أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - أنور نجم الدين - الديالكتيك الماركسي غطاء للمسيحية -3-3















المزيد.....



الديالكتيك الماركسي غطاء للمسيحية -3-3


أنور نجم الدين

الحوار المتمدن-العدد: 3709 - 2012 / 4 / 26 - 11:11
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


ديالكتيك تروتسكي ولينين وستالين:

في أجزائنا السابقة، حاولنا إجابة الأسئلة الآتية: هل الديالكتيك درب لمعرفة واقعية؟ هل يمدنا هيغل بمنهج جديد لتحليل الأمور الواقعة أمامنا لاكتساب معارف واقعية عنها؟ هل ممكن أن يستفيد العلماء من الطريقة الديالكتيكية للبحث عن العالم المادي؟
أو: ما الاختلاف عمومًا بين طريقة الفلاسفة وطريقة العلماء للبحث عن الأشياء؟

بكل بساطة يمكننا التعبير عن الاختلاف بين المنهج الفلسفي ومنهج البحث العلمي على الشكل الآتي:

إذا سأل طالب جامعي أستاذه في الدين أو في الفلسفة: ما سبب ارتفاع الأسعار في شهر الرمضان بالذات وهو شهر مقدس؟
لأجاب الأستاذ رأسًا: إن قلة الاخلاق هي السبب. والبحث إذن يبدأ من التناقض بين قوى الخير والشر -المعرفة والجهل، الفضيلة والرذيلة- لا من العلاقات الواقعية بين البشر، الناتجة من حالة تعود جذورها إلى الحياة الاقتصادية.

أما إذا سأل الطالب أستاذه في الاقتصاد: ما سبب ارتفاع الاسعار في شهر الرمضان؟
لأجاب أستاذه رأسًا: إن القوانين الاقتصادية تحكم تموجات السوق، فقانون العرض والطلب مثلا عامل اقتصادي وراء ارتفاع أو انخفاض أسعار البضائع أو قوة العمل. وبالاخرى فان ارتفاع الاسعار في شهر الرمضان بالذات، يعود إلى الازدياد في الطلب.

وهنا، هنا بالتحديد، نرى الفرق بين الطريقة الفلسفية –الديالكتيك- والطريقة التجريبية -التجربة والتحليل-، فالديالكتيك – الجدل - يتألف من سفسطة، بينما الأعمال التجريبية من التحليل والتجارب الدقيقة على الأشياء، فالمنطق الجدلي، يدور في حلقة مفرغة يؤدي في الاخير الى جدل فارغ من المعنى مثل جدل السفسطائيين في البيزنطة القديمة، وهو إلى اليوم معروف بجدل بيزنطي: أيهما الأول، الدجاجة أم البيضة؟ فالفلاسفة لا يقدمون سوى أفكار عقيمة عن العالم. والمنطق الجدلي أصبح إيمانًا عند الماديين الديالكتيكين لا يحتاج إلى الإثبات. لذلك فهُمْ -دون التمييز بين الطريقة الجدلية والطريقة التجريبية- يُقرِّون بأن المنطق الجدلي هو علم العلوم، ولا يمكن منازعته.
فلنتحقق مرة أخرى من هذه الطريقة في البحث عن الأشياء الحسية، وثم طريقة (الديالكتيك الماركسي) المطابق للطريقة الأرسططاليسية، في شخص ممثليها الكبار لينين وتروتسكي وستالين، فحسب المنطق الجدلي مثلا:

الشيء لا يمكن أن يكون "أ" و”لا أ"

وإذا طبقنا هذه المعادلة المنطقية على العالم الحسي فيعني هذا مثلا:

الإنسان هو الإنسان
الإنسان لا يمكن ان يكون أبيض وأسود في نفس الوقت
الإنسان إما أبيض أو أسود أو أحمر ...

وهذه هي طريقة المنطق الجدلي في التحقق عن الإنسان والعالم المحيط به، أي علاقته بواقعه المادي. إذن ما المعرفة التي نحصلها عن "الإنسان" وعلاقته بعالمه في هذا العصر التاريخي أو ذاك من خلال أرسطو أو هيغل ومنطقهم الديالكتيكي وإبدالاته؟ إنها لا شيء.
ولنتوقف الآن قليلا عند خدعة (الديالكتيك الماركسي) لدى تروتسكي بالذات، وهو نفس الخدعة الديالكتيكية لدى لينين وستالين.

خدعة تروتسكي الديالكتيكية:

لو أردنا فحص (مبادئ الديالكتيك المادي) عند ليون تروتسكي، فلرأينا انه مثل لينين وستالين، استكمل خدعته عن الأشياء عمومًا لكي يسهل خدعته عن الاشتراكية بالذات، ففي الديالكتيك الداخلي لمجتمع إنتقالي، يبحث تروتسكي، كما لينين وستالين، نفس الخدعة الفلسفية القديمة، فيقول تروتسكي:

"الدياليكتيك ليس خيالاً ولا تصوفًا، ولكنه علم أشكال تفكيرنا في حدود أبعد لأنه ليس مقتصرًا على المشاكل اليومية للحياة، ولكنه يحاول الوصول إلى فهم عمليات أكثر بعدًا وتعقيدًا. الدياليكتيك والمنطق الصوري يشكلان علاقة كتلك التي بين الرياضيات العالية والبسيطة. المنطق الأرسطي الخاص بالقياس المنطقي البسيط يبدأ من الافتراض بأن "أ" تساوي"أ". هذه المسلمة تقبل كبديهية للعديد من الفعاليات الإنسانية العملية والتعميمات البسيطة. لكن في الواقع "أ" لا تساوي "أ". هذا سهل الإثبات لو أننا لاحظنا هذين الحرفين من خلال عدسة إنهما مختلفان عن بعضهما. لكن هناك من يقر بأن حجم وشكل الحرفين ليس هو المسألة ما داما مجرد رمزَيْن لكميات متساوية. على سبيل المثال رطل من السكر. الاعتراض هنا خارج القصد، في الواقع رطل من السكر لا يساوي رطلاً من السكر. مقياس أكثر دقة يكشف عن فرق. مرة أخرى ربما يعترض أحدكم "ولكن رطل السكر يساوي نفسه". ولا هذه حقيقة أيضا. فكل الأجسام تتغير بلا انقطاع في الحجم والوزن واللون... إلخ. ليست مساوية لنفسها أبدًا. سيرد السفسطائي قائلا: "إن رطل السكر مساوٍ لنفسه في لحظة محددة من الزمن" (تروتسكي).

