أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - سلامة كيلة - عفوية الجماهير و دور الحركة الثورية في الوطن العربي















المزيد.....



عفوية الجماهير و دور الحركة الثورية في الوطن العربي


سلامة كيلة

الحوار المتمدن-العدد: 1085 - 2005 / 1 / 21 - 12:41
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    











مدخل
أودّ أن أوضّح أن الموضوعات التي يتناولها هذا الكتاب تخصّ ظروف ثمانينات القرن العشرين في الوطن العربي، سواء من حيث الأحداث أو الأرقام، لكن المسألة الأساسية التي يؤكّد عليها مسألة راهنة. و هي أن الطبقات الشعبية ليس قدراً لها أن تكون ساكنة، بل أنها في لحظات تتحرّك و تنفجر. و الصراع المثمر هو ذاك الذي يربط هذه الحركة و هذا الإنفجار في صيرورة سياسية يكون للحركة الثورية دوراً فعلياً فيها. هذا هو نمط الصراع الطبقي، الذي يقود إلى إنتصار.

مقدمة

1/ سلسلة من الإنتفاضات شهدها الوطن العربي، خلال العقد الماضي، و تحرّكات جماهيرية واسعة هزت أركانه*، وإذا كنا لن نشير هنا إلى الإضرابات، و التحرّكات الإحتجاجية المختلفة، والمتصاعدة التي حدثت في معظم «الدول» العربية، وخصوصاً الإضرابات العمالية في مصر، التي إتخذت منحىً مهماً، وبلورت نضالاً جماهيرياً حقيقياً، فلأننا نركز على الإنتفاضات الكبيرة التي حدثت في خمس «دول» عربية، والتي تشير إلى أنها فاتحة مرحلة جديدة، وتنذر بالانتقال إلى «دول» أخرى، نتيجة تحوّل الوطن العربي إلى منطقة خاضعة للسيطرة الإمبريالية، وتابعة في إطار النظام الإمبريالي العالمي. وبالتالي نتيجة سيادة نمط الرأسمالية التابعة في معظم أرجائه، هذه الرأسمالية التي تعمق من السحق الطبقي، وتؤدي إلى حالة الإفقار المطلق لجماهير واسعة من السكان، لا يكون من خيار أمامها سوى الإنتفاضة. إن سيادة الرأسمالية التابعة أوجدت تشابهاً واسعاً في الظروف الاقتصادية الاجتماعية العربية، جعل أوضاع الجماهير العربية موحّدة إلى حدٍّ بعيد (هذا دون تناسي الفروقات الجزئية، التي كانت، والتي سوف تبقى دائماً، ما دام المجتمع لم يصل إلى مرحلة متقدمة من التطور). وأدت هذه الوحدة إلى أن تصبح الإنتفاضة الشعبية خياراً لكل الجماهير العربية، طريقاً للتعبير عن رفض لمنطق الإستغلال الطبقي السائد، ودعوة من أجل التغيير، التغيير الثوري، الذي ينهي الاستغلال الطبقي، ويسمح للجماهير العربية أن تعيش بكرامة، وأن تتمتع ببعض خيرات هذا الوطن الكثيرة والمتنوعة.
وإذا كانت أنماط مختلفة. على الصعيد الاقتصادي الاجتماعي،د سادت في مرحلة معينة، بدت متناقضة، وأوجدت خصوصيات، بن هذه «الدولة» أو تلك، وخصوصاً حينما سيطر نمط رأسمالية الدولة في عدد من الأقطار المهمة، فإن تطورات السنوات العشرين الماضية، أدت إلى أن يسود نمط موحَّد، مادامت السيطرة الإمبريالية الأميركية، قد فرضت نفسها، ومادام الوطن العربي، قد أصبح جزءاً تابعاً في إطار النظام الإمبريالي العالمي. ولهذا نلاحظ تشابه المشكلات الاقتصادية في معظم الدول العربية (العجز في الميزان التجاري، العجز في ميزانية الدولة، التطور المحدود للدخل المحلي مع التطور الكبير لعدد السكان، الزيادة المحدودة للأجور مع الزيادة الكبيرة لأسعار السلع والخدمات، انهيار العملة المحلية وتحوّل الدولار إلى مقياس لأسعار السلع والخدمات، السوق السوداء للعملة، تراكم الديون الخارجية،...). وبالتالي تشابه الأسباب التي تفرض الانتفاضات الشعبية (ارتفاع أسعار الخبز تحديداً، لهذا سميت هذه الانتفاضات انتفاضات الخبز، أو السميد...).
إن سيطرة الرأسمالية التابعة، وتوطد السيطرة الإمبريالية الأميركية (وبالتالي حالة النهب الاقتصادي التي تمارسها، فرض حدوث ثلاث انتفاضات كبيرة في مصر، وثلاث في السودان، و إثنتين في المغرب، وواحدة في الجزائر، لكن يشير إلى انتفاضات قادمة في هذه البلدان، وبلدان أخرى دخلت الدوامة نفسها (الأردن...)(*). لقد بدأت الانتفاضات ف مصر في 18/19 يناير عام 1977، ثم في 26 يناير عام 1978 في تونس، ثم عام 1979 في السودان و1981 في المغرب، ثم عام 1983 في السودان ثم في يناير عام 1984 في تونس والمغرب، ثم في مصر، ثم في آذار/ نيسان عام 1985 في السودان، ثم عام 1986 في مصر، ثم في أيلول عام 1988 في الجزائر، ولاشك أن الأمور تنذر بانتفاضات في السودان ومصر تحديداً.
