أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - محمد فيصل يغان - أصل القيم و دورها في تطور المجتمع الانساني















المزيد.....


أصل القيم و دورها في تطور المجتمع الانساني


محمد فيصل يغان

الحوار المتمدن-العدد: 3706 - 2012 / 4 / 23 - 23:33
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


وحدة العقل البشري تتجاوز مبادئ وآليات الذهن المعنية بإنتاج المعرفة إلى مبادئ وآليات إنتاج القيم, فالقيم هي أيضًا خاصية بشرية ونتيجة مباشرة لامتلاك الإنسان للوعي. إن وحدة المنظومة القيمية ألتي يؤمن بها البشر, لهي دليل قاطع على وحدة العقل البشري, وقد تشكلت منظومة القيم الأساسية لدى الإنسان الواعي كجزء من المفاهيم العامة بالتوازي مع تطور وعيه واكتمال أسس المعرفة وأدواتها لديه كضرورات للبقاء كنوع أولاً ومن ثم لاحقا للتطور كحضارة. أي ان القيم بصفتها مطلقة, هي من مكونات العقل البشري في المستوى الأول (العقل المكون بكسر و تشديد الواو), وإنْ كانت النماذج الاجتماعية الرامية لتحقيق هذه القيم على أرض الواقع جزءا من العقل في مستواه الثاني (العقل المكون بفتح و تشديد الواو) بنسبيتها.
تتمثل القيم بكونها مفاهيم حدسية كلية, شديدة التعقيد والتركيب, فكل فرد من البشر يمتلك شعورا حدسيا للسعادة والخير والجمال كقيم ذاتية أساسية كما يمتلك شعورا حدسيا للقيم الجماعية كالعدالة والمساواة والحرية. حدسية وعمومية المفهوم (والقيمة كمفهوم) تجعله لدى البعض حمال أوجه, وقابلاً لسلسلة من التعاريف وأحيانا غير قابل للتعريف نتيجة مفارقة المفهوم لأصله الموضوعي.
عند البحث المتعمق في مفهوم ما, يجب أن نضع تعريفا انطلاقا من الأصل الموضوعي والانتقال من المفهوم في الحدس المؤسس على فكر باطني, إلى التعريف المؤسس على الفكر الموزون (تحديد المفهوم من الخارج حسب لينين), وبالتالي تجنب السقوط في فخ نسبة المفاهيم وبالأخص القيمية منها إلى مصادر موهومة سواء سيكولوجية أو ميتافيزيقية. ونتيجة لهذه الطبيعة للقيم, وفي سبيل تحقيقها على أرض الواقع, يكون جلّ ما يستطيعه البشر هو خلق نموذج على أرض الواقع يحاكي ويلبي قدر المستطاع شعورهم الحدسي بالقيم, وهذا النموذج يؤسس له الواقع الاجتماعي والتاريخي للأفراد, فتتعدد النماذج المفترضة وتختلف بتعدد الفئات الاجتماعية وأختلاف ظروفها التاريخية, ويسود كنتيجة لميزان القوى في المجتمع المعني, نموذج الطبقة الأقوى ويفرض على المجتمع كافة من خلال مؤسساته السياسية والفكرية, والنتيجة أن المجتمعات الطبقية تعاني دائما من تناقض قيمي بين طبقاتها يشكل مصدرا للتوترات والثورات.
