهرها باختصار أخطبوطيتها وإنما المقاومة. لهذا ـ أُلِحّ ـ هذا الكتاب هُلل له في الغرب لأنه يؤكد ما يريده شرقًا، والناحية التي ربما تبدو نقدية فيه تنتمي إلى ديماغوجية مذهلة أو إلى نقد من داخل النظام الغربي الرسمي الذي لن يلبث أن يذهب إلى استيعاب كل ما هو "نقدي". وعلى شاكلة لين وجيب وماسينيون وغيرهم من المستشرقين كما يقول إدوارد سعيد نفسه ص 56 وص 291 نجده يعيد هنا إنتاج قرنين من الاستشراق في أقل من 400 صفحة مقدمًا بذلك سلطته المرجعية خدمة للسلطة المسيطرة في الغرب بشكل لا يصدق، وهو عندما يعتبر نفسه "موضوعًا شرقيًا" ص 58 فما هذا سوى ادعاء فاضح من طرف خريج هارفارد! الموضوع الشرقي هو الشعوب العربية الإسلامية المعذبة التي لم يتكلم عنها أبدًا هذا الكتاب، عن آمالها، طموحاتها، إراداتها، وإن تكلم فعن طريق كليشيهات جاءت من الغرب مستهلكة. لا يكفي أن يقول درست "كغربي" ص 58 وكتبت "كشرقي" ص 58 ولكن كيف كتبت؟ النية شيء والواقع شيء آخر، مقاربته للموضوع وطريقة عرضه، وهذا راجع إلى وعي إدوارد سعيد وانتمائه الفكري المتردد بين إنسانوية مثالية ويساروية نخبوية، لهذا جاءت كتابته عن الشرق "استغرابية"، أي لموقع وموقف غربيين.
لنكن صريحين، أي موقف ننتظره من سلطة أيًا كانت تجد نفسها في موقع القوة؟ اليوم الاستشراق الرسمي فيما يخصنا، والأمس "الاستعجام" الرسمي فيما يخص غيرنا، يبقى المشكل ذاته عندما يكون سياسيًا دافعه الإخضاع والسيطرة، مع فروق جذرية فيما يخص الدولة العربية الإسلامية حينما دخلت الشعوب المغلوبة على أمرها الإسلام، وتماهت ومؤسساته، حتى أن هذا التماهي لم يكن دائمًا ضمانة الحاكم أمام الظلم، فقامت حركات اجتماعية سرعان ما تحولت إلى ثورات قومية قمعت بعنف. وفيما يخص الاستشراق الأمريكي اليوم باتجاهنا يمكننا أن نكتب عن "الاستهناد" أمس باتجاه الهنود الحمر، والاستهواد باتجاه اليهود قبل أن يحتلوا فلسطين ويحيلوا الفلسطينيين إلى يهود بعد أن اغتصبوا أرضهم وسلبوا هويتهم، والاستلمان فيما يخص الفرنسيين باتجاه ألمانيا أو الاستفرانس فيما يخص الألمان باتجاه فرنسا، حتى أن الصراعات في البلد الواحد مثل الجزائر يمكن أن تؤدي إلى الاستعراب فيما يخص البربر والاستبرار فيما يخص العرب، وحتى مع الحيوانات باتجاه بعضها هناك الاستذآب، الاستكلاب، الاستحمار، بشيء من التخصص، أما الهدف الإيديولوجي، فسيظل واحدًا: هيمنة طرف على طرف وتسلط الواحد على الآخر.
ولنبتعد أكثر حينما نقول إن الغرب الرسمي يقوم بعملية استغراب هي من الخسة لم يسبق لها مثيل ضد شعوبه ليحسن إحكام قبضته عليها قبل أن يحكم قبضته علينا! "أنا أفكر فأنا إذاً موجود" قول ديكارت قد تحول إلى "أنا أفكر فأنا إذاً غير موجود"، دليل إعدام الإنسان في الغرب قبل الشرق للهيمنة على الشرق والغرب.
إذن لماذا كتب هذا الكتاب؟
لمن كتب هذا الكتاب؟
لحلقة المستشرقين الجدد ص 57، إدوارد سعيد يكتب لحلقة ومن داخل حلقة (اقرأ التنويهات والإهداء لإبراهيم أبي لغد وزوجته)، فلن تكون هناك بدائل ولا حلول وإنما تعميق الهوة بين الشرق مع ثرواته والغرب مع طمعه في هذه الثروات لا بترها ص 60 كما يتمنى الكاتب، لأن كتابه لم يمنع احتلال العراق، ولم يرفع إذلال الحكام النكرات العرب عن العرب، ولم يحرر فلسطين من الاستعمارين الإسرائيلي والعباسي، بل على العكس، استطاع الاستشراق السياسي تحويل القضية الفلسطينية من قضية تحرير إلى قضية شحاذين! وسيأخذ الاستشراق كإيديولوجيا وبرنامج استعماري قديم جديد على عاتقه مهمة ذلك، طالما بقيت هناك مصالح اقتصادية وسياسية للطغمة في الغرب في هذا الشرق الذي "يرفل" في الانحطاط.
ما هي الفائدة إذن التي جاء بها هذا الكتاب للشرق المضطهَد، للشرقي المستنزَف؟ صفر! للغرب السلطوي وللغربي الدائر في فلكه؟ كل الفائدة. كتاب لن يقرأه حتى نهايته عشرة أشخاص من عندنا، ولن يفهمه اثنان منا! بغض الطرف عن الترجمة الرديئة، ولربما بسبب صعوبته كانت الترجمة رديئة، فالحشد الهائل من الأسماء يديخ، ومئات المراجع تشل! وأنا أقرأه كنت أرى طلبته، وهم يقرأون عنه، ويلخصون له، وليس هذا عيبًا، فكل أساتذة الجامعات الذين ليس لديهم وقت فراغ يلجأون إلى ذلك، وأنا أولهم، ولكن أن تذكر ألف مرجع ومرجع لا لشيء، وإنما لتبهر، وتقول عن نفسك "موسوعي"، فهذا مرفوض بل مذموم. أضف إلى ذلك تصدمنا "الجزالة" في نصه لدرجة نتساءل فيها عن فائدة كل تلك الجمل المتسلسلة التي لا تنتهي، كل ذلك الإطناب، الإسهاب، الإسهال، الاسترسال، التكرار، الفذلكة اللغوية، الفهلوة المفرداتية، الشعوذة الخطابية، حشد المعلومات، مجانيتها، وأحيانًا سذاجتها، فماذا تنتظر من عدوك أن يقول عنك غير ما هو كاريكاتوري غرائبي وغريب؟ إنه يختار من النصوص ما يوافق أو بالأحرى ما يثبت أطروحته، النصوص الأكثر تقززًا، ولا يترك النص يتكلم كما هو حاله عند فوكو بل يجعله يقول ما يريد هو قوله، فمثلاً عندما يأتي بقول ماركس "إنهم عاجزون عن تمثيل أنفسهم، ينبغي أن يُمَثَّلوا" ص 54 "عن الشرق المسكين" ص 54 يشوه ماركس، ويحرّفه في هذا الموضع، لأنه لم يقل أن يمثلوا على الطريقة الأمريكية (المحو الكلي لموضوع التمثيل والإحلال بالقوة محله)، في مفهوم ماركس جاء التمثيل هنا دفاعًا عن مصالح الناس الحيوية وليس استغلالاً لهذه المصالح من أجل مصلحة واحدة: الليبرالية الغربية. وفي معنى إدوارد سعيد، صحيح ما يقوله ماركس، لأن وراء هذا "الشرق المسكين" انحطاطًا ألفيًا ألغى الهوية إن لم يلغنا نحن بكل بساطة. إذن هناك رؤى للعالم ووعي بالواقع يختلف من واحد إلى آخر في الزمن الواحد وفي كل الأزمان، وهذا ليس عن الشرق فقط، وإنما عن كل شيء، وفيما يخص ليس الكاتب في الغرب فقط، وإنما كل كاتب. الشيء نفسه بخصوص الصور المنتزعة من سياقاتها لدى فلوبير ونيرفال وشاتوبريان "طريقة لوصف موقع المؤلف في نص ما بالنسبة للمادة الشرقية التي يكتب عنها" ص 53 بالطبع يخطئ حينما يقول "موقع" ولا يقول "موقف"، وكما قال عن ماركس يقول عن فلوبير الذي أعرفه تمام المعرفة، وكتبت "مدام ميرابيل" كما كتب "مدام بوفاري"، إنه لم يترك "محظيته المصرية التحدث عن نفسها أبدًا، ولم تمثل مشاعرها، وحضورها، وتاريخها أبدًا، بل قام هو بالحديث عنها، وبتمثيلها" ص 41 مدام بوفاري أيضا يتكلم باسمها، وأنا أتكلم باسم مدام ميرابيل التي هي فلسطين بالنسبة لي دون أن ألفظ كلمة واحدة عن فلسطين، فهل يعني هذا أنه كان (أو أنني كنت) "أجنبيًا ـ بالنسبة لها ـ وغنيًا، وذكرًا، وكانت هذه الخصائص حقائق تاريخية من حقائق السيطرة… والامتلاك… والتحدث باسم الآخر…" ص 41 إنها بالأحرى حقائق سردية تعود بكل بساطة إلى التيار الطبيعي في الرواية الذي ينتسب إليه فلوبير، وهذا الموقف الإيديولوجي ـ موقف فلوبير ـ من شخصيته أملته عليه الشخصية نفسها في نص غير برئ حقًا، ولكنه لا يوجب التجريد أو التعميم المطلق في معناه، وخاصة لا يعطي حق التأويل للناقد من خارج النص المنقود، يطري أو يذم، يطري إلياس خوري ككتابة منحطة تعيد إنتاج غسان كنفاني وأدب السبعينات أو ترقى بالخطاب السلطوي الذي يمثله ياسر عرفات إلى أعلى الدرجات، ويذم نيرفال حين اغتصابه للنص، ليضطر النص إلى قول ما يريد الناقد قوله خدمة لموضوعه، نيرفال في رحلته المشرقية حيث انصباب الحلم في الواقع والماضي في الحياة الحاضرة، والذي مهد لبودلير وللسريالية في سبرهما للاوعي. ومن جديد الأسماء، آلاف الأسماء، وكأنه يكتب لنفسه مستعرضًا عضلاته المعرفية، أسماء مما تعرف وغالبًا مما لا تعرف، ليصدمك "بموسوعيته" ويزدريك! وإذا ما وضعنا جانبًا هذا التطام الشكلي في هذا الكتاب، التأويل لا التفنيد، الإسقاط لا التفسير، اللاسياق المعرفي للدلالة، البتر العضوي للقول، التدخل النسقي للكاتب، الكتابة كنوع من التسافد، ونظرنا إلى آلية رؤية إدوارد سعيد للعالم، فكره، منهجه، نجده ينفث في جثة الاستشراق نفسًا جديدًا، ويلبسه ثوبًا جديدًا ليعود إلى لعب الدور المعد له من داخل النظام السياسي الثقافي الاقتصادي التابع له، بمعنى أنه ـ كما يقول غرامشي المثل الأعلى الجمالي لإدوارد سعيد ص 49 ـ يعيد إنتاج الاستشراق، ويرقى بالخطاب الليبرالي الذي يمثله "اليسار" في الغرب إلى أعلى الدرجات. ونحن، عند مقاربتنا له، فمن موضع له في الثقافة الأمريكية، الإمبريالية المنتجة لأدبها، وأنا شخصيًا كدارس له ولهذا الأدب، وليس كأي دارس، كدارس ينتمي إلى البنية الفكرية النقيض، يمكنني أن أرى في كتاباته ما لا يراه غيري، كتابات تلقي الضوء على نمط في الممارسة والتفكير.
إدوارد سعيد لا يخرج عن السائد في الفكر الغربي، فيقوم "باستغراب" من حيث لا يدري يخدم مصالح الغرب الرسمي، وبسبب ذلك طبل الغرب لهذا الكتاب وزمر، واعتبره "الكتاب المقدس" للغرب عن الشرق!


باريس 2997



























محمود درويش يكتب عن بعوض عمان ومثل أدونيس يساوي بين قتلانا وقتلى الأعداء

أما آن لهذا الشاعر أن يكتب الرواية؟
تجيب الجوائز، ونحن، لمن يعطينا حكامكم؟ ليعطكِ حكامنا لغيره، فلا نخسره مرتين. هم أخذوا لهم الشاعر الذي فيه، فليتركوا لنا الروائي الذي فينا.
بعد قراءتي على إنترنت (موقع وطن/أميركا) لمقتطفات من ديوانه الأخير "أثر الفراشة"، أدركت تمامًا أن الحدث في الواقع أقوى من القصيدة في الشعر، وأن القصيدة هنا نتفة من حدث يبقى ناقصًا، يطالب بالمزيد من شاعر مقيد بسلاسل التقنية.
النفَس الملحمي، الذي للشاعر باع طويل فيه، يختنق بعد عدة أبيات لا تتجاوز أحيانًا عدد أصابع اليد إلا بقليل، والفكرة تُقضم لديه قضمًا، ولا تأخذ مداها في فكرِه. هذا الفكر، وذاك النفَس، إذا ما أضفنا إليهما الحوار كأداة قديمة ـ جديدة، تكون قد توفرت لديه العناصر الثلاثة من أجل كتابة الرواية. لِمَ كل هذا التردد إذن، وزمن ما ـ بعد الحداثة يلهث على أعتاب الحدث، فلا عودة القصيدة إليه تفي بالمطلوب منها، ولا القصة القصيرة تعانق الذات فيه، وتبقى الأولى كالثانية تعوم على سطحه؟
ربما يكمن الجواب في قصيدة "طباق" التي يهديها محمود درويش إلى إدوارد سعيد عندما يقول "المفكر يكبح سرد الروائي/والفيلسوف يشرّح ورد المعنى" في حديثه عن صديقه، وهذا صحيح نوعًا ما، ففي كل روائي مفكر، وليس بالضرورة في كل مفكر روائي. ونحن، في الحالة التي ندرسها، هل نقول في كل روائي شاعر، وليس في كل شاعر روائي؟ من الملاحظ أن في كل قصيدة مشروع معنى يسعى الشاعر إلى بنائه، والشاعر الذي فيه روائي لهو قادر على الذهاب بعيدًا بهذا المشروع إلى ما وراء القصيدة، فهل خلا محمود درويش من الروائي الذي فيه؟ لا أعتقد ذلك، هذا يعني أنه قادر على الرواية التي أطالبه بكتابتها، وهو حتمًا سيستجيب لمطلبي هذا مثلما استجاب لمطلبي ذاك يوم كان في السلطة، يرى ما يرى، ويسمع ما يسمع، ويظل أخرس، لا يفوه بكلمة واحدة في نقدها، فخرج عن صمته، وكتب قصيدته الشهيرة عن أبي عبد الله الصغير.
ماذا عن "أثر الفراشة"؟
"بينا كانت تمسك بالغيم توقفت اليد البيضاء فجأة فوق شوارع خارجية وهي تقوم بحركات كبيرة تعبة تذهب بالروح إلى مِنطقة من الأوباء والأعلام".
هنا نحن نقرأ لأول مرة في العالم العربي أول مقطع من أول قصيدة سريالية نثرية نقلها آراغون بداية القرن الماضي.
"على شاطئ البحر بنت. وللبنت أهل وللأهل بيت. وللبيت نافذتان وباب... وفي البحر بارجة تتسلى بصيد المشاة على شاطئ البحر: أربعة، خمسة، سبعة يسقطون على الرمل، والبنت تنجو قليلاً لأن يدًا من ضباب يدًا ما إلهية أسعفتها، فنادت: أبي يا أبي!"
وهنا نحن نقرأ بداية "البنت/الصرخة" قصيدة كتبها محمود درويش أول هذا القرن، والذي يعيد فيها عن غير قصد منه إلى حقل استعاراته، مائة سنة فيما بعد، صورة اليد الضبابية. هي صدفة وليست صدفة، لأن التمثل يؤدي إلى التماثل. ويبدو التماثل أكثر بين الروح التي تذهب بها اليد الضبابية والبنت التي تسعفها اليد نفسها، وإن ألقت الأولى والثانية في فضاءٍ معادٍ حيث القتل والأوباء. هو فضاء واحد في القصيدتين، لأن التمثل، من ناحية ثانية، لا يؤدي فقط إلى التماثل، ولكن أيضًا إلى التطابق.
"نثر وشعر يستخدمان الكلمات نفسها، التراكيب النحوية نفسها، الأشكال نفسها، والأصوات أو الأجراس نفسها، ولكن تم تناسقها بشكل مختلف، وتمت إثارتها بشكل مختلف". كتاب "اللغة الشعرية من الألسنية إلى منطق القصيدة" لدانيال بريوليه منشورات ناتان باريس 1984.
نحن نقرأ هنا ما يقوله فاليري في وصف النثر والشعر تحت شرط التماثل والاختلاف، ويمهد في الوقت ذاته إلى القصيدة النثرية كمزيج من هذا وذاك، روح "أثر الفراشة" الذي يذيله الشاعر بكلمة "يوميات" هو كذلك، مزيج من هذا وذاك، فيتماثل ـ إن أحسنا القول ـ التماثل والاختلاف بعد أن تمثل القائل بقول فاليري.
هل يمكن أن نعزو ذلك إلى صفة القصيدة النثرية أم إلى صفة الكلام؟ للغة العربية خصائصها كما للغة الفرنسية، ومن هذه الناحية لا تماثل بينهما إلا فيما تلقيه صدف التمثل، أما فيما يخص خصائص القصيدة النثرية أيًا كانت اللغة التي تكتب فيها، تبقى الخصائص هي الخصائص، فالتقنية واحدة، بمعنى أن التماثل واحد، والاختلاف فيها هو تماثل في آخر المطاف.
استنتاج:
من الناحية التقنية، لا جديد في هذه القصائد، بالمقارنة مع أخرى، حتى مع تلك التي كتبت بلغة أخرى في أوائل القرن الماضي.
تبقى الناحية الكلامية، وما يهمنا وظائف الكلام، فهل من جديد في هذه اليوميات؟
لجاكوبسون وظائف الكلام ستة: تعبيرية، مرجعية، شعرية، قولية، محاولاتية، وتقعيدية لغوية. سأركز على اثنتين، المرجعية والتعبيرية، وسأترك بقية الوظائف لدراسة أخرى.
لماذا الوظيفة المرجعية؟ لأن القصائد/اليوميات مرجعها السياق، وبكلام آخر عالم الأشخاص والأشياء التي تلخص عالم الشاعر، ما يُرجع إليه أو ما تَرجع إليه الإشارة اللغوية. في البنت/الصرخة المرجع هو البنت التي قتل الجنود الإسرائيليون أفراد أسرتها وهم يتشمسون على الشاطئ، في ذباب أخضر المرجع هو الطائرات الهوائية الإسرائيلية ذات المرمى التي تَغير فتقتل من تقتل وتوابيت القتلى، في كقصيدة نثرية المرجع هو الشاعر المريض الذي خفت حماسته وراح يمشي بلا هدف، في ليتني حجر المرجع هو الشاعر الذي لا يحن إلى أي شيء، في أبعد من التماهي المرجع هو الشاعر الجالس أمام التلفزيون، في العدوّ المرجع هو القتلى/الشهداء، في نيرون المرجع هو نيرون، في الغابة المرجع هو صوت الشاعر، في البيت قتيلاً المرجع هو البيت الذي نسفه جنود الاحتلال... إلى آخره.
استنتاج:
من الملاحظ أن مراجع الشاعر كلها واقعية حقيقية، وهذه هي صفة اليوميات، وهي تتراوح بين أن تكون يومياته أو يوميات الناس، لنقل بين أنا وهم، حتى عندما يلجأ إلى الترميز في قصيدة نيرون، القارئ يفهم دون عناء أن المعني هو بوش أو أي حاكم آخر مستبد. هل يعني ذلك أن المرسل إليه، أي القارئ، قد تم إقناعه، وبكلام آخر قد انفعل مع القصيدة دون اللجوء إلى مخاطبته بضمير أنت؟ أهمية أنت وأنتم كبيرة في الشعر الغنائي، وهما ركن أساسي في الكلام الشعري، يقوم عليهما التوصيل ومحاولات الشاعر للوصول إلى القارئ.
هنا آتي إلى الوظيفة الثانية، الوظيفة التعبيرية، الانفعالية، والتي هي ذات اتجاهين، من الشاعر إلى القصيدة، ومن القصيدة إلى القارئ، في حالة قصيدة محمود درويش سوف نغفل التوصيل على أساس فعل المخاطب، فهي عنه لا له، وإن جرى ذلك ضمنيًا. وسننظر إلى التعبيرية في هذا الديوان من ناحيتها الأهم، ألا وهي ناحية ارتباط الإشارة بالموضوع، أي "تشعير" القصيدة كنشاط منتج للخيال والذاكرة أو كما يقال كانفعال بها.
الموضوع واحد في كل القصائد، الموت، تحت كامل مترادفاته، القتل الحقيقي أو المعنوي أهمها. لكن الإشارة إليه متعددة، تأخذ منحى متعرجًا دائمًا، وتنتهي بخاطرة هي أقرب إلى الحكمة. في البنت/الصرخة مصرع الأب يمضي بالصمت "لم يجبها أبوها المسجى على ظله"، وينتهي بالصراخ "تصرخ في ليل برية" "هي الصرخة الأبدية"، إشارة إلى عدم اكتمال الصراخ، وبالتالي عدم اكتمال الموت، واستمرار الفاجع. الشيء نفسه في ذباب أخضر، "القتلى هم الذين يتجددون. يولدون كل يوم"، إشارة إلى دوام الفاجع، وشموليته "عائلة واحدة لا تترك وراءها أيتامًا وثكالى"، وهو هنا أقوى من كل شيء. وفي ليتني حجر يتحول الفاجع لهوله إلى نوع من التشيؤ، "مثل منحوتة"، متقمصها الشاعر في رجائه "من عبث اللاضروري" إلى حد أنه يطلب التحول إلى حجر ليستعيد إنسانيته "كي أحن إلى إي شيء". لكن أمر الإشارة هنا يبقى في إطار الزينة اللفظية لسببين، الأول: عبث اللاضروري أينه من غير صورة الحجر الأحن من قلب، الثاني: الفاجع أقرب إلى الفذلكة اللفظية عندما يوجد في صورة العبث لا في تفاصيل هذا العبث صورةً وفكرةً وخطابًا. لهذا تجيء الخاطرة/الحكمة التي يختم بها الشاعر القصيدة، التي هي القصيدة، مجانية "يا ليتني حجر كي أحن إلى أي شيء"، تأتي من انفعال محدود، وتؤدي إلى فعل محدود.
المجانية لدى محمود درويش صفة "للكوجيتو": "لا شيء يثبت أني موجود حين أفكر مع ديكارت"، مجانية العبث ومجانية الإشارة، هو يقول "المجاز"، في قصيدة أبعد من التماهي، ويتكلم عن "بطولة المجاز" كما لو كان يكتب عن بيروت عام 82، "فلا أمس يمضي، ولا الغد يأتي" بالنسبة إليه، لم تغير عشرات السنين ولا انتصارات المقاومة اللبنانية شيئًا من نظرته إلى الأشياء "أعلم أن الوحش أقوى مني في صراع الطائرة مع الطائر"، وهو لا يعلم، لم يعد يعلم، يحتار عند مقاربته للواقع، وعند التعبير عنه، حتى أن حوار المسافر والمسافر في "نسر على ارتفاع منخفض" يذكرنا ب"جندي يحلم بالزنابق البيضاء" مما يدل على ثبات الشكل الحواري لديه لثبات التشكل. ومثل أدونيس الذي يتبجح حين يعيد "ليست هناك حرب عادلة" وقصده الكشف عن الإنساني ومطاردة الكوني والوجودي (كذا)، يقول "وعاد الجيش المهزوم أو الظافر، لا فرق"، فالحرب له في نهاية المطاف وفي إشارتها العبثية/العابثة غير عادلة (كذا)، والأنكى من كل هذا أنه يساوي بين قتلانا وقتلاهم "أما القتلى من الجانبين، فلا يدركون إلا متأخرين، أن لهم عدوًا مشتركًا هو الموت"، فيقع تحت طائل "الحكمة" التي طبعت قصائده، ليستحكم عليه الكلام. أهي حكمة العبث أم عبث الحكمة؟ إنه عبث الحكمة التي جردتنا من عبث الحياة عندما ساوت قتلانا بقتلى أعدائنا. ويضطره عبث الحكمة إلى التلاعب اللفظي في نفس القصيدة "انتصرنا لأننا لم نمت، وانتصر الأعداء لأنهم لم يموتوا"، يريد أن يفند هذا، فيسقط في التفسير الافتراضي الذي يضيّع ويشتت، ويجعل من المفاهيم أحكامًا، كما يقول رولان بارت، تلتغي معها قداستها (البطولة، الانتصار، الشهادة...)، ولكن الخطورة كل الخطورة تكمن في انعدام الفواصل بين المعاني (للبطولة عدة معانٍ) في صالح المعنى السلبي الذي يرمي الشاعر إلى الكشف عنه ليؤكده دون غيره، ويغدو كل شيء لا نفع له (لِمَ البطولة إذن؟) حتى أن إدراك أمر جسيم كالموت يصبح متأخرًا، بعد أن يجري الموت ويحل العدم.
أما في قصيدة "مكر المجاز" الانتصار واحد كالهزيمة (كذا)، وقد انتهى عهد المجاز، ألا يفهم الشاعر أن الفعل في الواقع اليوم أقوى من المجاز، جوع غزة ليس مجازًا، ودم العراق ليس مجازًا، وعمالة الدالاي لاما للمخابرات الأمريكية ليست مجازًا، كل هذا يعني "بطولة" شيء ما، والبطولة تتحقق كل يوم في صمود المقاومة في العراق ولبنان وغزة، وهي كالهزيمة ليست مجازًا، فإسرائيل كأمريكا والأنظمة العربية يمكن هزيمتها. البطولة المجاز إذن ليست موجودة إلا في ذهن الشاعر الذي "لا حاضره يتقدم أو يتراجع"، والبطولة الحقيقية ليست مجرد "واجب شخصي"، كما يقول في قصيدة تحمل نفس العنوان، لها "تاريخ انتهاء صلاحية كمعلبات السردين"، وليست "كلمة لا نستخدمها إلا على المقابر" كما يقول في قصيدة عدو مشترك. في واقع الشاعر الساكن كل ما هو إيجابي مجاز أو فعل منتهٍ أو إنساني ميت، أما البعوض، وقد أخذ رمز كل ما هو سلبي، الرمز جِد ضعيف، فحقيقي: "البعوضة، ولا أعرف اسم مذكرها، ليست استعارة ولا كناية ولا تورية" (من قصيدة البعوضة)، فنهل الفاجع لديه من قَرص البعوض والصراع معه؟
حقًا إنها يوميات شاعر "أحكمته التجارب"، تجربة البعوض أهمها، وأثرها أو إشارتها من قَرصها، فكان من الأجدر تسمية ديوانه "أثر البعوضة"!
استنتاج:
محمود درويش في هذه القصائد لا يراوح فقط في مكانه بل يرتد أيضًا إلى الوراء ليكتب قصيدة سبعينية أو ثمانينية عقيمة. المتخيل لديه يحتاج دومًا إلى "نميمة" لغوية، وإلا ما اكتملت القصيدة، وما انتهى المعنى ب"حكمة".
أفريل 2008
إيلاف وغائط الإعلام مصالحة نموذجًا