2/ ولاشك أن هذه الحادثة تشير إلى عمق الأزمات التي تعيشها الجماهير العربية هذه الأزمات التي دفعت كتلاً واسعة من الطبقات الفقيرة لأن تعبِّر عن غضبة، أوجدتها ظروف معاشية غدت تعيشها، ظروف تجعلها تسقط عن كاهلها كل الخوف الذي انزرع فيها، الخوف من الأنظمة، من أجهزة القمع، من الدول، والذي تكرس في وعيها بشكل تلقائي، وأخذته كموروث يركن له، إنها تسقط في لحظة شعور بالضعف، في مواجهة جبروت أنظمة، خصوصاً وهي تعيش في قوقعة الفردية المفرطة، بقوة الجماهير، وهنا يغدو مفهوم الجماهير، ليس كجمع عددي، بل ككتلة متراصّة، موحّدة، تعيش ظروفاً واحدة، وتواجه إشكالات موحّدة، وبالتالي ترى أنها أقوى من مضطهديها. إنه يقابل قوة وجبروت الأنظمة، بقوته هو كفرد، إنه يقابلها بضعفه بالتالي، لذا يلوذ بالصمت، يقبل كل الأفكار التي تبثها أيديولوجيات مختلفة، سواء الأيديولوجيا السائدة التي تمتلك حدّ إخضاع الجماهير، وتكييف وعيها، لكي تقبل الاضطهاد والاستغلال والقمع كقدر حتمي، كحتمية لا مفرّ منها، كسنّة إلهية، أو سواء المفاهيم الانهزامية والإصلاحية، والانتهازية التي تنبثق من داخل صفوف الجماهير، والتي تهدف إلى إعلان التوبة، أو ترفع راية الاستسلام، وتعود لتعلن قبولها الاضطهاد والاستغلال والقمع كقدر حتمي، من أجل أن تربح فئة قليلة، بما تلقيه عليها من فتات، الطبقة المستغلة ـ الحاكمة.
إن «فردية» الإنسان تجعله يهجر السياسية كنشاط عملي، ويقبل بكل أشكال السلطة، التي تفرضها الطبقة المستغلة ـ الحاكمة، وينفذ كل سياساتها. الفردية هنا سلبية انهزامية، وبالتالي مناقضة لمصلحة الفرد، إنها صيغة التكيف مع منطق الاستغلال السائد، ومع الوعي السائد، المعبَّر عنه في أيديولوجيا الطبقة السائدة. هنا تتبلور ثنائية فرد ـ سلطة (التي تعني الجبروت، القوّة، القمع، السحق، الاضطهاد، الجيش، الشرطة، المخابرات...). وفي هذه الثنائية، يتبلور مطمح الفرد في القدرة على العيش، أي على إعادة تجديد ذاته (بما فيه التوالد، وتربية أطفاله). وعلى إيجاد السبل «الشرعية» لتحسين هذه الوضعية، التي قد تعني التملّق، أو السرقة، أو الانتهازية، ولما كانت هذه الصفات لا تفتح الآفاق نحو تحسين الظروف المعاشية، أو حتى نحو الانتقال الطبقي، سوى لفئة محدودة، من كتلة كبيرة من الجماهير، فإن وعي الأغلبية، يتحدد في إعادة تجديد الذات فقط.
لذا تغيب السياسة، الممارسة السياسية، تنحصر في أقلية محدودة تسمى الأحزاب، أو المثقفين، وتختفي المعارضة، لتنحصر في بعض الأحزاب والمثقفين، ويتحول الفرد إلى آلة، إلى شيء، يتوه في دوّامة العمل المضني، من أجل تحصيل قُوْته، وتوفير مستلزمات إعادة إنتاج ذاته، كفرد وكأسرة، يقوم على إعالتها، من أجل أن تنتج عبيداً جدداً، يؤمَّنون استمرارية الاستغلال الطبقي. وبهذا تفر السلطة سطوتها، وتزيد من قوّتها وجبروتها، لتصبح القوة الحاسمة، الثابتة، السرمدية، المطلقة، حسب وعي الجماهير الشعبية، التي تبدو، في المقابل، خارج إطار الصراع الاجتماعي الواقعي، لا مبالية، سلبية، يائسة وصامتة.
في هذا الإطار يمارس الاستغلال، وتمارس السلطة كل قسوتها، وتظهر كل قوتها، ويجري نهب الجماهير العشبية، استغلالها، من أجل أن تراكم قلَّة ثروة هائلة، ومن أجل أن تنهب الشركات الاحتكارية الإمبريالية و الأميركية تحديداً، وأن تصبح قوّة استغلال محلية.
لكن تعمق النهب، الذي يوضِّح الانقسام الطبقي، ويظهر الفروقات بين الطبقة المستغِلة الناهبة، والطبقات المستغِلة، المضطَهدة، يسهم في مفاقمة الصراع الطبقي، حيث تأخذ الطبقات المستغَلة المضطهَدة في التعبير عن موقفها ـ بشكل هامش محدود في البدء، لكن مع مراكمة حقد داخلي هائل. إن الشعور بالاستغلال الطبقي، يتطور تدريجياً، لكن في وجهة واحدة، هي وجهة الظرف المعاشي. بمعنى أن شعور الفرد بالعجز عن إمكانية إعادة تجديد ذاته، هو الذي يطغى، حيث يتمركز الاهتمام في الحفاظ على الحدِّ الأدنى الذي يسمح بالعيش.