لا خلاف على الطبيعة الإنسانية للقيم وكونها من الإنسان وعن الإنسان, وإنما الخلاف هو على مصدر هذه القيم، وبالتالي على شرعية النموذج المفروض على المجتمع في مرحلة ما من مراحل تطوره. فإن إرجاع المنظومة القيمية بالتعريف إلى مصدر علوي مفارق, خارج بطبيعته عن مجال حاكمية العقل البشري من خلال التعذر بحتمية ما أو جبرية, سواء كانت عللية أو لاهوتية, يجعل من هذه المنظومة شيئا مفارقا وخارجا أيضا عن حاكمية العقل. فلا مجال للتساؤل عن مدى العدالة أو الفضيلة التي تحققها ألمؤسسات القائمة في مجتمع ما طالما أنَّ ألعقل غير قادر بالتعريف على استيعاب (الحكمة) العلوية التي باركت هذه المؤسسات. ويترافق مع هذه المرجعية الغيبية للقيم, النظرة الدونية إلى الإنسان, والقائمة على أنَّ الأصل في الإنسان هو الغريزية الجامحة وعدم الرغبة في الانصياع لمحددات تحكم تصرفاته, وأيضا عدم قدرة الإنسان على إنتاج هذه القيم, وبالتالي يتم تفسير رفض المرجعية المفارقة على أنه رفض لمنظومة القيم ذاتها ودعوة للانحلال وتهتك المجتمع (و يشجع هذه التفسيرات بعض المواقف اليسراوية التي تختزل العمل النضالي إلى مجرد تسفيه معتقدات العامة أو الدعوة إلى الانفلات الجنسي). هكذا نجد أنفسنا أمام مصادرة على المطلوب من خلال التعريف التعسفي للقيم وللطبيعة الإنسانية, وتقودنا هذه المصادرة مرة أخرى إلى جدل عقيم حول التناقض المزيف ما بين الفرد اللاقيمي بطبعه والجماعة الممثلة لإرادة عليا ومنظومتها القيمية (وهو تناقض لا ينشأ إلا في المجتمعات التي تسودها ظروف لا إنسانية), وإلى الوهم القائل بأن التضحية بالقيم هو ثمن ضروري لتحقيق الحرية بمفهومها الفردي المشوه. فالقيم إذن كما نراها تتشكل من تفاعل العقل لا مع ظواهرالطبيعة القائمة بذاتها, بل مع ظواهر الطبيعة المركبة من الظاهرة ومن المراقب الواعي لها. فإن قابلنا الرياضيات الأولية بالبديهيات والمفاهيم الأولية, فإنَّ القيم تقابلها الرياضيات المتطورة والتي يصعب للوهلة الأولى أعادتها إلى أصولها المادية.
عودة إلى آليات تشكل القيم في الوجدان البشري, نرى أن القيم تتشكل نتيجة عاملين رئيسيين, الأول هو ما يجب أن تكون عليه تصرفات (الآخر) نحوي لضمان بقائي وأمني وسعادتي (ضمن الجماعة بالضرورة), والثاني هو ما يجب أن تكون عليه تصرفاتي أنا نحو الآخر لتكييف رد فعله اتجاهي بما يضمن بقائي وأمني وسعادتي, أي أنها مشروطة بالبعد الاجتماعي للفرد, فبقاء وأمن وسعادة الفرد لا تتحقق خارج الجماعة الإنسانية, وبالمحصلة تكون القيم ضرورة للتنظيم والتطور الاجتماعي, وكونها ضرورية للبقاء والتطور في كل زمان ومكان فهي بهذا المعنى مطلقة وهي (الثابت), وهي مطلقة أيضًا لأنها (على المستوى المفاهيمي) لا تعكس توازنات القوى الاجتماعية بل تنطلق من مساواة الذوات الانسانية. أما النسبي و(المتحول), فهو الأشكال والتنظيمات الاجتماعية الممثلة لها والتي هي بالضرورة نتاج توازنات القوى الاجتماعية القائمة.
هذا السياق التفاعلي بين فعل الفرد ورد الفعل عليه, يؤطر تشكل القيم المسماة ذاتية أيضا, وهي بالأصل ذات منشأ اجتماعي, فقيمة الجمال مثلا تحدد موقفي من الواقع وردود فعلي على تجلياته, والتي يفترض بها أن تتجانس مع مواقف الآخر وردود أفعاله (مساواة وتكافؤ الذوات الإنسانية كشرط لمطلقية القيمة) بما يضمن تقبله لي كفرد في نفس المجموعة وبما يضمن رد فعله الإيجابي نحوي.