وقعت في جريدة إيلاف الإلكترونية بالصدفة على الحوار الذي فرضه سلمان مصالحة فرضًا على موقع "أفنان"، ولم أكن لأتوقف عند هذا الحادث العابر، فإعادة نشر أية مادة كانت في أي موقع كان أمر طبيعي، لولا أن محاور نفسه لنفسه قد أوهم بـأن الحوار خاص يإيلاف، وأنني أنا من قام به، علمًا بأنني كنت قد وجهت بالفعل أسئلة عامة للموقع (منذ متى أنا أقيم حوارات؟ أنا لا أقيم حوارات مع أحد وأرفض منذ أكثر من عشرين سنة أي حوار معي، ولأزيل كل سوء فهم أقول حالاً الحوارات الصحافية) إلى عدد من الكُتّاب كان مصالحة أحدهم لم يجب عليها في حينه ليفاجئني منذ عدة أيام بأنه أجاب على أسئلتي، وفي الحقيقة على أسئلة الزميل طلال حماد، أسئلة أيضًا عامة وجهها هو الآخر لجملة من الأدباء والشعراء العرب لم يكن هذا الشخص واحدًا منهم. أضف إلى ذلك بتوجيهه الحوار إلى إيلاف أغفل المقدمة التي كتبتها، ودون المقدمة لن يفهم القارئ شيئًا، حتى أنه نشر رده عليّ في الجريدة ذاتها قبل أن يصدر عندنا، ودائما دون أن يرفق مقدمتي مع رد كان عليها لا على نص نسي رواد الفضاء إحضاره من زحل أو المريخ. لن أتكلم عند هذه الدرجة من مقالي عن الأمانة الفكرية والأمانة الأخلاقية لهذا الكاتب ولكن عن الأمانة الإعلامية لإيلاف، خاصة وأنني كتبت رسالة إلكترونية لرئيس تحريرها عثمان العمير –انظر ملحق 1- أذكره فيها بملاحقات موقعه القانونية لكل من لا يشير إلى إيلاف مصدرًا، وأنبهه إلى ما كنت أظن أنه يجهله بالتعامل مع شخص تكلل بالعار حين قبوله بجائزة إسرائيل للآداب من يد جزار قانا، هو أم غيره، فكل رئيس لإسرائيل جزار على طريقته، الأمر الذي كنت أجهله.

عثمان العمير لم يتفضل بالإجاية عليّ، أعدت إرسال "الإيميل" إلى كل العاملين معه، قلت لربما كان مريضًا أو غائبًا، ولم يتفضل أحد منهم بالإجابة عليّ، لم يُحذف الحوار بسبب الإشكال، ولم يُضف رابط موقعنا أو اسمه كما كان دأبي عندما أعدت نشر مقال لمصالحة أو اثنين صدرا عندهم، ولم تُضف مقدمتي، حتى أنهم لم يدفعوا ما يعود لطلال حماد الذي صدر الحوار باسمه من حقوق، ومما يزيد في الطين بِلّة أنهم نشروا رد الشُّعرور المذكور أعلاه، بمعنى تطييزهم الكلي لي ولطلباتي، مع لامبالاة مهنية لا مثيل لها إلا لدى عاهرات بيغالات الصحافة العربية التي ليس لديها أي اعتبار للقارئ، عندما نشروا ردًا على نص استمروا في تجاهله، ولكن لا كرامة للكلمة عندهم ولا لصاحب الكلمة لا ولا لقارئها.


ماذا يعني كل هذا؟


عثمان العمير وكل أفراد طاقمه يعرفون من هو سلمان مصالحة، وهم ربما لهذا السبب ينشرون له، لاحظ أنني أقول ربما، ولكن الافتراض يظل مشروعًا، وعندئذ يظل مشروعًا أيضًا كل تساؤل عن الدور الإعلامي المشبوه لإيلاف، وعلى أي حال، الدامغ في هذه المسألة، والساطع، وما لا يحتاج إلى أي افتراض، هو بؤس التعامل بين أفراد هذه المؤسسة أولاً، مؤسسة من نمط للرئيس الكلمة الأولى والأخيرة، وبين كل طاقمها والقارئ –أكرر- أقول قارئًا ولا أقول زميلاً، لأني لا أتشرف بزمالة قوم ليست لندن بالنسبة لهم أكثر من مرحاض "حضاري" وقعنا حتى نحن في حبائل الوهم فيه عندما اقترحنا التعاون ما بيننا، وفي الواقع هم نقلوا معهم كل غائط الإعلام السعودي، العياذ بالله من هذا إعلام!


أعود الآن إلى سلمان مصالحة، هذا الشخص الذي ينهي في كل مرة مقالاته بعبارة "والعقل ولي التوفيق" لنرى إن كان ما يكتب أو يرى على علاقة بالعقل.

بداية لا أريد أن أدخل في تناظر مدرسي بين ما لي وما عليّ وما له وما عليه: هو "يفتح الأبواب على مصاريعها للآخرين" أنا أغلقها إلى آخره، "نقاشه منفتح وصريح إلى أبعد الحدود" أنا نقاشي منغلق إلى آخره، "يحترم لغته العربية بما تمثله من دلالات ذهنية ولا يلقي الكلام على عواهنه وينتقي الكلام بتُؤَدة" يا سلام! ولغته العبرية التي كوفئ عليها أحسن مكافأة؟ ولا كلمة... في كل رده يلقي بالكلمات "من تحت لتحت" إما ليهاجمني وإما ليقطع الطريق على كل فكرة "سوء" يمكن أن تدور في ذهن القارئ عن علاقته بالمؤسسة في إسرائيل بلده.


سأبدأ من حيث بدأ، من مقولة لي "أضحكته كثيرًا" حين وسمته ب "ضحية من ضحايا الفكر السائد" –لم أكن أعلم أني كنت مهرجًا- فانحط بنا إلى هذا الدرك من "نقاشه المنفتح والصريح إلى أبعد الحدود"، وفسر الفكر السائد –انظر ملحق 2- بفكر عربي غير موجود وسيادة عربية غير ممكنة في هذا العصر، ورأى أن لا فكر بلا حرية، فأين الحرية في مجتمعاتنا، وأين الفكر، ثم أجمل السائد في تيارين أحدهما إسلاموي والآخر سلطوي، وهو –كما قال- لا ينتمي لا للأول ولا للثاني، فكيف إذن أنعته ب "ضحية من ضحايا الفكر السائد"؟


هذيان... لا بل ثرثرة، لنقل هراء! إذا كان لا يعرف ما هو الفكر السائد ويقول العقل ولي التوفيق فأية مصيبة هي! إنه إذن عقل البطن! صاحب أعلى جائزة دموية في إسرائيل كلماته لا تضحك، هو الأضحوكة! الآن نعرف لمن تعطى الجوائز في هذه الدولة الدموية، أما لماذا تُعطى، فسنرى فيما بعد. كل هذا يؤكد أن لا علاقة لي بالتهريج بعد أن شككني في أمري منذ قليل.


أولاً، عندما نعته بالضحية ليس تهجمًا عليه وإنما دفاعًا عنه، كل واحد حتى أنا شخصيًا يمكنني أن أقع ضحية الفكر السائد، فأخطئ في نظرتي إلى الأشياء، لأن الفكر السائد هو الكيفية التي نرى فيها العالم، والتي تسود بين الناس، التصور، المفهوم. نعم يا دكتور الجامعة العبرية العبقر أنت النموذج الأمثل للفكر السائد حين ترى العالم العربي يرزح تحت ثقل قطبين أحدهما سلطوي والآخر إسلاموي، نعم يا مصفف معاجم الشعر العربي القديم مع ألبير عازاري الذي بزك في انتقاء الكلمات ذات المعاني والدلالات الواضحة –هاي فيه واحد على الأقل ومن أصل عصمللي فوق هذا فد تفوق عليك- أنت الأداة المثلى في يد من يسود على هذا الفكر (في إسرائيل وفي العالم العربي على حد سواء) حين ترى العالم يعمل حسب الميكانزم هذا أو ذاك و"موضوع" السيادة بالطريقة هذه أو تلك، طبعًا الوسائل تتعدد، تعود إلى السلطة والمهمات الموكلة بها، نعم يا أحد "شعراء مغازلة إسرائيل" كما يسميكم أحسن تسمية سميح القاسم الرافض للجائزة الدموية أنت المستفيد الأول من هذا الفكر السائد بعد أن "تَسَرْأَلْت" واندمجت –يصرح في فيلم لنوريث أبيب بعد حصول ديوانه العبري "داخل المكان" على جائزة الدم (هادي هيك ولا إشي بس هوه بحب لغته العربية ويختار كلماته بتؤدة) "بالعبرية لا يمتلك اللغة ولكنه يقوي ارتباطه بالمكان"- انظر إلى نفعية الارتباط هنا في العربة المريحة لا المجنزرة المخيفة للخصم.


ساركوزي عند استقباله للدكتاتوريين العرب يوم أمس السبت أحذيته المهترئة التي يريد أن يُدخل فيها إسرائيل عنوة عن طريق اتحاد بحرأوسطي يصرح: "إن الاتحاد جيد من أجل مبادرة إسرائيلية ولكن من أجل كل دول المنطقة"، هذا هو مثال آخر للفكر السائد: التطبيل لفكرة من أجل تعميمها بين الناس، ليقع ضحيتها بعضهم أو كلهم بمن فيهم كتاب وشعراء مثلك ومحللون سياسيون. الفكر السائد هو في هذا المقام الترويج لفكرة، نقلها بواسطة عربة فيها ما فيها من تيارات واتجاهات فكرية سياسية اقتصادية إلى آخره... وتكريسها.


ثانيا، يتهمني بالتعميم على شاكلة الكتاب العرب، وبعد عدة أسطر بالضحالة كما هي حال الذهنية العربية، فأثير في نفسه الحزن، منذ قليل أضحكته والآن أبكيه –هادا أنا مهرج مضحك مبكي- هذا يدل على أن هذا الشخص لا يعرفني على الإطلاق، لم يقرأني، ولم يقف أبدًا على تصوري للعالم، فمن يعرف هذا التصور ليس به حاجة ليفهم عندما أقول بصيغة الجمع "همومنا ومشاكلنا" إنما أقصد هموم ومشاكل الفقراء المشحرين والمظلومين بعيدًا عن المعنى الغوغائي والعاروي من طرف المكلل بالعار لكلمة عرب واحتقاره لهم. وعلى الرغم من ذلك، فقد حددت كلامي بكلمة "كادحين" التي كعادته تعامي عنها، فهو لا يلتقط مما قلت إلا ما يناسب فبركته لرده. منذ أربعين عامًا لم أضع قدمي في بلد عربي سوى مرتين مرة لسنة كأستاذ جامعي في مراكش ومرة لسنة في عمان للسبب ذاته، منذ أربعين عامًا لم أكتب مقالاً سياسيًا واحدًا، كل ما كنت أكتبه في النقد، لا أكتب على شاكلة الكتاب العرب ولا أفكر مثلهم ولا أنتمي إليهم (بالصدفة ينشر الموقع اليوم قائمة أعدتها منتديات صوت فلسطين لعشرات الكتاب والصحفيين الفلسطينيين منذ النكبة لم يدرج اسمي فيها)، أعيش بعيدًا عن الجميع (امبارح واحد بقول لي محبط كالكتاب العرب واليوم مش عارف ايش تاني! كم هذا سهل! وبعدين لا أنا أقرأ للكتاب العرب ولا هم يقرأون لي! خلصونا يا عمي!) هذا وقد كتب عني غالي شكري في هذا الشأن مقاله الشهير "لا تدخلوه في السيرك"، وذلك منذ السبعينات وليس منذ اليوم، تبجيلاً لموقفي وموقعي في آن واحد، إضافة إلى أني أندد في كل مرة بالكتاب العرب الذين يجدون في جلد الذات وجلد الآخر لذة ما بعدها لذة، ويصلون عن طريق كتابتهم السادومازوخية إلى ما ينقصهم من تعويض عن كل شيء: الهزيمة، الانهزامية، الخيانة، السلبية، التسلقية، البؤسية، الماخورية... إلى آخره، ولكن يبدو أن هذا الشّعرور الذي يؤمن بفتح الأبواب على مصاريعها مرفوض من طرفهم، فأبوابهم مغلقة في وجهه حسب مقال له إلا باب إيلاف، مرحاضه الصريح الجريء الحر المسعدناتي أقصد المسعوداتي أقصد المنفتحاتي أقصد المفتوحاتي وإن شئت المفتوح على المفتوح (تسعين بالمائة من محرريه وموظفيه فنانات) فهو يعترف بسقوطه بين سياط "النحن" و"الهم"، ويقول إني أناقض نفسي فيما يخصه عندما وصفت كتابته من "خارج المكان"، ومن يقف خارج المكان يقف خارج السائد أيضًا، وانبسط الأستاذ الشُّعرور لهذه الخلاصة، بينما صاحب "العقل ولي جائزة إسرائيل" يجدر ألا يغيب عن باله أن من يسقط في شباك الفكر السائد تنتهي كل علاقة له تربطه بالمكان (العربي في هذا السياق لا الإسرائيلي الذي يرتع هذا الشويعر داخله كما لم يرتع أحد، البرهان أعلى جائزة دموية إسرائيلية عن كتاب كتبه بالعبرية التي يتقنها بكثير أفضل من إتقانه للعربية بتؤدة ودلالات ومعاني ودقة ووضوح آه واخد بالك؟ وإلا لِمَ أُُعطي الجائزة؟) بما فيه من هموم فعلية ومشاكل حقيقية وصراعات أساسية، فيقف على منأى منه ومنها، ويخطئ في حكمه عليها.


