أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - رحمن خضير عباس - الغراف.. مدينة الظل















المزيد.....

الغراف.. مدينة الظل


رحمن خضير عباس

الحوار المتمدن-العدد: 3739 - 2012 / 5 / 26 - 04:13
المحور: المجتمع المدني
    



نشأت الغراف في بداية تكوّنها كسوق صغير , يلبي حاجات التبادل السلعي ما بين السوق وما يحيط به من فضاء زراعي وبدوي. اي انها كانت مركزا لأستقطاب القرى المحيطة بها , والتي كانت تتزود منها بالحاجات الحياتية المتنوعة , ولاسيما البقّالية منها ( السكر والشاي والتبغ ..الخ ) كما ان الفلاحين من سكنة القرى يقومون في نفس الوقت بتسويق مواشيهم ومنتجاتها . فتصبح الغراف ( كعلوة ) للبيع والشراء . لذالك فقد كان اسمها يقترن بالسوق , فيطلق عليها سويج دجة . والسويج هو تصغير للسوق , اما الدجة فهي الدكان او العلوة . وبقيت محتفظةبتسميتها هذه الى ان تغير الأسم الى الغراف في خمسينات القرن الماضي . واعتقد ان التسمية الأخيرة قد رُحّلت اليها بقرار اداري غير مدروس , لآنّ العلاقة مابين الغراف المدينة والغراف النهر بعيدة , وانها تقع على فرع من الغراف . وكان الأحرى ان تبقى على اسمها او تعود الى تسمية المنطقة , اي ( الحواسية ) . وقرار تغيير الأسماء انسحب على ثلاث نواحي في الناصرية وهي سويج غازية وسويج شجر اضافة الى سويج دجة .
من الصعب ان نطلق على المدن الصغيرة في العراق تسية مدينة , باعتبار ان المدينة تُطلق على التجمعات السكانية المنتظمة . والتي تعد من الحواضر نتيجة لمتانة التنظيمات العمرانية واتساعها ومن ثم امتلاكها على قدر كبير من المؤسسات والمنافع المختلفة , واحتضانها لفئات سكانية متنوعة . بحيث انها تشكل قاعدة تجارية وسياحية , وسوقا للعمل والبناء . وضمن هذا التوصيف لانستطيع ان نطلق على الغراف اسم مدينة . لأنها تجمع سكاني صغير , لاهوبالقرية ولا هو بالمدينة . بل هي اقرب ان تكون الى تسمية البلدة . رغم اتساعها الآن والتزايد السكاني المفرط , بفعل هجرة القرى المتاخمة اليها .
ثمة عناصر شكلت جسد الغراف , ومنحته خصائصه وبنت الكيان الحقيقي لهذه المدينة . وهي : الجامع الوحيد والذي يقع على النهر , والمدرسة الأبتدائية الوحيدة والتي تقع قبيل اطراف المدينة . كانت تسمى الحواسية ثم الرافدين واخيرا الغراف . وكانت مدرسة مختلطة فيها البنين والبنات. وقد شكلت رئة المدينة فمن خلالها عرفنا الفن والرياضة بانواعها , وفيها عقدت الأحتفالات الشعرية . وفيها ايضا رأينا اول مسرحية ( نهاية الأقطاع ) كانت مسرحية رائعة استطاعت ان تقدم لنا مضمونا رائعا. مع توفرها على شروط فنية مذهلة قياسا بتلك المرحلة , اي بعد ثورة 1958 .كان مدير المدرسة السيد عبد العالي شخصا مرهوب الجانب , قوي الشخصية كان عنيفا مع طلابه , لأنه يعتقد ان العنف هو الوسيلة الناجحة للتقويم والأصلاح وفق معايير ذالك الزمن . لكنه كان في الحقيقةوديعا يحب جميع طلابه , وفي المدرسة اياها كنا نخشى محمد الفراش الذي كان يفوق الجميع صرامة . وكان بمثابة المدير الثاني للمدرسة , بعد تخرجنا ادركنا أنه كان يحرص علينا اكثر من آبائنا . اما العنصر الثالث فهو ( الصيراي ) والذي يمثل القوة النوعيةللسلطة , كان يقع في قلب المدينة امامه شجرة ضخمة . وكان يضم مكتب مدير الناحية ومكتب مأمور المركز , وغرفة للتوقيف . ولعل وجود الصيراي مقابلا للنهر والجسر مغزى في كونه يمسك المدينة من عنقها .اما المستوصف الصغير والذي يقع خلف المدرسة فكان فضاء المدينة الصحي وعنصرها الرابع . كان يديره الموظف الصحي الذي اصبح صديقا لكل الأهالي الذين يستشيرونه في امراضهم ويثقون بتشخيصاته . اما العنصر الخامس فهو النهر والذي يشكل شريان المدينة وسر وجودها . النهر لامسمى له , ولكننا نطلق عليه تسمية الشط . كان يحمل الخير والزرع الى المدينة , ففي ضفافه مقابل البستان . يزرع الحساوية انواع البطيخ والركي ومختلف انواع الخضروات التي كانت تغرق السوق الصغير وتفيض عن حاجته , كما كان مصدرا للأسماك التي يصطادها البعض بالشبكة او الفالة . احيانا ينقطع النهر لأسباب نجهلها فيلجأ الناس الى حفر الأبار الموقتة الى ان يعود النهر من جديد , وحينما يعود يستقبله الناس بالأهازيج وهم يرون توهجه وانغماره بالزبد النهري المعجون بالطمى . هذا النهر المحبوب يتحول احيانا الى غول يخطف ارواح الأطفال حينما يغرقون به صيفا . كان الناس يخشون (النقارة) اسفل الجسر, وطالما ينسجون الحكايات عن قدرتها على اغراق الأجساد البشرية .