وما هذا المقياس الدقيق؟

إنه بالطبع: الشيء لا يمكن أن يكون "أ" و”لا أ".

نجدة يا هيغل؟

إن هذه الحيلة التي لا يمكنها بالطبع أن تتبع خطًّا صارمًا، لا تقودنا إلا إلى ما نجده من الأغراض السياسية وراء هذا المنطق الجدلي، فأين نصل ترى مع هذه الترهات: رطل من السكر مساوٍ لنفسه أم لا!!
نصل بالتأكيد إلى الحيلة الآتية: أن الرأسمالية -كما الاشتراكية- هي نفسها وليست نفسها في آن واحد، فهو جسد منطقي مشوَّه لا جسد تاريخي، نصف رأسمالي ونصف اشتراكي، ولا نستغرب أبدًا حين يقول ديالكتيكي مثل تروتسكي:

"ان التفكير الدياليكتيكي يحلل كل الأشياء والظواهر في تغيرها المستمر، بينما يحدد في الظروف المادية لتلك التغيرات ذلك الحد الحرج حيث "أ" تتوقف عن كونها "أ". ولا تكون دولة العمال هي دولة العمال"، "وقد أقول أيضا نضارة والتي إلى حد ما تجعلها (المفاهيم ) أقرب لظواهر الحياة. ليست الرأسمالية بالتعميم، ولكن رأسمالية معطاة (محددة) في مرحلة معطاة (محددة ) من التطور. ليست دولة العمال بالتعميم ولكن دولة عمال معينة في بلد متخلف في محيط إمبريالي، إلخ" (تروتسكي).

أليس الديالكتيك مضحكًا؟ أليست هذه حيلة سياسية لخدع العمال؟ إن هذه الحيلة نجدها عند كل الديالكتيكيين السوفيتيين، وهي حيلة فلسفية بين أيدي السياسيين ليجعلوا من العالم عدة إنشاءات منطقية. فكم سيكون سهلا أن نحول التاريخ العالمي كله إلى بعض إنشاءات منطقية مثل إنشاءات تروتسكي! فالماديون الجدليون يحاولون إقناعنا بأن كل معادلة منطقية: أ = أ، أو: "أ" هو "لا أ" .. إلخ، تخلق في النهاية واقعًا تاريخيًا يقابل التُّرَّهات التي تدور في أفكارهم السياسية. وبالطبع فمادامت المسألة هي العودة إلى التجريدات المنطقية الهيغلية، واستخدام جملة كاملة من السفسطة -أي كلمات طنانة فارغة من المعنى- فليس هناك حافز لدراسة التاريخ، فـ أ = أ أو أ = لا أ. وكل هذه الخدعة يمكن قلبها إلى خدعة جديدة أينما وجدنا ضرورة تحويل اللائحة المنطقية إلى أخرى تناسب سياستنا في الدولة.
إن التاريخ لدى لينين وتروتسكي وستالين، مسير بهذا الجدل. فكل العلاقات البشرية تصبح معادلات منطقية مجردة. لقد أخذ تروتسكي - مثله مثل لينين وستالين - جميع أوهام القديمة للفلسفة الأرسططاليسية، على أنها حقيقة حرفية مطلقة، فالاقتصاد والدولة والصناعة والعمال .. إلخ لا وجود له عنده إلا من خلال وساطة منطقية هيغلية.

مثال:

يقول تروتسكي: "عندما تكون التغيرات الكمية في "أ" من الممكن إهمالها بالنسبة للمهمة المؤداة عندئذ يكون من الممكن التسليم إفتراضيا بأن "أ" تساوي"أ"، هذه على سبيل المثال هي الطريقة التي يأخذ بها كل من البائع والمشتري رطل من السكر بعين الإعتبار. نحن ندرس حرارة الشمس بشكل مماثل، وحتى نتوصل إلى دراسة القوة الشرائية للدولار بنفس الطريقة. لكن التغيرات الكمية لما بعد حدود معينة تتحول إلى تغيرات كيفية (نوعية). فرطل من السكر معرض لفعل الكيروسين ينتهي وجوده كرطل من السكر (يتوقف عن كونه رطل من السكر). ودولار في قبضة رئيس يتوقف عن كونه دولارا. إن تحديد النقطة الحرجة التي يتغير عندها الكم إلى كيف في اللحظة الصحية هي واحدة من اهم وأصعب المهام في كل حقول المعرفة بما فيها علم الإجتماع" (تروتسكي).

وهكذا، ففي حيلة (الديالكتيك الماركسي)، نجد:

حرارة الشمس لا تساوي حرارة الشمس

ودولار في قبضة رئيس يتوقف عن كونه دولارا

وما هذا سوى سفسطة الماركسيين الروس؟ وما هذا سوى ثقافة برجوازية حقيرة فارغة من المضمون؟

وما التراكمات الكمية والتحولات النوعية؟
لحسن الحظ لدى الجدليين جواب جاهز: الشيء لا يمكن أن يكون "أ" و"لا أ"، فـ "نعم" يمكن أن يصبح "لا"، و"لا" يمكن أن يصبح "نعم"، و"لا" يمكن أن يصبح "نعم ولا" ..إلخ.