ثالثا، يعود إلى اتهام نفسه بنفسه ب "التصهينية" عندما يصر على أن القضية الفلسطينية ليست قضية القضايا، ولا يدرك أن كل ما يثار من مشاكل ومسائل وقضايا من حولها، في العراق، وفي مصر، وفي الجزائر، وفي، وفي، وفي السودان، وفي الصومال، وفي، وفي، ما هو إلا لدفعها إلى الوراء على اعتبار أنها آخر قضية، وبالتالي دفنها، بينما هي جوهر كل القضايا وأساس لحلها جميعًا. ثم يطرح عليّ سؤالاً بخصوص إسرائيل ويجيب عليه (والا هادي هيه اللغة العربية والتؤدة وفتح الأبواب على مصاريعها إلخ إلخ)، ومع ذلك سأقول لهذا الشخص إنني في سنوات السبعين، عندما كان ولدًا يلعب في الحارة (ليعذرني القارئ! مصالحة في كل رده لم يحترمني قيد أنملة، أضف إلى ذلك أن من يقبل بجائزة جزار قانا لا يستأهل أقل احترام!) كنت من بين أوائل الذين اعترفوا بإسرائيل يوم كان الاعتراف بها يُعتبر لدى البعض خيانة، كانت لدينا آمال ومشاريع وأحلام تبدت كلها أوهامًا، أما اليوم، كل شيء قد تبدل بالنسبة لي –أنا لا أتكلم هنا عن أفراد وضحايا الفكر السائد وإنما عن حكومات وأحزاب- أعترف بمن يعترف بي –أنا أتكلم هنا عن شعب فلسطيني وأرض فلسطينية وحقوق فلسطينية- على حكومات إسرائيل أن تغسل يديها الملطختين بدم أهلي، وذلك بالاعتراف بهم وبأرضهم وبكافة حقوقهم بما في ذلك حق العودة. في كتابي الثلاثين أو الثاني والثلاثين الصادر بالفرنسية منذ عدة سنوات "خطتي للسلام" (انظر المكتبة الإلكترونية) على العكس من إدوارد سعيد المطالب بدولة طوباوية ذات هويتين، وعلى العكس ممن يرى في الدولة الديمقراطية حلاً يوافق الطوائف الثلاث، أنادي أنا بحل غير لاهوتي أو مثالي هو ابن زمننا واعتمادًا مني على مفهوم الأمة المعاصر لا الطائفة وعلى المفهوم الجمهوري في الغرب الذي هو أبعد وأرقى بكثير من المفهوم العلماني وما العلمانية إلا طابقًا واحدًا من طوابقه الصاعدة على سلالم الدساتير والحريات والاستشارات الانتخابية الدورية، أنادي أنا بالاتحاد بين دولتين يجري إعلانه في اليوم الذي يُعلن فيه قيام الدولة الفلسطينية، اتحاد مفتوح لباقي دول المنطقة.
كلمة أخيرة فيما يخص احتقار هذا الشخص المتشدق للعرب والعروبة واللغة العربية –يطالب بأتا تورك عربي الأخ!-: بأي حق بعد أن قبل بجائزة إسرائيل وفقد كل مصداقية تُفتح له المنابر وفي مقدمتها إيلاف حامي الحرمين الشريفين ليلقي علينا منها دروسًا... يلقي؟ يلقننا بنبرته المتعالية المتأففة المتقززة دروسًا فيما علينا وما ليس علينا فعله؟ بأي حق وقد فقد إميل حبيبي قبله كل مصداقية عندما قبل الجائزة نفسها على الرغم من دفع ياسر عرفات له دفعًا لقبولها –من هو هذا الشُّعرور أمام خنصر قدم إميل حبيبي الأدبي؟-بأي حق وكل تلك الظاهرة الإمعية التي تحتل مقدمة المسرح لدى عرب 48، لن أنسى أنطون شماس، لن أنسى نعيم عريضة، نسيت الرابع المحظوظ بجائزة الدم، بأي حق يكتبون "عنا" (بالجمع) ما لم "نطلب" (بالجمع) منهم، ويكيلون اللوم تارة لعرب وتارة ليهود (إسرائيليين) ليقال عنهم يا لهم من متحضرين، يؤمنون بفتح الأبواب على مصاريعها، لهم طبعًا وليس للآخرين بما فيها أبواب الغرب عندنا، الغارديان، النيوزويك، التلفزيون الفرنسي... مصالحة يصرح للتلفزيون الفرنسي باحتقار وغباء لا يصدقان، معلش فهو ضحية، ضحية الوعي السائد هذه المرة (ليفسر له أحدكم رجاء ما هو الوعي السائد بعدين يطحبشها): "لا يوجد أكثر من 200 قارئ عربي في إسرائيل"، وأن "المدرسة العربية تنتج طلابًا جاهلين"، من المهد إلى اللحد، وأن "القرية العربية قرية قتلة وحشاشين وقطاع طرق" دون أن يعي شروط المدرسة العربية في إسرائيل أيها، وشروط القرية العربية في إسرائيل أيها، وشروط المجتمع العربي في إسرائيل أيها، وقدر الإنسان العربي في إسرائيل أيه، وأية ماكينة جهنمية دوْلية (من دولة) تربض من وراء كل تعاساته؟ كل هؤلاء الإمعات الذين كُرّسوا من قبل نظام عسكري فاشي متفرد في فاشيته نحونا يكرسون تخلفنا وانحطاطنا وعدم حقنا (كله بالجمع) بالحياة عندما تتباهى إسرائيل بأن هناك من العرب من يمكنه نيل أعلى جائزة بالعبرية، للتمجيد بلغة كان هرتزل نفسه يعتبرها ميتة من المحال أن تقوم من جدثها، والتباهي أكثر وأكثر لأن هؤلاء المحظوظين ينتقدون –على طريقة مصالحة الغبية- المجتمع الإسرائيلي للتمجيد بديمقراطيتهم. هذا هو السبب الجهنمي الكامن من وراء جوائز نكرات عرب 48، مع كل بؤس الوعي الذي يجمعهم، وبؤس الكتابة، لأن الكتابة هي "أن تهجر معسكر القتلة" كما يقول كافكا، لكن هذا كافكا العظيم والا مصالحة؟ والا التاني ما غيره شماس؟ والا التالت... والا الرابع... كلهم أظ... بلاش أقولها عيب؟ أي حق يعطي لنفسه (يبدأ الأخ النكرة رده ب "ما كنت لأرد بهذه المقالة" بكل الترفع وكل الاشمئزاز وينسى من هو) فاقد المصداقية والضمير والحرف الكريم في أن يقول فينا (بالجمع) ما نرفض سماعه منه أما في غيرنا ولا كلمة واحدة. هل تكلم مصالحة العربي الإسرائيلي (هناك عرب يعيشون في إسرائيل وهناك عرب تَسَرْألوا ومصالحة واحد منهم) عن جائزة رئيس دولته إسرائيل لكتاب إسرائيلي له في ردّه عليّ؟ ولا كلمة. وعلى العكس، وذلك فقط لإبداء الوطنجية تاعه والقومجية تاعه (يقول لك قوموي وإسلاموي وكلماتوي بتؤَدَتَوي) يتكلم عن صهيونية عنصرية، يريد أن يسوقها على قراء "أفنان"، بينما يصرح للتلفزيون الفرنسي إنه "أبدًا لم يكن ضحية التمييز العنصري"، ويضيف لقراء أفنان المغشمين إنه ضدها، بالطبع هو ضدها لأنها ضد غيره لا ضده هو! وكل شيء يتوقف على المنبر الذي يتوجه منه! عجبًا لأمانتي هذا الشخص الفكرية والأخلاقية! وكأن من الأساس هناك صهيونية عنصرية وصهيونية غير عنصرية، هناك صهيونية وكفى، العنصرية أحد معانيها ودلالاتها، وقد غاب ذلك عمن "ينتقي كلماته بتؤدة ولا يلقي الكلام على عواهنه" "الأممي" الذي تتوقف أمميته عند عتبة جاره الإسرائيلي، فالأممية لديه إسرائيل كالحضارة وفستق حلبي باب العامود.


على كل هؤلاء النكرات أن يقفلوا عليهم شرانقهم الحديدية جيدًا، ويقولوا الشعر ما طاب لهم والنثر في داخلها، بالعبري أم بالسنسكريتي أم بغيره هذا شأنهم... هذا هو داخل المكان في عرفنا... لا أحد منا (بالجمع) يطالبهم بأن يرهقوا أنفسهم من أجلنا، هكذا هم لا يَتعبون ولا يُتعبون.


13.07.2008



ملحق 1


عزيزي الأستاذ عثمان العمير المحترم
تحية طيبة وصادقة
نشرتم يوم أمس حوارًا لسلمان مصالحة يدعي صاحبه أني قمت به، وكما فهمت من مقدمته أنه خاص بإيلاف، علمًا بأني سبق وأرسلت له بالفعل ولغيره أسئلة عامة لجريدتنا الالكترونية "أفنان"، وذلك منذ عدة شهور، لم يجب عليها، وبعد أن بدأ سكرتير التحرير الأستاذ طلال حماد بنشر سلسلة من الحوارات، أرسل لي مصالحة أجوبته عن أسئلة الأستاذ طلال دون التطرق إلى أي من أسئلتي، فقدمت للحوار بمقدمة طويلة، وذلك لخطورة ما جاء فيه، ونشرته يوم السبت أي قبل نشره عندكم بيوم واحد.
المشكل أخي عثمان ليس في عدم الأمانة الفكرية والإعلامية والأخلاقية لهذا السيد، إذ من المفترض أن يعيد نشر الحوار عندكم مع مقدمتي ومع رابطنا أو على الأقل مع ذكر موقعنا كما هو دأبي عندما أعيد نشر مواد من عندكم، المشكل أنه حجب عنكم سيرته الذاتية التي يقول فيها إنه حصل على جائزة رئيس دولة إسرائيل، فهل كنتم تعرفون هذا؟ وفي الوقت ذاته يخفي في سيرته دومًا ماذا يفعل الآن؟!!! نحن لا نعرف، مثلما كنا لا نعرف، عندما كنا ننشر له، حصوله على هذه الجائزة التي تجرده من كل مصداقية.
بناء على ما سبق أستاذ عثمان أطالب بما يلي:
* إعادة نشر الحوار كاملاً بمقدمتي وبالسيرة الذاتية وبعنوانه الرئيسي الخاص بسكرتير تحريرنا وأسماء الجرائد التي تتعاون معنا بخصوص هذا الباب
*كتابة كلمة اعتذار لجريدة "أفنان" ولسكرتير تحريرها، فأنتم أولى الجرائد الالكترونية التي تلح على الأمانة الإعلامية مع التحذير بملاحقات قانونية
* دفع الحقوق للأستاذ طلال حماد
* رابعًا وهذا يعود لكم ولواجبكم العروبي والسياسي التوقف كما فعلنا نحن عن نشر أية مادة لمن أكرمه مجرم قانا بجائزته
سأكتب لك فيما يخص التعاون ما بيننا على غرار تعاوننا مع القدس المقدسية والبيادر المقدسية وغيرهما من الجرائد المقروءة والالكترونية في المستقبل

دمت وسلمت لأخيك

د. أفنان القاسم
رئيس التحرير/ باريس

رابط الحوار
http://www.afnanonline.net/afnan/index.php?option=com_content&task=view&id=799&Itemid=24
رابط الباب
http://www.afnanonline.net/afnan/index.php?option=com_content&task=blogcategory&id=23&Itemid=24
رابط الموقع
http://afnanonline.net/afnan/



ملحق 2


د. سلمان مصالحة
وضع النّقاط على الحروف المبهمات
ما كنت لأردّ بهذه المقالة
لأنّي أؤمن بفتح الأبواب على مصاريعها للآخرين كي يلجوا منها، ويدلوا فيها بدلوهم في نقاش منفتح وصريح إلى أبعد الحدود. غير أنّ المقالة الّتي كتبها د. أفنان القاسم تقديمًا لمقابلة إلكترونيّة معي نشرها على موقعه الخاص استثارت لديّ بعض النّقاط الّتي رأيت ألاّ أمرّ عليها مرّ الكرام، لما فيها من إيضاح لبعض الجوانب الّتي يتخبّط فيها الكاتب من جهة، وما تشكّله هذه التّخبّطات من سمة مميّزة للكثير من الكتّاب العرب في هذا الأوان. ولأنّي أحترم لغتي العربيّة بما تمثّله في من دلالات ذهنيّة فأنا لا ألقي الكلام على عواهنه، بل أنتقي الكلمات بتؤدة لما فيها من معاني واضحة الدّلالة لا يمكن أن تُفسَّر إلاّ على الوجه الّذي أقصده مع حريّة الاتّساع في المعاني والدّلالات الّتي قد تفسح لها هذه المفردات والمصطلحات.
*
من هنا نبدأ:
يستهلّ د. أفنان القاسم كلمته بمقولة أضحكتني كثيرًا، حيث وسمني بكوني "ضحيّة من ضحايا الفكر السّائد". إذ يبدو لي أنّ الّذين أدمنوا على تمثيل دور "الضحيّة" في كلّ شاردة وواردة لم يعودوا يفرّقون بين معاني وسياقات استعمالها. ولمّا كنت لم أشعر أو لم أكن في يوم من الأيّام، على الأقلّ منذ أن بلغت سنّ الرّشد، ضحيّة لأيّ شيء فإنّ وسمي بكوني ضحيّة قد أضحكني كثيرًا. هذا ناهيك عمّا جاء لصيقًا بهذه التّسمية، أي "من ضحايا الفكر السّائد". ولمّا كنت عربيّ النّشأة أمميّ الأهواء في الآن ذاته، أعيش في وطني وأكتب بلغتي، لغتنا جميعًا الّتي احترمها بخلاف الآخرين الّذين يحتقرونها ويشوّهونها ليل نهار، فلا أدري ما الّذي يرمي إليه الدكتور القاسم باصطلاح "الفكر السائد". أيّ فكر هذا، وأين هو سائد؟ هل هو "الفكر السائد" عند العرب، أم شيء آخر؟ وهل يمكن أصلاً الإشارة إلى فكر وإلى سيادة عند العرب في هذا العصر؟
ربّما كان من المفيد التّذكير والتّأكيد مجدّدًا على أنّه لا يمكن أن ينتج فكر بمعزل عن الحريّة. ولمّا كانت المجتمعات في البلدان العربيّة من أقصاها إلى أقصاها تعيش في أنظمة من الكبت السّياسي والاجتماعي والثّقافي فلا يمكن أن تنتج هذه المجتمعات وهذه البلدان فكرًا أو ثقافة أو علمًا بأيّ حال من الأحوال، مهما تبجّح المتبجّحون ومهما دغدغوا عواطف الأجيال الشّابّة ببلاغة عربيّة تليدة وبليدة في آن معًا. الكبت لا تمارسه الأنظمة فحسب، بل يمكن أن نقول إنّ الكبت الّذي تمارسه بعض التّيّارات، السّائدة حقًّا، ثقافيًّا واجتماعيًّا على الفرد هو في الكثير من الأحيان أشدّ وطءًا عليه من كبت الأنظمة ذاتها.
إذن، ما هو "السّائد" في هذه الأقطار والمجتمعات؟ يمكن أن أجمل هذا السّائد، وبخطوط عريضة، في تيّارين اثنين لا ثالث لهما في هذا الغار المظلم. التّيّار الأوّل هو جوقة المثقّفين المرتزقين المصفّقين لهذه الأنظمة الكابتة على اختلاف درجات كبتها بين قطر عربيّ وآخر. والثّاني هو تيّار ليس أقلّ إيلامًا على النّفس من سابقه، وأعني به تيّار الإسلامويّين ومن يتّبعهم من الغاوين من فلول مراهقي العروبة وفتات اليسار العربي الّذي لم يطرح في يوم من الأيّام نفسه بديلاً حقيقيًّا في هذه المجتمعات ولهذه المجتمعات، بل كان دومًا متعاونًا مع الأنظمة المستبدّة ومع الاستبداد المجتمعي الّذي لم يجرؤ أبدًا على زعزعة أركانه المحافظة.
لو أنّي كنت أنتمي إلى أحد هذين التّيارين السّائدين في المجتمعات العربيّة لكان من حقّ الدكتور القاسم أن يسمني بـ"ضحيّة من ضحايا الفكر السّائد". يجدر هنا أن أذكّر الدكتور القاسم وكلّ هؤلاء الغارقين في هذه المقولات أنّ مواقفي الصّريحة الّتي تقف في موقع نقيض لهذين التّيارين الآنفين تسحب البساط من تحت هذا النّوع من المقولات المضحكة حقًّا.
لكن، ما لي وهذا الكلام إذ ها هو يناقض نفسه بنفسه لاحقًا، حين يصفني بكوني أكتب "من خارج المكان فيما يخصّ مسائلنا وهمومنا". فإذا كنت أكتب من خارج المكان بخصوص مسائلنا وهمومنا، فهذا يعني أنّي أقف في موقع هو نقيض من السّائد، أليس كذلك؟ ثمّ إنّي لا أعرف ما الّذي يحدو بالكتّاب العرب إلى تأبّط الكلام بنون الجمع هذه: مسائلنا وهمومنا. مسائل من، وهموم من، يا أستاذ؟ يبدو أنّ سطوة اللّغة الفصحى المكتوبة، غير المحكيّة، على ذهنيّة الكُتّاب العرب تفقدهم صوابهم أحيانًا، إذ يميلون إلى الظنّ في قرارة أنفسهم أنّهم صاروا جزءًا من جسم كبير محدّد المعالم، بينما الحقيقة هي خلاف ذلك تمامًا. وفي ظنّي، إنّ الاحتماء "السّائد" بنون الجمع هذه في الكتابات العربيّة هي جزء من ذهنيّة الهرب من مواجهة الواقع في البيئة القريبة من الكاتب ذاته الّذي يستخدمها. وأعترف هنا أيضًا، وفي هذه النّقطة، أنّني فعلاً "ضحيّة" من ضحايا هذا الاستخدام باللّغة العربيّة، إذ أجد نفسي أنا أيضًا مستخدمًا هذه الـ"نحن" أحيانًا. لكن، في كلّ ما عدا ذلك، فلست ضحيّة ولا أريد أن أكون ضحيّة. وإذا كنت ضحيّة فأنا ضحيّة من ضحايا ذاتي لا ضحيّة من ضحايا غيري. إنّ دور الضّحيّة هذا أتركه لمن يرتأيه من أناس غيري.
هل يُفهم المقروء؟ لقد أسلفت من قبل أنّي أحترم لغتي العربيّة وأحترم الكتابة بها لأنّي أحترم القارئ أوّلاً وقبل كلّ شيء. ولهذا السّبب فإنّي أنتقي كلامي بتؤدة وأحاول صوغ الكلام بدقّة، قدر استطاعتي، كي لا تلتبس المعاني على القارئ فلا يعرف مقصدي ولا يفقه ما أنا ذاهب إليه في مقالتي.
إنّ ما يثير في نفسي الحزن هو هذه الحال الذّهنيّة العربيّة الّتي يشكّل الأستاذ أفنان القاسم مثالاً صارخًا لها. ما أقصده هنا هي حال الضّحالة، إن لم تكن هذه إعاقة بنيويّة، في فهم المقروء كما تتجلّى في أقوال الأستاذ أفنان القاسم حين يقول عنّي مستندًا إلى إجاباتي ما يلي: "ويذهب في تصوره البراني إلى حد يلامس فيه الخطورة عندما يعتبر القضية الفلسطينية واحدة من بين قضايا ليست أهمها، وهذا بالضبط ما تسعى إليه الإستراتيجية الإسرائيلية...".
كيف وصل الأستاذ أفنان القاسم إلى هذا الفهم؟ لا أدري. لقد كان كلامي واضحًا إلى أبعد الحدود، فمن أين جاء بهذا الفهم إذن؟ إنّه هو نفسه الّذي يسأل عن "القضيّة"؟ أمّا كلامي الّذي صغته في إجابتي على سؤاله فهو واضح لا يمكن الالتباس فيه. إنّه هو نفسه الّذي يستخدم مصطلح "القضيّة الفلسطينيّة"، أمّا أنا فقد حذّرت في إجابتي من هذا الاستخدام الشّائع في الإعلام العربي، مُذكّرًا الجميع أنّه: "عندما يدور الحديث عن قضيّة يتحوّل الموضوع إلى تمرين ذهنيّ، أو ربّما مسألة مجرّدة تحتمل الجدل فيها بعيدًا عن الأبعاد الإنسانيّة. فإذا كانت "فلسطين" قضيّة فهناك الكثير من القضايا الأخرى، ومثلما يتمّ تقديم البحث أو تعليق بعض القضايا لأسباب متعلّقة بمصالح هذا النّظام أو ذاك حفاظًا على رؤوسه، كذا هي "القضيّة الفلسطينيّة"، قد تلحّ أحيانًا وقد تتأخّر لأنّ قضايا المنطقة كثيرة وعويصة وهنالك ما هو ألحّ للتّعامل معه. وفي أثناء ذلك يتمّ تناسي البشر والشّجر والحجر"، كما ورد حرفيًّا في إجابتي على سؤاله. أليس كلامي هذا واضحًا؟
الحقيقة الّتي لا بدّ من مواجهتها في هذا السّياق هي أنّ الفلسطينيّين وطوال عقود من الزّمن، ولأسباب عديدة لن نطرق أبوابها الآن في هذه العجالة، قد أدمنوا الجلوس في خانة الذّهنيّة الاتّكاليّة. ليس هذا فحسب، بل يظنّون أنّهم مركز العالم، أو على الأقلّ مركز العالم العربي الّذي هو في الواقع عالم "لا يعرف أَساسُهْ مِنْ راسُهْ"، كما شاع القول في لهجتنا الدّارجة. وإذا كانت البلاغة العربيّة، الّتي قد يقرؤها، يسمعها أو يشاهدها هنا وهناك في الصحافة والإعلام العربي من الكلام المعسول الّذي يجيء من التّيّارين الآنفين اللّذين ذكرتهما سابقًا حول فلسطين وما إلى ذلك، تُدغدغ مشاعره، فهنيئًا له بهذه الدّغدغة. لقد نسي، أو تناسى، أنّ هذه الأنظمة قد تركت للنّاس هذه "القضيّة الفلسطينيّة" بصفتها عظمة يتلهّون بها صباح مساء، بشرط أن لا يقربوا الأنظمة الفاسدة والمُفسدة في بلادهم. لقد وصلت إلى قناعة منذ زمن أنّ كلّ أولئك الصّارخين عن فلسطين في الإعلام العربي لا يعرفون فلسطين في الحقيقة، لا يعرفون أهلها، لا يعرفون بشرها، وبرها، شجرها وحجرها. إنّها صيحتهم الوحيدة المسموح لهم بها (وخاصّة في تلك الفضائيّات المنطلقة من أكبر القواعد العسكريّة الأميركيّة في الشّرق الأوسط، أو تلك الصّحف الزّاعقة من لندن والّتي لا ندري من يموّلها أصلاً، إذ تنعدم فيها الإعلانات التّجاريّة)، بينما هم في قرارة أنفسهم يصيحون ضدّ الظّلم والقهر في بلدانهم. المحافظون الجدد يسمّون هذه "الفوضى البنّاءة". هذه هي الحقيقة العربيّة المرّة، أليس كذلك؟
وعلى كلّ حال، أنتظر أنا مثلما ينتظر الآخرون أن يشرح لنا الأستاذ القاسم ما هي هذه "القضيّة الفلسطينيّة" الّتي يسأل عنها. هل هي التّحرُّر من الاحتلال الإسرائيلي، وإقامة دولة فلسطينيّة في الضفّة والقطاع إلى جانب إسرائيل واعتراف متبادل بين دولتين؟ أم أن "القضيّة" هي القضاء على دولة إسرائيل وتسفير اليهود إلى ما وراء البحار؟ إنّه مُلزم، مثلما أنّ الجميع ملزمون، في الحالتين بإعطاء إجابات صريحة للذّات أوّلاً، ثمّ للنّاس الأقربين ثانيًا ولسائر العالم في نهاية المطاف. إذا كان من الصّنف الأوّل فعليه أن يصارح الملأ من أبناء قومه بذلك ودون لفّ ودوران، وإذا كان من الصّنف الثّاني، فليقلها أيضًا صراحة. لكن، ليعرف أيضًا إنّه في حال كهذه لن يجد أحدًا في العالم متعاطفًا معه ولا مع "قضيّته"، مهما ساءت أحواله وأحوالها. وإذا كان يعتقد أنّ قضيّته هي قضيّة مركزيّة، فهو مخطئ، فالعالم مشغول بكثير من القضايا، وما قضيّته هذه سوى واحدة من قضايا كثيرة أخرى تشغل الآخرين. أليس العراقيّ مشغولاً بعراقه أوّلاً؟ أليس اللّبنانيّ مشغولاً بلبنانه أوّلاً؟ أليس السّودانيّ والمصري مشغولين بمصرهما وسودانهما؟ وكذا المغربي واليمنيّ إلى آخر القائمة. وكذا هو العالم الآخر من حولنا. وفي نهاية المطاف لن يَقلع لك أحد الأشواك من يديك، فما عليك إلاّ أن تقلعها بنفسك.
أمّا اتّهامي باستخدام "لغة غوغائيّة"، فهو أكثر إضحاكًا ممّا سلف. إذ أنّ القارئ النّبيه البصير سيقرّر بنفسه، لغة مَنْ منّا هي الغوغائيّة.
وأخيرًا، وكي أضع النّقاط على الحروف المبهمات، ها أنا من موقعي هذا، هنا في وطني، ورغم كلّ إشكاليّات هذا الموقع الّذي أعيش فيه وأكتب منه وفيه وله، أقول بصريح العبارة إنّي أقف ضدّ الصّهيونيّة العنصريّة، مثلما أقف في الوقت ذاته ضدّ القومويّة العربيّة العنصريّة، وضدّ كلّ قومويّة عنصريّة أخرى. يجب أن نقولها كلمة صريحة على الملأ: إنّ القومويّة على جميع تفرّعاتها وأشكالها هي داء نفسيّ عضال يضرب ذهن البشر فيصيبهم بالشّلل الفكري ويتركهم في حال بدائيّة لا يستطيعون الفكاك منها. وهي، أي القومويّة العنصريّة، داء طالما جلب الويلات على من يحمل في ذهنه هذا الڤيروس. وهذا الكلام لا يعني طبعًا الانتماء الطّبيعي إلى مجموع حضاري معيّن من البشر قد يختلف عن الآخرين لكنّه يبقى مؤتلفًا معهم في الانتماء إلى هذه البشريّة الّتي ننشد الخير لها جميعًا على هذه الأرض، وفي السّماء أيضًا.
لقد قلت هناك إنّ علينا أن نتصارح كي نتصالح. والآن، أما آن الأوان بعد للقوم الّذين أنتمي إليهم لمعالجة هذا الدّاء والشّفاء منه؟
والعقل وليّ التّوفيق!
***


