إن الشعور بالعجز عن إمكانية إعادة تجديد الذات، الناتج عن سياسات النهب التي تسيطر في المجتمع، هي التي تجعل الشعور بالاستغلال الطبقي، ينتقل «فجأة» من كونه شعوراً سلبياً إلى كونه شعوراً ايجابياً تماماً. إن التطور المحدود في الأجور، الذي يبقي العامل في أقصى درجات لرب العمل، من جهة، والارتفاع الهائل في أسعار السلع والخدمات، التي تستفيد منها الطبقة المستغِلة الحاكمة من جهة أخرى، يجعل قدرة الفرد على العيش صعبة، ومن ثم مستحيلة، وإذا كان تدني الأجور يشعر الفرد بالاضطهاد الطبقي، فإن الشعور بالعجز عن إعادة تجديد الذات، يدفعه إلى الانفجار، إلى أن يعلن موقفه، بالفعل لا بالكلمات ـ وهي عادة المثقفين ـ من خلال أشكال عديدة، منها الإضراب والاحتجاج، لكن الظاهرة البارزة التي أخذ الوطن العربي يعيشها هي الانتفاضة، الانفجار الجماهيري الكبير، العفوي، المحدود المطالب، العنيف والانفعالي، هنا يكون الفعل انفعالياً، لا واعياً، لحظياً وبالتالي لا يؤدي إلى نتيجة واضحة، وإن كان يؤشر إلى مدى الأزمة التي غدا يعيشها الفرد، هذه الأزمة التي تحوّل وعي الفردي، «فرديته» إلى وعي جمعي، لكنه وعي جمعي مؤقت، سرعان ما يسقط حالما تنتهي شحنات الغضب، أو حالما تتراجع السلطة عن قرار، كان هو السبب المباشر لحالة الانفجار هذه، ولاشك أن رفع أسعار الخبز أو السميد، إضافة إلى سلع أخرى، هو سبب كل الانفجارات التي حدثت، لأن فئات واسعة من الجماهير، تعيش على الخبز كمادة أساسية، لأن دخلها لا يسمح لها إلاّ بالتخلي عن سلع ضرورية مختلفة، إضافة إلى تخليها عن السلع الكمالية.
إن محدودية دخل الفرد، والارتفاع الهائل في أسعار السلع والخدمات، يقلِّص مطالب الفرد إلى الحدِّ الأدنى الضروري للعيش، فيصبح الخبز، السكر، الأرز، الشاي، هو كل ما يستطيع الفرد شراءه، وتستهلك هذه المواد (إضافة إلى ضروريات أخرى، مثل السكن، الكهرباء، المواصلات...) كل الدخل، والتالي يتوزع الدخل الشهري بما يكفي شراءها، وحينما ترتفع أسعارها، يحدث اختلال يدفع الفرد إلى الشعور بأنه عاجز عن تجديد ذاته، لهذا نراه يسقط كل الخوف الذي تملّكه، وينسى كل القيم والأفكار التي ترسّخت لديه، حول السلطة، والطاعة، والخضوع، لأنه غدا في وضع يقارب من الموت، وأمام الموت يسقط الخوف، ولا تعود هناك حاجة إلى الخنوع والخضوع، والابتعاد عن النشاط الاجتماعي. هذه اللحظة تؤسس لحالة من الوعي الجمعي المؤقت، الذي يدفع (الفرد ـ المجموع) للتعبير عن احتجاجها.
لكن لابُدّ من ملاحظة أن هذه الممارسة، لا تقود إلى تأسيس وعي جمعي شامل، بل تبقى الصفة اللحظية هذه هي السائدة. ولا تقود إلى تأسيس وعي جمعي بالمعنى السياسي للكلمة، لأن الوعي الجمعي يتقوّم في مسألة أساسية واحدة، هي مسألة الدفاع عن الذات، والسعي من أجل توفير الظرف الذي يسمح بإعادة تجديدها. وبالتالي، وإن كانت الجماهير تمارس نشاطاً سياسياً حينما تنتفض، فإنها تحافظ على مبدأ العزوف عن السياسة، أي أنها تحافظ على مسألة ابتعادها عن ربط الجزئي بالكلي، أي ربطها الحالة التي تُدفع لها، نتيجة الاستغلال الطبقي، بنشاط الطبقة المستغِلة الحاكمة، ولذلك يبقى الخوف مسيطراً عليها، لكنها في المقابل تعيش حالة من الأمل ـ الحلم، بظهور مخلِّص يسقط السلطة، ويحقق المساواة، إن عجز الجماهير عن تحقيق التغيير، في كل مرَّة تخوض فيها حرباً طبقية صريحة، يجعلها تنتظر مخلِّصاً، ينقذها من كابوس الاستغلال القائم، ولاشك أن خوفها من الممارسة السياسية، وشعورها بالحاجة إلى تحسين ظروفها يدفعانها إلى الركض وراء حلم، يقوم على أساس انتظار مخلِّص ما، وهي هنا تنتظر التغيير من قوّة أخرى، هي خارجها، وهنا هي لا تصل إلى فكرة أن صراع الطبقات هو الذي يفرض التغيير، لكن هذه المسألة تفتح الآفاق أمام فئات طامحة، سواء من داخل الطبقة، المستغِلة ـ الحاكمة ذاتها، أو من الفئات الوسطى، لكي تستفيد من هذا الحلم لتفرض استغلالها هي، وسلطتها هي، وبهذا تدخل الجماهير في دوامة الانتظار، وتُستَهْلَك عن طريق تأييد فئة مستغلة ضد أخرى، على أمل أن تحقق لها بعض العدل، لكنها تكتشف أن الفئة الجديدة أكثر استغلالاً من سابقتها، فتؤيد فئة أخرى وهكذا.
هذه الدوامة تعبِّر عن إشكالية، هي إشكالية تحوّل العمل العفوي، إلى عمل منظم، والنشاط الجزئي إلى نشاط شمولي، والتصور الاقتصادي إلى تصور سياسي، ولاشك أن نشاط الجماهير يحقق نقلات في هذا الاتجاه، يخلق تراكماً ما، لكن الأهم يهيئ أرضيّة مناسبة لهذا الانتقال من العفوي إلى المنظّم، ومن الجزئي الشمولي، ومن التصور الاقتصادي إلى التصور السياسي، من الوعي الزائف إلى الوعي المطابق، لكن فقط من خلال الدور الذي يمكن، ويجب، أن تلعبه حركة سياسية قادرة على تحقيق ذلك، وهذا ما سوف نشير إليه لاحقاً.
إذن، ليس صدفة أن تحدث حالة الإفقار المطلق التي تعيشها الجماهير، لأن أساسها يكمن في الاستغلال الطبقي، الذي يجعل جماهير واسعة تعيش في حالة الكاف، وبالتالي يأتي حدث «بسيط»، و«عرضي» لكي يقلب أحوالها، ينقلها من الحياة إلى الموت. وهو أيضاً ليس حدثاً بسيطاً وعرضياً في كل الأحوال، بل أنه نتيجة لجشع الاستغلال، هذا الجشع الذي يدفع إلى تحقيق زيادة مضطردة في الأسعار، في الوقت الذي يفرض تثبيت الأجور، فيأتي قرار رفع الدعم عن السلع الأساسية، هذا القرار المبرر بعجز ميزانية الدولة، وبالتالي عدم قدرتها على دعم السلع الأساسية، لكي يحدث حالة الانتقال النوعي من حالة الكفاف، إلى حالة العجز عن العيش.