ولنرَ أين نصل مع ترهات الديالكتيك الماركسي؟

يقول تروتسكي:

"كل عامل يعرف أنه من المستحيل صناعة شيئين متماثلين ومتساويين تماما. في عملية تفصيل النحاس كمحاميل مخروطية، يسمح بإنحراف معين للمخاريط و الذي مع ذلك لا يجب أن يتعدى حدودا معينة (هذا يسمى السماحية). وعن طريق ملاحظة نماذج السماحية، تعد القوالب متساوية ("أ" تساوي "أ")، وعندما تزاد السماحية يتحول الكم إلى كيف، بكلمات أخرى تصبح المحاميل المخروطية رديئة وعديمة القيمة".
المصدر: http://www.marxy.com/trotsky/ABC_of_materialist_dialiectics.htm
تروتسكي، 15 ديسمبر, 1939

ولننتقل الآن إلى خدعة لينين الديالكتيكية؟

يقول لينين: "... اوراق الشجرة خضراء، زيد رجل، غبروش كلب، الخ...، ففيها (كما لاحظ هيغل بصورة عبقرية) يوجد الديالكتيك: فما هو خاص هو عام. وهكذا تكون الاضداد (الخاص هو ضد العام) متماثلة: فالخاص غير موجود الا في العلاقة التي تؤدي الى العام. والعام غير موجود الا في الخاص، عبر الخاص. كل خاص له طابعه العام (بهذه الصورة او تلك)" (لينين، حول الديالكتيك، 1915).

أن سفسطة (الديالكتيك الماركسي) هنا تصل حدها النهائيّ، فـماذا يعني أن "كل عامل يعرف أنه من المستحيل صناعة شيئين متماثلين ومتساويين تماما"، كما يقول تروتسكي؟ وثم ماذا يعني "اوراق الشجرة خضراء، زيد رجل، غبروش كلب" كما يقول لينين؟ وماذا تثبت لنا هذه الأوهام العظيمة سوى سفسطة فلسفة هيغل؟ وأين وصلنا مع هذه الخُدَع الجدلية لو أضعنا (صناعة بضاعة ما، أو زيد رجل) في لائحة جدلية؟

إننا نصل بكل تأكيد إلى لا شيء، فالمنطق الجدلي يعطينا الفكرة العامة التي يوهمنا بها لينين حول العام والخاص الذي يعبر عنه "الرجل"، على الشكل الآتي:

الرجل = الإنسان
زيد = الرجل

إذن:

زيد = الإنسان

وهذا كل شيء. فما هذه السفسطة، الفكرة الفارغة من المعنى سوى حيلة سياسية لجعلنا جاهلين بأصل الأشياء والتناقضات الواردة فيها؟
وهل تعبير (الفروق في صناعة شيئين متماثلين أو غير متماثلين)، (وعندما تزاد السماحية يتحول الكم إلى الكيف)، يقودنا إلى واقع يتعلق بإنتاج بضائع متماثلة أو غير متماثلة؟
كلا بكل تأكيد، فلا يمكن أن يستفيد آدم سميث، أو ريكاردو، أو ماركس من هذه الطريقة غير الصارمة في استخراج القوانين المادية المتعلقة بالحياة الاقتصادية للمجتمع، لأن القانون يستخرج من علاقة واقعية لا يبقى الشك عليها. أما المنطق الجدلي فلا يمكنه أن يكون دقيقًا إلى درجة بحيث يعطينا فرصة استخراج القوانين المادية. فطريقة المنطق الجدلي لا يمكن أن يصل القانون كما لا يمكن أن يعطينا نتيجة صحيحة عن دراسة إنتاج بضاعة ما، أو الإنسان في مراحل تاريخية مختلفة، فالإنسان حسب التجريدات المنطقية هو الإنسان في كل عصر من العصور التاريخية ودون الاقتراب من علاقته بعالمه المادي. والحديث عن إنتاج البضائع –هو في الأساس- دراسة مستوى من الإنتاج، يدور حولها مجموعة من الظواهر المادية مثل رأس المال الإجمالي الموظف، وحصة رأس المال المتحول نسبة إلى رأس المال الإجمالي، ووقت العمل الضروري ووقت العمل الإضافي، ودوران رأس المال، والمنافسة .. إلخ. فهل ممكن أن يقودنا طريقة المنطق الجدلي (رطل من السكر لا يساوي رطلاً من السكر، أو زيد رجل، وغبروش كلب) إلى أصل العلاقات المادية وقانون إنتاج البضائع وهو قانون القيمة؟ وكيف ذلك؟ والمنطق الجدلي نفسه طريقة تواجه الكثير من الأخطاء أثناء خطواته للبحث عن علاقة ما محددة؟ كما أنه ليس الغرض منه الوصول إلى القوانين المادية للأشياء، بل الغرض منه قياس قوانين خطأ وصواب الأفكار الناتجة من معادلات فكرية لا تربطها أي ارتباط بشروط وجودها المادية. وكيف يمكن أن يبحث المنطق الجدلي مع قوانينه الفكرية السخيفة -التضاد، وتحول الكم إلى كيف، ونفي النفي- الإنتاج والتوزيع والتبادل والاستهلاك في العصور المختلفة؟ وكيف يمكن أن يكشف لنا المنطق الجدلي التغيرات الاقتصادية والسياسية التي تحدث فيما بين هذه العصور المختلفة؟ وكيف يمكن أن يرى المنطق الجدلي الفرق بين الأنظمة الاجتماعية المختلفة -بين الرأسمالية والاشتراكية- مثلا، وهي لا تملك سوى قياس للأفكار؟
ان الجواب هو: لا يمكن للديالكتيك الماركسي إعطاء معرفة صحيحة بخصوص العالم المادي. وإذا أردنا التحقق من الديالكتيك من وجهة نظر تروتسكي ولينين وستالين، فسنجد أن التناقض بينهما، يعطينا جواب الأسئلة بخصوص خطأ الديالكتيك نفسه:

رطل من السكر لا يساوي رطلاً من السكر

وهكذا:

فكيلو من اللحم لا يساوي كيلو من اللحم، كما ورجل لا يساوي رجلاً، وهو يمكنه أن يكون شيئًا آخر في نفس اللحظة الهيغلية التي ليست موجودة في الواقع المادي.

