أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - ستوكهولم















المزيد.....



ستوكهولم


أفنان القاسم

الحوار المتمدن-العدد: 3740 - 2012 / 5 / 27 - 12:38
المحور: الادب والفن
    


الأعمال الكاملة
الأعمال الروائية (28)


د. أفنان القاسم



ستوكهولم
STOCKHOLM




رواية





إلى توماس ترانسترومر






































القسم الأول
جوستين


لم تكن جوستين تريد البكاء على حالها، وهي على أي حال لم تعد تستطيع البكاء بعد أن ذرفت كل دموعها. كانت جوستين تريد أن تقول شيئًا آخر عن جسدها، شيئًا آخر لا علاقة له بالعفة، شيئًا آخر، شيئًا لم يكن أحد يعرفه، حتى هي لم تكن تعرفه، ثم عرفته، عرفته بالصدفة. لم تكن جوستين تعرف ما هو، ولم تكن الأجساد التي امتلكتها تعرف ما هو. كانت جوستين بالنسبة لكل الأجساد التي عانقتها موضوعًا للمتعة، شيئًا يرغب المرء فيه، يستهلكه دون أن يسأل عما يكون، ثم يلقيه. كانت جوستين ما لم تكنه، كانت فكرتها قبل أن تكون فكرة ساد. جوستين. فقط. لهذا، كل ما كابدته من آلام لم تكن آلامها، كانت آلام الماركيز، المازوخي بعد كل حساب، فكل الآلام التي ألحقها بجوستين كان يلحقها بنفسه، وكان يتلذذ بذلك، بينما آلام جوستين، آلامها هي، آلامها الحقيقية، لم يكن ساد يعرفها. غابت عنه، آلامها، لأن كل تعاسات جوستين لم تكن تعاساتها، كانت تعاساته. كانت لجوستين تعاسة واحدة، واحدة فقط، لم يكن ساد يعرفها، ولم يكن ليعرفها. لم تكن تعاسة من تعاسات العفة، ولكن تعاسة من تعاسات الحياة.

قلبت كاتارينا فريدن، العضو في هيئة تحكيم جائزة نوبل للآداب، رواية "جوستين والتعاسة المنسية" للكاتب الفرنسي ألبير رامو، قلبتها على وجهها، وبدت لها، وهي في سريرها، سحنة حالمة تتيه مع أفكارها. الجواد يشرد. انظري إليّ عندما أكلمك، كانت أمها تقول لها، لا تتهربي بنظرتك مني. هذا لا شيء. التركيز يذهب ويأتي ككل شيء. كل شيء يتوقف عليك، إذا ما أردت. أنت أعلم الناس كيف. لا أحد يعرفك أكثر منك. أنا أمك، ومع ذلك أنا لا أعرفك أكثر منك. أنت تعرفين نفسك، وكل شيء عنك. لهذا عليك أن تفلحي. أنا لا أريد ابنة لا تفلح. أريد ابنة تفلح في كل شيء، تفلح في حياتها، وتقضي على كل تعاساتها. الجواد يشرد. وبشيء من الوثوب العاطفي، كانت الأم تريد أن تأخذها بين ذراعيها، فتدفعها كاتارينا فريدن عنها بعيدًا، وتأخذ بالقهقهة، ثم تأخذ بالبكاء. الجواد يشرد.

لم تكن جوستين تعرف شيئًا عن جسدها، كل ما كانت تعرف أن لها فخذين جميلتين، يقبلهما بحب قوي كل من لا يحبها، كل من لا يعرفها، كل إله، كل رجل، كل امراة، كل حيوان، حتى الصخر، لو دب دبيب الحياة فيه، حتى الشجر، حتى الريح، حتى الموتى، حتى الموتى كانوا يخرجون من قبورهم على منظر فخذي جوستين المقدودتين من السعير ليقبلوهما بحب قوي، حتى الأبطال، حتى الأشرار، حتى الأنبياء، حتى الشعراء، حتى المشردون والمغدورون والمسعورون، حتى المتدينون، حتى النبلاء، حتى الوزراء، حتى الملوك، حتى الصعاليك والمجانين والملاعين، كان الكل يقبل فخذي جوستين بحب قوي، دون أن يعرفها، ودون أن يحبها. وكان الكل يقبل بطنها، وينادي على موته، وكان الكل يقبل ثدييها، ويحتفل بجنازته، يتناول حلمتيها الواحدة تلو الأخرى، ويعضهما، كان يعضهما، وكأنه يعض روحه، ويسعى إلى الانتقام من كل الذنوب التي ارتكبها في حياته، ربما كان الانتقام منها، وربما كان التطهر منها. كان يعض، ثم كان يكاد يغمى عليه، فينسى لماذا يعض. كان يعض، كان يعض، لأنه كان يسعده أن يعض، وهو لو تمكن من قطع الحلمة بأسنانه لما تردد لحظة واحدة، وكانت الحلمة تلين، وهي كالجمر، كانت تلين، فترق، ويترقرق الجمر ليفتك بهذا الوجود الصغير الذي هو الجسد قبل أن يفتك بذاك الوجود الكبير الذي هو الكون. ثم كانت مراسم الإنهاء تبدأ بالتقام شفتي جوستين، بالتقام شفتيها المشتعلتين بالعشق، ولم يكن الفظيع الذي يأخذهما بعشقٍ قوي بين أنيابه عاشقًا، كان في تلك اللحظة مسألته أمام قُبلة، قُبلة ليست كغيرها من القبلات، ليقتل فيها ذاته، وهو يرفع فخذي جوستين حتى عروش الآلهة، ليقتل ذاته، ويغدو جرذًا.

وبدافع غير منطقي، رفعت كريستينا سفينسون، العضو في هيئة تحكيم جائزة نوبل للآداب، أصابعها إلى ثديها، فعنقها، ففمها. دافع لا يقاوم. كان زوجها ينام إلى جانبها. أيام زمان، كانت كل صديقاتها يعدون من وراء ميولهن ما عداها. لم يكن كجوستين، وكن كجوستين. وعلى عكسهن، كانت كريستينا سفينسون كئيبة ومنحرفة المِزاج وجليدية كأضواء ستوكهولم في نهارات الشتاء. حتى الأضواء جليدية في شتاء ستوكهولم. رمادية كنفسها. خلية البال. لا تبالي بمصيرها. الكلاب تبالي بمصيرها. أنتن كلكن مومسات، بصقت ذات يوم في وجوه رفيقاتها، وهن يكتمن بأياديهن صيحة الاحتجاج. ركضت بعد ذلك إلى حجرتها في الحي الجامعي، أقفلت عليها الباب بالمفتاح، وأخذت بالبكاء. توقفت عن البكاء فجأة، وذهبت إلى الحمام. دافع لا يقاوم. خلعت ثيابها، ونظرت إلى جسدها عارية. نظرت إلى جسد الأخرى في المرآة. ابتسمت الأخرى، وهي ظلت عابسة. رفعت أصابعها إلى ثديها، فعنقها، ففمها، وعادت إلى البكاء، بينما تداوم الأخرى التي في المرآة على الابتسام باحتداد. دافع لا يقاوم.

لم تكن جوستين في البداية تعرف لماذا كان ثديها الأيسر مشرئبًا إلى أعلى قليلاً أكثر من ثديها الأيمن، كان كل من رأى ثدييها يلاحظ ذلك، ويعزوه إلى ميزة جمالهما. الثدي الأيسر ثدي الحب، ولأنه ثدي الحب، كان يشرئب إلى أعلى قليلاً أكثر. بعضهم قال لغروره، وبعضهم قال لفخره، وبعضهم قال لتحديه. كان ثدي جوستين الأيسر يشرئب إلى أعلى بجمال يفوق كل جمال، وفي ظله كان ثديها الأيمن ينام أو يلعب أو يشدو، فيذكّر بشدو جنيات البحر. لهذا كان المرء يرغب في تمزيقه بين أسنانه، وترك الآخر عاليًا. كان الثدي الأيسر يُرهب كل تلك الأفواه التي عضت الثدي الأيمن، واجتاحته، فيكون عند ذلك الخضوع لأمره، الموت على حافة حلمته، ثم الانتهاء المجرم، ولكن اللذيذ الدموية، كألذ شيء في الوجود، اللذيذ المعصية، اللذيذ الفسق، اللذيذ التعبد، تعبد الصنم المشرئب بعنقه إلى أعلى قليلاً أكثر باحتقارٍ لكل عابديه، بازدراءٍ اختياليّ، بتلذذٍ إلهيّ، فللآلهة تلذذها الجنسيّ، تمامًا مثلنا، وارتقاؤها الجنسيّ، تمامًا مثلنا، ارتقاؤها في أجسادنا، كأنها أجسادنا، في اللحظة التي نتساقط فيها من حافة نهد مشرئب إلى أعلى قليلاً أكثر كنهد جوستين الأيسر. في الهاوية. نتساقط في الهاوية. كالأزمان. كالبَرَم بالحياة.

هوراس ألفريدسون، العضو في هيئة تحكيم جائزة نوبل للآداب، نظر إلى لهب المدفأة، وهو في روبه الصوفي، تحت مصباح أصفر الضوء لم يكن شديدًا، فرأى ثدي جوستين الأيسر المشرئب إلى أعلى قليلاً أكثر. نهض بسرعة، ورشق اللهب بالماء، فامتلأ الصالون برائحة الحطب المنطفئ. عزيزي، هل تشم شيئًا محترقًا؟ صاحت زوجه من حجرة النوم. لكنه لم يجبها، كان سعيدًا، كان يقطر سعادة، لأنه أنقذ ثدي جوستين الأيسر المشرئب إلى أعلى قليلاً أكثر، لأنه وقى المعصية اللذيذة والفسق اللذيذ والتعبد اللذيذ. عزيزي، هناك شيء يحترق! كان ثدي جوستين الأيسر المشرئب إلى أعلى قليلاً أكثر دينه، مثله الأعلى، شيئًا غامضًا كثدي أمه. هناك شيء يحترق! وماذا يهمه لو يحترق العالم بعد أن أنقذ ثدي جوستين الأيسر المشرئب إلى أعلى قليلاً أكثر؟ كان الثدي رأسه، فوضع رأسه بين يديه، وكان الثدي صدره، فجمع ذراعيه من حوله، وكان الثدي ساقيه، فشدهما بقوة، وكان الثدي قدميه، فأمسكهما بيديه، وكأنه يمسك بنظام كامل من الأفكار. كان الثدي أفكاره، كل أفكاره التي صنعته، وجعلت منه فيلسوفًا كبيرًا. كان الثدي هي، زوجه، كان الثدي ثديها، فصاح من مكانه: إنها المدفأة التي أطفأتها، لا شيء يحترق. هناك شيء يحترق!

لم تكن جوستين تعلم أن ثديها الأيسر يشرئب إلى أعلى قليلاً أكثر لأنه يرفض أن يكون ثقيلاً بالسرطان الذي فيه، كان ثديها يقاوم المرض الرهيب، فيشمخ برأسه عاليًا، ويبدو أجمل ثدي في الكون. لم يكن ساد يعرف هذا، كان يقع فريسة الظاهر، ككل عشاق جوستين. المرئيّ، كان طبيعيًا أكثر من اللازم، وكان ساد بسبب ذلك مخدوعًا بجمال ثدي لم يكن في حقيقته جميلاً، كان في حقيقته مريضًا. كان ساد ينظر إلى ثديه، فيرى ثدي جوستين، ثديًا أملس، لا شيء يُلمس فيه، ثدي رجل يمكن أن يكون مدورًا كثدي جوستين، كثدي أبيه في الواقع، كثدي لا علاقة له بالواقع، ثدي مريض، جميل لأنه مريض، مروع لأنه مسالم، مدمر لأنه لا يفقه لغة أخرى غير عض الروح والفتك بالوجود. بشفتيه المخدرتين بالأعراض عرف الطبيب الوغد لماذا ثدي جوستين الأيسر المشرئب إلى أعلى قليلاً أكثر مشرئبٌ إلى أعلى قليلاً أكثر، عض الدرنات، وعلكها، لكنه لم يقل لجوستين إلا بعد أن أخرس العواصف البهيمية في جسده، بعد أن جعل من الثدي المريض مرضه، فأدخله عقله، وجعله يجتاح كيانه، ويبدله إلى كيانات صغيرة، سرطانية، شيطانية، لا نهاية لها.

نهض بيتر أكرفيلدت، العضو في هيئة تحكيم جائزة نوبل للآداب، وسار من وراء مكتبه حتى النافذة. رفع الستارة، وبحث بعينيه عن ثدي جوستين اللامرئي، فرأى أحدهم. كان يقف تحت ضوء مصباح العامود بقميصه النصف الكم، وهو يصفق، ويقفز، وينفخ في يديه من شدة البرد، لما فجأة سقط الرجل على الأرض، وبقي في مكانه دون حراك. نظر بيتر أكرفيلدت إليه بلامبالاة مطلقة، كمن ينظر إلى جبل جليدي عائم. سمع صهيل جواد، فرفع يده، ولم ينزلها. أبوك في مرحلته النهائية، قال الطبيب. ابتسم بيتر أكرفيلدت. الموت ثدي يصهل. كم بقي له من الوقت؟ سأل بيتر أكرفيلدت. عدة أسابيع، أجاب الطبيب. اتسعت ابتسامة العضو في هيئة تحكيم جائزة نوبل للآداب. الموت ثدي يصهل. عدة أسابيع، همهم بيتر أكرفيلدت. عدة أسابيع، أعاد الطبيب. ابتسم بيتر أكرفيلدت أكثر ما يكون الابتسام. عدة أسابيع، ردد. أسبوعان، ثلاثة، أربعة، قال الطبيب. أسبوعان، ثلاثة، أربعة، أعاد بيتر أكرفيلدت دون أن يمنع نفسه عن القهقهة. الموت ثدي يصهل.

لم تكن جوستين تدري ما تفعل، اقطعيه، قال لها الطبيب الوغد. أقطعه، قالت جوستين. إنه الحل الوحيد، قال الطبيب الوغد. إنه الحل الوحيد، أعادت جوستين. كان ثديها كل حياتها. الحل الوحيد. كيف ستحيا جوستين دون ثديها؟ كيف ستستقبل كل هؤلاء الذئاب بثدي واحد؟ هل سيقبلونها دون ثديها المتشامخ المتعاظم المتعالي المذل المهين المدين المسترق المستخرئ المستنيك؟ هل يبقى للإذلال معنى؟ ولإراقة العمر على حافة حلمة هل تكون قيمة؟ كانت كل تعاسات العفة لا شيء مقابل تعاسة جسد مقطوع الثدي، مأساة ثدي يُلقى في القمامة، تتصارع عليه القطط والكلاب، تبكي عليه الآلهة، يظلم القمر من أجله، والليل يظل أبيض دامسًا. ثدي لن يتذكره أحد، لن يقلق عليه أحد، لن يبالي به أحد. وسيبقى الحب يطرق الأبواب بعيدًا عنه. كان ثدي جوستين مسألة من مسائل فرنسا الكبرى دون أن يكون في الواقع كذلك، لأنه كان ثديها وفي الوقت ذاته ثدي لويس السادس عشر. قصله كان يعني قصل آخر ملوك فرنسا، وإعلان الحداد في فرساي قبل وفاته. كان يعني الثورة قبل أن تقع، فالثورة لن تقع إلا بقصله، بقطعه، وفرنسا لن تتحرر من تعاساتها إلا بإزالة تعاسة جوستين في ثديها.

يا رالف! سمع رالف ليندغرن، العضو في هيئة تحكيم جائزة نوبل للآداب، أصواتًا تناديه. يا رالف! يا رالف! فجأة نهض، وذهب من الصالون إلى غرفة نومه، كانت زوجه تنام نومًا عميقًا. يا رالف! يا رالف! يا رالف! عجل الذهاب إلى غرفة ابنتيه حورية ومارغريتا، كانتا تنامان نومًا عميقًا، إلى غرفة ابنه هاكان، كان ينام نومًا عميقًا. نظر إلى الجدار. الجدار يحجب عني ميناء ستوكهولم. إذن هم الجيران. دق على الجيران الباب، ففتحت امرأة عجوز ميتة من النعاس. قال لها ماذا؟ جمجمت العجوز ماذا ماذا؟ تركها وعاد يدخل بيته. يا رالف! يا رالف! يا رالف! نظر إلى كتاب ألبير رامو، وجاء يحمله، ويتكلم مع جوستين. هل هذه أنت، يا جوستين؟ سأل رالف ليندغرن. هذه أنا، يا رالف، أجابت جوستين. هل تريدين أن آخذك إلى المستشفى؟ سأل رالف ليندغرن. لماذا؟ سألت جوستين. تقولين لماذا؟ سأل رالف ليندغرن. أقول لماذا، أجابت جوستين. لأجل ثديك، قال رالف ليندغرن. لأجل ثديي، قالت جوستين. الجدار يحجب عني ميناء ستوكهولم. لأجل ثديك، أعاد رالف ليندغرن. لأجل ثديي، أعادت جوستين. ثديك يجب قطعه، همهم رالف لندغرن. ثديي يجب قطعه، همهمت جوستين. سنحتفظ به في قارورة، أوضح رالف لندغرن، لن نلقيه في المخرآت، وسأحبك دومًا، بثدي أم بدون ثدي، سأحبك دومًا. ستحبني دومًا، همهمت جوستين، ودمعة تسيل على خدها. سأحبك دومًا، عاد رالف لندغرن إلى القول، كما يحب المجانين الآلهة. ستحبني دومًا، عادت جوستين إلى الهمهمة، وهي لا تتوقف عن البكاء. لا تبكي، يا جوستين، طلب رالف لندغرن، اذهبي إلى النوم، وسنتحدث في الأمر غدًا. هل تسمعينني؟ اذهبي إلى النوم، وسنتحدث في الأمر غدًا. أذهب إلى النوم، وسنتحدث في الأمر غدًا، قالت جوستين. اذهبي إلى النوم، عاد رالف لندغرن إلى القول. أذهب إلى النوم، عادت جوستين إلى القول. لن أقفل عليك الباب، قال العضو في هيئة تحكيم جائزة نوبل للآداب. لن تقفل عليّ الباب، قالت بطلة ساد. تصبحين على خير، يا جوستين، قال رالف ليندغرن. تصبح على خير، يا رالف، قالت جوستين. وضع الكتاب على مكتبه مفتوحًا، وأطفأ الضوء. الجدار يحجب عني ميناء ستوكهولم.

حملت جوستين السكين، وإلى شفرته أدنت حلمة ثديها الأيسر المشرئب إلى أعلى قليلاً أكثر، حلمة مدورة كحبة الكرز الأحمر، ملأى بكل العض والقبل، وبكل ما يلتصق بجسدها. كان كل ما يلتصق بجسدها معلقًا على حلمتها، كل الأجساد التي سقطت عليها، كل الأدوات التي اخترقتها، كل الهلوسات التي لوثتها، كانت كلها معلقة على حلمتها، وكل الطرق التي قطعتها، وكل الأديرة التي خدعتها، وكل القصور التي اتهمتها. كانت معلقة على حلمتها كل السرقات التي لم تقدم عليها، وكل الحرائق التي لم تشعلها، وكل الجرائم التي لم ترتكبها. وكانت معلقة على حلمتها كل النجوم، وكل الأقمار، وكل المُذَنَّبات، على حلمتها، معلقة على حلمتها، وكانت حلمتها كل جوستين، كانت حلمتها كل أحلام جوستين، وكل آمال جوستين، وخاصة كل خيبات جوستين، كل خيبات العالم، فخيبات جوستين كانت خيبات العالم. وكانت معلقة على حلمتها كل المناقير، المقطوعة، وكل المخالب، المبتورة، وكل الأسنان، المقلوعة، وكل النبال، وكل الرماح، وكل السهام، سهام الحب أول السهام. كانت حلمة جوستين العالم معلقًا، العالم بكل ما فيه من أشرار، فلا أشراف في العالم الذي عرفته جوستين، بكل ما فيه من أخساء، وبكل ما فيه من أنذال. هذا العالم الذي كان لجوستين، أرادت أن تحزه، فهو سرطانها، أرادت أن تحزه، فتنقذ نفسها مما هي فيه. وراحت تحزه، راحت تحز حلمتها، والدم يتفجر من بين أصابعها، وهي تصرخ. كانت تصرخ، وكانت تداوم على حزها، والدم يتفجر من بين أصابعها، تحزها، وتصرخ، وتنادي، كانت تنادي على شخص لم تعرفه أبدًا في حياتها، لم يكن أبدًا موجودًا، وجوستين لهذا كانت تنادي عليه، وهي تحز حلمتها، وهي تداوم على الصراخ، وهي تنادي، وهي تنادي، وهي تنادي على الشخص الغير الموجود، والدم يتفجر من بين أصابعها، والدم يغرقها، يغرق العالم، يغرق الوجود.