انحطاط العظام: محمود درويش


وقعت بالصدفة على قصيدة من قصائد محمود درويش الأخيرة "إن أردنا" مترجمة إلى الفرنسية، فتكدرت، وانزعجت، لم يكن مرد ذلك سوء الترجمة، وإنما سوء التفسير الكيفي الذي وقع الشاعر فيه حين ذهب إلى تفسيرات خاطئة منطلقًا من أحداث صحيحة، وحين رمى إلى القطع مع ما يدعوه رولان بارت بنص اللذة والربط بنص التلذذ دون أن يفلح، فانحط به المقام، وراوح في نفس المكان، وحاله من حال كل مريض مصاب بالهلوسة. "سنصير شعبا إن أردنا..." أولى كلمات القصيدة تمنعك من مواصلة القراءة، فنحن شعب منذ زمن طويل –وباعتراف المعلق الفرنسي- وتحت شروط أي شعب طبيعية وتاريخية وثقافية وقرارات أممية... إلى آخره، فكيف ينفيها الشاعر، ويرميها على كاهل المستقبل؟ قلت ربما التجريد هنا من أجل التجريد، فنحن نتعامل مع نص شعري، وهو سيصل بنا، عن طريق الترميز، إلى ما كنا بعد أن يعيد التكوين. لكن معايير إعادة تكوين الشعب الفلسطيني التي اعتمدها محمود درويش كلها ليست صحيحة، وهي من الأجدى أن ترتبط بتطور الشعب الفلسطيني، بتحضره، وبموقعه على خريطة العولمة في القرن الحادي والعشرين. وهذا هو الخطأ الجسيم الذي وقع فيه الشاعر إذ بدلاً من أن يتحدث عن خصائص يتمناها لشعبه، قال عن شعبه ليس شعبًا، وبدلاً من أن يضع شعبه في المكان الذي يستحقه، أخضعه لأماني عامة إن دلت على شيء فإنما تدل على تراجع الوعي عند الشاعر وتوعكه، وعلى المستوى الجمالي، بدلاً من أن "يهز الأسس التاريخية والثقافية والنفسية للقارئ، ويؤزم علاقته باللغة" كما يقول بارت، وهذا هو حال "نص التلذذ"، "يسر ويملأ ويمنح المرح"، وهذا هو حال "نص اللذة"، لأنه يأتي من ثقافة لم يقطع معها، وظل مرتبطًا "بممارسات القراءة المريحة"، والدليل على ذلك أن معظم المنتديات العربية قد روجت للقصيدة إلا أنها حذفت البيت الخاص بالعلم الفلسطيني الذي يطلب فيه الشاعر إلينا لكي نصير شعبًا ألا نتذكره إلا في "ملعب الكرة ومسابقة الجمال ويوم النكبة"، فهل هذه هي شروط صيرورتنا كشعب حقًا؟





بمعنى أننا حتى لو سلمنا بخصائص محمود درويش كشروط نجد أنها شروط مغلوط فيها: الشعب الأمريكي شعب من أكثر الشعوب تقديسًا لعَلَمِهِ إذن ليس شعبًا! وكان من الأجدى أن يتحدث عن دكتاتورية العلم المرفوع في كل مكان وقومجية النظام وسحق الأمركة لكل من يعترض طريقها من الأمريكيين وغير الأمريكيين، لكنه يلح على المبتذل (ملعب الكرة) أو على ما يخلب عقله (مسابقة الجمال) أو على تأبيد الواقع القائم (يوم النكبة). بالطبع لن يفلت منا "الحضاري" الذي يرمي إليه محمود درويش حين يحكي عن مباراة كرة القدم أو أختها في اختيار ملكة الجمال معيارًا لتحضر شعب وليس لتكوين شعب، وحتى معيار التحضر هذا ليس أساسيًا بالمقارنة مع الدرجة التي وصلت إليها التكنولوجيا في تطورها لدى شعوب أخرى، فهل يقصد أن يكون لنا "الشكل" بعد أن يكون لنا "الجوهر"؟ وحتى هذه الخلاصة تنتفي بانتفاء المعيار الذي نفى كون الشعب الفلسطيني شعبًا، ونفى حقه الحضاري وكافة حقوقه السياسية حين تأكيده للنكبة وتأبيده لها.

وقس على ذلك كل ما قاله في قصيدته -التي سأنقلها للقارئ في آخر هذه المقاربة العاجلة- من "شروط" ليصير الشعب الفلسطيني شعبًا: صلاة الشكر للوطن بعد العشاء (بالأحرى لله لكنه يتحاشى كما هي عادته دومًا التعارك مع الله وقصدي بالطبع الأحزاب الدينية) شتم حاجب السلطان والسلطان وكأن محمود درويش فعل ذلك في حياته مرة واحدة، الوصف الإباحي لبطن الراقصة ولكنه هنا لم يقرأ رواياتي التي جعلت من الشعب الفلسطيني والحال هذه شعبًا منذ عشرات السنين، القبيلة التي ننسى ما تقوله لنا وينسى أنه كان العراب لشلة كلمته عليها الأولى والأخيرة، أن لا نقول بلادنا الأغلى والأجمل ولكنه لا يفهم أن ذلك من وعي الإيديولوجيا التي تسود الإنسان والحيوان، أن تحمي شرطة الآداب الغانية والزانية وهذا من طبيعة العقلية السائدة وليس من طبيعة شعب أيًا كان، الفاتحة في الزواج المختلط ترف وليست غاية، احترام الصواب والخطأ تمرين أخلاقي وسلوك فردي وتهذيب تربوي وليس أبدًا شرطًا سياسيًا، ولنلاحظ ما يلاحظه محمود درويش من سفاسف يعتبرها أمورًا أساسية، فلا دور العقل يلفت انتباهه ولا العلم ولا الفلسفة ولا الأدب ولا السحر تحت كافة معانيه وأشكاله. ولنلاحق ما يلاحقه محمود درويش من مفردات يستعملها في سياق تصالحه مع الله وتملقه له مثل الشر المقدس الحاجب السلطان القبيلة الغانية الزانية، فلا استعمالاتها تختلف عن السائد الديني ولا دوالها ومدلولاتها تنتج خطابًا جديدًا... والأهم من كل هذا ما جاء في البيت الأول: لسنا ملائكة والشر ليس من اختصاص الآخرين حيث ركز الغرب هنا على "الآخرين" الإسرائيليين، ومجّد هذا الغرب محمود درويش الإنساني صاحب رسالة التعايش، ومن هذا الباب الذي فتحه محمود درويش دخل إلى "الكونية" بعد أن جرد شعبه من شعبه، وجعل منه شعبًا ليس شعبًا، لم يولد بعد، فنفاه، ونفى حقه في الوجود، وكل تضحياته.



17.11.2008







إن أَردنا / محمود درويش

سنصير شعبًا، إن أردنا، حين نعلم أننا لسنا ملائكةً، وأن
الشر ليس من اختصاص الآخرين


سنصير شعبًا حين لا نتلو صلاة الشكر للوطن المقدس

كلما وجد الفقير عشاءهُ


سنصير شعبًا حين نشتم حاجب السلطان والسلطان

دون محاكمة


سنصير شعبًا حين يكتب شاعرٌ وصفاً إباحياً لبطن

الراقصة

سنصير شعبًا حين ننسى ما تقول لنا القبيلة…، حين

يُعْلي الفرد من شأن التفاصيل الصغيرة


سنصير شعبًا حين ينظر كاتبٌ نحو النجوم، ولا يقول

بلادنا أعلى .. وأجمل


سنصير شعبًا حين تحمي شرطة الآداب غانية وزانية من

الضرب المبرح في الشوارع

سنصير شعبًا حين لا يتذكَّرُ الفردُ الفلسطينيُّ رايته سوى في ملعب الكرة الفسيح، و في مسابقة الجمال، و يوم نكبته فقطْ


سنصير شعبًا، إن أردنا، حين يؤذن للمغني أن يرتل آية

من (سورة الرحمن ) في حفل الزواج المختلط


سنصير شعبًا حين نحترم الصواب، وحين نحترم الغلط













انحطاط العظام: أدونيس

من عجائب الأمر أن تقرأ لنوبل افتراضيّ، فتجده يكتب كعشرات غيره من الشعراء الذين لم تسمع بهم، وأحيانًا أقل شاعرية من غيره وأدنى قيمة. وتأخذك الحَيْرة عندما تحدس ما سيقوله الشاعر، ولا يقف الأمر عند حد الكشف عن المقول بل يتعداه إلى الأدوات والأنساق والفِكَر التي تُحكم/تتحكم بآلية القصيدة، وهذا هو أدونيس في "تحية إلى بغداد" آخر قصائده. إنه كشقيقه ومنافسه محمود درويش الذي أخلى له الطريق إلى ستوكهولم لم يعد يأتي بجديد، فهذا كذاك إن عاش أو إن مات لن يغير ذلك من أمر تطور القصيدة لديه، وقد بلغت الأوج منذ عشرات السنين قبل أن تبدأ انحدارها، قبل أن يبدأ انحطاطها. وأول ما يتبادر إلى الذهن من تبرير ليس بنيويًا بخصوص انحطاط قصيدة أدونيس عن بغداد ولها، أن بغداد موضوع محدد لشاعريته، يقيده، ويعيقه عن التحليق حسب "روشيتة" الغرب، وعلى الرغم من ذلك تشتم رائحة ترجمة هي تقليد أسلوبي لم يخلص أدونيس من هيمنته عليه منذ كتاباته التي يحاكي فيها بيرس، فهو بيرس العرب أسلوبًا، وعلى عكس ما يعتقده، الغرب –عضو محكمة نوبل على الخصوص- لا يحب هذا، أضف إلى ذلك أن كل الشعر اليوم الذي يعود إلى الظهور شيئًا فشيئًا بفضل إنترنت وأدب "النفس القصير" الذي يفرض ذاته من خلال الإعلام الإلكتروني، يدخل في صراع مع القصيدة المترهلة التي يمثلها أدونيس، ويقلل من حظ نيلها لأية جائزة، هذا إذا ما استثنينا الرواية وشروط صعودها كنوع أدبي يظل النوع الأدبي الساحق حتى في هذه اللحظة جد المتطورة من زمننا.

يبدأ أدونيس بعدد من الأبيات عمن يسميهم "الغزاة"، فيربط المنطوق الشعري بإشارات سياسية واضحة، فهم الأمريكان والإنجليز الذين احتلوا العراق، والرسالة التي يريد تمريرها واضحة، لكن مشكلة أدونيس ليست في الرسالة –بغض الطرف عما يُؤْثِر وما لا يُؤْثِر- وإنما في توصيل الرسالة، هذا التوصيل الذي تغلب عليه الفجاجة وعدم الابتكار –مفردة الغزاة منفرة وكل المعجم الأدونيسي شآم جورية معصية كما سنرى- ، فهو يقارن بصورة مستهلكة بين نهري الهدسون والتيمز –يقول ككل جاهل بلغة شكسبير "التايمز"- ونهري دجلة والفرات، ويصور بعد ذلك الحرب ورد فعل بغداد المتفذلك عن حضارة ستولد من "نفايات الذَرَّة" (يحيلك هذا إلى نفايات الذُّرَة وما أبشع هذا لأن الشعر بإحالاته جميلة كانت أم دميمة) ثم يعرج على بلاد العرب، بلاد اسمها "الصمت" (ما الجديد هنا؟) ويقارنها طبعًا بسومر وغلغامش، الأمجاد الأقدم من قديمة، فهو يتجاهل بغداد هارون الرشيد (موضوع للغرب مبتذل) وفي الأخير يأتي بحكمة الشاعر "المتجورر" (من جورية) المتنرجس المتعالي المحتقِر (كل ما يجري في بغداد ولبغداد ومنه لها فقط "تحية" عنوان القصيدة) الذي " عَلّمتْه وردة ٌ جورّية ٌ كيف ينَامْ بين أَحضْانِ الشّآم؟" كيف تكون انتهازيته وكيف ستكون نبويته: "لا تسل، يا أيها الشاعر، لن يوقظ هذه الأرض غير المعصية!"

"المعصية" هنا كمصطلح ليست تحطيما لسلوك يسود واجتراحًا لآخر ولكن كرد فعل "كافر" على "الغزاة" الذين يشنون حربًا "بتوفيق من السماء"، أهذا صحيح؟ أهي حرب دينية حرب بوش وبلير؟ نحن لم نسمع بهذه الحرب التي يحاولون أن تكون طائفية دينية بين أبناء العراق، ولا كلمة عن هذا أو تفنيد هذا، حتى المعصية باتجاه المتدينين المتزمتين العراقيين مفرغة من معنى المقاومة طالما أن مقاومة المحتل قد عبرت عنها المعصية لا العصيان، فبقي أدونيس على مستوى الوقائع المنطوقية مقيدًا بإيدولوجيا المحتل، وعلى مستوى الوظائف المنطوقية بالخطاب السائد.







تحية إلى بغداد / أدونيس


I


ضَعْ قهوتكَ جانباً واشربْ شيئاً آخر،

مُصغياً إلى ما يقوله الغُزاة:

بتوفيقٍ من السماء

نُديرُ حرباً وقائيةّ

حاملينَ ماءَ الحياة

من ضفاف الهدسون و التايمز

لكي تتدفق في دجلة والفرات


حربٌ على الماء والشّجر، على الطّيور ووجوه الأطفال

من بين أيديهم،

تخرجُ نارٌ في مساميرَ دُبِبَت رؤوسُها،

وعلى أكتافهم تُرَبّتُ يَدُ الآلة


الهواء يَنْتحبُ

محمولاً على قَصَبةٍ اسمها الأرض،

والتّرابُ يَحمّر يَسودُّ

في دَبّاباتٍ وقاذفاتِ قنابل،

في صواريخ َ ـ حيتانٍ طائرة،

في زمنٍ ترتجله الشّظايا،

في براكينَ فضائية تقذف حِممَها السّائلة


تَمايَلي، بغدادُ، على خاصرتكِ المثقوبة

وُلِدَ الغُزاة في حضن ريحٍ تَسير على أربع أرجلٍ،

بلُطفٍ من سَمائهم الخاصّة

التي تُهيّئُ العالم لكي يبتلعهُ

حُوتُ لُغتهم المقدّسة


حَقاً، كما يقول الغزاة،

كأنّ هذه الأمَّ ـ السَّماءُ

لا تتغذَّى إلاّ بأَبنائِها.