ثم ما التراكم الكمي والتحول النوعي في هذا "الرجل = زيد = الإنسان" الذي يتحقق منه لينين وكأنه يتحقق عن شيء واقعي؟ هل هو الشيخوخة؟ وما نفي النفي لـ "زيد"؟ هل هو الموت؟ وما عبقرية هيغل التي يوهمنا به لينين؟
إن إعجاب لينين بعبقرية هيغل يتلخص دون شك إما في غباوته هو نفسه، وإما عن حيلة من حيله السياسية الأخرى لإثبات ما لا يمكن إثبات صحته. ثم أين يقودنا لينين مع هذه التُّرَّهات؟ بالطبع إلى العالم الاشتراكي الديالكتيكي الذي يقودنا إليه تروتسكي وهو يمكن أن يكون نفسه وغيره في نفس الوقت.

خدعة ستالين الديالكتيكية:

يقول ستالين: "إن مفتاح دراسة قوانين تاريخ المجتمع يجب ألا نبحث عنه في أدمغة الناس، في نظرات وآراء المجتمع، بل في أسلوب الإنتاج الذي مارسه المجتمع في أية فترة تاريخية، علينا أن نبحث عنه في الحياة الاقتصادية للمجتمع" (ستالين، المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية، 1938).

وهذه الفكرة صحيحة كل الصحة، وانها مخالفة جذريًا بـ (الديالكتيك الماركسي)، فيريدون الماركسيون أم لا، ليس الديالكتيك سوى قوانين فكرية تبحث عن الأشياء في أدمغة الناس بدل الأساليب الإنتاجية والعلاقات الواقعية للبشر. وعلى عكس الديالكتيك، فالمادية التاريخية، تبحث بالفعل قوانين التاريخ، في الحياة الاقتصادية للمجتمع، يعني ليست في الفكر (في الجدل)، لأن الفكر -الوعي الاجتماعي، المعارف البشرية- غير مستقل عن الحياة الاقتصادية للمجتمع.

ان المادية الديالكتيكية لدى ستالين، نظرة حزبية إلى العالم، وهذا كل ما يقوم ستالين بإضافته إلى الديالكتيك الماركسي. وفي الواقع لا يعالج ستالين الديالكتيك في كتابه إلا على صعيد الكلمات والتعابير والمصطلحات المستعارة من إنجلس، وهو يناقض الديالكتيك دون معرفة منه، فهو إما جاهل بأصل الديالكتيك وإما الغرض من أطروحاته هو نفس غرض الماركسيين الروس: نسف أساس المادية التاريخية!

أما ما يحاول ستالين في كتابه، فهو إثبات صحة اشتراكيته من خلال دمج المادية المرئية -المادية الميكانيكية- مع ديالكتيك انجلس من جهة، ودمجها مع بعض أطروحات مستعارة من ماركس من جهة أخرى. فكل من لينين وتروتسكي وستالين، يحاولون بدورهم استخدام حيلهم الفلسفية لتبرير سياساتهم لا استخدام فلسفتهم كطريقة لتفسير العالم. فالمادية الديالكتيكية -الماركسية- ليست منهجًا لتفسير الأشياء، بل هي مرشد العمل لتحقيق الاشتراكية من قبل الحزب، حسب الجدليين السوفيتيين. وهنا يظهر بالتحديد مثالية الفلسفة الماركسية، أي المادية الديالكتيكية التي لا يمكن إثبات صحتها بأي شكل كان، فالماركسية -المادية الديالكتيكية- فكرة مذهبية تنشأ منها مجموعة من الإيديولوجيات المتناقضة مثل الكاوتسكية والبليخانوفية واللينينية والتروتسكية والستالينية والماوية حول الاشتراكيات المختلفة، فكل أيديولوجية ماركسية، تحاول بدورها إثبات صحتها من خلال ديالكتيكها، ولكن لسوء الحظ، ليس ديالكتيكهم سوى أصل خرافاتهم عن الاشتراكية التي تدعونها.

إذن ما الفرق بين "الديالكتيك الماركسي" و"ديالكتيك هيغل"؟

قد حاول البعض التمييز بين المنطق الصوري الأرسطي ومنطق هيغل الجدلي. ولكن في الواقع، رغم كل اختلاف صوري بينهما، فالمنطق هو المنطق لدى كل من أرسطو وهيغل، ويطبق الفكر على عالم الأفكار بطريقة تتوافق والقوانين الفكرية (الجدلية) والقياسات المنطقية للتحقق من الخطأ والصواب. وكل من أرسطو وهيغل يفسر أشكال الوجود بأنه صور وأنواع للحركة، فيتقدم الفكرُ وتُولَد أفكار جديدة منه من خلال حركته. وعلى عكس لينين، فالكلي لدى هيغل، هو العقل المجرد أو الروح، له وجود منطقي لا واقعي. وهو ما يسميه هيغل منطق الحركة، أو منطق الكينونة، والتناقض هو جذر الحركة. أما السلبية أو النفي هو المصدر الداخلي لكل فاعلية، كل حركة، الفاعلية التي يقول ماركس عنها:

"تدعى هذه العملية، في اسلوب الكلام التأملي، بعملية إدراك الجوهر باعتباره الذات، باعتباره عملية داخلية، باعتباره شخصا مطلقا، وذاك الادراك يقوم على السمة الاساسية لمنهج هيغل" (العائلة المقدسة، ص 73).

إذن إن الفرق بين "الديالكتيك الماركسي" و"ديالكتيك هيغل" هو أن ديالكتيك هيغل لا يزودنا إلا بطريقة نرى بها عالم الأرواح والأشباح. بينما الديالكتيك الماركسي لا يفعل سوى تزويدنا بطريقة لأجل رؤية "المادة". فالأول يبحث الحركة في عالم الأرواح، بينما الثاني في المادة. وفي الحالتين يثبت المنطق الجدلي عجزه التام عن التوصل إلى معرفة الأشياء في واقعها الدنيوي، التاريخي. وإن منطق الجدلي الماركسي يستخدم نفس طريقة منطق هيغل الجدلي في البحث عن "الجوهر"، ففي بضع كلمات متقطعة، يبحث المنطق الديالكتيكي البناء التأملي لكل الاشياء.