من هنا من الضروري أن تنفتح الآفاق أمام تفاقم الصراع الطبقي، بتحويله من حالة رفض جزئية مؤقتة، تنطلق من مناهضة قرار «بسيط»، يتعلق برفع الدعم عن السلع الأساسية، أو برفع أسعارها، إلى صراع ضد الاستغلال الطبقي، الذي ينتج هذه الظاهرة، وتحويله أيضاً من صراع مطلبي جزئي، إلى صراع سياسي شامل.
إن تفاقم الاستغلال الطبقي هو الذي يلغي إمكانية الفرد لأن يكون قادراً على تجديد ذاته، وبالتالي يدفعه لأن يأخذ موقفاً دفاعياً، لكنه موقف يوضح مدى القدرة التي يمكن أن يصنعها (الفرد ـ المجموع). في هذه اللحظة بالذات، في الوقت الذي يتوضح أن الوعي الجزئي بهذه المسألة لا يقود إلى تجاوزها. وبالتالي فإن حالة الإفقار المطلق يجب أن تدفع ليس فقط باتجاه الحفاظ على حالة الكفاف، بل إلى إسقاط حالة الكفاف هذه من أساسها، أي إسقاط الطبقة المستغِلة ـ الحاكمة (وغير الحاكمة). وتأسيس نمط جديد، يهيئ لحياة مستقرة.
3/ لكن ورغم الطابع الجزئي الذي تأخذه الانتفاضة، على صعيد الأهداف، رغم اهتمام الجماهير في مواجهة القرار الجزئي الذي حوّل حياتها إلى جحيم، الذي ألغى طابع الكفاف الذي تتسم به حسانها، وألقى بها في غياهب الموت، أو كاد، رغم ذلك لابُدّ من الإشارة إلى أهميتها، إنها توضح مدى الجرأة التي يمكن لفرد بسيط، مسالم، خانع، أن يحققها في لحظة معينة، وتوضح مدى القوّة التي تكوّنها الجماهير، حينما تتجاوز كونها مجموعة أفراد، إلى كونها كلاً موَّحداً، حينما يسقط الوعي الفردي، لمصلحة وعي جمعي، حينما تذوب الأنا في المجموع (دون أن ننسى أن كل ذلك تحقق بشكل لا واعٍ، ونتيجة الشعور بالعجز عن تجديد الذات).
هنا لا يصبح جبروت السلطة قائماً، لأن موازين القوى الواقعية تختّل، حيث تصبح قوة الجيش والشرطة والمخابرات، هامشية أو محدودة، أمام اندفاع عشرات الآلاف، رغم امتلاكها السلاح، ورغم كون الجماهير عزلاء. ولكن لابدَّ أن نضيف هنا أن الانفجار الجماهير ينعكس على بنية السلطة كلها، سواء على شكل ارتباك، أو تعاطف قطاعات من الجيش والشرطة، ونتيجة انتمائها الطبقي المتداخل مع الانتماءات الطبقية للجماهير.
إنها لنظرة متعالية، تلك التي تتجاهل القوّة التي تكوّنها الجماهير في لحظة ثورتها، لهذا نرى أن في الحركة السياسية اتجاهاَ قوّياً، يسقط من حسابه هذه اللحظة، لحظة تبلور الوعي الجمعي، وانفلات غضبة الجماهير من عقالها، فيرى جبروت السلطة، من خلال «حجم» الحركة السياسية فقط، ولهذا تبدو السلطة أقوى في كل الأحوال، ولهذا تبقى الحركة السياسية عاجزة في كل الأحوال، نتيجة الكم العددي المحدود الذي تمتلكه، وكذلك نتيجة التأثير الفكري الضيِّق. إن مواجهة جبروت السلطة يستلزم قوى أكبر مما تملك، وهذه حقيقة، لكن في الحركة السياسية اتجاه طاغ ينطلق من أن المواجهة لا تكون سوى بضم جماهير واسعة في إطار الحزب، بتوسيع العضوية لتشمل قطاعات واسعة من الجماهير بغض النظر عن المؤهلات التي تسمح لها بذلك.
ولما كانت هذه مسألة مستحيلة، نتيجة أن ظرف الجماهير المشار إليه سابقاً، حيث يؤدي استلاب الفرد، و إنحكامه لحاجته في تجديد ذاته، وبالتالي خوفه من النشاط السياسي، وإن كان يتعاطف مع هذا الاتجاه أو ذاك، يؤدي إلى أن تنتظم قلّة تمتلك حداً من الوعي، وشعوراً بضرورة النضال السياسي، ولهذا يبقى الحزب حزب أقلية في كل الأحوال، وهذا وضعه الطبيعي الذي لا يجوز تناسيه بأي حال من الأحوال. فالحزب يضم العناصر الأكثر وعياً وجرأة وثورية من الجماهير، وهو «هيئة أركان الثورة». ولا يمكنه أن يكون غير ذلك، إلا إذا كان حزباً برجوازياً في إطار نظام ليبرالي، حيث يمكنه من خلال العمل العلني، ووسائل الإعلام واسعة الانتشار أن يقولب قطاعات جماهيرية، وفق رؤيته، لكي تكون سنده الانتخابي. أما في وطن يعيش القهر والتسلط، والاستبداد، فإن للحزب مهمة ثورية، لا تتحقق إلا في إطار عمل سرّي، وهو هذا لا يمكنه أن يكون حزباً جماهيرياً، بل هو حزب أقلية منظمة، لها نفوذها الجماهيري بالقدر الذي ترتبط بطبقة، ارتباطاً حقيقياً، وتعبّر عن مصالحها و مطامحها، وبالتالي تنبذ التهويمات النظرية، والأحاديث العمومية، لتعالج مشكلات محددة.
