أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صبحي حديدي - الجحيم الموعود














المزيد.....

الجحيم الموعود


صبحي حديدي

الحوار المتمدن-العدد: 1089 - 2005 / 1 / 25 - 11:49
المحور: الادب والفن
    


الشريط الجديد للسينمائي الإسرائيلي المتميّز عاموس غيتاي يحمل اسم "أرض الميعاد"، والأرجح أنه ــ وهكذا سيظلّ حتى إشعار آخر طويل ربما ــ الوثيقة السينمائية الأقسى ضدّ إسرائيل، "الواحة" التي لم يتوقّف التبشير الصهيوني وبعض استطالاته الغربية عن تقديس أخلاقيات الحياة فيها. انطوت، مرّة وإلى الأبد كما يلوح، روح الكيبوتز التي تقلب الصحراء جنّة وارفة وينابيع من حليب وعسل، والصهيوني الصبّاري اليوم قوّاد مافيوزي يهرّب الرقيق الأبيض، ويتاجر بالمهاجرات الباحثات عن عيش أفضل، ويسومهنّ الذلّ والهوان والعذاب، ويُشبع في أجسادهنّ أحطّ الرغائب الوحشية...
مَن شاهد الشريط، الذي يُعرض الآن في الصالات الفرنسية، لن يجد في السطور السابقة أيّ تهويل أو مبالغة، بل لعلّ البعض سيجد تلطيفاً للصورة السوداء القاتمة التي يرسمها غيتاي عن هذا القطاع في حياة إسرائيل الراهنة، حيث تبدو أرض الميعاد وقد انقلبت إلى أقذر دار عهر لأشدّ ما في العولمة من تجليات وحشية. ولسنا نحن، بل صحيفة "لوموند" الفرنسية، مَن اعتبر أنّ أحد مشاهد الشريط تذكّر بفظائع أوشفتز والهولوكوست، مع فارق أنها هذه المرّة تجري بأيدي اليهود أبناء وأحفاد الضحيّة السابقة. ولسنا نحن، بل غيتاي نفسه هو الذي شاء أن يطلق على دار البغاء في الشريط اسم "أرض الميعاد"!
وفي رائعته السابقة "كادوش"، 1999، تناول غيتاي محنة المرأة في المجتمع الإسرائيلي المتديّن، وهو اليوم ينتقل إلى محنة المرأة في المجتمع ذاته، ولكن عبر النساء المهاجرات ضحايا مافيات الرقيق الأبيض. إنها حكاية نصف دزينة من الصبايا الآتيات من الإتحاد السوفييتي السابق (إستونيا، ليتوانيا، أوكرانيا...)، القادمات إلى إسرائيل بواسطة شبكات تهريب تنظمها مافيات روسية وإسرائيلية وأخرى وسيطة، عبر محطّات تبدأ من القاهرة وبور سعيد وصحراء سيناء ورام الله وإيلات، وتنتهي في حيفا.
والصدمات تتعاقب في الشريط، على هيئة مشاهد متلاحقة ذات إيقاع سريع لاهث، تحت وطأة كاميرا محمولة باليد أو على الكتف، تتعمّد خلق حسّ الريبورتاج والتوثيق أكثر من السرد أو بناء حبكة، بل تبدو أحياناً أشبه بالكاميرا الخفيّة. وأوّل لطمة قاسية تأتي مباشرة في المشهد الأوّل، الليلي الشاعري، حيث تسير قافلة جِمال تحت ضوء القمر، تصحبها موسيقى روحية، فيبدو المشهد بأسره وكأنه منتَزع من إحدى حكايات عيد الميلاد، وتحديداً مجيء ملوك المجوس إلى فلسطين للاحتفاء بميلاد المخلّص.
غير أنّ الجحيم، وليس البتة أرض الميعاد، هو ما ينتظر الفتيات حين يجري (في مشهد ليلي مذهل، لا تنيره سوى المصابيح اليدوية!) مزاد علني على الأجساد، بل على أعضاء بعينها في الأجساد: "إنظروا إلى ردفيها"! "هذه عذراء تامّة"! "هذه تبدو داعرة"! "مَن يدفع أكثر"! تُكدّس الفتيات في شاحنة، ويتمّ تهريبهنّ إلى إسرائيل عبر رام الله (سيراً على الأقدام، مروراً بالحواجز، بعد إجبارهنّ على ارتداء الثياب الفلسطينية!). وفي رام الله تسترقّ إحدى الفتيات النظر عبر غطاء الشاحنة فتقول: "تبدو مدينة مفروضاً عليها حظر التجوّل"؛ وعلى مشارف إيلات تقول أخرى: "نحن الآن في عالم متحضّ" ؛ وهذه مجرّد واحدة من سلسلة المفارقات السوداء التي يتقصدها غيتاي.
المشهد الذي دفع صحيفة "لوموند" إلى استعادة أوشفتز هو الحمّام الجماعي الذي تخضع له الفتيات حال وصولهنّ إلى المنتجع العائم على البحر: ضمن إيقاع سريع، ومشاهد بالغة القسوة ثقيلة الوطأة بالفعل، يتمّ تجريد الفتيات من ثيابهنّ، ويجري رصفهنّ على منصّة معدنية تطلّ على البحر، ثم توجّه إليهنّ خراطيم مياه ضخمة، تماماً كما في غسل الماشية أو تطهير أجسادها بالمبيدات! وفي المشاهد اللاحقة، وهي إجمالاً ليلية قاتمة داكنة إلا في حالات نادرة للغاية، تتوالى فصول إعداد الفتيات للمهنة، وبينها ذلك المشهد الأخاذ الذي تصنعه الألمانية الكبيرة هانا شيغولا، في دور القوّادة الأمّ، حين تقوم بمكياج إحدى الفتيات فتكفكف دمعها وتروي أنها مرّت بظروف مماثلة تقريباً، وأنّ البغاء ليس سبّة بل هو عمل مثل سواه.
ذروة استثنائية في المفارقة يبلغها غيتاي في المشهد الأخير، حين تتحرّر إثنتان من الفتيات وتهربان من دار البغاء في ضواحي حيفا، وسط فوضى عمليات الإنقاذ من الحريق الناجم عن انفجار... سيارة مفخخة! وقبل الحريق كان غيتاي قد رسم مشهداً مزدوجاً ـ تحفة، جلب عليه سخط عشرات المعلّقين الإسرائيليين: في مستوى أوّل يقلّب أفراد المافيا ما بين أيديهم من بضاعة اللحم البشري؛ وفي مستوى ثان، متمازج مع الأوّل، تتداعى ذكريات ديانا الإستونية المسيحية عن صلاة الأحد في موطنها، وذكريات روز الأوروبية اليهودية عن ترتيل المزمور الـ 221 الذي تقول بعض أعداده: "فرحتُ بالقائلين إلى بيت الربّ نذهب. نقف أرجلنا في أبوابك يا أورشليم. (...) ليسترحْ محبّوكِ. ليكنْ سلامٌ في أبراجك راحةٌ في قصورك. من أجل إخوتي وأصحابي لأقولنّ سلامٌ بك. من أجل بيت الربّ إلهنا ألتمس لك خيراً".
... وأيّ خير!