مثال:

ما الجوهر المنطقي للتفاح والكمثري والفريز واللوز؟

إنه "فاكهة".

وهكذا إن سرَّ البناء التأملي في الديالكتيك الهيغلي والديالكتيك الماركسي، هو نفس سر الإنشاءات المنطقية الهيغلية. وكما يقول ماركس:

"فهمي المحدود، تؤيده حواسي، يميز بالطبع التفاحة عن الكمثري، والكمثري عن اللوزة، ولكن عقلي التأملي يعلن أن تلك الاختلافات الحسية غير جوهرية ولا أهمية لها، انه يرى في التفاحة الشيء ذاته الذي يراه في الكمثري، ويرى في الكمثري ما يراه في اللوزة، أي "فاكهة". والفواكه الحقيقية الخاصة ليست أكثر من أشكال جوهرها الحقيقي هو "المادة" – "الفاكهة" (ماركس، العائلة المقدسة، ص 69 -70).

هكذا يبحث المنطق الديالكتيكي "الجوهر"، وهذا هو منطق الخاص والعام، أي الجزء والكل لدى هيغل، فالكلي في المنطق الجدلي، محمول مشترك بين جميع المفردات من فئة واحدة، فلون "الأبيض" مثلاً يعبر عن الكل، وهو محمول مشترك يمكن أن تشترك فيه جميع الأشياء البيضاء. وهو نفس الشيء مثلا بالنسبة للمعادن، والأكل .. إلخ، فالذهب معدن، والنحاس معدن، ولكن دون النظر إلى التصنيف الكيميائي للمعادن المختلفة، والخبز أكل، والسكر أكل، ولكن دون النظر إلى القيم الاستعمالية المختلفة للخبز والسكر في اسواق البضائع.

وهكذا، فالديالكتيكي، حسب تعبير ماركس: يفهم الواقع على شكل مقولات فقط، لذلك فهو يحاول حل كل الفعاليات البشرية في ديالكتيك تأملي، وسيعيد إنتاج كل الأشياء في العالم من الديالكتيك التأملي، أو حسب تعبير ماركس:

"إن فنه ليس في كشف ما هو مخبوء، وانما في تخبئة ما هو مكشوف" (العائلة المقدسة، ص 67).

وهكذا، فالديالكتيك ليس دربًا لمعرفة واقعية عن العالم، وهو يقودنا إلى عالم سري مثل العالم المسيحية، اللاهوتية، ولا يمدنا المنهج الديالكتيكي -الماركسي أو غيره- بأداة علمي لتحليل الامور الواقعة أمامنا لاكتساب معارف واقعية عنها، فليس المنطق الديالكتيكي سوى التلاعب بالألفاظ. فلذلك لا يمكن للعلماء أن يعتمدوا على هذه الطريقة السخيفة في البحث عن الأشياء بأي شكل كان. وما اكتشفه العلم خلال 100 سنة، لم تكتشفه الفلسفة خلال أكثر من ألفي سنة، لان موضوع ومدار الفلسفة، وثم أداة الفلاسفة للبحث –المنطق الجدلي- هو نفسه منذ عهد أرسطو وطيلة ألفي سنة.

الخلاصة:

إن الجدل -الديالكتيك Dialectic- قديم قدم الأديان الهندوسية والبوذية والزرادشتية، وفي تطوره، أصبح الديالكتيك فن الحوار عند سقراط، ومنهج عقلي للانتقال من المحسوس إلى المعقول عند أفلاطون، ففلاسفة الاغريق القدمى، قد جعلوا من الجدل -الديالكتيك- أكثر شعبية منذ سقراط وتلميذه أفلاطون بالذات، فيقول هيغل -الأب المعاصر للديالكتيك- ووارث سفسطة سقراط:

"ديوجين لايرس يقول عن أفلاطون أنه، كما كان طاليس أبًا لفلسفة الطبيعة وسقراط أبًا للفلسفة الأخلاقية فقد كان أفلاطون أبًا للعلم الفلسفي الثالث، الديالكتيك، الجدل، -العصر القديم اعتبر ذلك أعلى مآثره" (هيغل، مختارات 1، ص 164).

أما الديالكتيك لم ينتقل منذ زمن زينون (336 - 264 ق.م)، مؤسس الديالكتيك، الذي يطابق بداية زمن السفسطائيين الذين يسبق زمن سقراط، إلا بمعنى الانتقال إلى البلاغة اللغوية وتعلم الفلاسفة التلاعب بالألفاظ.
ومن أهم السفسطائيين في التاريخ "سقراط" الذي يشارك السفسطائيين في مفهوم الإنسان والأخلاق والحياة، أما تعارضه معهم فهو جدله -ديالكيكتكه- الذي يرد السؤال بسؤال بطريقة جدلية، أو بفكرة فارغة من المعنى مثل جدل السفسطائيين في البيزنطة.
لذلك ليس من المستغرب أن نسمي سقراط أب السفسطائيين، فأهم ما نُقِل من السفسطائيين من قبل سقراط، هو دور المعرفة في الأخلاق، وأن المعرفة لدى سقراط هي التي تؤدي إلى الفضيلة، والصراع الاجتماعي يعود الى قوى وهمية يمثلها (إله الخير) و(إله الشر) كما في الأديان القديمة والجدل القديم، فكل لائحة تاريخية في الديالكتيك لها جانبان، جانب الخير وجانب الشر، وهم متناقضان فيما بينهم. ومن المعروف أن الكثير من الفلاسفة المعاصرين أمثال هيغل ونيتشه، قد تبنوا هذه السفسطة من خلال الفلسفة الإغريقية القديمة وبعدها المسيحية. فها هو هيغل ينطلق مما ينطلق منه سقراط، يعني من (الخير) و(الشر) والصراع الديالكتيكي بينهما ويقول:

"الفضيلة ليست بدون الجهاد؛ انها بالاحرى الجهاد الاعلى، الناجز؛ هكذا هي ليست فقط الايجابي – الوضعي، بل سلبية – نفيية مطلقة؛ هي فضيلة ليست فقط بالمقارنة مع الرذيلة، بل هي داخل نفسها تعارض وصراع. بتعبير آخر، الرذيلة ليست فقط غياب الفضيلة، - البراءة ايضا هي هذا الغياب، - انها مميزة عن الفضيلة ليس فقط بتفكير خارجي، بل هي معارضة لها داخليا، انها الشر. الشر قوامه الراحة في الذات، ضد الخير؛ انه السلبية الايجابية. ولكن البراءة، بوصفها غياب الخير والشر، هي لا مبالية إزاء هذين الحدين، ليست ايجابية ولا سلبية. ولكن في الوقت نفسه هذا الغياب هو نفسه يجب أن يؤخذ بوصفه كيفًا معرفًا .. ان حقيقتها ليست إلا في علاقتها المتبادلة وبالتالي فان كلا من التعيينين يحوي الآخر في مفهومه؛ بدون هذه المعرفة لا يمكن بحقيقة القول ان نخطو خطوة واحدة في الفلسفة"، "تعيين التعارض أفصح عنه ايضا تحت شكل مبدأ، يدعى (مبدأ الثالث المطرود)" (هيغل، مختارات 1، ص128 -129).

هذا هو سيدنا هيغل بين الموجب والسالب -بين الايجابي والسلبي-، هذا هو هيغل في كمال تصوره السقراطي عن التاريخ، وهذه هي طريقته في البحث، ففي اللاهوت الذي يفصل التاريخ عن الإنتاج المادي والعلاقات البشرية، يبحث هيغل التناقض، والكيف، والعلاقات المتبادلة .. إلخ، وبدون هذه المعرفة الوهمية، لا يمكن أن يخطي هيغل خطوة واحدة في الفلسفة، فالقاعدة التاريخية لقانون وحدة الاضداد الهيغلية، والكم والكيف، ونفي النفي، هي في الأساس جانبا الخير والشر -الفضيلة والرذيلة- الذي يعود تاريخه إلى الأديان الآسيوية القديمة. فأساس كل الصراعات البشرية، هي تلك الفكرة الشبحية التي ينقلها لنا هيغل من عالم الأرواح اليونانية القديمة. فهل ممكن أن يبدأ العلماء -الطبيعيين أو الاقتصاديين- من التناقضات الوهمية لهذا العالم الشبحي وجدله، أي سفسطته؟
إن هذا العالم الشبحي ومنظوماته الفلسفية المختلفة، قد انهار عند ظهور فلك كوبرنيكوس، وفيزياء غاليلو، والأبحاث الفيزيائية لسير نيوتن. وبعد هذه الأبحاث الجديدة عن العالم، لم يتبقَّ من التقاليد اليونانية القديمة للفكر سوى الميتافيزيقا، وأصبحت الفلسفة ومنطقها الجدلي منظومةً فلسفيةً ملحقة بالتفسير الدنيوي للدين، وخاصة تفسير المسيحية في عصرها، فهذه المنظومة لا تتماشى مع العلوم التجريبية ولا تستجيب لمتطلباتها مادامت دعامتها الفكرية قد انهارت مرة واحدة، لذلك فعليها إفساح المجال لتصورات جديدة، تجريبية دقيقة، لا شك فيها عن العالم الفيزيائي، عن قوانين فيزيائية التكوين التي قضى نهائيًا على العالم الديالكتيكي وقوانينه الفكرية.
ولكن التطورات التي حصلت في الصناعة، والتبادل التجاري الذي نشأ بفضلها وراء المحيطات، أدت إلى قلب هذا النوع من التفكير الإنساني - هذه المعرفة المزيفة - حول العالم أيضا، وقد فجرت أطروحات بيكون وأبحاث غاليلو ونيوتن بالذات، اتجاهًا جديدًا في التفكير الإنساني الخاضع للتجارب الدقيقة عليه.
وهذه التطورات أثرت على الطريقة التي يستخدمها الباحثون في الوصول إلى نتائج إيجابية، النتائج التي يعتمد كليًا على الدراسات لا الإيمان. وحسب بيكون، فان المعرفة القديمة تعتمد على ثرثرة كاذبة، فالتجربة الحسية هي التي تعطينا معرفة صحيحة عن العالم.

يقول ماركس: "إن المؤسس الحقيقي للمادية الانجليزية وكل العلوم التجريبية الحديثة هو فرنسيس بيكون، وعلوم الطبيعة هي العلم الحقيقي عنده .. والحواس، بحسب تعاليمه، لا تخطيء وهي مصدر المعرفة. والعلم التجريبي يقوم في تطبيق الطريقة العقلية على المعطيات التي تمدنا بها الحواس. ان الاستقراء، والتحليل، والمقارنة، والمشاهدة والتجربة هي المتطلبات الأساسية للطريقة العقلية" (العائلة المقدسة، ص 166).