هل علينا كذلك أن نصدّقَ، أيُها الغزاة،

أنّ ثمة صواريخ نبويّة ً تحمل الغزو،

أنّ الحضارة لا تولد إلاّ من نفاياتِ الذَّرَّة؟

رمادٌ قديمٌ جديدٌ تحت أقدامنا:

هل تعرفينَ إلى أيّة هاويةٍ وصلتِ

أيّتها الأقدامُ الضّالّة؟


موتُنا الآن يقيمُ في عقاربِ السّاعة.

وتَهمّ أحزانُنا أن تُنشِبَ أظفارَها

في أجسادِ النجّوم


يا لهذه البلاد التي نَنْتمي إليها:

اسمُها الصمَّت

وليس فيها غيرُ الآلام

وها هي مليئة ٌ بالقبور ـ جامدةً ومتحرّكة


يا لهذه البلاد التي ننتمي إليها:

أرضٌ تَسبح في الحرائق

والبشر كمثل حَطبٍ أَخضر


ما أَبْهاكَ أيّها الحَجرُ السّومريّ،

لا يزال قلبكَ ينبض بجلجامش،

وها هو يستعدّ لكي يترَجَّلَ من جديدٍ،

بَحثاً عن الحياة،

غير أنّ دليله، هذه المرّةَ، غبارٌ ذَرّيّ


أغْلقنا النّوافذ َ

بعد أن مسحنا زُجاجَها بجرائدَ تؤرّخ للِغزو،

وألقينا على القبور آخرَ ورودنا

إلى أين نمضي؟

الطّريقُ نفسه لم يعد يصدّق خطواتِنا


II


وطنٌ يُوشكُ أن يَنْسى اسْمَهُ.

ولماذا،
عَلّمتْني وردة ٌ جورّية ٌ كيف أنَامْ

بين أَحضْانِ الشّآم؟

أَكَلَ القاتلُ خُبزَ الأغنيْة،

لاَ تَسَلْ، يا أيّها الشّاعِرُ، لن يُوقظَ هذي الأرض

غيرُ المعَصِية.


















انحطاط العظام: فيصل دراج

ناقد لامع كفيصل دراج حسب أي معيار؟ في الفلسفة، وهو الفيلسوف، المعيار بعلامته سواء أكانت ظاهرة أم باطنة تبين بها الأشياء والمعاني، فنحكم عليها. العلامة الظاهرة في كل كتابات هذا الناقد هي الإسقاط، بمعنى أن يقول النص ما يريد الناقد قوله الذي يسقط عليه أحكامه، والعلامة الباطنة، وهي الأخطر، أن يختبئ الناقد من وراء النص المحير المقلق والمثير للمتاعب، وقصدي هنا النص الديني للاهوتيين الجدد، فلا يقول ما يريد، أو بالأحرى لا يقول شيئًا لأن الناقد يفضل الهرب بجلده إلى واحة الخطاب السائد ومرايا النظام التي وجد له فيها مكانًا مريحًا. ينتمي هذا الناقد المتيسرن إلى تيار ضارب في القدم، في السياسة قبل الأدب، وقد أخلى المكان لزمر الإخوان المسلمين الذين يصولون اليوم ويجولون كما شاءوا في زمن وصموه بلا تاريخية نضالية لا تصدق وفضاء رشقوه بلا هوية ربانية لا تضاهى. وإذا سألته عن الدور الذي كان عليه أن يلعبه قال لك ومن أنا لألعب دورًا؟ لست حزبًا ولست شيئًا آخر سواي؟ وكل مصائب الدين علينا ولحاه اليوم بدأت من مثل هذا النفي. إذا كان صاحب أطروحة الاغتراب الديني عند ماركس يقول لك هذا الكلام! ولكي نكمل صورة هذا المثقف النموذج لزمن الانحطاط العربي، ونقف على آلية نمط من التفكير الذي يذبحنا، نسمعه يتكلم في تأبينه لمحمود درويش عن "تواطؤ نزيه" بينه وبين الشاعر، وكأن هناك تواطؤًا نزيهًا وتواطؤًا غير نزيه، هناك تواطؤ وكفى، وللتواطؤ هنا علاقة بالعلامة الباطنة التي يصر دراج على وصفها بالنزيهة بينما هي سلاسل لا تعد ولا تحصى من النفاق الدهري، يا لحى العلمانيين وأئمتهم الحمر! وعندما يبدأ هو والشاعر "النزيه"، إذ يصف درويش المافيوي المعروف بالنزيه، ويبطن بذلك طريقة خسيسة في التعامل بين أدباء التواطؤ والتسلق إلى المجد، بتوزيع الجوائز على أيهم أحسن كاتب وأيهم أعظم روائي، يقف كلاهما خارج الدهر كإلهين من آلهة روبابيكا الأنتيكا، أما عندما يكيلان المديح لنيتشه، فكل البربرية المتحضرة تصبح لهما علامة باطنة وأخرى ظاهرة.

علم اليقين في الفلسفة –يعرف الفيلسوف فيصل ماذا أعني- لا يرمي في أحكامه إلى القطع دون براهين، وإلى البراهين دون ظواهر، وإلى الظواهر دون مظاهر، وبلغة النقد دون علامات وإشارات كلها تومئ إلى إدانة هذا النوع من المثقف الرث الذي هو فيصل دراج.

المحرمات التي كان درويش يصف بها مشاكل وجودنا حين كان يُطلب منه الحديث عنها لهي دواوين الشعر التي نريد وكتب النقد وأقمار صفد بلدتك التي لم تعد تذكرها ويذكرها عنك كل مجنون جعل منه أصحاب العمائم واللحى مقاومًا رومنسيًا.

لكنك بائع لقلمك لمن يدفع، كما تردد، بائع روث في حظيرة الإعلام العربي من الحياة إلى الشرق الأوسط إلى مطبوعات سلطة عباس ميرزا المدرسية.















انحطاط العظام: الطيب صالح


عندما دعونا الطيب صالح إلى السوربون، أنفق وقته في الحديث عن اسمه واسم عائلته، وقال يحتار الناس في أيهما اسم عائلته وأيهما اسمه، فالطيب يمكن أن يكون اسمه، ويمكن أن يكون اسم عائلته، وكذلك الأمر مع صالح، وأضاف كمن وجد لنفسه تبريرًا مريحًا أن للطيب صفة الصالح، وللصالح صفة الطيب، ويمكن أن يكون لكليهما معنى واحد. كان الحضور يضحك لضحكه دون أن يلمس كل الفاجعة التي تختفي وراء الاسم. وعندما قدت الطيب صالح إلى حفل الكوكتيل الذي كان بانتظاره، ووجدت نفسي وإياه وحدنا في مصعد شبه معتم، كلمته عن جمال مصطفى سعيد في شكله وعقله، وكان قصدي امتداحه هو في عتمة المكان، إذا به يشير بأصابع مرتعشة إلى وجهه، ويذم الدمامة التي كانت له قناعًا. الفاجع هنا أقوى، هيئي مظهري وفي الوقت آنه يحيل في دلالاته النفسية إلى ما ينقص الطيب صالح من شخصية مميزة. أنا لا أتكلم هنا عن الصوت الرخيم للمذيع الذي كانه ولا عن المحاضر اللبق ولكن عما يجول في نفسه من انفعالات وجودية أنتجت على الورق المصطفى لا الطيب والسعيد لا الصالح، ولن يقف الشعور بالنقص لدى الكاتب عند حد الاسم أو الشكل فقط ولكن في السلوك أيضًا عندما فاجأ الجميع بعد أن شرب الشمبانيا بالانزواء من أجل الصلاة. الشعور بالنقص كان شعوره، الشعور بعدم التوازن، والشعور بالانتماء إلى عالمين. كان الطيب صالح لا يكل حين حديثه عن الغرب من ترداد أنهم لم يفهمونا وأننا لم نفهمهم، ولم يقل أبدًا إننا لم نفهم أنفسنا وإنهم لم يفهموا أنفسهم، فقد كانت تقوم لديه في عدم فهم الذات كل فاجعته. ومن هذه الناحية، دَرَست موسم الهجرة إلى الشمال روايته ودَرّستها في جامعة مراكش، وأبرزت البرجوازي المنفصم الصغير الذي كانه، فإذا به عندما التقينا في أحد مرابد بغداد يتجاهلني ولا يسلم عليّ. كان يرتدي عمامته السودانية وثوبه التقليدي ليبعد الأنظار عن هيوله، وكان الشبان من الكتاب يحيطون به من كل جانب، وقد اصطفوه من بين كل المدعوين، وهو كان يبدو سعيدًا.

بين الممدوح والمذموم، من الطبيعي للطيب صالح اختيار الممدوح كاختياره للمصطفى على الطيب وللسعيد على الصالح، لهذا السبب تجاهلني ولم يسلم عليّ.

الطيب صالح كان يكتب كرد فعل على معاناته الفردية وهذا حال كل الكتاب ولكن بخصوصه حسب رؤية وبنية وزمن صعود البرجوازية الصغيرة التي لم تزل تطبل له حتى بعد موته لعدم الاعتراف بموتها.

لم يفهم أبدًا الطيب صالح أن علاقة الشرق بالغرب علاقة سياسية لا صلة لها بلم يفهمونا ولم نفهمهم، هذا التعميم القصير البصر يريد ما يريد رأس المال نفيه: العلاقة الإنسانية بين كل الناس بغض الطرف عن أصولهم وأهوائهم ومشاربهم وانتماءاتهم.


20.02.2009













إعادة نشر مقال وكأنه كتب اليوم بالتعاون مع جريدة "مصرنا" الأمريكية...

رؤساء وملوك الانحطاط الدميم


إلى المواطن العربي من المحيط إلى الهدير
يا أمة ضحكت من صمتها الأمم

لن أعيد عليكم ما يقولونه لكم في الجرائد والمجلات وشتى وسائل الإعلام التي لا غاية لها إلا أن تعمل على استعبادكم، ولن أتغنى كما يتغنى الكثير منكم بالأيام الخوالي والسالف من الأمجاد. ستقولون لي نحن أمة أخطأت الطريق إلى التاريخ قبل أن تخطئ الطريق إلى غيرها من الأمم أو إلى نفسها، لأننا جبلنا في الذل على أن نكون صاغرين، وأنا أقول لكم الدخول في التاريخ لهو إرادة كل فرد، ومسؤولية كل بيت، كل حي، كل مدينة، كل بلد، اسألوا قطيعًا من الغنم يقول لكم كيف يواجه الخطر عندما يحدق به من كل حدب وصوب كما يحدق بكم اليوم كرجل واحد، وأنتم لستم غنمًا، فهل أنتم العار؟ الشعور بالعار شعور ثوري، تهتز له الضمائر، فهل فقدتم ضمائركم؟ يقال من لا ضمير له لا إنسانية له، فلتكونوا إذن طرائد لغيركم، حتى الطرائد في الضراء لهي أخوة فيما بينها وقوة وصراع.

ليس صحيحًا ما يقال عنكم ضحايا لجلاد واحد هو الحاكم بأمركم، هذا الحاكم الملك أو الرئيس لهو أجبن الجبناء ممن عرفتم، وإلا ما كان له جيش يقمعكم، وما كانت له زنازين يرميكم فيها، وما كانت له مخابرات تراقب كل شيء، كل شيء، حتى الهواء في صدوركم، وما كان ليعيش في قصر منعزل بعيد عن أرصفتكم التي اهترأت عليها نعالكم، أنتم ضحايا أنفسكم، وأنتم جلادو أنفسكم. والغرب الذي لا يريد أن يفهم، لا يريد أن يفهمكم، يلقي باللومة عليكم لأنكم لا تريدون أن تنهضوا، هذا الغرب المتعالي المتغطرس المتعامي عن رؤية ما يجري بالفعل، هو الذي صنع حكامكم على هواه، ليبقيكم في نزاع دائم معهم ومع أنفسكم، ولينام مطمئنًا بعد نشرة الأخبار. هكذا هم برابرة اليوم المتحضرون الذين يمكنهم النوم ملء جفنيهم، وعلى بعد ليس ببعيد عنهم العراق ينفق دمه بعدما أنفقت فلسطين كل دمها، ومصر تشرب الحليب الملوث، والجزائر لا تجد في جيبها ثمن الحليب. ولكني هنا لست في صدد تبرير أوضاعكم، لأنكم ضليعون في الذنب، وذنبكم لما كنتم في الأمس أبرياء، أما اليوم، بعد أن حولوكم إلى برابرة لأنفسكم، فالجرم، كل الجرم، أن تبقوا على ما أنتم عليه.

ستقولون لي لقد تأخر الوقت بنا كثيرًا بعد أن غدونا عبء أنفسنا، نأكل إن وجدنا، ونشرب، وننام، هذا يكفينا، وتبًا للعالم، للوجود، تبًا للتاريخ الذي خرجنا منه طوعًا، تبًا للعولمة التي افترستنا، تبًا للحداثة التي دمرتنا، تبًا للآباء الذين أورثونا ما لم نشأه أبدًا، تبًا للأولاد الذين سنورثهم الذل والخنوع وكل ما هو أشد بؤسًا! وبعد أن نحكي لهؤلاء الأبناء قليلاً عن أحلامنا التي انتهكت أمام أعيننا، ونحن نبتسم لليد المجرمة، نطلب إليهم ألا يحلموا، نخرجهم من إنسانيتهم بعد أن أخرجونا من إنسانيتنا، وفي ظننا أننا نحفظهم من شر الناس، وشر الهزيمة، وشر الوطن وقد غدا مرادفًا للمنفى، فحتى الحلم، في عصر واحد اسمه محمد السادس، أو آخر اسمه حسني مبارك، أو آخر وآخر اسمه علي عبد الله صالح، قد غدا موضوعًا للعقاب.


لنكن واضحين....


نقول لحكامنا، ملوكًا ورؤساء وقوادين، بيننا وبينكم الحل ممكن، أن تتركونا نحكم أنفسنا على هوانا مقابل أن نجعل منكم أباطرة على هواكم. نحن لا نريد خلعكم، ولا إسقاطكم، نريدكم أن تبقوا في قصوركم من مهدكم إلى لحدكم، أليس هذا ما تسعون إليه؟ نريدكم أن تتصرفوا بمصائركم كما يطيب لكم على أن تتركونا نتصرف بمصائرنا كما يطيب لنا.

القصور والنساء التي لكم خذوها، الأموال التي نهبتم خذوها، السيارات التي اقتنيتم خذوها، خدمكم، حشمكم، سجادكم العجميّ، كل ما ليس لكم بينما تقولون لكم حلال عليكم، ملكة الإنجليز ليست أفضل منكم، ولا ملك النرويج أو السويد، أباطرة اليابان، كونوا أباطرة خير لكم من أن تكونوا ملوكًا صغارًا أو رؤساء نكرات، واخلعوا عنكم أصفاد السياسة، فأنتم اليوم ملقون في زنازينها، وان كانت هذه الزنازين قصورًا ونياشين! ابعدوا عنكم أوجاع الرأس، فأنتم تفتقدون إلى البال الهنيء، السياسة أتركوها لنا، فهي لنا عبء على عبء، ونحن قد دأبنا على أن نكون جبابرة في بؤس الحياة، فلنكن جبابرة في بؤس السياسة، ولنعش حياتنا كباقي الأمم على طريقتنا، ولن نقول كما قال عاشق من عندهم "أعطنا النسيان لنحيا"، فقد اشتاقت الحياة لنا، واشتقنا للحياة. لن نقول "أيها الشعور الرائع خلّصنا من هول العالم"، فقد ماتت مشاعرنا، ومات إخلاصنا للموت، لن نترك الليل يخلو المكان لليل، ولن نخاف من قدوم النهار.


عهدنا لكم أن نوقع عقدًا للحكم بيننا وبينكم، فانتظروا كيف سيكون حكمنا، وانظروا كيف كان حكمكم:


المغرب

هذا المغرب الماخور الجماعي أو المعتقل الجماعي أو مستشفى المجانين الجماعي الذي يرى فيه الغرب نموذجًا مثاليًا لما صنعت يداه لهو مغربك يا من لست سيدي ولا مولاي الملك محمد السادس، مغرب أبيك، ومن قبله جدك، فكن به فخورًا.


ليست قداستك حبرًا لفاتيكان العرب _ تقول أنت أميرًا للمؤمنين _ هي التي فتحت المؤتفكات من مدنك للمتاجرين بعرض شعبك تحت غطاء السياحة؟ أليس حكمك المطلق الذي تخوله لك المادة 19 من الدستور هو الذي يرمي في السجون كل معارض وكل عارض؟ أليس تمثيلك الأعلى للأمة هو الذي جعل منها زمرًا من العصابيين حكامًا ومحكومين؟ يا ضامن بقاء الدولة في الفساد، وخلود موظفيها في البيروقراطية! يا سلطة دون حدود، ويا حدودًا تنتهي في سبتة ومليلة! الحياء لا يعرف طريقًا إلى محياك، والحشمة ضلت الطريق إلى مخدعك! أنت ملك على بلد أم أن البلد ملكك؟ الشركات الكبرى لك والصغرى لك، والفنادق الكبرى لك والصغرى لك، والمتاجر الكبرى لك والصغرى لك، والناس أدوات في خدمتك، والناس نعال، والناس بغال، والناس حمير، والناس لا تأكل الحريرة في المساء، ولا شيء تأكل، والناس لا تنام، وأنت تنام كالعتريس في قصرك. انظر إليك كيف سمنت، وترهلت، وغدوت ابنًا للبشاعة، أإلى هذه الدرجة تأتي البشاعة بأبناء على شاكلتك؟ لكنك لا تنظر إلى نفسك في المرآة، تكتفي بما تقوله للاّ سلمى عنك زورًا، وما تنقله لك بهتانًا.


الزملاء من أساتذتك عندما كنتَ طالبًا في كلية الحقوق قالوا لي إنك متوسط الذكاء، ولهذا هم ساعدوك كثيرًا، فاعتبرني أستاذك، ولن أبخل عليك في عوني لك قبل أن أكون وسيطًا بينك وبين شعبك للتوقيع على عقد للحكم يجعل منك إمبراطورًا عظيم الشأن بدلاً من ملك صغير قليل الشأن يأتمر بأوامر ساركوزي، وعندما يكون ساركوزي مشغولاً بإضراب أو غير إضراب يزلزل أركانه، بحاجب ساركوزي.


ارفع التعذيب في هذا السجن الكبير الذي اسمه المغرب، اعمل على تخفيض الأمية التي تجتاح نصف رعيتك، اكسر أنف موظفيك المتعالين على من هم في خدمتهم الذين هم صورة عنك، واجعل من "الحاقر والمحقور" كما يقال عندكم كلمتين غير مغربيتين، كف عن ترداد "الصحراء الغربية، الصحراء الغربية، الصحراء الفوسفاتية"... التي تحمي بها عرشك، وبها يدفع المغاربة ثمن تطورهم، ودخولهم في عالم اليوم، ارفض للشفاه الغليظة المداهنة الفائحة الانحناء على يدك التي اتسخت بالقبلات، ولا ترفع يديك إلى السماء يوم لا يصب المطر، فتصب حجارة من سجيل بدلاً من المطر على رأسك.


لا تترك الأساتذة يزورون التاريخ، ولا الضباط يزورون الهوية، ولا النواب الحياة، دع هؤلاء يتغيبون عن الحضور عند كل جلسة ما شاء لهم، وغيابهم على كل حال كحضورهم واحد، فأنت، حمورابي زمانك، القوانين قوانينك، والأحكام أحكامك، وإلا ما معنى أن يكون حكمك مطلقًا، عباس الفاشي دائمًا مؤيد "ندعم جلالة الملك مهما قرر"، هذا هو برنامجه السياسي وبرنامج كل حزب من أحزابك، هذه هي الديمقراطية المغربية على الطريقة المحمدية السداسية التي لك، فقرر إذن أن لا يعمل المغاربة نصف السنة، وأن يحتفلوا كل أسبوع بأسبوع الحصان، وأن يقيموا للسياح كرنفالات يقولون عنها فلكلورية بينما هي الانحطاط، اجعل من كل ساحات المملكة ساحة لجامع الفناء حيث السحر هو المجد والرقص هو التاج، وشجع النكاح الذكوري في مراكش ليقولوا عنك ملك متحضر، نظامه منفتح، وشعبه متفتح، وتقول عنهم أغبياء، عقلهم منغلق، وفهمهم منحرف، فهمّك الوحيد أن تمتلئ فنادقك بهم، وتشتري كما كان يشتري أبوك عشرات السيارات المصطفاة التي تجمعها في كراجات قصورك دون أن تركبها ولو مرة واحدة، لأنك تتحاشى المرور في شوارع عاصمتك ذات الروائح المثيرة للقرف والغثيان، وتفضل قراءة كتاب للعنصري الطاهر بن جلّون عن اللاعنصرية، أو أن تلعب البوكر مع محمود عرشان زميله في الكتابة بالدم، جلاد قديم يقول عن نفسه مقاوم مثل كاتب قديم يسقط حتى قمة رأسه في الغائط، فأنت إن كنت مع التعذيب أنت مع اللاعقاب للجلادين، وإلى الجحيم حقوق الإنسان، وكل إنسان، لأنك الإنسان الوحيد الذي ليس بإنسان.


