أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - احمد القاضي - في دحض مزاعم علمية القرآن...الحلقة الاولى















المزيد.....



في دحض مزاعم علمية القرآن...الحلقة الاولى


احمد القاضي

الحوار المتمدن-العدد: 3738 - 2012 / 5 / 25 - 07:56
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


(إن فصاحة اكثم بن صيفي تفوق فصاحة القرآن)
أبو الحسن أحمد بن يحيى بن إسحاق الراوندي





"ليت الجيولوجيين يكفون عني فضربات معاولهم المزعجة تطنّ في سمعي بعد كل آية أقرأها من آيات الكتاب المقدس"...هذه العبارة اوردها استاذ الفلسفة النرويجي جوستين قاردر في كتابه عن تاريخ الفلسفة Sophie’s World على لسان الكاتب والناقد الانجليزي جون روسكين ( 1819-1900 ) الذي كان انجليكانيآ متدينآ، عبّر فيها عن الشكوك التي بدأت تنتابه ازاء الكتاب المقدس بعد ظهور نظرية داروين عن (أصل الأنواع) عقب سنوات طويلة من الرحلات والحفريات...وعلى النقيض استقبلت النخب من رجال الفكر والثقافة في العالم الاسلامي الثورة العلمية الاوربية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر التي نقلت المجتمعات الغربية الى آفاق حداثية جديدة بثمارها المتمثلة في الكشوفات والمخترعات المذهلة منها السيارة والكهرباء والقاطرات البخارية والمصباح الكهربائي الذي لقب مخترعه اديسون بالرجل الذي صنع المستقبل والهاتف والتلغراف والفنوغراف والدراجة النارية وما الى ذلك من المخترعات والكشوفات التي غيرت وجه الحياة في تلك القارة...والى جانب كل ذلك ظهرت في نفس الفترة نظرية داروين المادية عن أصل الأنواع التي زعزعت العقائد ونسفت الأسطورة الدينية العتيقة بإن الانسان كائن سماوي، او كما قال سيجمون فرويد عنها وعن نظريته في التحليل النفسي،حسبما أورد قاردر، ((انهما حطمتا الغرور الساذج لدى الانسان))...وحقآ يا له من غرور ساذج عمقته الاديان، فالتوراة تقول ان الله خلق الانسان على صورته والقرآن يزعم انه خليفة الله على الأرض.... ولا شك أن تلك الثورة العلمية بكل زخمها كانت نتاج صحوة اوربا وانعتاقها من ربقة الدين وهيمنة الكنيسة على مناحي الحياة اكثر من الف وخمسمائة سنة لتعود إلى جذورها العقلانية... وإلى أسلوب التفكير العلمي الذي ارساه الأغريق ولتنهي الخرافات التوراتية التي أغرقت الغرب في ظلام محمي بالمقاصل الكنسية.

