أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد نبيل - قطار الليل















المزيد.....

قطار الليل


محمد نبيل

الحوار المتمدن-العدد: 3696 - 2012 / 4 / 12 - 15:46
المحور: الادب والفن
    


حياة كل إنسان تبدأ بالبكاء و تنتهي بالبكاء. هناك موت في الحياة و حياة في الموت . “روزا” تعيش وتموت مرات كل يوم. حزنها الشديد على أمها التي ماتت في مأوى العجزة منذ خمس سنوات جعلها تعرف قيمة الموت و الحياة . دموعها تتفجر كلما سمعت حكاية عن نساء لفظتهم مؤسسات الدولة، و عجزت عن أداء فواتير الكهرباء و الماء و الدواء.

“روزا ” تنتابها مشاعر غريبة عنها، وإحساس يدفعها الى رفض ذاتها ، عندما تتذكر والدها الذي مات بفعل طعنات متطرف يميني أجبرته على إجراء عملية جراحية في المستشفى العسكري لنزع كليته، واحتضاره السريري الذي دام عشر سنوات. “روزا ” تفكر دوما في حالة تخرجها من ثنائية “موت و حياة”، فهي ترفض بشراسة لعبة الثنائيات القاتلة .

عشية ذلك اليوم ولدت “روزا ” من جديد. لم تكن ملامحها تشير إلى أي شيء في البداية، عندما ركبت القطار وكانت السحب تغطي كل شيء حتى البحر. رغبات المسافرين تبدو مدفونة في عيونهم. ينزوي ذلك المسافر في ركن مقعده الداكن، و تلك الفتاة الحسناء هائمة، و بينهما جدار من الصمت، و كأنهما لا ينتميان الى هذا الكوكب. لا أدري إن كانا يعرفان من أين تشرق الشمس وأن الأرض تدور و هما لا يتحركان من مكانهما ؟

كانت تخطر ببال “روزا” حماقات . فهي ما زالت ترى كل الأمور من المقعد الذي تجلس فيه. لا تريد أن تسخر من نفسها كما يفعل الكثيرون. في البداية كانت تتحدث إليه بحكمة. عندما بدأ ضوء النهار ينسحب كانت “روزا” متحمسة لكلامه و تنصت إليه، وحركات يديها تشير إلى أنها تعرفه منذ زمن بعيد. مدت ذراعها ذي البياض الناصع فوق كتفه. تدلت يدها اليمنى . بدأ هو يلامس صدرها الواسع . كان يحكي لها عن أمه، و كيف ماتت دقائق معدودة بعد ما رمته إلى الحياة. كان يستعمل كلمات فجة . ربما ما زال يعاني من مرض الهذيان الذي أصيب به مند أكثر من عشر سنوات. حكى لها القصة بتفاصيلها المملة، حتى وصل إلى واقعة ضياعه في دروب القرية و أضحت كل الكلاب تعرفه هناك.

حرارة شديدة بدأت تنبعث من صدرها . بدأت “روزا” تشك في حقيقة قصته عن والدته، فالأحداث متناقضة و لا يربطها أي خيط منطقي. ظنت أنه يحكي عن أشخاص فقدهم، أو ربما هذا كله من وحي خيال شخص مريض نفسيا. وراء حديثه كانت هناك حكايات عن الرسم و الشعر و الخزف . أذهلها كلامه . اقتربت منه شيئا فشيئا. بدأت تطرح عليه أسئلة محرجة للغاية. لم يمض على تعارفهما سوى نصف ساعة في قطار يكاد يخلو من المسافرين. ظلمة الليل و سرعة القطار، و نظرات طائشة لسيدة عجوز كانت تجلس قبالتهما، لم تمنع “روزا” من محاورته. بالرغم من تردده في حديثه بين الفينة و الأخرى، لم تتوقف هي عن طرح أسئلتها . أما هو فكان يفكر في رغبات تجتاحه كالطوفان. يتصور”روزا” جالسة فوق كرسي مكسر الحواشي بقميصها الأحمر. تنهض ثم ترقص رقصتها الشرقية، قبل أن تأتي عنده ليلامس بأنامله شعرها المبلل. كان يراها في لحظة تقوم بحركات بهلوانية، ثم ترسم على زجاج نافذة الغرفة التي جمعتهما في أحلامه. شهواته ترى “روزا” عارية تتدحرج ككرة الماء على رمال الشاطئ ، قبل أن تعانقه و تجره الى البحر. يتردد مرتين ثم يقبل المغامرة في المرة الثالثة و يذهب معها بعيدا، في مكان يتيم لا ينظر اليه فيه إلا صياد عجوز يركب قاربه الصغير، وعلى الجانب الآخر من البحر تظهر له أجساد جميلة و ناعمة مستلقية فوق الرمال، وتمارس ما عجز عنه في لقاءه السريع جدا مع “روزا ” .
و يستمر مسلسل أحلامه فيرى “روزا ” تبادر في تقبيله . تنزع قميصه و تضع رأسها على صدره لتنصت إلى دقات قلبه الخافتة جدا. تمرر قدمها على مفاصله، قبل أن تضاجعه . يحس بأنها تغتصب فحولته ..فيرفض الزواج منها .