ولاشك أن انعزال الحركة السياسية، نتيجة رؤيتها الخاطئة، ونتيجة شعورها بانفصام العلاقة بينها وبين الجماهير، نتيجة «حلمها» الوهمي، وشعورها أنها أقلية في مواجهة جبروت السلطة، أسس فيها المنطق الإصلاحي، هذا المنطق الذي يدفع الحركة السياسية إلى التفكير، مادامت صغيرة العدد، قليلة التأثير، وغير قادرة على التحوّل إلى حركة جماهيرية، بالمساومة مع السلطة، والسعي لإيجاد قواسم مشتركة، تتيح لها التواجد، في «الرقعة السياسية» التي تسمح بها السلطة، وأن تلعب دور المراقب، أو الحكم، أو المرشد، حيث تعمل على «عقلنة» الحركة الجماهيرية، أي تعمل على إفراغها من مضمونها الثوري، وهي إضافة إلى كل ذلك، تقف مع فئة في السلطة وتنتقد الأخرى تراهن على فئة، وتعمل على إقناع الجماهير بصحة هذه المراهنات. إن شعورها أنها تمثّل بنية متميزة (واعية، حديثة)، يجعلها ترى تمايزها من الجماهير (المتخلفة، شبه الإقطاعية، السلفية)، ولهذا ترى في السلطة بنية عقلانية، فتميل نحوها، لكن مع «نقدها»، وتلعب دور تطويع الحركة الجماهيرية لسيطرتها.
والحركة السياسية هنا، تبدو خارج إطار الصراع الطبقي الفعلي، بل تصبح جزءاً من تعارضات الطبقة المستغلة ـ الحاكمة، إنها تنفصل عن الجماهير، وتقترب من الطبقة المستغلة ـ الحاكمة، على ضوء تقييمات شكلية، وتصورات انتقائية متعالية، إنها تنتمي شكلاً للطبقات المسحوقة. لكنها تنظر بتعالٍ إليها، وبالتالي فهي لا تعرف من الانتماء لها سوى الكلمات، بينما هي تراها غير جديرة بالعمل، وغير أهل لتغيير ثوري. أما مصالح الطبقات المسحوقة، العمال والفلاحين الفقراء، وجمهرة واسعة من البرجوازية، الصغيرة، فينحدر وضعها كلما تعمق الاستغلال وتوطدت التبعية، فلا حلَّ لها إلا باقتناع الطبقة المستغلة ـ الحاكمة، بحسن نيّتها، و«أخلاقها» العالية، أو أن حلّها مرتبط بالدور «الثوري» الذي تلعبه الحركة السياسية، من خلال نصائحها،و مناشداتها، ومقترحاتها، وانتقاداتها، الموجهة كلها للطبقة المستغلة ـ الحاكمة، من أجل أن تبدي حُسْن نيّتها، وتقدم ما تجود به من أجل تحسين أوضاع الفقراء.
أما الجماهير فإما خانعة، مستسلمة، وتكدّ من أجل توفير وسيلة عيشها، وإعادة إنتاج ذاتها، وهي بذلك بعيدة عن الهمَّ السياسي، وغير معنية بمعارضة السلطة «الطبقة المستغلة ـ الحاكمة)، وإن كمدت غيظها، وهي تُستغل وتُنهب، وبالتالي تبدو كجمع مهمّش، يعيش خارج الواقع، وهذه الحالة الغالبة، والتي تلازمها سنوات، أو تتفجر في انتفاضة صاخبة، تهزّ عروشاً، وتسقط أنظمة، إنها تتراوح بين اللاشيء (أو الشيء) وكل شيء، بين الحياة الهامشية في المجال السياسي، وبين امتلاك زمام الأمور في لحظة صاخبة وهذه النقلة من السكون إلى الحركة، من الجمود إلى النشاط، هي القوّة القادرة على هزيمة جبروت السلطة، و تهميش قواها.
وبالتالي فإن هذه النقلة من السكون إلى الحركة، من الجمود إلى النشاط، تهيئ الظروف لتحقيق تغيير ثوري، لإسقاط الطبقة المستغلة ـ الحاكمة، لتصفية سياساتها، من أجل تأسيس بنية جديدة. لكن ذلك مرتبط، ليس بعفوية الجماهير فقط، لأن الجماهير تعرف كيف تنفجر، لكنها لا تعرف إلى أين توجه انفجارها، وتعرف كيف تغضب، لكنها لا تعرف من أجل ماذا بالضبط، وتعرف كيف تهز عروشاً وتسقط أنظمة، لكنها لا تعرف أي الأنظمة تقيم إن لحظة الانفجار، المبنية على اندفاعة عفوية، يفرضها الشعور بالعجز عن تجديد الذات، والتي تحدث زلزالاً هائلاً، يمكنها أن تنهي رئيساً، وسلطة فئة مستغلة، لكنها لا تحقق سلطة الجماهير الشعبية، سلطة العمال والفلاحين الفقراء، لأن وعي الجماهير، وأشكال تنظيمها لا تسمح بذلك، وبالتالي نعود هنا إلى دور الحركة السياسية المعبِّرة عن العمال والفلاحين الفقراء تحديداً، فما هو الدور الذي يمكن أن تلعبه من أجل تحقيق ذلك؟
لابدّ من أن نشير هنا إلى أن الحاجة إلى حزب ما، تفرضه ظروف واقعية والحزب الذي يعبّر عن العمال والفلاحين الفقراء، هو حاجة بسبب من إشكالية الحركة الجماهيرية التي حاولنها توصيفها سابقاً، وبالتالي فإن مهمته تتقوّم بالضبط في كيف يدخل الوعي العلمي المطابق لملحة هؤلاء، كيف يهزم الوعي الزائف فيهم، من أجل أن يعوا مصالحهم الشمولية، هذا أولاً، وثانياً كيف يمثّل لولب الحركة الجماهيرية، كيف يكون عمودها الفقري، هيئة أركانها، وكيف يطور أشكال تنظيمها، أما الحركة الجماهيرية فإنها قادرة في لحظة على أن تسقط كل البنى الفوقية، إن جبروتها أقوى من جبروت أية سلطة حاكمة, وهذا ما توضحه الانتفاضات التي حدثت في الوطن العربي، لقد أظهرت في لحظات هزال الأنظمة، وضعف الطبقة المستغلة الحاكمة، وعجزها عن الاستمرار في السيطرة.
