أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - أم الزين بنشيخة المسكيني - الفن والأمل...(سيرة فلسفية مؤقتة)















المزيد.....


الفن والأمل...(سيرة فلسفية مؤقتة)


أم الزين بنشيخة المسكيني

الحوار المتمدن-العدد: 3711 - 2012 / 4 / 28 - 15:44
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


إنّ السؤالَ العام الذي يهمنا هنا هو ذاك الذي أشار إليه كانط فيما سمّاه ثالثَ أسئلةِ الفلسفة الجامعة لمصالح العقل البشري برمته، ألا وهو سؤالُ "ماذا يحقّ لي أن آملَ ؟"، أو "أن أرجوَ ؟" « que m’est- il permis d’espérer ! ».
و هذا التردّد أو التضاعفُ نفسه هو لبُّ الإشكالِ الذي يشغلنا في هذا البحث .إنّ الأمر يتعلق بتردّدٍ فلسفي ساكنٍ في صلب عبارةِ كانط نفسِها ،ممّ يجعلنا ، و منذ البدء ، في مواجهة إشكالٍ غامضٍ عنيد وعصيٍّ عن الحسم النهائي ، كامنٍ في مصير العقل البشري المقسوم دوما ما بين الأمل و الرجاء، و قد نكون بذلك إزاء تردّدٍ فلسفي بين الفن كأفقٍ للأمل و الدين بوصفه ميدانا للرجاء.
الفنُّ أم الدينُ ؟ أيُّهما كفيلٌ باحتضان ميدان السؤال الثالث : ماذا يحقّ لي أن آمل أو أن أرجوَ ؟
وإنّ ما يمثّل مصدرَ قلقٍ دائم لدينا هو أنّ كانط نفسَه لم يكن يملك جوابًا حاسما لهذا السؤال . ربما لأنّ الأمر لا يتعلق بمجرّد سؤالٍ في المعنى الذي ننتظر فيه عادة وعلى نحو كسول إجابة واحدة ووحيدة . ولكن، حيث تولد الأسئلة من بين أيادي كبار مصمّمي العقل البشري ،انما يأتي السؤال وحيدا فريدا ، ،من أماكن مغايرة للإجابات ، (وفق عبارة جميلة لدولوز).
ربّما لم يكن في نيّة كانط أن يحسم بين الرجاء و الأمل ، و قد ظل طيلةَ نصوصه النقدية وما بعد النقدية مترددا إزاء هذا الأمر . ربّ تردد هو أمارةٌ على تعقّدِ هذه المسألة و عمقها في حقلٍ تتشابك فيه المخيلةُ الفنية مع المخيالِ الديني ، و الأملُ البشري المتناهي مع الرجاءِ اللاهوتي اللامتناهي .كيف الحسمُ اذا في النزاع على ميدان التخييل ما بين الشاعر و النبي ، خاصةً و أنّ الفيلسوفَ الذي ينتصب هنا حكما وحيدا بينهما، يمنع العقلَ البشري سلفا من بناء أيِّ شكلٍ من المعرفة على صعيد علاقتِنا بميدان المطلق اللامشروط. وهل يستطيع الفيلسوف أن يكون منصفا في حسم علاقة البشر بميدان الرمز و المقدس بعد أن صار الإلهُ نفسُه الى مجرّد حاجةٍ أو مسلّمةٍ أخلاقية محضة؟