عوضآ عن مواجهة الواقع

فقد رانت الحسرة على قلوب النخب الإسلامية المذهولة بمدى التقدم الحضاري العلمي والاجتماعي الذي حققته اوربا والهوة السحيقة التي تفصل بينها وبين مجتمعاتهم المتردية في قاع التخلف والجهالة، حتى أن المصريين ظنوا أن أعمال الكيمياء التي قام بها الكيميائيون الفرنسيون المرافقون لحملة نابليون بونابرت على مصر (1798-1801) هي ضرب من ضروب السحر، وقس على ذلك حال بقية الشعوب الاسلامية....ثم جاء كتاب (تخليص الإبريز في تلخيص باريز) للشيخ رفاعة رافع الطهطاوي ليفتح العيون اكثر اتساعآ على عمق الهوة الفاصلة، وهو كتاب شاهد عيان ألفه بعد عودته من باريس التي سافر اليها في العام 1826 كمرجعية دينية لأربعين طالبآ ارسلهم محمد علي باشا الى فرنسا لدراسة العلوم الحديثة.... وعوضآ عن مواجهة الواقع وتشخيص الداء والبحث عن أفضل الدواء لجأت النخب الإسلامية الى تعزية نفسها بطريقتين ...الطريقة الاولى: الزعم بأن الفضل يعود الى الاسلام والمسلمين في ما وصلت اليه اوربا من رفعة حضارية بدعوى انها عبت من علوم المسلمين واستندت الى عطاء علمائهم في نهضتها...ولعل أبرز من روجوا لهذا الزعم في أواخر القرن التاسع عشر هما عبد الرحمن الكواكبي (1854-1902) السوري المولد... والشيخ محمد عبده (1849-1905) أشهر شخصية أزهرية في مصر آنذاك.... في كتابه (طبائع الاستبداد) يقول الكواكبي ان أمم الغرب (لربما يصح أن نقول، قد استفادت من الاسلام اكثر مما استفاده المسلمون)...ويقول (وكنا أرقى من الغرب علمآ ونظامآ فقوة، فكنا له اسيادآ! ثم جاء حين من الدهر لحق بنا الغرب فصارت مزاحمة الحياة بيننا سجالآ)..ومن اقواله ايضآ (جاء العرب بعد الاسلام واطلقوا حرية العلم، واباحوا تناوله لكل متعلم، فانتقل إلى اوربا حرآ على رغم رجال الدين فتنورت به عقول الامم على درجات) أ.هــ....وعلى نفس النهج سار الشيخ محمد عبده في كتابه (الإسلام بين العلم والمدنية)...ففي ظنه أنه ما من شئ في حضارة اوربا الحديثة إلا ونقلوه عن العرب المسلمين حتى رصف الشوارع بالبلاط.... في كتابه هذا وتحت عنوان (إقتباس اوربا من مدنية الإسلام) يقول (شرع ملوك فرنسا في فرش شوارع باريس بالبلاط على الاسلوب الذي وجدوه في مدينة قرطبة) أ هـ ...فالزعم بأن المسلمين قد علموا الاوربيين رصف شوارع المدن أمر غير صحيح البتة...فقد عرف الاغريق ذلك ابان حضارتهم القديمة ثم جاء الرومان ولم يبرعوا فقط في رصف شوارع المدن بل وفي إقامة الطرق الطويلة المعبدة بالحجارة التي لا تربط المدن بعضها ببعض فحسب، بل وكذلك ارجاء امبراطوريتهم المترامية الاطراف، أيّ أنهم أول من شقوا الطرق التي تعرف في عالم اليوم بــالـ Highway ....ولما كانت اسبانيا جزءآ من الامبراطورية الرومانية فانها عرفت الطرق المرصوفة بمئات السنين قبل وقوعها تحت الاحتلال العربي الاسلامي ولا تزال بقايا تلك الطرق موجودة الى يومنا هذا في عدد من المناطق الاسبانية كما تقول المراجع التاريخية، فلا دخل للعرب المسلمين اذن في ثقافة رصف الطرق باسبانيا......وهكذا يمتلئ الكتابان المذكوران بالكثير من التعميمات وعدم الدقة والمبالغات والعبارات الطنانة في الجانب المتعلق بدور الاسلام في النهضة الاوربية....فهل يصح ما قاله الكواكبي بإن الغرب استفاد من الاسلام اكثر مما استفاده المسلمون؟ وهل يصح ما قاله الشيخ محمد عبده بأن أوربا إقتبست من مدينة الاسلام؟....هل كان في وسع الإسلام بمنظومته الفكرية والمفاهيمية أن يكون محفزآ للنهضة الاوربية التي بدأت في شمال إيطاليا خلال القرن الثالث عشر الميلادي؟...فقد تردت اوربا الى الحضيض في ظل الهيمنة الكنسية حوالي الف وخمسمائة سنة عندما أصبحت أسفار الكتاب المقدس هي مرجعيتها في كل شئ بدلآ من ارسطو وافلاطون وارخميدس واقليدس وفيثاغورس وبطليموس وابقراط وجالينوس وهلم جرا ...والحالة هذه، كيف يمكن الزعم بأن الاسلام هو رافعة النهضة الاوربية التي انتهت الى حضارة رفيعة بينما تعاليمه ومنظومته الفكرية القائمة على سور القرآن ليست سوى نسخة رديئة من نفس الكتاب الذي أدى الى إنحطاط اوربا.....أما في ما يتعلق بما قاله الشيخ محمد عبده بأن اوربا إقتبست من مدنية الاسلام؟ فكان الاحرى به أن يخبر أولآ كيف اقتبس العرب المسلمون من الشعوب المتحضرة التي غزوها واستوطنوا بين ظهرانيها... لا خلاف في أن العرب المسلمين الذين خرجوا من الصحراء العربيةغازين وانتشروا شرقآ وغربآ وشمالآ لم يكونوا على مدنية ليقتبسها الغير منهم...كل ما حملوه مع سيوفهم هو دينهم الجديد ليفرضوه على الشعوب المغلوبة التي اقتبسوا منها أساليب الحياة المدنية بعد أن استقروا بينهم....وهنا يتعين التفريق بين الحضارة والثقافة حسب تعريف الانثروبيلوجيين... فبإختصار فإن الحضارة تعني كل وسائل الحياة المادية على الإجمال التي يمكن لمسها وقياسها مثل وسائل الانتاج والادوات المنزلية والملبوسات ووسائل المواصلات والطرق وما الى ذلك، بينما الثقافة تعني مجموع القيم الاجتماعية والعقائدية والمنتوج الفكري والفلسفي والادبي والفني الذي يجد تعبيره وإنعكاسه في سلوكيات مجتمع معين ورؤيته لنفسه ولما ولمن حوله في العالم...