أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - داود روفائيل خشبة - مسيرة الفكر الإنسانانى















المزيد.....

مسيرة الفكر الإنسانانى


داود روفائيل خشبة

الحوار المتمدن-العدد: 3740 - 2012 / 5 / 27 - 14:00
المحور: الادب والفن
    


يبدو أن الإنسان هو النوع الحيوانى الوحيد الذى يميّز بين ذاته وعالمه الذى يعيش فيه، حتى ليمكننا القول بأن الإنسان هو الحيوان الوحيد الذى يستطيع أن يقول "أنا" أو الوحيد – فيما نعلم – الذى يملك فكرة الـ "أنا". وإذ يميّز الإنسان ذاته عن العالم يدرك محدوديته ويتبيّن ضآلته ويعرف أنه زائل حتما. وإذ يتبيّن الإنسان ضآلته فى مواجهة الكون تتولد فيه مشاعر الرهبة والعجب، وإذ يدرك حتمية زواله يتساءل عن معنى حياته وغاية وجوده. وتحت ضغط الرهبة والعجب والحيرة أبدع الإنسان الأساطير عن أصل الكون ونشأته، وإذ رأى نفسه محاطا بقوى يبدو بعضها محسنا خيّرا وبعضها عدائيا ضارّا كان من الطبيعى أن يحاول إظهار العرفان للقوى الخيّرة واستبقاء إحسانها، واسترضاء القوى العدائية واجتناب ضررها، فقدّم لها القرابين وابتدع الطقوس آنا ليكسب عطفها وآنا ليؤثر فى سلوكياتها وتوجيه قواها لما فيه مصلحته. هكذا نشأ الكون الفكرى الذى يحيا فيه الإنسان حياته المميّزة ككائن إنسانى خليطا تشابكت فيه جذور الفلسفة والدين والسحر والعلم، ولم يبدأ تفكيك هذا التشابك إلا رويدا رويدا على مدى التاريخ الإنسانى.

قد نظن أن العِلم كان آخر ما أفلت من هذا التشابك المعوّق، لكن الواقع أن العلم بدأ مسيرته التجريبية المستقلة مبكرا، وما كان من الممكن للنوع الإنسانى أن يستمر فى البقاء لو لم يكن قد شرع مبكرا فى تطويع واستغلال قوى الطبيعة، بدءا من استحداث واستخدام الأدوات، إلى اقتباس النار، إلى اكتشاف الزراعة، إلى استئناس أنواع من الحيوان، إلى اختراع العجلة، ومضى العلم فى مسيرته عن طريق التجربة والخطأ عبر الحضارات الأشورية والبابلية والمصرية والصينية والإغريقية والعربية، إلى أن أرست الحضارة الأوروبية منهجيته وأوضحت قوانينه الموضوعية بدءا من نحو أواخر القرن السادس عشر وأوائل السابع عشر. هكذا الحضارة الإنسانية، تيّار متصل أسهم فيه ويشارك فيه كل البشر، وعلى من يريد أن يأخذ منه بنصيب أن يواصل المسيرة من حيث انتهى الآخرون لا من حيث وقف الأقدمون. لكن موضوعى هنا ليس العلم على ما للعلم من أهمية حيوية.

استبان العلم الموضوعى التجريبى طبيعته الخاصة وأفصح عن استقلاله وعن إفلاته من تشابك الدين والسحر والفلسفة فى الفكر البدائى. وبينما استمرت حيرة الإنسان المشروعة إزاء ألغاز الكون وأسرار الحياة معناها وغايتها، واستمر تشابك ما تثيره هذه الحيرة من أسئلة مشروعة مع بواعث الرهبة والعجب وما تستحثانه من حفز للخيال لإبداع أساطير تهدّئ من الروع الطفلى وتمنحه بعض السكينة، تحوّلت هذه الأساطير مع الزمن إلى عقائد قامت عليها ومن حولها مؤسسات ذات سلطة وجبروت، التحمت عبر التاريخ الإنسانى مع مصالح القلة القادرة التى وجدت طريقها إلى استغلال واستعباد الكثرة المستضعفة، ووجدت هذه المؤسسات فى الممارسات السحرية عونا لها على بسط وتثبيت سيطرتها. ألسنا نرى اليوم مؤمنين يطلبون الشفاء من علة جسمانية بالمسح باليد على صورة أو أثر لأحد الصالحين؟ ألسنا نرى مؤمنين يأكلون لقمة خبز ويأخذون رشفة نبيذ معتقدين أنهم يتناولون جسد ودم معبودهم فيتحدون معه؟ ألسنا نرى المؤمنين يرمون إبليس بحصى يصيبه جمرا من نار؟ لكن ما استحال إليه الدين ليس بدوره موضوعى الذى أريد أن أقف عنده هنا.