بعد ثورة تموز قدم شخص غريب الى الغراف , كان يبيع العنب في بداية السوق , كان شباب المدينة يسمونه طشاش . استطاع هذا الشخص ان يؤثر على عدد كبير من ابناء الغراف , لأدخالهم بين صفوف حزب البعث . وكان يمتلك لباقة وقدرة على الأقناع , كما كان يمتلك المال اللازم . معتمدا على استعداد طبيعي لدى الناس لقبول افكار واحلام عن التحرر والأشتراكية والوحدة , لقد نجح طشاش في مسعاه فانخرط الكثير انذاك في حزب البعث واصبحوا معادين للنهج الأصلاحي لعبد الكريم قاسم . وقد اصبحت مدينة الغراف ذات مسحة بعثية , مع ان الكثير من ابنائها كانوا ينتهجون خطوطا فكرية مستقلة , ومنهم من تأثر بفكر المفكر الأسلامي الكبيرمحمد باقر الصدر , ومنهم من تأثر بالمد اليساري الذي ساد في المدينتين المجاورتين للغراف وهما الشطرة والناصرية .والغريب ان بعثيي الغراف لم يصعدوا في المناصب الحزبية الى درجات قيادية , اسوة بغيرهم , بل بقوا على الهامش رغم ان حزب البعث احتكر السلطة لأربعين عاما . والغريب ايضا ان الناس في الغراف لم يثأروا او ينكلوا بابنائهم من البعثيين حينما سقط النظام . وكأنهم مالوا الى فكرة التصالح الأجتماعي , وعفا الله عما سلف , وهو مفهوم رائع يجعل الناس يرتفعون عن الأساءة بتقديم نقيضها القائم على السمو واشاعة روح التسامح. لقد قدمت هذه المدينة النبيلة على مر تأريخها الكثير من الشهداء سواء الذين اتهموا من قبل نظام صدام بانهم تآمروا لقلب النظام , او الذين اعدموا على انهم من حزب الدعوة . او من الشيوعيين الذين قضوا حياتهم في سجون النظام ولاقوا اصناف التعذيب , ثم قام النظام بتصفيتهم. انها رحلة شاقة مع الألم لمدينة اصرت ان تبقى واقفة بشموخ .
لاادري هل هو من حسن حظ الغراف او من سوء حظها ان تجاورمدينة الناصرية . حيث ان الناصرية كانت زاخرة بالوان من الثقافة والفن والمتعة واللهو . ففيها الكثير من المكتبات الخاصة والعامة وفيها العديد من دور السينما والمسرح , اضافة الى النوادي الليلية . وقد يكون هذا السبب - اي القرب- قد جعل الغراف خالية من كل وسائل المتعة واللهو والثقافة : ليس هناك سينما او مسرح او مكتبة . واذا اراد احد من اهل المدينة التزود بذالك عليه السفر الى الناصرية , وكأن الغراف قد جعلت من نفسها محلة تابعة الى المركز .لقد غادرت هذه المدينة العذبة منذ اكثر من اربعة عقود . ومازلت احمل في مخزون الذاكرة عطرا منها , لذالك فاني اكتب عنها حينما كانت شابة دافئة مستحبة . احتضنت طفولتنا وحماقاتنا وحبنا الأول وسجارتنا الأولى , ومنها بدا مشوارنا الحياتي . حينما زرتها العام الماضي , فوجئت بامتداداتها التي تجاوزت حدودها الجغرافية . مزيج غريب من البناء الذي يحمل رائحة الكونكريت وروح الأسمنت , امتدادات عشوائية تفتقر الى اللمسات الفنية . اين الحدائق ؟ اين ملاعب الأطفال ؟ اين المكتبات ؟ اين التنسيق في البناء ؟ الذي يجب ان يجعل من المدن ليست اكداسا من البيوت المتكئة على بعضها , بل يجب ان نبرز الجانب الروحي . هل فكر اهل المدينة ممثلين بمجلسهم البلدي ان يبنوا قصرا للثقافة , يحتوي على مسرح .. ورشات للفن التشكيلي ..قاعات للموسيقى ..او للمحاضرات العلمية والأدبية والفنية ؟ الم يحن الوقت بالتفكير الجدي لأيجاد مركب رياضي يحتضن كل لنواع الرياضات من كرة القدم الى السباحة ؟ الم يطرا على بال الجميع ان يشرعوا باعادة تصميم قلب المدينة بشكل فني وهندسي , يجعلها فتنة للزائر ومفخرة لساكنيها ؟ ان هذه الأمنيات اتت من خلال عيوننا المهاجرة , والتي تأمل في بناء مدننا بشكل يساعد على انشاء اجيال جديدة قادرة على تحويل الأحلام حقيقة . لاسيما وان بلدنا العراق يزخر بثروات اسطورية يمكن ان تغير وجوه مدننا البائسة ولايجعل المدن الصغيرة ظلا لغيرها .
اوتاوة /كندا آيار2012