القسم الثاني
كاتارينا فريدن

كان الصيف في ستوكهولم، هذا يعني أن الشمس كثيرة، ثماني عشرة ساعة شمس، الشمس كثيفة، الشمس جدائلها طويلة. كانت كاتارينا فريدن تحب الصيف ولا تحب الشمس. لماذا لا تمطر في الصيف؟ كانت تتساءل. كانت لا تحب المطر، ولكن لأن الغيوم كانت تحجب الشمس، وهي كانت لا تحب الشمس. لماذا لا يبتلع بحر البلطيق كل هذه الشمس؟ كانت تضحك على الفكرة، فالشمس ليست حوتًا. كانت الشمس أكبر من كل السويد، أكبر من كل أوروبا، أكبر من كل الكون، وكان بحر البلطيق أصغر من الشمس، وبحيرة مالار أصغر من بحر البلطيق. وكل هذه الجزر الصغيرة التي ترتبط فيما بينها بالقناطر، بعشرات القناطر، بمئات القناطر، بآلاف القناطر، كل هذه القنوات، كل هذه الأزقة، كل هذه الحارات لبندقية الشمال، كل هذه السلالم الخشبية لغاملا ستان، المدينة القديمة. كانت كاتارينا فريدن تحب السلالم الخشبية، ولا تحب القناطر، ولا القنوات، وكانت تكره السكن في غاملا ستان، لكنها لم تفكر أبدًا في تركها. كان يربطها كل شيء بها في غاملا ستان، وُلدت فيها، وكبرت فيها، وكانت تكره العيش في غاملا ستان. كانت تكره على الخصوص ألوان جدران بناياتها البرتقالية والصفراء، لم يكن الأصفر لونها، ولا البرتقالي، لونان للشمس التي كانت تكرهها. وهي تسير في شوارع غاملا ستان، كانت في خوف دائم من سقوط بناياتها القديمة عليها. بنايات تلتصق ببعضها، وكأنها تسعى إلى تدفئة بعضها في شتاءات ستوكهولم الباردة، الجحيمية ثلجًا وجليدًا، فالجحيم في ستوكهولم كان ثلجًا وجليدًا.
- أليس الجحيم في ستوكهولم ثلجًا وجليدًا؟ كانت كاتارينا فريدن تسأل أمها.
- ها أنت تعودين إلى عدم التركيز، يا كاتارينا، كانت الأم تقول.
- أسألك فقط إذا ما كان الجحيم في ستوكهولم ثلجًا وجليدًا.
- وأنا أقول لك ليس هذا سؤالاً يسأل.
- أسألك فقط إذا ما كان...
- ليس هذا سؤالاً يسأل، يا كاتارينا.
- أسألك فقط إذا ما كان...
- ليس هذا سؤالاً يسأل، ليس هذا سؤالاً يسأل، يا كاتارينا.
وكانت الأم تطرق الباب خارجة، فتذهب كاتارينا لترى زوج أمها المستلقي بكل ثيابه على السرير. كانت تبكي على صدره، وتقول له بين لهاثها ودمعها إن أمها لا تريد الإجابة على سؤالها.
- ما هو سؤالك، يا كاتارينا؟
- لم أعد أذكر، يا رابّي.
- لم تعودي تذكرين؟
- بلى، أنا أذكر.
- تذكرين ماذا؟
- أنا لا أذكر.
- ركزي قليلاً، يا كاتارينا.
- وماذا أنا بفاعلة؟ أنا أركز، يا رابّي.
- إذن ما هو سؤالك، يا كاتارينا؟
- سؤالي...
- ما هو سؤالك، يا كاتارينا؟
- سؤالي... سؤالي...
- لا بأس، يا كاتارينا، عندما تتذكرين سؤالك ستقولينه لي.
- تذكرت، يا رابّي.
- إذن ما هو سؤالك، يا كاتارينا؟
- سؤالي... سؤالي... سؤالي...
- نعم، سؤالك، سؤالك، سؤالك.
- كان سؤالي عن الجحيم، لكني لا أذكر تمامًا.
- كان سؤالك عن الجحيم؟
- كان سؤالي عن الجحيم.
- إذا كان سؤالك عن الجحيم، فلا بأس في ذلك، يا كاتارينا. ظننت أنه كان سؤالاً مهمًا. الجحيم لا شيء، الجحيم هنا، الجحيم هنا في ستوكهولم أيام الشتاء.
- وأيام الصيف؟
- الجحيم هنا في ستوكهولم أيام الصيف.
كانت كاتارينا فريدن تبتسم من شدة السعادة، تضم زوج أمها، وتقبله من فمه.
- قلت لأمك إن من عادتك أن تقبليني من فمي.
كانت تعود إلى ضم زوج أمها، وتقبيله من فمه، وكانت تتمدد عليه، وللمرة الثالثة تضمه، وتقبله من فمه.
- هذا هو الجحيم، يا كاتارينا.
كانت تفتح قميصه، وتقبله من ثديه، ثم تنزل، وتسحب سرواله، وتمسكه بلطافة.
في الليل لم تكن تعرف النوم، كانت أفكارها كلها مضطربة، لا تعرف إذا ما كانت تحب زوج أمها، لا تعرف إذا ما كان زوج أمها يحبها، لا تعرف إذا ما كانت ابنة أمها، كان العالم في رأسها ككرة من خيوط الصوف كبيرة، وكانت تجد نفسها ضائعة فيها، تحيطها الخيوط من كل جانب، تقيدها كشبكة للعناكب، فتذهب إلى سرير أمها وزوج أمها، تزلق جسدها ما بين جسديهما دون أن تطلب إذنًا، وتأخذ بالهمهمة:
- سأكون كبيرة، يا أمي، كما قلت لي، ولن أتصرف بحماقة... هناك من يخيفني في غرفتي، إنه أخي...
- ولكن لا أخ لك، يا كاتارينا، تقاطعها أمها.
- إذن فهو واحد يشبه أخي، صديقي، كارل صديقي، يشبه أخي، وهو يخيفني، ويذهب إلى حد تهديدي، فأضحك (تضحك)، فيمسكني من ذراعي، فأضحك (تضحك)، يوجعني، فأضحك (تضحك)، يشدني من ذراعي، لا أحد هناك، فأخاف، في الليل أنا لا أخاف من أحد، أضحك (تضحك) أضحك من الخوف (تضحك) في الطريق كل المارة لا يضحكون، هم لا يحبون الشمس، لهذا هم لا يضحكون، ثم ينزع أخي قميص نومي...
- أنت لا أخ لك، يا حبيبتي، تقول الأم. مسكينة حبيبتي، تهمهم الأم، مسكينة حبيبتي، تعيد القول، وهي تضع خد ابنتها على ثديها.
في غضون ذلك، يكون زوج الأم قد نزع قميص نوم الابنة، وراح يداعبها من ثدييها.
- لماذا ننزع قمصان نومنا عندما ننام، يا أمي؟
- لنكون خفيفين كالملائكة، يا حبيبتي.
- لنكون خفيفين كالملائكة؟
- لنكون خفيفين كالملائكة.
- لنكون خفيفين كالملائكة، تعيد كاتارينا فريدن.
- مسكينة حبيبتي!
تتركها أمها تمص حلمتها، وزوج الأم يداعبها من إليتيها.
- نامي، يا حبيبتي، لا تفكري في شيء، نامي... نامي...
في اليوم التالي، ساعة درس الرياضيات الخصوصي، كان أستاذها يحضر، فتجذبه من يده إلى حجرتها، وتقبله، لكن الأستاذ يعترض:
- لا، يا آنسة كاتارينا، أنا هنا من أجل درس الرياضيات.
- درس الرياضيات؟ هنا ليست الكلية.
- أنا هنا من أجل درس الرياضيات.
- نحن نحب بعضنا.
- نحن لا نحب بعضنا، يا آنسة كاتارينا.
كانت تبكي، وتسأل:
- لماذا لا نحب بعضنا؟
- لأننا لا نحب بعضنا.
كان الأستاذ يسحبها من يدها إلى الصالون، ويبدأ شرحه، فتقوم إلى النافذة، وتأخذ بالكلام مع العابرين. كان يسحبها من يدها من جديد، فتجلس على ركبتيه.
- رجاء، يا آنسة كاتارينا.
كانت تقوم إلى الكرسي المجاور، ويعود الأستاذ إلى شرحه، لكنها تأخذ بالحديث وحدها:
- عندما سنتزوج لن نأتي بالأولاد، لن نخرج من البيت، لن نأكل، سنقضي كل الوقت ونحن نعمل الحب معًا، وسنترك الأولاد في دار الحضانة، لكن الأولاد كبار، والحضانة للصغار، لهذا لن نأتي بالأولاد، لن نحب الأولاد، أنا سأحب الأولاد، أنت لن تحب الأولاد أكثر مني، أنا سأحبك أكثر من الأولاد، سنسكن في نورمالم، ولن نأتي إلى غاملا ستان إلا لزيارة أمي، لن أحب أمي أكثر منك، ولن أحب زوج أمي أكثر منك، سأحبه أقل منك، وسأنقطع عن تقبيله من فمه، زوج أمي يخاف عليّ، في الليل يأتي إلى حجرتي، ويغطيني، لكن أخي يهددني دومًا، أنا لا أخ لي، لكن أخي يهددني دومًا، وينزع قميص نومي، ثم يتركني عارية، ويذهب...
تزوجت كاتارينا فريدن من أستاذ الرياضيات، وسكنت نورمالم معه، لكنها لم تبق في الشقة الجديدة أكثر من يومين، عادت إلى غاملا ستان، واحتلت هي وزوجها حجرتها. كان زوجها عندما تذهب في الليل لتنام بين أمها وزوج أمها، يعود بها إلى سريرهما مهددًا، استمر ذلك عدة ليال، وعندما أعياه الأمر، أخذ يذهب معها، فينام الأربعة معًا. وفي النهاية، طلقها زوجها، لا لأن الأربعة ينامون معًا، ولكن لأن كاتارينا فريدن بدأت تأتي بصديقها كارل إلى البيت كلما عادت من الجامعة، وكانت مع كارل لا تغدو اللعبة المساطة بل كارل هو من يغدوها. كانت تضربه بالسياط، وكارل يعجبه أن تضربه. كانت تناديه أحيانًا "جوستين"، وتطلب منه لعق قدمها، فساقها، ففخذها، فكلها، وعندما يحاول أن يأخذها، كانت تدقه بكعبها، وتأمره بأن يعيد لعقها. جوستين، افعلي هذا. جوستين، لا تفعلي هذا. جوستين، سأقتلك، سأقتلع أظافرك، سأمزق وجهك، وكانت لا تكتفي بالقول، كانت تفعل ما تقول. ضرب زوجها ذات يوم الباب من ورائه، ولم يعد أبدًا.
- آنسة فريدن، دفعتِ ثمن الخبز، وخرجتِ دون أن تأخذيه، كانت الخبازة تقول، وهي تركض من ورائها.
كانت كاتارينا فريدن تبتسم، وتسير، دون أن تأخذ الخبز.
- آنسة فريدن!
- أوه، معذرة.
كانت كاتارينا فريدن تتناول الخبز، وتجلس على مقعد، وتنسى الخبز على المقعد.
- آنسة فريدن، كل ما طلبته، سيكون عندك خلال ساعة، كان اللحام يقول لها.
- كل ما طلبت؟ كانت كاتارينا فريدن تتساءل دون أن تعرف ما طلبت، دون أن تعرف إذا ما طلبت شيئًا.
وفي دكان الملابس الداخلية، كانت كاتارينا فريدن تشتري عددًا لا بأس به منها، ولا تنسى أيًا منها، لكنها تنسى أنها لم تنس أيًا منها، فتعود لتشتري غيرها.
كانت الجامعة لكاتارينا فريدن عالم الحرية، وهي كانت جامعية، وهي أصبحت أكاديمية، وكانت مفتتنة بكل شيء يتعلق بالحرية، بالعدالة، بالحقوق، لكنها كانت تخلط بين ديدرو وروسو. وفي بعض الأحيان، كانت تخلط بين ديدرو وروسو وأولوف بالم، فيصل بها ذلك إلى إعطاء "تحفة من التحف" في التحرير الاجتماعي:
"لن نكون أحرارًا دون أن نكون أحرارًا، ولكي نكون أحرارًا علينا أن نكون أحرارًا. الحرية من صنع الإنسان الحر، وإذا ما لم يكن الإنسان حرًا تكون الحرية كاغتصاب الإنسان للإنسان. الاغتصاب أبدًا لم يكن فعلاً حرًا على الرغم من كل ما فيه من همجية لذائذية، لذائذية همجية، لكن المجتمع ليس جسدًا، يوقع المجتمع على عقد اجتماعي يجب احترامه، التسامح الفولتيروي كنهه، والتضحية بالذات على طريقة أولوف بالم، على الرغم من فعل الهمجية التي تتمثلها، إلا أنها تبقى من الناحية الأخلاقية مثالاً يُحتذى به من أجل الوصول إلى مجتمع حر، حر فعلاً، كالمجتمع السويدي"...
في نهارات الشتاء القصيرة، كانت ستوكهولم، كل ستوكهولم تغدو بيتًا كبيرًا لجدة لن تعرف الموت، جدة كالسلحفاة الناقلة على ظهرها ستوكهولم. كانت كاتارينا فريدن تحب هذا، وربما لأنها كانت تحب هذا كانت تحمي نفسها من نفسها. رائحة القهوة العربية والكعك بالقرفة التي كانت تملأ أزقة غاملا ستان لم تكن للا شيء، كانت هذه الرائحة روح ستوكهولم، رائحة زكية، حتى الثلج تغدو له رائحتها، حتى الجليد، حتى الحياة، حتى الموت، نعم حتى الموت تغدو له رائحة الكعك بالقرفة والقهوة العربية، رائحة الجدة العجوز المجننة، وهي تصنع القهوة العربية والكعك بالقرفة، وتهمس في آذان البحارة، تقول لهم لا تبعدوا كثيرًا عن بحر البلطيق.



القسم الثالث
كريستينا سفينسون

هل هناك ستوكهولم أخرى؟ هل هناك ستوكهولم وستوكهولم؟ على أي حال كانت ستوكهولم ستوربلان فريدة من نوعها. باريس ولندن وروما. دكاكين الشانزلزيه وبارات أوكسفورد ومطاعم الكوليزيه. لهذا كانت ستوكهولم عاصمة العواصم. عاصمة الصيحات المستحيلة. الفم الواسع على سعته، والساقان الصاعدتان بكل العبث على ظهر العالم، والذراعان الممدودتان إلى عشيق يركض على الثلج. كانت ستوكهولم بجسدها العاري منارة العالم، وبحيها الأنيق كما لو كانت ترتدي معطفًا لإيف سان لوران، وبناسها الجميلين كما لو كانت قادمة مباشرة من الإنجيل. كان ناسها كلهم يشبهون المسيح. حتى السمر منهم. كانوا يشبهون المسيح. السمر كالشقر. كان ناسها كلهم يشبهون المسيح، ولم تكن كريستينا سفينسون تشبه أحدًا منهم. كانت تجلس على رصيف إحدى المقاهي الكافرة بنعمة الله، "ميزيغت فيك" جذابة، وتظن أن الناس ينظرون إليها. كلهم. ينظرون إليها. أن الناس كلهم ينظرون إلى الأميرة فكتوريا. لم تكن تشبه ولية العهد، لم يكن لها الشبه هو المسألة. كانت المسأله أنها هي فكتوريا السويد. لم يكن النادل ينحني لها تبجيلاً، وهو يحضر لها كأس عصير الحامض مع مكعب من الثلج، لكنها رأته، وهو ينحني لها تبجيلاً، فابتسمت له، وهي تميل برأسها كصاحبات السمو ميلاً قليلاً. مالت برأسها قليلاً، وأخذت تعبث بمكعب الثلج، للتظاهر بتجاهل نظرات العابرين، الذين لم يكونوا ينظرون إليها. كانوا ينظرون إلى فتاة شقراء إلهة تجلس على مقربة منها ولا ينظرون إليها، كانوا ينظرون إلى الواجهات المترفة ولا ينظرون إليها، كانوا ينظرون إلى الشمس القريبة من أصابعهم ولا ينظرون إليها، أما كريستينا سفينسون، فقد كانت تراهم كلهم، وهم ينظرون إليها. لم يكن يزعجها ذلك، لهذا كانت تبقى جالسة على رصيف المقهى الساعات الطوال، فتكرر الطلب، كأس عصير الحامض مع مكعب من الثلج، وتعود إلى نفس اللعبة، ألا وهي العبث بمكعب الثلج، والتظاهر بتجاهل نظرات العابرين، الذين لم يكونوا ينظرون إليها.
- لماذا تأخرت كثيرًا، كان زوجها يسألها.
- كان هناك بعض المعجبين الذين أحاطوا بي في ستوربلان، كانت تجيب زوجها.
- بعض المعجبين؟
- بسبب فيلمي الأخير مع كاري غرانت.
- فيلمك الأخير؟
- هل نسيت؟ فيلمي الأخير!
- آه، فيلمك الأخير، كان يقول زوجها مضطرًا إلى لعب اللعبة، اللعبة بالنسبة له وليس بالنسبة لها. فيلمك الأخير من إخراج هتشكوك.
- على فكرة، هل اتصل أثناء غيابي؟
- هتشكوك؟ لا، على ما أعلم. لكن هناك آخر، أظنه صحفيًا، ألح على مقابلة مع إنغريد بيرغمان.
- لماذا تتكلم عني بضمير الغائب؟ أنا هنا إنغريد بيرغمان كلي أمامك.
- معذرة، يا حبيبتي، شهرتك تجعلني أخلط بينك وبينها.
- بينها من؟
- إنغريد بيرغمان.
كانت تستشيط غضبًا، فتصرخ:
- أنا هي إنغريد بيرغمان.
كان الستوكهولميون كلهم يلعبون التنس، أمر وراثي لديهم، كانوا كلهم يحبون التنس، ويلعبونه، وكانوا كلهم يحبون الغناء، لم يكونوا كلهم يغنون كما كانوا يلعبون التنس، ولكنهم كانوا كلهم يحبون الغناء، وكانوا كلهم يحبون الرقص، كانوا يرقصون لكي ينحفوا، فالبيرة التي كانوا يحبون شربها، خاصة الأقوى الأغلى "الستاركول"، كانت تزيد من أوزانهم، وربما بسبب البيرة، كانوا يحبون التنس، لأن التنس يساعد على فقدان الكتلة الدهنية.
بينما كانت كريستينا سفينسون وزوجها يلعبان التنس ذات مرة، زجرت كريستينا سفينسون زوجها:
- لماذا تناديني كريستينا؟
- ماذا؟ تساءل زوجها دهشًا.
- نادني بورغ.
- بورغ!
- بورغ.
- بورغ؟
- بورغ، بورغ.
- بورغ من؟
- بورغ، بورغ، بورغ.
- بورغ أنت؟
- بورغ أنا.
- ولكن بورغ رجل، يا كريستينا.
- قلت لك لا تنادني كريستينا.
- بورغ.
- هكذا، بورغ.
- ولكن بورغ رجل، يا بورغ.
- بورغ امرأة في جسد رجل.
- بورغ.
- هكذا، بورغ.
- بورغ، بورغ.
- بورغ، بورغ، بورغ.
لم تكن كريستينا سفينسون تغني في الحمام، ليس هذا لأن صوتها لم يكن جميلاً، وإنما لأنها لم تكن تغني في الحمام، ربما كانت تنسى أن تغني في الحمام، وهي لم تتقمص مرة واحدة شخصية إحدى المطربات – أو أحد المطربين. لكنها كانت تتكلم في الحمام، وتلك المرة كانت تتكلم مع ساد.
- لماذا تكره ثغري إلى هذه الدرجة؟ سألته.
- بل أحبه أكثر من أي شيء، أجاب.
- لو كنت تحبه أكثر من أي شيء لاحتفظت به لك وحدك.
- أنا لست أنانيًا، يا جوستين.
- لماذا تكره ثديي إلى هذه الدرجة؟
- بل أحبه أكثر من أي شيء.
- لو كنت تحبه أكثر من أي شيء لعرفت ما فيه من سرطان ينهشه.
- أنا لست طبيبًا، يا جوستين.
- لماذا تكره بطني إلى هذه الدرجة؟
- بل أحبه أكثر من أي شيء.
- لو كنت تحبه أكثر من أي شيء لحميته من مخالب الإنسانية.
- أنا لست جيشًا، يا جوستين.
- لماذا تكره فرجي إلى هذه الدرجة؟
- بل أحبه أكثر من أي شيء.
- لو كنت تحبه أكثر من أي شيء لما تركته مفتوحًا لكل من يريد الدخول.
- أنا لست حدادًا، يا جوستين.
- لماذا تكره فخذي إلى هذه الدرجة؟
- بل أحبها أكثر من أي شيء.
- لو كنت تحبها أكثر من أي شيء لما زرعتها كالعلم في مهب الريح.
- أنا لست إعصارًا معاكسًا، يا جوستين.
- لماذا تكره قدمي إلى هذه الدرجة؟
- بل أحبها أكثر من أي شيء.
- لو كنت تحبها لدللتها كما تدلل الأم طفلها الرضيع.
- أنا لست امرأةً، يا جوستين.
في الليل، كانت ترفض لزوجها الاقتراب من جسدها، فهو ليس جسدها. تبعده عنها بعنف: هذا الجسد ليس جسدي! وإذا ما اضطرها الأمر كانت تضربه، وتدفعه إلى أن يسقط من السرير على الأرض. والشهوة، هل للشهوة وقت معين؟ لم يكن السؤال مطروحًا بالنسبة لها، الباردة برودة كلبات ستوكهولم. أما الأمر بالنسبة له، فكان غيره. كان يحاول أن يأخذها في المطبخ، فيرفع فستانها، ويمزق أحيانًا سروالها القصير: هذا الجسد ليس جسدي! وفي إحدى المرات قلبها على بطنها فوق الطاولة، لكنها تمكنت من التخلص منه: هذا الجسد ليس جسدي! جذبته من رجولته، وأرادت فقأه.
- جسد من إذن، يلعن دين؟ اهتاج زوجها.
- جسد كارين بوي، قالت بكل بساطة.
- جسد كارين بوي؟
- بعدما انتحرت تركت جسدها.
- أشتهي جسدها، كارين بوي.
- لكنك دفعتها إلى الانتحار.
- ليس أنا.
- دفعتها إلى الانتحار، ودفعت عشيقتها إلى الانتحار، وتريد اليوم دفعي إلى الانتحار. منذ زواجنا وأنت تتآمر علي، تريد دفعي إلى الانتحار.
- اسمعي، يا كريستينا...
- كارين بوي.
- اسمعي، يا كريستينا، خراء! كارين بوي مارست دكتاتورية الموت على نفسها، هل هذا ما تسميه انتحارًا؟
- كارين بوي.
- اسمعي، يا كارين بوي (يرضخ دون أن يرغب). أنا لم أدفعك إلى الانتحار، أنا أحب جسدك، وأريد أن أقوم بفعل الحب معك (يصرخ بغضب ولوث) أريد أن أنيك، يا رب الآلهة!
- أترى؟ تريد دفعي إلى الانتحار.
- طيب، ككل ليلة سأنام كالجرذ قربك.
- تريد دفعي إلى الانتحار.
- طيب، فهمنا، اتركيني أنام.
- تريد دفعي إلى الانتحار.
- قلت فهمنا، فهمنا.
- وليس هذا فقط.
- وماذا أيضًا؟
- هل نسيت ما قلته بعد أن شربت "الكالوكايين"؟
- الكالوكايين!
- جرعة إفراغ الأفكار التي في الرأس.
- الأفكار التي في الرأس! أية أفكار؟
- أفكارك التي في الرأس.
- أفكاري التي في الرأس. أفكار ماذا؟
- أفكارك التي في الرأس، التي في الرأس.
تظاهر بالفهم:
- آه! أفكاري التي في الرأس. تريدين القول أفكاري التي في الرأس؟ سأحمل السلاح، وأنزل إلى ستوربلان، وآخذ بقتل كل من هم يؤيدون الحجاب كي أحمي السويد من الإسلاميين. ها هي أفكاري، لكني قبل هذا سأقتلك أنت.
- كنت أعرف أنك ستقتلني.
- حمدًا لله أنك كنت تعرفين.
- كنت تتآمر عليّ طول الوقت.
- أتآمر عليك؟ لماذا ومع من بحق الإله؟
- كنت تتآمر عليّ، في الجامعة قال لي طلبتي إنك تتآمر عليّ، فلم أصدقهم، قلت لنفسي هذا من تأثير مسرح إنغمار بيرغمان الذي يدرسونه معي، إنغمار بيرغمان، إلى أن سمعتك في التلفون تقول سأقتلها ذات يوم.
هبَّ ينقل بندقيته، بينما كريستينا سفينسون وثبت في جسد كارين بوي إلى الهاتف.
- الشرطة؟ أرعدت، زوجي عازم على قتلي، وبعد ذلك على فعل حادث إرهابي، تعالوا بسرعة.
فقد الزوج عقله، وضع فوهة البندقية تحت ذقنه، وأطلق.
كان هناك من يغني أغنية حزينة في ستوربلان، وكل جزيرة سودرمالم تصغي. تحركت الأشرعة على المراكب الراسخة في الجليد، وطارت بعض النوارس. وبمقصها قطعت ستوكهولم جدائلها، وألقتها على فراش بحار لم يعد من آخر مغامرة له. لم يكن الجو باردًا جدًا، كان باردًا، لكنه لم يكن باردًا جدًا، كان غائمًا. كان غائمًا، ولم يكن باردًا جدًا. كانت كلمات الأغنية الحزينة غير مفهومة، وكأنها أغنية لفيكنغ تائه. منذ فجر التاريخ، وهو تائه.

الحيتان
زرعنا الحراب
في الموج
ثديك الأبيض
من أجلك
الموت بعيدًا
أيها القلب
متى سأعود إلى
القمر أسود
ستوكهولم
متى سأعود
هل سأبقى إلى الأبد بعيدًا
متى
إلى ذراعيك
يا حبيبتي...

كانت كريستينا سفينسون تصغي إلى الأغنية، وتقول لنفسها، زوجها من قبره يغني لها. الأموات لا تغني، قالت لها صديقتها كاتارينا فريدن. إنه فيكنغ تائه. منذ بداية الكون، وهو تائه. الأموات تغني، أكدت كريستينا سفينسون، وهذا زوجي، هو من يغني لي. فقدت كاتارينا فريدن التركيز، وقالت لصديقتها بل هو شحاذ يعزف على الغيتار. يجيد العزف كمن يعض روحه.

