أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خليل كلفت - أضأل امرأة فى العالم - كلاريس ليسپكتور















المزيد.....



أضأل امرأة فى العالم - كلاريس ليسپكتور


خليل كلفت

الحوار المتمدن-العدد: 3726 - 2012 / 5 / 13 - 14:43
المحور: الادب والفن
    


أضأل امرأة فى العالم
وقصص أخرى
تأليف الكاتبة البرازيلية: كلاريس ليسپكتور

ترجمة: خليل كلفت



المحتويات
1: أضأل امرأة فى العالم ..........................................
2: مس ألجريڤ ..................................................
3: قرود المارموزيت ...............................................
4: وَقْع أقدام ......................................................
5: طريق الآلام ...................................................

*****
كلاريس ليسپكتورClarice Lispector (1925-1977) البرازيل

* ابنة أسرة من يهود أوكرانيا هاجرت إلى البرازيل وهى فى الشهر الثانى من عمرها.
* فى العقد التالى لموتها تم الاعتراف بها باعتبارها أعظم كتاب القصة القصيرة المحدثين فى اللغة البرتغالية.
* عاشت أسرتها فى فقر فى شمال شرق البرازيل ثم انتقلت، فى 1937، إلى ريو دى جانيرو، حيث قررت كلاريس، التى كانت فى الثانية عشرة من عمرها، أن تصير روائية.
* فى الأربعينات التحقت بمدرسة القانون وعملت محررة فى وكالة صحفية وفيما بعد مراسلة لصحيفة يومية فى ريو.
* تزوجت فى 1943 من طالب قانون زميل لها وبعد عام حصلت على شهادتها ونشرت أول رواية لها (1944).
* طوال الخمس عشرة سنة التالية، عاشت وكتبت فى الخارج حيث عمل زوجها دبلوماسيا فى إيطاليا وسويسرا وبريطانيا والولايات المتحدة. وعندما انتهى الزواج فى 1959، عادت كلاريس بطفليها إلى ريو.
* فى السنة التالية، نشرت مجموعة فريدة من القصص القصيرة بعنوان "روابط أسرية" (1960).
* ظهرت روايتها "التفاح فى الظلام" فى 1961 وجلبت لها ما تستحقه من اعتراف باعتبارها "كاتبة ذات دقة أسلوبية استثنائية وأهمية فلسفية هائلة".
* لها أيضا مجموعة قصصية بعنوان "الفرقة الأجنبية" (1964) واثنتان من أجمل رواياتها "عذابات ج. ه." (1964) و"ساعة النجمة" (1977)، ولها عمل نشر بعد موتها: "تيار الحياة" (1978).
1
أضأل امرأة فى العالم