لقد كرّر كانط سؤاله الثالث عن الأمل ثلاث مرات و على فترات متباعدة ، (1781، 1793، 1800) ، لكنّه كان في كل مرة يراجع دلالته المنشودةَ في ضوء تأويله الذاتي لجملة فلسفته . يولد السؤال الثالث أوّلا في كتاب نقد العقل المحض 1781، و تحديدا ضمن المقطع الثاني من الفصل الثاني من الباب الثاني ، حيث يوشك الكتاب على النهاية .يقول كانط :" إنّ كلَّ مصلحةٍ لعقلي (أكانت تأمليةً أم عمليةً ) تجد مركزَها في الأسئلةِ الثلاثةِ التالية : 1 ماذا يمكنني أن أعرف؟ 2 ماذا يجب عليّ أن أفعل؟3 ماذا يحقّ لي أن آمل؟ "
علينا هنا أن ننتبه جيدا الى كيفية تأويل كانط ، في زمن عنفوانه الفلسفي ، حيث كان بصدد رسم الخارطةِ الكبرى للفلسفة الحديثة ، لهذه الأسئلة الثلاث التي يأتمنها على مصير العقل البشري نفسه : ففي حين يكون السؤال الأول لديه سؤالا تأمليا بحتا ، ويكون الثاني عمليا محضا ، فإنّ السؤالَ الثالث هو حسب عبارات كانط نفسه " عمليٌّ و نظريٌّ معا ".لكن الأمرَ الذي يحيّرنا هو : كيف يصمت كانط عن هذا السؤال و لماذا يمتنع عن إيداع حقل الأمل الى مجال بعينه ؟ غير أنّ الذي يسطع بغيابه ههنا أي في الكتاب النسقي الكبير لكانط هو الدين . هل أن السكوت عن الدين في كتاب 1781 راجعٌ الى أنّ كانط لا يُدمج الدينَ ضمن المصلحةِ التأملية للعقل ، في الكتاب الذي يظهر فيه إله كانط وهما ميتافيزيقيا أو فكرةً جدلية بلا قيمة موضوعية أي أنطولوجية؟ و في الحقيقة إنّ ما أثارنا أكثر هو أنّ كانط لم يصمت في هذا الموضع الفلسفي الحاسم من النقد الأول عن الدين فحسب ، انما صمت عن الفنّ أيضا .هل كان فيلسوفُنا قد قصد اذا تعليقَ السؤال الثالث في نقد العقل المحض الى حين تجميع العدة الفلسفية الكافية لحسم هذا الأمر ؟ .
وطبعا كان عليه أن يعبر بهذا السؤال رأسا الى ميدان العقل العملي ، ما دامت مصالحُ العقلِ البشري لديه عمليةً في جوهرها .وانطلاقا من كتاب النقد الثاني لسنة 1788 سوف ينخرط كانط في المعالجة الأخلاقية لإشكالية الأمل .لكنّ كانط سوف يظل هنا مترددا أيضا بين الأمل في التقدم الأخلاقي و الرجاء في حياة أخرى . و قد حزم أمرَه آخر المطاف و بدا لنا، وذلك وفق مبدإِ أولويةِ العقل العملي على العقل النظري ، مُفضّلا الأملَ العمليَّ الذي يجعل التقدم الأخلاقي ، ممكنا للبشر، على الرجاءِ اللاهوتي الذي يبقى دوما ،في عيون فيلسوف تناهي الذات البشرية،حكرا على إرادةٍ الاهية عليا أدركت القداسةَ حيث التوافقُ التام ما بين القانون الخلقي و الخير الأسمى. و النتيجة التي نخرج بها هي، حسب عبارات كانط الصريحة، "أنْ ليس بوسع الانسانِ غيرَ أن يأملَ في التقدم الأخلاقي بوصفه الموضوع الوحيد لإرادتِه". و ذاك تحديدا هو المعنى الجوهري للاطروحة الأساسية لكتاب نقد العقل العملي أي التمييزُ الحاسم بين أن تكون السعادةُ أملَ البشر و أن يكون البشرُ جديرين بالسعادة فحسب.