ومثلما قام بيكون بشدة بدحض الفلسفة الكلاسيكية اليونانية القديمة وأداتها في البحث في عصره، أي المنطق الديالكتيكي، وفي شخص ممثليها الكبار أفلاطون وأرسطو، فقد قام ماركس أيضًا بدحض الإيديولوجية الفلسفية الألمانية وأداتها في البحث -المادة والديالكتيك- في شخص ممثليها الكبار هيغل وفيورباخ. أما طريقة ماركس فليست نفس طريقة فرنسيس بيكون في الأبحاث، حيث إن المشاهدة والتجربة من خلال الإحساسات البشرية الخمسة، لا تكفي لاستخراج القوانين المادية. وهذه الطريقة في البحث تنتهي في الأخير في (المادية الميكانيكية) التي تمثلها فلسفة هوبز، ولوك، وفيورباخ، وانجلس رغم أنه لم يكن فيلسوفًا ولا عالمًا. وإن أفكار بليخانوف، الأب الروحي للماركسية الروسية، كما أن كتاب لينين (المادية والمذهب النقدي التجريبي) يعزز تصورات إنجلس المشوهة عن العالم. أما ما يسمى بـ (ديالكتيك لينين وتروتسكي) فليس سوى محاولة لإعادة الحياة إلى الجدل المسيحي القديم، فالمسيحية تجدد نفسها في (الديالكتيك الماركسي)، وهذه هي في الواقع طبيعة الثورة المضادة، فالثورة المضادة، ونعني بها البلشفية بالتحديد وإمبراطوريتها السوفيتية، أصبحت آخر معقل للهيغلية الرجعية، وآخر لعبة للبرجوازية في قرن الثورات البروليتارية، الثورات الكومونية التي هزت الرأسمالية مثلما هزت أساسها الفكرية.
ولكن على عكس كل هذه المذاهب الماركسية المختلفة التي تعود جذورها إلى الديالكتيك المسيحي الهيغلي، فما يبدأ منه ماركس هو حالة من التاريخ، عصر من الإنتاج، زمن معين من العلاقات البشرية، فتناقض ماركس مع هيغل – كما ومع الماركسية أيضا - لا يبدأ من كيفية فهم هيغل للديالكتيك - لهذه الفكرة الشبحية الأغريقية القديمة -، فنزاع ماركس مع هيغل ليس هو أن الديالكتيك يجب أن يقف على قدميه بدل رأسه، أو يمكن استخدامه بطريقة أخرى، ايجابية، مادية بدل المثالية، بل هو كيفية فهم هيغل للتاريخ وعلاقات البشر، وانعكاساتها على الوعي البشري، فهيغل يعالج الحركة الديالكتيكية – الجدلية - للأفكار من خلال الأفكار نفسها، فمصدر المعرفة لدى هيغل هو الفكر نفسه. أما ماركس فيعالج حركة الأفكار من خلال حركة التاريخ التجريبي، أي من خلال حركة الصناعة والمبادلة، لا الحركة الجدلية للمادة، فهيغل لا يمكنه إجابة أي شيء بخصوص العالم دون تحويل هذا الشيء إلى شكل من الفكر التأملي، ولكي يكون قادرًا على إجابة أية مسألة، فيغير هيغل هذه المسألة بصورة مسبقة إلى مسألة تأملية (انظر: كارل ماركس، العائلة المقدسة، ص 114). لذلك فلا يمكن لماركس أن يجد شيئًا لدى هيغل يربطه بالمادية من قريب أو بعيد.

وهكذا، فإننا وصلنا في نهاية الأمر إلى أن الطريقة الفلسفية –المنطق الديالكتيكي- لا تمدنا بشيء سوى ما تمدنا به المثالية من الأفكار عن الغيبيات والميتافيزيقا، فالديالكتيك لا يعطينا أية فكرة جديدة عن العالم، أو أية نتائج ايجابية، فهو فكرة جامدة في الأساس، فكل ما لدى الديالكتيك هو أفكار خالصة يمكن استخدامها في أي زمن تاريخي كان. وظهر الديالكتيك في الحضارة اليونانية القديمة بوصفه فكرة عقلانية إزاء الفكر الأسطوري -الميثيولوجيا- حول خالق العالم، الميتافيزيقا، ما وراء الطبيعة، فالديالكتيك فكرة عن الأفكار، والغيبيات، والأسرار لا عن التاريخ الواقعي، وفي تطوره، اندمج الديالكتيك وقوانينه بالمادية العينية -المادية الميكانيكية- التي يمكن أن تطابق الأشياء في حالات مفردة فقط. وهذه المادية الميكانيكية هي أساس (الفلسفة الماركسية) التي تسمى المادية الديالكتيكية، الفلسفة التي ليست لها العلاقة بكارل ماركس من قريب أو بعيد، وصاحبها هو فريدريك إنجلس وليس ماركس، فعلماء الاقتصاد أمثال آدم سميث، وريكاردو، وماركس لا يبدأون من المادة أو من الديالكتيك، بل من الاقتصاد التاريخي فقط. أما هيغل فيغادر مملكة التاريخ أولا ويبدأ بعده ببحث العالم في مملكة التأمل، وحسب ماركس:

"يطور هيغل في داخل التاريخ التجريبي الخارجي، تاريخًا سريًا، تأمليًا" (ماركس، العائلة المقدسة، ص 107).
و"يملك هيغل القدرة الكاذبة أن يعرض على أنها عملية الكائن العقلي المتخيل نفسه، الذات المطلقة، العملية التي بواسطتها ينتقل الفيلسوف عن طريق الإدراك الحسي من موضوع إلى آخر" (ص 73).