فى أعماق أفريقيا الاستوائية، عثر الرحالة الفرنسى مارسيل پريتر، الصياد والرجل المحنك، بمحض الصدفة على قبيلة من الأقزام ذوى الحجم الضئيل إلى حدّ مدهش. ولهذا ازداد دهشة عندما أخبروه أن هناك شعبا أضأل حتى من ذلك، بعد اجتياز غابات ومسافات. وعلى هذا اندفع متوغلا أعمق فأعمق.
وفى شرقى الكونغو، بالقرب من بحيرة كيڤو، اكتشف بالفعل أضأل الأقزام فى العالم. ومثل علبة داخل علبة داخل علبة، وربما امتثالا للحاجة التى تشعر بها الطبيعة أحيانا إلى التفوق على نفسها - كان هناك بين أضأل الأقزام فى العالم أضأل أضأل الأقزام فى العالم.
وهناك وسط البعوض والأشجار اللامبالية، وسط أعشاب المروج الأكثر خصوبة وهدهدة، وجد مارسيل پريتر نفسه وجها لوجه أمام امرأة طولها سبع عشرة بوصة وثلاثة أرباع البوصة، ناضجة، سوداء، صامتة - "سوداء مثل قرد"، كما قال للصحافة - كانت تعيش فوق قمة شجرة مع قرينها الضئيل. ووسط أبخرة الأدغال الوبيلة الفاترة، والتى تنضج الفاكهة مبكرا جدا، وتكسبها حلاوة لا تطاق تقريبا، كانت حُبلى.
هكذا وقفت هناك، أضأل امرأة فى العالم. وبدا للحظة، فى قيظ الحر، وكأن الفرنسى بلغ بُغيته الأخيرة فجأة وبطريقة غير متوقعة. وربما فقط لأنه لم يكن مجنونا، فإن روحه لم يُصبها الوهن ولا هى تجاوزت حدودها. وأحسّ بحاجة مباشرة إلى النظام وإلى تسمية ما هو قائم فسمّاها الزهرة الصغيرة. ولكى يكون بوسعه تصنيفها بين الوقائع الملموسة، بدأ فورا فى جمع الحقائق عنها.
إن جنسها سينقرض فى القريب العاجل. ذلك أنه لم يتبقّ سوى نماذج قليلة لهذا النوع الذى كان من شأنه أن يتضاعف لولا الأخطار الخبيثة لأفريقيا. فإلى جانب المرض، وأبخرة الماء المهلكة، ونقص الطعام، والحيوانات المفترسة التى تطوف فى كل مكان، يتمثل الخطر الكبير على قبيلة الليكوالا فى قبيلة الباهوندا المتوحشين، وهو خطر يحيط بهم فى الهواء الساكن، مثل فجر المعركة. فالباهوندا يصطادونهم بواسطة شِباك، كالقرود. ويأكلونهم. هكذا: يُوقعونهم فى الشباك ويأكلونهم. وانتهى الأمر بهذا الجنس البالغ الضآلة، المتقهقر، المتقهقر دوما، إلى الاختباء فى قلب أفريقيا، حيث اكتشفهم الرحالة المحظوظ. ومن أجل الدفاع الإستراتيچى، يعيشون فوق أطول الأشجار. والنساء يهبطن لطحن وخبز الغلال وجمع الخضروات؛ والرجال للصيد. وعندما يُولد طفل يتركونه حرا طليقا فى الحال تقريبا. وصحيح أن الطفل لا يمكنه غالبا، بسبب الحيوانات المفترسة، أن يستمتع بهذه الحرية طويلا. لكنه صحيح بالتالى أنه لم يعد هناك عمل شاق من أجل هذه الحياة القصيرة. وحتى اللغة التى يتعلمها الطفل مختصرة وبسيطة، الأساسيات لا غير. ذلك أن الليكوالا يستخدمون أسماء قليلة، ويُسمّون الأشياء بالإشارات وأصوات الحيوان. أما بالنسبة للأمور الدينية فلديهم طبلة. وفيما يرقصون على صوت الطبلة، يقوم ذكر ضئيل الحجم بالحراسة ضدّ الباهوندا الذين يأتون من حيث لا يعلم أحد.
كانت تلك، إذن، الطريقة التى اكتشف بها الرحالة، واقفا على قدميه، أضأل الكائنات البشرية الموجودة. وكان قلبه يدق، لأنه ليست هناك زمردة فى العالم بمثل هذه الندرة. وتعاليم حكماء الهند ليست بمثل هذه الندرة. وأغنى رجل فى العالم لم تقع عيناه على مثل هذه الرقة الغريبة. حقا كانت هناك امرأة ما كان بوسع شراهة أروع حلم أن تتصورها قط. وكانت تلك هى اللحظة التى قال فيها الرحالة باستحياء، وبرقة شعور ما كان بوسع زوجته قط أن تتصور أنه قادر عليها: "أنت الزهرة الصغيرة".
فى تلك اللحظة، هرشت الزهرة الصغيرة جسمها حيث لا يهرش أحد. الرحالة - وكأنه كان يتلقى أسمى جائزة للعفة يجرؤ شخص صاحب مُثل عليا أن يطمح إليها - الرحالة، بكل تجارب حياته، نظر إلى الجهة الأخرى.
نُشرت صورة فوتوغرافية للزهرة الصغيرة فى الملاحق الملونة لجرائد الأحد، بالحجم الطبيعى. كانت ملفوفة فى قماش، وكان بطنها كبيرا جدا بالفعل. الأنف الأفطس، الوجه الأسود، القدمان العرجاوان. كانت أشبه بكلب.
فى ذلك الأحد، فى إحدى الشقق، شاهدت امرأة صورة الزهرة الصغيرة فى الجريدة فلم تشأ أن تنظر إليها مرة أخرى لأنها "تصيبنى بالقشعريرة".
فى شقة أخرى، أحسّت سيدة بحنان منحرف نحو أضأل نساء إفريقيا إلى حدّ أنه - حيث أن درهم وقاية خير من قنطار علاج - كان لا يمكن أبدا ترك الزهرة الصغيرة وحدها لحنان تلك السيدة. فمن يدرى إلى أىّ حب شنيع يمكن أن يقود الحنان؟ ظلت المرأة متكدرة طول اليوم، وكأنها تقريبا كانت تفتقد شيئا ما. إلى جانب ذلك، كان الوقت ربيعا، وكان فى الجو تسامح خطر.
فى بيت آخر، شاهدت الصورة بنت صغيرة فى الخامسة وسمعت التعليقات، فاندهشت للغاية. ففى بيت مملوء بالكبار، كانت هذه الفتاة الصغيرة أضأل كائن بشرى إلى ذلك الحين. وإذا كان هذا مصدر كافة الملاطفات فقد كان أيضا مصدر أول خوف من طغيان الحب. إن وجود الزهرة الصغيرة جعل البنت الصغيرة تحسّ - بانزعاج عميق لن ينقلب إلا بعد سنين وسنين، ولأسباب مختلفة للغاية، إلى فكر - جعلها تحسّ، فى بداية نضجها العقلى، بأن "الأسى لا نهاية له".
فى بيت غيره، فى مستهل الربيع، أحسّتْ فتاة توشك على الزواج بفيض من الشفقة: "ماما، انظرى إلى صورتها الضئيلة، يا لها من مسكينة ضئيلة! تصورى فقط كم هى حزينة!"
"لكن"، قالت الأم، قاسية ومحبطة ومزهوة: "إنه حزن حيوان. إنه ليس حزنا بشريا".
"أوه، ماما!"، قالت البنت، بخيبة أمل.
فى بيت غيره، كانت لدى صبى صغير ذكى فكرة ذكية: "مامى، ليتنى كنت أستطيع أن أضع هذه المرأة الضئيلة من أفريقيا فى فراش بول الصغير وهو نائم، ألم يكن سيرتعب عندما يستيقظ؟ ألم يكن سيولول؟ عندما يراها جالسة على فراشه؟ وعندئذ كنا سنلعب بها! كانت ستصبح لعبتنا!"