في كتاب (دراسات في تاريخ الثقافة العربية.. القرون 5ــ 15) لمجموعة من المستشرقين الروس يقول المستشرق بولشاكوف في دراسة بعنوان (المدينة العربية في القرون الوسطى) إن الشائع بين الدارسين للتاريخ العربي الاسلامي وكذلك بين المستشرقين أن المدنية العربية الاسلامية بدأت في العصر العباسي وأن الامويين في سوريا كانوا نصف بدو ويحنون الى حياة البداوة، ولكنه لا يتفق مع هذا الرأي ويقول أن بذور المدنية العربية الاسلامية قد بذرت في العهد الاموي حيث ان خلفاء بني أمية ابتداء بمعاوية بنوا القصور في اطراف دمشق التي لم يعملوا على تعريبها واحتفظت بطابعها الروماني حتى اليوم، بينما سكن البقية في البيوت التي فر منها اصحابها الى بيزنطة بعد الاحتلال العربي ..ويشير بلشاكوف الى المدن التي بناها الاميون مثل مدينة واسط في العرآق ومدينة الرملة في فلسطين الى جانب بناء المسجد الاموي ومسجد قبة الصخرة في (مدينة ايليا) التي سماها المسلمون (القدس) واعادة بناء مسجد الرسول في المدينة ...وحسب بولشاكوف انه باستثناء مدينة واسط ذات الطابع العربي الخالص فإن جميع المدن والقصور التي بناها الاميون في سوريا وفلسطين بنيت بالحجارة وعلى الطراز الروماني فمثلآ فقد اشرف على بناء مدينة الرملة مسيحي سوري...ويقول أن مسجد قبة الصخرة لا يختلف جوهريآ في طرازه عن كنيسة الشهداء القديسين ..ويقول بروكلمان في سفره الشهير (تاريخ الشعوب الاسلامية) انه قد تم العثور على بردية جاء فيها أن جميع العمال الذين اعادوا بناء المسجد الاموي الشبيه بالمعابد البيزنطية كانوا من الاجانب ويضيف انه في روايات ادبية اخرى تم تسخير الف ومائتي عامل بيزنطي منهم المتخصصون في تركيب الفسيفساء وتقول بردية مماثلة ان رجلآ من الفرس كان بينهم......وعن اعادة بناء مسحد الرسول في المدينة يقول ابن الأثير في كتابه (الكامل في التاريخ) ان الوليد كتب الى ملك بيزنطة يطلب العون الفني فأرسل اليه (مائة ألف مثقال ذهب ومائة عامل وبعث إليه من الفسيفساء بأربعين جملآ)...ويقول المستشرق الروسي بولشاكوف أن مسجد الرسول الذي اعيد بناؤه على طراز الكنائس البيزنطية أثار حفيظة (سكان المدينة الورعين في أن البنائين بنوا لهم كنيسة بدل المسجد)....وبالاضافة إلى كل ذلك.حوّل الامويون، حسب كتاب بروكلمان، بعض القلاع الرومانية القائمة على تخوم بلاد العرب الى قصور، كما بنوا قصورآ فخمة في قلب صحراء البلقاء بالاردن للراحة والاستجمام..وتقول الدكتورة نبيلة حسن محمد استاذة التاريخ والحضارة بجامعة الاسكندرية في كتابها (تاريخ الدولة العباسية) أن الاثريين وجدوا بقايا خمسة وثلاثين قصرآ من القصور الصحرواية لخلفاء بني امية ....ولعل هذا ما عزز الرأي بأن بني امية في الشام كانوا نصف بدو ويحنون الى البدواة.......ولم يكن العباسيون أقل نهمآ للأخذ بأساليب الحضارة الرومانية البيزنطية والفارسية...يقول بروكلمان أن معاوية بن ابي سفيان كان مجرد (شيخ قبيلة) مقارنة بأبي جعفر المنصور الذي احاط نفسه بكل أبهة أكاسرة الفرس واطلع في بداية حكمه على كتبهم عن قواعد التشريفات في القصر الملكي وقلدهم في وضع تراتيبية للحاشية وتعيين وزير له يقوم بتصريف الامور وحافظ على النظام الاداري البيزنطي الفارسي الذي سار عليه الامويون .....في كتابه المذكور آنفآ يقول بولشاكوف أن المدن التي بناها العباسيون لا تفوق في عددها كثيرآ المدن التي بناها الامويون، ولكن المؤرخين يقعون تحت تأثير اهمية بغداد وسامراء اللتين كان (نهوضهما قد تم الى حد ما على حساب مدن اخرى دون ان يدل على تصعيد حاسم للحياة المدينية بعمومها)...ويقول أن بغداد بطرازها الشرقي الخالص كمدينة طينية كانت من اهم المدن في ذلك الزمان ,واصبحت مركزآ دينيآ وتجاريآ ذا شأن وانها اتسمت بطابعها الاممي (الكوزومبولوتي) فالى جانب السكان الاصليين الذين كانوا يتكلمون الآرامية والفارسية والعرب المسلمين بطبيعة الحال كان هناك الفرس والاتراك واليونانيون والارمن والزنوج والسلافيون ... وبغداد التي كانت اممية في تركيبتها السكانية جلب بناتها من كل البلاد في الشرق الادني كما يقول....وفي السياق نفسه يقول ابن الاثير في كتابه (الكامل في التاريخ) أن المنصور جلب الفعلة من كل مكان كما جلب أنقاض عاصمة الفرس قطيسفون (المدائن حسب تسمية العرب) عملآ بنصيحة الفارسي خالد بن برمك ليبني بها عاصمته....ويضيف ابن الاثير أن الاستاذ كان يقبض قيراطآ من الفضة بينما يقبض الروزكاري حبتين وهكذا كانت حتى ألقاب البنائين حسب خبراتهم المهنية بالفارسية.....هذا في الجانب الحضاري والرفاهية المادية بما يؤكد أن العرب قد تمدينوا في البلاد المتحضرة التي وقعت تحت إحتلالهم الإستيطاني، فماذ عن الجانب الفكري والثقافي؟.......كان العصر العباسي هو عصر اعلاء شأن الدين... فالدولة العباسية قد قامت أصلآ باسم (الحق الالهي) او (حق الوراثة لسلطة النبي محمد) وهو امر شدد عليه مؤسساها ...