فالعدالة مثلا ضرورية للنظام الاجتماعي كما الصدق ضروري للنظام المعرفي, وهذا فحوى تعريف العدالة الأفلاطوني على سبيل المثال, والتي تتحقق عند قيام كل شخص بواجبه الطبيعي وبما هو مؤهل له طبيعيا حسب انتمائه الطبقي ما يضمن ثبات النظام الاجتماعي واستمراره في جمهوريته, هذا من منظور الطبقات, أما من منظورالطبقة الواحدة فمقاييس العدالة تختلف وتصبح الشيوعية ضمن الطبقة الواحدة هي الأصل. وقد انعكست هذه المواقف الأفلاطونية في نظام القيم الكنسي في العصور الوسطى بالذات من خلال اعترافها بالتمايز الطبقي الاقطاعي في ما يخص الملكية وبنفس الوقت بتبنيها لشيوعية الملكية فيما بين طبقة الرهبان.
وبسبب طبيعتها الحدسية المعقدة والعصية على التجسد بشكل مادي يحاكي المثال الموهوم بالكامل, وصبغة المطلق التي تصبغها, نجد استعدادا نفسيا لدى الأفراد لتقبل مرجعية مفارقة لهذه القيم تتخذ من خلالها أشكالاً أثيرية غيبية, فتارة هي مثل (أفلاطون) وتارة هي إلهة (أثينا إلهة الحكمة, فينوس إلهة الجمال) وتارة هي صفات الخالق الواحد, وتتحدد طبيعة هذه المرجعيات حسب تطور القدرة على التجريد في مرحلة تاريخية ما, فمن مادية بدائية لدى قدامى اليونان, والمتمثلة بتشخيص المراجع/الآلهه, إلى فكرة الإله المترفع عن أي تشبيه. القبول بهذه المرجعية المفارقة للقيم تقطع صلتها مع مصدرها الأصلي, ألا وهو الوعي الإنساني. وتتمثل هذه القيم (بكونها مفاهيم) في الحدس نتيجة لقطع صلاتها بالمصدر الموضوعي من خلال الرمز المبهم في طبيعته, والذي يخاطب الحدس لا العقل الموزون, أما الفكر الموزون فيتطلب تعريفا واعيا للمفهوم أو تحديدا من الخارج كما سبق.
تحقيق هذه القيم بصورتها المطلقة, أصبح هدفا لكل أشكال النشاط البشري وفي كافة مناحي الحياة سواء على المستوى الفردي أو الجماعي , على المستوى المادي أو الروحاني, فالعالم الذي تتحقق فيه هذه القيم بشكلها المطلق هو عالم الخلاص للإنسان, سواء على الأرض في المدينة الفاضلة, أو في السماء في الجنة، وهذا هو ملخص الغائية الإنسانية. ولكون التجربة الإنسانية على الأرض مليئة بالإحباطات والمساوئ التي تؤدي بالإنسان إلى اليأس من إمكانية تحقيق هذه القيم في نطاق المجتمع الإنساني, وبالتالي إلى اليأس من الخلاص الدنيوي, يصل الإنسان المحبط لنتيجة مفادها استحالة تحقق هذه القيم في الحياة الدنيا، وهذا هو مصدر عدمية الإنسان المحبط, وأخيرا إلى اللجوء للمنظومة الدينية التي تبشر الإنسان بالخلاص في الآخرة حيث يمكن هناك وهناك فقط تحقق هذه القيم. فطالما أنَّ الجنة لا تتحقق على الأرض وطالما أنّ المدينة الفاضلة لا تتحقق إلا في خيال الفلاسفة (لم تنجح إرشادات الكنيسة – كمؤسسة حاكمة م.ي.- والثورات الاقتصادية والسياسية في تغيير الإنسان والعالم) (روجيه غارودي, حفارو القبور), فأما أنْ يبقى الدين والحاجة الإنسانية للتدين جزءًا رئيسا من تركيبة الوجدان الإنساني (فالقول بالله حتى بالنسبة للكافر هو التأكيد على أن للحياة معنى – ليس مكتوبا- من دوننا بل معنى نبحث عنه ونجده) (المصدر السابق) وتبقى قوة الدين في كونه مخزون القيم المطلقة والوعد بتحققها, فحسب القول المنسوب للشريف الجرجاني (القبيح ما نهي عنه شرعا والحسن بخلافه, ولا حكم للعقل بحسن الأشياء وقبحها), إما هذا أو العدمية وإعلان موت القيم والدين والإله وموت الإنسان من بعد.