في نص رسالة بتاريخ 4 ماي 1793 ، أي في السنة نفسِها التي نشر فيها كانط كتاب الدين في حدود مجرد العقل ، و بعد ثلاثِ سنواتٍ من نشر آخر كتبه النقدية، أي كتاب نقد ملكة الحكم ، يكتب كانط ما يلي :" إنّ خطتي المرسومةَ بعد منذ زمن بعيد ، و التي تفرض عليّ بلورةَ ميدانِ الفلسفة المحضة ، قد أدّت الى النهوضِ بالمهام الثلاثة التالية : 1 ماذا يمكنني أن اعرف؟ (الميتافيزيقا) 2 ماذا يجب علي أن أفعل ؟ (الأخلاق) 3 ماذا يحق لي أن أرجو؟(الدين)، بحيث كان يجب أخيرا أن يكون السؤال الرابع "ما هو الانسان؟" (الأنثروبولوجيا) التي كنت ألقي حولها درسًا منذ أكثر من عشرين سنة"
إنّ هذه الرسالة تهمّنا كثيرا لأنها تمثّل موضعا فلسفيا هاما فيه يقدّم كانط صراحة تأويله الذاتي لمجمل فلسفته .
ولكن هل أنّ كانط كان يجاهرنا بالحقيقة أم كان يراوغ و يحجب عنّا مقاصدَه البعيدة أم تُرى كان يدفع بنا ضمنا إلى ضرورة التفكير بالرجاء الديني على نحو مغاير للأديان التاريخية ؟
ينبغي أن نلاحظ أنّ هذه الصياغةَ الكانطية هي أفضلُ صياغةٍ و أكملِها في طوبيقا الأسئلة الفلسفية المتعالية مقارنةً مع صياغةِ 1781، حيث بقي كانط مورّطا بصمته عن مضمون السؤال الثالث. لكن لماذا قرّر كانط سنة 1793 تحديدا ، أن يحسم مضمونَ هذا السؤالِ الثالث و أن يودعَ ما كان أفقا للأمل الأخلاقي سنة 1788 الى مجال الرجاء الديني، مؤتمنًا الدينَ على كل هذه المنطقةِ التي من المفروض أن تكون هي مجالَ الحرية بوصفها الاسمَ الآخرَ للعقل العملي ،؟ و بدلا عن أملٍ نابع عن الحرية بوصفها، وفق مجاز كانط المعروفـ، "مفتاحا" فلسفيا وحيدا لكل ميدان الفعل البشري ، يدفع كانط ، و في نوع من الردة الخطيرة على الفلسفة النقدية نفسها، بمصالح العقل البشري ، الى التورط في أفق الرجاء الديني ؟ لماذا فضّل كانط اذا أن يأتمن الدين على أفق الأمل أي على الحرية ، و أن يصمت مرة أخرى عن نقد ملكة الحكم ؟ صمت عنها قبل أن يكتبَها وصمت عنها بعد أن كتبَها. فما هو السرّ في ذلك ؟
و إنّ الأمر يتعلق لا ريبَ بوضعيةِ الرقابة التي كتب كانط تحت وطأتها هذا التأويلَ الذاتي لفلسفته في سنة مخصوصة، صدر ضدّه فيها مرسومٌ ملكيّ يهدّد بمنعه من الاشتغال على الدين وإذا لم يبرّر مواقفَه من الدين المسيحي ، فهو مهدَّد بأنْ يمنع عن الاشتغال بالفلسفة نفسها. ماذا لو كان كانط اذا في هذه الرسالة مضطرًّا الى مغالطة القارئ و مراوغة السائس و الكاهن معا بقصد رفع الحصار عن العقل البشري نفسه؟ وكم أعجبتنا حيلةُ كانط الشيخ المحنّك الذي فضل مكرَ العقل الذي لا شيء لدى كانط يعلو عليه ، دفاعا عن الفلسفة، بدلا من التضحية بمصيرها للساسة و للكهان .