كانت أمه تصفف شعرها أمام مرآة الحمّام فى تلك اللحظة، وتذكرتْ ما قاله لها أحد الطباخين عن الحياة فى ملجأ يتيمات. لم يكن لدى اليتيمات أىّ لُعَب، وبأمومة مفزعة كانت تنبض بالفعل فى قلوبهن، أخفت البنات الصغيرات موت طفلة عن الراهبة. احتفظن بالجثة فى دولاب وعندما تخرج الراهبة كُنَّ يلعبن بالطفلة الميتة، فيقمن بتحميمها ويقدّمن لها أشياء لتأكلها، ولا يعاقبنها إلا لتكون قادرة على التقبيل، وكُنَّ يواسينها. فى الحمام، تذكرت الأم هذا، وأسقطت يديها الحانيتيْن، المليئتين بالتجاعيد. كانت تفكر فى الحاجة القاسية إلى الحب. وفكرت فى خبث رغبتنا فى السعادة. وفكرت فى كم نحتاج احتياجا وحشيا إلى اللعب. كم من مرات سنقتل فى سبيل الحب. عندئذ نظرت إلى طفلها الذكى وكأنها تنظر إلى غريب خَطِر. وكان بداخلها فزع من روحها هى التى، أكثر من جسدها، أوجدتْ ذلك الكائن البارع فى الحياة والسعادة. نظرتْ إليه باهتمام وبكبرياء قلقة، ذلك الطفل الذى فقد اثنتين من أسنانه الأمامية، حيث يتواصل النمو، وتنخلع الأسنان لتفسح المكان لتلك التى يمكنها أن تعضُّ أفضل. "سأذهب لشراء بذلة جديدة له"، قررتْ، ناظرة إليه، مستغرقة فى التفكير. بعناد، كانت تزين ابنها المخلع الأسنان بالملابس الفاخرة؛ بعناد، كانت تريده نظيفا جدا، وكأنما كان بوسع نظافته أن تؤكِّد سطحية ملطفة، عاملة بعناد على الوصول بالجانب المهذب للجمال إلى حدّ الكمال. منتزعة بعناد نفسها وابنها بعيدا عن شىء ما "أسود مثل قرد". ثم، ناظرة إلى مرآة الحمام، ابتسمت الأم ابتسامة مهذبة وودودة عن عمد، محتفظة بمسافة من حاجز آلاف السنين الذى لا يمكن تخطيه بين الخطوط التجريدية لملامحها والوجه الفجّ للزهرة الصغيرة. لكنها كانت تعرف، بحكم سنين من العادة، أن هذا الأحد سيكون أحدا ينبغى أن تخفى فيه عن نفسها القلق والأحلام وآلاف السنين المفقودة.
فى بيت غيره، انهمكوا فى المهمة الساحرة، مهمة أن يقيسوا على الحائط طول الزهرة الصغيرة الذى يبلغ سبع عشرة بوصة وثلاثة أرباع البوصة. وكانت مفاجأة سارة حقا: كانت أضأل حتى مما كان بوسع أحدّ خيال أن يصوره. وفى قلب كل فرد من أفراد الأسرة تولدت الرغبة، جارفة الحنين، فى أن يمتلك ذلك الشىء الضئيل والذى لا يقهر فى حدّ ذاته، ذلك الشىء الضئيل الذى تفادى أن يُؤكل، ذلك النبع الدائم للمحبة. لقد رغبت الروح الأسرية الشرهة فى أن تكرس نفسها. وإذا شئنا الحقيقة، من ذا الذى لم يرغب فى أن يمتلك كائنا بشريا لنفسه فقط؟ الأمر الذى لن يكون ملائما دائما، هذا صحيح؛ فهناك أوقات لا يريد فيها المرء أن تكون لديه مشاعر.
"أراهن على أنها لو كانت تعيش هنا لانتهى الأمر إلى قتال"، قال الأب، جالسا فى الكرسى المريح وهو يقلب صفحة الجريدة بعزم وتصميم. "فى هذا البيت ينتهى كل شىء إلى قتال".
"أوه، أنت يا چوزيه - متشائم دوما"، قالت الأم.
"لكن، يا ماما، هل فكرت فى الحجم الذى سيكون لطفلها؟"، قالت كبرى البنات الصغيرات، وهى فى الثالثة عشرة، متلهفة.
تحرّك الأب منزعجا وراء جريدته.
"لابد أنه سيكون أضأل طفل أسود فى العالم"، أجابت الأم، وهى تذوب من فرط البهجة. "تصوروها تخدم على مائدتنا، ببطنها الضئيل الضخم!"
"كفى"، زمجر الأب.
"لكن عليك أن تسلم بأنها "تحفة" نادرة. إنك أنت المتبلد الشعور"، قالت الأم متضايقة بصورة غير متوقعة.
والتحفة النادرة نفسها؟
فى نفس الوقت، فى أفريقيا، كانت التحفة النادرة نفسها، تحمل فى قلبها - ومن يدرى ما إذا كان قلبها أسود، أيضا، حيث أنه حالما تكون الطبيعة أخطأت لا يعود بالإمكان أن نثق بها - كانت التحفة النادرة نفسها تحمل فى قلبها شيئا حتى أكثر ندرة، وكأنه سرّ سرّها: أضأل طفل ممكن. بطريقة منهجية، درس الرحالة ذلك البطن الضئيل لأضأل كائن بشرى كامل النمو. وهذه هى اللحظة التى أحسّ فيها الرحالة، لأول مرة منذ عرفها، بدلا من الإحساس بالفضول أو الغبطة أو الانتصار أو الحماس العلمى، أحسّ بالاشمئزاز:
كانت أضأل امرأة فى العالم تضحك.
كانت تضحك، بدفء، بدفء - كانت الزهرة الصغيرة تستمتع بالحياة. كانت التحفة النادرة نفسها تذوق الإحساس الذى لا يوصف المتمثل فى أنها لم تؤكل بعد. كان كونها لم تؤكل بعد شيئا من شانه فى أىّ وقت آخر أن يعطيها الحافز الرشيق للقفز من غصن إلى غصن. لكنها، فى لحظة الهدوء هذه، وسط الأعشاب الكثيفة لشرقى الكونغو، لم تكن تضع هذا الحافز موضع التنفيذ - كان مركَّزا تماما فى ضآلة التحفة النادرة ذاتها. لهذا كانت تضحك. كانت ضحكة لا يضحكها سوى شخص لا يتكلم. كانت ضحكة لم يكن بوسع الرحالة، المرتبك، أن يُصنّفها. وظلت تستمتع بضحكتها الناعمة، هى التى لم تفترس بعد. إن كون المرء لم يُفترس بعد هو أكمل إحساس. إن كون المرء لم يُفترس بعد هو الغاية الخفية لحياة بكاملها. وما دامت لم تكن تؤكل فى تلك اللحظة، كانت ضحكتها الهمجية رقيقة رقة البهجة. وارتبك الرحالة.
ومن ناحية أخرى، إذا كانت التحفة النادرة ذاتها تضحك فإنما كان ذلك لأنه، بداخل ضآلتها، بدأ يتحرك ظلام دامس.
أحسّت التحفة النادرة ذاتها بدفء فى قلبها ربما أمكن أن يُسمَّى الحب. لقد أحبت ذلك الرحالة ذا الوجه الشاحب. ولو كان بمستطاعها أن تتكلم فأخبرته أنها أحبته لانتفخ غرورا. ذلك الغرور الذى كان سيتهاوى عندما تضيف أنها أحبت أيضا خاتم الرحالة حبًّا جمًّا، وكذلك حذاء الرحالة "البوت". وعندما يحدث هذا التهاوى، لم تكن الزهرة الصغيرة لتفهم لماذا. لأن حبها للرحالة - بل ربما أمكن القول "حبها العميق"، حيث أنها، لأنها لا تملك أىّ ملاذ آخر، كانت ستلوذ بالعمق - لم يكن لحبها العميق للرحالة أن ينتقص منه على الإطلاق واقع أنها أحبتْ أيضا حذاءه. وهناك سوء تفاهم قديم فيما يتعلق بكلمة "حب"، وإذا كان كثير من الأطفال وُلدوا من سوء التفاهم هذا فإن كثيرين آخرين فقدوا الفرصة الوحيدة لأن يُولدوا، فقط بسبب الحساسية التى تقتضى أن أكون أنا! أنا! المحبوب، وليس نقودى. غير أنه فى رطوبة الغابة لا توجد هذه التدقيقات القاسية، فالحب هو ألاّ يُؤكل المرء، الحب هو الحصول على حذاء جيد، الحب هو الميل إلى اللون الغريب لرجل ليس أسود، هو الضحك حبا لخاتم لامع. ولمعت عينا الزهرة الصغيرة حبًّا، وضحكت بدفْء، ضئيلة، حُبلى، دافئة.
حاول الرحالة أن يردّ بابتسامة، دون أن يدرى بالضبط لأىّ هاوية استجابت ابتسامته، ثم ارتبك كما لا يمكن إلا لرجل عظيم جدا أن يرتبك. وتظاهر بأنه يعدّل من وضع قبعة الرحالة التى يلبسها، واحمرّ وجهه خجلا، بمنتهى الاحتشام. وانقلب إلى لون فاتن، لون وردى ضارب إلى الخضرة، كلون الجير عند شروق الشمس. ولا شك فى أنه كان متكدرا.
ومن الجائز أن تعديل وضع الخوذة الرمزية ساعد الرحالة على أن يسيطر على نفسه، وعلى أن يستردّ بصرامة نظام عمله، وعلى أن يواصل تدوين ملاحظاته. وكان قد تعلم كيف يفهم بعض الكلمات القليلة الملفوظة التى تستخدمها القبيلة، وكيف يفسر إشاراتهم. وكان يمكنه، الآن، أن يوجه أسئلة.
أجابت الزهرة الصغيرة: "نعم". بأنه لطيف جدا أن تملك شجرة خاصة بها تعيش فوقها. لأنه - لم تقل هذا غير أن عينيها أظلمتا بحيث قالتاه - لأنه من الخير أن نملك، من الخير أن نملك، من الخير أن نملك. وغمز الرحالة بعينيه مرارا.
مرّ مارسيل پريتر بلحظات صعبة مع نفسه. غير أنه ظل مشغولا على أية حال بتدوين ملاحظاته. وكان على أولئك الذين لم يدونوا ملاحظات أن يتدبروا أمورهم بأفضل ما كان بوسعهم:
"حسنا"، أعلنت فجأة سيدة عجوز، وهى تطوى الجريدة بإصرار، "حسنا، كما أقول دائماً: الله وحده يعلم ماذا يفعل".