إنَّ قدرة العقل على تشريح النماذج الممثلة للقيم في زمان ومجتمع معين وردها إلى أسباب موضوعية وطبقية وإظهار لا إنسانية هذه النماذج, هذه القدرة لا تعني أكثر من سقوط النموذج المعني وضرورة استبداله بآخر أكثر إنسانية, ولا تعني أبدا سقوط القيمة بشكلها المطلق. وبالتالي فالخوف والحساسية المفرطة تجاه المعالجة العقلانية للقيم غير مبررة, فهي (المعالجة) ليست دعوى (يسراوية) للتحرر من القيم والانحدار للحيوانية والغريزية بل على العكس, هي دعوة لاستبدال النماذج الانتقائية والقهرية التي يفرضها الطرف السائد في المجتمع على الآخرين لتحقيق مصالحه من خلال تزوير المطلق واختزاله, استبدال هذه النماذج بأخرى أكثر إنسانية وأكثر تحقيقا لما نشعره حدسيا.
و بما أنَّ إنسانية الإنسان تتجلى في سعيه الدائم لتحقيق هذه القيم في الواقع, فإنَّ من يعتقد بسقوطها يرمي بنفسه في العدمية والشعور بالدونية واللاإنسانية.
القيم تتجلى على مستوى الهدف وعلى مستوى الممارسة وأيضا على مستوى الإحساس, مطلقة ومشتركة بين كافة أفراد البشرية على المستوى الحدسي (الهدف), متباينة ونسبية على المستوى الثاني (الممارسة), حيث التباين والنسبية هما نتيجتان طبيعيتان لاختلاف الظروف التاريخية والموضوعية للمجتمعات البشرية من جهة, واختلاف مصالح الطبقات في المجتمع الواحد من جهة أخرى, فنجد تفاوتا في أشكال المنظومات والمؤسسات التشريعية والأخلاقية والعادات والتقاليد السائدة والقائمة في المجتمعات المختلفة عبر الزمان والمكان بما يحقق مصالح الطبقات المهيمنة, فالممارسات التي يمكن اعتبارها تمثيلا صحيحا للقيمة المطلقة ضمن ظروف تاريخية وموضوعية معينة, تؤول إلى ضدها مع تغير هذه الظروف وينشأ التناقض بين القيمة الإنسانية المطلقة وبين الممارسات اللاإنسانية التي تفرضها الطبقة المتنفذة في المجتمع والمستفيدة من هذا التمثيل المشوه للقيم المطلقة.
فلا غرابة أنَّ كل الثورات والحركات الإصلاحية التي ظهرت في التاريخ البشري سواء دينية أو علمانية كانت ترفع شعارات قيمية, فالعدالة والحرية والمساواة والإخاء الخ, شكلت العناوين الرئيسة لهذه الحركات, والهدف كان دائما تغيير الممارسات السائدة بحزمة جديدة تراها الطبقة الصاعدة والقائدة للتغيير, التحقيق الأمثل للقيم المستهدفة بمفهومها المطلق.