و رغم ذلك يظل صمتُ كانط عن كتاب النقد الثالث ضمن هذا التأويلِ الذاتي لسنة 1793 مدعاةً للريبة و التساؤل : ما هي منزلة كتاب نقد ملكة الحكم ضمن المشروع النقدي برمته ؟ لماذا لم ينزّل كانط هذا الكتابَ ضمن مصالح العقل العليا ؟أليس هو الكتاب الذي أوكل اليه كانط نفسُه مهمّةَ العبور فوق "الهاوية السحيقة" (والعبارة لكنط) التي تفصل العقل النظري عن العقل العملي؟ ، أليس نقدُ ملكة الحكم الضامنَ الوحيد لوحدة العقل البشري نفسه؟ هل يحقّ لفيلسوفٍ في قامة كانط أن يغفلَ عن هذا الأمر؟
لا مخرجَ لنا من هذا المأزقِ الذي يدفعنا إليه كانط الشيخُ إلا بإعادةِ التوجّهِ في تاريخ الفلسفة توجّها مغايرا . ولقد أسعفتنا إزاء هذا الأمرِ جملةٌ من الأساليب المعاصرة في قراءة نصوص تاريخ الفلسفة :من ذلك أطروحة لدولوز من أطروحات كتاب الاختلاف و المعاودة ، و القاضية بما يلي : "علينا ممارسة ضرب من ابطاء النص أو تجميده أي أن نؤجل فيه راحته و تأويله الذاتي" . و تبعا لذلك علينا محاولة إعادة السؤال الثالث،و ذلك رغمًا عن كانط التاريخي ،الى دائرة الفلسفة المحضة، أي الى دائرة مصالح العقل البشري.و لنقل أنّ هذا السؤالَ الفلسفي المربكَ الذي بقي معلقًا على حافة التقاطعِ الغامض بين المخيلة الفنية و المخيال الديني، لم يكن في الحقيقة سؤالا ثالثا ، في معنى الترتيب أو القسمة أو معنى الاستقلال ، بل هو سؤالٌ محوريّ بين السؤالين الأول و الثاني :بهذا المعنى فقط هو ثالث . ان السؤالَ عن الأمل هو السؤال عما أشار إليه كانط بوصفه الحقل الخاص بإشكالية نقد ملكة الحكم ، أي بعبور الهوة الفاصلة بشكل مهيب بين "ماذا يمكنني أن أعرف" و "ماذا يجب علي أن أفعل" ؟ و ربما ليس الدينُ نفسُه في آخر المطاف غيرَ أحد المعاني الرمزية لهذه الهاوية التي لا قِبل لنا بالعبور فوقها الا عبر الاستطيقا نفسها ؟
وفي الحقيقة اننا نجد أنفسنا منذ البداية إزاء تأويلاتٍ كبرى لفلسفة كانط . و ذلك يعني أنّنا على وعيٍ بأنَّ كانط الجمالياتِ، الذي قدّم صياغة فلسفية نموذجية لاكتشاف متعالي للمحسوس ، ليس هو بالنسخةِ الفلسفية الوحيدةِ من كانط التاريخي، فهناك تجاربُ أخرى ولدت في ورشته الفلسفية، من قبيل كانط الوضعية المنطقية ، و كانط الفينومينولوجيا ، و كانط الابستمولوجيا، وكانط اللبيراليين ،... لكنّ كانط الذي يهمّنا و نرى أنّه أقربَ الى المسائل التي تهمّ ثقافةً في حاجة ماسّة الى تدبيرٍ صحّي و ناجعٍ لميدانِ التخييل ، هو كانط الذي يقترح الاستطيقا براديغما عاما للتفكّر بميدان مشاعر البشر و آلامهم و آمالهم و مخيلتهم ، بصرف النظر عن هوياتهم و أعراقهم و ذاكرتهم .