2
مس ألجريڤ

كانت حسّاسة للنقد. ولهذا لم تقل أىّ شىء لأىّ شخص. ولو تكلمت لما صدّقوها، لأنهم لم يكونوا يصدّقون الواقع. لكنها، هى التى تعيش فى لندن، حيث تسكن الأشباح فى الأزقة المظلمة، كانت تعلم علم اليقين.
كان يومُها فى يوم الجمعة مثله فى أىّ يوم آخر. ولم يحدث ما حدث إلا يوم السبت ليلا. لكنها فعلتْ كل شىء يوم الجمعة كالمعتاد. كانت لاتزال تعذبها ذكرى مفزعة: عندما كانت صغيرة جدا، فى حوالى السابعة من العمر، كانت قد لعبتْ لعبة الأسرة مع ابن عمها چاك؛ ففى الفراش الكبير للجدّ فَعَلا معا كل شىء كان بوسعهما أن يفعلاه للحصول على طفل صغير، لكنْ بدون نجاح. ولم تر چاك بعد ذلك أبدا، كما أنها لم تردْه أيضا. وإذا كانت هى مذنبة فقد كان هو أيضا كذلك.
عزباء، طبعا، عذراء، طبعا. كانت تعيش وحدها فى مبنى صغير ملحق فى حى سوهو. وفى ذلك اليوم كانت قد فرغت من إحضار مشترياتها من البقالة: الخضروات والفواكه. ذلك أنها اعتبرت أكل اللحم خطيئة.
عندما مرّتْ عبْر ميدان پيكاديللى ورأتْ النساء فى انتظار رجال على نواصى الشوارع، كادت تتقيأ. بل أسوأ - مقابل نقود! كان ذلك أكثر مما يمكنها أن تتحمل. وكان ذلك التمثال، هناك، لإيروس [إله الحب]، فى منتهى عدم اللياقة.
بعد الغداء ذهبتْ إلى العمل: كانت كاتبة ممتازة على الآلة الكاتبة. ولم يكن رئيسها يراجع عليها أبدا، وكان يعاملها، لحسن الحظ، باحترام، فيناديها "مس ألجريڤ". وكان اسمها الأول رُوث. وكانت من أصل آيرلندى. ولأنها حمراء الشعر، كانت تعقد شعرها فى عقدة قاسية وراء عنقها. وكان ينتشر على وجهها الكثير جدا من النمش وكانت بشرتها صافية وناعمة حتى أنها كانت تبدو من الحرير الأبيض. وكانت رموشها حمراء أيضا. كانت امرأة رائعة.
كانت فخورة للغاية بقوامها: الوافر المتانة والطول. لكنْ لا أحد لمس صدرها أبدا.
كانت تتغدّى عادة فى مطعم رخيص هناك فى سوهو. وكانت تأكل الإسپاجيتى بصلصة الطماطم. ولم تدخل أبدا حانة: كانت رائحة الكحول تصيبها بالغثيان كلما مرّت بمكان من هذا القبيل. وأحسّتْ أن الجنس البشرى يجرح مشاعرها.
كانت تزرع الچيرانيوم الأحمر الأمر الذى كان مفخرة فى الربيع. وكان أبوها قسّيسا بروتستانتيًّا، وكانت أمها لا تزال تعيش فى دبلن مع ابن متزوج. وكان أخوها متزوجا من داعرة حقيقية اسمها توتسى.
على فترات متباعدة، كانت مس ألجريڤ تكتب رسالة احتجاج إلى التايمز. وكانوا ينشرونها. وكانت تدوّن اسمها ببالغ السرور: "المخلصة، روث ألجريڤ".
كانت تأخذ حمّاما مرة فى الأسبوع بالضبط، يوم السبت. ولكى لا ترى جسدها عاريا، كانت تظل لابسة اللباس والسوتيان.
كان اليوم الذى حدث فيه ما حدث يوم سبت، ولهذا لم يكن عليها أن تذهب إلى العمل. استيقظت مبكرة جدا وشربت قليلا من شاى الياسمين. ثم صلتْ. ثم خرجتْ تبحث عن بعض الهواء النقى.
بالقرب من فندق ساڤوا كادت تدوسها سيارة. ولو حدث هذا وماتت لكان هذا رهيبا، لأنه لم يكن ليحدث لها شىء فى تلك الليلة.
ذهبتْ إلى تدريب لجوقة المرتلين. وكان لها صوت رخيم. أجل، كانت إنسانة محظوظة.
فى وقت لاحق، ذهبت لتتغدّى وسمحت لنفسها بأن تطلب الجمبرى: كان جيدا إلى حدّ أنه كان يبدو حتى خطيئة.
ثم أخذتْ سبيلها إلى هايد پارك وجلستْ على الحشائش. وكانت أحضرتْ معها الكتاب المقدس لتقرأ. لكنْ - وليغفر لها الله - كانت الشمس متوحشة وسخيّة وحارة إلى درجة أنها لم تقرأ شيئا، لكنها ظلت جالسة فقط على الأرض دون أن تملك الشجاعة لتستلقى. وحاولت ألا تنظر إلى الناس الذين كانوا اثنينات يقبّل ويعانق كل منهما الآخر بلا أدنى خجل.
ثم عادت إلى البيت، ورَوَتْ البيجونيا، وأخذتْ حمّاما. ثم ذهبت تزور مسز كابوت، التى كانت فى السابعة والتسعين من عمرها. أحضرتْ لها قطعة من الكيك بالزبيب، وشربتا الشاى. وأحسّتْ مس ألجريڤ بأنها سعيدة للغاية، ومع ذلك... ومع ذلك.
فى الساعة السابعة عادتْ إلى البيت. لم يكن لديها ما تفعل. ولهذا بدأت تحيك سترة من الصوف للشتاء. لون بديع: أصفر كالشمس.
قبل أن تذهب إلى الفراش، شربت مزيدا من شاى الياسمين بالبسكويت، ونظفت أسنانها بالفورشة، وغيّرتْ ملابسها، ودسّتْ نفسها فى الفراش. أما ستائرها البيضاء الشفيفة فكانت رتقتها وعلقتها بنفسها.
كان الوقت مايو. وكانت الستائر تهتزّ مع أنسام هذه الليلة الفريدة. فريدة لماذا؟ لم تكن تعلم.
قرأتْ قليلا فى الجريدة الصباحية ثم أطفأتْ اللمبة التى عند رأس سريرها. وعبْر النافذة المفتوحة رأتْ ضوء القمر. كانت ليلة البدر.
تحسّرتْ كثيرا لأنه كان من الصعوبة بمكان أن تعيش بمفردها. كانت الوحشة تسحقها. وكان من المفزع ألا يكون لها شخص واحد وحيد تتحادث معه. كانت أكثر مخلوق عرفته عُزلة. حتى مسز كابوت كانت لديها قطة. ولم يكن لدى مس ألجريڤ أىّ حيوان أليف تقوم بتدليله على الإطلاق: كانت هذه الحيوانات وحشية للغاية حسب ذوقها. ولم يكن لديها تليڤزيون. لسببيْن: لم تكن تقدر على شرائه، ولم تكن ترغب فى أن تجلس هناك لتشاهد اللاأخلاقيات التى تظهر على شاشة التليڤزيون. وعلى تليڤزيون مسز كابوت كانت رأتْ رجلا يقبّل امرأة فى فمها. وهذا بلا أىّ إشارة إلى خطر نقل الجراثيم. آه، لو كان باستطاعتها لكتبتْ رسالة احتجاج إلى التايمز كل يوم. لكن الاحتجاج لم يَعُدْ بأىّ فائدة، أو هكذا بدا. كانت قلَّة الحياء تتفشى. بل لقد رأت كلبا مع كلبة. وقد صدمها هذا كثيرا. لكن مادامت هذه مشيئة الرب فلا بد لمشيئة الرب أن تكون. لكنْ لا أحد سوف يمسّها فى يوم من الأيام، هكذا فكرتْ. وراحت تصبر على عزلتها.
حتى الأطفال كانوا لا أخلاقيين. وتحاشتهم. وأسفتْ بشدّة على أنها وُلدتْ من انقياد أبيها وأمها للشهوة. وخجلتْ من كونهما لم يخجلا.
ومنذ أخذتْ تترك حبوب أرز على نافذتها، صار الحمام يزورها. وأخذ الحمام يدخل حجرتها أحيانا. كان الرب هو الذى يرسل الحمام. برئ للغاية. الهديل. لكنه - هديل الحمام - كان لا أخلاقيا أيضا، لكنه كان أقلّ لا أخلاقية من رؤية امرأة عارية تقريبا على شاشة التليڤزيون. وفى الغد، بلا أدنى شك، كانت ستكتب رسالة تحتج فيها على الممارسات الشريرة لتلك المدينة الملعونة، لندن. وكانت رأتْ ذات مرة طابورا من المدمنين خارج صيدلية، ينتظر كل منهم دوره لأخذ حقنة. كيف تسمح الملكة بهذا؟ لغز. ستكتب رسالة أخرى تشجب فيها الملكة ذاتها. كانت تكتب جيدا، بدون أية أخطاء نحوية، وكانت تكتب الرسائل على الآلة الكاتبة فى المكتب عندما كانت تجد بعض الوقت الخالى. وكان مستر كليرسون، رئيسها، يشيد بشدّة برسائلها المنشورة. بل قال أنها قد تغدو كاتبة ذات يوم. وكانت بالغة الاعتزاز والامتنان.
هكذا إذن كانت تستلقى فى فراشها مع عزلتها. ومع ذلك.
كانت تلك هى اللحظة التى حدث فيها ما حدث.