4/ لقد حدثت الانتفاضات، فأظهرت عمق الأزمة التي تعيشها الجماهير، كما أظهرت القوّة التي تكونها حينما تفلت من «محاذيرها» ومن خوفها، فتخوض معمعان النضال الثوري. لكن كل هذه الانتفاضات لم تنتصر، سواء لأنها لم تؤد إلى سقوط الأنظمة، أو لأنها أسقطت فئة مستغِلة ونصرت فئة مستغِلة أخرى (مثال السودان)(*)، دون أن تحقق التغيير الذي يلغي أسباب شقائها.
هذه النتيجة هي التي من الضروري أن نتوقف عندها، أن نناقشها وأن نحدد أسبابها من أجل أن نستطيع مَدّ الحركة الجماهيرية بالأسس التي تجعلها تنتصر، ولكن لا يتحقق ذلك إلا بتوفر عاملين هما:
أولاً: أن يحسم الثوريون قضية ارتباطهم الطبقي، أن لا يبقوا معلقين في الهواء، وأن يقطعوا المراهنة على فئات مستغِلة، ومستغلة ـ حاكمة. أن يعلنوا ارتباطهم العضوي بالعمال والفلاحين الفقراء.
ثانياً: أن تجري دراسة الحركة الجماهيرية، كما هي في الواقع، لا كما تصورها الكتب، أو تخترعها «عبقريات» «المثقفين». إن الواقع هو الذي يطرح إشكالاته. وهو الذي يحدد مسيرة التاريخ.
طريق الانتفاضة:
إذن الانتفاضة ضرورة، لأن الظروف الواقعية تجعلها كذلك. إن تفاقم حالة الإفقار نتيجة السياسة الطبقية التي تمارس في ظل سيادة نظام التبعية، وبالتالي لا مناص من حدوث الانتفاضة، ولهذا من الضروري فهم تطور النشاط الجماهيري، وتلمّس الآفاق التي يمكن أن يصل إليها.
وإذا كان تعمّق التبعية، وتكريس سيطرة البرجوازية التابعة، يفرضان الانتفاضات، فلابد من ملاحظة أن لا أفقي واضحاً لها، فهي انتفاضات عفوية، تعبّر عن شعور بالرفض في لحظة معينة. وإذا كانت استفادت فئات من الطبقة المستغلة، من هذه النقمة العامة، من أجل إجراء تحويل شكلي يهدم فئة مستغِلة، بالضد من فئة مستغِلة أخرى، فإن الخروج من هذه الدوامة، وإزالة الاضطهاد الذي تعيشه الجماهير، يفرض إدخال عوامل جديدة. إن السمات التي تسم هذه الانتفاضات، كما أوضحنا سابقاً، هي أنها تنفجر في لحظة محددة عفوياً، دون تنظيم ودون هدف جذري، ثم أنها تعتمد وعي الجماهير، الذي يتأثر بالأيديولوجيا السائدة في الماضي، و الأيديولوجيا السائدة في الحاضر، مما يجعلنا نقول إنها تمتلك وعياً زائفاً لا يعبّر عن مطامحها الحقيقية. وبالتالي لا يسمح لها تأسيس دور عملي جذري، يفضي إلى تحقيق أهدافها.
وهنا تكون العوامل الجديدة، هامة لغاية، لأن من المفترض أن تسهم في تأسيس حالة الانتقال النوعي، من الوعي الزائف إلى الوعي المطابق، ومن العفوية إلى التنظيم. ونحن نتكلم هنا على الحزب السياسي القادر على تحقيق هذه النقلة النوعية ـ الحزب القادر على تنظيم الطبقة العاملة، والفلاحين الفقراء، وعلى تشكيل أوسع جبهة طبقية، من أجل تعميق الحركة الجماهيرية، وتحويل الانتفاضات إلى انفجار ينهي الاستغلال، ويعيد بناء المجتمع من جديد، كيف، هذا ما يحتاج إلى إجابة.






























1
التبعية وأزمة المجتمع العربي

إذا كانت السياسة هي التعبير المكثف عن الاقتصاد، فإن فهم الأزمات السياسية التي يعيشها الوطن العربي، تفرض البحث في الاقتصاد، لأن كل المظاهر السياسية هي انعكاس لبنية الاقتصاد. وبالتالي فإن فهم الأزمات السياسة يفرض السعي من أجل فهم الأزمة الاقتصادية التي يعيشها المجتمع العربي.
وإذا كانت البنية الاقتصادية الاجتماعية العربية تتسم بالتخلف والتبعية معاً، فإن المطمح الذي يحدونا هو تحقيق التقدم، الذي يعني «دخول الحضارة الحديثة» التي هي في الجوهر، تأسيس المجتمع الصناعي، هذا الحلم الذي بدأ منذ الاحتكاك بأوروبا الرأسمالية، في نهاية القرن الماضي، والذي كان حلم فئة قليلة، طمحت في أن تؤسس مجتمعاً برجوازياً. لكنه استمر، برغم العثرات والعجز، ليغدو اليوم حلم مجتمع بأسره. لكن الفارق بين الحلم والواقع كبير، إلى الحد الذي جعله أقرب إلى الخيال. وفي هذا الإطار تنمو كل الفذلكات النظرية، ويتقيأ التاريخ كل حثالاته، في صورة مشاريع هرمة. ويتوه الفكر العربي في تصورات، و تنظيرات مذهلة الخفة.