إذن فالقيم المطلقة بمستوى الهدف هي رؤيا, وبمستوى الممارسات البشرية هي المنهج والتجربة, أمّا على ألمستوى الثالث, مستوى الإحساس فنجد التقييم والمقارنة للنتائج مع المنطلقات, والإحساس هو بالأصل لحظة حدس, فاستشعار التناقض حدسيا ما بين القيمة المطلقة والممارسة اللاإنسانية القائمة, ينعكس بشكل قلق الضمير والوجدان البشري, وبتأزم هذا القلق يندفع الفرد إلى محاولة الخلاص بالتمرد أو الانعزال والهروب من المجتمع وكافة أشكال السلبية الرومانسية الرافضة للواقع, أو في حالة الوعي المتقدم إلى تغيير الواقع الاجتماعي وتقديم بديل أكثر انسجاما مع القيم المطلقة ومع إنسانية الإنسان من خلال العمل الجماعي, وهنا يكمن الفرق ما بين المتمرد والمناضل, ما بين المحرض والقائد, ما بين (الدون كيشوتات) مثيري الشفقة والأبطال الحقيقيين.
من هنا أيضا تنبع الصفة الأصولية لحركات الإصلاح ضمن التيار الفكري الواحد, فالقيم على مستوى الهدف مطلقة أي أنّها منطلقات ثابتة, والممارسات نسبية، وبالتالي هي برسم التغيير, والإصلاح يكون بالعودة إلى الأصول, إلى القيم بشكلها المطلق والعودة عن الممارسات القائمة والتي تشكل انحرافا عن السبيل القويم. ومن هنا أيضًا التوظيف التبريري واللاعقلاني للعلمانية (العلموية) من قبل الطبقة السائدة والمستفيدة من الوضع القائم, فتارة نجدها تبرر العبودية بلون البشرة وتارة تبرر الاستغلال الاقتصادي والتمايز بالثروة والدخل بالتباين الجيني والاستعداد الوراثي (للإبداع), وتارة أخرى نراها تختزل مفهوم وقيمة الحرية بالحرية الفردية, والسعادة بتعظيم الاستهلاك المادي, وتتجسد قمة هذا التزوير في النظام الرأسمالي بادعاء أنَّ أزمة البشرية الراهنه ما هي إلا صراع الحضارات والثقافات الحتمي كنتيجة للاختلاف في المنظومات القيمية الأساسية, في محاولة لطمس حقيقة كون الأزمة ناتجة عن الممارسات اللاإنسانية للرأسمالية من استغلال وقمع واستحواذ على الثروات, فمن هذا المنظور المحرف للواقع يصبح الآخر مختلفا قيميا, متخلفا ومتوحشا وإرهابيًا. ومن هذا المنطلق أيضًا, يصبح ما يسمى حوار الحضارات في زماننا هذا حوارا للطرشان من حيث كونه تأكيدا وفرضا لممارسات الطرف الأقوى على أنَّها التجسيد الأمثل للقيم الإنسانية الصحيحة من جهه, ومحاولات الطرف الأضعف التشبث بالقيم المطلقة وتقديم ممارسات بديلة عفا عليها الزمن وتجاوزتها المسيرة الحضارية. في حين يؤكد الطرف الأقوى مثلا على قيمة الحرية بمفهومه المشوه لها وما يرافقها من قيم استهلاكية ويعمل على فرضها من خلال العولمة, يقوم الطرف الأضعف عبثا بالتلويح بقيم العدالة والمساواة دون أنْ يمتلك أي تصور واضح للممارسات المحققة لهذه القيمة (خصوصا مع النكسة التي أصابت الإشتراكية).
فالصراع إذن ليس بين حضارات, وإنَّما بين همجيات أسقطت من نموذجها منظومة القيم المطلقة (الحروب العالمية الأولى والثانية الإمبريالية) أو بين همجية وحضارة تسعى لتحقيق القيم المثالية على أرض الواقع (أمريكا وحروبها على العالم). أمّا الحضارات فتتفاعل, والتفاعل وإنْ كان عنيفا وحادا أحيانًا إلا أنّ النتيجة هي إضافة إيجابية لكل الأطراف الداخلة فيه وللإنسانية عموما, أما الصراع فنتيجته خسارة الجميع, خسارة للإنسانية بأسرها.