ظل تشابك التساؤلات الفلسفية مع العناصر الأساسية للكون الفكرى الإنسانى بما فيها من أساطير ومن أصول التوجّه العلمى مستمرّا فى كل الحضارات إلى نحو القرن السادس قبل الميلاد. من قبل ذلك وحتى ذاك التاريخ كانت هناك بصائر أخلاقية نافذة وبصائر أونطولوجية ثاقبة فى بلاد ما بين النهرين وفى مصر وفى بلاد الفرس وفى الصين وفى الهند، لكن فى القرن السادس قبل الميلاد حدثت فى المدن الأيونية على الساحل الشرقى لبحر إيجة نقلة نوعيّة فى الفكر الإنسانى، فهناك جرؤ مفكرون أفراد، بلا سلطة وبلا ادّعاء وحى أو إلهام سماوى، على أن يحاولوا تقديم إجابات للتساؤلات الفلسفية لا تستند لغير العقل، لا يطالبون أحدا بتصديقها أو قبولها إلا حسبما يقضى به عقله. كان فيما تناوله المفكرون الأيونيون بعض ما يدخل فى نطاق العلم الموضوعى وما ينبغى أن يعالج بوسائل العلم الموضوعى، لكن ذلك لم يكن ليتضح إلا مع الزمن.

تواصل دفع الفكر العقلانى الذى أطلقه المفكرون الأيونيون، فعلى مدى ما لا يزيد على ثلاثة قرون نجد المفكرين اليونانيين قد أثاروا كل المسائل الفلسفية الأساسية. أثاروا كل المسائل وقدموا عنها إجابات لا سند لها ولا مرجعية لها غير العقل. يقال – وعن حقّ – أنْ ليس ثمة إجابة من تلك الإجابات إلا وقد نقضها مفكرون آخرون. فما مكسبنا من ذلك؟ لن أحاول هنا أن أقدّم إجابة هذا السؤال التى تستند إلى مجمل فلسفتى التى عرضتها فى كتبى، وعلى الأخص فى "دعوة إلى الفلسفة" (2011) وفى "أفلاطون: قراءة جديدة" الذى آمل أن يصدر قريبا جدا عن المركز القومى للترجمة (إذا لم يغلق حكامنا الإسلاميون الجدد كل النوافذ). إنما أكتفى هنا بأن أقدّم إجابة موجزة عن سؤال يتردّد كثيرا: ما جدوى كل هذا التفلسف الميتافيزيقى الذى لا ينتهى إلى شىء أبدا والذى لا يعدو أن يكون لغوا فارغا؟ قد أقرّ لك بأن كل الإجابات وكل النظريات الميتافيزيقية محض لغو، لكننا طالما بقيت لنا إنسانيتنا سنظل نطرح تساؤلاتنا الميتافيزيقة. هذه التساؤلات الميتافيزيقية تخلق أبعاد الفضاء الفكرى الذى يحيا فيه الإنسان ككائن إنسانى. متى توقفنا عن إثارة التساؤلات الميتافيزيقية استقرت حياتنا على مستوى الكيان البهيمى، وهو بالضبط ما تحققه القناعة بالعقيدة الموحاة من أعلى. علينا أن نكابد الحيرة الميتافيزيقة إن أردنا لفكرنا أن يكتسب بعده الإنسانى.

أعرف أن الكثيرين لن يروا فى هذا القول غير نموذج لما يعترضون عليه من الهراء الميتافيزيقى. فلأحاول أن أجعل الفكرة أكثر وضوحا. أقول إن التساؤل الميتافيزيقى يخلق أبعادا فكرية تهيّئ للعقل حيّزا أو لنقل فضاء يمارس فيه فاعليته الخلاقة دون أن يزعم لا لتلك الأبعاد ولا لما يبدعه فى داخلها من رؤى أىّ واقعية موضوعية. سأعطى عن هذا مثالا واحدا ثم أعطى مثيلين أحدهما من مجال الإبداع الأدبى والآخر من مجال الرياضيات.