والمشكلة مركبة، لأنها تتعلق بالتخلف البنيوي، القائم في أساس بنية المجتمع العربي، بل وبالتبعية التي يفرضها التخلف من جهة، وجبروت الاستعمار ثم الإمبريالية، هذا الجبروت الذي فرض نفسه على كل المجتمعات المتخلفة، فأصبح عامل تأثير أساسي، رغم كونه عاملاً خارجياً. لكن التخلف الاقتصادي الاجتماعي، ونشوء فئات محلية ذات عوى «غربي»، تطمح لأن تصبح جزءاً من النظام الإمبريالي العالمي، حتى ولو كان جزءاً تابعاً هزيلاً، وأيضاً العجز عن تحديد الاختيارات الصحيحة في التقدم/ التطور، جعل التأثير الخارجي مهماً إلى هذا الحد. لهذا فالمشكلة هي مشكلة البنية الاقتصادية الاجتماعية الراهنة، ومشكلة الاختيارات التي تسمح بتجاوزها.
فما هي إذن مشكلة التبعية؟ وكيف تكرس التخلف؟ كيف تضع الاقتصاد العربي في أزمة متفاقمة، وبالتالي تنعكس في البنية السياسية كلها؟ إن مظهر التبعية الاقتصادية هو سياسة النهب التي يتبعها الرأسمال المالي الإمبريالي، من خلال الشركات الاحتكارية، في تعامله مع الوطن العربي والتي تؤدي إلى تفاقم حالة الإفقار الجماهيري لكنها تؤدي إلى امتصاص جزء مهم من الدخل القومي، عبر قنوات مختلفة، وهو ما تريده الإمبريالية، لكي تحافظ على مستوى معيشي مرتفع لقلة من الرأسماليين، وعلى مستوى معين من التماسك داخل المجتمع الرأسمالي، في البلد ـ المركز. لكن ولضمان ذلك تكون الإمبريالية معنية، بإعادة تكوين البنية الاقتصادية الاجتماعية كلها، والسعي من أجل أن تظل وثيقة الارتباط بها.
وهنا يطرح التساؤل الآخر. ما هو خيار التطور، الذي يلغي كل ذلك ويؤسس بنية اقتصادية اجتماعية، متمحورة على ذاتها، بمعنى أنها تجعل التراكم الرأسمالي في خدمة المجتمع ذاته، لكي يسهم في تحقيق تطوير في المستوى المعاشي للجماهير العربية؟
1ـ نهب الاقتصاد وتفاقم التبعية العربية:
إذا كان الدور السياسي (والعسكري) للدول الاستعمارية هو الطاغي، في الوطن العربي، قبل الخمسينات، فقد أصبح الدور الاقتصادي هو الطاغي الآن.
لقد احتل الاستعمار الوطن العربي لسنوات طويلة، ثم سحب بعض قواته العسكرية دون أن ينهي هيمنته السياسية، لكن النضال الوطني العربي استطاع أن يغير من هذه المعادلة، خصوصاً حينما سيطرت قوى وطنية على السلطة في العديد من الدول العربية. لكن الملاحظة الظاهرة اليوم، هي تلك العلاقة الاقتصادية التي غدت تربط بين الوطن العربي بالدول الإمبريالية، وكأن قضية الاستقلال غدت مثار النقاش. ليس لأن الوطن العربي قد احتل وإن كانت قد عادت لتتواجد قوة عسكرية على أرضه، ولكن لأن آليات حركة الاقتصاد، وسياق نموه، تشيران إلى عمق ارتباطه بالشركات الاحتكارية المتعددة الجنسية، التي أصبحت تتحكم بمسار حركته. وهنا نواجه بمجالين هامين الأول: مسألة البنية الاقتصادية ذاتها، فلقد أخذت حركة الاقتصاد تتجه نحو قطاعات معينة، لا تسهم في تحقيق التقدم والنهوض الاقتصاديين، بل كل ماتوضح أنها تخدم الشركات الاحتكارية المتعددة الجنسية.لهذا تقلص الاهتمام (وربما يكون التعبير الأدق، هو انعدام الاهتمام) بالزراعة مثلاً، إلى الحد الذي أطلق الحديث عن تحقيق« الأمن الغذائي» لأن الوطن العربي أصبح يستورد كل المنتجات الزراعية من الخارج. وكذلك حصل مع الصناعة، التي افتقدها الوطن العربي منذ البدء، وظلت كل محاولات التصنيع، سوى ما يخدم الشركات الاحتكارية المتعددة الجنسية، وهنا نعود إلى دوامة ذاتها.
والمجال الثاني هو بالتالي تحصيل للمجال الأول، ويتمثل في اتساع نطاق التجارة، في بعدها الاتحادي، أي تجارة الاستيراد. ولاشك أن هذه تصب مباشرة في خدمة الشركات الاحتكارية المتعددة الجنسية، لأنها تعني استيراد السلع التي تنتجها هذه الشركات. لهذا نرى مثلاً أن الميزان التجاري للولايات المتحدة، يعاني من العجز، إلا في العلاقة مع الدول العربية، حيث يشهد إنعاشاً دائماً، ويحقق أرباحاً تصل إلى خمسة مليارات دولار (حسب أرقام عام 1986).ولاشك في أن غياب الاهتمام بما أطلق علية «التنمية الاقتصادية» أي تنمية وتطوير البنية الاقتصادية العربية (وأساسها الزراعة والصناعة)،وبالتالي العجز عن التصنيع، والإنتاج الزراعي، يفرض الحاجة إلى الاستيراد. ولكن الاستيراد يحتاج إلى الاستيراد. ولكن الاستيراد يحتاج إلى رأسمال، الذي إذا توافر مؤقتاً ولدى بعض الدول، فلن يتوفر دائماً، الأمر الذي يعني تفاقم مشكلة الاستدانة. هذه المشكلة التي لها قصة أخرى، سوف نشير إليها لاحقاً.