ذلك ما يقودنا إلى التمييز بين كانط التاريخي الرسمي و كانط الاشكالي الاستكشافي :أما عن الأول فهو طبعا كانط الذي كان عليه أن يصمّم فلسفةً بها يؤسس أو يقارع أو يتملّك فيزياءَ نيوتن .وهو كانط الذي تعلّم مع روسو كيف يحب البشرُ و كيف يصمّم لهم التأسيسَ الترنسندنتالي للحرية الطبيعية التي بحوزتهم . .أما كانط الثاني فهو كانط غيرُ الجاهز ، المتسائلُ و المرتابُ الذي أمسكنا به داخل نصوص أخرى، قارئةٍ لنصوص كانط في حجم نصوص دريدا ، ذاك الذي اعتبر كانط ضربا من الوشم الفلسفي الذي الذي نُحت نحتًا على لحم الفلسفة ، و صار لها بمثابة القدرِ الجميل الذي لا مردَّ له. انه كانط المقوّى بقرنين من التفلسف، أي من الطبقات التأويلية التي مافتئ المعاصرون يسطرونها و يطوونها طيا .
لذلك بالضبط اخترنا أن نتخذ من الأفقِ الفلسفي الواسع الذي افتتحه كتاب نقد ملكة الحكم حقلا اشكاليا من أجل التدرّب على ضرب مغاير من الإقامةِ ضمن السؤال الكانطي عن الأمل .و كنّا في ذلك مهمومين بالسؤال التالي : لماذا لا يكون الفنُّ هو الاجابةَ الجوهرية عن السؤال الثالث ؟ و علينا هنا أن نشير الى أنّ الأمر يتعلق تحديدا بما سمّاه نيتشه الشاب "ميتافيزيقا الفن" ، خاصة و نحن نعلم أن الكتابةَ عن النقد الثالث لكانط كانت أولى المشاريعِ الفلسفية السريةِ لنيتشه الأول، والتي عزف عن انجازها ، مفضّلا العودةَ الى الاغريق ضد نموذج الانسان الحديث الذي صممته ميتافيزيقا الذاتيةِ لكانط .وما كان نيتشه ليكون نيتشه لو لم يفعل ذلك ، أي لو لم يختصم بشراسة مع فيلسوف ألمانيا بامتياز.و حينما ننصرف الى نصوص نيتشه الأول سوف نغنم منها الخيط الفلسفي التالي: أنّ كلّ المشكلة تبدو رهينةَ طريقةِ تأويلِنا للجملة الشهيرة لكانط ، من التصدير الثاني لسنة 1787،" ينبغي الحدُّ من المعرفة من أجل ترك مكان للايمان".و نيتشه ينفعل ضد هذه الجملة الكانطية لأنّه كان يؤوّل عبارةَ "الايمان " في معنى العقيدة الدينية. لذلك استاء نيتشه من كانط و خاب أملُه فيه و ظلّ تحت ضغط هذا التأويل العنيف على امتداد كل نصوصه ، ينعت كانط باللاهوتي و الأحمق بل و بالعنكبوت المشؤوم على مصير الفلسفة . و في الحقيقة لقد كان نيتشه يشتق مشروعَه الفلسفي الأولَ من كانط نفسه أي من ضرورة ما يسميه ب"السيطرة على غريزة المعرفة" ، لكن ليس من أجل ما سماه كانط بالايمان انما من أجل الفن .وهو ما عثرنا عليه في الفقرة 36 مما نشر له تحت عنوان كتاب الفيلسوف . يقول نيتشه: "السيطرة على غريزة المعرفة ، هل هو أمر من أجل الدين أم من أجل الفن ؟ إنّه أمرٌ علينا حسمه الآن و اني لواضع نفسي من جهة الإمكانية الثانية".
و بالرغم من أنّ مفهومَ الأمل لا يظهر في النقد الثالث إلا ظهورا محتشما لا يتعدى أصابعَ اليد الواحدة ، فإنّنا نعتبر أنّ الفنَّ هو الميدانُ الأول الذي يجعل مفهومَ الايمانِ الذي قصده كانط ممكنا .و نقصد بذلك مفهومَ التفكّرِ بما هو الميدان الواسع للرمز عموما .وهو ما جعل كانط يحدثنا في أحد "باررغا الدين" أو "ملحقات الدين"، عن معنى "الايمان المتفكر" (La foi reflechissante.). وهو مفهوم وقف عنده دريدا طويلا.