“روزا ” تعاطفت ربما معه، وكانت تشعر بأنه لا يستحق إلا حياة سعيدة بعيدا عن الغثيان . المجتمع يفسد الكثيرين، و عندما يدين شخص ما وحشية الناس تظهر أصوات الرفض و الاحتجاج. هناك نرجسية تستفيق في دواخل المجتمع، و ترفض الآخرين . إنه أمر يشبه وضع العاهرات اللواتي يٌحاسَبن على بيع أجسادهن لكن لا يٌحاسب الرجل المشتري. “روزا” تعتقد أن المجتمع يستحق الإدانة.

استفاق هو فوجدها تنظر إلى رموشه الكثيفة. “روزا” طبيبة نفسانية، و تهتم في عملها بمرضى دول الجنوب . زوجها توفي بسبب صراعه مع مرض الهستيريا. هي تعرف جيدا ما معنى أن يصاب الإنسان بصدمة نفسية في حياته. سألته :

- لماذا تهتم بعالم الجثث كثيرا ؟
ضحك ثم شعت عينيه بعلامات الكآبة . صمت بضع ثواني و قال لها:
- فقدت شهية النوم مند أعوام . لم أتفرغ لحياتي ..تسحرني أشياء أجهلها في حياة الأموات …أنا لن أموت أبدا. ما زلت مصابا في رأسي.
مرة ثانية بادرت “روزا” إلى استفزازه بالسؤال :
- ومن جرك إلى هذا العالم المتناقض مع طفولتك ؟
رد عليها بنبرة فيها نوع من السخرية:
- قد أكون و قد لا أكون. أبي كان زانيا، و طرد كل العائلة حتى تحول بيتنا إلى كهف مهجور. كنت أفضل أن أطير مبكرا قبل طلوع الشمس، حين يغادر أهل القرية حقولهم الصفراء. إن أهل القرية مثل فئران التجارب يستغلونهم الكبار لأهدافهم الملعونة، ثم يأكلونهم واحدا واحدا كما تأكل القطط أبنائها.
- جميل أن يكون لك هذا الارتباط لكن ماذا فعل أبوك بعد طردكم من البيت ؟
- لقد تحول إلى مالك للقرية برمتها، يفصل في النزاعات و يحتكر كل شيء حتى الكلام و يستولي على من يشاء ، ولم تنج من ويلاته فاطمة..ما زلت أتذكر في تلك اللحظات عندما كان يعود سكرانا و متعبا ، أتقيأ من شدة التقزز . خمرته الرخيصة تفعل فعلتها في فمه.
- و من تكون فاطمة ؟
- فاطمة هي كل شيء بالنسبة إلي . كنت ألتقي بها سرا، فتعطيني بعض الأقلام التي تختلسها من المدرسة التي كان أبوها يشرف عليها.

مزاج رفيق “روزا” حاد . يلامس شاربه بلسانه كثيرا، و تظهر عليه علامات اليأس بسرعة. يبدو وكأن لمعانا شديدا بدأ ينبعث من عيني “روزا”، عندما اقتربت من ذقنه . كان القطار في اتجاهه نحو مدينة معروفة في البلاد بحكاية امرأة قررت بناء بيتا لوحدها، بعد ما قتل زوجها في الحرب. استغرق الأمر أعواما، لكن بعدما اكتمل البيت ماتت و هي تحمل على ظهرها ركام الحجر.

نادته “روزا” باسمه الذي كان مسجلا على دفتر صغير كان يتكأ عليه عندما كان جالسا في مقعده و يمسك برأسه . نظر اليها نظرة سريعة ثم ذهب إلى المرحاض و بعد عودته ارتمت عليه. قالت له بصوت متعب :
- ماذا ورثت من هذا العالم؟
- لقد ورثت الرعب و العشق الممنوع و الكلام بلا قوافي … لقد ورثت أيضا ذراعي المبتورة. لن تصدقي إن قلت لك أن بواطني تهتز عندما أسمع إسم “فاطمة” يخترق أسماعي. أبي كان يقول عنها: “إنها مهبولة وتشبه الكلبة” ..لكنه ينام معها .