ففي خطبته بعد مبايعته في مسجد الكوفة قال ابو العباس السفاح (وعاد السهم إلى منزعه ، ورجع الحق إلى نصابه في أهل بيت نبيكم، أهل الرأفة والرحمة بكم والعطف عليكم) وأضاف (وأحيا شرفنا وعزنا ورد إلينا حقنا وإرثنا.) أما ابو جعفر المنصور المؤسس الفعلي للدولة العباسية فقد قال (في يوم عرفة) من (منبر عرفة) في رواية مسندة الى اسماعيل الفهري (أيها الناس إنما أنا سلطان الله في أرضه أسوسكم بتوفيقه ورشده وخازنه على فيئه أقسمه بإرادته وأعطيه بإذنه وقد جعلني الله عليه قفلا إذا شاء أن يفتحني فتحني لإعطائكم وإذا شاء أن يقفلني عليه أقفلني) إلى آخر خطبته...وكان المنصور قد إستصدر في بداية حكمه، وهو يقاتل العلويين الذين انبروا له مصارعين من أجل السلطة، فتوى تقول أن العم أحق بالوراثة (يقصد العباس) من البنت (يقصد فاطمة) ومن إبن العم ( يقصد عليآ)...والى جانب ذلك إستقدم علماء الفقه والحديث من المدينة وقرّبهم اليه حتى اصبحوا اقوى طبقة متنفذة بالبلاد ...وعلى حد قول بروكلمان (لقد تم لهم في النهاية تحقيق المثل الأعلى الثيوقراطيّ [الديني] الذي حلموا به، بعد أن تولى آل البيت زمام السلطة) أ.هــ....ويقول بولشاكوف في الكتاب المذكور آنفآ أن المسجد الكبير الذي بناه المنصور قرب قصره أصبح المركز الايدولوجي في بغداد .....والحالة كذلك، كان من الطبيعي أن يشهد العصر العباسي إزدهارآ دينيآ كبيرآ ففيه نشأت المذاهب الفقهية الاربعة الكبرى وظهرت طبقة من كبار المحدثين وكتّاب السيرة المحمدية إلى جانب ازدهار الشعر وعلم النحو حتى نشأت مدرستان نحويتان مدرسة الكوفة ومدرسة البصرة وفيما بعد مدرسة بغداد ....وماذا عن العلوم العقلية الدنيوية او حسب تسمية المسلمين لها (علوم الأوائل) و(علوم اليونان) من فلسفة ومنطق وطب وهندسة وطبيعيات ورياضيات؟ وفلك ؟....لم تحظ هذه العلوم على إمتداد التاريخ الاسلامي برعاية تذكر من الدولة سوى في عهد الخليفة العباسي السابع المأمون ذي الاصول الفارسية من جهة أمه، فمن المعروف أنها وجدت رعاية شخصية منه حيث أنشأ (دار الحكمة) ليكون من مهامها ترجمة المخطوطات الفلسفية والعلمية اليونانية التي بذل الاموال لشرائها من الاديرة في سوريا ومنطقة الاناضول اللتين كانتا ضمن الامبراطورية البيزنطية...وجلب لها نخبة من المترجمين المسيحيين واليهود، ابرزهم واشهرهم حنين بن اسحق الذي ترجم اكثر من مائة وخمسين مخطوطة حسب المستشرق بولشاكوف في الكتاب المذكور آنفآ ومن كبار العاملين فيها عالم الرياضيات والمترجم من الهندية الخوارزمي، كما عين الفليسوف الكندي مديرآ للدار الى جانب ما كان يقوم به من ترجمة الى العربية من اليونانية...وكان له مساهمته الكبيرة رغم خطأ له (ادى الى خلط احتاج إزالة آثاره الى قرون) حسب الفليسوف البريطاني برتراند رسل في كتابه (تاريخ الفلسفة الغربية) حيث أنه ترجم كتاب (التاسوعيات) لإفلاطين تحت عنوان (الهيات ارسطو)....ويتفق المؤرخون على أن المامون كان مصابآ بجرثومة الثقافة، بل واشتغل بعلم الفلك حيث يقول بروكلمان في كتابه (تاريخ الشعوب الاسلامية) إنه (أمر بمراجعة جداول بطليموس الفلكية [الزيج] على أساس ملاحظات أجريت في بغداد ودمشق في آن معآ، كما أمر بقياس درجة من خط الهاجرة)... وقد بلغ إنحيازه إلى كل اتجاه عقلي لدرجة تبنيه لافكار المعتزلة وإكراه الفقهاء والقضاة على الأخذ باطروحاتهم ومعاقبة كل من يمانع، كسجنه لاحمد بن حنبل الذي رفض افكار هذه الفرقة الدينية التي تستخدم المنطق وعلم الكلام في الجدل...ومع عصر الخليفة العباسي العاشر المتوكل عاد نفوذ الفقهاء والمحدثين الى سيرته الاولى ...فقد اطلق سراح ابن حنبل ومنع ألجدال في اطروحات المعتزلة الذين انقلب حالهم من مضطهدين (بكسر الهاء) الى مضطهدين (بفتح الهاء) وأمر بالالتزام بالكتاب والسنة...وكانت تلك بداية حملة كبرى ضد العلوم العقلية (علوم الاوائل) استمرت حوالي ثلاثة قرون إنتهت بالانتصار النهائي لرجال الدين المعادين للعقل والذين لا علم يعلو عندهم على العلوم الدينية... ...فقد تعرض المشتغلون بالعلوم العقلية على قلتهم لحرب لا هوادة فيها بدعاوى انها علوم تقود في نهاية المطاف الى الكفر والضلال والتعطيل....ففي دراسة بعنوان (موقف أهل السنة القدماء بإزاء علوم الأوائل) للمستشرق المجري المعروف جولدتسهير أوردها الدكتور عبد الرحمن بدوي في كتابه (التراث اليوناني في الحضارة الاسلامية) نجد تفاصيل كثيرة عن تلك البيئة الاجتماعية الإسلامية المعادية للعلوم العقلية حتى أن المشتغلين بها كانوا يضطرون لدراستها في خفاء تحت قناع (العلوم الحسنة السمعة) وهي العلوم الدينية... ويستشهد جولدتسهير بما جاء في كتاب (البخلاء) للجاحظ بأن (الشراب المكروه) و(الكتاب المتهم) كانا من (الاشياء التي تخفى عن عيون الناس بعناية). كأحد الأدلة على أن مجرد اقتناء كتب الفلسفة كان يؤدي بصاحبها إلى الإتهام بالزندقة والتعطيل....ويورد كيف بلغت الحرب ضد العلوم العقلية الى درجة أن النساخين ببغداد في العام 277 هجرية (890 ميلادية) كانوا يقسمون بأنهم لن يستنسخوا أيّ كتاب في الفلسفة...وتقدم الدراسة المذكورة عينات مما قيل في علوم الاوائل والكتب التي صدرت في استقباحها كقولهم (من تمنطق تزندق) وقول ابراهيم بن موسى الشاطبي الاندلسي (إن الجدير وحده بالتحصيل من العلوم هو تلك العلوم التي تكون ضرورية ظاهرة النفع للأعمال الدينية، وما سوى ذلك فعديم الفائدة) والفتوى الشهيرة لابن الصلاح الشهرزوري المتوفي عام 643 هجرية (1245 ميلادية) التي يحرّم فيها تعلم علوم الاوائل قائلآ:(الفلسفة رأس السفه والانحلال ومادة الحيرة والضلال ومثار الزيغ والزندقة).....ومما قيل شعرآ في تسفيه العلوم العقلية قول أحدهم