وممّا دفعنا إلى التشبّث بكتاب النقد الثالث لكانط و الدفاعِ عنه بوصفه قد افتتح إمكانياتٍ استكشافيةً للتفلسف راهنا ، هو بخاصة التأهيلُ الفلسفي الكبير الذي تمتّع به هذا الأثرُ الفلسفي ، بوصفه ، على حد العبارات الجميلة لدريدا، أثرًا فنيا في حد ذاته يغري الفلسفة لأنه يدور حول موضوعة اللذة المحضة . وهذا الأثر انما يتنزل وفق دريدا فيما سماه في عبارة فرنسية le non lieu أي u-topos في اليونانية ، مما ساعدنا على اعتبار النقد الثالث بمثابة يوطوبيا الأمل الكفيلة باحتضان السؤال الثالث.
و فعلا لقد اكتشف المعاصرون قيمة هذا الأثر الفلسفي ، بل و يمكننا الافتراض بأنّ اعادةَ اكتشاف نقد ملكة الحكم من قبل جيل من القراء الجدد (من حجم أدرنو و حنا آرندت وغادامار و ليوتار و دريدا و دولوز و نانسي ) قد مثّل منعرجا في الدراسات الكانطية على مستوى العالم.و لقد اتخذنا من هذا المنعرج ورشةً لتجريبِ البحث ضمن براديغم الاستطيقا الذي افتتحه كانط و صار منعرجا لخط طويل من الفلسفة المعاصرة منذ نيتشه الى دريدا و رورتي مرورا بأدرنو و ليوتارو دولوز .و كأنما كان كلُّ واحدٍ من هؤلاء قد وجد لنفسه و على طريقته مكانا ما تحت شمس نقد ملكة الحكم لكانط. على أنّنا لا نحترف الاستطيقا في المعنى الضيق للجماليات ، انما نقصد بها كلَّ ميدان التفكّر بمشاعر البشر و آمالهم و آلامهم معا ، و ليس في الأمر هنا مجرّد لعب لغوي بين لفظتيْ الأمل و الألم في العربية.
و فعلا ربما ترجع إعادةُ تأهيلِ هذا الكتاب إلى هاجسِ المعاصرين في إيجادِ وسائلَ تفكيرٍ فلسفيةٍ جديدة كفيلة بتدبير دائرة الألم بعد كل الرجّات الكبرى التي عاشها الانسان الحديث.
لكنّنا وقفنا من جهة أخرى على نزاعِ تأويلاتٍ في شأن كتاب نقد ملكة الحكم ، و انصرفنا الى البحث في السؤال التالي :أيّ شيء جعل المعاصرون يختصمون في شأن المقاصد الفلسفية لأثر صمّمه كانط على عجل و على كبر بل و على قلق إزاء التناهي البشري الذي قد يحول دونَه و دونَ انجازِ رسالته الفلسفية ؟. لكنّ كانط لم يكن يعلم أنه سوف يعمّر كفايةً بعد 1790 من أجل الذهاب عميقا في مهجة السؤال الثالث منذ الشر الجذري سنة 1793 الى السلم الدائمة سنة 1796 الى المواطنة الكونية في العالم سنة 1798.