- حاليا أحاول أن أرسم بعض الوجوه بيد واحدة. عندي كمية من الورق و أقلام “فاطمة” طبعا.
- لماذا ترسم وجوها فقط ؟
- هناك أناس يستولي عليهم التعب و الحب في آن واحد. أحاول ركوب صهوة عيونهم الغائرة. إنهم يعيدونني إلى نقطة البداية . عندما كنت أترقب مجيء فاطمة قبل أن يختطفها أبي، كنت أحس بالنشوة و أنا أنظر إلى تلك الأقلام البالية التي تقدمها لي كهدية صباحية. “فاطمة” تعشق بلا ملل وأرى كل شيء جميل في طيفها.

توقف القطار قبيل صلاة الفجر. ما زالت “روزا” تقاوم حكاياته الطريفة و غير الطريفة، أما هو فظل يلعن الأب و يبكي على رحيل فاطمة التي ما زالت ذكراها تشعل النار في قلبه.

نظرات “روزا” أنسته أن يتوقف حتى ينزل في المحطة التي يقصدها، و يركب القطار الآخر المتجه نحو “مدينة المرأة الحديدية”. تذكر فاطمة و هو يودع رفيقته. كانت تنظر إليه. تلامس أنامله بعطف عجيب، و كأن شيئا ثمينا ضاع منها. حاولت أن تمسك بيديه عندما حمل حقيبته الرمادية، و على كتفه وضع معطفه فحوله شكله الى إنسان كئيب.

أمام هذا المشهد المستفز التي تموت فيه جرعات الأمل استطاعت “روزا ” أن تتجاوز كل الحقائب التي وضعها أصحابها في ممر القطار . التحقت به. كانت جد هادئة. هو تمنى أن يضع رأسه على يدها و ينام للأبد. جحظت عيناها و هي ترى لعابه يتدفق من فمه. بدأ يسمع أصواتا جد بعيدة تدفعه نحو “روزا”، و تضغط عليه لينزل بثقله على صدرها الضيق. أما “روزا” فقالت له قبل أن تطأ قدماه أرض المحطة :
- لقد أعجبني اسمك .

محمد نبيل، ألمانيا، ديسمبر 2011



#محمد_نبيل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المخرج البريطاني -مايك لي- رئيسا للجنة التحكيم ، في مهرجان ب ...
- السمك المغربي و البوليساريو و أشياء أخرى ...
- إنه -الفيلم المغربي- بعيون ألمانية..
- من أفلام مهرجان برلين السينمائي في دورته ال 61 - ...
- سؤال صحافة المهجر
- صباح الخير يا برلين :هل بدأ ت ألمانيا تنزعج من المهاجرين الع ...
- وجوه مغربية متناقضة ...
- هي
- المرأة العربية و الرهان الإنساني
- من أفلام مهرجان برلين السينمائي : -المُرْبِكَة- أو اللعبة ال ...
- -الرجل الذي باع العالم- أوضياع بين السينما و المسرح
- حكايات نسائية، من هنا و هناك
- لماذا الختان ليس تقليدا إسلاميا ؟
- موت بحر البلطيق
- دانسك مدينة بولندية بروح ألمانية
- -العين- المخيفة
- قراءة في أحوال المجتمع المغربي
- حكاية يوسف
- بعد عرض فيلمه - غرب عدن- ، كوستا غافراس ينتقد تعامل أوروبا م ...
- صباحات برلين السينمائية


المزيد.....




- بايدن: العالم سيفقد قائده إذا غادرت الولايات المتحدة المسرح ...
- سامسونج تقدّم معرض -التوازن المستحدث- ضمن فعاليات أسبوع ميلا ...
- جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-
- “العيال هتطير من الفرحة” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- مسابقة جديدة للسينما التجريبية بمهرجان كان في دورته الـ77
- المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي: إسرائيل تعامل الفنانين كإرهاب ...
- نيويورك: الممثل الأمريكي أليك بالدوين يضرب الهاتف من يد ناشط ...
- تواصل فعاليات مهرجان بريكس للأفلام
- السعودية تتصدر جوائز مهرجان هوليوود للفيلم العربي
- فنانون أيرلنديون يطالبون مواطنتهم بمقاطعة -يوروفيجن- والوقوف ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد نبيل - قطار الليل