فارقت علم الشافعي ومالك [][][] وشرعت في الإسلام رأي دقلس
وقول الكاتب والرحالة الاندلسي المشهور إبن جبير:
قد ظهرت في عصرنا فرقة [][] ظهورها شؤم على العصر
لا تقتدي في الدين إلا بما [][][][] سن إبن سينا وابو النصر
ويقصد بالطبع (ابو النصر الفارابي)...وفي مجال الكتب هناك، على سبيل المثال، كتاب المتصوف عمر السهروردي (كشف القبائح اليونانية ورشف النصائح الايمانية) وكتاب الفخر الرازي (الموقف من علم الفلك)...وكانت قاصمة الظهر للعلوم العقلية ومستقبلها في المجتمع الاسلامي هي مؤلفات ابي حامد الغزالي الملقب بــ (حجة الاسلام) لإحتيازه على مكانة فكرية رفيعة بين المسلمين وتأثيره الواسع عليهم عبر العصور والحقب...فقد برز عدوآ مبينآ لها في العديد من مؤلفاته من اشهرها (تهافت الفلاسفة) و(فاتحة العلوم) و(أيها الولد) ولا غرو في أن يكون أهم مؤلفاته طرآ (إحياء علوم الدين)...يقول في كتاب (أيها الولد) الذي ينصح فيه تلميذآ له طلب النصيحة [ أيها الولد، أيّ شئ حاصل لك من تحصيل علم الكلام والخلاف والطبّ والدواوين والأشعار والنجوم والعروض والنحو والتصريف غير تضييع العمر بخلاف ذي الجلال] ويقول [وأعلم أن العلم الذي لا يبعدك اليوم عن المعاصي ولا يحملك على الطاعة لن يبعدك غدآ عن نار جهنم] أهالت مؤلفات الغزالى التراب نهائيآ على شعلة العلوم العقلية التي حملها نفر هنا وهناك رغم عواصف المعارضة الدينية العاتية....فبعد وفاة الغزالي بخمس عشرة سنة ولد ابن رشد في العام (1126 ميلادية) وكان آخر المشتغلين بالفسلفة في العالم الاسلامي حيث مات بعد أن عانى من النفي والاضطهاد وحرق كتبه ولم يجرؤ احد بعد ذلك الاقتراب من الفلسفة في عالم المسلمين...ولم يكن ابن رشد اول من حرقت كتبه، فقد سبق العالم الاسلامي الغرب بقرون في نصب محاكم التفتيش ورغم ذلك تجد من يقول ان تاريخ الاسلام لم يشهد محاكم التفتيش ولا إضطهاد المشتغلين بالعلوم العقلية...يقول جولدتسهير في دراسته المذكورة انه عندما فتش بيت عبد السلام بن عبد الوهاب الملقب بركن الدين المتوفي سنة 611 هجرية (1214 ميلادية) حفيد الصوفي الكبير عبد القادر الجيلاني وجدت فيه كتب الفلسفة ورسائل اخوان الصفا وما الى ذلك فاوقدت نار عظيمة امام المسجد والقيت فيها تلك الكتب من فوق سطحه بينما العامة يهتفون ضده ويلعنونه... وتم سجن ركن الدين بعد ذلك رغم انه انكر اشتغاله بتلك العلوم وزعم انه استنسخ كتبها من اجل الرد عليها...وواقعة أخرى هي أن الخليفة العباسي المستنجد بالله (1124-1170) قبض على احد قضاته الفاسدين ووجد عنده كتب الفلسفة ورسائل اخوان الصفا فأحرقت في الرحبة ....وفي الاندلس أمر المنصور بن ابي عامر حاجب الخليفة المؤيد بالله والحاكم الفعلي بإحراق جميع كتب علم الاوائل...وتدحض جملة هذه الوقائع ما قاله عبد الرحمن الكواكبي في كتابه المشار اليه آنفآ ((جاء العرب بعد الاسلام واطلقوا حرية العلم، واباحوا تناوله لكل متعلم، فانتقل إلى اوربا حرآ على رغم رجال الدين فتنورت به عقول الامم على درجات)) أ.هــ...وما قاله الشيخ محمد عبده في كتابه الاسلام بين العلم والمدنية (كان علم العرب في أول الامر يونانيآ، ولكنه لم يلبث كذلك إلا دون قرن واحد ثم صار عربيآ)...فقد وجدت العلوم العقلية بيئة اجتماعية معادية تمامآ ووجدت حربآ لا هوادة فيها من رجال الدين بتأليب العامة عليهم...ومن جميع الفرق الاسلامية بمن فيهم المعتزلة والاشاعرة بالرغم من اعتمادهم في الجدل على علم الكلام المستنبط من الفلسفة اليونانية... ولعل من المفارقة أن اولئك المشتغلين بالعلوم العقلية على قلتهم والمخاطر التي كانت تهدد حياتهم في تلك الاجواء التكفيرية المناهضة لعلوم الاوائل بحسبانها من الكفر والضلال شكّلوا إلى جانب الكنائس والاديرة البيزنطية رافدآ مهمآ من الروافد التي هيأت لبداية النهضة الاوربية بشمال ايطاليا في القرن الرابع عشر الميلادي... لانها نهضة كان وقودها إحياء التراث الفكري والعلمي الاغريقي القديم المؤسس على الإستدلال العقلي ...فهذه النخبة الصغيرة التي تعود أصول غالبية رموزها الى الشعوب المغلوبة في بلاد فارس ومنطقة آسيا الوسطى تعتبر نخبة حداثية ذات ثقافة غربية واسعة بلغة اليوم، وبلغة ذلك الزمان من الذين تبحّروا في علوم اليونان واتجهوا بكليتهم الى العلوم الدنيوية من فلسفة ومنطق وطب وفلك وطبيعيات وكيمياء ورياضيات وما إلى ذلك وعرفوا افلاطون وارسطو وابقراط وجالينوس وايقليدس وبطليموس وارخميدس وكان جلهم من الموسوعيين....