أحسّت بأن شيئا ما ولم يكن حمامة دخل من النافذة. كانت خائفة. صرختْ:
"مَنْ هناك؟".
وجاءت الإجابة فى صورة ريح:
"أنا عبارة عن أنا".
"مَنْ أنت؟" سألتْ، وهى ترتجف.
"جئتُ من كوكب زحل لأحبّك".
"لكننى لا أرى أىّ شخص!" صاحتْ.
"ما يهم هو أنه يمكنك أن تحسّى بى".
وقد أحسّتْ به بالفعل. أحستْ برعشة كهربائية.
"ما اسمك؟"، سألتْ فى رعب.
"لا يهم".
"لكننى أريد أن أنطق باسمك!".
"نادينى إكستلان".
كان تفاهمهما بالسنسكريتية. وكانت لمسته باردة، مثل لمسة سحلية، تصيبها بقشعريرة. وكان على رأس إكستلان تاج من الثعابين المتشابكة، التى روّضها الفزع من الموت. وكان الرداء بلا كمّيْن والذى يغطى جسده من الأرجوانى الأكثر إيلاما؛ كان ذهبيا رديئا وأرجوانيا غليظا.
قال:
"اخلعى ثيابك".
خلعتْ ثياب نومها. وكان القمر ضخما داخل المنزل. وكان إكستلان أبيض وصغيرا. واستلقى إلى جوارها على السرير المعدنى. ومرّ بيديه على صدرها. وردتان سوداوان.
لم تحسّ فى يوم من الأيام بما أحسّتْ به فى تلك اللحظة. كان شيئا لطيفا للغاية. وكانت تخشى أن ينتهى. كان يبدو وكأن شخصا مشلولا ألقى بعكازه فى الهواء.
وبدأتْ تتنهد وقالت ﻟ إكستلان:
"أحبك، يا حبييى! يا حبى!".
و- أجل، حقا. لقد حدث. لم تكن تريده أن ينتهى أبدا. كم كان حسنا، يا إلهى. وأرادت أكثر، أكثر، أكثر.
فكرتْ: خُذنى! أو بطريقة أخرى: أقدّم لك نفسى. وكان انتصارا "للهنا والآن".
سألته: متى ستعود؟
أجاب إكستلان:
"فى ليلة البدر التالية".
"لكنْ لا يمكننى الانتظار طوال ذلك!".
"لا مناص من ذلك"، قال ببرود تقريبا.
"هل أتوقع طفلا؟".
"لا".
"لكننى سأموت من افتقادك! ماذا يمكننى أن أفعل؟".
"اعتادى على هذا".
نهض، وقبّلها بعفة على الجبين. وخرج من النافذة.
بدأتْ تبكى بصوت خافت. بدتْ وكأنها كمان حزين بلا قوس. وكان الدليل على أن كل هذا قد حدث بالفعل الملاءة الملوثة بالدم. واحتفظتْ بها دون أن تغسلها وستكون قادرة على أن تريها لأىّ شخص قد لا يصدقها.
رأتْ النهار الجديد يبزغ غارقا كله فى الأحمر الوردى. وفى الضباب بدأتْ الطيور القليلة الأولى سقسقة حلوة، لم تكن بعدُ محمومة.
أشعل الرب جسدها.
لكنها، وكأنها بارونة من بارونات فون بليش، مستلقية على غطاء سريرها الساتان بحنين إلى الماضى، تظاهرتْ بأنها تدق الجرس لاستدعاء كبير الخدم الذى سيأتيها بالقهوة، ساخنة وثقيلة، ثقيلة جدا.
أحبّته وكان عليها أن تنتظر ليلة البدر التالية بحماس متقد. وكان عليها أن تتجنب أخْذ حمّام حتى لا تزيل مذاق إكستلان. ومعه لم يكن ذلك خطيئة، بل بهجة. ولم ترغب بعد ذلك فى كتابة أية رسائل احتجاج: كانت لم تعد تحتجّ.
ولم تذهب إلى الكنيسة. كانت امرأة متحققة. كان لها زوج.
وهكذا، ففى يوم الأحد، فى وقت الغداء، أكلتْ شرائح لحم البقر مع بطاطس مهروسة. كان اللحم اللعين رائعا. وشربتْ النبيذ الإيطالى الأحمر. كانت محظوظة فى الواقع. لقد اختارها كائن من كوكب زحل.
كانت سألته لماذا اختارها. وكان قد قال أن ذلك كان لأنها حمراء الشعر وعذراء. وأحسّتْ بوحشية. كانت لم تعد تجد الحيوانات منفِّرة. دع الحيوانات تمارس الجنس - كان أفضل شىء فى العالم. وكان عليها أن تنتظر إكستلان. سيعود: أعرف ذلك، أعرف ذلك، أعرف ذلك، هكذا فكرتْ. كما أنها لم تَعُدْ تشعر باشمئزاز نحو اثنينات هايد پارك. لقد عرفتْ بماذا كانوا يشعرون.
ما أجمل أن نحيا. ما أجمل أن نأكل اللحم اللعين. ما أجمل أن نشرب نبيذا إيطاليا لاذعا، يقلِّص لسانك بمرارته.
وعندئذ لم يكن يُوصى به أحد للقصَّر تحت الثامنة عشرة. وكانت مبتهجة، وكان لعابها يسيل حرفيا عليه.
وحيث كان اليوم الأحد، ذهبتْ إلى جوقة ترتيلها ترتل. ورتلتْ أفضل من أىّ وقت مضى ولم تندهش عندما اختاروها مرتلة منفردة. ورتلتْ تسبيحة شكرها لله "هللويا". هكذا: هللويا! هللويا! هللويا!
بعد ذلك ذهبتْ إلى هايد پارك واستلقتْ على الحشائش الدافئة، فاتحة ساقيْها قليلا لتدع الشمس تدخل. كان كونها امرأة شيئا رائعا. يمكن لامرأة فقط أن تفهم. لكنها تساءلتْ: تُرَى هل سيكون علىّ أن أدفع ثمنا عاليا مقابل سعادتى؟ ولم تنزعج. كانت راغبة فى دفع كل ما كان عليها أن تدفع. لقد دفعتْ دائما وكانت تعيسة دائما. والآن انتهت التعاسة. إكستلان! تعال بسرعة! لم يعد يمكننى الانتظار! تعال! تعال! تعال!
تساءلتْ: تُرَى هل أحبنى لأننى حولاء إلى حدّ ما؟ يمكنها أن تسأله فى ليلة البدر التالية. إنْ كان هذا صحيحا فلاشك عندها: ستدفع الأمور إلى الحدود القصوى، ستجعل نفسها حولاء تماما. إكستلان، أىّ شىء تريدنى أن أفعله، سأفعله. فقط أموت من الشوق. عُدْ إلىّ، يا حبيبى.
أجل. لكنها فعلتْ شيئا كان خيانة. إن إكستلان سيفهمها ويغفر لها. وعلى أية حال، أنت تفعل ما عليك أن تفعل، مضبوط؟
وإليك كيف سارت الأمور: عاجزة عن أن تتحمل ذلك وقتا أطول، مضتْ إلى ميدان پيكاديللى واقتربتْ من شاب طويل الشعر. صعدتْ به إلى حجرتها. قالتْ له إنه ليس عليه أن يدفع. لكنه أصرّ وترك، قبل أن ينصرف، ورقة بجنيه إسترلينى كامل على الكومودينو. والحقيقة أنها كانت بحاجة إلى النقود. على أنها استشاطتْ غيظا عندما رفض تصديق قصتها. وأظهرتْ له، تقريبا تحت أنفه، الملاءة الملوثة بالدم. وضحك منها.
صباح الاثنين عقدتْ عزمها: لن تستمر فى العمل كاتبة على الآلة الكاتبة، فلديها مواهب أخرى. ويمكن ﻟ مستر كليرسون أن يذهب إلى الجحيم. كانت عازمة على المشى فى الشوارع وجلب الرجال والصعود بهم إلى حجرتها. ولأنها كانت ممتازة جدا فى الفراش، سيدفعون لها جيدا جدا. وسيكون بمستطاعها أن تشرب النبيذ الإيطالى طوال الوقت. ورغبتْ فى شراء فستان أحمر فاقع بالنقود التى تركها لها الشخص الطويل الشعر. وجعلت شعرها ينسدل إلى حد أنه كان آية فى جمال الحمرة. وكانت أشبه ما تكون بعواء ذئب.
كانت قد علمت أنها ثمينة للغاية. وإذا أراد منها مستر كليرسون، ذلك المنافق، أن تستمر فى العمل لديه فسيكون هذا بطريقة مختلفة تماما.
أوّلا ستشترى لنفسها ذلك الفستان الأحمر الديكولتيه [المكشوف الصدر والكتفيْن] ثم تذهب إلى المكتب، وتصل متأخرة جدا، عن عمد، لأول مرة فى حياتها. وهذه هى الطريقة التى ستخاطب بها رئيسها:
"كفى نَسْخا على الآلة الكاتبة! وأنتَ، أيها المحتال، كُفَّ عن أساليبك الزائفة. تريد أن تعرف شيئا؟ ادخلْ الفراش معى، أيها الجلف! وليس هذا كل شىء: ادفعْ لى راتبا عاليا جدا، أيها البخيل!".
كانت واثقة من أنه سيقبل. كان متزوجا من امرأة باهتة، تافهة، چوان، وكانت له ابنة مصابة بالأنيميا، لوسى. وسيمتع نفسه معى، ابن القحبة.
وعندما تأتى ليلة البدر - ستأخذ حمّاما، مطهِّرة نفسها من كل أولئك الرجال، لكى تكون مستعدة للاستمتاع للغاية مع إكستلان.