وهكذا، ففي طريقة ماركس يظهر لنا أن مصدر الوعي -مصدر المعرفة- هو العلاقات البشرية، فالمعرفة ليست لها أية استقلالية عن هذه العلاقات، وأن كل محاولة لفصلها عن مصدرها المادية باسم الديالكتيك الماركسي، أو اللجوء إلى الديالكتيك لفهم التاريخ، هو محاولة لفتح باب جديد للمثالية في شكلها المسيحيّ بالذات، ثم تفسير الأشياء من وجهة النظر نفسها. وأن ضعف ماركس الهيغلي واستخدام طريقة هيغل في العرض من قبله، سيفسح المجال دون شك للديالكتيكيين للصق ماركس بهيغل. وكل ما يفهم هؤلاء الديالكتيكيون من الاختلاف بين هيغل وماركس هو أن الأول مثالي والثاني مادي، لذلك فديالكتيك الأول مثالي، أما الديالكتيك الثاني فهو مادي، وهذا كل ما يفهمونه عن الطريقة المثالية والطريقة المادية التاريخية للبحث عن العالم، وهم لا يعرفون بأن المثالية هي الديالكتيك نفسه، وليس الديالكتيك الماركسي -أي فلسفة المادية الديالكتيكية- سوى محاولة لنسف الأساس العلمي للمادية التاريخية، وإعادة الحياة إلى الطريقة المسيحية في النظر إلى العالم. وهذا بالطبع أسهل طريقة لتفسير التاريخ بأي شكل يطرحه الفلاسفة وبأي طريقة يفسرها السياسيون أمثال لينين وتروتسكي وستالين. فالديالكتيك الماركسي مثل الديالكتيك اليوناني والألماني، مثالي في الأساس، ومثاليته يتلخص في أن عمله هو القبض على الفكرة، وأن كل فكرة تولد بدورها فكرة مناقضة. والماديون الجدليون لا يقدمون إلينا سوى ظواهرية الفكر المسيحي، لكنهم على طريقتهم، أي طريقة المادية الميكانيكية، فالديالكتيك هو شكل حركة المادة، ولا يوجد السكون في العالم حسب الديالكتيك. وهذا كل ما يعطينا الديالكتيك من الفكرة عن العالم.
أما علماء الاقتصاد، ومن ضمنهم كارل ماركس، فيبحثون القوانين المادية للمجتمع لا المادة أو قياسات المنطقية لقياس خطأ وصواب الأفكار، فماركس يحاول إثبات أطروحاته الاقتصادية بالاستناد إلى التاريخ وحركة التاريخ لا حركة المادة التي لا تعطينا شيئًا عن العالم الواقعي سوى فكرة ميكانيكية مجردة عن الأشياء، ورغم ضعفه الهيغلي، فلا يمكن لماركس أن يستخدم المنطق الهيغلي المسيحي لاستخراج القوانين الاقتصادية واكتساب معرفة مادية عن التاريخ. لذلك، ففي النهاية نسأل القراء كما يسألهم إنجلس:

"أين هي الاختلاجات والمعميات والزخارف التصورية للالتباس الجدلي؛ أين هي الافكار المختلطة والمغلوطة التي تنص على ان كل شيء هو نفس الشيء الواحد في آخر الأمر؛ أين هي المعجزات الجدلية من أجل أتباعه المخلصين؛ أين هي اللمامة الجدلية العجيبة والتشنجات الموافقة لعقيدة الكلمة الهيغلية التي لا يستطيع ماركس بدونها، حسب رأي الهر دوهرنغ أن يصوغ عرضه؟ إن ماركس ليثبت بكل بساطة بالاستناد إلى التاريخ ... ". "بعدما اثبت ماركس استنادا الى التاريخ ان العملية في واقع الامر تمت بصورة جزئية، ويجب أن تتم في المستقبل بصورة جزئية، فانه يعمد عندئذ فقط الى وصفها فضلا عن ذلك على انها عملية تتحقق بصورة متفقة مع قانون جدلي معين. وهذا كل شيء" (انجلس، أنتي دوهرنع).



#أنور_نجم_الدين (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ندوة حول الأزمة الرأسمالية والاشتراكية في كردستان العراق
- الديالكتيك الماركسي غطاء للمسيحية - 2-3
- الديالكتيك الماركسي غطاء للمسيحية - 1-3
- أطلقت اليونان شرارة الثورة المجالسية
- نقد مفهوم الاشتراكية عند ماركس – 2 – 2
- نقد مفهوم الاشتراكية عند ماركس - 1 – 2
- ما مهمات الاشتراكيين؟ 2 - 2
- ما مهمات الاشتراكيين؟ 1 - 2
- ما بديل الكساد العظيم: الهمجية أم الاشتراكية؟
- النظام الاستعماري يسبق النظام الرأسمالي -3-3
- النظام الاستعماري يسبق النظام الرأسمالي -2-3
- النظام الاستعماري يسبق النظام الرأسمالي -1-3
- الدولة وثورة الكومونة – 5-5
- الدولة وثورة الكومونة – 4-5
- الدولة وثورة الكومونة – 3-5
- الدولة وثورة الكومونة – 2-5
- الدولة وثورة الكومونة – 1-5
- مهزلة الليبرالية وضرورة الاشتراكية
- كل شيء لأجل تطوير الحركة الاشتراكية العالمية: التضامن لا الج ...
- الأخلاق الإسلامية والأخلاق الشيوعية


المزيد.....




- حوار مع الرفيق فتحي فضل الناطق الرسمي باسم الحزب الشيوعي الس ...
- أبو شحادة يدعو لمشاركة واسعة في مسير يوم الأرض
- الوقت ينفد في غزة..تح‍ذير أممي من المجاعة، والحراك الشعبي في ...
- في ذكرى 20 و23 مارس: لا نفسٌ جديد للنضال التحرري إلا بانخراط ...
- برسي کردني خ??کي کوردستان و س?رکوتي نا??زاي?تيي?کانيان، ماي? ...
- صدور أسبوعية المناضل-ة عدد 28 مارس 2024
- تهنئة تنسيقيات التيار الديمقراطي العراقي في الخارج بالذكرى 9 ...
- الحرب على الاونروا لا تقل عدوانية عن حرب الابادة التي يتعرض ...
- محكمة تونسية تقضي بإعدام أشخاص أدينوا باغتيال شكري بلعيد
- القذافي يحول -العدم- إلى-جمال عبد الناصر-!


المزيد.....

- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي
- بصدد الفهم الماركسي للدين / مالك ابوعليا
- دفاعا عن بوب أفاكيان و الشيوعيّين الثوريّين / شادي الشماوي
- الولايات المتّحدة تستخدم الفيتو ضد قرار الأمم المتّحدة المطا ... / شادي الشماوي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - أنور نجم الدين - الديالكتيك الماركسي غطاء للمسيحية -3-3