نأخذ مثلا تاريخيا عن توظيف النماذج القيمية سياسيا لصالح الطبقات المتنفذة من الفضائل اليونانية الأربعة العدالة والحكمة والصبر والتواضع, والتي كانت تعكس تركيبة المجتمع اليوناني المنظم بدول والمكون من طبقات والقائم على أسلوب الإنتاج العبودي, فهذه القيم المسماة حددت علاقة التنظيم السياسي بمواطنيه, والمواطنين بعضهم ببعض. فالعدالة هي صفة قوانين الدولة, والحكمة هي صفة المشرعين فيها, والصبر هو صفة المحاربين المدافعين عن الدولة, أما التواضع فهو صفة المواطن, وتعكس التزامه بتصنيفه الطبقي (وبالأخص الطبقات الأدنى) على الأقل كما يفسرها أفلاطون في جمهوريته.
من جهة أخرى نجد أنَّ هذا النموذج القيمي الأفلاطوني أساسا قد لاقى صدى وقبولا في منظومة كنيسة القرون الوسطى في أوروبا. ومن المفيد مقارنة القيمة الأخيرة أي التواضع, في المنظور اليوناني مع ما يعتبره الوجدان الكنسي-الإقطاعي الأوروبي في عصوره الوسطى أفظع الشرور أي الكبرياء (وأما أفظع ذنب من جهة أخرى (حسب جحيم دانتي – م. ي.) فهو الكبرياء الذي يعبر عن ذاته فيما يعتبره المجتمع الإقطاعي القائم على أستثمار الخدمات والواجبات أفظع الجرائم ... وهكذا نجد في أدنى حفرة في الجحيم وفي أبعد مكان عن النور الإلهي والمحبة الإلهية ... نجد الشيطان أكبر مثل على الكبرياء التي تأنف أن تنصاع لله) (جون هرمان رتندالب, تكوين العقل الحديث). فالشيطان, المعارض والرافض للنظام القائم مصيره الدرك الأسفل من جهنم (وهو مصيره أيضًا في الدنيا على يد أجهزة القمع النظامية). أي أن لا ينصاع العبد للنبيل في المجتمع اليوناني, وأن لا ينصاع القنّ للسيد الإقطاعي في أوروبا, يعني أنهما بحكم الشيطان الذي لا ينصاع لله. فما كان كرها للكبرياء وتواضعا مسيحيا أمام الخالق في المسيحية المبكرة (المضطهدة بفتح الهاء), استحال بالاستعارة من الفكر اليوناني إلى التواضع أمام السيد في المسيحية المضهدة (بكسر الهاء), ولا غرابة في ذلك عندما نلاحظ التطابق بين المجتمع الأفلاطوني بطبقاته الثلاث الحكماء والجنود والعبيد وبين المجتمع الإقطاعي الأوروبي بطبقاته الثلاث رجال الدين والإقطاعيين والقن. أما سكوت الكنيسة عن هذا المفهوم للتواضع بل وترويجها له مثال ساطع عن تواطؤ الكنيسة مع الإقطاع.
من جانب آخر نجد أن القيم المسيحية من إيمان وأمل بالخلاص ومحبة تعكس ردة فعل المسيحية المبكرة على اضطهاد الأنظمة السياسية لها ابتداء من الكنيس اليهودي. وقد رأينا مثالا عن كيفية تهجين هذه القيم مع المحمول الفكري اليوناني في ألمسيحية عند إنشاء الكنيسة كمؤسسة سلطوية في أوروبا العصور الوسطى.