يقول برتراند رسل في كتابه المذكور آنفآ ((إن الفلسفة العربية ليست ذات اهمية تذكر لانها ليست بفكر اصيل،. فرجال مثل ابن سينا وابن رشد كانوا في حقيقة أمرهم معلقين. وعلى العموم، فإن آراء غالبية الفلاسفة العلميين مأخوذة من ارسطو والافلاطونيين الجدد في المنطق والميتافيزيقيا ومن جالينوس في الطب ومن المصادر اليونانية والهندية في الرياضيات والفلك ومن خليط من المعتقدات الفارسية القديمة تشكلت الفلسفة الصوفية الدينية))..ويخلص الفليسوف البريطاني الى خلاصة تعكس تمامآ رأي المفكرين والمثقفين الغربيين في ما يعرف بالفلسفة العربية حيث يقول ((إن أهميتها دون التقليل من شأنها في أنها كانت حلقة الوصل بين الحضارة الاوربية القديمة والحضارة الاوربية الحديثة التي انهت عصور الظلام)) أ.هــ.... ومعنى هذا الكلام أن المفكرين والباحثين الاوربيين الذين حملوا على عواتقهم عشية النهضة البحث عن مخطوطات التراث الفكري والعلمي الاغريقي لنفض الغبار عنها وجدوها محفوظة في ترجمات الفلاسفة المسلمين فأعادوا ترجمتها من العربية إلى أصلها اليوناني،كما وجدوا ترجمات من علوم الهند والفرس وفكرهم فازدادوا ثراء، وكان معظم نسخ مخطوطات التراث الفكري والعلمي الاغريقي الموجودة في روما قد أتى عليه البرارة الجرمان حين سقطت هذه العاصمة في ايديهم خلال القرن الخامس الميلادي....ويأتي ابن رشد المعروف في الغرب بــ (افيروس) في مقدمة تلك النخبة حيث عكف على شرح وتلخيص معظم اعمال ارسطو في الفلسفة والمنطق والطبيعيات والفلك حتى لقب في الغرب بـــ (الشارح الاكبر)...ولقد بلغ تأثر ابن رشد بأرسطو وإفتنانه به مبلغآ كبيرآ لدرجة وصفه له بالرجل الاكثر كمالآ..وبالرجل الذي وضعه الله في درجة لم يبلغها احد..واكثر من ذلك قال (إن برهان ارسطو لهو الحق المبين)...والملاحظ ان هذه الاوصاف توازي تلك التي يطلقها المسلمون على محمد وقرآنه بأنه الانسان الكامل وبأن القرآن هو الحق المبين...يقول برتراند رسل ان ابن رشد بجّل ارسطو تبجيل الانبياء اكثر بكثير مما فعل ابن سينا ....ومن اصحاب االتأثير على النهضة التي ظهرت في شمال ايطاليا ابن سينا المعروف في الغرب بــ (افيسينا) وخاصة في الجانب الطبي حيث ان كتبه في الطب القائمة على طب جالينوس وابقراط كانت مرجعآ اساسيآ للاطباء طوال عصر النهضة... أما الخوارزمي فإن مأثرته الكبرى في انه نقل الى العربية الاعداد الهندية وطريقة استعمالها في كتابه (( الجمع والتوفيق بحساب الهند)) والمعروف في الغرب اختصارآ بـ (كتاب الخوارزمي في الارقام الهندية)..وكان العرب حتى القرن التاسع الميلادي يستخدمون الحروف في مقام الاعداد كشعوب اخرى قبل ان تتعرف على نتاج العبقرية الهندية...ولقد تم ترجمة كتاب الخوازمي الى اللغة الاغريقية، وحسب كتاب A General History Of The Sciences ان المخطوط الاصلي المكتوب بالعربية قد ضاع وبقي المخطوط المترجم الى الاغريقية.........ونستطيع القول ان هذه النخبة ذو الثقافة اليونانية لم تكن من الاسلام في شئ وإن زعمت أن غايتها هي التوفيق بين الشريعة الاسلامية والفلسفة وهما أمران لا يتوافقان ولا يلتقيان، وذلك من اجل أن تبقى على قيد الحياة في مجتمع معاد للعقل وقوامه التعصب والعاطفة الدينية وينتهي فيه الى الهلاك كل من يفصح عن آرائه الحقيقية في النبوة والقرآن ...فقد كانت نخبة بعيدة عن مفاهيم القرآن والشروط التي تبقي الانسان مسلمآ، جاء في الجزء الثاني من كتاب (تراث الاسلام) لجوزيف شاخت ترجمة "عالم المعرفة" ان توما الاكويني اعتبر ابن رشد ماديآ ولذا الف كتابآ بعنوان (في وحدة العقل ضد الرشدية) لدحض آرائه حول فناء الروح ووحدة العقل البشري... وهكذا، فإن الفارابي وابن سينا وابن رشد قالوا بقدم الوجود وانه غير مخلوق وانكروا قيامة الاجساد بعد الموت وقالوا إن الله يعرف الكليات ولا يعرف الجزئيات وما إلى ذلك من الافكار التي دفعت الغزالي الى تكفيرالفارابي وابن سينا في كتابه (تهافت الفلاسفة) والزعم بأن الفلسفة هي طريق الضلال والكفر.....ولا ندري كيف يتسق إطلاق صفة (الفلاسفة العرب المسلمين) عليهم وقد تم تكفيرهم من أعلى قمة فكرية دينية اسلامية ممثلة في حجة الاسلام الغزالي، وبعد أن عانوا في حياتهم من الحصار والاضطهاد والنفي والسجن حصيلة للاتهام بالهرطقة والزندقة ...يقول برتراند رسل في كتابه المذكور آنفآ ان اولئك الفلاسفة يدينون بسلامتهم حين كانوا يشعرون بالامان الى الحماية التي وجدوها لدى بعض الامراء المستنيرين نسبيآ ...وهذه حقيقة لا مراء فيها فابن سينا تمتع بحماية بعض الامراء لزمن ما لنبوغه في الطب وحاجة الامراء الى طبه، وابن رشد تمتع بحماية خليفة الموحدين المستنير ابي يعقوب يوسف لاحدى عشرة سنة حيث عينه قاضيآ لقرطبة ولكنه تخلى عنه بعد ذلك تحت ضغوط رجال الدين فاقصي من القضاء وتم نفيه واحرقت كتبه...والمفارقة المثيرة للسخرية هي انه بعد كل هذا لا يجد العرب المسلمون ما يتباهون به امام الغرب سوى المنجزات الفكرية لتلك النخبة التي لم تكن من الاسلام في شئ وتبحرت في فلسفة اليونان وعلومها وحافظت عليها واغنتها بالشروح والتعليق وانقذتها
من الضياع حتى إستعادت اوربا بضاعتها...ونخلص من كل ما سبق ذكره الى فساد مزاعم الكواكبي والشيخ محمد عبده وغيرهما في ما اسموه بدور ((الاسلام)) او ((الحضارة الاسلامية)) او ((المدنية الاسلامية)) في النهضة الاوربية الحديثة.