3
قرود المارموزيتّ

المرة الأولى التى حصلنا فيها على قرد من نوع المارموزيتّ كانت قُبَيْلَ عيد الميلاد. وكنّا بدون ماء وبدون خادمة، وكان الناس يقفون فى الطوابير لشراء اللحم، وكان الطقس الحار قد بدأ فجأة - عندما شاهدتُ، مذهولة، القرد الهدية يدخل البيت، منهمكا فى أكل موزة، متفحصا كل شىء بسرعة بالغة، وبذيل طويل. كان يبدو قردا لم يكبر بعد؛ وكانت قدراته هائلة. تسلق الملابس المنشورة ليصل إلى حبل الغسيل، حيث أخذ يسبّ ويشتم مثل بحار، وسقط قشر الموز كيفما اتفق. وصرتُ مرهقة بالفعل. وفى كل مرة أنسى فيها وأخرج شاردة الذهن إلى الشرفة الخلفية، كنتُ أجفل: كان هناك ذلك الرجل السعيد. أدرك ابنى الأصغر، قبل أن أدرك أنا، أننى سأتخلص من هذا الغوريلا: "إذا بشّرتُكِ بأن القرد سيصيبه المرض ذات يوم ويموت، هل ستدعينه يبقى؟ أو إذا علمتِ أنه سيسقط ذات يوم من النافذة، بطريقة ما، ويموت هناك فى الأسفل؟" وكانت أحاسيسى تنزاح جانبا. ذلك أن بذاءة القرد الصغير وغفلته المرحة جعلتانى مسئولة عن مصيره، حيث أنه لن تقع عليه أية مسئولية. أدرك أحد الأصدقاء كيف أننى رضختُ بمرارة، وأية نوايا شريرة كانت تتنامى تحت طبيعتى الحالمة، وأنقذنى بطريقة فظة: قدِمتْ جماعة مبتهجة من الأطفال الصغار من التل وحملوا الرجل الضاحك بعيدا. وكانت السنة الجديدة مسلوبة من الحيوية لكنها كانت على الأقل بلا قرود.
بعد ذلك بسنة، وفى وقت من أوقات السعادة، رأيتُ فجأة هناك فى كوپاكابانا ذلك الجمع الصغير. وفكرتُ فى أطفالى، فى المباهج التى منحونى إياها، بسخاء، غير مرتبطة بالهموم التى منحونى أيضا إياها، بسخاء، وفكرت فى سلسلة من البهجة: "هل سيقوم الشخص الذى يتلقى هذه بنقلها إلى شخص آخر"، وكل شخص إلى آخر، مثل شرارة على طول قطار بارود؟ فى تلك اللحظة وفى ذلك المكان اشتريتُ تلك التى سيكون اسمها ليزيتّ.
كانت بحجم يد واحدة تقريبا. وكانت تلبس جونلة، وقرطيْن، وعقدا، وسوارا من الخرز الزجاجى. وكانت لها هيئة مهاجرة تنزل لتوّها من السفينة، فى زيّها الوطنى. ومثل عينىْ مهاجرة، أيضا، كانت عيناها مستديرتيْن.
كانت هذه المارموزيتّ امرأة مصغرّة. عاشت معنا ثلاثة أيام. كانت عظامها رقيقة للغاية. وكانت حلوة للغاية. وأكثر من عينيها، كانت نظرتها مستديرة. ومع كل حركة، كان القرطان يهتزان؛ وكانت الجونلة أنيقة دائما، وكان العقد الأحمر يتلألأ. كانت تنام كثيرا، لكنها فيما يتعلق بالأكل كانت حذرة وكسولة. وكانت ملاطفتها النادرة مجرّد عضّة خفيفة لا تترك أثرا.
فى اليوم الثالث كنّا خرجنا إلى الشرفة يملؤنا الإعجاب ﺑ ليزيتّ وبكيف كانت ملْكا لنا. "لطيفة للغاية"، فكرتُ، مفتقدة الغوريلا. وفجأة قال قلبى بغلظة: "لكن هذا ليس لُطفا. هذا موت". تركنى جفاف الرسالة هادئة، وقلتُ للطفلين: "ليزيت تموت". أدركتُ، وأنا أنظر إليها، مرحلة الحب التى كنا بلغناها حينئذ. لففتها فى فوطة وذهبت بها مع الطفلين إلى أقرب مركز للإسعافات الأولية، حيث لم يكن بوسع الطبيب أن يعتنى بها لأنه كان يُجرى عملية عاجلة لكلب. تاكسى آخر - "تعتقد ليزيتّ أنها خرجت للقيام بنزهة فى السيارة، يا ماما" - مستشفى آخر. وهناك أعطوها الأكسچين.
ومع أنفاس الحياة، فوجئنا ﺑ ليزيتّ أخرى لم نعرفها من قبل. العينان أقلّ استدارة، أكثر تحفظا، أكثر ضحكا، وفى الوجه البارز الفكيْن والعادى نوع من العجرفة الساخرة. ومع أكسچين أكثر قليلا رغبتْ ليزيتّ بشدة فى أن تتكلم إلى حدّ أنها لم تستطع أن تطيق كونها قردة؛ وكانت كذلك، ولابدّ أنه كان لديها الكثير لتقوله. مزيد من الأكسچين، ثم حقنة محلول ملح؛ وكان ردّ فعلها على الشَّكَّة بصفعة غاضبة، وكان سوارها يتلألأ. ابتسم الممرض؛ "ليزيتّ! على مهلك، يا عزيزتى!".
التشخيص: لن تعيش ليزيتّ ما لم يكن هناك أكسچين جاهزا للاستعمال وحتى فى هذه الحالة فليس هذا مرجّحا. "لا تشترى قرودا من الشارع"، وبّخنى، "أحيانا تكون مريضة أصلا". لا، ... ينبغى أن يشترى المرء قرودا مضمونة، وأن يعرف من أين جاءت، ليضمن خمس سنوات على الأقل من الحب، وأن يعرف كل ما فعلته وما لم تفعله هذه القرود، مثل الزواج. وتناقشتُ فى الأمر مع الطفلين دقيقة. ثم قلت للممرض: "يبدو أنك أحببت ليزيتّ كثيرا. ولهذا إذا جعلتها تبقى بضعة أيام بجوار الأكسچين، يمكنك أن تأخذها". كان يفكر. "ليزيتّ رائعة!" هكذا توسّلتُ إليه.
"إنها جميلة!" وافق، متفكرا. ثم تنهد وقال "إذا نجحتُ فى علاج ليزيتّ، فهى لكِ أنتِ". وانصرفنا بفوطتنا خالية.
فى اليوم التالى اتصلوا بنا تليفونيا، وأبلغتُ الطفلين أن ليزيتّ ماتت. سألنى الأصغر: "هل تعتقدين أنها ماتت لابسة قرطيْها؟" قلتُ نعم. بعد ذلك بأسبوع قال لى الأكبر: "يبدو أنك تحبين ليزيتّ كثيرا جدا!".
أجبتُ: "أحبك أنت، أيضا".

