القسم الرابع
هوراس ألفريدسون

لنورمالم في شمال ستوكهولم جزيرة بقناطر، سكيبشولمن، جزيرة بأثداء، على مدخل البلطيق. كان العساكر يمضون. عساكر كثيرون. مباني عسكرية كثيرة. لم تكن ستوكهولم مدينة للجيش. لم تعرف ستوكهولم الحرب منذ بحر الدم الذي أنهى اتحاد كالمار عام 1520. كانت مدينة انسجام اللا انسجام، فكرة اللا فكرة، حلمة اللا حلمة، كانت ستوكهولم حلمة تقطر دمًا، لهذا كان بحر البلطيق أحمر من تلك الناحية، وكان الورد أحمر، وكانت الشمس فستقية. لهذا كانت المباني العسكرية والمتاحف الفنية جنبًا إلى جنب، ليقول السويديون للعالم نحن صناع البارود وأجمل التماثيل. لهذا لم يكن العسكر ما يعكر صفو مِزاج هوراس ألفريدسون، كان الصعود إلى الطابق السابع على قدميه ما يعكر صفو مِزاجه. وفي كل مرة، كانت تتلو صعوده سبع طوابق على قدميه لحظة حادة من الهياج العصبي.
- اهدأ، يا ألفريدسون، بالله عليك أن تهدأ، كانت زوجه ترجوه.
- لن أهدأ، لن أهدأ، كان هوراس ألفريدسون يصرخ.
- تريدني أن أهدئك، يا ألفريدسون؟
كان لا يجيب، وكان يظل متوترًا.
- لم تجب، يا ألفريدسون.
كان يأخذ في اللهث على الرغم من أنه منذ عدة لحظات كان جالسًا.
- تريدني أن أهدئك، يا ألفريدسون؟
كان يضاعف من لهثه، ويتردد، ولكنه يقرر فجأة أن يجذبها إليه، ويلقيها على بطنها فوق ركبتيه. يرفع فستانها، ويسحب سروالها القصير، ويأخذ بضربها، وزوجه تطلق صرخات ثاقبة، يأخذ بضربها، بضربها، وصرخات زوجه الثاقبة تزداد حدة، يأخذ بضربها، بضربها، بضربها، حتى أنه يأخذ بإلقاء أوامر عسكرية، وصرخات زوجه تتحول إلى صرخات لذة، إلى أن يهدأ، فتنزل زوجه عن ركبتيه إلى كنبة تلقي بنفسها عليها خائرة القوى، ويأخذ هوراس ألفريدسون بالتراخي، يقفل عينيه، وينام.
في الليل، كانت لا رغبة لزوج هوراس ألفريدسون في القيام بفعل الحب، كانت تعطيه ظهرها، وعندما كان يحاول أن يأخذها من ظهرها، كانت ترفض، وتبعده عنها، فيقوم إلى الصالون ليقرأ، وهو في شبه حالة من الذهول. ليس بسبب زوجه، بسبب ما يقرأ. كل ما كان يقرأ كان يجعله في شبه حالة من الذهول، حتى ولو قرأ "الأمير الصغير"، كل شيء كان يجعله في شبه حالة من الذهول، حتى ولو قرأ من الكوميديا ما قرأ، موليير أو غيره، كان كل شيء يجعله في شبه حالة من الذهول، حتى ولو قرأ شيئًا من النكات القليلة التي سجلتها الذاكرة الشعبية في السويد منذ كان السويد، كان يقرأ النكات، وهو في شبه حالة من الذهول. وفي لحظة من اللحظات كان يرشق أشياء يراها في لهب المدفأة بالماء، لتنتشر رائحة الحريق، ويأخذ في التفكير في أنه أنقذ أبطاله المقربين إلى قلبه من مصير الملعونين الذي كان مصيرهم، فتذهب عنه شبه الحالة من الذهول، ويرتدي ثوب شهريار في ألف ليلة وليلة. كان هذا يحصل في الشتاء، أما في الصيف، فلم يكن هوراس ألفريدسون ليضع حدًا لشبه الحالة من الذهول التي يسقط فيها، كان يبحث عن الحالة من الذهول، الحالة الكاملة من الذهول، وليس شبه الحالة من الذهول، وعندما لا يمكنه تحقيق ذلك عن طريق ما يقرأ، يتوهم أنه في حالة كاملة من الذهول، فيذهب إلى علبة الصيدلية سعيًا من وراء أقراص النوم، ويبتلع منها ما يبتلع، عند ذلك، وهو على وشك إنفاق الروح يكون ذهوله قد وصل أقصاه، ذهوله من نفسه، ذهوله من فعله، ذهوله مما لم يقرأه أبدًا في الكتب، ذهوله من ذهول زوجه لما تصرخ من شدة الفزع عليه، ولما ترفع السماعة، وتنادي سيارة الإسعاف بكلمات مفرومة، وهي تكاد تختنق.
اضطرابات السلوك لدى هوراس ألفريدسون كانت تترجم على مستوى آخر، عاطفي غالبًا، تثير ربما الذهول لدى الغير، ولا يجد لنفسه فيها ما يبرر لنفسه، لم يكن بحاجة ليجد لنفسه فيها ما يبرر لنفسه.
- طاب نهارك، بروفسور، كانت الطالبة إيدا تقول لهوراس ألفريدسون.
- طاب نهارك، يا إيدا، تفضلي، كان هوراس ألفريدسون يقول لطالبته، وهو يدعوها إلى الجلوس في مكتبه الجامعي.
كانت إيدا قصيرة بثديين هائلين لكنها مقبولة، وكانت تريد الجلوس أمام أستاذها.
- تعالي إلى جانبي، يا إيدا، كان هوراس ألفريدسون يقول لإيدا.
- إلى جانبك، بروفسور؟ كانت إيدا تسأل، وهي تستدير جارة كرسيًا.
- إلى جانبي، هنا، كان هوراس ألفريدسون يجيب، وهو يجذب الكرسي أقرب ما يكون منه.
- إنه دومًا موضوعي الفلسفي، بروفسور، كانت إيدا تقول لأستاذها بنبرة يقظة.
- أي موضوع فلسفي، يا إيدا؟ كان هوراس ألفريدسون يسأل، وهو يلف مسند الكرسي الذي تجلس عليه الفتاة بذراعه، ويقترب برأسه من فوق ثدييها الضخمين، ليقرأ ورقاتها.
- موضوعي الفلسفي، بروفسور، كانت إيدا تجيب برد فعل شخص الغضب من طبيعته.
- موضوعك الفلسفي، يا إيدا، كان هوراس ألفريدسون يهمهم، وهو يتظاهر بالاهتمام.
- الجنس والدولة، بروفسور، كانت إيدا تقول بطلعة متعالية.
- الجنس والدولة، موضوعك الفلسفي، يا إيدا، كان هوراس ألفريدسون يعيد، وهو يتظاهر بالجدية، بينما أخذ بذراعه يلف كتفي الفتاة.
- أعتقد أن الدولة رمزها ذكوري، ألا وهو القضيب، بروفسور.
- أتفق معك تمام الاتفاق، يا إيدا.
- وهذا الرمز هو من وراء وزارة الدفاع والجيش والبيروقراطية، بروفسور.
- أتفق معك تمام تمام الاتفاق، يا إيدا.
- ويمكن أن يكون الأب والابن والروح القدس، بروفسور.
- الأب تحت أي معنى، يا إيدا؟
- تحت كافة المعاني الدنيوية، بروفسور.
- الابن تحت أي معنى، يا إيدا؟
- تحت كافة المعاني الدنيوية، بروفسور.
- الروح القدس تحت أي معنى، يا إيدا؟
- تحت كافة المعاني الدنيوية، بروفسور.
كان هوراس ألفريدسون يستدير الآن كليًا أمام ثديي الفتاة العظيمين بعد أن عراهما، والفتاة تتابع بكامل الجد:
- فلا مكان في الدولة للثديين، أعني بالطبع للمرأة، ودورها حتى عندنا في السويد يبقى محدودًا.
كان هوراس ألفريدسون يهمهم بالموافقة غائبًا، وهو يمص حلمتي الفتاة الحلمة تلو الحلمة.
- لهذا، كانت تتابع بشيء من الشعور بالعظمة، أعتقد أن أفلاطون كان يريد تأسيس مدينته الفاضلة لأجل أن تلعب المرأة الدور الأساسي فيها.
- أفلاطون، نعم، أفلاطون، كان هوراس ألفريدسون يواصل الهمهمة غائبًا.
- فالأخلاق لدى أفلاطون عقلانية لا دينية، بروفسور.
- كما هي لديّ، يا إيدا، كان هوراس ألفريدسون يواصل الهمهمة غائبًا.
- وكما هي لديّ، بروفسور.
وبكامل الجد دومًا كانت الفتاة تفتح سروال هوراس ألفريدسون، وتتناول بكامل الثقة بنفسها ذكره بفمها، وبين لحظة وأخرى تقول:
- الأخلاق والفضيلة لا يعرفهما المرء دون مبادرة العقل في عالم المعرفة، بروفسور، مبادرة تصل بنا إلى معرفة الخير ومعرفة الشر، وبالتالي معرفة النفس، لهذا تجدني أبحث عن معرفة نفسي، وإن شئت عن لعب دوري كامرأة، وعلى دور المرأة أن يكون طبيعًا في الدولة وكليًا، أن يكون الدور الذي هي جديرة به كإنسانة، كنفس فاضلة، وأن تثبت للملأ ما قاله أفلاطون منذ آلاف السنين: الفضيلة للنفس كالجمال للبدن...
لكنه كان يخرسها دافعًا كل عضوه في حلقها.
وفي إحدى المرات، كانت زوجه كعادتها لا تريده أن يأخذها، فذهب يطرق الباب على جارته الكولونيلة، زوجها كان كولونيل المرتبة، في حياته كان الناس يدعونها بمدام الكولونيل، وبعد موته صار الناس يدعونها بالكولونيلة، كان يريد أن يقضي غرضه معها، فعلى الرغم من عمرها، كانت تغطي كبرها بكثير من الابتسامات والمساحيق، لكنها عندما فتحت له، وهي ترتدي البزة العسكرية لزوجها، وصلته موسيقى عسكرية من الداخل، وصرخات من يحتفل معها بمناسبة كان يجهلها، صرخات ثملة لأكثر من واحد، فعاد أدراجه، والكولونيلة العارفة بما يريد تنادي عليه:
- ماذا، يا سيد ألفريدسون؟ لماذا أنت متردد إلى هذه الدرجة؟ ادخل، يا سيد ألفريدسون، ما هذا سوى احتفال صغير بوفاة زوجي. تعال، يا سيد ألفريدسون. آه، يا لك من وغد، يا سيد ألفريدسون!
في الشتاء الأخير الذي عرفته ستوكهولم، شتاء بارد جدًا، حتى النوارس في شتاء ستوكهولم الأخير جمدت أجنحتها. في الثالث عشر من ديسمبر، هذا التاريخ حُفر في ذاكرة هوراس ألفريدسون كما تُحفر نظريات باسكال ونيتشة وهيدغر، كما تُنقش روايات ستاندال ومان وفوكنر، كما تُصهر نواقيس الكنائس والمدارس والقصور، في الثالث عشر من ديسمبر وقع هوراس ألفريدسون في غرام ابن أخت زوجه الشاب الذي كان في الثالثة عشرة من عمره، كان الشاب الجميل عندهم زائرًا، كالقمر كان الشاب، كان الشاب علم الجمال لدى هيغل، وكان يجلس هوراس إلى جانبه، بعيدًا عن أحضان زوجه الرافضة له، قريبًا من لهب المدفأة، لما رأى صورة الشاب الجميل في النار، فأخذه فجأة بين ذراعيه، وقبله قبلة طويلة. في الثالث عشر من ديسمبر.
كان طابور من العسكر يمضي تحت نافذة هوراس ألفريدسون، وكان مجرد سماعه لوقع بساطيرهم على البلاط الرطب يدفعه إلى تعذيب نفسه. لم يكن معرض غوغان في المتحف الوطني ليمنعه من تعذيب نفسه. كان يلهث على قدمي جلاد مجهول، وكل ستوكهولم كانت تلهث، كانت كل ستوكهولم تلهث كما يلهث هوراس ألفريدسون، كان ستوكهولم، وكان يلهث، وكانت كل ستوكهولم تلهث، كان يلهث على قدمي جلاد مجهول، غير معلوم، غير ملموس، جلاد مقدود من الجليد والدم، وكل ستوكهولم كانت تلهث، كانت تخبط كالسمك الخارج من الماء، وتضرب بالأرض كما يضرب بالأرض هوراس ألفريدسون. وكان هوراس ألفريدسون يلهث على قدمي جلاد الجليد والدم، يضع رأسه تحت قدميه، ويتركه يضغط، ويتركه يسحق، فيكاد هوراس ألفريدسون يموت اختناقًا، لكنه كان يفكر في حذاء ساندريللا، ويستسلم تحت حذاء الجلاد الوهمي دون أن يشعر بشيء.


القسم الخامس
بيتر أكرفيلدت

كان الموت ممتعًا في ستوكهولم، لأن مقبرة سكوغسكيركوغاردن هي الجنة، وكانت الملائكة تلعب بين أشجار الصنوبر، وهي لا ترتدي أثوابها البيضاء في الشتاء، كانت تترك أثوابها البيضاء للطبيعة، وفي الصيف كانت ترتدي أثوابها الزرقاء الشفيفة، الزرقاء بلون الشمس في ستوكهولم، وبلون الموت، وبلون الأعشاب. كانت الأعشاب زرقاء وسوداء في مقبرة سكوغسكيركوغاردن، سوداء بلون الحياة، كانت الحياة تتكلم في القبور من أفواه الموتى، وكانت تقول الشعر أحيانًا: البحر وطن الكون، لهذا الكون يطفو... كان الموتى يتكلمون مع الأحياء، فلا تعرف الموتى من الأحياء في المقبرة، ولا الأشرار من الأخيار، كان الكل شريرًا خيّرًا في المقبرة، وكانت المقبرة تمد ذراعها، وتلف بذراعها الكل، كأمٍ تلف الكل بذراعها، أو كأبٍ يلف الكل بذراعه بعد أن عاد من رحلة طويلة في قارب بعيدًا عن بحر الموت.
لم تكن جنازة والد بيتر أكرفيلدت كبيرة، كانت جنازة صغيرة، جنازة أقرب إلى حفلة بين أفراد العائلة. كانت بعض النساء الموشحات بالسواد يبكين في المُصَلّى بينما الجوقة تقوم بالترتيل مع عزف قطعة لنيلز لندبرغ، موسيقى كالطبيعة خليطة من جاز وفولكلور وكلاسيك. كان بيتر أكرفيلدت يفكر في النساء المنتحبات، ويقول لنفسه إنهن يبكين على أنفسهن، لأنهن في أجمل مقبرة في العالم، وهن لم يزلن على قيد الحياة، وانطلق يقهقه. استدارت رؤوس الحاضرين إليه، وحدجه القس بعينيه. لكن بيتر أكرفيلدت استمر يقهقه. قطع قهقهته قليلاً، وعاد يقهقه. تذكر، وهو في العاشرة من عمره، كيف حشا فم أخته الصغيرة عند الفطور، الفراكوست، بقطع الخبز المطلية بخبيصة الكبد بعد أن وضع عليها شرائح الجبن والسمك المنقوع في الماء المملح وحلقات الخيار والبندورة فقط لأنها تعبد هذا، وأراد خنقها. ومرة أخرى عاد يقهقه مع إهمال مطلق من طرف القس والحاضرين. نهض بيتر أكرفيلدت، وهو يداوم على القهقهة، وغادر المُصَلّى.
وهو يقطع إحدى القناطر، وصله صوت يناديه من أعماق الماء الجليدي المحطم: بيتر! كان صوت أخته الصغيرة: بيتر! كان بيتر أكرفيلدت قد عام كثيرًا حتى أصابه العياء، فاستلقى تحت شجرة: بيتر! لم يتحرك من مكانه، كانت أخته الصغيرة في قلب البحيرة، وهي تقاوم ألا تغرق، وكانت تناديه: بيتر! كان بيتر أكرفيلدت يسمع نداءات أخته، ولا يتحرك من مكانه. بيتر! كان يسمع نداءات أخته الصغيرة المستنجدة ب – ي – ت – ر، ولا يتحرك من مكانه. في الأخير، نهض مترددًا، وذهب حتى حافة البحيرة، ورأى يد أخته الصغيرة، وهي ترتفع فوق سطح الماء، وهي تختفي، ترتفع، وتختفي، ترتفع، وتختفي. ولم تعد ترتفع، وبيتر أكرفيلدت لا يبدو عليه أي اهتمام.
- بيتر، لماذا تجلس طول الوقت وحدك؟ كانت أمه تسأله.
- ما، لا أعرف، كان بيتر أكرفيلدت يجيب أمه.
- بيتر، أنا أعرف.
- ما، أنت تعرفين.
- بيتر، أنا أعرف، أقول لك؟
- ما، أنت تعرفين، قولي لي.
- ...لأن أختك الصغيرة ساشينا، ساشيناتي، ماتت غرقًا، ولم يمكنك إنقاذها.
كان بيتر أكرفيلدت ينفجر ضاحكًا، فتزجره أمه:
- بيتر، اخرس، قلت لك اخرس، اخرس أيها الكُلَيْب الأحمق، قلت لك اخرس، اخرس، اخرس...
عندما حاول أخوه الكبير دافيد إنقاذ تجارة أبيه، تجارة كانت على وشك الغرق كساشينا، وبيتر أكرفيلدت لا يبدي أي اهتمام، تضارب مع أخيه، لطمه أخوه، ولطم أخاه، لطمه أخوه، ولطم أخاه، لطمه أخوه، ولطم أخته، لطمه أخوه، ولطم أخاه، لطمه أخوه، ولطم أخاه، دفعه أخوه، فسقط على الأرض، وركب فوقه: خذ، خذ، خذ، هذا لأجل ساشيناتي، لأجل ساشيناتي كل هذا، سأقول لماما إنك أردت خنقها، خذ، خذ، خذ، ساشينا، تعالي، وري ما أنا فيه بفاعل، خذ، خذ، خذ، تعالي، يا ساشيناتي، سأقتله من أجلك، ساشيناتي، والله سأقتله من أجلك، سأقول لماما، سأقول لماما، ساشينا، تعالي، وري، سأفرمه من أجلك، هذه هي السكين، ساشيناتي. دافيد. ساشيناتي. لا تلحق به الأذى، يا دافيد. تبكين من أجل هذا الجبان والكسول واللامبالي؟ اتركه وشأنه، وإلا قلت لماما. لن أتركه دون أن أفرمه من أجلك. اتركه وشأنه، اتركه وشأنه. وتبكين من أجله؟ أفعل كل شيء من أجلك، وتبكين من أجله! اتركه وشأنه، اتركه وشانه، اتركه وشأنه، وإلا قلت لماما. لكن دافيد يجرح بيتر في بطنه، ويلقي السكين، ويذهب دون أن ينظر خلفه، وساشينا خلفه تضم بيتر، وتقبله من بطنه، وتبكي، فيدفعها بيتر بأقصى قوة لتسقط على الأرض، ثم يأخذ بضربها، ثم يأخذ بضربها، يأخذ بضربها، ثم يأخذ بضربها، يأخذ بضربها، يأخذ بضربها، وعندما يكف عن ضربها، تعود ساشينا إلى ضمه وتقبيله من بطنه، ساشينا التي تصل بقامتها إلى حدود بطنه، إلى ضمه وتقبيله من بطنه، تعود ساشينا إلى ضمه وتقبيله من بطنه، إلى ضمه وتقبيله من بطنه، إلى ضمه وتقبيله من بطنه، ولعق جرحه.
- أنت جبان وكسول ولامبالي، كان دافيد أكرفيلدت يردد.
- لست جبانًا ولا كسولاً ولا لامباليًا، كان بيتر أكرفيلدت يدافع عن نفسه.
- بل جبان وكسول ولامبالي.
- وفي نهاية المطاف، ماذا يعني كل هذا؟
- هكذا أفهمك، قل إن لا حافز لك.
- بلى.
- بلى ماذا؟ إن لا حافز لك.
- منذ يومين كنت في مالمسكيلنادغاتن.
- قحباتك لم يعد لهن وجود.
- كنت في مالمسكيلنادغاتن، لأن هذا يهمني أن لا تكون للقحبات وجود.
- هذا ليس حافزًا.
- كنت أريد أن أكتب شيئًا عنهن للصحيفة التي أعمل فيها.
- مثل ماذا؟
- البلد الذي ليست فيه بنات للهوى ليس بلدًا.
- هل هذا هو حافزك وتجارة بابا تغرق، بنات الهوى؟
- القانون اللوثري هو السبب.
- في خسارة تجارة والدنا؟
- ستوكهولم ليست ستوكهولم دون...
- قحبات؟
- أن ترى في كل النساء أختك شيء فظيع، شيء فظيع جدًا، شيء فظيع، شيء فظيع، شيء فظيع جدًا، شيء فظيع، شيء فظيع، شيء فظيع، شيء فظيع جدًا، شيء فظيع جدًا، شيء فظيع جدًا جدًا، شيء فظيع جدًا جدًا جدًا.
وانفجر بيتر أكرفيلدت باكيًا.
كان بعض الشبان والشابات تحت نافذة بيتر أكرفيلدت يغنون ويرقصون وبأياديهم قناني البيرة، وكان ينظر إليهم من وراء الزجاج. رفع يده، ولم ينزلها. لم يرفع يده لهم، لكنه رفع يده، هكذا، ولم ينزلها، فرفعوا له أياديهم، وأشاروا إليه بالنزول، فلم يتحرك من مكانه. بعد عدة دقائق، سمع بيتر أكرفيلدت طرقًا على الباب، فراح يفتح. كان شابان وشابة وبأياديهم قناني البيرة يبتسمون، أعطوه قنينة بيرة، وجذبوه. حاولت الشابة الرقص معه، فلم يرقص. كانت تبتسم، لم تكن تتوقف عن الابتسام، وبيتر أكرفيلدت كان لا يبتسم. كان بيتر أكرفيلدت عابسًا، ولم يجرع من البيرة جرعة واحدة. كان عابسًا، وكان يفكر في عاهرات ستوكهولم القدامى. أخرج من جيبه حفنة كبيرة من النقود، وأعطاها للفتاة، ثم تركها، وهي تصيح من ورائه كي يعود، فلم يعد. وضعت النقود بعد أن فحصتها في رافعة ثدييها، وخفت تلحق به.
- ماذا دهاك؟ سألت الفتاة، وهي تجذب بيتر أكرفيلدت من ذراعه.
لم يجبها بيتر أكرفيلدت.
- لماذا أنت هكذا؟ اشرب بيرتك لتدفأ، وتعال!
جرع بيتر أكرفيلدت كل بيرته دفعة واحدة، فطارت الفتاة فرحًا. كانت قرب باب أحد البيوت فأسٌ ملقاةٌ لتحطيم الجليد، فحملها، وراح بالجليد تحطيمًا، بهدوء في البداية، والشابة تضحك سعيدة، ثم بأكثر فأكثر عنفًا تحت نظرات الفتاة الفزعة، وعندما انفجر بيتر أكرفيلدت مقهقهًا كمن فيه مس من جنون، ولت الشابة الأدبار.
لن تعرف في ليالي الشتاء الباردة أحدًا، ستوكهولم هي هكذا في الشتاء. لن تجد أحدًا للنوم على صدره، ستوكهولم هي هكذا غريبة عن نفسها. لن تمسك أصابع الموت، ستوكهولم هي هكذا تهرب من بين الأصابع. لن يناديك أحد، ولن يفكر فيك أحد، ولن يبكيك أحد. الوحدة مهولة في ستوكهولم، لهذا يرقص الشبان في شوارعها، ويحتسون الكحول هربًا، ليس من الوحدة، وإنما من ستوكهولم، يحتسون الكحول هربًا من ستوكهولم، ستوكهولم النكران والإجحاف، ستوكهولم الشك والارتياب. ماذا تفعل وحدك؟ فيم تفكر؟ فيمن تفكر؟ هل تفكر في أخرى غيري؟ كيف تفكر في أخرى غيري؟ صنعتك مني وتفكر في أخرى غيري؟ جعلتك تكبر وتفكر في أخرى غيري؟ لم أتركك وتتركني لغيري؟ كان بيتر أكرفيلدت يحطم الجليد كي يخرج حصان يركبه، ويعدو حتى نهاية العالم. هناك حيث الشمس محرقة، والرمال مقبرة الدنيا، هناك حيث يموت الإنسان، وبعد ذلك يدخل في الصمت العميق، هناك حيث تبكي النساء على الأحياء.



