فكرة الكون الفلسفية تختلف عن فكرة الكون فى علم الفلك وعلم الفيزيقا، ففكرة الكون الفلسفية تعطينا مفهوم الكل الشامل الكامل، وهذا مفهوم لا يمكن أن يطابق شيئا مما يتناوله العلم الموضوعى. ولعل الفرق بين المفهومين يتمثل فى واقعة ذات دلالة عميقة يرويها برتراند رسل Bertrand Russell لخلاف جرى بينه وبين ڤتجنشتاين Wittgenstein حول إمكان أن تكون هناك مقولة عن العالم ككل. حكى رسل هذه الواقعة فى My Philosophical Development (1959) وتناولتها أنا بشىء من التفصيل فى "أحجية ڤتجنشتاين " (فى أبو الهول والعنقاء*)، ولم يكن ممكنا أن ينتهى الرجلان إلى اتفاق لأن مفهوم العالم عند رسل مفهوم إمپريقى بينما هو عند ڤتجنشتاين مفهوم ميتافيزيقى. المفهوم الفلسفى للكون الذى لا يمكن أن نزعم له واقعية، كما بيّن لنا إمانويل كـَنْت Immanuel Kant، يعطينا إطارا يصوغ لنا فيه لايپنتس Leibniz رؤية، ويصوغ لنا فيه سپينوزا Spinoza رؤية، ويصوغ لنا فيه شوپنهاور Schopenhauer رؤية. ليس بين هذه الرؤى رؤية يمكن أن ننسب إليها موضوعية أو صدقا. فما قيمتها إذن؟ قيمتها أنها تجعلنا نمتلك هذا المفهوم الكلى الذى يلبّى حاجة طبيعية يطلبها عقلنا؛ نمتلك مثال الكل المتكامل وإذ نمتلك مثال الكل المتكامل نصبح فى ذاتنا كلا متكاملا.

لننظر الآن فى مثيلين من عالم الإبداع الأدبى ومن عالم الرياضيات. يبدع شكسپير هاملت، شخوصا وملابسات وأحداثا، ليس لها واقع موضوعى، فحتى حين يتناول أشخاصا تاريخية – يوليوس قيصر مثلا أو كليوپترة – فإن ما يقدمه لنا هو رؤيته الإبداعية وليس الواقع التاريخى، ويخلق لنا بذلك عالما خاصا نحيا فيه وننفعل ونتفاعل. وفى عالم الرياضيات: ما الصفر؟ ما اللانهائى؟ ما الجذر التربيعى لناقص واحد؟ بل ما كل مفاهيم الهندسة الإقليدية؟ كل هذا لا يقابله أىّ واقع موضوعى، لكن الرياضيين يستخدمون كل هذا فى المعمار وفى الفلك وفى رحلات الفضاء.

هكذا مفاهيم الميتافيزيقا. لقد ظلم الفلاسفة أنفسهم حين حسبوا أنفسهم مطالبين بنفس ما هو مطلوب من العلوم الطبيعية: أن يعطونا معرفة بالعالم الموضوعى. الفلاسفة عملهم أن يفكروا وأن يحثونا على أن نفكر وأن نعقِل، وأن ندرك أن ما تبدعه عقولنا أحلام، لكنها أحلام تتمثل فيها المعقولية، وفوق ذلك وأهم من ذلك أنها أحلام تعرف عن نفسها أنها ليست سوى أحلام.

إن وجدتم إجابتى محيّرة فليس عندى اعتذار: فما قيمة فكر لا يؤجج فى العقل حيرة.



*أبو الهول والعنقاء، الترجمة العربية لكتابى The Sphinx and the Phoenix (2009)، والترجمة عند المركز القومى للترجمة بالقاهرة منذ آخر سبتمبر 2011 تنتظر قرارا من المركز بنشرها كاملة، إذ أنى رفضت اقتراحا لهم بحذف مقالين – "ما هو الله؟" و "خواطر نحو نقد الدين" – رأى المركز أن البيئة الثقافية العربية غير مهيّاة لهما.



#داود_روفائيل_خشبة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- دعوة للعقلانية
- ظاهرة زغلول النجار
- همس الحيّة
- مصر فى التوراة
- رسالة إلى فضيلة الشيخ يوسف القرضاوى
- دعوة للعقلانية


المزيد.....




- “بتخلي العيال تنعنش وتفرفش” .. تردد قناة وناسة كيدز وكيفية ا ...
- خرائط وأطالس.. الرحالة أوليا جلبي والتأليف العثماني في الجغر ...
- الإعلان الثاني جديد.. مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 الموسم ا ...
- الرئيس الايراني يصل إلي العاصمة الثقافية الباكستانية -لاهور- ...
- الإسكندرية تستعيد مجدها التليد
- على الهواء.. فنانة مصرية شهيرة توجه نداء استغاثة لرئاسة مجلس ...
- الشاعر ومترجمه.. من يعبر عن ذات الآخر؟
- “جميع ترددات قنوات النايل سات 2024” أفلام ومسلسلات وبرامج ور ...
- فنانة لبنانية شهيرة تتبرع بفساتينها من أجل فقراء مصر
- بجودة عالية الدقة: تردد قناة روتانا سينما 2024 Rotana Cinema ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - داود روفائيل خشبة - مسيرة الفكر الإنسانانى