4
وَقْع أقدام


كانت فى الحادية والثمانين من عمرها. كان اسمها دونا كانديدا راپوسو.
كانت هذه المرأة مستثارة بالحياة. وزادت إثارتها عندما ذهبت لتقضى أياما قليلة فى مزرعة: الارتفاع، خضرة الأشجار، المطر، كل هذا جعل الأمر أسوأ. وعندما استمعت إلى ليست Liszt ارتجفت من الرأس إلى إصبع القدم. وكانت جميلة فى شبابها. وكان يثيرها استنشاق رائحة وردة بعمق.
حسنا، فى حالة دونا كانديدا راپوسو، كانت الرغبة فى اللذة لا تزول.
أخيرا، كانت لديها الشجاعة الكبيرة لتذهب إلى طبيب نساء. وسألته، منحنية الرأس، فى خزى:
"متى سيزول؟"
"ما الذى سيزول متى، يا سيدتى العزيزة؟"
"الشيء".
"أىّ شيء؟"
"الشيء"، كررت. "الرغبة فى اللذة"، قالت أخيرا.
" يا سيدتى العزيزة، يؤسفنى أن أقول إنه لا ينتهى".
نظرت إليه بدهشة.
"لكننى فى الحادية والثمانين من العمر"!
"لا يهمّ، يا عزيزتى. إنه يبقى حتى الموت".
"لكنه جحيم"!
"تلك هى الحياة، يا سنيورة راپوسو".
هكذا كانت الحياة إذن؟ هذا الخزى؟
"إذن ماذا أفعل؟ لم يَعُدْ أحد يريدنى ..."
نظر إليها الطبيب بتعاطف.
"لا يوجد أىّ علاج، يا سيدتى العزيزة".
"لكنْ ماذا إذا دفعت؟"
"لن يكون هناك أىّ اختلاف. يجب أن تتذكرى أنك فى الحادية والثمانين".
"لكنْ ... ماذا إذا اعتنيتُ بهذا بنفسى؟ هل تفهم ما أحاول قوله؟"
"نعم"، قال الدكتور. "هذا قد يساعد".
وعلى هذا غادرت عيادة الطبيب. كانت ابنتها تنتظرها هناك فى الأسفل بالسيارة. وكانت كانديدا راپوسو قد فقدت ابنها فى الحرب؛ كان جنديا شابا. وكانت تعانى ألما لا يطاق فى قلبها: ألم البقاء حيّة بعد ابن حبيب.
فى تلك الليلة ذاتها فعلت ما استطاعت و، بمفردها، أشبعت رغبتها بنفسها. ألعاب نارية صامتة. بعد ذلك بكت. كانت تشعر بالخزى. ومنذ ذلك الحين فصاعدا استعملت نفس الطريقة. وكانت دائما محزنة. تلك هى الحياة، يا سنيورة راپوسو، تلك هى الحياة. حتى نعمة الموت.
الموت.
واعتقدت أنها سمعت صوت وَقْع أقدام. وَقْع قَدَمَىْ زوجها، أنتينور راپوسو.