القسم السادس
رالف لندغرن

المنتزه الجزيرة جورغاردن كان المكان المفضل للسياح، وكان شيئًا من ميناء العشب، ينتهي معه السفر أو يبدأ، وتكون النهايات كالبدايات محطات، فقط محطات. الإنسان قارب نفسه في جورغاردن، لا تناقض في وجدانه، والبحر فكرة خضراء. سنجيء إليك كل يوم، لكننا سنرحل غدًا. كل الستوكهولميين لا ينامون عند منتصف الليل. هل هناك ليل في ستوكهولم. الليل أخضر. النهار أخضر. الموت أخضر. الحياة بيضاء. بيضاء كالمتعة. كالوجنة. كالفريز. الفريز الأحمر في ستوكهولم أبيض كلون الدم. لذيذ كطعم الدم. كلي الوجود كالله. وعلى مقربة من كل عابر كان المتحف الشمالي. لماذا المتاحف كثيرة في ستوكهولم، والقصور، والكاتدرائيات؟ كان الكل ملكًا وتاريخًا ودينًا.
- أنا ضد أن ترتدي الحجاب، يا أنيتا، كان رالف لندغرن يقول لابنته الكبرى، سبعة عشر عامًا، والعائلة كلها تتناول طعامها في الهواء الطلق.
- حورية، يا بابا، كانت تصحح الابنة الكبرى رالف لندغرن.
- حورية، لم أعتد بعد على اسمك الجديد، يا أنيتا.
- حورية، كانت الأم تقول، اسم أسهل مما تتصور.
- قلت إنني لم أعتد على الاسم ولم أقل إنه اسم صعب.
- حورية، كانت مارغريتا، الأخت الصغرى، ستة عشر عامًا، ترمي، وهي تضحك.
- حورية، كان هاكان، الأخ الأصغر، خمسة عشر عامًا، يعيد، وهو يضحك.
- أقول أنا ضد أن ترتدي الحجاب، يا حورية، كان رالف لندغرن يقول لابنته من جديد. أنت اخترت دينك، ولم أعترض، لكنني أعترض على حجابك. القرآن لا يجبر على ارتداء الحجاب.
- دع ابنتي وشأنها، كانت الأم تقول، هي جميلة هكذا.
- كم أنت جميلة، يا أختي، الحجاب يجعلك جميلة أكثر وجذابة ككل عشيقات الله، كانت مارغريتا تقول لأختها، مارغريتا المرتدية تنورة قصيرة تكشف عن نصف فخذيها، وتيشيرت مفتوح يكشف عن نصف ثدييها.
- حورية بحجابها هي بالفعل جميلة، يا بابا، كان هاكان يقول لأبيه.
- لم أقل إنها ليست جميلة بحجابها، ولكنني أقول إن حجابها لا علاقة له بالإسلام، كان رالف لندبرغ يشرح لأفراد أسرته. كعالم في الأديان، وبكلام آخر كعالم لاهوتي، أنا أدرى الناس بما يقوله القرآن، يقول القرآن أن تغطي المرأة ثدييها، فقط ثدييها.
- ولماذا فقط ثدييها، كانت الأم تعلق، إذا قال القرآن بتغطية المرأة فقط لثدييها، فأنا ضد، على كل عشيقة لله أن تهب له كل جسدها، وإلا ما الفائدة؟ لا تردي على بابا، يا حورية، كل جسدك، وإلا ما الفائدة؟
- نعم، كل جسدك، كل جسدك، كانت مارغريتا تقول لأختها، وهي شبه عارية في ثيابها الضيقة، أن تغطي كل جسدك.
- أن تغطي كل جسدك سيكسي أكثر، كان هاكان يرمي بين ضحك الجميع، حتى رالف لندغرن كان يضحك.
- ولماذا أسود؟ كان رالف لندغرن يعود إلى القول، الأحجبة موجودة بكل الألوان، لماذا أسود؟ اختاري حجابًا زاهيًا يتناسب مع بشرتك البيضاء.
- لأني أكره الألوان الزاهية، يا بابا، كانت حورية ترد على أبيها، منذ طفولتي، وأنا أكره الألوان الزاهية.
- كانت حورية تبكي لما أجبرها على ارتداء الألوان الزاهية، كانت الأم تقول.
- ثم اللون الأسود مع قامتها الطويلة شيء لا أروع، ومع عينيها الزرقاوين، آه، يا إلهي! كانت مارغريتا تعلق.
- أضف إلى ذلك أن لا غبار في السويد، كان هاكان يقول، ستوكهولم بيضاء، والحجاب الأبيض يعني طاقية الإخفاء (كانوا يضحكون كلهم حتى رالف لندبرغ).
وضع هاكان إحدى سماعتي هاتفه المحمول في أذنه، ومارغريتا السماعة الثانية، وأخذا يهتزان ويفرقعان أصابعهما على إيقاع الموسيقى، ومن آن لآن يقولان "ييه"...
- هل كنت تعرفين، يا حورية، أن الحجاب الأول لم يكن أسود؟ كان رالف لندغرن يسأل ابنته.
- لا، لم أكن أعرف، كانت حورية تجيب، ماذا كان لونه؟
- كل الألوان إلا الأسود.
- هذا لأن الأسود في الصحراء جاذب للحرارة، كانت الأم تعلق، وهنا ليست الصحراء.
- هنا ليست الصحراء، ولكن هناك لم يكن هذا هو السبب، كان رالف لندبرغ يوضح. كان السبب ذوق النساء، والأسود لم يكن على ذوق النساء، فاتفق تاجر يريد تصريف بضاعته مع أحد الشعراء ليطري الحجاب الأسود، أطراه بلغة تفهمها النساء، فتهافتن على ارتداء الحجاب الأسود، وكانت أول دعاية في التاريخ (كانوا يضحكون كلهم حتى رالف لندبرغ).
ييه...
- عندما أختار ما أريد من دين أعتقد أنني سأختار الدين الإسلامي كحورية، قال هاكان بعد أن أبعد السماعة عن أذنه.
- كحورية، أعادت مارغريتا، وهي منسجمة تمام الانسجام مع الأغنية عبر السماعة التي بقيت تضعها في أذنها، وتقول: ييه...
- اللحية شيء مدهش، لكن إلى الآن لا لحية لي على الرغم من حلقي لها كل يوم، وجنتي لم تزل ناعمة كماما.
- كماما، أعادت مارغريتا، وبعد ذلك: ييه، ييه، ييه...
- وأنا لا يزعجني أن أعتنق الدين اليهودي، خصلتا الشعر مقابل السالفين شيء مدهش، أو أن أختار الدين المسيحي كماما.
- كماما.
- وأبقى أجرد الوجه كالقساوسة عندنا. ولِمَ لا أعتنق أي دين؟ كبابا.
- كبابا.
- فأبقى على حب الأديان الثلاثة دون أن أكون متدينًا.
- ييه، ييه، ييه...
- أنتِ كماما أم كبابا؟ صاح هاكان في أذن أخته.
- كبابا.
- أنا لا أعرف بعد.
- ييه، ييه، ييه...
فتح رالف لندغرن عينيه، فوجد نفسه يجلس وحيدًا في الصالون. كان الحوار لم يزل مستمرًا ولا أحد معه، كان يجلس وحده في الصالون، ولم يزل الحوار مستمرًا:
- حورية في حجابها شيء مدهش، شيء مدهش، حورية في حجابها شيء مدهش، ردد هاكان، أليس كذلك يا مارغريتا؟ صاح هاكان في أذن أخته الصغرى.
- ييه، ييه، ييه...
- لكن هذا ليس رأيي، قال رالف لندغرن، وكما قلت لك، يا حورية، أنا ضد أن ترتدي الحجاب، هناك الكثير من المسلمات اللواتي لا يرتدين الحجاب، أسود أم أبيض، أنا ضد أن ترتدي الحجاب.
- أنت حر، يا بابا، فيما ترى، وأنا حرة فيما أرى، قالت حورية.
- ييه، ييه، ييه، قالت مارغريتا وهاكان بعد أن أعاد وضع السماعة في أذنه.
- الحرية ليست سوداء أو بيضاء، يا حورية، ألح الأب.
- اترك حورية وشأنها، يا رالف، تدخلت الأم.
- نعم، اترك حورية وشأنها، يا بابا، قالت مارغريتا. أليس كذلك، يا هاكان؟
- اترك حورية وشأنها، يا بابا، قال هاكان.
- لا تزعل مني، يا بابا، كانت حورية تقول لرالف لندغرن، حورية غير الموجودة في الصالون، وهي تمسك يد أبيها.
كان رالف لندبرغ يحمل اليد الخيالية إلى فمه، ويقبلها.
- أنا لا أزعل منك، يا ابنتي.
- لا تزعل مني، طيب؟
- أنا لا أزعل منك، أنا لا أزعل منك، يا حبيبتي.
- أريدك ألا تزعل مني، ألا تزعل مني، يا بابا.
- أنا لا أزعل منك، أنا لا أزعل منك، أنا لا أزعل منك، يا حبيبتي.
كان الأبناء الثلاثة الخياليون يَنُطُّونَ على أبيهم، وهم يقهقهون، والأم الخيالية تطلب منهم:
- اهدأوا، يا أولاد، اهدأوا.
بعد عدة دقائق من الصمت، كان رالف لندغرن يشم رائحة عطرة، رائحة الموت والحرية، فينهض، ويبحث عن مصدرها، وهو ينظر باتجاه الباب، كان يرى في فوهة الباب امرأة نصفها الأعلى عار، بثدي مقطوع:
- هذه أنت، يا جوستين؟
- هذه أنا، يا رالف.
- ولماذا لا تدخلين، يا جوستين؟ تعالي، تقدمي، اقتربي مني. نعم، هكذا، تعالي بين ذراعيّ. سأغطيك بذراعيّ. هل تشعرين بالبرد، يا جوستين؟
- قليلاً، يا رالف.
- سأغطيك بذراعيّ، يا جوستين. سنجلس على الكنبة، وسأغطيك بذراعيّ. المرة القادمة، لا تخرجي بصدرك العاري هكذا. ستوكهولم باردة، وستصابين بالزكام. هل تنعمين بالدفء بين ذراعيّ، يا جوستين؟
كانت جوستين لا تجيب.
- ستوكهولم باردة. هل تسمعينني، يا جوستين؟
كانت جوستين لا تجيب.
- باردة هي ستوكهولم. جوستين. هل تسمعينني؟
كانت جوستين لا تجيب.
- ستوكهولم باردة. جوستين، هل نمت، يا حبيبتي؟ ستوكهولم باردة. باردة. ستوكهولم باردة. جوستين. جوستين. ستوكهولم باردة. نجوم ستوكهولم كثيرة. كثيرة نجوم ستوكهولم، يا جوستين. باردة هي ستوكهولم. ستوكهولم باردة. ستوكهولم. نجوم. كثيرة. كثيرة نجوم ستوكهولم. كثيرة نجوم ستوكهولم، يا جوستين. كثيرة. باردة. ستوكهولم. ستوكهولم. باردة. كثيرة. ستوكهولم. ستوكهولم. ستوكهولم. جوستين، جوستين، جوستين... هل نمت، يا جوستين؟ تعال يا موسى، وتعال يا عيسى، وتعال يا محمد، جوستين أممكم، وأممكم جوستين. لن تتركوها اليوم في البرد تهلك، كما تركتم ضحايا الأمس في الجحيم يهلكون. شُق بها البحر، يا موسى، وأنقذها مما هي فيه. أعرف أنك لن تفعل، ولن يفعل أخوك الأوسط عيسى، لأن جوستين أمه، وهو يريد لها الموت، فلا تراه مرفوعًا على الصليب. أما أخوك الأصغر محمد، فلن يرفع إصبعًا واحدًا من أجل جوستين، ليبقى ثديها الجميل المقطوع عاريًا إلى أبد الآبدين. ليس لديكِ إلاي كنبي زمانك، يرأف بك، يا جوستين. سأرف بك، لأنك كل الضحايا السابقة واللاحقة، ولن أتردد عن الموت من أجلك. سآتيك بالنجوم، برهان وفائي وإخلاصي. جوستين، جوستين، جوستين... نامت حبيبتي جوستين.
كانت نجوم ستوكهولم تبين من النافذة، كانت كلها تتلألأ، كانت كلها تبين من النافذة كاللآلئ، وكانت كثيرة، كانت كثيرة جدًا، كانت النجوم كثيرة جدًا، ككل نجوم السويد، كانت النجوم كثيرة جدًا، كانت لكل سويديّ آلاف النجوم، مئات آلافها، ملايين النجوم، مئات ملايينها، وكانت لكل نجوم الكون السويد. كانت نجوم ستوكهولم في السماء، وعلى الأرض، وفي كل مكان، في كل مكان كانت نجوم ستوكهولم. كانت نجوم ستوكهولم في الأحلام، في أحلام الأحياء، وفي أحلام الموتى، وكانت نجوم ستوكهولم في الكتب، كانت تتلألأ في الكتب، فتضيء أمهات الكتب، وتعيد للحياة الحياة. كانت نجوم ستوكهولم في العيون، وعلى الشفاه، وبين الأصابع، زرقاء في العيون، خضراء على الشفاه، سوداء بين الأصابع. كانت نجوم ستوكهولم في الأشرعة، وفي الأجنحة، وفي المخدات، الحب كان نجوم ستوكهولم، والتحليق كان نجوم ستوكهولم، والريح كانت نجوم ستوكهولم. نجوم ستوكهولم. ثلوج ستوكهولم. جليد ستوكهولم. كانت نجوم ستوكهولم في كل مكان، كانت نجوم ستوكهولم كل مكان، وكانت ستوكهولم باردة كثدي ينام في العراء، لكنها كانت تشتعل باللآلئ، بلا غرابة ولا تنافر، كانت تشتعل بنار باردة تحرق الخيال، فتجعل منه موقدًا كبيرًا من الحكايات والمغامرات.