مقدس أنت، أليسك ابنًا لإله ينفر منه الإله؟ اله للشحاذين بالأحرى بعد أن جعلت من شعبك شحاذًا خلاقًا ما فاقه أحد على وجه الأرض مذ كانت أرض: يستأجر الأطفال، يستدين الرّضّع، يماثل المعاقين في أجسادهم المعاق في عقله على يديك! ولهذه الناحية القدسية فيك واجهت الإسلاميين بالإسلام بعد أن شوهته، وكنت إلهًا يصارع آلهة انتصرت عليها... إلى حد الآن.


اترك أطفالك يعملون، فالمغرب بحاجة إلى أطفال تعمل ضعف ما يعمله الرجال، وأنت مصاريفك كثيرة، هكذا هم يفيدون، وهكذا أنت تستفيد، وعندما لا تأتيك حصتك من بارونات الحشيش، اضرب عن الطعام، وإياك أن تنتحر كأولئك "الحاملين للرسالة الملكية"، وغيرهم من العاطلين عن العمل، وبيني وبينك الانتحار أحسن لهم ولك، لأنك لا تملك أشغالاً، ولأنهم سيكونون عرضة للفساد في مملكة دينها الفساد وديدنها، وإلا كيف بالله عليك ستكون هذه مملكة؟ لك مملكة؟


أخيرًا ارأف بزميلك الجزائري الذي هو في وضع لا يحسد عليه مثلك، وهو إن غنى لاتحاد المغرب العربي، لتسويقه الداخلي، من وقت لوقت، فغنّ معه، ولا تقرع، لتسويقك الداخلي، في الصحراء الغربية، طبول الحرب.


الجزائر

بولندا العرب هذه التي كان اسمها الجزائر الثورة، وغدت ترى في كل شيء قضاءً وقدرًا!

الشوارع المحفرة، الأرصفة القذرة، الغلاء الفاحش، قوة الشراء المتدهورة، البيروقراطية المتوحشة، وجوه الوزراء البشعة، سرقاتهم الخفية العلنية، القمع اليومي، القهر النفسي، البطالة المزمنة، الأوليغارشية حكم القلة، الشمس المجرمة، الشواطئ المسلمة، العسكرية، المافيوية، الأخطبوطية، الدولة المزبلة... ومرض بوتفليقة المدعو دياليز، تصفية الدم من أوساخ الحكم في جنيف أو باريس، فلا ثقة له بعاصمة جعلها تعاني مما هو يعاني، وإلا كيف يكون الرئيس؟ "كتب ربي! مكتوب من عند ربي! كلّش ربي!" وكل شيء للطغمة يمشي بإذن ربي، من الإبرة المستوردة إلى آبار النفط المصدرة لنفطها بأغلى الأسعار العائد ريعها عليها!


صنعت إذن يا عبد العزيز، وكل الذين كانوا من قبلك، شعبًا يرى الظلم فيقول عنه عدلاً، وجعلت له من الدعاء بلسمًا للجراح، وبلسم الجراح شيء من القطران، لكن الإيمان الأميّ كان وسيظل وسيلة لإخماد الثورة في العقول، والقبول بالأمر الواقع، بأمرك الواقع، سيفًا على الرقاب وقدرًا منزّلاً. لهذا ترى جنرالاتك الذين جاءوا بك مبسوطين منك، فقد أتممت مهمتك على أحسن ما يرام، وهم لهذا سيكافئونك بعهدة جديدة على الرغم من وقوفك على حافة قبرك، سيبقون عليك رئيسًا أبديًا، فزميلك التونسي، كزميلك الليبي، وزميلك المصري، السوداني، السوري... إلى آخره إلى آخره ليس بأفضل منك، وطالما بقيت مغمض العينين عن ملايين الدولارات التي تذهب إلى جيوبهم.


لكني أعرف، أنا ابن "باب الواد" اسأل عني، أنّ هذا الحي الشعبي، وكل حي، لن يجرفه الواد إلى الأبد.


أعرف أن بولندا العرب لن تبقى بولندا العرب إلى الأبد، وأن كل شيء بالنسبة للجزائري ينتهي بالعناد. عناد مزلزل.


في العام الماضي لما كنت في الجزائر شاهدًا على بؤس الثقافة والعلم، نهض المعلمون في إضرابات لم ينجح النظام في كسر شوكتها أو حتى تشويه صورتها، أضربوا لأن الخبز صار ترفًا للأسنان، ولأن بوتفليقة اشترى بعائدات النفط أسلحة ستصدأ في المخازن بدلاً من أن يدخل بلده من باب الحضارة العريض، ولأن الأمريكان قالوا إنهم سيقيمون درعًا أمنيًا في حاسي مسعود من أجل نفط حاسي مسعود تحت ذريعة إرهاب تفبركه الدولة قطعة قطعة لتحمي نفسها من ألا تسرق، ولتبعد شعبها عن ألا يطالب، وهي قد نجحت إلى حد الآن. ولكن إلى متى؟ إلى أن تنفق المليارات في مشاريع وهمية المستفيد الوحيد منها فرنسا، روسيا، أمريكا… وهم لهذا يأتون الجزائر هارعين، ليس لأنهم يحبون الجزائر، منذ متى أحبوها؟ لم يحبوها وهي غارقة في ديونها، هم يأتون الجزائر من أجل نقودها، وهم ينجحون في أخذ نقودها بيد بعد إعطائها بيد.


البربر ليسوا عربًا، يجب علينا أن نقولها، وبصوت عال، والعرب ليسوا بربرًا، ولكنهم جزائريون كلهم. نعم الجزائر جزائرية للشعبين، وعلى الحقد الألفي ألا يكون جزائريًا.

متى يفهم الواحد والآخر أن هدف الاستعمار القديم كالجديد هو الإيقاع بالواحد والآخر، لتبقى امتيازات العساكر التي هي امتيازات الرئيس، لكني لن أعيد هنا ما قلته في روايتي "القمر الهاتك" بالعربية و"الجزائر التي بإمكانها أن تكون الجنة" بالفرنسية. سيصطدم العقد للحكم الذي أقترحه على الرئيس الجزائري برفض العساكر له، التي ترى في نفسها الإمبراطور الأوحد، إمبراطورًا دون إمبراطورية، وحاكمًا دون حكم، الإمبراطورية الظل، والحكم المتربص، القوة المداهمة، المصالحة الوطنية من طرف واحد، الجامعات الكراخانات، الصحافة المراقبة، الأقلام الاستثناء، التلفزة المطبلة للصورة، رئيس التلفزة، تقول العاشقة "ليبق الليل لنا خالدًا"، "أنتم يا من يضحك لهم الحب اسمعوا هذا النداء"، "يا عبيد النهار المزهوين"، الأخبار القمامة، "البارابول" المنقذ للروح، الأدب القمامة، المهرجانات التهريج، وزيرة الثقافة السكيرة، الثقافة القمامة، التخلف النبيل، الزراعة المتخلفة، البطاطا المستوردة، الصناعة المتقهقرة، الفلاحون المتواكلون، العمال المهانون، الوزراء الدجالون، المتقاعدون المحتضرون، النمو المعطل، الإنتاج المقيد، التدليس المدني، التزوير الانتخابي، الديكتاتورية المناضلة، "الحقرة" الأمينة، التهرب من الضريبة، التحايل على القانون، القانون للأقوى، التهمة الجاهزة، المحاكم المفبركة، العدل المهين، النهار الحزين، العنف غير الشريف، عشرات آلاف المفقودين، الإرهاب غير المخلص، المقبّل للموت، القادم من وقت لوقت للتخويف وإحكام القبضة، المخدرات المخلّصة، الحجاب الجريء، الحجاب الرديء، الحجاب العفيف، الحجاب السفيف، اليجوز واللايجوز، وعّاظ الدولة، اللحى السرية... وفوق كل هذا بلخادم المنافق، ولكن الوفيّ لخط مدمر للجزائر اللاوفية له ولكل المتسلقين الباقين أمثاله.


تونس

دول كالفطر النابت على كتف الحضارة، ما أن تبدأ بالنمو حتى تبدأ بالانقراض، وبين حياتها وموتها تقوم مسافة بقائها، التي تبقى قصيرة على أي حال مهما طالت. دول كالواحات، الدول السراب، دول كمخيمات الصيف، كرماح الغزاة.


الشعب الطيب الذي يجد نفسه في قبضة من حديد لن يبقى إلى الأبد طيبًا، فهو قادر على الثورة يومًا، ثورة تقتل أبناءها، وأول من تقتل حكامها.


في فرنسا، هذا الشعب الطيب قام بأول ثورة في التاريخ، وفي روسيا بأول ثورة اشتراكية، وفي كوبا بأول ثورة ماتت في المهد بعد مصرع غيفارا، وستبقى هذه الثورة في الموت على حالها، الثورة على الحياة حقيقة واقعة، لكنه الشعب صانع الموت للذي يستأهله، هي ثورته، وهي إرادته.


دولة الفطر دولة تونس، والشعب الطيب الشعب التونسي، أقاموا عليهما دكتاتور بعد دكتاتور، زين الديك بن علي، ولأول مرة في تاريخهما أجمعت السي آي ايه والكيه جي بي عليه، وصار مصير تونس شرقيًا تارة وغربيًا تارة أخرى. ربما لسحر شواطئها، ولكن حتمًا لموقعها الجغرافي، ولدورها السياسي، ولعقدة اسمها قرطاج. لهذا تجد الشرق معجبًا والغرب بإنجازات الطاغية في مادة حقوق الإنسان وحضارة الهريسة.


أبهذا القدر صنعوا النظام على صورة الهراوة، وظل النظام ضعيفًا؟ ماذا يعني إذن اعتقال الكلمات المعارضة وتشديد الضوابط على المحامين؟ فمن سيدافع عنا في هذا المصاب؟ ومن سيقول عنا للمجرم مجرمًا وللسفاح ابن السكين؟ لنخلع عنا أجسادنا إذن، ولنحوّم أرواحًا مع الطيور كي نحميها من بنادق الصيد، فملائكة النظام هؤلاء يحبون أكل الحمام، ومنذ ربع قرن لم يكفهم قتلها وقتلنا.


تونس اليوم في حداد... يا ابن عليّ، ماذا تبقى من لحمنا كي نطعمك لحمنا؟ أم أن صنفك من آكلي لحوم البشر الذين تسعدهم الجماجم؟ افتح زنازينك إذن، وخلّنا نشم رائحة الدخان، فالمحارق قد غدت سعادتنا. أما تونس، فلن نتركها لك عروسًا، تغتصبها ولن نتركها لك زوجة بعد أن زوجناها للعواصف. الموت هو طريقك إليها والينا، فنحن هي، وهي نحن. القتل مهنتك، والتنكيل، والهوس بمجد هو في حقيقته ذل.


سيلدك الجنون كما ولد من قبلك هتلر وشاوشيسكو وأمين دادا، ولكنها ستهزمك شر هزيمة، فاطمة التونسية، التي هي أختنا وأمنا وابنتنا. ستتذرع بخطر الإرهاب والتطرف الديني لقمعها وكل معارضة سلمية، قانون مكافحة الإرهاب في العام 2003 قد جاء من أجل اعتقال عشرات الشبان الذين من بينهم المتزلجون على أمواج الإنترنت أو أعضاء حركة النهضة الإسلامية، ولانتزاع اعترافاتهم. التعذيب خير وسيلة، أما المعارضون والمدافعون عن حقوق الإنسان، فيخضعون لمراقبة شديدة، مثلهم مثل السياسيين الذين أطلق سراحهم، وحرموا من العمل ومن جوازاتهم، ثم تأتي يا ابن عليّ، وتوزع على الشعراء النياشين، وتترك للبنتاغون مهمة تدريب جيشك، وهذا مجرم الحرب رامسفيلد المبسوط منك يصرح: "لطالما كانت تونس أحد أصوات الاعتدال والتسامح الهامة، والتي لعبت دورًا رئيسيًا في مواجهة المتطرفين لا في هذا البلد فحسب، بل في المنطقة كلها…"! فهل تركتهم أيها المعتدل المتسامح يحققون في سجونك ليكون لك شرف إخماد كل أشكال المعارضة السلمية، حرية الصحافة، ومشاركة الرأي العام في العملية السياسية؟ جميل هذا "التطرف" الذي يغدو ذريعة لإشباع وحش السادية فيك، ولكنك لا تقوم بما عليك أن تقوم بشكل نظيف، فتضطر أسيادك الأمريكان بدعوة تونس إلى "تسريع الإصلاحات التي تخلق فضاء سياسيًا أكثر انفتاحًا وحيوية يتمكن فيه جميع الأطراف ومنظمات المجتمع المدني والسجناء المفرج عنهم من العمل بحرية" (نقلاً عن هيومن رايتس ووتش) هذا ما يدعى بالوقاحة، احتقار العرف والتقاليد والرأي العام والأخلاق الشائعة، الاستخفاف، الصلافة، وباختصار عكس ما يقال عنه في الفلسفة "الروحية"!


ليبيا

مع ليبيا ندخل في عصر القرود، نعود إلى الوراء ملايين السنين، ونبحث عن أثر لليبيين، فلا نجد لهم أدنى أثر. كل هذا بسببك يا عبد الناصر الذي قلت عن القذافي ذات يوم "الوكيل على الأمة العربية"، وكانت النتيجة أنه قام بالوكالة على أحسن وجه في ليبيا بعد أن جعل منها دولة لا دولة أو إن شئت دولة سوقية!


وقل هذا القريد لم يزل هنا منذ حوالي أربعين عامًا!


الكرسي الذي يجلس عليه كرهه، الخيمة التي يقبع تحتها لفظته، التلفون الذي يتفتف فيه بصقه، الهواء الذي يتنفسه تعفن، المرحاض الذي يجلس عليه داخ، القمر الذي يخطئ أحيانًا ويطلع في سمائه شاخ، الصحراء تصرخ فيه كل يوم كل الأحياء ماتوا فلا يسمع، البحر على صورته الدميمة في كل مكان حمل أغراضه وخلى المكان مغادرًا شواطئ ليبيا إلى زحل، الضوء انتحر، لهذا حط الظلام على الحبيبة ليبيا، ولم نعد نرى حتى في عز النهار العار الذي على الجباه، والعار لوجودنا وصمة واحدة أما لوجود القذافي فكل الوصمات.

لست أدري لم هذا النكرة يذكرني بموسوليني، فاشية الواحد والآخر هذا صحيح، الدكتاتورية المطلقة للواحد والآخر هذا صحيح، قومجية الواحد والآخر هذا صحيح، ولكن لأن كليهما كان يحلم بإمبراطورية يؤسسها، إمبراطورية الصحراء، موسولوني احتل الحبشة، وقذافي التشاد، وكلاهما طرد من الحبشة شر طردة ومن التشاد.


أما وجه الشبه الآخر بين الدوتشه والعقيد، فهو مطاردة كليهما لمعارضيهم والمنشقين عنهم وتصفيتهم ولو كانوا في الصين، لخوف ليس من برنامج سياسي كان أو غيره لا سمح الله، التغيير شيء ظريف، وعائدات الغاز والنفط فيما يخص "الجماهيرية" تشبع كل الرغبات على كافة انتماءاتها، وإنما لرهاب غير محدد أصله، هلع أو ذعر شديد مرضي، ومن أجل رهاب كهذا جاء إرهاب الدولة: الانترنيت تغدو خطرًا يهدد أركان النظام مثله مثل الممرضات البلغار والطبيب الفلسطيني، لهذا ينبري الولد لحماية أبيه، ويأخذ سيف الإسلام على عاتقه حماية أوتاد خيمته من ثورة متوقعة للبطيخ الفاسد في المزارع الجماعية الاشتراكية الديمقراطية - آه نسيت - الكتاب أخضرية القردية، ألسنا في قفص للقرود؟


حتى أنه يذهب إلى أبعد من ذلك، حينما يقنع والده بفتح كل ملفاته العسكرية التي كلفت الشعب الليبي المليارات للأمريكان خوفًا على رأسه بعد أن سقط رأس صدام. أما أكثر الكثير، فهو تطبيعه السري مع إسرائيل، وتحالفه مع جنرالاتها ورؤوس أموالها، الوكيل على الأمة العربية! فيا سيدي الشيخ زبير، كما يدعو القذافي شكسبير مدعيًا أنه ليبي، اغفر لنا هذا الخطأ الذي اسمه القذافي في فاجعتنا، واكتب عنا إن كتبت رائعتك القادمة، فقد فاق هذا العقيد كل العقد التي عرضت لها في مسرحيتك هنري السادس أو في الأخرى الملك لير أو في الأخرى والأخرى عطيل البربريّ ابن البربر الذين قَمْعُهم في ليبيا عملة سائغة، وحلل لنا ما شئت من التحليل بعد أن عجز علم النفس عن فهم هذا النموذج القردي الفريد من نوعه.


مصر

يكفي أن تنظر إلى وجه حسني مبارك حتى تدوخ، وتصاب بكوابيس ورغبة ملحة تدفعك إلى الانتحار، ولكنك تقاوم في اللحظة الأخيرة، لأن هذا غايتهم، أن يذهبوا بكل الشعب المصري إلى الموت، وعدم انتحارك رغم تلك الرغبة الشديدة الملحة لديك يغدو عملاً وطنيًا. ومع ذلك، يستجيرون بالشيطان الذي هم أربابه كي يعملوا على القضاء عليك بشتى الوسائل، ليس أولها الحشيش ولا آخرها الدجاج المصاب بأنفلونزا الطيور أو المواد الغذائية الملوثة، عشرون مليون مصري مهددون بالفشل الكلوي والسلامونيا والنيوليزم. وليس هذا منذ اليوم، ففي العام 1995 كادت ابنتي الصغرى تموت عند مرورنا بمصر بسبب حليبها الملوث، وقد كتبت عنها رواية عنوانها "لؤلؤة الإسكندرية" تشهد على ما أقول. هناك تخطيط مبرمج مذ وقّع السادات على معاهدة مخيم داوود ليس لإخراج مصر من العالم العربي فقط، ولكن أيضًا لإخراج مصر من مصر، لشل المصريين وقتلهم بالأمراض والآفات الاجتماعية، وذلك لتأسيس العجز لديهم في مواجهة إسرائيل والنظام في آن واحد، فمصر الشماء إن نفخت أطارت إسرائيل والنظام العميل كالريش، فما بالك إن حملت السلاح، يا سيدي العصيّ، وهجمت، ستكون النهاية لهم جميعًا. لهذا هم يتفننون في قتلها، من قتل السادات إلى الفتك بالملايين.


عشية مقتل السادات كان حسني مبارك في مكاتب المخابرات الأمريكية، وقد كشفت القناة الفرنسية الخامسة عن أن مخطط قتله قد تم بعلم الذين الصقوه بالكرسي منذ ثلاثين عامًا وعلمه، ثلاثون عامًا يا رب العباد، ثلاثون عامًا، ثلاثون عامًا، وهو قابع في وجهنا، على أنفاسنا، يخنق النيل، ويخنقنا، وبعد أشهر قليلة من هذا النبأ المزلزل أقفلت القناة، ولم نعد نسمع بالمذيعة التي كشفت عما لا يكشف، لم تعد تسمعنا.


حكاية أخرى يعرفها القليل من الناس، عندما كان هذا النكرة في زيارة للسودان قال له زميله الكاره له أيضًا كرسيّه لكثرة ما أمضى من سنين، هو الآخر، وهو يقوم ويقعد عليه: أرض السودان خصبة، كبيرة على السودانيين، نحن لدينا الأرض، ومصر لديها الأيدي العاملة، دعنا نزرعها، فنطعم بلدينا، ولا حاجة بنا لنستورد البطاطا من المريخ. هل تدرون ماذا كانت إجابة النكرة: لن يقبل الأمريكان! هذا هو الضامن لبقائه في الحكم بضريبة الرضوخ الكلي! للأمريكان ‍وللطغمة في إسرائيل. الأمر معروف. ليس منذ الآن. حتى فطوره فول مدمس والا طعمية لا بد من أمر يأتيه، فتعالوا أيها المصريون إلى أمركم الوجودي معه يوم يأخذ ابنه مكانه بأمر من واشنطن وتل أبيب. الأمر اللامحال.