5
طريق الآلام

كانت ماريا داس دوريس خائفة. بل خائفة حقا!
بدأ الأمر عندما لم تأت دورتها الشهرية. أدهشها هذا لأنها كانت منتظمة جدا.
مرَّ أكثر من شهرين، ولكن لم يحدث شيء. ذهبت إلى طبيبة نساء. شخَّصتْ حَمْلا مؤكدا.
"مستحيل!" صرخت ماريا داس دوريس.
"لم لا؟ ألستِ متزوجة؟"
" نعم متزوجة، لكننى عذراء، زوجى لم يلمسنى مطلقا. قبل كل شيء لأنه رجل مريض وثانيا لأنه نصف عاجز بالفعل".
حاولت طبيبة النساء أن تُجادل:
"مَنْ يدرى، ربما ذات ليلة كنتِ ..."
"مطلقا! لم يحدث مطلقا!"
"فى هذه الحالة"، انتهت طبيبة النساء إلى القول، "لا أعرف كيف أفسر ذلك. أنت حامل فعلا فى أواخر الشهر الثالث".
غادرت ماريا داس دوريس عيادة الدكتورة ورأسها يدور بسرعة. وكان عليها أن تتوقف عند مطعم لتشرب بعض القهوة. لكى تستطيع أن تفهم.
ماذا يجرى؟ سيطرت عليها لوعة هائلة. لكنها غادرت المطعم أهدأ قليلا.
أثناء سيرها عائدة إلى البيت اشترت سترة صغيرة للوليد. زرقاء، لأنها كانت واثقة من أنه سيكون ولدا. بأىّ اسم ينبغى أن تسمِّيه؟ كان هناك اسم واحد يمكنها أن تسمِّيه به: يسوع.
فى البيت وجدت زوجها لابسا الشبشب، يقرأ الجريدة. أخبرته بما حدث. ذُهِلَ الرجل:
"إذن أنا القديس يوسف؟"
"بالفعل"، كان الرد المقتضب.
سقطا كلاهما فى تفكير عميق.
أرسلت ماريا داس دوريس الخادمة لتشترى الڤيتامينات التى كانت قد وصفتها طبيبة النساء. كانت مفيدة لابنها.
ابنها المقدَّس. كان الرب اختارها لتمنح العالم المسيح الجديد.
اشترت مهدا أزرق. بدأت تنسج سترات صغيرة وتصنع حفاضات ناعمة.
فى الوقت نفسه أخذت بطنها تكبر. كان الجنين مليئا بالحيوية: كان يركل بعنف. أحيانا كانت تنادى القديس يوسف ليضع يده على بطنها ويحس بالابن يعيش بكل هذه القوة فى الداخل.
وعندئذ كانت عينا القديس يوسف تمتلئان بالدموع. كان فى طريقه إلى أن يكون يسوعا مليئا بالحيوية.
أخبرت ماريا داس دوريس أقرب صديقة لها بالقصة المذهلة بكاملها. ذُهلت أيضا:
"ماريا داس دوريس، ولكنْ أىّ قدر ممتاز قُدِّر لكِ!"
" ممتاز، نعم"، تنهدت ماريا داس دوريس. "ولكنْ ماذا يمكننى أن أفعل لأمنع ابنى من السير فى طريق الآلام؟"
"صَلِّى"، نصحت الصديقة، "صَلِّى كثيرا".
وبدأت ماريا داس دوريس تؤمن بالمعجزات. وذات مرة رأت مريم العذراء تقف إلى جانبها، مبتسمة لها. مرة أخرى، قامت هى نفسها بالمعجزة: أصيب زوجها بجرح مفتوح فى رجله، قبَّلت ماريا داس دوريس الجرح – فى اليوم التالى ذهب بلا أثر.
كان الجو يزداد برودة، كان شهر يوليو. فى أكتوبر سيولد الطفل.
ولكنْ أين يمكن أن يجدا زريبة؟ ليتهما كانا فى مزرعة هناك فى ريف "ميناس چيرايس". لهذا قررا الذهاب إلى مزرعة العمة مينينيا.
كان ما أقلقها هو أن الطفل لن يولد فى الخامس والعشرين من ديسمبر.
كانت تذهب إلى الكنيسة كل يوم، وحتى رغم بطنها المنتفخة كانت تظل راكعة لساعات. كأمٍّ بالعماد اختارت مريم العذراء. وكأبٍ بالعماد، المسيح.
وهكذا مرّ الوقت. وصارت ماريا داس دوريس سمينة بوحشية وكانت لها رغبات غريبة. مثل رغبتها فى أن تأكل العنب المجمَّد. وذهب معها القديس يوسف إلى المزرعة. وهناك استمر فى عمله كنجّار أثاث.
وذات يوم أتخمت ماريا داس دوريس نفسها أكثر مما ينبغى – وتقيأت وبكت. وفكرت: طريق آلام ابنى المقدس قد بدأ.
لكنْ بدا لها أنه إذا هى تركت الطفل باسم يسوع فإنه سوف يُصلب عند بلوغ عمر الرجولة. سيكون من الأفضل منحه اسم عمانويل. اسم بسيط. اسم جيد.
انتظرتْ عمانويل قاعدةً تحت شجرة چابوتيكابا. وفكرت: "عندما تأتى الساعة، لن أصرخ، سأقول فقط – يا، يسوع!"
وأكلت كرز شجرة الچابوتيكابا. وأتخمت نفسها، أمّ يسوع.
العمة، التى أدركت الأمر تماما، زيَّنت الحجرة بستائر زرقاء. وصارت الزريبة جاهزة بكل رائحتها الزكية للسماد والأبقار.
فى الليل تطلعت ماريا داس دوريس إلى السماء المرصعة بالنجوم بحثا عن النجم الهادى. مَنْ سيكونون المجوس الثلاثة؟ مَنْ سيأتيها بالمرّ واللبان؟
تجولت ثلاث مرات طويلة لأن الدكتورة كانت قد نصحتها بأن تتمشَّى كثيرا. وترك القديس يوسف لحيته الشيباء تكبر، وانسدل شعره حتى كتفيْه.
كان من الصعب الانتظار. الوقت لم يكن يمرّ. وللإفطار صنعت لهما العمة كعكا صغيرا تفتَّت فى فميْهما. وتركهما البرد بأيْدٍ متجمدة حمراء.
فى الليل أوقدا النار وجلسا حولها يتدفآن. وجد القديس يوسف لنفسه عصا راعٍ. ولأنه لم يغيِّر ملابسه، كانت تفوح منه رائحة خانقة. وكانت سترته القصيرة من النسيج القطنى الرخيص. شرب النبيذ بجوار الموقد. وشربت ماريا داس دوريس الحليب الأبيض الغليظ القوام، بمسبحة فى يدها.
ومبكرا جدا فى الصباح ذهبت تتفقد الأبقار فى الزريبة. أخذت الأبقار تخور. وابتسمت لها ماريا داس دوريس. وكانت كلها وديعة: الأبقار والمرأة. وكانت ماريا داس دوريس على وشك البكاء. رتَّبت التبن على الأرضية، لإعداد مكان يمكنها أن ترقد فيه عندما تأتى الساعة. ساعة النور.
ذهب القديس يوسف، حاملا عصا الراعى التى يحملها، للتأمل فوق الجبل. وأعدَّت العمة الخنزير المشوىّ، وأكل الجميع كالمجانين. ولم يقم الوليد بشيء يتعلق بالوصول.
حتى أحسَّت ماريا داس دوريس ذات ليلةٍ، فى الثالثة صباحا، بأول ألم. أشعلتْ مصباح الليل، أيقظت القديس يوسف، أيقظت العمة. ولبسوا ثيابهم. وبمشعل يضيئ الدرب، شقوا طريقهم عبر الأشجار نحو الزريبة. ولمع نجم ضخم فى السماء السوداء.
الأبقار، وقد أُوقِظَتْ، صارت قلقة وبدأت تخور.
وبعد قليل، عاد الألم. عضَّت ماريا داس دوريس يدها هى لكى لا تصرخ. ولم يأتِ الفجر.
كان القديس يوسف يرتجف من البرد. وكانت ماريا داس دوريس، راقدةً فوق التبن، تحت بطانية، تنتظر.
عندئذ جاء ألم حاد حقا. "يا، يسوع"، كانت ماريا داس دوريس تئنّ. "يا، يسوع"، بدا أن الأبقار تخور.
النجوم فى السماء.
عندئذ حدث الأمر.
وُلِدَ عمانويل.
وبدتْ الزريبة مليئة بالنور.
كان ولدا قويا وجميلا، أطلق خوارا فى جو الصباح الباكر.
قطع القديس يوسف الحبل السُّرِّىّ. وابتسمت الأم. وبكت العمة.
ولا أحد يعلم ما إذا كان على هذا الطفل أن يسير فى طريق الآلام. الطريق الذى يسير فيه الجميع.




#خليل_كلفت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أسطورة الفترة الانتقالية وحقائق المسار الفعلى للتطورات فى مص ...
- مقالات مترجمة فى الفن التشكيلى
- أساطير البحر - برنار كلاڤيل
- تسع قصائد للشاعر البرازيلى: مانويل بانديرا
- سبع قصائد لناظم حكمت
- غنوة
- مشاكل تخلُّف (قصيدة)
- الإعداد للموت (قصيدة)
- أربع قصائد لبورخيس
- الترجمة فى سياق ما بعد كولونيالىّ
- الأب ضد الأم وقصص أخرى
- طريق الآلام
- وَقْع أقدام
- الازدواج فى اللغة العربية بين -الفصحى- و-العامية-
- شعار -ثورتنا برلمان وميدان- مُخَدِّر جديد لقوى الثورة!
- المهدى الرئاسى المنتظر فى مصر!
- من سؤال الأسباب إلى سؤال النتائج (كلمة للإلقاء فى مؤتمر الثو ...
- الانتخابات الرئاسية واحتمالات الصراع بين المجلس العسكرى والإ ...
- -الجحيم، 1، 32- ، لويس بورخيس ت: خليل كلفت
- توفيت ابنتى السيدة هند خليل كلفت


المزيد.....




- -يوم أعطاني غابرييل غارسيا ماركيز قائمة بخط يده لكلاسيكيات ا ...
- “أفلام العرض الأول” عبر تردد قناة Osm cinema 2024 القمر الصن ...
- “أقوى أفلام هوليوود” استقبل الآن تردد قناة mbc2 المجاني على ...
- افتتاح أنشطة عام -ستراسبورغ عاصمة عالمية للكتاب-
- بايدن: العالم سيفقد قائده إذا غادرت الولايات المتحدة المسرح ...
- سامسونج تقدّم معرض -التوازن المستحدث- ضمن فعاليات أسبوع ميلا ...
- جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-
- “العيال هتطير من الفرحة” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- مسابقة جديدة للسينما التجريبية بمهرجان كان في دورته الـ77
- المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي: إسرائيل تعامل الفنانين كإرهاب ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خليل كلفت - أضأل امرأة فى العالم - كلاريس ليسپكتور