القسم السابع
فندق سكانديك

في شمال ستوكهولم، يقع برج فكتوريا الأزرق، في كيستا، وفي البرج يقوم فندق سكانديك، فندق خمس نجوم. كان الموعد المتفق عليه بين أعضاء هيئة تحكيم نوبل للآداب الخمسة في أحد أجنحة الفندق المترفة، في الطابق الثالث عشر، على الساعة الثالثة عشرة، وذلك للتداول في ترشيح الروائي الفرنسي ألبير رامو، وتناول روايته "جوستين والتعاسة المنسية" بالبحث والنقاش.
فتحت كريستينا سفينسون باب الجناح ببطاقتها الإلكترونية، فوجدت نفسها مقابل كاتارينا فريدن، وبيدها كأس من الشمبانيا.
- كنت أعتقد أنني الأولى، قالت كريستينا سفينسون.
- أنت الأولى، يا عزيزتي كريستينا، حتى ولو كنتِ الثانية، قالت كاتارينا فريدن.
- أشكرك، يا عزيزتي، أنت كلك ذوق، ردت كريستينا سفينسون.
ترامت كريستينا سفينسون على كنبة، وأخرجت من حقيبتها، كتاب "جوستين والتعاسة المنسية"، وفيه عشرات الأوراق المحشوة بين الصفحات، بينما صبت لها كاتارينا فريدين كأس شامبانيا قبل أن تعيد الزجاجة إلى عربة مليئة بشتى أنواع المشهيات. قدمت الكأس لزميلتها، وقالت، وهي تومئ إلى الكتاب:
- كلما جاءت عيناي في عيني هذا الكتاب يراودني انطباع أن يدًا تخرج منه، وتصفعني.
وضعت كريستينا سفينسون الكتاب إلى جانبها مقلوبًا، وتناولت الكأس:
- لا غرابة إذا ما قلت لك إنه الشعور ذاته الذي يراودني.
- حقًا؟ الشعور ذاته؟
- الشعور ذاته.
- إذن لن يكون الأمر صعبًا ما بيننا عندما سيحضر الآخرون.
- إضافة إلى ذلك، كل كلمة في هذا الكتاب موجهة ضدي، لم أجد نفسي بين سطوره.
- وأنا أيضًا لم أجد نفسي بين سطوره، أو، لنقل وجدت نفسي قليلاً بين سطوره.
- لم أجد نفسي لا قليلاً ولا كثيرًا بين سطوره، لم أجد نفسي، ولم أجد غيري ممن يشبهني.
- أنا كنت أسمع أصواتًا تخرج منه، وتجعلني أفقد التركيز، فأضطر إلى إعادة القراءة.
نظرت كريستينا سفينسون إلى ساعتها، وقالت:
- لقد تأخر الآخرون.
لم تكن كاتارينا فريدن تسمعها:
- وتعود الأصوات إلى الخروج، فتضغط على روحي، شيء أقرب إلى أصوات المعذبين، فأقوم لأشرب كأس ماء، لكني أقذف الماء من فمي، دون أن أستطيع ابتلاعه.
- قراءة هذه الرواية اعتداء روحي، يا كاتارينا فريدن.
- أعود إليها، فلا أستطيع جمع أفكاري. أرميها جانبًا، فأسمع أصواتًا تجيء من الخارج، ليس من الباب أو من النافذة، وإنما من الخارج، من خارج الأشياء، يا كريستينا سفينسون.
- أفهم جيدًا ما تقولين، يا كاتارينا فريدين، أصوات تجيء من خارج الوجود، وتحاول السيطرة على عقلك.
- هنا تغلي الأفكار في رأسك، وتشلك، لهذا لا تستطيعين فعل ما تريدين.
- أو تفعلين ما لا تريدين، تعتقدين أنك شخص آخر أو قطعة من شخص.
- ليس بالضبط هذا، يا كريستينا سفينسون، ليس بالضبط هذا.
- غالبًا ما اعتقدت بأنني ثدي جوستين المقطوع.
- ليس بالضبط هذا، يا كريستينا سفينسون، ربما كان هذا، ولكن ليس بالضبط هذا.
- دون أن أكون ثدي جوستين المقطوع، لكنني غالبًا ما اعتقدت بأنني ثدي جوستين المقطوع.
- أما أنا فغالبًا ما اعتقدت بأنني قضيب ساد إلى درجة تجعلني أغيب عن الوعي، فأقوم بأفعال مجنونة ضد جسدي.
فتح هوراس ألفريدسون الباب على حين غرة، ودخل، فقابلته كريستينا سفينسون ب:
- ها أنت أخيرًا! ولكن أين الاثنان الآخران؟
- في الطريق، قال هوراس ألفريدسون، وهو يقبل زميلتيه من خديهما، ثم: ما لها كاتارينا فريدن؟ لها سحنة شاحبة.
- لا شيء، قالت كاتارينا فريدن عابسة، كنت أفكر في أمي القحبة، كانت تريدني التركيز دومًا، فلا أجد إلى التركيز سبيلاً.
- نحن المجانين لا حاجة بنا إلى التركيز، يا كاتارينا فريدن، قال هوراس ألفريدسون، وهو يطلق ضحكة، فلا تبتئسي كثيرًا.
- كما قلت نحن المجانين، رمت كريستينا سفينسون.
- ولا حاجة بنا إلى الفهم، أضاف هوراس ألفريدسون، وهو يصب لنفسه كأس شامبانيا، ويبتلع بعض المشهيات. ولا حاجة بنا إلى التبرير، ولا حاجة بنا إلى التفسير، القول لدينا ابن ساعته.
- الفعل، تريد أن تقول الفعل، قالت كاتارينا فريدن.
- والفعل لدينا ابن ساعته.
جاء وجمعها من ظهرها بين ذراعيه، وراح يهتز وإياها، وهي تقهقه، وتردد:
- توقف، يا هوراس ألفريدسون، توقف، ليس هذا وقته.
- ولم لا؟ تعالي، يا كريستينا سفينسون، وخذينا بين ذراعيك، سنكتب أعظم نظرية فلسفية عن الجنس الآني.
- توقف، توقف، يا هوراس ألفريدسون، رددت كاتارينا فريدن، وهي لم تنقطع عن القهقهة.
انتهرته كريستينا سفينسون:
- توقف، يا هوراس ألفريدسون، لا تكن عسكريًا في كل شيء.
توقف هوراس ألفريدسون، وجاء يترامى إلى جانب كريستينا سفينسون:
- لست عسكريًا في كل شيء، يا كريستينا ألفريدسون، ولكنني مهستر في كل شيء، في كل شيء جميل، اعترفَ، وهو يكشف عن ساقي كريستينا ألفريدسون، ويداعبها منهما.
- توقف، يا هوراس ألفريدسون، انتهرته كريستينا سفينسون من جديد، توقف عن فعل هذا، وأنت تفعل هذا، لدي شعور أنه أبي.
- لك ساقان جميلتان، يا كريستينا سفينسون، رمى هوراس ألفريدسون، ماذا أستطيع أن أفعل غير ما أفعل إذا كانت لك ساقان جميلتان؟
- أعرف أن لي ساقين جميلتين، أجابت كريستينا سفينسون، وهي تزيح يده بعيدًا عنها، إنهما ساقا إنغريد بيرغمان، لكنهما ليستا لك، أو، لنقل، ليستا لك الآن.
- حمدًا لله أنهما ليستا لي الآن، فساقا أمي لم يكونا لي أبدًا.
- أنا لست أمك، يا هوراس ألفريدسون.
- أنت لست أمي، هذا صحيح، وحمدًا لله مرة أخرى أنك لست أمي، ولكن...
- ولكن ماذا؟
- ها أنا أفكر في أمي وفي ساقيك.
جاءتهم طرقات على الباب، فقامت كريستينا سفينسون لتفتح. دخل بيتر أكرفيلدت ورالف لندغرن، وهذا الأخير يرفع البطاقة الإلكترونية بين إصبعين، ويقول:
- هذا الخراء لا يعمل!
قهقه بيتر أكرفيلدت، بينما سألت كريستينا سفينسون:
- لماذا تأخرتما؟
- في ستوكهولم لا تسألي أحدًا لماذا تأخرت، أجاب رالف لندغرن، كل شيء جائز في ستوكهولم على الرغم من كل هذه الماكينة الحضارية التي هي حياتنا.
قهقه بيتر أكرفيلدت من جديد، وذهب مباشرة إلى عربة الأكل دون أن يسلم على أحد.
- هي حركة السير.
- لا.
- إذن ماذا؟
- حركة الدماغ.
- حقًا، نحن نسير في رؤوسنا.
- قرأت مقالاً في جريدة ضدي... مرحى، يا كاتارينا فريدن، مرحى يا هوراس ألفريدسون.
- مقال في جريدة ضدك؟
- أموت من الجوع، قال رالف لندغرن، وهو يلتهم بعض المشهيات، وبيتر أكرفيلدت يقهقه وحده دون أن يلتفت إليه. مقال عن صعوبة حركة السير في ستوكهولم.
- مقال في جريدة ضدك عن صعوبة حركة السير في ستوكهولم، تهكمت كريستينا سفينسون.
- أنت مخرية كزوجتي، يا كريستينا سفينسون!
- أفهم الآن لماذا مقال في جريدة عن صعوبة حركة السير في ستوكهولم ضدك.
- لا، لم يكتبه الصحفي الكبير، أوضح رالف لندغرن، وهو يشير بإصبعه إلى بيتر أكرفيلدت الذي عاد يقهقه.
- مقال عن صعوبة حركة السير ضدك شيء مثير للاهتمام، يا رالف لندغرن، تدخلت كاتارينا فريدن بسحنتها الشاحبة.
- لك سحنة مذهلة، يا كاتارينا فريدن، همهم رالف لندغرن.
- سحنة شاحبة، قالت كاتارينا فريدن.
- مذهلة، سحنة مذهلة، سحنة دينية مذهلة.
- أشكرك، يا رالف لندغرن، قالت كاتارينا فريدن، وهي تضحك، بينما يقهقه بيتر أكرفيلدت، وهو يواصل الأكل والشرب.
- مذهلة.
- لم يكن هذا رأي هوراس ألفريدسون.
- وما يدريه هوراس ألفريدسون بالسحن المذهلة، السحن الدينية المذهلة، هو أدرى بسحن الشخاخات طالباته، أما السحن المذهلة، السحن الدينية المذهلة، فهي من اختصاصي.
رمى بيتر أكرفيلدت فجأة كأسه على عربة الأكل، وذهب ليفتح الباب، نظر في الممر، ثم عاد إلى مكانه، ملأ كأسًا أخرى بالشمبانيا، وذهب ليجلس وحده بعيدًا عن الجميع.
- ذكرتني بالشخاخات طالباتي، يا رالف لندغرن، قال هوراس ألفريدسون.
- ماذا، يا هوراس ألفريدسون؟ الشخاخات طالباتك اللواتي ذكرتك بهن ماذا؟
- لا شيء، اسأل كاتارينا فريدن أو كريستينا سفينسون.
- عندما كنت طالبة شخاخة، قالت كريستينا سفينسون، كنت أرغب في تغيير العالم على صورتي، ليست بالضبط صورتي، هي بالأحرى الصورة التي كنت أريد أن تكون لي، صورة لعظيمة من العظيمات. كنت طالبة شخاخة عظيمة، وكان أستاذ فلسفة كألفريدسون يقول لي، ونحن في الفراش، الفلسفة منذ أفلاطون إلى اليوم لم تفهم الإنسان لأنها لم تفهم المرأة كما أفهمها. كان الوحيد الذي يحولني من امرأة وانية الشبق إلى امرأة كلبة.
- هذا من الناحية العملية، ومن الناحية النظرية، كيف كان يفهمها المرأة؟ سألت كاتارينا فريدن.
- لم أعد أذكر ما قاله لي، أو بالأحرى أذكر، كان يفهم المرأة... لا، لم أعد أذكر. كان يفهمها، كان على عكس غيره من الفلاسفة، على عكس غيره من الفلاسفة كان يفهمها.
- لهذا كان أعظم فيلسوف لفرج المرأة، رمى هوراس ألفريدسون قبل أن ينفجر والجميع مقهقهين. المرأة تعادل الفرج، هذا كل شيء. وبالفعل الفرج هو محور كل حياتنا.
- والقضيب؟ سأل بيتر أكرفيلدت من مكانه المنعزل، وانفجر يقهقه.
- القضيب شيء استثنائي كالفكرة الملموسة لدى هيغل أي بعد أن تتحول إلى شيء مبدع، أجاب هوراس ألفريدسون. القضيب يعادل الإبداع في تحققه الأسمى. هل تريدون شرحًا عمليًا؟ وأخذ يفك أزرار بنطاله.
- هناك ما هو أهم الآن، قالت كريستينا سفينسون، وهي تمسك يده، وتعيد إقفال أزرار بنطاله.
- حقًا، هناك ما هو أهم. ولكن قولي لي لماذا نحن هنا؟
- لا لشيء هام، يا هوراس ألفريدسون، أجابت كريستينا سفينسون.
- وما هو الأهم؟
- الأهم هو هذا، قالت كاتارينا فريدن، وهي تحمل رواية "جوستين والتعاسة المنسية"، وتدفعها بين ذراعي هوراس ألفريدسون، ثم ذهبت لتجلس على ركبتي بيتر أكرفيلدت، وهذا يقهقه دون سبب.
أنصتوا كلهم لما يقوله رالف لندغرن:
- في الصباح، لم ننهض من الفراش، بقينا ننام، كانت أجسادنا تعبة، وكان الأهم من كل شيء في الوجود أن نريح أجسادنا. كنا في أجسادنا، لهذا كنا تعبين، وكنا نريد النوم كي نرتاح، كي نريح أجسادنا. لم نكن نريد النهوض من الفراش، فأجسادنا كانت تعبة، ونحن كنا في أجسادنا، وكنا نريدها أن ترتاح، لنرتاح، ثم لننهض من الفراش، ونذهب إلى أعمالنا. لم يكن الذهاب إلى أعمالنا مهمًا، كانت أعمال كل يوم، ولم تكن مهمة. ربما كانت مهمة لغيرنا، ولكنها لم تكن مهمة لنا، كانت أعمال كل يوم، وكان علينا أن ننجزها، مهمة أم غير مهمة، كان علينا أن ننجزها، ولهذا كان علينا النهوض من الفراش، لنذهب إلى أعمالنا. أعمال غير مهمة، كان علينا أن ننجزها، ولكننا لم ننهض من الفراش، لأن أجسادنا كانت تعبة، وكان علينا أن نريحها. وبما أننا كنا نسكن فيها، في أجسادنا، كنا تعبين، وكان علينا ألا ننهض من فراشنا لنذهب إلى أعمالنا، كان علينا أن نرتاح، فنريح أجسادنا، لأننا ونحن تعبون لن نقوم بأعمالنا كما يجب، ولن ننجزها. كان علينا أن ننجز أعمالنا على الرغم من عدم أهميتها، ولما كنا تعبين، لن ننجز أعمالنا، لن ننجزها كما يجب، لن ننجزها. لهذا لم ننهض من الفراش في الصباح، ولم ينهض البحارة، ولم ينهض الأمراء، ولم ينهض الصعاليك، ولم ينهض الشحاذون، ولم ينهض القوادون، ولم ينهض بائعو السياسة والحكمة والغُلمة، ولم ينهض أحد من الفراش، كنا تعبين كلنا، وكان علينا أن نرتاح.
ذهبت كاتارينا فريدن في عناق طويل مع بيتر أكرفيلدت، بينما تمددت كريستينا سفينسون على الكنبة، وهي تلهث، فأعطى هوراس ألفريدسون كتاب ألبير رامو لرالف لندغرن، وذهب بأصابعه إلى كتفي كريستينا سفينسون، وراح يمسدهما لها. فتح رالف لندغرن الكتاب، وأخذ بالحديث إلى جوستين:
- ثديك المقطوع ارتاح من عناء الحياة، يا جوستين، هو وحده من يستطيع إنجاز عمله كاملاً، أما ثديك الآخر، فعليك أن تبقيه معلقًا إلى الأبد، كيلا يرتاح من عناء الحياة، ولا يستطيع إنجاز عمله كاملاً. مع الأسف، لن أستطيع فعل أي شيء من أجل ثديك المقطوع، هكذا مصير كل شيء جميل، ألا نستطيع فعل أي شيء من أجله. لهذا هو جميل، ثديك المقطوع، لهذا هو عميق، لهذا هو خالد. منه تزحف الديدان إلى أعمارنا، فتلتهمها. أعمارنا تلتهمها الديدان بأفواهها أو تقرضها الصراصير بأسنانها، لهذا نحن عشاقٌ لثديك المقطوع، ثديك الزاحفة منه الديدان إلى أعمارنا، أعمارنا لا قيمة لها، لهذا نتركنا عاشقين لثديك المقطوع كي ندمرنا.
ذهب رالف لندغرن إلى بيتر أكرفيلدت وكاتارينا فريدن المتعانقين دومًا، وفصلهما عن بعضهما.
- ماذا، يا رالف لندغرن؟ سألت كاتارينا فريدن.
- أريد فقط أن أسألك كم مرة قرأت هذه الرواية، يا كاتارينا فريدن؟
- لست أدري، عشرات المرات، لماذا؟
- أردت فقط أن أعرف.
- هل هي حالك؟
- هي حالي.
- وهي حالي أنا، صاحت كريستينا سفينسون من طرف، وهي تتحرر من بين أصابع هوراس ألفريدسون.
همهم هوراس ألفريدسون مكتئبًا:
- وهي حالي أنا أيضًا.
قام بيتر أكرفيلدت، وأخذ الكتاب من يد رالف لندغرن، وبدأ بقراءته. عندما وجدهم يحدقون به كلهم، اعترف:
- أنا لم أقرأه مرة واحدة، وراح مقهقهًا.
- هكذا سنقول إن واحدًا منا لم يقرأه، همهم هوراس ألفريدسون من جديد، وقد تضاعف اكتئابه.
لكنهم سمعوا بيتر أكرفيلدت يقول:
- ساشيناتي، يا أختي الصغيرة، أنا أعرف كل قصتك، أقرأها كل يوم دون أن يكتبها أحد. ساشينا، ساشيناتي، أُخَيتي، كنت أخًا مخلصًا لك. أُخَيتي مدللتي، لم أكن هناك على طرف البحيرة، كان ذلك القذر هناك، كان يراك تغرقين، ولم يفعل شيئًا. كان ينظر إليك دون أن يراك، كان أعمى مفتوح العينين، كان يراك دون أن يراك. كنت تغرقين، وكنت تنادين، وهو، كان ينظر إليك دون أن يراك. كنت تصرخين، ولم يكن يسمعك تصرخين، كان يراك دون أن يراك، ويسمعك دون أن يسمعك. قالت له ماما، انتبه على ساشيناتي، انتبه على أُخَيتك، وأنت كنت تحتجين، لا يا ماما، أنا كبيرة، لا أريد أحدًا أن ينتبه عليّ. انتبه على ساشيناتي، انتبه على ساشيناتي، تلح ماما. طيب، يا ماما، سأنتبه على ساشيناتك، قال الآخر لماما. وأنت ترددين، لا يا ماما، أنا كبيرة، أنا كبيرة. وماما للآخر أيضًا، انتبه على ساشيناتي، انتبه على ساشيناتي. أمطرت السماء، فأمسكتِ بيد الآخر، بيد أخيك الكبير عليك، وجريتِ به إلى وِقاء لم يكن بعيدًا جدًا. كان بعيدًا، لكنه لم يكن بعيدًا جدًا. كنتِ في ثوب السباحة، وكنت تغرقين في المطر، وكنت ترتجفين عندما وصلتما تحت الوِقاء، وكنت تضمين نفسك بين ذراعي أخيك الكبير لتدفأي، كنت ترتعدين من البرد، وكنت تسعين إلى الدخول في جسد أخيك الأكبر، ذلك القذر، لتحصلي على بعض الدفء، وكان يسمعك ترددين لماما أنا كبيرة، أنا كبيرة، وماما، انتبه على ساشيناتي، انتبه على ساشيناتي، فأخذك أخوك الكبير بعد أن خلع عنك ثوب السباحة المبتل، أخذك كلك بين ذراعيه، لينتبه عليك، لينتبه عليك كما قالت ماما، أخذك كلك بين ذراعيه، وعندما بدأت بالبكاء، وأنت كلك عارية بين ذراعيه، أفلتك من بين ذراعيه، فتركته كمن يُترك الملعونون وحدهم في الجحيم أمام مصائرهم، ونزلت في البحيرة.
انفجر بيتر أكرفيلدت يقهقه، فردعته كريستينا سفينسون:
- اخرس، يا لك من وغد، اخرس!
لم يخرس على التو، لكنه بعد ذلك حط في الصمت، ودمعة حرى تسيل على خده. ذهبت كاتارينا فريدن إليه، ودفنت وجهه في صدرها.
همهم هوراس ألفريدسون متسائلاً، وهو يترنج:
- هل هذا هو الطريق إلى الجحيم؟
- تعال، قالت له كريستينا سفينسون، الطريق إلى الجحيم من هنا.
جعلته يعتمد عليها، وراحت به تدور في الجناح بلا هدف، وعلى الجدار سوط أسود معلق.
- ساد، هل تسمعني؟ هتف هوراس ألفريدسون، هل تسمعني، يا ساد؟
- أسمعك، أجابت كريستينا سفينسون.
- هل تسمعني جيدًا؟
- أسمعك جيدًا.
- لكنني أنا لا أسمعك، أشمك ولا أسمعك، لك رائحة لذيذة، رائحة مزيجة من عفة وعفونة، أشبه برائحة امرأة تضاجع. رائحة لا يمكن لمها، رائحة أبدية، رائحة شيطانية، رائحتك الشيطانية تعبق بأنفاسي، لهذا كانت لكل الحداثة تلك الرائحة الشيطانية، رائحتك، رائحة غائطية ربما، لكنها رائحة ملهمة، مدمرة للحواس، وخلاقة، رائحة مبدعة، رائحة كل ملعون. وأنا على الطريق إلى الجحيم أشمك، فأظفر بما لم يظفر به أحد قبلي من الفلاسفة، أظفر بطوباوية شيطانية، طوباوية دموية، كل جوستين التي لك هي هذه الطوباوية الشيطانية، وكل معذبيها، وكل غير معذبيها، طوباوية جاءت من أبعد مكان في الفكرة ومن أبعد زمان لتنقل مصائرنا على ظهر الوجود، فنرى أنها كلها واحدة، وكلها تنهل من بين فخذي جوستين جوهرها، جوهر لكل القذرين في العالم الذين هم نحن.
- خذ، أيها القذر، يا أيها القذر الآخر لا الأخير، قالت كريستينا سفينسون لهوراس ألفريدسون، وهي تنزع السوط الأسود عن الجدار، وتقدمه له. أنت تدري ما أنت به صانع. هل تسمع ما أقوله لك؟
- أنا أشمك، أسمعك بشمي، رائحتك الزكية، رائحة العفونة والعفة.
- خذ!
تناول هوراس ألفريدسون السوط الأسود بينما كشفت كريستينا سفينسون عن إليتيها، وهي تنحني، فأخذ الفيلسوف الجامعي يسوطها، وهي راضخة صارخة حتى لم تعد تحتمل ذلك، فسقطت على الأرض، وبدأت تهذي:
- الفصول ليست كبعضها، ولكنها كلها تتشابه. كل واحد منا فصل من الفصول، وكل واحد منا يشبه الآخر. العاصفة يخضع لها فصل الشتاء، والنحل يخضع له فصل الربيع، والشمس يخضع لها فصل الصيف، والريح يخضع لها فصل الخريف. ساد كان العاصفة والنحل والشمس والريح، وجوستين كانت كل الفصول. جوستين كانت كالطبيعة تجلدها العاصفة والنحل والشمس والريح، كالطبيعة تجلدها الطبيعة، يجلدها ساد. جوستين كانت نحن، وساد كان نحن، جوستين وساد كانا الطبيعة، كانا البشرية، البشرية كانت نحن، والطبيعة كانت نحن، وجوستين وساد كانا نحن، كانا الطبيعة، كانا البشرية. جوستين كنتها لما كنت إنغريد بيرغمان، وكارين بوي، وفكتوريا السويد، ولم أكنها، وكنت غيرها، كنت فصلاً من فصول الموت، فصلاً من فصول العدم، فصول العدم كثيرة جدًا، فصول العدم كثيرة جدًا جدًا، فصول العدم لا يمكن عدها، فصول العدم كثيرة جدًا جدًا جدًا، فالموت في كل يوم، وفي كل يوم يموت العشرات بل المئات من الآلاف. في كل يوم يموت الكثير من البشر، الكثير الكثير من البشر، في كل يوم يموت الكثير الكثير من البشر، وكل موت بشري فصل خاص، لهذا كانت فصول الطبيعة أربعة، ونحن على شاكلتها، كلنا نتشابه، ليست فصول الطبيعة كبعضها، لكنها تتشابه، ونحن على شاكلتها، وكانت فصول العدم كثيرة، كثيرة، كانت فصول العدم بعدد البشر، فلكل إنسان فصله العدميّ، والعدم جوهر الوجود.
رفعت كاتارينا فريدن كريستينا سفينسون عن الأرض، ورمتها بين ذراعيها على كنبة، وراحتا تقبلان بعضهما، من الفم، ومن العنق، ومن الثدي، ومن البطن، ومن الفخذين، ومن الساقين، ومن القدمين، والرجال الثلاثة ينظران إليهما بألسنة متدلية كالكلاب. ثم سكنتا فجأة، نهضتا، وهما تسويان ثيابهما، وصاحت كاتارينا فريدن بالرجال الثلاثة:
- ابعدوا عني نظراتكم، أنتم تغتصبونني بنظراتكم.
قبلت كريستينا سفينسون ثلاث قبلات سريعة، وحملت كتاب ألبير رامو، وهي تهزه في وجوههم:
- لقد سرق ألبير رامو أفكاري!
- ما تقوله كاتارينا فريدن صحيح، أكدت كريستينا سفينسون، وأنا أيضًا، لقد سرق هذا الكاتب أفكاري.
- وأنا لهذا لا أجد فيه نفسي، أضافت كاتارينا فريدن، فيه شيء مني، فأعجز عن التصديق، وأشعر كمن يعذبني أحدهم. هذا الكاتب جلاد، مسألته ألا يتركنا في حالنا.
- نفقد التركيز، ونفقد الأحاسيس، أكدت كريستينا سفينسون من جديد.
- المحسوس بالحس أو بالعقل ينتمي إلى عالم الهواجس، أوضحت كاتارينا فريدن، الثدي المقطوع لجوستين ليس تعاستها المنسية، فهذه التعاسة حاضرة في ذاكرتنا ما بقيت ذاكرتنا، إنه قدرنا. كان ثدي أمي قدرًا بالنسبة لي، منذ جئت إلى الوجود كان ثدي أمي قدرًا بالنسبة لي. الثدي المقطوع لجوستين هو ثدي أمي. ثدي أمي قدري. المقطوع. ثدي جوستين. قدري. بقيتُ أرضع من ثدي أمي منذ مولدي إلى يوم موتها، فثدي أمي قدري. ثدي جوستين. المقطوع. المريض. الميت. المبتور. المقتول. المسفوح. ثدي جوستين. الفضاء الضيق لوحش لا يسعه فضاء في العالم. الثدي المريض فكرتي المسروقة، عمري المسروق، أيامي القادمة، قدري، هذا الثدي السرطاني قدري، أيامي القادمة. خذها من ثدييها، أقول لك، كانت تقول أمي لزوجها، كانت تعني أن يأخذني من عمري، أن يأخذ أيامي القادمة قبل أن تأتي. خذها من ثدييها، يا دين الرب، خذها، خذها، خذها من قدرها، أريدها أن تبقى دون قدر، خذها أقول لك، يا دين الرب، خذها، خذها، خذها، وتقول لي، تعالي، يا حبيبتي، خذي حلمتي، يا حبيبتي، كل ثديي لك، كل قدري لك، كل عمري الفاني من أجلك، خذي كل عمري، واتركي لي عدمي، فماذا ينفع العمر، ماذا ينفع، عدمي، حياتي، ماذا ينفع؟ وتصفع زوجها، خذها، أقول لك خذها، يا دين الرب، ادخل في ظهرها، وخذها، واترك لها ثديي، قدري، عمري، خذ أيامها القادمة، لا تنس، إياك أن تنسى، لئلا تضيع دوني حبيبتي، عمري، قدري...
حل صمت طويل، صمت عميق، صمت ثقيل، قطعه هوراس ألفريدسون:
- أنا جائع، وأنتم؟
رفع السماعة، وطلب:
- أحضر لنا سمك قرش وليد، وكل الباقي.
وأقفل.
لم يكن أفضل من الآخرين، كان يبدو عليه التشتت، التفكك، كثوب مليء بالأزرار المفككة. وكان كل منهم يلمس جسده، مع قلق خافت، ولا يقع على حدود جسده. لم تكن لأجسادهم حدود، كانوا لا يصلون إلى نهاياتها، لأذرعهم لم تكن نهاية، ولا لأثدائهم، ولا لسيقانهم، كانوا يشعرون بأجسادهم كما لو كانت دون نهايات، كالآفاق دون نهايات، وكانوا لهذا قلقين، كان القلق يرتسم على وجوههم، والخوف، والشك، كان الخوف والشك يدفعانهم إلى القلق، ويضاعفان منه، قلق غير طبيعي، قلق ميتافيزيقي، كان قلقهم لا نهاية له، كان قلقًا ما ورائيًا، مستقيمًا، ممتدًا، قلقًا لا نهاية له. لم تعد تترابط أفكارهم:
- طلبت لكم ألذ أنواع السمك... قال هوراس ألفريدسون، وهو ينظر إلى حالهم، ولم تكن حاله بأحسن من حالهم، من المحيط يصطادونه، الأمواج عالية في المحيط، الأمواج تبتلع العالم، العالم يتابع مباراة كرة قدم بين السويد والنرويج، المحيط مليء بالمتفرجين، هناك كان الصبية يلعبون بالكرة، في زقاق من أزقة غاملا ستان، مراكش مدينة ساحرة، أزقتها مليئة بالصبية وأسماك القرش، رائحة أسماك القرش المشوية فيها أزكى رائحة، تشبه رائحة ساد...
وصلتهم طرقات خفيفة على الباب أنقذتهم مما هم فيه، فوثبوا لاستقبال عربة الأكل، أعطى رالف لندغرن خادم الغرف بعض الكورونات، وصرفه، بينما جر كل منهم كرسيًا قريبًا من سمك القرش الوليد. أخذ هوراس ألفريدسون يقطع اللحم الأبيض الطري، ويرميه في صحونهم، بينما صب رالف لندغرن لهم النبيذ في الكؤوس، ووزعها عليهم. حمل بيتر أكرفيلدت كأسه وصحنه، وذهب ليأكل وحده. وبينما هم يأكلون بلذة، سمعوا قهقهة بيتر أكرفيلدت. وبعد قليل، قهقهت كريستينا سفينسون، هكذا دون سبب. شبعوا، وتراموا هنا وهناك، فقدوا وثوبهم الحيوي، وغرقوا في الصمت. نظروا إلى بعضهم، بدا الكره في عيني كاتارينا فريدن لهم جميعًا، ثم ما لبثت، أن مالت عليهم، وراحت تشد على أياديهم بود، وهم لا يفعلون شيئًا، ثم وهم يدفعونها عنهم، ويقومون إلى زوايا مختلفة، حتى أن بيتر أكرفيلدت قد فتح الباب، وذهب في الممر الطويل مغادرًا.
- بيتر أكرفيلدت، صاحت كريستينا سفينسون من ورائه، ولما التفت: إلى أين؟ لم ننته بعد!
عاد بيتر أكرفيلدت، وذهب ليقف خلف النافذة، رفع يده، وأبقاها مرفوعة، ولما لم ينزلها، سألته كاتارينا فريدن:
- ماذا، يا بيتر أكرفيلدت؟
- ماذا، يا كاتارينا فريدن؟ سأل بيتر أكرفيلدت بدوره.
- لمن ترفع يدك؟
- أنا أرفع يدي؟
- أنت ترفع يدك، أنت ترفع يدك لمن؟
نظر بيتر أكرفيلدت إلى يده المرفوعة، وقال:
- أنا لا أرفع يدي.
- بلى، أنت ترفع يدك، لمن ترفع يدك، ونحن في الطابق الثالث عشر؟
- أنا لا أرفع يدي.
- أنت ترفع يدك، لماذا؟
- أنا لا أرفع يدي.
- غريب ما تفعل وشاذ.
- أنا لا أرفع يدي، قال بيتر أكرفيلدت، وهو يرفع يده دومًا.
- أنت ترفع يدك، أنت ترفع يدك.
- أوه! هناك من يشير إليّ، قال بيتر أكرفيلدت، وهو يحرك يده.
- هناك من يشير إليك تحت، ونحن في الطابق الثالث عشر!
- هناك يد في جوف الماء تشير إليّ.
- يد في جوف الماء!
- في جوف الماء.
- هناك يد في جوف الماء؟
- تشير إليّ.
- تشير إليك؟
- تشير إليّ... يد في جوف الماء.
- تعال، يا صديقي المسكين! تعال إلى جانبي.
تردد بيتر أكرفيلدت، وهو بعد أن حرك يده، أغلقها ببطء، وأنزلها، ثم جاء يجلس إلى جانب كاتارينا فريدن.
- تعال، قالت كاتارينا فريدن، وهي تلف كتفيه بذراعها، ثم توجهت بكلامها إلى الباقين، فلنعرض للمسألة.
- أية مسألة؟ سأل بيتر أكرفيلدت.
- ترشيح ألبير رامو لجائزة نوبل للآداب.
- سنعطيه إياها، قال رالف لندغرن، أقول هذا دون أن يكون لدي أي دافع ديني بوصفي عالمًا لاهوتيًا، وعلى أي حال، لا هو، ولا أشهر رواياته "جوستين والتعاسة المنسية" يدخلان في هذا التصنيف. سنعطيه إياها.
- هكذا، سنعطيه إياها! تهكمت كاتارينا فريدن.
- أنتم لن تنسوا خصومنا في هيئة التحكيم، وعلى رأسهم الناقد المخضرم أوسكار كاستنفيلت، أضافت كاتارينا فريدن.
- لهذا سنعطيه إياها، أكد رالف لندغرن، لأننا لن ننسى أوسكار كاستنفيلت وشلته، هم لن يعطوه إياها، ونحن سنعطيه إياها.
- لن نعطيه إياها، قال هوراس ألفريدسون.
- هكذا، لن نعطيه إياها! تهكمت كاتارينا فريدن من جديد.
- لأننا إذا ما لم نعطه إياها أعطاه إياها خصومنا، وبهذا نكون كمن أعطاه إياها.
- الأمر ليس على مثل هذه الميكانيكية، ولا على مثل هذه البساطة، نعطيه، فلا يعطون، لا نعطيه، فيعطون، علقت كريستينا سفينسون.
- إذن نعطيه ولا نعطيه، رمى بيتر أكرفيلدت، وهو يقهقه، ويبعد ذراع كاتارينا فريدن عن كتفيه.
- موافقة، قالت كاتارينا فريدن، نعطيه ولا نعطيه، ولكن كيف؟
- اتركوا بعض الوقت للفيلسوف ليفكر، قال هوراس ألفريدسون، وهو يشير إلى نفسه. لا للعالم في الدين ولا للأستاذتين الجامعيتين الكبيرتين ولا للصحفي الكبير.
- الرجاء أن تفكر بصوت عال، طلب رالف لندغرن.
- بصوت عال... بصوت عال...
- بصوت عال. الرجاء أن تفكر بصوت عال.
- أولاً وقبل كل شيء، أوضح هوراس ألفريدسون، يجب التمييز بين رامو وأهم أعماله رواية "جوستين والتعاسة المنسية"، طيب؟ ثانيًا يجب التمييز بين رامو وساد، أوكي؟ ثالثًا يجب التمييز بين رواية ساد ورواية رامو. في الحالة الأولى، سنكون مع رامو لا مع روايته، وفي الحالة الثانية، سنكون مع ساد لا مع رامو، وفي الحالة الثالثة، سنكون ضد رواية ساد ورواية رامو. والنتيجة؟ سنكون مع رامو، وستذهب الجائزة إليه.
- أنا أرى التالي، تدخل رالف لندغرن، في الحالة الأولى، سنكون مع رواية رامو لا معه، وفي الحالة الثانية، سنكون مع رامو لا مع ساد، وفي الحالة الثالثة، سنكون مع رواية ساد ورواية رامو. والنتيجة؟ سنكون مع رامو وروايته، وستذهب الجائزة إليه.
- تريد القول إننا سنكون مع رامو وروايته ورواية ساد، علق هوراس ألفريدسون، وهذا ما سيعطل على رواية رامو الشيء الكثير، أن نكون مع الروايتين، سينقص ذلك من قيمة رواية رامو، ومن رامو، وستكون الطريق إلى حجب الجائزة مفتوحة لخصومنا.
- ولماذا لا نكون ضد الرواية ورامو في الحالات الثلاث، فتذهب الجائزة لساد؟ إنه يستحقها بعد كل ما عانى من محاكمات وإهانات وسجون، قال بيتر أكرفيلدت، وانفجر مقهقهًا.
- يا ليت كانت الجائزة تذهب إلى الأموات لكنا أعطيناها لكل من يستحقها ولم يحصل عليها، قال هوراس ألفريدسون، ونهض ذاهبًا إلى الحمام.
- لن نعطيه إياها، قالت كاتارينا فريدن.
- أؤيد كاتارينا فريدن، قالت كريستينا سفينسون.
- لماذا لن نعطيه إياها؟ سأل رالف لندغرن.
- لأن الرواية كلها سياسة دون أن تقول كلمة واحدة عن السياسة، أجابت كاتارينا فريدن.
- أؤيد كاتارينا فريدن، قالت كريستينا سفينسون.
- تقولين كلها سياسة، ومع ذلك، أنت لا تسعين للوصول إلى المعنى المجرد لسياسة، وباللغة الروائية إلى تصور السياسة، رمى رالف لندغرن في وجه كاتارينا فريدن.
- الرواية كلها سياسة، ألحت الأستاذة الجامعية، والخط السياسي للكاتب معروف، الخط السياسي ضدنا.
- أؤيد كاتارينا فريدن، قالت كريستينا سفينسون.
- ضدنا كيف؟ سأل رالف لندغرن. أنت تقولين ضدنا لتفلتي من كيف هو ضدنا، الخط السياسي، هذا إذا ما كان الخط السياسي بالفعل ضدنا.
- هل قلت ضدنا؟ سألت كاتارينا فريدن فاقدة التركيز.
- آه! يا إلهي. أنت لا تضاجعين، أيها الماخور، كاتارينا فريدن.
- بما أنني قلته، عادت كاتارينا فريدن إلى القول، وهي تغلق عينيها بشدة، الخط السياسي ضدنا على طول الخط ودون كيف.
- هذا صحيح، ما تقولينه ليس في صالح الكاتب، يا كاتارينا فريدن، قالت كريستينا سفينسون.
- في صالحه أم ليس في صالحه، هذا شيء آخر، علق رالف لندغرن. هل نبدأ بالسياسة أم بفكرة السياسة؟ هل نبدأ بالجميل أم بفكرة الجميل؟
قهقه بيتر أكرفيلدت، وقطع قهقهته فجأة، وهو يسارع إلى الحمام، ليطرق الباب على هوراس ألفريدسون، لكن هوراس ألفريدسون كان يتأمل مسدسًا أخرجه من جيبه، وهو في شبه حالة من الذهول. كان يتأمله، ويشمه، ويشده إلى صدره. كان المسدس جميلاً، وكان هوراس ألفريدسون يسعى إلى أن يكون جميلاً كمسدسه، وقويًا كمسدسه، ورهيبًا كمسدسه. كان يريد، وهو يقبض على مسدسه، أن يقبض في الوقت ذاته على كل نظريات نيتشه التي لم يكن متفقًا معه حولها، فلم يكن هوراس ألفريدسون مع حق الحياة للأقوى، كان مع حق الحياة، فقط مع حق الحياة، ولكنه في تلك اللحظة بالذات، تحت ذلك الشرط بالذات، كان عاشقًا لمسدسه، وكان يمسكه بقوة، وكأنه يريد أن يمسك العالم بخناقه.
- إذا بدأنا بالسياسة، بالجميل، بالظاهر، بالخاص، بالخاصية، كعالم لاهوتي، وهنا يجدر بي التحديد، كعالم لاهوتي وثني، أقول إنها في صالح الكاتب، أكد رالف لندغرن. وعلى مستوى آخر، "نوبلي"، إذا ما تعلق الخط السياسي بالشخص، لماذا إذن أعطى غيرنا الجائزة لنيرودا؟ سأكتفي بنيرودا، فهناك عشرات من الشعراء المسيسين غيره الذين ترشحوا للجائزة أو حصلوا عليها. اتركي الشخص وشأنه، يا كاتارينا فريدن، واتركي السياسة في أعماله وشأنها، واحكمي على كيفية إنتاجها، وإياك أن تتجاهلي السياق. السياسة محنة إذا ما قدمت كظاهرة، لكنها إذا ما كانت سياقية في تصورها، فهي تغدو شيئًا آخر، كالتفاحة بين الأسنان، تحت هذه الصورة أريد أن أُجمل تعبير "الأحاسيس المستحبة" الشهير. وعلى كل حال، في "جوستين والتعاسة المنسية"، العمل الأساسي لرامو، لا توجد سياسة لا سياقية ولا غير سياقية، وليس من ذنب الكاتب أن في رموزه البعيدة هناك من يرى السياسة أو ملامح منها.
- ومن ناحية أخرى، قالت كريستينا سفينسون، الرواية كلها اقتصاد دون أن تقول كلمة واحدة عن الاقتصاد.
- أؤيد كريستينا سفينسون، قالت كاتارينا فريدن.
- مارغريت يورسُنار.
- عفوك؟
- أنا مارغريت يورسُنار، يا كاتارينا سفينسون.
- أوه! أؤيد مارغريت يورسُنار، تلعثمت كاتارينا فريدن.
- يا إلهي! أرعد رالف لندغرن، ولكن في الرمز دومًا ما نصل إلى أكثر من تأويل، أيها الماخور، الرمز ليس فقط المسألة والحل، بل المسائل والحلول، ثدي جوستين هو النظام الرأسمالي، وسرطان الثدي هو الأزمة المالية.
- كل هذا اقتصاد، اقتصاد، قالت كريستينا سفينسون.
- أؤيد كريستينا سفينسون، قالت كاتارينا فريدن.
- قلنا مارغريت يورسُنار.
- أؤيد مارغريت يورسُنار.
- وماذا تقولان لو أقول لكما إن الرواية كلها دين؟ سأل رالف لندغرن عضوتي هيئة التحكيم بابتسامة تدل على إفحام محدثتيه بالحجج.
- لا، ليس هذا، نفت كاتارينا فريدن، وهي تغلق عينيها بشدة، الرواية كلها وثنية.
- أؤيد كاتارينا فريدن، قالت كريستينا سفينسون.
- نحن على طريق الضياع في صحراء التمثيل الإنساني، رمى رالف لندغرن يائسًا، كل هذه المواضيع ثانوية، وهي تبعدنا عن الجوهر، روعة الرواية بكل ما تحوي من عدم في الألم.
عاد بيتر أكرفيلدت يطرق الباب على هوراس ألفريدسون الذي فتح، فدفعه، ودخل الحمام كالسهم، ثم راح يتبول في كل مكان دون أن يغلق الباب. أول ما لحق هوراس ألفريدسون بالآخرين، قال له رالف لندغرن:
- ثدي جوستين المقطوع الآن دين واقتصاد وسياسة وكل المواضيع الثانوية الأخرى، أما الموضوع الجوهري، الوجودي...
- هناك خمسة طيور في الحمام، رمى هوراس ألفريدسون بشيء من الغطرسة، وهو يشد على المسدس في جيب سترته.
- خمسة طيور؟
- خمسة طيور!
- خمسة طيور؟!
- وهي تتكلم خمس لغات مختلفة، ومع ذلك، تفهم الطيور عم تتكلم.
- هذا لأن الموضوع جوهري وواحد، قال رالف لندغرن.
- بالضبط، أكد هوراس ألفريدسون بشيء من الازدراء، أما نحن الخمسة، فنتكلم لغة واحدة عن مواضيع خمسة ليست جوهرية، لهذا لن نفهم بعضنا، ولن نتفاهم.
عاد هوراس ألفريدسون يشد على المسدس في جيب سترته بشيء من الاستعلاء، ورفع السماعة، وطلب للجميع بيرة، لكن كاتارينا فريدن، بدت مقطبة الوجه:
- الرواية كلها وثنية، كلها أنظمة صنمية، كلها صراعات أو تحالفات بين قوى ميتافيزيقية، ثدي جوستين المقطوع يمثل كل هذه القوى، وهو يتعدد بتعدد أشكالها، إنه ليس نظامًا واحدًا، إنه عدة أنظمة، بعدة سرطانات، وهو كنظام انتخابي في بلدنا، أحزاب الأغلبية سرطانه مقابل أحزاب الأقلية سرطانه الآخر.
- أؤيد كاتارينا فريدن، قالت كريستينا سفينسون، وأضيف أن هذا فيما يخص كل شيء السينما المسرح الرسم النحت الرقص الأغنية الضرب بالملاعق على أقفية الطناجر، يعني موسيقى اليوم، كلها ثدي جوستين المقطوع بسرطانه، فلنقل أثداء جوستين المقطوعة بسرطاناتها.
نفخ رالف لندغرن يائسًا:
- أنقذني بالله عليك، يا ألفريدسون!
ضحك هوراس ألفريدسون دون أن يخلع ثوب الغطرسة:
- التصور الثالث، السخيف...
قاطعته كريستينا سفينسون:
- السخيف!
- معذرة! أريد القول الأهوج.
- الأهوج!
- الأحمق.
- الأحمق!
- هذا التصور الثالث لا يضع الفنجان على صحنه بل جانبًا. الفنجان، الذي هو ثدي جوستين، ما تدعوه الأستاذتان الجامعيتان "الأنظمة"، ليس التعبير الخارجي، التعبير المغترب للروح، وليس الخاصية المؤدية إلى الكونية. ثدي جوستين المقطوع يبقى مع ذلك معلقًا، إنه العدم دون روح.
- وبكلام آخر، قال رالف لندغرن، ثدي جوستين ثلاثة، ثدي جوستين، وثدي جوستين، وثدي جوستين.
ضحك أستاذ الفلسفة:
- أشكرك على الصورة!
أوضح الأستاذ في علم اللاهوت:
- الفكرة معبرًا عنها، والظاهرة معبرًا عنها، والظاهرة والفكرة – هنا كلتاهما واحدة - غير معبر عنهما. في هذه الحالة الأخيرة ما أدعوه بالموضوع الخام.
- كل المواضيع كما تراها فريدن وسفينسون، قال هوراس ألفريدسون. ليست كتعبير مادي، ليست كتعبير رباني.
- لم أكن أعلم أنك وثني أنت أيضًا، أيها الفيلسوف، رمت كاتارينا فريدن.
- أنا فيلسوف بدون بطاقة، رد هوراس ألفريدسون.
- بل ببطاقة، أكدت كريستينا سفينسون.
- لم أنته بعد من عرض وجهة نظري، قال هوراس سفينسون مفكرًا. ثدي جوستين المقطوع ليس الفكرة عندما تغترب عن نفسها، وليس الظاهرة عندما تغدو اغترابًا، ثدي جوستين المقطوع هو التمثيل الأدبي لاغتراب الإنسان، إنه ذاتنا وقد غدت شيئًا آخر، وهو لهذا السبب من القوة كاستعارة، يجعلنا لا نرى فيه أنفسنا، ولكنه يرينا أنفسنا. أما الرواية، فهي تنطلق من جانب مفقود لدى ساد، وتقيم عليه كل البنى الفكرية والخيالية، إنها إبداع الناقص، بمعنى الكامل فلسفيًا.
- وماذا عن كاتبها؟ سألت كريستينا سفينسون.
- ألبير رامو... إنه صائد الأحلام، أجاب هوراس ألفريدسون، وفي كلماته ترن نبرة الإعجاب.
- ومثله الأعلى؟ رمت كاتارينا فريدن، وهي تغلق عينيها بشدة. هل قلت مثله الأعلى؟ نعم، ومثله الأعلى؟
- الإنسانية، قال هوراس ألفريدسون ورالف لندغرن بصوت واحد.
بعد ذلك، حل صمت عميق، وطويل، وثقيل، صمت رصاصي سقط على أكتافهم، فجعلهم يجلسون هنا وهناك مبعثرين، حائرين، قلقين. لم ينظروا إلى بعضهم، لم ينظروا إلى أنفسهم، ولم تكن ظلال لهم يختبئون خلفها. تناول هوراس ألفريدسون تفاحة من جاط تفاح أحمر كبير متروك إلى جانب، وقضمها، وبعد ذلك اتجه نحو الراديو، وفتحه على أغنية قديمة لأبا أخذ يغني معها، وهو يقضم تفاحته. ألقى التفاحة كيفما اتفق، وأخذ كريستينا سفينسون بين ذراعيه، فراقصته، وهي تضحك، بينما رالف لندغرن وكاتارينا فريدن يجمدان كحجرين.
- تعالا، نادى هوراس ألفريدسون، تعالا ارقصا، تعالا، يا لندغرن ويا فريدن، تعالا، فلنستعد لحظة شيخة من شبابنا!
أخذ أربعتهم يرقصون ويغنون ويضحكون، خرج بيتر أكرفيلدت من الحمام على أصواتهم، نقل التفاحة التي رماها هوراس ألفريدسون بيده، وقضمها، ثم ألقاها بدوره كيفما اتفق، وبدأ بالرقص وحده، كما لو كانوا غير موجودين بالنسبة له. أخذ يتحرك كالتفاحة الميكانيكية، وهم يضحكون عليه. استلقى على السجادة، وأخذ يلف على نفسه كالتفاحة الميكانيكية، غير مبال بضحكهم. بقوا هكذا مع صخبهم، إلى أن سمعوا طرقًا عنيفًا على الباب. فتحوا لخادم الغرف معتذرين، تناولوا قناني البيرة مقابل بعض الكورونات، وعادوا يرقصون ويغنون ويضحكون وهم يجرعون البيرة من أفواه قنانيهم.
فجأة، قرعت تلفوناتهم المحمولة كلها في وقت واحد، فأوقفوا الموسيقى، وأخذ كل واحد يبحث عن تلفونه بيد مرتبكة:
- آلو.
- آلو.
- آلو.
- آلو.
- آلو.
- أنا كاتارينا فريدن.
- نعم، لندغرن، رالف لندغرن.
- كيف؟ هو بعينه، هوراس ألفريدسون.
- آلو، آلو... ساشينا؟ آلو، آلو، آلو، ساشيناتي؟...
- مارغريت يورسُنار؟ هي بعينها.
قال الصوت في آذانهم جميعًا:
- نحذركم!
وانقطع الخط.
- فَكْيُو!
- سأنيك أمك!
- سأنيك أختك!
- سأنيك أباك!
- سأنيك ربك!
أعاد كل واحد هاتفه إلى المكان الذي كان فيه، وبقوا حيارى.
- لم يكن الصوت غريبًا عني.
- كأنه صوت ساشينا، ساشيناتي، أُخَيتي.
- لم يكن الصوت صوت امرأة.
- ساشيناتي.
- أليسه أوسكار كاستنفيلت؟
- لم يكن الصوت غريبًا عني.
- من يكون؟
- لم يكن الصوت غريبًا عني.
- نحذركم، قال الصوت نحذركم.
- ساشينا، ساشيناتي.
- نحذركم.
- قال نحذركم.
- قال نحذركم كلكم.
- لا، قال نحذركم، ولم يقل نحذركم كلكم.
- قال نحذركم.
- ساشيناتي.
- قال نحذركم، نحذركم.
- قال نحذركم مرة واحدة. نحذركم.
- مرة واحدة.
- قال نحذركم مرة واحدة.
- نحذركم.
- ساشينا، ساشيناتي.
- قال نحذركم. لم يقل أحذركم.
- لم يقل أحذركم. قال نحذركم.
- لم يقل أحذركم.
- ساشيناتي، ساشيناتي، ساشيناتي.
- قال نحذركم.
- نحذركم.
- ساشينا، ساشيناتي.
فتح بيتر أكرفيلدت الحاسوب ليقرأ إيميلاته، عشرات الإيميلات: نحذركم، نحذركم، نحذركم... علب رسائلهم الإلكترونية: نحذركم، نحذركم، نحذركم... علب رسائلهم الإلكترونية كلهم: نحذركم، نحذركم، نحذركم... ترامت كاتارينا فريدن بين ذراعي بيتر أكرفيلدت سعيًا من وراء بعض الحنان، كانت لها سحنة المفجوع، وبدا القلق يعشش في كل زاوية من زوايا وجهها. كانت مسكونة بالقلق واليأس، ولم يكن بيتر أكرفيلدت في حال أحسن، كان يعاني من تقلص عضلي لا إرادي، كل عضلة من عضلات ذراعيه اللتين تلفان كاتارينا فريدن كانت تنقبض، وكان التشنج يزحف على وجهه بأصابعه اللامرئية، فيبدو كمن يُعتصر بين أصابع أخطبوط أهوج. راحت كريستينا سفينسون تكشف عن ثدييها وفخذيها، وتغني مقلدة ماريلين مونرو في حركاتها: آي وُنت تو بي لَف أُن يو... لكنها لم تنجح في إغراء الرجلين الآخرين. كانا هما أيضًا يعانيان من أزمة اكتزاز، أزمة انقباض، أزمة انقباض مستمر. على مرآهما، استولى على كريستينا سفينسون الهلع، فأخذتهما بين ذراعيها، وذهبت بهما إلى السرير الضخم، جعلتهما يستلقيان الواحد إلى جانب الآخر، ثم سارعت إلى الحمام، أغلقت عليها الباب، وأخذت تقيء. قاءت في كل مكان، وهي تنحني، وهي تجثم على الأرض، وهي ترفع رأسها، وهي تعود وتنحني، وتجثم على الأرض، وترفع رأسها. بعد عدة دقائق، قامت، وغسلت وجهها. تأملت وجهها في المرآة، ابتسمت الأخرى لها، ولم تبتسم. عندما عادت إلى الجناح وجدت الأربعة، كاتارينا فريدن وبيتر أكرفيلدت من طرف، ورالف لندغرن وهوراس ألفريدسون من طرف، يلعبون البنغ بونغ، ويصيحون، وهم في كامل التهلل. ذهبت إلى التلفزيون، وفتحته. لم يكن هناك ما يستحق المشاهدة. أقفلت التلفزيون، وطلبت كاتارينا فريدن على هاتفها المحمول، بقي الهاتف يرن في جيب كاتارينا فريدن، يرن، يرن، وأربعتهم يسمع، ولا أحد يبالي بالرنين. راحت تتجول في الجناح، فاكتشفت في قرنة ثلاجة صغيرة ملأى بالأكل والبيرة. نقلت قنينة بيرة، وفتحتها. شربت من فوهتها، وهي تفكر أنهم يتآمرون عليها، وهم لهذا يعزلونها. عادت إلى الحمام، وجلست على حافة البانيو. لم تدر كيف سقطت قنينة البيرة من يدها، فدقها الرعب، وانفجرت باكية.