شمس العلوم وكنز الحكم

أما الطريقة الثانية التي لجأت اليها النخب الاسلامية في أوآخر القرن التاسع عشر واوائل القرن العشرين لتعزية نفسها ازاء الهوة السحيقة التي باتت تفصل بين العالم الاسلامي الغارق في مستنقع التخلف واوروبا الصاعدة باضطراد في مدارج التقدم الحضاري، هي محاولة تكييف آيات القرآن مع الكشوفات العلمية والاختراعات الحديثة التي تمت على يد العلماء الاوروبيين والزعم بأن القرآن قد سبق الاوروبيين في الإشارة اليها وذلك بإستخدام تأويلات متعسفة لم تخطر على بال مؤلف القرآن محمد....من المعروف أن محمدآ فشل فشلآ ذريعآ في ان يقنع القرشيين المكيين بأنه نبي مرسل من الله وأن قرآنه الذي يتلوه عليهم منزل من السماء...وتفاقم فشله عندما عجز في ان يأتي بمعجزة واحدة من معجزات محددة طلبها منه القرشيون ...وأخيرآ وجد ما ظنه انه الحل للخروج من ورطة المعجزات إذ أعلن ان القرآن في حد ذاته هو المعجزة وتحدى القرشيين بأن يأتوا بآية مثلها...ومن الواضح أن القرشيين لم يروا أية معجزة بلاغية في القرآن المنظوم بلغة قريش وأهل قريش أدرى بلغتهم واسرارها ...فقد تهكّموا منه وقالوا له (إنه سجع كسجع الكهان)..ولما فشلت البلاغة المزعومة في ان تفعل فعلها فر مهزومآ من مكة بعد عشر سنوات من اليأس الى يثرب....وحتى اليثربيين (الاوس والخزرج) لم يحتضنوه لبلاغة القرآن بل لان الخزرج هم اخواله من جهة جده عبد المطلب، ولاسباب أخرى معروفة منها انهم كانوا يريدون نبيآ من أنفسهم يتباهون به امام يهود يثرب الذين كانوا يعيرونهم بأنه ليس للعرب من نبي...وبعد وفاة محمد ارتدت معظم القبائل العربية عن الاسلام دون ان تساعد تلك المعجزة البلاغية المزعومة على ابقائها في الاسلام وإقناعها بأنها أمام دين رباني حقيقي...ولم يعودوا إلى الاسلام إلا بعد حروب قمعية....وبإختصار دون تفاصيل كثيرة فان الإسلام لم ينتشر في الجزيرة العربية نفسها إلا بالسيف وليس ببلاغة القرآن..فأيّ معنى لمعجزة عجزت أن تقنع العرب بأن يدخلوا في دين محمد طوعآ... ورغم كل هذه الحقائق صدرت مئات الكتب منذ بدايات الاسلام عن المعجزة البلاغية للقرآن!...فقبل الف وثلاثمائة سنة قال الحسن أحمد بن يحيى بن إسحاق الراوندي أشهر ملاحدة القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي) في بغداد والذي هجر الاسلام واتجه للعقلانية (( إن فصاحة اكثم بن صيفي تفوق فصاحة القرآن ))... وقال أيضآ ((..وهب أن باع فصاحته طالت العرب فما حكمه على العجم الذين لايعرفون اللسان وما حجته عليهم))...وهذه الملاحظة الاخيرة لابن الرواندي جوهرية، لانه لا يستقيم عقلآ إدعاء محمد بأن دعوته عالمية وإرساله التهديدات إلى كسرى وهرقل في نفس الوقت الذي يزعم فيه أن معجزته في بلاغة القرآن العربي المبين....واذا كان ما اسماه محمد بمعجزة قرآنه البلاغية لم تصمد أمام الإختبار ولم تفده في أمر دعوته التي لم تنتشر الا بالغزوات والحروب فهل سيصمد هذا الذي يسميه البعض في عصرنا بالإعجاز العلمي للقرآن امام حقائق العلم.....يعتبر البعض أن كتاب (كشف الاسرار النورانية القرآنية) الذي رأى النور في عام 1880 ميلادية للطبيب المصري (الجسماني والروحاني محمد بن أحمد الأسكندراني نزيل دمشق) كما عرّف نفسه في مطلعه، هو اول كتاب صدر عن ما يسمى بالاعجاز العلمي في القرآن ..ولكن في الحقيقة أن مؤلفه لم يقصد الاعجاز العلمي بالطريقة التي يطرح بها اليوم وإنما أراد البحث عن كل ما ذكر في القرآن من نبات وحيوان ومخلوقات بحرية واحجار وجبال وافلاك وتبيان كيفية تكوّنها وتشكّلها وخصائصها ومنافعها ...يقول مثلآ ٌ قال القرآن (الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً فإذا أنتم منه توقدون) ويشرح الاسباب التي تجعل اشتعال النار في الشجر الاخضر ممكنآ بالرغم من احتوائه على الماء .......ولعل اول من زعم بأن القرآن يحوي علوم العصر الحديث هو عبد الرحمن الكواكبي في كتابه (طبائع الاستبداد) حيث يأخذ على العلماء المسلمين انهم حصروا إعجاز القرآن بسبب الاستبداد في ما قاله السلف عن المعجزة البلاغية وفي آية (غلبت الروم) ثم يذهب إلى القول بأنه لو فتح للعلماء حرية الرأي والبحث ((لأظهروا في ألوف من آيات القرآن ألوف آيات من الإعجاز، ولرأوا فيه كل يوم آية تتجدد مع الزمان والحدثان تبرهن إعجازه....)) ويمضي في زعمه ليقول ((ومثال ذلك أن العلمَ كشف في هذه القرون الاخيرة حقائق وطبائع كثيرة تعزى لكاشفيها ومخترعيها من علماء اوربا وأمريكا؛ والمدققُ في القرآن يجد أكثرها ورد به التصريح او التلميح في القرآن منذ ثلاثة عشر قرنآ؛ وما بقيت مستورة تحت غشاء من الخفاء إلا لتكون عند ظهورها معجزة للقرآن شاهدة بأنه كلام رب لا يعلم الغيب سواه..)) أ.هـــ.....وفي سبيل الوصول الى مبتغاه يلجأ الكواكبي الى تأويلأت متعسفة لآيات عديدة يزعم ان معانيها تتطابق والإكتشافات العلمية الحديثة ...فعلى سبيل المثال يقول ان العلماء ((حققوا أن القمر منشق من الأرض، والقرآن يقول {أفلا يرون أنا نأتي الأرض تنقصها أطرافها}...)) أ.هــ....ولا ندري كيف يكون للشكل الكروي أطرافآ....فمحمد لا شك أنه كان يعتقد أن الأرض مسطحة كالسجادة ولها اطراف مثلها كما هو الاعتقاد السائد في تلك الازمان...وفي مكان آخر يقول الكواكبي ((وحققوا أن ألارض منفتقة في النظام الشمسي، والقرآن يقول:{ان السموات والأرض كانتا رتقآ ففتقناهما}...)) أ.هـــ....وسنعود لاحقآ في الحلقات القادمة لهذه الآية...ولقد ساهم في هذه المعمعة الشيخان المعاصران لعبد الرحمن الكواكبي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر جمال الدين الافغاني وتلميذه محمد عبده ولكنهما قالا في خطوط عريضة أن الإسلام لا يتعارض مع الكشوفات العلمية الحديثة وأن القرآن قد سبق الغرب في الإشارة اليها ولكن دون الإشتغال بنجارة تأويلات مناسبة.