و قد دفعنا الى الاشتغال على الرائع بعضٌ من مكر هيغل في التخلّص من كانط . و معنى ذلك أن وراء قضائنا ما يقارب 4 سنوات في اقتناص فكرة الرائع الجمالية، هو سعينا إلى مقاومة أطروحة خبيثة من استطيقا هيغل، تقضي بقبر الرائع الشرقي في ما قبل تاريخ فكرة الجمال نفسها . و قد رأينا في ذلك إساءة من هيغل الى الفن الشرقي و الى كانط معا ، ذاك الذي جعل من الرائع حقلا من الاستطيقا الكفيلة بدفع المخيلة الى أقصى مداها ، أي الى حيث يصير فنُّ الرائع في هيئة الشاعرِ نوعا من الخصم الذي ينافس الفيلسوف على ميدان الأفكار الجمالية . ضد مكر هيغل في التخلص من كانط و من الشرق معا اتخذنا اذن من جماليات الرائع بدلا عن الجميل أفقا للتوجّه ضمن فلسفة الفن المعاصرة . و لقد حاولنا إنصاف تقليد الرائع بعد أفول الجميل عن سماء الجماليات ، وفق أطروحة أساسية من النظرية الاستطيقية لأدرنو ، و ذلك تحديدا ضد كل الذين صمتوا عنه (هيدغر و حنا آرندت و هابرماس)، أو أولئك الذين اختصموا معه على نحو شرس و عنيد ( رنسيار).و كشفنا أنّ وراء كلّ ذلك ضرباً من "تهويد الرائع" (حسب عبارة رنسيار) و التضحية به و تصنيفه تحت راية ما سماه هابرماس و آخرون "المنعرج اليهودي للفكر".
وتلك في الحقيقة مسألةٌ ترجع في أصلها الى مثالٍ يتيم أورده كانط على الرائع بوصفه من قبيل ما لا يُمثَّل على قياس وصيّة موسى التي تأمر بتحريم الصور. لكنّ في هذا الأمر مغالطةً كبرى ضد كانط و ضد الفلسفة و ضد مقولة الرائع الجمالية على السواء. ذلك أنّنا نشهد تعددَّ أمثلةِ كانط عن الرائع تعددا يجعل من المقدّس يرتدّ إلى مجرّدِ مثالٍ يستعمله الفيلسوف من أجل تجسيد وتمثيل ما حرّمته الأديان و الكتب .و قد وقفنا عند رحابةِ حقل الروعة لدى كانط : فهو يمتد من أهرام مصر وربة اليونان ايزيس وكنيسة روما والقانون الأخلاقي الى الوردة البرية و الوصية اليهودية والكبرياء الإسلامي ..والغريب هو أن قرّاء كانط لم يحتفظوا من الرائع الكانطي بغير وصية موسى مع صمت خبيث عن كبرياء محمد .و المثير في اعتقادنا هو أنّ كل هذه المواضع الرمزية على صراع العمالقة على ميدان المقدس ، انما تتنزل لدى كانط منزلةً استطيقية لا مكان فيها الا لما هو ذاتي محض ، بمعنى لا مكانَ فيه لأيةِ قوى مفارقة.
.و بالنسبة إلينا ليس الرائعُ يهوديا و لا مسيحيا و لا اسلاميا ، بل هو رائعٌ فلسفي بامتياز لأنّه كامن في الطبيعة البشرية بعامة. انه يولد من صدمة المحسوس ، من الدهشة ممّا يحدث فيما أبعد ممّا يمكن تمثّله وتحمّله وتخيّله. إنّ صدمة المحسوس هي التي تمنحنا إمكانية الفلسفة نفسها أي إمكانية الحرية و هالتُها العليا . لذلك فالرائع هو الشططُ الوحيد المسموح به لدى كانط . انّه خروجٌ عن حدود العقل، لكنه لن يكون دوما إلا على مقاسه ، ما دام العقل هو الحكمَ و المقاسَ معا. ان الرائع بوصفه المحسوس في عنفوانه يخرج دوما عن طوره ، وفي معانٍ عدة : حيث يخرج عن طور الجميل و عن طور المخيلة و عن طور التمثيل و عن طور الفن معا. لكن مهما خرج الرائع عن طوره ، فانما هو يبقى دوما على مقاس الانسان (وفق عبارة لدريدا)..