القسم الثامن
التحكيم

لم يكن أحد من أعضاء هيئة التحكيم جالسًا حول الطاولة المستديرة، كان عليها الجاط الكبير للتفاح الأحمر إلى جانب مزهرية كبيرة فيها باقة من الورد الأصفر. وقف بيتر أكرفيلدت ينظر إلى الليل من النافذة بينما استلقى هوراس ألفريدسون على السرير الضخم، وجلس رالف لندغرن على كرسي مقابل كاتارينا فريدن، وهناك على الكنبة جلست كريستينا سفينسون، وهي تقلب كتاب ألبير رامو بيد عصبية. انفجر بيتر أكرفيلدت يضحك فجأة، وصمت فجأة. داومت كريستينا سفينسون على تقليب الكتاب، وانتهى بها الأمر إلى قذفه جانبًا، ثم سحلت بنصفها السفلي حتى لامس رأسها قعر الكنبة.
- بعد قتل زوجي لنفسه، وذهابه عني إلى الأبد، ذهبت عني الدورة الشهرية، اعترفت كريستينا سفينسون.
- هل هو سن انقطاع الطمث عندك، يا كريستينا سفينسون؟ سأل هوراس ألفريدسون.
- ربما، ولكن لماذا مباشرة بعد قتل زوجي لنفسه؟
- الأرواح المعذبة يكفيها أقل صدمة.
- الأرواح الحساسة، تريد القول.
- لنقل الأرواح، لكل روح طريقتها في التعبير عن هولها.
- هذا إذا ما كان الهول كما نراه في الحياة.
- في القصص. كما نراه في القصص.
في غضون ذلك، تكون كاتارينا فريدن قد ذهبت قرب بيتر أكرفيلدت، وأخذت تنظر من النافذة إلى الليل مثله، بينما جاء رالف لندغرن، وجلس إلى جانب كريستينا سفينسون على الكنبة.
- حقًا هول جوستين بسرطان ثديها أعظم هول، همهم رالف لندغرن، وكاتارينا فريدن ترفع يدها إلى ثديها، وتضغط عليه.
- عندما كانت جوستين بنتًا في العاشرة من عمرها لم يكن لها ثدي، همهم بيتر أكرفيلدت.
- كان لها ثدي دون أن تراه أو تحس به، قال هوراس ألفريدسون، وهو يجلس على حافة السرير. وعندما وقعت عليه عيناها لأول مرة، كان ثديها بقدر حبة الكمثرى. الظاهر لم يعد وهمًا تمامًا كعالمنا.
- اخرس! نبرت كاتارينا فريدن بِغُلّ وهي تضغط على ثديها، وتكاد تختنق. اخرس! اخرس! عالمنا لم يكن أبدًا وهمًا!
اعتمدت على كتف بيتر أكرفيلدت، فوضع هذا يده فوق يدها الضاغطة على ثديها، وأخذ يضغطه معها. اعتدلت كريستينا سفينسون في جلستها، فأخذ رالف لندغرن يدها بين يديه، وقال لها:
- كاتارينا فريدن لا تعلم أن الظاهر خادع وعلينا أن نبرهن على ذلك بذبح أرواحنا. ذبح أرواحنا. هكذا تكون أعمارنا. بذبح أرواحنا. من هنا جاءت كل تعاسات جوستين، وما تعاستها الأخيرة، تعاستها المنسية، سوى لحظتها الأساسية، لحظة جوهرها الأساسية، هل أقول اللحظة الأساسية للجوهر؟ لحظة أساسية أدركتها جوستين.

طرقت جوستين باب الدير طرقات عديدة متواصلة، وفي الأخير فتح القس، وفحص جوستين من قمة الرأس إلى أخمص القدم قبل أن يدخلها، ويوصد الباب من ورائها بالمفتاح. قال لها:
- كنا جميعًا بانتظارك.
لم تفهم جوستين في البداية، وعندما وقعت عيناها على كل تلك الوجوه الفاسقة لقساوسة الدير الآخرين، أدركت المصير الذي ينتظرها.

- أو بكلام آخر، قال رالف لندغرن، ذبحت روحها، برهنت على أن الظاهر كان خادعًا.
- عالم رديء وبائد، همهم هوراس ألفريدسون، وهو يقوم ليقعد على كرسي، كرالف لندغرن، مقابل كريستينا سفينسون.
دفعتهما كريستينا سفينسون عنها بعيدًا، ونهضت لاهثة.
- ابتعدا عني، أرعدت، أنتما تخنقانني!

- سأقوم بكل ما تريد القيام به مع ابنتك، همهمت جوستين بين يدي الأب الوغد، فقط وفر عليها عذاباتها.
- وماذا يضمن لي أنك ستفعلين؟ سأل الأب الوغد.
- أنت لن تصدقني إذا ما حلفت لك.
- لا، لن أصدقك.
- هل تصدقني إذا ما قلت لك إن لي ثديًا مريضًا.
- وماذا يعني هذا أن لك ثديًا مريضًا؟
- يعني هذا أنني إذا ما لم أقطعه كان مصيري الموت، وأنا لن أقطعه، فافعل فيّ كل ما تشاء.