لا أريد أن أفصل تاريخ حياة هذا النكرة، فالكل يعرفه، إلا المصريين كما أرى، فهم من قبل به ويقبل به لغاية اليوم، سيقولون عنه: مجرم، سفاح، طاغية! وماذا أيضًا؟ الجبن هو الطاغية، والمثقف الثورجي الذي على شاكلة محمود أمين العالم أو أحمد عبد المعطي حجازي اللذين ألقيا بكل ماضيهما على قدم سوزان مبارك أو وهذه طامة الطامات جمال الغيطاني الذي يقول لحسني مبارك "نحن مطمئنون لقيادتك السفينة"، وينادي نجيب محفوظ ب "يا بابا"! وأصيب بالحول لشدة ما شاصت عينه باتجاه ستوكهولم: "ده لما ضربوه بالسكين وودوه الهوسبيتال اللي في مصر الجدي دي دي دة حسيت انه بويا!" بل أبوه النظام.


السودان

ما قلناه عن تلك الدويلات البائدات، وما سنقوله عن الأخوات الباقيات، ينطبق على السودان: التفرد في الحكم وقمع كافة الحريات والفساد الإداري والحربجي في الجنوب وفي دارفور، وسأبدأ وأنتهي من هذه النقطة الأخيرة.

هل تعرفون من كان وراء حرب الانفصال في الجنوب السوداني وتسليح يارنغ؟ أمريكا.

أتعرفون لماذا؟ لأن الأقمار الصناعية الأمريكية قد اكتشفت في جنوب السودان احتياطيًا هائلاً من النفط يقدر بمليارات البراميل، وكذلك في دارفور. في الجنوب ركز الغرب والدعاوة الأمريكية خصوصًا على حرب طائفية بين سودانيين مسلمين ومسيحيين، وفي دارفور على الإبادة الجماعية (جورج كلوني الغبي وبرنار-هنري ليفي الأغبى من غبي وزميلهما وزير الخارجية الفرنسي كوشنير أم أنهم أدوات تصرخ "إبادة جماعية" لتمهد إلى احتلال الآبار النفطية؟) والواقع اسأل عن البترول أقول لك السبب! خسة البيت الأبيض وشركات النفط والغاز الأمريكية لا تقف عند حد كما هو حالهم في العراق المدمى، إنهم لا يتورعون عن بيع فواجع البشر للعالم، هذه الفواجع التي هم من ورائها، كي يحققوا مآربهم الدنيئة في نهب ثروات البلد، أي بلد. ليس في دارفور فقط، ولكن أيضًا في البلدان المتاخمة لحدوده مثل التشاد وغير التشاد، والبلدان الأخرى التي سيخترقها البابلاين إلى المحيط الأطلسي مثل الكمرون وغير الكمرون. ومن أجل ذلك، درّب تجار الموت الأمريكيون كما دربوا يارنغ وسلحوا جيش تحرير الشعب السوداني، والآن نجد أمريكا في حرب باردة ساخنة مع الصين التي تنافسها، وتريد أن توسع كدولة عظمى حصتها وهيمنتها.


ما أود الوصول إليه في الموضوع الذي نتحدث عنه هو أن عمر البشير ونظامه وزبانيته هم أيضًا استغلوا بخسة فاجعة مواطنيهم في دارفور، وقبل دارفور في الجنوب، كي يحكموا القبضة على السودان، ويؤبدون حكمهم له. والسودان ليس أفقر بلدان العالم كما يدّعون إلا لأنهم هنا دومًا لنهبه، والشريعة التي يتغطون بها لأنها هنا دومًا لخدمتهم، بعد أن أخذوا من الشريعة القشور وطبقوها، وعلى أي حال ليس في الشريعة غير القشور.


الهلال الخصيب

يتشكل الهلال الخصيب التاريخي من فلسطين ولبنان وسوريا والعراق والأردن. سنقول عن كل بلد كلمة، فوضع الواحد والآخر كالمثل بالمثل مع قليل من الاختلاف في التفاصيل.


لبنان

الحل الوحيد لكل أزماته يكمن في إلغاء نظامه الطائفي، لكن المصالح الفردية لكل رئيس زمرة أو طائفة ستلجم فرس التغيير، وتبقي على هذا البلد المتحضر في مظهره العفن في جوهره، شبه البلد، وتجعله بالتالي ساحة تجارب لكل العرب وإسرائيل والعالم. أحلم للبنان برئيس ماروني أو سني أو شيعي أو لا ملة له، رئيس ينتخبه الناس لثقل برنامجه وليس لطائفته ولا لجماله. (هذا الحلم اليوم هو الكابوس بعينه، ملحوظة من الكاتب بتاريخ 26.07.2009 بعد افتضاح من هو نصر الله بالفعل).


سوريا

عندما أفكر أن كاتبًا مثلي ملقى في سجون بشار لا لسبب اللهم إلا لرأي أو مقال، كيف تريدون أن يكون موقفي؟ لا تصدقوا كل ما يقال لكم في الأخبار، فما ذلك إلا للتسويق الداخلي: العلاقات السورية الأمريكية على أحسن ما يرام، مخابرات البلدين تعمل وتنسق على جميع الأصعدة، وفي سوريا تذهب إلى أبعد مما يجب عندما سمحت للأمريكان بالتحقيق مع "إرهابيين" في سجونها بدلاً من غوانتنامو، فالتعاون أمر واجب بين الصحاب! أنا لا أخترع شيئًا من هذا، ولكنها الصحافة المجرمة هنا التي لا تخبئ شيئًا عن قرائها، كما هي عادتنا مع الصحافة الحرة في سوريا وغير سوريا من المحيض إلى الخليع! سوريا وما أدراك ما سوريا كذب في كذب، إيران وما أدراك ما إيران كذب في كذب، حريري وبطيخي وما أدراك ما حريري وبطيخي كذب في كذب، كل ذلك ليرهقوك، ويبعدوك عن الجوهري، ويكسروا شوكتك!


العراق

يا ليتني كنت العراق ولا كان هو! قتلوا صدام بعد أن خلعوه وجاءوا بألف صدام! والآخرون ممن تبقى من نكرات طغاة ماذا تراهم يفعلون ما بيننا؟ هل لاحظتم شيئًا مما لاحظت؟ يتكلمون عن كل شيء، كل شيء، إلا عن السبب الأول والأخير لاحتلال العراق: النفط!

حكومة الاحتلال للاحتلال، ودم الشهداء لنا! قوافل من الشهداء تنتظر على بابنا! القصاص من القتلة، ولكن أيهم؟ أولهم من هم على رأس آلة الحرب، ولكن صارت للحرب رؤوس، فبأيها نبدأ؟ على كل حال، في حالة العراق أيضًا لا تستمع إلى الأخبار، كل شيء على أحسن ما يرام بين أمريكا وإيران، يريدون لها أن تكون أقوى من كل العرب، ومن إسرائيل أقل قوة. العراق مسئوليتنا. نحن المسئولون عما يجري في العراق. أين المظاهرات من أجل العراق؟ كانت المظاهرات عندنا وعندهم كل يوم من أجل الفيتنام. ارفعوا بنادقكم عن العراق! إيران قبل أمريكا، سوريا، الأردن... لتصمت كل البنادق.

الأردن

لا أريد أن أتكلم عن ابتلاع إسرائيل للأردن عن طريق شراء أرضه، ففي عصرنا العربي للاحتلال أشكال، العسكري منها والاقتصادي وخاصة العقاري.

أريد أن أتكلم عن عبد الله الأول عندما طرده السعوديون من الحجاز، فبحث عن بلد ينصّب نفسه عليه أميرًا دون أن يقبله أحد، حتى عشائر الأردن الأبية رفضته. الذي فعله أنه نزل ضيفا على إحدى عائلات مدينة معان المعروفة، وأول شيء قام به كان طرد العائلة الوحيدة التي استقبلته، وأخذ بيتها، ثم استولى على كل الأردن بدعم من غلوب باشا الإنجليزي الحاكم الحقيقي للبلاد. وبعد ذلك، استولى على القدس التي قُتل فيها وعلى الضفة. فبأي حق هؤلاء الغرباء هم هنا؟ هم ليسوا بأردنيين! ليحملوا ثيابهم، وليرحلوا، صحراء الحجاز أوسع لهم بكثير!


فلسطين

من أين أدخل في هذا الجرح؟ من حماقات حماس أم من وطنيتها؟ الحماقات تمضي لكن الوطنية أبدًا لا تمضي، لهذا جاء تأييدنا لحماس في موقفها الشجاع حين انتزعت غزة من بين أنياب الذئاب (قبل أن تتحول حماس إلى ابن آوى وفاحت رائحتها الإخونجية الهستيرية ملحوظة من الكاتب بتاريخ 26.07.2009). أما أنت يا إمعتنا، أيها النكرة بين النكرات، من خولك حق التحدث باسمنا؟ المجلس التشريعي لم يخولك، اللجنة المركزية لمنظمة التحرير لم تخولك، ولا إصبع طفل صغير من أطفالنا!


أنت لا تمثلنا، فبأي حق تبيعنا؟ أنت لا تمثل إلا ثلاثي النفاق، ياسر عبد ربه، نبيل أبو ردينة، وأحمد قريع، ففاوض على متر مربع لكل واحد، واترك لنا حق عودتنا وباقي الحقوق نفاوض عليها أو نقاتل من أجلها كما نشاء. عندئذ، سنحميك من البصاق!


اسمع كيف تفكر إسرائيل التي وجودها من عدم وجودك وإثباتها من عدم إثباتك، اسمع ما يقوله دانيال بيب، مدير "فوروم" الشرق الأوسط المؤيد لإسرائيل: "إما أن تقبل إسرائيل الوضع، فتضيع الصهيونية، ولن يكون وجود لدولة يهودية، وإما أن يقبل الفلسطينيون وباقي العرب والمسلمين دولة يهودية، دولة يهودية لها تبرير أخلاقي" حوار تم في 6 يوليو/تموز 2007

fr.danielpipes.org


الأمر واضح وبسيط حتى لأبسط الناس. إما أن تقبل إسرائيل الوضع فتضيع، وإما أن نقبل نحن الوضع فنضيع. فلنترك إذن الوضع على حاله إلى أن يحين الوقت المناسب. متى وكيف؟ لا تسأل منظّرك ياسر عبد ربه بل المقاومة في غزة ولبنان.


السعودية

يكفي أن تذكر الاسم لتطالعك سكسوكة عاهلها المصبوغة بأسود قوي يجعل منه مهرجًا في سيرك الحكام العرب من المحيض إلى الخليع!


يكفي أن تفكر في كل مرة تذهب فيها لملء خزان سيارتك بالبنزين أن الثمن الذي ستنقده بسعر الذهب حتى تغلظ القول باتجاه السكسوكة ورعية السكسوكة التي لا حول لها ولا قوة المغلوبة على أمرها معها مثلك!

هذا ما استفدناه من نفط السعودية، أن تفرغ كل ما في جعبتك مقابل شتيمة، وأن تسبب لك السكسوكة أوجاع رأس لا أول لها ولا آخر بدلاً من أن تضحكك عليها كما هو عليه في كل سيرك وتسرك.

أهو الملك أم مهرج الملك؟ لن أحكي عن صقوره التي يصل ثمن الواحد منها إلى نصف مليون ريال وأحيانًا أكثر، ولن أعرج على قوانينه التي تقطع يد السارق دون محاكمة لجوع أصاب صاحبها كما أصاب جان فالجان في "بؤساء" هيغو، فسرق هذا رغيفًا أنفق عشرات السنين في سجون فرنسا البربرية دون أن تقطع يده، لن أؤكد لكم أن الفقراء موجودون في السعودية، أنهم سعوديون وليسوا باكستانيين أو هنودًا، وهم يتضورون جوعًا في عصر مليارات البترودولار السعودي.

لن أحكي لكم عن قمع المرأة منذ مولدها إلى مماتها حتى أنها تمنت وأدها كما كان أمرها قبل مجيء الإسلام الذي أكرمها!

إنه نظام خادم الأمريكتين، وهذه طغمته، وهذه الحياة بكامل تلوثها، فالعرش كالفيروس، كالسوس، ينخر الحجر، ينخر القمر، فيا بئر زمزم طهرنا كبشر، واجعلنا ندخل عالم الخيال.

أيها العلم كن لنا قدرًا، وحررنا من صفقة اليمامة! 45 مليار دولار ثمن أسلحة إنجليزية ستصدأ في المخازن، اللهم إلا إذا ما نشبت حرب عالمية ثالثة! أضف إلى ذلك 20 مليار دولار ثمن 72 طائرة حربية لمعارك وهمية لا لتحرير فلسطين لا سمح الله أو لتحرير العراق، ومائة مليار دولار ثمن معدات أخرى، أهي ثمن معدات أم ثمن المصنع الذي يصنع هذه المعدات؟ يا الهي! هذا ثمن العقود التي أبرمت مع انجلترا فكم ثمن العقود الأخرى؟ وتصرخ السكسوكة: لدينا عجز في الميزانية، ديون المملكة بعشرات الملايير! لنمت كلنا أو لنمت كلنا...


اليمن

بعد زيارة بعيدة لي، كتبت عن اليمن السعيد كتابي "حلمحقيقي" (الكلمتان في كلمة واحدة فأين الحلم وأين الحقيقة في اليمن الجنة والجنة). اليمن السياحي، أما اليمن السياسي، فهو الجحيم والجحيم! لا أريد أن أتكلم عن نكرة اليمن، عن عرشه الرئاسي. قال إنه لن يرشح نفسه لرئاسة قادمة، فحسبنا أنفسنا نحلم، وما أن أمره البيت الأبيض بالعدول عما قال حتى خذل اليمن السعيد فأتعسه، وخذلنا فأتعسنا، ولكنه أنقدنا من أوهامنا! ألأننا شعب عبد للقات أم لأننا شعوب وقبائل لئلا تعارفوا؟ عدن التي كانت لرامبو ملهمة، يقول كتبتها في مدحه: "واحد من رجال التاريخ العظام"! لخنق اليمن، وتهميش اليمنيين!


سلطنة عُمان
قابوس بن سعيد. كتبته قالوا فيه كما قال الآخرون في زميله: "هو واحد من قلة عظام الرجال في العالم الذين لهم الحكمة والثقة بالنفس"! فكأنهم واحد! كل الحكام العرب حاكم واحد، من المحيض إلى الخليع، أهو حظنا فيهم أم حظهم فينا؟ يا ليتهم ما كانوا وما كنا! صاحب الحكمة والثقة بالنفس أثبت جدارته باقتنائهما عندما قتل أباه وصعد على عرشه!


أما جريمته الأكبر، فكانت تصفيته للثورة في ظفار بمعونة الملك حسين ليمه (شخص يشابه شخصًا آخر كل الشبه)، ثورة الفقراء، لتبقى السلطنة إلى الأبد فقيرة، ويبقى السلطان إلى الأبد ثريًا.


يقولون أدخل عُمان في موكب التقدم الذي علموه إياه في مدارس لندن العسكرية، التقدم إلى الأمام أم إلى الوراء؟ الديمقراطية البريطانية تعطي دروسًا في التقدم على جثة الحاكم الشرعي للبلاد وجثث الثوار الفقراء في جبال ظفار! يقولون عن هذا في الغرب "التعاون"، ويقولون أيضًا "الشراكة": 80% من ثروات نصف الكرة الأرضية الجنوبي مهيمن عليها من طرف 20% من سكان نصف الكرة الأرضية الشمالي، ال20% الباقية من ثروات الجنوب موزعة على الأنظمة التوتاليتارية التي هي إنتاج وصورة عن الأنظمة الاستعمارية، أرأيتم لماذا كل حكامنا متشابهون، وكل أنظمتهم واحدة؟ ولكي يبقوا في الحكم يتسلحون لتخويف شعوبهم أو قمعها، أرأيتم لماذا اشترت السعودية بمئات المليارات أسلحة، ولماذا الجزائر، الأولى مملكة يقال عنها قمعية استبدادية، والثانية جمهورية يقال عنا ديمقراطية شعبية؟


وكما يواصل المقال في مجلة النوفيل أوبسيرفاتير العدد الصادر في 19/12/2006 هذه الممارسات التجارية تؤدي إلى تناقض، فالدول التي تمتلك مصادر أكثر من غيرها فيما يخص ثرواتها في نصف الكرة الأرضية الجنوبي هي التي تعاني من شدة البؤس والآفات الصحية والعنف الأشد دمارًا (الجزائر، العراق، السعودية…) سرقة ثروات بلدان الجنوب تتم بتواطؤ السلطات السياسية التي أقامها الاستعمار، إنجلترا هي التي ساعدت قطاع الطرق آل سعود على سحق الشريف حسين وباقي القبائل المعارضة، من هنا جاءت صفقات الأسلحة، صحيح أن أمريكا أخذت مكانها في كل البلدان التي كانت فيها، ولكنها تركت لها حصة من هذه الثروات تعود عليها. وتجدهم يتدخلون ما طاب لهم التدخل في سياسات هذه البلدان، تلك "الديمقراطيات"، عندما يظنون أن مصالحهم مهددة، فهم الذين أمروا جنرالات الجزائر بإلغاء الانتخابات التي فاز بها "الفيس" الجبهة الإسلامية للإنقاذ سنة 1991، وهم الذين حاربوا وصول حماس إلى رأس سلم الحكم في الأراضي المحتلة.


هذه هي الديمقراطيات في الغرب التي لا تتردد عن نسف كل ديمقراطية باتجاهنا، وهؤلاء هم حكامنا الذين هم من صنعها، والذين هم دومًا في خدمتها، فهل ستبقى الأمور معهم كما هي عليه الأمور إلى الأبد؟



الخليج العربي
الكل يعرفه، ويعرف أي دمى متحركة دوله. دول أساطيل أمريكا تطفو على بحورها، ورساميل أمريكا تغوص في بنوكها! أشيوخها هذه أم جحوشها؟ بخاشيشها بالملايين، فلا تسأل عن ملايينها، وملايينها من العباد هم عبيد لها. يا دولاً فتحت فخذيها، أين الرجال صاحت، فأجبنا، ويا ليتنا ما أجبنا.


وبعد،

أسمعت أيها المواطن العربي؟ هل فهمت؟
الغرب أوجدهم لخدمته، وهو لن يتركهم يذهبون إلى قصورهم أباطرة كما اقترحنا، ستبقى له في وجودهم حاجة وضرورة ما بقيت له في ثرواتنا حاجة وضرورة، إلا إذا تغير الغرب نفسه، وجاءت شعوبه بأنظمة تشترك بمصالحها مع شعوبنا، لكني أنا من يعيش بين ظهرانيهم منذ ثلاثين عامًا أقول لك أمر كهذا ليس على جدول الأعمال اليوم ولزمن بعيد إذا ما عرفنا أنهم مثقلون بهموم آخر الشهر، وحكامهم يتلاعبون بهم كما طاب لهم وطاب لمجتمع الاستهلاك، فما العمل إذن وقد بلغ السيل الزبى؟


أنقول هذه نهايتنا وهذا قدرنا ولنترك أمرنا بيد أولي أمرنا، بمعنى بيد الجلادين؟ أنلجأ إلى صحافة، وكل صحافتنا مأجورة؟ إلى حزب، وكل أحزابنا مؤتمرة؟ إلى نقابة، وكل نقاباتنا مخترقة؟ أنستشير ساحرات ساحة جامع الفناء في مراكش؟ أنجعل من عاهرات عمان حليفاتنا الشريفات؟ أننزل إلى الشوارع ليخترق صدورنا الرصاص؟ أنصرخ في وادي عربة ليسمعنا أهلنا في الشام؟ أنقول للسمك أنت أهلنا فأعنّا؟ أم للطير لا تسافر وابق معنا؟ أنهجر مدننا وقرانا إلى الصحراء؟ أنقيم في الصحراء مملكة؟ أنجعل مثل العراق من الطائفية لعبة فنتسلى؟ أننتحر كلنا وكلنا معًا على شاطئ كان للحيتان العاشقة آخر ملاذ؟ أنحرم أنفسنا من عشق أنفسنا؟ أنرمي بأنفسنا من الشباك؟ أنغتصب شهرزاد؟ أنحرق السفن مثل طارق بن زياد؟ أنحرق العالم؟ أنفجر العالم؟ أنحرق الذات؟ أنعيد ما قاله الصحابيّ الثوريّ عجبت لمن لا يجد القوت في بيته كيف لا يخرج على الناس شاهرًا سيفه؟

أردت أن أنتهي بقول أبي ذر الغفاري الذي لم يكن يرى في السيف أداة للتغيير والتقويم، فالسيف كان لديه استعارة كما هو لدينا، وسيفك أيها المواطن العربي من المحيط إلى الهدير، في ظرفنا هذا، وفي شرطنا هذا، لهو الإضراب العام المفتوح، كما حصل مع إخوانك الفلسطينيين سنة 36، ستة شهور أضربوا، وأنا أطلب منك الإضراب ستة أسابيع، فقط ستة أسابيع، ستة أسابيع يدوم فيها إضرابك من المحيط إلى الهدير! ستة أسابيع من الإضراب المستمر، لا عمل ولا دكاكين، ستة أسابيع تقوض فيها عروشهم ملوكًا ورؤساء وقوادين، ستة أسابيع أيها المواطن العربي من المحيط إلى الهدير، انفض عنك عبء دهور في ستة أسابيع، واختط للأجيال القادمة دربًا كريمًا يصلهم بحياة كريمة.