أما المجتمع الرأسمالي فنجده يمجد قيم الحرية (الاقتصادية أولا ثم الشخصية), الديموقراطية (الانتخابية التمثيلية), والنفعية (تحقيق السعادة القصوى). فالحرية الاقتصادية هي عماد المجتمع الرأسمالي وأساسها حرية الملكية الخاصة (المطلقة), والديموقراطية الانتخابية التمثيلية هي وسيلة الطبقة الرأسمالية للسيطرة على النظام السياسي, أما الحرية الشخصية وتحقيق السعادة القصوى (ضمن المبدأ النفعي المادي) فهي أولا ضرورية لتعظيم الاستهلاك وثانيا لإضعاف القابلية لدى الفرد للانتماء إلى طبقة أو عقيدة لما يتطلبه هذا الانتماء عادة من تضحية في بعض جوانب المصلحة الشخصية. ونرى أن شعارات الثورة البورجوازية من مثل دعه ينتج, دعه يمر، وحرية المشروع كلها تصب في هذا الاتجاه, كما أن القوانين والانظمة المسيرة للحياة السياسية تقوم بنفس الدور لصالح هذه الطبقة, فنجد مثلا إنّ الثورة الفرنسية قد منعت النقابات والجمعيات العمالية بحجة تساوي الجميع (العامل والمالك لشروط الإنتاج) أمام القانون, كما نجد أن أول دستور فرنسي بعد الثورة العتيدة قد حرم 85% من السكان من حق الانتخاب بحجة كونهم مواطنين منفعلين, أي لا يملكون ما يكفي . وكان لا بد من ثورات وعصيانات متلاحقة لاسترداد بعض هذه الحقوق ولو صوريا (روجيه غارودي, في سبيل نموذج و طني للاشتراكية).
وفي ضوء المفهوم النفعي الذي ظهر في بريطانيا أواخر القرن الثامن عشر (بنثام وميل) والقائم على أن تعظيم سعادة فرد ما يعظم السعادة الكلية للمجموع (مبدأ تضايفي Additive) مما يرفع الحرج عن الفرد أمام الجماعة, أصبح من الضروري تكميم (أي تقييما كميا) عناصر النفع والسعادة, فكان تحويل القيم المحققة للسعادة إلى سلع تقيم بالمال حتى يمكن مقارنتها وإضافتها للعناصر السلعية ألاخرى المحققة للسعادة.
بهذا التقييم النقدي (مالي) للقيم, وبتركيبة النظام الرأسمالي القائم على تعظيم المنفعة المادية من خلال تعظيم الإنتاح المادي, تصبح القيم الإيجابية مكلفة على الإنسان أي أنها ذات قيمة مالية سالبة, فلتعظيم سعادته على الفرد أن يشطب هذه القيم من معادلة احتساب السعادة.
إنَّ قيما مثل التضحية والإيثار والتكافل مثلا تصبح مكلفة, فالقياس النقدي لها يأخذ بالحسبان العوائد المادية الضائعة نتيجة ممارسة هذه القيم على أرض الواقع, فالتضحية مجزية روحيا (جزية غير قابلة للتقييم ماليا) ولكنها مكلفة ماديا (الخسائر مادية).
كردة فعل على هذا الوضع المأزوم وغير المتوازن , ظهرت التوجهات الاشتراكية بأشكال متعددة ابتداء بالطوباوية وانتهاء بالاشتراكية العلمية لماركس. والعامل المشترك هو أن التنظيمات الاجتماعية (البورجوازية) والاقتصادية (الرأسمالية) والسياسية (الديموقراطية) القائمة في المجتمع الأوروبي لا تحقق الإحساس الحدسي لدى الناس بالقيم الأساسية, فهناك شعور طاغ بأن العدالة لم تتحقق وأن الحرية ما زالت بعيدة المنال وأن إنسانية الإنسان على العموم قد تراجعت.
ونقتصر هنا على تقديم مثال الاشتراكية العلمية, والتي بكونها انطلقت من رحم الرأسمالية الأوروبية تمثل لدرجة كبيرة حركة إصلاح أصولية (بالمفهوم الوارد سابقا) أكثر منها أيديولوجيا غريبة مناوئة برؤية للعالم وأهداف مغايرة للسائد في المجتمع الأوروبي, فهي تتبنى العلم والعلمانية كمنهج, وتؤمن بتهميش دور الكنيسة في المجتمع وتهدف إلى تحقيق سيطرة الإنسان على الطبيعة وعلى مصيره وعلى تحقيق تفتح ذاته بأقصى درجة. إذن فالتعديلات في المنطلقات العامة محدودة, والتغيير الجذري المطلوب هو في المنهج والتطبيق. وربما كان هذا التقارب في الأصول أحد أسباب الخلط ما بين الرأسمالية والاشتراكية من قبل المفكرين الإسلاميين في بوتقة العلمانية ذاتها.