انفجرت كاتارينا فريدن باكية، فقهقه بيتر أكرفيلدت، لكنها انقضت عليه، وراحت به صفعًا إلى أن توقف عن القهقهة، انحنت على نفسها، وجثمت على الأرض، وبدأت بالعواء، وبيتر أكرفيلدت يصرخ: ساشينا! ساشيناتي! ثم قالت دفعة واحدة:
- كان عليّ أن أذهب إلى الكنيسة كل أحد مع أمي وزوج أمي لأن الخوري طلب من أمي وزوج أمي أن يصطحباني معهما ولأن قداس الأحد شيء كالضماد للجراح، وأنا جراحي كانت كثيرة غير محتملة، أعوض عنها بجراح أخرى أكثر، فأكثر، جراح أخرى، وأخرى، جراح حمراء وخضراء وخبازية، جراح من كل لون، جراح كانت ديني، لا علاقة لها بالوهم، كانت كلها جراح حقيقية، من غير دم هذا صحيح، لكنها كانت كلها حقيقية، وكنت أذهب بجراحي إلى كل مكان، فأصبح للعالم ألوان جراحي، لم يكن ذلك وهمًا، أصبح للعالم ألوان جراحي، ألوان جراحي، للعالم، أصبح للعالم ألوان جراحي، جراح لونها خبازيّ، لونها أخضر أو أحمر أو بنيّ، لهذا، الثلج في ستوكهولم لونه خبازيّ أو أخضر أو أحمر أو بنيّ، لا لون له.

- يا سيدتي، هل تريدينني أن أمارس الفسق مع كل هؤلاء الأوغاد؟ سألت جوستين السيدة النبيلة التي هي في عهدتها.
- معهم كلهم دون أي استثناء، أكدت السيدة النبيلة.
- وجسدي كيف أهبه لهم؟
- تهبينه لهم كله كما هو.
- حتى ثديي كما هو؟
- حتى ثديك كما هو.
كانت جوستين قد انفجرت باكية، فسألتها السيدة النبيلة:
- لماذا تبكين، يا جوستين؟ من لهنّ الحظ مثلك على معاشرة كل هذه النخبة من الأرستقراطيين لكنّ أسعد النساء في العالم.
- لا لشيء، يا سيدتي.
كشفت السيدة النبيلة عن ثديي جوستين، وقبلتهما من حلمتيهما، وهي تقول:
- حلمتك حبة عنب أسود دون أن تكون، وحبة كرز أبيض دون أن تكون، وحبة زيتون ذهبيّ دون أن تكون، ومنقارٌ هي حلمتك، ومخلبٌ هي حلمتك، ونابُ ثعبانٍ هي حلمتك.

همهم هوراس ألفريدسون، وهو يخرج مسدسه من جيب سترته، ويداعب أنبوبته:
- ورصاصةٌ هي حلمتك، نضغط هنا، فتخرج من هنا، فيسقط أحدهم قتيلاً، وفقط. لا خداع هناك، ولكن في الفعل كل التراجيديا، لا تقليد شكلي للطبيعة، ولكن كل روعة الأعمال الخالدة.
وراح يضع فوهة المسدس في رأسه، ويتظاهر بإطلاق النار، وفي فمه، وتحت ذقنه، وفي قلبه، وفي بطنه، وبين فخذيه، فانفجر بيتر أكرفيلدت يبكي، ويردد:
- ساشينا، ساشيناتي... سأقول لماما كل شيء، قال دافيد. لا تقل لماما كل شيء، رجته ساشينا. كل شيء، سأقول لماما كل شيء، قال دافيد. لا تقل لماما كل شيء، دافيد، لا تقل لماما كل شيء، رجته ساشينا أيضًا وأيضًا. سأقول لماما، سأقول لماما. لا تقل لماما، لا تقل لماما. سأقول لماما كل شيء. لا تقل لماما كل شيء. سأقول لماما. لا تقل لماما. سأقول لها. لا تقل لها. سأقول لها كل شيء. لا تقل لها كل شيء. لماما، لماما، سأقول لماما. لماما، لماما، لا تقل لماما. سأقول لماما، سأقول لماما، سأقول لماما. لا تقل لماما، لا تقل لماما، لا تقل لماما. سأقول لماما كل شيء، كل شيء، كل شيء، سأقول لماما كل شيء. لا تقل لماما كل شيء، كل شيء، كل شيء، لا تقل لماما كل شيء.
كان العالم غير كامل، كل شيء، كل شيء، كل شيء، لم يكن كل شيء كاملاً، ولم يكن مستقرًا.

- سأدعك وشأنك، يا جوستين، قال الفلاح الكريه للفتاة المشردة، وبعد أن سكت قليلاً، أضاف، هذا لأنك مريضة.
لكنه أخذ ثديها المريض بين أسنانه، وراح يلوكه، وراح يلوكه، وراح يحاول قطعه، وجوستين تصرخ من شدة العذاب. وبعد أن يئس من قطعه، همهم الفلاح الوغد:
- كانت آخر محاولة لي كي أحتفظ بك.
بدأ الفلاح الوغد يبكي، كان لديه إحساس بفقدان كل ما يملك، أرضه لم تعد ذات قيمة، حياته، فصل الشتاء، ولم يكن هذا وحده ما يدفعه إلى البكاء، كان لديه إحساس بفقدان كل ما يكونه، ذاته لم تعد شيئًا من الأشياء، جوهره، كل ما ورثه من أخلاق.

لوّح هوراس ألفريدسون بالمسدس، ونبر:
- هذا هو جوهرنا، وهذه هي ذاتنا، وهذه هي أخلاقنا، لكنها تبقى كلها دون معنى إلى أن نطلق ويسقط أحدهم، دون ضحية لا طعم للحياة.
تناول رالف لندغرن المسدس من يد صاحبه، وراح يصوبه إليهم واحدًا واحدًا، وهم من الخوف يصرخون، ويخبئون أنفسهم، وفي الأخير همهم:
- بعد ذلك، لن تكون محاولتي الأخيرة.
أعاد المسدس لهوراس ألفريدسون، فوضعه في جيب سترته، والعالم اللاهوتي يقول:
- لن يغدو الأمر أكثر من التضحية الفردية من أجل الوصول إلى التمام، تمام الفرد، وامتلاك سمائه. جوستين من هذا النوع، لكن كل شيء غدا معطلاً لديها، عندما عرفت بسرطان ثديها. كانت كل تعاساتها نوعًا من التضحية الفردية، كل الوحوش التي التهمتها كان التهامها لها ميتافيزيقيًا، لهذا لم تشبع من الوليمة التي كانتها جوستين، حبيبتي جوستين. كم من مرة خَرَجَت تحت سماء ستوكهولم الصقيعية وتعود عندي كي أدفئها. هل البرد شديد جدًا كما هو عادته؟ إذن لماذا تخرجين عارية الصدر، يا حبيبتي؟ تعالي كي أغطي لك ثديك الوحيد، تعالي جوستين، تعالي بين ذراعيّ، لا تتركي ثديك الأوحد طليقًا هكذا، ربما اختطفه لك أحدهم، فماذا سيبقى لك؟ ثديك الوحيد، ثديك الجميل، وثديك الثاني، ثديك المقطوع، الموجود فقط في الخيال، أجمل ثدي في الوجود. ثديك الأجدع، ثديك الإله، إله الرعد ثديك، يقطع العالم في عربة، وبقدومه يدق البرق، فيدرأ المفاسد، ويحول دون التعاسات. اتركي ثديك المقطوع يأتي بالمطر، وتعالي جوستين بثديك الآخر إليّ، لا تتركيه طليقًا هكذا، فيغير منه الحمام، ويغدو شرسًا. لا تتركيني، يا حبيبتي. تعالي تغطينني بثديك الوحيد، تعالي جوستين، أشعر بالبرد، برد ستوكهولم ساحق، برد ستوكهولم لا برد بعده ولا برد قبله، برد ستوكهولم الجحيم، خذيني بين ذراعيك، وغطيني بثديك الجميل، اجعليني جميلاً كما كنت، واعطفي عليّ، لا تتركيني وحدي عليلاً مقطوعًا مضيعًا في الأرض الخراب.
كانت كريستينا سفينسون كمن اخترق عالمًا ضائع الحدود، كانت تنظر من حولها، ولا ترى أحدًا:
- جاءوني من كل جهة، من الشرق ومن الغرب ومن الشمال ومن الجنوب، جاءوني ليقتلوا شهوتهم فيّ، كل البرابرة جاءوني، وكل المتحضرين جاءوني، جاءوني لأن الذنب ذنبي، ولأني لم أدرك كيف أتصرف معهم. كان جسدي لهم هدفًا، ولم يكن جسدي طيعًا، ليس لأنه كان قادرًا على رفضهم، ولكن لأنه كان باردًا. كان كجسد ستوكهولم باردًا، كشمس ستوكهولم، كقمر ستوكهولم. كان جسدي باردًا بين أصابعهم، كان قد غدا باردًا منذ وقت طويل، منذ ما قبل أن يقتل زوجي نفسه. كان جسدي باردًا كأجساد القطط الميتة، فبدأوا بالانتقام من جسدي البارد ومن كل القطط الميتة. لم يكتفوا بإفراغ بنادقهم في ثديي، لم أكن أصرخ، كانوا يفرغون بنادقهم في ثديي، وأنا أشاهدهم صامتة. كنت أنظر إلى وجوههم، كانوا كلهم خائفين، لهذا أفرغوا كل بنادقهم في ثديي. كانوا يعتقدون أنه ثدي جوستين، لهذا أفرغوا كل بنادقهم في ثديي، وأنا كنت أنظر إلى وجوههم. لم أقل لهم لست جوستين، تركتهم يفعلون. كانت تنبعث عنهم رائحة المني، كما لو كانوا يضاجعون جوستين، وكانوا يفرغون بنادقهم في ثديي، وهم يلهثون. كما لو كانوا يقذفون فيّ، وهم لهذا كانوا يلهثون، ويكادون يلفظون أنفاسهم الأخيرة: كانت لذتهم قد وصلت أقصاها، وكان ثديي لم يزل حيًا على الرغم من مئات الطلقات. كان يقفز كالطفل، ولم يلبث ثديي أن هرب، فلحقته، وأجبرته على العودة، فعادوا يفرغون فيه بنادقهم بعد أن عبأوها، وبقوا هكذا طوال الليل، وثديي لم يزل حيًا. كان ثديي يرهب قاتليه، وكان قاتلوه يمتعهم ذلك، لهذا أمضوا الليل، وهم يطلقون النار عليه، وهم يضاجعونه...
ذهبت كريستينا سفينسون إلى الثلاجة الصغيرة في القرنة هناك، وأحضرت خمس قناني بيرة، وزعت أربعًا، واحتفظت بواحدة:
- ثم جاء دور بطني، كانوا يشتهون بطني بكل الرغبة التي أرادوا فيها ثديي، فأطلقوا عليه، وأفرغوا كل بنادقهم. رأيتهم، وهم يلهثون من التعب. كان خوفهم قد ذهب، لكن تعبهم بقي إلى الأبد، تعب أمة بأكملها كان تعبهم، وكانوا ضائعين، ضياع أمة بأكملها كان ضياعهم، ولم يتوقفوا عن إفراغ بنادقهم في بطني، بطني الأملس كرمل الثلج، وبقي بطني أملس على الرغم من كل الرصاصات التي أطلقوها. كانوا ينادونني، وهم يفرغون بنادقهم في بطني، كانوا يقولون لي تعالي، يا جوستين، لماذا لا تأتين لتأخذي بطنك، بطنك الأملس من كل رمل الثلج يهلكنا، لم يعد لدينا الكثير من الطلقات، تعالي، يا جوستين، تعالي، يا جوستين، تعالي إلى قاتليك، يا جوستين، تعالي يا جوستين، لكنني لم أذهب...
حمل بيتر أكرفيلدت جاط التفاح الأحمر، وذهب ليلعب به لعبة الطابات الحديدية.
- ثم جاء دور فخذيّ، أطلقوا عليهما النار، وفخذاي تقهقهان، كانتا تقهقهان، كانت فخذاي تقهقهان، مما جننهم، فأطلقوا معظم الرصاص الذي في بنادقهم. ولم يكتفوا بذلك، راحوا بفخذيّ ضربًا بأعقاب بنادقهم، بينما ظلت فخذاي تقهقهان، وأنا، لم أستطع فعل أي شيء لإيقافهما. كانتا تقهقهان كمن يدغدغهما الشيطان، وكل الوحوش الذين عرفتهم جوستين يطلقون على فخذيّ رصاصهم. فرغت بنادقهم، ولم يعد لديهم ما يعبئونها به من رصاص، فراحوا بهما ضربًا بأعقابها من جديد حتى تحطمت بنادقهم، وعند ذلك، توقفت فخذاي عن القهقهة، وأخذتا تبكيان، وتصرخان، وتناديان، فلم يلب أحد في العالم النداء.
لفتها كاتارينا فريدن بذراعها، وذهبت بها إلى السرير الضخم، بينما التحق هوراس ألفريدسون ورالف لندغرن ببيتر أكرفيلدت، وأخذا يلعبان معه بالتفاح لعبة الطابات الحديدية. همست كاتارينا فريدن في أذن كريستينا ألفريدسون بضع كلمات جعلتها تضحك، وتهز رأسها علامة الموافقة، فأخذت الأولى تخلع ثياب الثانية حتى عرتها تمامًا. مددتها على السرير، وجاءت بباقة الورد الأصفر، أخذت تقطع التويجات، وتزينها: شعرها، جبينها، حلمتيها، بطنها، فخذيها، ساقيها، قدميها. صوّرتها بهاتفها المحمول عشرات الصور، ثم خلعت هي الأخرى ملابسها، وتركت كريستينا سفينسون تزينها كما زينتها، وتصورها كما صورتها. جلست الاثنتان الواحدة إلى جانب الأخرى، وأمسكت كل منهما بحلمة الثانية، وراحتا بنفسيهما تصويرًا، وهما تكركران. دفعت الواحدة الثانية على ظهرها، وامتطتها، وهي تأخذ لها الصور اللامتناهية، ثم وقفتا وجهًا لوجه على السرير، وعادتا إلى التصوير، وهما تكركران دومًا، إلى أن أعياهما ذلك. ترامتا على بطنهما، الواحدة إلى جانب الأخرى، وذهبتا في رحلة استعراضية لكل اللقطات. تبادلتا الهاتفين، وهما لا تكفان عن الكركرة، إلى أن جمدت كاتارينا فريدن فجأة على صورة لثدييها، ثدي يشرئب إلى أعلى قليلاً أكثر، وثدي يبحث في الأرض عن شيء أضاعه.
أوقف الرجال الثلاثة لَعِبَهُم على مرأى كاتارينا فريدن، وهي تذرف الدموع الحرى، وجاءوا ليقفوا على الأمر. عندما رأوا الصورة المرعبة، بقوا في أماكنهم ذاهلين. ألبسوا كاتارينا فريدن ثيابها، ثم ألبسوا كريستينا سفينسون ثيابها، وعادوا يهبطون سويًا سلالم الجحيم.











القسم التاسع
الجائزة

في الصباح، كانت كاتارينا فريدن تنام، وهي ترتفع بوسطها على ذراع الكنبة مادة رجليها حتى ذراع الكنبة الأخرى، ورأسها منقلب إلى الوراء، وكان بيتر أكرفيلدت ينام جالسًا على طرف الكنبة، وهو يضع خده على ثديها المريض، بينما ينام رالف لندغرن خلف الطاولة المستديرة، وهو يدفن وجهه في الكتاب المفتوح على دفتيه لألبير رامو. في السرير الضخم، كان هوراس ألفريدسون ينام بحذائه، وقد جعل من مسدسه مخدته، وبشكل معاكس، كانت كريستينا سفينسون تنام بحذائها في السرير نفسه، وقد جعلت من تويجات الزهر مخدتها، بينما بقيت عيناها مفتوحتين. رن منبه هاتف أحدهم دون أن يتحرك أحد، وبعد قليل الثاني، فتحرك واحد أو اثنان، وبعد قليل القليل الثالث، فتحرك الكل، وبعد قليل قليل القليل الرابع والخامس في وقت واحد، ففتح الأربعة عيونهم في الوقت الذي أغلقت فيه كريستينا سفينسون عينيها. بعد صالة الحمام التي ذهبوا إليها كلهم معًا، طلب هوراس ألفريدسون الفطور للجميع، وما هي سوى بضع دقائق حتى جاء خادم الغرف بعربة الأكل. أعطاه هوراس ألفريدسون بعض الكورونات قبل أن يصرفه، وبدأوا بتناول فطورهم دون أن ينبسوا ببنت شفة.
لم يأكلوا بوفرة كما هي عادتهم، قام رالف لندغرن إلى خزانة زجاجية، وأخرج منها علبة سيجارات، وعلبة كبريت، وورق لعب. أخذ مكانًا من وراء الطاولة المستديرة، وبعد أن أشعل سيجارًا، أخذ يخلط أوراق اللعب دون أن ينظر إلى أحد. لحقت به كاتارينا فريدن، ثم كريستينا سفينسون، وأشعلت كل منهما لنفسها سيجارًا. أخرج بيتر أكرفيلدت من الخزانة المزججة قبعة كاوبوي وضعها على رأسه، وأخذ مكانًا من حول الطاولة المستديرة. أشعل هو الآخر سيجارًا، ووضع كل ما في جيبه من نقود، وكذلك فعل الآخرون، وبدأ رالف لندغرن بتوزيع أوراق اللعب.
في غضون ذلك، ذهب هوراس ألفريدسون إلى الثلاجة الصغيرة، وأحضر لكل واحد قنينة بيرة، جرع بيرته من فوهة القنينة، وأخذ مكانًا بينهم، وبعد أن أشعل لنفسه سيجارًا، وضع كل ما في جيبه من نقود أمامه، والمسدس وضعه في الوسط، فوهته باتجاه رالف لندغرن التي أزاحها باتجاه كاتارينا فريدن، وبدورها أزاحتها باتجاه كريستينا سفينسون، وبدورها هي الأخرى أزاحتها باتجاه بيتر أكرفيلدت، وبدوره هو الآخر أزاحها باتجاه هوراس ألفريدسون، فأعاد هذا الأخير المسدس إلى جيبه. بدأوا يلعبون البوكر، فخسرت الأستاذتان الأكاديميتان والصحفي، بينما استمرت اللعبة بين العالم اللاهوتي والفيلسوف. وعندما ربح العالم اللاهوتي، أخرج الفيلسوف مسدسه، وراح به تهديدًا. أطلق الثلاثة الخاسرون صرخة، وتخبأوا تحت الطاولة المستديرة.

* * *

- ماذا تريدان أن أفعل من أجلكما، يا سيدتيّ، سأل بيتر أكرفيلدت كاتارينا فريدن وكريستينا سفينسون، وهو يعيد قبعته إلى الخزانة المزججة، ويخرج منها سماعة الطبيب.
- أنا لي ثدي معطوب، دكتور، همهمت كاتارينا فريدن، وهي...
- أنا مصابة بالبرودة الجنسية، دكتور، همهمت كريستينا سفينسون.
جعل بيتر أكرفيلدت كاتارينا فريدن تتمدد على الكنبة، وكشف عن ثديها المريض، وبسماعته أخذ يسمع دقاته. جعلها تجلس، وبيده راح يمسس ثديها بطريقة أقرب إلى المداعبة، وهو يبالغ في ذلك، مما أهاج كاتارينا فريدن تحت النظرة الباردة لكريستينا سفينسون. أخيرًا قال بيتر أكرفيلدت:
- هذا لا شيء، يجب قطعه.
استدار إلى كريستينا سفينسون، وقال:
- الآن دورك، يا سيدتي.
دفع كاتارينا فريدن، فكادت تسقط على الأرض، وجعل كريستينا سفينسون تتمدد على الكنبة. كشف عن فخذيها، وبسماعته أخذ يسمع دقات فرجها. وما لبث أن أدخل يده في سروالها القصير، وبأصابعه راح يمسسها، راح يمسسها، راح يمسسها، دون أن يبدر عنها أي رد فعل.
- هذا لا شيء، يجب قطعه.
كانت كاتارينا فريدن قد ذهبت إلى حيث رالف لندغرن وهوراس ألفريدسون يتمددان بنصفهما السفلي في السرير الضخم، وفي حضنهما الحاسوب.
- تذكرة واحدة إلى لابوني، يا سيدتي؟ سأل رالف لندغرن.
- تذكرتان، قالت كاتارينا فريدن، وهي تشير بيدها إلى كريستينا سفينسون القادمة من ورائها.
- تريد تذكرتين، همس رالف لندغرن في أذن هوراس ألفريدسون، وهما يضحكان لبعضهما.
- درجة أولى، يا سيدتي؟ عاد رالف لندغرن يسأل، وهو يضرب على الملامس.
- درجة أولى، أكدت كاتارينا فريدن.
- تريد درجة أولى، همس رالف لندغرن في أذن هوراس ألفريدسون، وهما يضحكان لبعضهما.
بعد قليل من البحث:
- في قطار اليوم لا مكان في الدرجة الأولى، يا سيدتي، قال رالف لندغرن، وهو يضرب على الملامس، فخلصه هوراس ألفريدسون إياها، وراح يضرب عليها بعصبية.
- بل هناك مكانان في الدرجة الأولى، هتف هوراس ألفريدسون، وهو يمد لسانه ساخرًا برالف لندغرن، المكانان الأخيران في قطار اليوم.
- حسنًا، قالت كاتارينا فريدن، وفي اللحظة التي وصلت فيها كريستينا سفينسون قالت لها: هناك مكانان في الدرجة الأولى في قطار اليوم، فلم يبد على وجه كريستينا سفينسون أي رد فعل.
- المكانان الأخيران، أكد هوراس ألفريدسون.
- يا له من حظ! هتف رالف لندغرن، وهو يجذب الحاسوب من بين يدي هوراس ألفريدسون، اليوم في الدرجة الأولى سيتم عرض فيلم "ذهب مع الريح"، بوف! بوف! وانفجر هو وزميله يضحكان، بوف! بوف! ويميلان على بعضهما، ويتعانقان بساقيهما، بوف! بوف! ويطبعان على شفتيهما قبلة خفيفة.
صعد بيتر أكرفيلدت على كرسي، وأخذ يخطب:
- أكثر العواصف شدة قادمة، وأنا رجلها، لن يقف في وجهها أحد غيري، في كل السويد لا أحد أشد مني عزمًا على مواجهتها، لأني أحب السويد، ولأني أكثر السويديين قدرة واستطاعة. انظروا إلى بحر البلطيق تقعون على صورتي، لأني كسمك البلطيق أكثر السمك حيويةً وبياضًا، وانظروا إلى مرايا الجليد تقعون على صورتي، لأني كآلهة الفيكنغ، أكثر الآلهة حنانًا وتحننًا، وانظروا إلى جدائل الذهب تقعون على صورتي، لأني كشعر سِيف، أكثر المعادن قيمةً وغلاءً...
كان رالف لندغرن وكاتارينا فريدن وكريستينا سفينسون قد جاءوا يحيطون ببيتر أكرفيلدت الذي أخذ يصرخ بنبرة هتلرية وغرته تتساقط على جبينه:
- أنا أكثر العواصف القادمة شدة، لن يصمد في وجهي أحد، في كل السويد لا أحد أشد مني عزمًا، لأني أحب السويد، ولأني أكثر السويديين قدرة واستطاعة. انظروا إلى بحر البلطيق تقعون على صورتي، وانظروا إلى مرايا الجليد تقعون على صورتي، وانظروا إلى جدائل الذهب تقعون على صورتي. جدائل الحب، جدائل الموت. المرأة السويدية. المرأة الذهبية. المرأة الجليدية. البيضاء. الشقراء. المحولة. المجننة بفتنتها. المدمرة بوهميتها. المجبرة على الشيزوفرينية. بجمالها. بخرائها. بألوهيتها. البيضاء. الشقراء. الجوستينية. جوستين من عندنا، بكل سعاداتها، بكل سعاداتنا. خراؤها الأشقر كل سعاداتنا. جوستين من عندنا. جوستين التي من عندنا أنا هي. بخرائها الأشقر. بكل عظمة خرائها الأشقر. بكل أرخبيلات الخراء الأشقر، وكل جبال جليد الخراء الأشقر، وكل أمم الخراء الأشقر، الأحمر، الأخضر، الأزرق، الأصفر، الأحمق، البرتقالي. بكل عظمة خرائها الأشقر...
رآهم هوراس ألفريدسون، وهم يقتربون برؤوسهم في ضباب الفاشية، بيتر أكرفيلدت وكاتارينا فريدن من ناحية، رالف لندغرن وكريستينا سفينسون من ناحية. كانوا في الضباب، ولم يكونوا واضحين، ثم تبدت له صورهم الظلية شيئًا فشيئًا. كانوا في ثياب من الفرو الثقيل، وأقدامهم في أحذية من الجلد السميك، وهم يستعدون للذهاب إلى أقصى أقاصي السويد على زلاجتين تجر كلاً منهما خمسةُ كلاب هوسكي، وتتبع كلاً منها خمسةٌ أخرى للتناوب.
- سنذهب حتى الدائرة القطبية، قال بيتر أكرفيلدت لكاتارينا فريدن.
- لا أعتقد أنها فكرة جيدة، يا أكرفيلدت، قالت كاتارينا فريدن.
- وكذلك أنا، لا أعتقد أنها فكرة جيدة، قالت كريستينا سفينسون لرالف لندغرن.
- إنها الطريقة الوحيدة لشفائكما، قال رالف لندغرن متوجهًا بكلامه إلى بيتر أكرفيلدت.
- الطريقة الوحيدة لشفائنا، هذا ما نود الاعتقاد به، قالت كاتارينا فريدن.
- برودتي تعالج بالبرد؟ تساءلت كريستينا سفينسون.
- بوخز إبر الجليد، قال رالف لندغرن.
- إنها طريقة قديمة جدًا كان أجدادنا الأوائل يقومون بها يوم كان العالم كله كتلة واحدة بيضاء، وإبر الجليد ليست أيها، إنها من قلب الصفاء، أوضح بيتر أكرفيلدت.
- تأبير ثديي بالجليد النقي علاجًا لسرطانه، همهمت كاتارينا فريدن.
- وأنا... ولم تكمل كريستينا سفينسون جملتها.
- ستشفى كلتاكما، أكد رالف لندغرن.
ربطوا أمتعتهم وأكلهم على الزلاجتين، وشغّلوا الجي بي إس، نظام الموضعة العالمي، ووجهتهم كانت الدائرة القطبية. دخلت كل من المرأتين في مقصورة من الجلد مربوطة بإحدى الزلاجتين، ورشق كل من الرجلين الكلاب بسوطه الأسود، وانطلق الموكب إلى قلب المجهول.
ارتحلوا خمسة أيام وخمس ليال، كانوا يتوقفون لتبديل الكلاب وأكل السجق وشرب البيرة، وبعد ذلك يواصلون الانزلاق، إلى أن بدأت تلفهم بأذرعها أولى الغابات العذراء المثقلة أغصانها بالثلج، وكأنها تحمل ثياب الجبابرة من سكان العوالم الماضية. كانت ثيابهم مرصعة باللآلئ، وكانت تبدو في قلب الغابات أطياف الأميرات بجدائلهن الذهبية. كن يضحكن لهم، ومع عبورهم يختفين. وكانت النار تدق هنا وهناك على حين غرة، ثم تنطفئ. وتحت أقدامهم كانت مخلوقات صغيرة تفتح عيونها، كانت تنهض، وتضحك، ثم تركض ليبتلعها الفضاء. كانت كاتارينا فريدن سعيدة سعادة الطوباويين، كانت في قلب حلم لم يكن حلمًا، تتجول في رأسها، فتترك من ورائها آثار قدميها أقمارًا وشموسًا. وكانت كريستينا سفينسون تكركر دون أن تستطيع الإمساك بنفسها، كانت كمن تدغدغها أصابع ليست مرئية، فتميل، وتهمس مثلجة الصدر. وكان بيتر أكرفيلدت مفتونًا بما يجري، لم يكن نفسه، ترك ذلك الشخص الآخر الصموت الذي فيه في ستوكهولم، وبدا أكثرهم تألقًا، بدا أجملهم، وأكثرهم شبابًا. وكان رالف لندغرن ينظر من حوله بين مصدق ومكذب، كان لديه شعور بأنه شخص رباني، ابنًا لأودن، كان يحس بأنه إله ابن إله، ولم يندهشوا عندما سمعوه يقرض الشعر:

الذهب شعرك الطويل
العالم جسدك الأبيض
العشاق آثار أقدامك

نسيت كاتارينا فريدن لماذا هي هناك، كانت جزءًا من عالم الغابات العذراء. لم تعد تعرف ما التركيز من عدمه، ما العدم من عدمه، وما التعاسة من عدمها. كانت كريستينا سفينسون جزءًا من عالم الفرح الأبيض، عالم الدفء الأبيض. لم تعد تعرف غيرها من البشر، غيرها من الحقائق، وغيرها من الأحلام. كان بيتر أكرفيلدت جزءًا من عالم الطبيعة أمه، لم يعد يعرف شيئًا اسمه الاغتصاب، شيئًا اسمه الجحيم، وشيئًا اسمه العذاب الأبدي. وكان رالف لندغرن جزءًا من عالم الحقوق للجميع، لم يعد يعرف الضحية وما تعنيه، السفالة وما تعنيه، والديانة وما تعنيه. أوقفوا مركبي الجليد، وذابوا بأجسادهم في التلقائية. لم تعد كاتارينا فريدن تفكر فيما مضى من أيامها، كانت قد ولدت الآن. لم تكن تعرف أنها ولدت كبيرة، لكنها كانت تعرف أنها ولدت الآن. لم تعد كريستينا سفينسون تحس بثقلها، كانت خفيفة بخفة النديفة. لم تكن تحلق، لكنها كانت تحس بنفسها ترتفع في السماء. لم يعد بيتر أكرفيلدت يرى في كل امرأة أخته، كانت المرأة العاهرة كالمرأة الأخت امرأة كما يراها. كانت المرأة امرأة أولاً وقبل كل شيء، لكنه كان يريد أن يحبها، فقط أن يحبها. ولم يعد رالف لندغرن يبحث في الوهمي عما هو شائن، كان الوهم جميلاً، كان الوهم حقيقيًا. لم يكن ممن شان خُلْقًا، لكنه كان يتشيع لمن لا خلق له، والكل لا خلق له في عالم لا يعرف الرذيلة. كانوا يقفون على أعتاب العالم الجديد، لم يكن العالم الذي يعرفونه، ولم يكونوا هم أنفسهم. لم يكونوا حقيقة كل يوم، كانوا الحقيقة. الحقيقة البيضاء، المرصعة باللآلئ. كانت الحقيقة كما هي في الوهم، فلم يعد الوهم وهمًا، ولم تعد الحقيقة حقيقة، كانت الحقيقة كما هي في الوهم، كما هي في الحلم، كما هي في الكلمات، كما هي في ريشة غوغان، كما هي في إزميل رودان، كما هي في وتر موزارت. كانت الحقيقة الوهم، غير الموجودة، وفي الوقت نفسه كلها هناك، بين أصابعهم، وكل القصص الألفية كانت هناك بكل الأبطال، كل القصص، كل الأبطال، كل الكوزمولوجيا الشمالية.
نصبوا خيمة واحدة لهم جميعًا، وناموا عرايا في أحضان بعضهم. لم يكونوا العقل ولا الروح، كانوا الشهوة، لم يكونوا الشهوة المعذَّبة ولا الشهوة المعذِّبة، كانوا الشهوة، كانوا. فرشوا الشهوة، أو بالأحرى افترشوا أنفسهم، ودخلوا في لا عدم الانسجام. انسجموا مع أفكارهم في أفكارهم ومع عواطفهم في عواطفهم ومع علاقاتهم في علاقاتهم بالعالم. لا فضائل أخرى غير فضيلة الشهوة. اخترقوا عالم الكمال، ولم تعد النفس فضاء للصراع. وعندما أغمضوا أعينهم، وناموا، حلموا نفس الحلم. لم يحلموا الحلم نفسه دفعة واحدة. حلم كل واحد كان جزءًا منه، وكانت الأجزاء في مجموعها الحلم الذي حلموه. كانوا يحلمون بعقولهم، وكان حلمهم في مصراعه الأول عن شق طريق طويل يصل ألف جزيرة من جزر السويد ببعضها. كان الفصل شتاء، وكان الجليد يجمّد الماء ما بينها، ولم يكن من الممكن شق الطريق الطويل بين الألف جزيرة. في المصراع الثاني من حلمهم، كان الفصل ربيعًا، وكان الجليد يذوب، ويترك كتلاً كبيرة منه ما بين الألف جزيرة، ولم يكن من الممكن شق الطريق الطويل. في المصراع الثالث من حلمهم كان الفصل صيفًا، وكان الجليد قد ذاب تمامًا، والماء كثيرًا بين الألف جزيرة، ولم يكن من الممكن شق الطريق الطويل. في المصراع الرابع من حلمهم كان الفصل خريفًا، وكان الجليد قد عاد إلى التشكل من جديد، وإلى التكتل كتلاً كبيرة ما بين الألف جزيرة... وظلوا يحلمون الحلم ذاته.
في الصباح، نهضوا على قرص الشمس الأسود، قرص كبير في فضاء دموي لامتناهي، يغطي كل الدائرة القطبية. وجدوا الكلاب كلها مقطعة، ملتهمة أو نصف ملتهمة، والغابات العذراء كلها مغتصبة، محترقة أو نصف محترقة. لم تكن نهاية العالم، كان العالم دون فضيلة، العالم على حقيقته، فلم يكن العالم غير هذا، والصورة الأخرى للعالم لم تكن سوى وهم. راحوا ينتقلون في الدم والنار، وهم عرايا، بحثًا عن شيء يغطون به عيوبهم، فأجسادهم كانت كلها عيوبًا. عادت إليهم عذاباتهم، فتذكروا أنهم كانوا هناك بحثًا عن إبر جليدية تزيل السرطان والبرودة الجنسية. تنافرت طباعهم، وبالتالي لم يكن بحثهم مجديًا، وظلوا هكذا دون أي رابط يربطهم بما هو حولهم. وصلهم وقع حوافر لخيول تعدو دون أن يروها، وهي تكاد تسحقهم، ولم تكن هناك خيول. سمعوا صهيل الخيول، وهي تبتعد في الأفق القصيّ. أحسوا بأجنحة لطيور تصفق فوق رؤوسهم، وهي تكاد تضربهم، ولم تكن هناك طيور. نعقت الطيور، وابتلعتها السماء دون أن تبين. تخيلوا ظلالاً لدببة قطبية تختلط بظلالهم، وهي تكاد تخنقهم، ولم تكن هناك دببة قطبية. أطلقت الدببة القطبية صراخ الهالكين، وذابت في النار ذوبان الفضة... وظلوا يعيشون الواقع ذاته.

* * *

في فندق سكانديك، وعلى التحديد في جناح الملاعين والمجانين من الطابق الثالث عشر، كانت اللوحة المُرَوِّعة: كاتارينا فريدن ملقاة على الكنبة بصدر مبتور الثدي، الثدي بيد بيتر أكرفيلدت اليسرى، والسكين بيده اليمنى، والدم يرشقه من قمة الرأس حتى أخمص القدم. كريستينا سفينسون ملقاة على الأرض وكأس متشظية الحواف مغروسة بين فخذيها، بينما يجمد رالف لندغرن غير بعيد منها، والدم يرشقه من قمة الرأس حتى أخمص القدم. هوراس ألفريدسون، مسدسه بيده قرب رأسه المتفجر على الطاولة المستديرة، وكتاب ألبير مالرو "جوستين والتعاسة المنسية" يغرق في الدم.

* * *

كان النهار رماديًا في ستوكهولم، وللعابرين سحنة المنحرف المِزاج. كانت الكآبة ثوبًا للمدينة، والصمت عنوانًا لأهلها. كان رالف لندغرن يتقدم بخطوات واسعة، وبيتر أكرفيلدت يتبع لاهثًا من ورائه.
- لا تسرع، صاح بيتر أكرفيلدت برالف لندغرن، تكاد أنفاسي تنقطع.
أخذ بيتر أكرفيلدت يحل ربطة عنقه، ويعتمد بيده على الجدران، وهو يظلع، للصعوبة التي تواجهه في اللحاق بزميله.
- لا تسرع، صاح بيتر أكرفيلدت برالف لندغرن من جديد.
صعد سلم القنطرة، وقدمه تزلق.
- لا تسرع، يا رالف لندغرن، صاح بيتر أكرفيلدت، وهو يجر خطواته الثقيلة على القنطرة.
نزل بيتر أكرفيلدت سلم القنطرة من الناحية الأخرى، وهو يكاد يقع، وعاد إلى السير بصعوبة في أحد الأزقة، اصطدم بالناس، وبالجدران، وانحنى على نفسه لاهثًا. لم يعد يستطيع النطق، وهو على وشك الاختناق. خلع ربطة عنقه، ورماها أرضًا، وبعد عدة خطوات بثقل الحديد، خلع سترته، ورماها أرضًا. ثم خلع حذاءه، فجواربه، فقميصه، فبنطاله، ورماها أرضًا. أخذ يهمهم دون صوت "لا تسرع"، وهناك رالف لندغرن لا يبالي به، يداوم على السير بسرعة. وقبل الصعود إلى قنطرة أخرى كانت الموسيقى، وكانت الأعلام، وكانت الأشرطة، وكان الناس يتفرجون تحت على سباق السفن الصغيرة المحركة عن بُعد، وكأن هذه الناحية من ستوكهولم لم تكن ستوكهولم. كانت رشاشات البخار الساخن قد أذابت الجليد لمسافة كبيرة تحت القنطرة، وكان العيد هناك، والموت هناك، وجدائل سِيف هناك التي صنعها الأقزام من الذهب ولها القوة على النمو كالشعر. وهو يغذ الخطى في منتصف القنطرة، سمع رالف لندغرن شيئًا يسقط في الماء، شيئًا يخبط بالماء، وبعض الصرخات، فالتفت، ولم ير بيتر أكرفيلدت. خُيل له أنه يسمع قهقهته، فخف يطل من فوق القنطرة، وهو ينقل على يده ملابس الصحفي الكبير الداخلية، ورأى دوامات لا تنتهي. بقى جامدًا في مكانه حتى تلاشت الدوامات، غاب عن نفسه والعالم، وبعد قليل، أعادته إلى نفسه والعالم ألحان فاغنر في غروب الآلهة.

* * *

وجد رالف لندغرن نفسه في غيتو وارسو، بين الناس القادمين من عدم الوجود الذاهبين إلى عدم الوجود، المعطوبين، المشوهين، المغتصبين، أنصاف الأحياء، أنصاف الأموات، المقامرين على أرواحهم، العابثين بأرواحهم، المعذبين، الهالكين، التعسين، الذين تركوا كل شيء من ورائهم، كل شيء، الذين تركوا كل شيء، الذين تركوا كل شيء من ورائهم، الذين حضورهم هناك لم يكن بالصدفة، ثم غدا كل حضورهم صدفة للزمن الضائع، نوعًا من العزف على الناي من أجل بكاء لا يجيء، وحزن لا يجيء، وتعاسة لا تجيء، فكل هذا جاء. ورالف لندغرن لم يكن حضوره هناك بالصدفة، كان رالف لندغرن هناك منذ كان غيتو وارسو، وكان لا يبحث عن شيء، ككل الذين كانوا في غيتو وارسو. وهو يحث الخطى في الجحيم، رأى جوستين بصدرها العاري، كانت تحمل ثديها المقطوع كطفل، وتروح وتجيء. كانت تقول كلمات ليست مفهومة، وهي تهدهد بين ذراعيها ثديها المقطوع كطفل، وتروح وتجيء. لم يعرف رالف لندغرن أنها جوستين، لكنه وقف ينظر إليها، ولم يفارقها بعينيه. كانت جوستين تحمل ثديها المقطوع كطفل، وتهدهده، وتروح وتجيء، تهدهده، وتروح وتجيء، تهدهده، وتروح وتجيء، تهدهده، وتروح وتجيء، ثم ما لبثت أن رفعته إلى أعلى، إلى أعلى ما يكون، كمن تريد أن يراه الله، وقذفته بكل قوتها. في تلك اللحظة، وصل التراموي، وهو يطلق النفير، لكنه لم يستطع أن يتفادى رالف لندغرن، فسحقه تحت عجلاته.

* * *

أوسكار كاستنفيلت، العضو في هيئة تحكيم جائزة نوبل للآداب، أخذ يشق طريقه في الممر الداخلي للتراموي بصعوبة، وهو يحمل كتابًا، بين ركاب تجمعوا كلهم خلف النوافذ من الناحية التي كان فيها جسد رالف لندغرن المنسحق، وغادر المركبة الكهربائية. مد رأسه بين الرؤوس الدائرة حول الجثة، وبعد ذلك، أوقف تاكسي.
- إلى الأكاديمية، من فضلك، قال أوسكار كاستنفيلت للسائق.
لم يبدر من السائق أي رد فعل، سار بزبونه من شارع إلى آخر، وفي المدينة يسود الصمت. اتفاقًا، ألقى السائق نظرة، عبر المرآة الارتدادية، على الكتاب الذي يقرأه أوسكار كاستنفيلت، "ستوكهولم"، والتفت إليه.
- لقد قرأته، قال السائق.
فلم يعره أوسكار كاستنفيلت اهتمامًا.
- لقد قرأته، أعاد السائق، وهو ينظر إلى أوسكار كاستنفيلت عبر المرآة الارتدادية.
أغلق العضو في هيئة تحكيم جائزة نوبل للآداب الكتاب، وانتظر ما يريد السائق قوله.
- لقد قرأته، أعاد السائق للمرة الثالثة.
تلاقت عيناهما عبر المرآة الارتدادية، ففهم السائق ما لم يقله أوسكار كاستنفيلت: "طيب، لقد قرأته، وبعدين؟"
- إنه الأفضل من بين كل ما قرأت، رمى السائق، وهو يرسم ابتسامة خفيفة على شفتيه.
بقي أوسكار كاستنفيلت بعض الوقت، وهو لا يبدي اهتمامه، وشيئاً فشيئاً بدأت الابتسامة تتسع على شفتيه، بينما راح السائق، من الحماس، يغذ السير على الطريق الطويل لأكاديمية المحظوظين.



الكتابة الثالثة
يوم الخميس الموافق 18 أبريل 2013.04.18
باريس


















أعمال أفنان القاسم

المجموعات القصصية

1) الأعشاش المهدومة 1969
2) الذئاب والزيتون 1974
3) الاغتراب 1976
4) حلمحقيقي 1981
5) كتب وأسفار 1988
6) الخيول حزينة دومًا 1995

الأعمال الروائية

7) الكناري 1967
8) القمر الهاتك 1969
9) اسكندر الجفناوي 1970
10) العجوز 1971
11) النقيض 1972
12) الباشا 1973
13) الشوارع 1974
14) المسار 1975
15) العصافير لا تموت من الجليد 1978
16) مدام حرب 1979
17) تراجيديات 1987
18) موسى وجولييت 1990
19) أربعون يومًا بانتظار الرئيس 1991
20) لؤلؤة الاسكندرية 1993
21) شارع الغاردنز 1994
22) باريس 1994
23) مدام ميرابيل 1995
24) الحياة والمغامرات الغريبة لجون روبنسون 1995
25) أبو بكر الآشي 1996
26) ماري تذهب إلى حي بيلفيل 1999
27) بيروت تل أبيب 2000
28) بستان الشلالات 2001
29) فندق شارون 2003
30) عساكر 2003
31) وصول غودو 2010
32) الشيخ والحاسوب 2011

الأعمال المسرحية النثرية

33) مأساة الثريا 1976
34) سقوط جوبتر 1977
35) ابنة روما 1978

الأعمال الشعرية

36) أنفاس (مجموعة قصائد أولى – ثلاثة أجزاء) 1966
37) العاصيات (مسرحية شعرية) 1967
38) المواطئ المحرمة (مسرحية شعرية) 1968
39) فلسطين الشر (مسرحية شعرية) 2001
40) الأخرق (مسرحية شعرية) 2002
41) غرافيتي (مجموعة قصائد فرنسية) 2009
42) غرب (ملحمة فرنسية) 2010
43) البرابرة (مجموعة قصائد أخيرة) 2008 – 2010

الدراسات

44) البنية الروائية لمصير الشعب الفلسطيني عند غسان كنفاني 1975
45) البطل السلبي في القصة العربية المعاصرة عبد الرحمن مجيد الربيعي
نموذجًا (جزءان) 1983
46) موسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح 1984
47) البنية الشعرية والبنية الملحمية عند محمود درويش 1984
48) بنيوية خاضعة لنصوص أدبية 1985 – 1995
49) دفاعًا عن الشعب الفلسطيني 2004
50) خطتي للسلام 2004

[email protected]

أدخل مستشفى مجانين جائزة نوبل!

خاطر كما يخاطر الرجال النوابغ!

عِش العدم!

ستوكهولم رواية في رواية تنطلق من جانب مفقود في عمل ساد "جوستين وتعاسات العفة"، ويقيم المؤلف عليه كل البنى الفكرية والإبداعية عبر مَلْوَن من الشخصيات الفريدة من نوعها، خمسة أعضاء في هيئة تحكيم جائزة نوبل للآداب، كلهم مصابون بالشيزوفرانيا – في هذا السياق هي بالأحرى طريقة في العيش لدى العباقرة - وكلهم أنساق تطرح مسائل وجودية جوهرية، وتعبر عن كيفيات مختلفة من أجل النظر إلى العالم، لتصل بالتالي إلى المصائر التراجيدية التي يصنعها البشر لأنفسهم، والتي ليس الجنس سببها، كما يرى ساد، ولكن دافعًا من دوافعها، فالأسباب كثيرة، وهي من التعقيد لدرجة أن المجانين وحدهم من يمكنهم عرضها، وغالبًا ما يكون عرضهم دراميًا. حتى ستوكهولم مدينة مجنونة، مدينة شيزوفرينية، ومن هنا يأتي كل سحرها.

وعلى عكس ما يدعوه أفنان القاسم "أدب الخل"، نجده يدهشنا هنا بالسحر، سحر الأسلوب، وسحر الموضوع، وسحر النبرة، وغريب المواقف، وعجيب الحالات، ويقين الاحتمالات، ليقول الإنساني بكل بأسه وكل بؤسه.

* أفنان القاسم من مواليد يافا 1944 عائلته من برقة قضاء نابلس له خمسون عملاً بين رواية ومجموعة قصصية ومسرحية ومجموعة شعرية ودراسة أدبية أو سياسية تم نشر معظمها في عواصم العالم العربي وتُرجم منها اثنان وثلاثون كتابًا إلى الفرنسية والإنجليزية والإسبانية والروسية والعبرية، دكتور دولة ودكتور حلقة ثالثة من جامعة السوربون ودكتور فخري من جامعة برلين، أستاذ متقاعد عمل سابقًا في جامعة السوربون ومعهد العلوم السياسية في باريس والمدرسة المركزية الفرنسية وجامعة مراكش وجامعة الزيتونة في عمان والجامعة الأردنية، تُدرّس بعض أعماله في إفريقيا السوداء وفي الكيبيك وفي إسبانيا وفي فرنسا...



#أفنان_القاسم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تراجيديا النعامة
- الشيخ والحاسوب
- وصول غودو
- مؤتمر بال الفلسطيني وحوارات مع أفنان القاسم في كتاب
- أمين القاسم الأيام الفلسطينية
- خطتي للسلام الاتحاد بين الفلسطينيين والإسرائيليين
- البنية الشعرية والبنية الملحمية عند محمود درويش
- المسار أضخم رواية في الأدب العربي القسم الثالث
- المسار أضخم رواية في الأدب العربي القسم الثاني
- المسار أضخم رواية في الأدب العربي القسم الأول
- أنفاس الديوان الثالث
- أنفاس الديوان الثاني
- أنفاس الديوان الأول
- أربعون يومًا بانتظار الرئيس
- أفنان القاسم يجيب على أسئلة -سيدتي-
- كتب وأسفار
- الذئاب والزيتون
- أم الجميع ابنة روما
- أم الجميع سقوط جوبتر
- أم الجميع مأساة الثريا


المزيد.....




- المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي: إسرائيل تعامل الفنانين كإرهاب ...
- نيويورك: الممثل الأمريكي أليك بالدوين يضرب الهاتف من يد ناشط ...
- تواصل فعاليات مهرجان بريكس للأفلام
- السعودية تتصدر جوائز مهرجان هوليوود للفيلم العربي
- فنانون أيرلنديون يطالبون مواطنتهم بمقاطعة -يوروفيجن- والوقوف ...
- بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ ...
- مظفر النَّواب.. الذَّوبان بجُهيمان وخمينيّ
- روسيا.. إقامة معرض لمسرح عرائس مذهل من إندونيسيا
- “بتخلي العيال تنعنش وتفرفش” .. تردد قناة وناسة كيدز وكيفية ا ...
- خرائط وأطالس.. الرحالة أوليا جلبي والتأليف العثماني في الجغر ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - ستوكهولم