#رحمن_خضير_عباس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الكًوامة
- الوطن .. بعيون مهاجرة
- شقة في المنعطف
- أخلاقيات المسرح
- القضاء العراقي.. وقضية الهاشمي
- المشي ..الى كربلاء
- طوب ابو خزّامة .. وقرط الشاعر
- كل عام .. وفشل حكومتنا بخير
- إنه زمن القتلة
- فجيعة لغياب آخر
- الذكرى العاشرة لرحيل الشاعر عبد الخاق محمود
- شموع كهرمانة وشيزوفرينيا الشعر
- إمرأة من اقصى المدينة
- أنامل ومخالب
- سوق النساء
- جرح ومنفى.. مرارة النأي عن النخل
- الكرة..وولاية الفقيه
- احزان على ضفاف الذاكرة
- ليس دفاعا عن علاوي
- الرجل الوحيد


المزيد.....




- أستراليا.. اعتقال سبعة مراهقين يعتنقون -أيديولوجية متطرفة-
- الكرملين يدعو لاعتماد المعلومات الرسمية بشأن اعتقال تيمور إي ...
- ألمانيا تعاود العمل مع -الأونروا- في غزة
- المبادرة المصرية تدين اعتقال لبنى درويش وأخريات في استمرار ل ...
- مفوض أوروبي يطالب باستئناف دعم الأونروا وواشنطن تجدد شروطها ...
- أبو الغيط يُرحب بنتائج التحقيق الأممي المستقل حول الأونروا
- الاتحاد الأوروبي يدعو المانحين لاستئناف تمويل الأونروا بعد إ ...
- مفوض حقوق الإنسان يشعر -بالذعر- من تقارير المقابر الجماعية ف ...
- مسؤول أميركي يحذر: خطر المجاعة مرتفع للغاية في غزة
- اعتقال أكثر من 100 متظاهر خارج منزل تشاك شومر في مدينة نيويو ...


المزيد.....

- أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال ... / موافق محمد
- بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ / علي أسعد وطفة
- مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية / علي أسعد وطفة
- العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد / علي أسعد وطفة
- الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي ... / محمد عبد الكريم يوسف
- التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن ... / حمه الهمامي
- تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار / زهير الخويلدي
- منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس ... / رامي نصرالله
- من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط / زهير الخويلدي
- فراعنة فى الدنمارك / محيى الدين غريب


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - رحمن خضير عباس - الغراف.. مدينة الظل