وفي الحقيقة ان رهاننا البعيد هو إنصاف الفلسفة من خلال إنصاف كانط بإعادة السؤال عن الأمل الى دائرة الفلسفة المتعالية ، و بالكشف عن التأويل الصحيح للدين الحقيقي لديه الذي لا يعدو أن يكون سوى ضربٍ من الدين الأخلاقي نفسِه خالصا من الأعراق و الطقوس و الخرافات .
ما نريده هو ضربٌ من رفع الحصار عن بعض الأفكار المعتقلة في الحديقة الكبرى للفلسفة.و لقد حاولنا تبرئةَ الفلسفة بتبرئة كانط من التهم التالية :تهمة هيغل له الذي اعتبره "يهوديا مخجلا" و اكتفى بالزج بالرائع ضمن ما قبل تاريخ الفكرة ، منزّلا بذلك الفن الشرقي صراحة خارج تاريخ الروح الغربي. و ضد حصر نيتشه لكانط ضمن المثل النسكية للكاهن .وضدّ استيلاء ريكور على فلسفة الدين الكانطية و جعلها خادمة للرجاء المسيحي .و أخيرا ضد اتهام هابرماس لكانط بكونه متواطئا مع الاستبداد ، وهو المصمم الحديث للحرية مبدأ جوهريا لماهية الانسان نفسه..لكن دفاعَنا عن فلسفة كانط ليس يكون على سبيل التعصب لفلسفته، فذلك أمر ممنوع علينا سلفا ازاء من وقّع صراحة نهايةَ الفلسفة و دخولَ العقل البشري أفقَ التفلسف أي أفق اختراع الحرية الكفيلة بالارتقاء بالإنسانية الى مقام المواطنة الكونية في العالم ، و ليس يكون ذلك ممكنا عند كانط الا عبر الفن بوصفه القنطرة الرمزية للعبور فوق الهاوية ما بين ما يمكننا أن نعرف بواسطة العلوم وما يجب علينا أن نفعله باسم الأخلاق.



#أم_الزين_بنشيخة_المسكيني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أطفال من الكبريت الأحمر
- ماسح السيارات في زمن القحط الديمقراطي ..
- رقص عمومي ..
- حذو الوطن
- تراتيل على روح قديم ..
- غازات الحكومة ..هديّة للشهداء
- عذرا أيّها النهار ...
- الفنّ و الحدث :مقاربة تأويلية
- نجم و أغنية
- قرابين الجحيم
- كوميديا أبكت الجميع
- أخاديد .
- أيّها الحارق غرقا ..
- جرحى السماء ..
- رفقا بالمفاهيم ..
- لا طعم للموت
- نحن لسنا رُعاعا لأحد
- كي أنسى أسئلتي
- جماليات التلقّي
- تجاعيد ...


المزيد.....




- هل قررت قطر إغلاق مكتب حماس في الدوحة؟ المتحدث باسم الخارجية ...
- لبنان - 49 عاما بعد اندلاع الحرب الأهلية: هل من سلم أهلي في ...
- القضاء الفرنسي يستدعي مجموعة من النواب الداعمين لفلسطين بتهم ...
- رئيسي من باكستان: إذا هاجمت إسرائيل أراضينا فلن يتبقى منها ش ...
- -تهجرت عام 1948، ولن أتهجر مرة أخرى-
- بعد سلسلة من الزلازل.. استمرار عمليات إزالة الأنقاض في تايوا ...
- الجيش الإسرائيلي ينفي ادعاءات بدفن جثث فلسطينيين في غزة
- علييف: باكو ويريفان أقرب من أي وقت مضى إلى اتفاق السلام
- -تجارة باسم الدين-.. حقوقيات مغربيات ينتقدن تطبيق -الزواج ال ...
- لأول مرة.. الجيش الروسي يدمر نظام صواريخ مضادة للطائرات MIM- ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - أم الزين بنشيخة المسكيني - الفن والأمل...(سيرة فلسفية مؤقتة)