ستة أسابيع تضرب فيها لا شيء يمنعك عن تنفيذ ذلك إلا جبنهم القوي، فاعقد العزم أينما كنت، واجعل من حيك قلعتك، ومن جيرانك حزبك الثوريّ. خط بيديك التاريخ، وقل لهم إنك حي، وإنك قوي، وإنك تريد، وإنك بإضرابك المفتوح المستمر تصوغ حياتك على طريقتك، وتشعر لأول مرة في حياتك بأنك حر.ستة أسابيع.
باريس أواخر 2007 تم نشره في "عرب تايمز" وعدة مواقع إلكترونية إعادة النشر في 26.07.2009

مات درويش عاش عباس

أنحني أمام جثمان محمود درويش إجلالاً لصداقة قديمة كانت تجمعنا، وأشارك أهله والمعجبين به حزنهم، فعندما تموت القبرة كل الفصول تصبح الخريف. وللمفارقة أجدني مرتاحًا مريحًا ضميري لأني قلت في محمود كل ما أردت قوله في حياته مجازفًا بصداقتي معه، ولم أطعن جثته مثلما سيطعنها كثيرون وقد حررهم غيابه من زلفى الكلمات وكليانية الشاعر. أما كيف يتحول الصديق إلى عدو لدى محمود إلى حد تهديد زبانيته في نيويورك وواشنطن ورام الله لي، فالجواب كامن في الإطراء كما كان يفهمه، وفي الهجاء كما كان يدركه، فهو على عكسي، أنا الذي يرى في الهجاء صراحة الصديق، وصدق الصراحة، كان يضيق منه لدرجة هدم الصروح على صاحبه، ومن ركام الصداقة كان يعيد تشكيل قصيدته الخاصة به، والتي لم يكن يقولها إلا لنفسه كمركز للعالم، ونقطة ارتكاز للأنا، وجملة أخرى من هواجس صنعها له غيره بعد أن صارت هواجس حياتية بالنسبة له صدقتها النجومية والاحتفال المؤقت بقدوم الموت.

أريد أن أحكي بهذه المناسبة عن أمور ثلاثة:

* إعلان عباس الحداد على محمود ثلاثة أيام
* تقوّل المتقوّلين عن مقتل محمود من طرف الأمريكان
* محمود شاعر المقاومة

* خسة سلطة أوسلو التي أعلنت الحداد على درويش ثلاثة أيام لا مثيل لها، لا يمكن وصفها بخسة سلطة فيشي مثلاً بعد أن تجاوزتها بكثير، فهل كان المارشال بيتان سيبيع جثة سيلين المعروف بتوجهاته النازية بإعلان الحداد عليه يومًا واحدًا، وهل كان بوتين سيقامر بشهرة سولجنيتسين ولو بحداد يدوم ساعة واحدة؟ ومن هو محمود درويش أمام القامة العملاقة للواحد والآخر؟ وما هذا المرحاض الأوسلوي الذي هو الضفة بالمقارنة مع روسيا أو فرنسا؟ لكن استفحال الأزمات من كله سياسية واجتماعية واقتصادية تدفع بأحذية تل أبيب إلى البحث عن قشة تتغطى بها، وكانت وفاة محمود القشة، هكذا يتلهى الناس عن أوضاعهم بحزن يضاف إلى أحزانهم، وهكذا يلهو عباس وزبانيته بالناس بانتظار حزن آخر يسليهم، فيبقى كل شيء على ما هو عليه، ويبقى عباس يقوم على عرشه مليكًا ووريثًا أوحد.

* صحيح ماطل الأمريكان عدة شهور بإعطاء فيزا لمحمود من أجل المعالجة، ولولا توسط عباس لدى كونداليزا رايس لما ذهب إلى هيوستن كآخر أمل له، والأمل كان ضئيلاً غداة عمليته الجراحية الأولى، فكيف الثالثة، وهو ما ذهب إلى أمريكا إلا لأن الأطباء مهرة لا يقتلون مرضاهم، ومن يتكلم عن قتل الأمريكان للشاعر مريض في شعوره وفي خياله بل وأكثر من هذا في عقله.

* رفض محمود وظل يرفض لقب "شاعر المقاومة" الذي ألصقه به المهزومون ووسائل إعلامهم المدمرة للعقل والطموح، فطموحه هو كان الشاعر الكوني، وفي نقاش حاد معي شتم كل قصائده عن أمه والزعتر وسجل أنا عربي، كنت أخالفه الرأي آنذاك، ثم رأيت الصواب فيما يقوله، فما تلك القصائد سوى أهازيج شعبية أو كما يقول غولدمان شعر مناسبة. لكنني لم أتفق معه أبدًا حول كونية أشعاره الأخرى، أشعار رأيت فيها ولم أزل أشعار سلطة أكثر ما عبر عنها سلوك الشاعر الشخصي وموقفه السياسي من النظام العربي، موقف مائع كسلوكه، ومتنطع.







محمود درويش ليس نبيًا

ما هذه المناحة؟ ما هذا النعيب؟ ما هذا اللطم؟ ما هذا الندب؟ ما هذه البهدلة؟ لو كان محمود درويش حيًا لما قبل بكل هذا. وصيته لم يعمل بها أحد غيرنا، نثرنا على الكلمات التي نشرناها عنه الورد الأحمر والورد الأصفر كما طلب، وأضفنا من عندنا الورد الأبيض، ورد الصداقة القديمة، والحزن لما يبتسم. في موكبه لم أر سوى الغبار وسحنٍ اسودت في أوسلو وأولادٍ يجرون في كل اتجاه. لو كان محمود درويش قادرًا على النطق مرة واحدة فقط بعد موته، ورأى أمة الدمع، لقال هذه ليست أمتي التي كتبت لها القصائد لئلا تبكي، ولطالب بإحراقها. وعلى الرغم من ذلك، وهذا ما كان لمحمود أن يجهله، أمة الدمع هي أمة الشعر، وأمة الشعر هي أمة الانحطاط التي هجرت العقل إلى أحضان القول، فلم تعد تصمد أمام الحزن، وجعلت من حضارتها حضارة للنواح. لهذا سمانا الغرب بشعوب الشعر ساخرًا، شعوب خرجت من التاريخ، بمعنى لا شعوب بل قطعان ماشية. ولهذا تلاعب الكل بمصائرنا، وصرنا للغراب عشًا وللثعبان جحرًا ولابن آوى جيفة نتنة.


لا، محمود درويش ليس نبيًا، لمناقبه صدى ربما كان في بعض قصائده، فسيئاته أكثر بكثير من حسناته، السياسي سبق وقلنا فيه وفي حياته كل شيء، ابتداء من كونه حجر أساس في صرح النظام الفلسطيني والعربي وسياسة التسليم والاستسلام وانتهاء بحجر الشطرنج الذي أصبحه. والشاعر سبق وقلنا فيه وفي حياته أيضًا كل شيء، ابتداء من كون قصائده الشعبية لا قيمة إبداعية لها على الإطلاق وانتهاء بقصائده الموزاييكية التي تتكرر فيها لعبة اللفظة والفكرة على مسرح الفذلكة، فذلكة مثقلة بالاستعارة، وتتسطح كلها لعقم فلسفة الأنا، أنا مريضة بالعظمة. محمود درويش ليس أعظم شاعر كما يردد الكثيرون اليوم دون أن يضيفوا "في عصر الانحطاط". ربما كان من بين أحسن شعراء هذا العصر مثله مثل أدونيس الذي قضى –وأعني هنا محمود درويش- طوال حياته في منافسة قصيدته ليأخذ نوبل بدلاً منه، لكنه ليس أحسن الشعراء، هذه أحكام إطلاقية حماسية لأمة الوجد والغبار، كأنهر الدمع التي أسالتها عليه، واللطم السادومازوخي الذي تعودت عليه وعودها عليه الحكام العرب في حفل اللواط بشعوبهم.

وهنا أصل إلى ما أود قوله في قصة المرحوم وهذا الإعصار الرسمي بمناسبة وفاته، محمود درويش باع موته للأنظمة العربية غاليًا، تكريم وجوائز ومئات آلاف الدولارات، لهذا السبب كل هذه المراسيم العسكرية (هل سمعتم في حياتكم بشاعر على وجه الأرض حمل جثمانه العساكر وفوق هذا تحت بساطير الاحتلال؟) كل هذه الحملات الجهنمية لغزو الضمائر والنفوس، والتي ليست آخرها حملة "لتستعيد الأرض كلامها" من أجل دفن محمود في البروة مسقط رأسه: شيء مضحك بالفعل، فأين البروة وأين عصفورية وأين باقي فلسطين؟ الغرض من هذه الحملة التسفيه بالعرب أمام عنجهية الإسرائيليين وتعنتهم، وهي لو جرت في الغرب أو في إسرائيل لربما أدت إلى نتيجة، لكن من هم من ورائها، أزلام محمود درويش اليتامى، وأفراد شلته، فهو هكذا كان في حياته شلليًا ومافيويًا، من صاحب جائزة جزار دولة إسرائيل إلى لاعقة لنعل عباس ومن قبله لنعال الكثيرين إلى مترجمه الخاص ومطبعجيّه الحزين، أو الكاتب الكوني الذي يرى بعين واحدة والآخر الكوردي الذي يتبرأ الأكراد الطيبون منه، أو... أو... ما علاقة هؤلاء بالأرض؟ وما شأنهم بجثة تتطهر الآن منهم على ربوة تشرف على القدس؟


17.08.2008






تعقيب على قصيدة سعيد حيفاوي

انتقلت جوقة محمود درويش من النواح إلى النباح وبسرعة البرق، وقصيدة سعيد حيفاوي –إن كنا نعتبر مثل هذا الكلام قصيدة- أعظم نموذج على هذا النوع من التلفيق والنفاق، لأن من يصفهم بالذئاب والذباب كانوا أصدقاء لمحمود درويش، وأبدًا لا سمح الله كان عدوًا لهم، أيعقل هذا من مافيوي كانه، وعضو لجنة تنفيذية لمنظمة تعبيد فلسطين، هوّه ببلاش كل هادا؟ ولكن إن وُجد بينهم الكاره والغيور، فالأمر طبيعي وطبيعي جدًا بين أبناء سلطة واحدة، ومثلنا الأكبر على هذا في الكيان الإسرائيلي تسيبي ليفني وايهود أولمرت، أحدهما لا يطيق الآخر، وأحدهما يطمع بما للآخر، بينما الواحد والآخر رأسان لجثة واحدة. صحيح، في هذا السياق، محمود درويش هو يوسف الذي حاول إخوته قتله لغيرتهم من الامتيازات التي كانت له لا من شعره، فما علاقة هؤلاء بالشعر؟ وبعد مماته أجروا عليه الحداد، وقد أجهز الموت على الغيرة، وأقاموا له جنازة لا تليق بشاعر، فما الشاعر في العالم الذي كانت له نفس الجنازة، وإنما بكل صاحب سلطة وجاه، وهذا رد فعل صادق تجاه ابنهم وأخيهم. ونفاق هذا الشويعر القائم على التعامي والتغاضي وقلب الأمور ما كان ليغدو نفاقًا لو كان الطيبون، كما يدعوهم، هم الذين دفنوا محمود المنتمي بالفعل إليهم، فجاءت أسراب الذباب والذئاب لتسلبهم إياه. محمود درويش أبدًا لم يكن طيبًا للطيبين، فبقي غريبًا عنهم في مماته كما كان في حياته، والشاعر الكبير الذي تركه من ورائه سيظل عنهم غريبًا أيضًا، فهو ما كان كبيرًا إلا لأن عصرنا للأقزام عصرٌ ورصيفٌ للقصيدةِ في حيفا لن يذهب قطاره الأخير أبدًا إليها، قطار ليسه قطار حق العودة كما أكد ذلك درويش –بكل صلافة وقحة وتفريط بالمقدس- أيامًا قليلة قبل موته، وكأنه كان يحدس نهايته.




نص قصيدة حيفاوي، صديق درويش الطيب الوحيد!

” القطارُ الأخير توقْفَ عند الرصيف الأخير “
هنالك ليلٌ أشَدّ سوادا
” هنالك ورد أقلُّ ُ”
” أنا يوسف يا أبي “
أمامي طقوس ٌ كثار ٌ وليلٌ طويلٌ طويلْ
” أنا يوسف يا أبي “
ويسعدني أن بحرًا من الناسِ حولي
من الطيبين،
من البسطاء،
من الصادقين
ولكنني يا أبي في امتعاضٍ حزين
فكل الذبابِ يحاول أن يتقدم
وكل الذئابِ تحاول أخذ مكان
بجانب نعشي، وتتلو صلاة الغياب
يريدون أن يأخذوا صورة حول نعشي
ولو بإزاحة أمي وإخوتي الطيبين
وحولي من الزعماء أناسٌ
يريدون أن يأخذوا صورة حول نعشي
ولو قَدروا اقتلعوا بعض رمشي
ليبقى لهم
وبه يعلنون ارتباطي بهم
عندما يقرب الانتخاب
ولو قدروا مزقوا لحم روحي
أنا يوسف يا أبي
أنا طيب، غير أني
قليل السذاجة، يا أبتي
مثلما كنتُ دوما قليل العتاب
أنا يوسف يا أبي
كل الناس بلادي وكل بلاد
رفاقي وأهلي
ولكنني لا أزال وسوف أظل إلى أبد الآبدين
عدو الذباب!

* كشف نبيل عودة بعد موت سالم جبران أنه هو كاتب القصيدة تحت اسم مستعار "سعيد حيفاوي".



فهرس

أدونيس
محمود درويش
سميح القاسم
خيري منصور
إلياس خوري
توضيح لإدوارد سعيد
إدوارد سعيد
محمود درويش يكتب عن بعوض عمان
إيلاف وغائط الإعلام مصالحة نموذجًا
انحطاط العظام: محمود درويش
انحطاط العظام: أدونيس
انحطاط العظام: فيصل دراج
انحطاط العظام: الطيب صالح
رؤساء وملوك الانحطاط الدميم
مات درويش عاش عباس
محمود درويش ليس نبيًا
تعقيب على قصيدة سعيد حيفاوي



أعمال أفنان القاسم

المجموعات القصصية

1) الأعشاش المهدومة 1969
2) الذئاب والزيتون 1974
3) الاغتراب 1976
4) حلمحقيقي 1981
5) كتب وأسفار 1988
6) الخيول حزينة دومًا 1995

الأعمال الروائية

7) الكناري 1967
8) القمر الهاتك 1969
9) اسكندر الجفناوي 1970
10) العجوز 1971
11) النقيض 1972
12) الباشا 1973
13) الشوارع 1974
14) المسار 1975
15) العصافير لا تموت من الجليد 1978
16) مدام حرب 1979
17) تراجيديات 1987
18) موسى وجولييت 1990
19) أربعون يومًا بانتظار الرئيس 1991
20) لؤلؤة الاسكندرية 1993
21) شارع الغاردنز 1994
22) باريس 1994
23) مدام ميرابيل 1995
24) الحياة والمغامرات الغريبة لجون روبنسون 1995
25) أبو بكر الآشي 1996
26) ماري تذهب إلى حي بيلفيل 1999
27) بيروت تل أبيب 2000
28) بستان الشلالات 2001
29) فندق شارون 2003
30) عساكر 2003
31) وصول غودو 2010
32) الشيخ والحاسوب 2011

الأعمال المسرحية النثرية

33) مأساة الثريا 1976
34) سقوط جوبتر 1977
35) ابنة روما 1978

الأعمال الشعرية

36) أنفاس (مجموعة قصائد أولى – ثلاثة أجزاء) 1966
37) العاصيات (مسرحية شعرية) 1967
38) المواطئ المحرمة (مسرحية شعرية) 1968
39) فلسطين الشر (مسرحية شعرية) 2001
40) الأخرق (مسرحية شعرية) 2002
41) غرافيتي (مجموعة قصائد فرنسية) 2009
42) غرب (ملحمة فرنسية) 2010
43) البرابرة (مجموعة قصائد أخيرة) 2008 – 2010

الدراسات

44) البنية الروائية لمصير الشعب الفلسطيني عند غسان كنفاني 1975
45) البطل السلبي في القصة العربية المعاصرة عبد الرحمن مجيد الربيعي نموذجًا (جزءان) 1983
46) موسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح 1984
47) البنية الشعرية والبنية الملحمية عند محمود درويش 1984
48) نصوص خاضعة للبنيوية 1985 – 1995
49) دفاعًا عن الشعب الفلسطيني 2004
50) خطتي للسلام 2004


[email protected]



شعراء الانحطاط الجميل مقالات في الفضح والتنديد متفرقة كتبت قبل موت محمود درويش وبعده عنه وعن عدد من الشعراء والكتاب كأدونيس وسميح القاسم وإلياس خوري وفيصل دراج والطيب صالح وإدوارد سعيد وطه حسين وعبد الباري عطوان… إلى آخره، فيها نقد لاذع لهم جميعًا، فهم لم يلعبوا الدور الذي هم جديرون به ثقافيًا وسياسيًا في عصر الانحطاط العربي. ما يجري من ثورات اليوم، تنبأ به المؤلف في أكثر من مكان، ثورات ضدهم أولاً وقبل كل شيء، وضد كل ما أنتجوا، وما يجري اليوم من ثورات يعطي لهذه المقالات ما يكفي من تبرير لجمعها في كتاب وإصدارها لأجل أن يقرأها ظمأى التغيير والتجذير.

من بين هذه المقالات مقال أفنان القاسم الشهير "رؤساء وملوك الانحطاط الدميم" كدِعام للكتابة الملتزمة في خدمة الحقيقة والعدالة على طريقة فولتير تعرّض الكاتب فيه لنقد كل الملوك والرؤساء العرب واحدًا واحدًا، فحللهم بجرأته المعهودة، وأشبع حاجة القارئ العربي إلى خطاب مغاير، دون أن يقف الأمر عند هذا الحد عندما طالبه المؤلف بالعمل الفعلي من أجل التغيير، ومقال كهذا ربما كان البشير لما يجري من ثورات اليوم ستطرق غدًا أبواب باقي البلدان العربية السعودية في مقدمتها والأردن وأشباه البلدان الخليجية.



* أفنان القاسم من مواليد يافا 1944 عائلته من برقة قضاء نابلس له خمسون عملاً بين رواية ومجموعة قصصية ومسرحية ومجموعة شعرية ودراسة أدبية أو سياسية تم نشر معظمها في عواصم العالم العربي وتُرجم منها اثنان وثلاثون كتابًا إلى الفرنسية والإنجليزية والإسبانية والروسية والعبرية، دكتور دولة ودكتور حلقة ثالثة من جامعة السوربون ودكتور فخري من جامعة برلين، أستاذ متقاعد عمل سابقًا في جامعة السوربون ومعهد العلوم السياسية في باريس والمدرسة المركزية الفرنسية وجامعة مراكش وجامعة الزيتونة في عمان والجامعة الأردنية، تُدرّس بعض أعماله في إفريقيا السوداء وفي الكيبيك وفي إسبانيا وفي فرنسا...





#أفنان_القاسم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- البؤساء فكتور هيغو الجزء الأول
- شيطان طرابلس
- ستوكهولم
- تراجيديا النعامة
- الشيخ والحاسوب
- وصول غودو
- مؤتمر بال الفلسطيني وحوارات مع أفنان القاسم في كتاب
- أمين القاسم الأيام الفلسطينية
- خطتي للسلام الاتحاد بين الفلسطينيين والإسرائيليين
- البنية الشعرية والبنية الملحمية عند محمود درويش
- المسار أضخم رواية في الأدب العربي القسم الثالث
- المسار أضخم رواية في الأدب العربي القسم الثاني
- المسار أضخم رواية في الأدب العربي القسم الأول
- أنفاس الديوان الثالث
- أنفاس الديوان الثاني
- أنفاس الديوان الأول
- أربعون يومًا بانتظار الرئيس
- أفنان القاسم يجيب على أسئلة -سيدتي-
- كتب وأسفار
- الذئاب والزيتون


المزيد.....




- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - شعراء الانحطاط الجميل