القيم العليا التي تدعو لها الاشتراكية العلمية هي أولا الحرية ولكن بالتعريف الماركسي, فإنّ حرية طبقة هي عبودية طبقة أخرى, والحرية الحقيقية إذن لا تتحقق إلا في مجتمع بلا طبقات. ومن خلال تحليلها المادي التاريخي وجدت أن الملكية هي أساس الطبقية, فالأفراد الذين يملكون وسائل الإنتاج يشكلون طبقة مسيطرة ومستغلة وهذا أسّ البلاء. إذن فالحرية لا تعني حرية الملكية الفردية وإنّما تناقضها تماما, بل الحرية في أن يتخلص الإنسان من القيود المادية التي تقيد تطوره كإنسان (البعد الثقافي الروحي والعاطفي) فالملكية الوحيدة المقبولة إذن هي الحيازة المشتركة لجميع وسائل الإنتاج بما فيها الأرض (ماركس).
ثانيًا كون الدولة أداة الطبقة الحاكمة لقمع الطبقات الأخرى (انجلز), ففي مجتمع لا طبقي لا لزوم للدولة فتنحل حتما ويحل محلها الإدارة المباشرة للأشياء أي الديموقراطية المباشرة, ولكن بشرط أن:
أ‌- تزول كل القوى المعارضة لهذا المشروع و
ب‌- توافر ثروة شاسعة (بحيث ينتفي معنى الملكية والسعي لها) وأخيرا
ت‌- مستوى عال من الثقافة لدى الأفراد ليتصرفوا بشكل عقلاني (نظرية السوق تتطلب نفس الشرط: المستهلك العقلاني, ولكن بمرجعية قيمية مختلفة)
إذن وبالملخص, فالقيم التي تسود وتطغى على غيرها والصيغ النموذجية التي يتم تبنيها لتحقيق هذه القيم, تحددها الطبقات المهيمنة على المجتمع المعني, وأية حركة تغيير في الوضع الاجتماعي القائم تتجه فورا إلى الطعن بهذه القيم كما تجسدها النماذج القائمة بحجة تحقيق هذه القيم, والدعوة لاستبدالها بنماذج أخرى كما في حالة المثال السابق.



#محمد_فيصل_يغان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- دور النموذج و الأسطورة في التاريخ
- مبدأ العلية
- في الفن
- في مبادئ العقل
- في مفهوم الملكية
- جدلية العقل و الوحي


المزيد.....




- لافروف يتحدث عن المقترحات الدولية حول المساعدة في التحقيق به ...
- لتجنب الخرف.. احذر 3 عوامل تؤثر على -نقطة ضعف- الدماغ
- ماذا نعرف عن المشتبه بهم في هجوم موسكو؟
- البابا فرنسيس يغسل ويقبل أقدام 12 سجينة في طقس -خميس العهد- ...
- لجنة التحقيق الروسية: تلقينا أدلة على وجود صلات بين إرهابيي ...
- لجنة التحقيق الروسية.. ثبوت التورط الأوكراني بهجوم كروكوس
- الجزائر تعين قنصلين جديدين في وجدة والدار البيضاء المغربيتين ...
- استمرار غارات الاحتلال والاشتباكات بمحيط مجمع الشفاء لليوم ا ...
- حماس تطالب بآلية تنفيذية دولية لضمان إدخال المساعدات لغزة
- لم يتمالك دموعه.. غزي مصاب يناشد لإخراج والده المحاصر قرب -ا ...


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - محمد فيصل يغان - أصل القيم و دورها في تطور المجتمع الانساني