إنتشار الآفة

في النصف الاول من القرن العشرين ظهرت مؤلفات لعدد من (الاطباء) المصريين تتحدث عن ما يسمى بالإعجاز العلمي في القرآن ولكنها بقيت مغمورة إلى أن جاء (الطبيب!) المصري مصطفى محمود في الثلث الأخير من ذات القرن لتنتشر على يديه هذه الآفة إنتشار النار في الهشيم ولتصبح مشغلة النخب الاسلامية الى يومنا هذا والتي لا همّ لها غير البحث في القرآن عن آية مناسبة لكل إكتشاف علمي جديد في الغرب الصليبي بدلآ من أن تنتج علمآ حقيقيآ...الغرب يعصر دماغه ويكتشف ويخترع والمسلمون يرددون وهم مضطجعون على اسرتهم ان هذا الاكتشاف ورد في سورة البقرة وذاك جاء ذكره في سورة الفيل...ومما ساعد على إنتشار هرطقات مصطفى محمود ظهور التلفزيون الذي كان يقدم من خلاله برنامجه الشهير (العلم والايمان) مستهدفآ اولآ إثبات ان العلم يؤدي الى الايمان بالله وثانيآ ان القرآن يحتوي على كل المكتشفات العلمية الحديثة وما سيكتشف مستقبلآ...وكان مصطفى محمود قد بدأ دروشته التي البسها لباس العلم في العام 1970 حين نشر في مجلة (صباح الخير) الأسبوعية المصرية سلسلة مقالات بعنوان (القرآن- محاولة عصرية للفهم) ثم جمعها في كتاب، وأعقبت ذلك كتب أخرى مثل من (أسرار القرآن( و(القرآن كائن حي) و(حوار مع صديقي الملحد) وهو حوار ساذج يقتفي فيه أثر ما يسمى بعلم التوحيد ولا يرقى الى حوار فكري يستجلي جوانب جديدة ناهيكم عن ان يكون حوارآ فلسفيآ......ولا شك أن مصطفى محمود قد اطلع على سابقيه في مضمار ما يسمى بالإعجاز العلمي في القرآن، ولكنه اضاف وتوسع في تأويلاته التي أنفق فيها بقية عمره لتسويق ظنه في إحتواء القرآن لكل العلوم... ....وادى ظهور الفضائيات العربية والانترنيت في تسعينات القرن الماضي إلى مزيد من إنتشار الآفة حيث خصصت عشرات البرامج التلفزيونية ومئات المواقع الالكترونية التي تتحدث عما يسمى بالإعجاز العلمي في القرآن...ومن أبرز الذين ساروا على خطى مصطفى محمود وأسلافه الجيلوجي المصري زغلول النجار الحاصل على (دكتوراة في علوم الأرض من جامعة ويلز ببريطانيا!) ..وقد فتحت له ابواب الصحف والفضائيات وتم تعيينه رئيسآ للجنة تسمى ((لجنةالإعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة بجمهورية مصر )) ليمارس التجهيل على أوسع نطاق...ومن المثير للسخرية أن حكومة السودان الاسلامية قد منحته جائزة رئيس الجمهورية التقديرية ووسام العلوم والآداب والفنون الذهبي عن سنة 2005م...وفي لبنان اعلنت (جامعة الجنان) إنشاء قسم جديد في مجال الإعجاز العلمي في القرآن بإشراف الدكتور زغلول النجار يحصل خريجه على دبلوم يسمى بـــ (دبلوم الإعجاز العلمي في القرآن والسنة)...وفي دولة الإمارات العربية أعلنت جائزة دبي الدولية للقرآن الكريم في سبتمر 2006إختيارها للنجار (شخصية العام الإسلامية)...وفي الأردن اعلنت جامعة العلوم الاسلامية العالمية تعيينه استاذآ زائرآ ((لتدريس مواد الإعجاز العلمي في القرآن الكريم لطلبة الجامعة في مرحلة الدراسة الجامعية ومرحلة الدراسات العليا))..وهذه مجرد أمثله للجوائز والمناصب التي إنهالت عليه تقديرآ لجهوده في علم وهمي لا وجود له على أرض الواقع ولا يرجى منه ثمرة....وماذا يرتجى إذا كان أعمى يقود عميان... فإلى الحلقة القادمة لنفحص ما يطرح هنا وهناك على أنه من الإعجاز العلمي في القرآن.



#احمد_القاضي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- زنار مريم........نقد النقد المأزوم
- اليسار .... الخروج من الأطلال؟
- مصر العليلة في مستنقع الدين
- تونس....الدين والتنوير والحداثة
- نادر قريط وغسيل السيرة المحمدية
- تديين كارل ماركس!
- توطين الماركسية بالخرافات الاسلامية !
- زوبعة دكتور حجي....يا قلبي لا تحزن !
- الآية التي سطا عليها محمد !
- متنكر في ثياب التنويريين....او اركلجة الخرافة
- المثقف المكي الذي هزم محمد
- محمد يحرق النخيل وعلي يجز الرؤوس !!
- ابن تيمية ام الضحوك القتّال !
- اولوية نقد الدين
- بائع الافيون الفلسطيني
- هل تراجع د. طه حسين عن اطروحاته في كتاب ( في الشعر الجاهلي ) ...
- ادونيس...اودكتور جيكل ومستر هايد !
- الشعر الجاهلي ام القرآن الجاهلي
- اول صوت في صندوق عمر البشير الانتخابي
- الكوميديا الالهية علي الطريقة المحمدية


المزيد.....




- مجلس الأوقاف بالقدس يحذر من تعاظم المخاوف تجاه المسجد الأقصى ...
- مصلون يهود عند حائط البراق في ثالث أيام عيد الفصح
- الإحتلال يغلق الحرم الابراهيمي بوجه الفلسطينيين بمناسبة عيد ...
- لبنان: المقاومة الإسلامية تستهدف ثكنة ‏زبدين في مزارع شبعا ...
- تزامنًا مع اقتحامات باحات المسجد الأقصى.. آلاف اليهود يؤدون ...
- “عيد مجيد سعيد” .. موعد عيد القيامة 2024 ومظاهر احتفال المسي ...
- شاهد..المستوطنين يقتحمون الأقصى في ثالث أيام عيد -الفصح اليه ...
- الأردن يدين سماح شرطة الاحتلال الإسرائيلي للمستوطنين باقتحام ...
- طلاب يهود بجامعة كولومبيا: مظاهرات دعم فلسطين ليست معادية لل ...
- مصادر فلسطينية: أكثر من 900 مستعمر اقتحموا المسجد الأقصى في ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - احمد القاضي - في دحض مزاعم علمية القرآن...الحلقة الاولى