#صبحي_حديدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بوش بين السلام الأمريكي والخلافة الجديدة
- الفولاذ أم الذاكرة؟
- محمود عباس الرئيس: أيّ فارق... أفضل؟
- أبو عنتر الشعلان
- تسونامي، أو حين يتسربل جورج بوش بأردية الأم تيريزا
- إنهم يسرقون التاريخ
- لبنانيون حماة الديار السورية
- سورية في 2005: هل سيكون الآتي أدهى من الذي تأخّر؟
- مكاييل الحرّية
- تركيا في ناظر دمشق: بؤرة الكوابيس أم النافذة على العالم؟
- خزعة من قامة ممدوح عدوان
- العلمانية والشجرة
- أشبه بمزامير تُتلى في واد غير ذي زرع
- ترجمة محمود درويش إلى... العربية
- في مناسبة زيارة محمود عباس إلى دمشق:ظلال الماضي تلقي بأثقاله ...
- فلسطين الشوكة
- دمشق وبالون -وديعة رابين-: ألعاب في أردأ السياقات
- قبل المحرقة
- لا ينقلب فيها حجر دون أن يطلق معضلة تاريخية: القدس بعد عرفات ...
- الشاعر السوري حازم العظمة: قصيدة ناضجة في معترك تجريب بلا ضف ...


المزيد.....




- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...
- -الضربة المصرية لداعش في ليبيا-.. الإعلان عن موعد عرض فيلم - ...
- أردوغان يشكك بالروايات الإسرائيلية والإيرانية والأمريكية لهج ...
- الموت يغيب الفنان المصري صلاح السعدني
- وفاة الفنان صلاح السعدني عن عمر يناهز الـ 81 عام ….تعرف على ...
- البروفيسور منير السعيداني: واجبنا بناء علوم اجتماعية جديدة ل ...
- الإعلان عن وفاة الفنان المصري صلاح السعدني بعد غياب طويل بسب ...
- كأنها من قصة خيالية.. فنانة تغادر أمريكا للعيش في قرية فرنسي ...
- وفاة الفنان المصري الكبير صلاح السعدني
- -نظرة إلى المستقبل-.. مشاركة روسية لافتة في مهرجان -بكين- ال ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صبحي حديدي - الجحيم الموعود