لكن، لماذا لا يجري تطوير البنية الاقتصادية؟
هنا نصطدم بمشكلتين، تهمنا الآن، المشكلة الأولى فيهما، وهي مشكلة السيطرة الاقتصادية الإمبريالية. لهذا قلنا منذ البدء إن الدور الاقتصادي الإمبريالية. رغم أن الاقتصاد هو السبب في السيطرة العسكرية، أو السياسية. إن ما تهدف إليه الشركات الاحتكارية المتعددة الجنسية وبالتالي الدول الإمبريالية، هو نهب الوطن، على شكل نهب للمواد الأولية فيه، التي هي حاجة مهمة، في عملية إنتاج السلع، سواء المسوقة في الدول الإمبريالية أو المباعة في كل بلدان العالم الأخرى. ويجري النهب هنا من خلال «سطوة القوة»، من جهة، و«حالة التخلف»التي يشهدها الوطن العربي من جهة أخرى مما يجعلها تنهب، وفق أسعار زهيدة في الغالب.كما يتم النهب على شكل نهب لرأس المال المحلي، أي نهب ما يطلق عليه الدخل القومي، من خلال قنوات مختلفة، عديدة، متشعبة، منها استثمار رأس المال، ومنها التجارة، وبيع الأسلحة، و... الخ.
إن «سطوة القوة» و «حالة التخلف» تسمحان بأن يصبح الشركات الاحتكارية، وكل أدواتها في بنية الاقتصاد، كبيراً إلى الحد الذي يجعلها تتحكم بآلية حركة الاقتصاد، (مثل وقف تطوير الصناعة، إهمال الزراعة، تنمية قطاع الخدمات، والتجارة) ويسمح لها بتحويل البنية الاقتصادية المحلية، إلى تابع للبنية الرأسمالية العامة، مما يربط الاقتصاد المحلي بكل تقلبات السوق العالمي. وتحديداً فيما يتعلق بكل الظواهر السلبية فيه، مثل التضخم، ارتفاع أسعار السلع، انخفاض سعر العملة المحلية... الخ
هنا تتبلور التبعية.
والتبعية تعني ارتهان الاقتصاد المحلي، للشركات الاحتكارية والدول الإمبريالية، والذي يغدو دائمة بحاجة للتكيف وفق حاجة تلك الشركات، وهاتيك الدول، مما يفقده صفته الوطنية، ويبعده عن أن يكون اقتصاداً يلبي رغبات الطبقات المحلية، (سوى فئة معينة)، خصوصاً الجماهير الشعبية.
إن الشركات الاحتكارية تسعى من اجل توثيق تبعية الوطن العربي، لكنها تحقق مصالحها، بأقصى ما يكون من القدرة، الأمر الذي يسمح بالقول إن الوطن ينهب.
2ـ مشكلة ديون خارجية، أم مشكلة اقتصاد؟
ومن يتابع الأحداث الاقتصادية، يلاحظ مدى الاهتمام الذي أصاب مسألة الديون الخارجية للدول المختلفة. وإذا كان الاهتمام في الماضي قد نتج عن حاجة الدول للقروض والمساعدات فإن الاهتمام اليوم ينطلق من الحاجة إلى القروض، ومن العجز عن تسديدها معاً. وبذلك فقد غدت المشكلة مشكلتين. لهذا وجدنا بعض دول أميركا اللاتينية تلجأ إلى أسلوب وقف تسديد فوائد الديون، وتدعو لتشكيل منظمة تضم الدول المدنية. كما وجدنا فيديل كاسترو يطلب منذ مدة، ليس بوقت تسديد الفوائد، بل إلغاء الديون.
ولما كانت مشكلة الديون، قد طالت عدداً من الدول العربية، وأصبحت عبئاً حقيقياً، فقد لجأ بعضها إلى السعي من أجل إعادة جدولة تسديد أقساطها ومطالبه بعض الدول الرأسمالية بتقديم قروض لتسديد أقساطها، وبذلك فقد أخذت هذه المشكلة تكبر، وبدأت خطورتها تظهر للعيان، دون أن تجد الحل الذي يحد من تلك الخطورة، أو على الأقل يحد من الحاجة الدائمة للقروض. وإذا ما استمرت الأوضاع على ما هي عليه (وهي على الأرجح مستمرة) فإننا سوف نصل إلى زمن نبيع فيه الوطن بالمزاد، وربما لن يفي بحاجة الدائنين، فنباع نحن عبيداً في عصر التكنولوجيا.
والذي يجعل القضية جادة إلى هذا الحد أن المشكلة تتفاقم، لذلك نقرأ كل عام حصيلة الديون المتراكمة على كل بلد، وتراكم الفوائد المستحقة الدفع، تلك الفوائد التي تزداد نسبتها إلى الدخل المحلي لكل بلد، ازدياداً مضطرداً. فكما قلنا لقد غدت المشكلة مشكلتين:
الأولى: عبء الديون التي تعجز موازنة الدولة، في كل هذه البلدان، عن سداها، لتصبح مجالاً لطلب المزيد من الديون من أجل الإيفاء بالفوائد، وهذه عملية متتالية، يمكنها وحدها أن توجد تراكماً هائلاً للديون، كيف لا والحاجة للاقتراض من صلب بنية الاقتصاد السائد؟ وهذا يعني أن هناك تسارعاً كبيراً في زيادة الديون، لهذا نجد مثلاً أن ديون مصر كانت سنة 1986 تقريباً نحو 40 مليار دولار، وصلت عام 1988 إلى 50 مليار دولار. وهذا يعني أنها قد تصل هذا العام أو العام القادم إلى 70 مليار دولار.
ثم إن الديون وفوائدها قد فرصت تدخل قوى خارجية (الولايات المتحدة، من خلال البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي) في السياسات الاقتصادية المحلية، وفرضها خطوات معينة، تخدم سيطرة الرأسمال الإمبريالي، وتدعم اتساع استيراد السلعة الرأسمالية. وهذا يعني المزيد من التبعية الإمبريالية، وبالتالي تلبية احتياجاتها، فتمعن في نهب الدخل المحلي، ليس من خلال نشاط شركاتها المتعددة الجنسية، فقط، ولا من خلال إغراق أسواقنا بسلعها فحسب، بل ومن خلال فوائد الديون، التي غدت مصدراً جديداً لمراكمة رأس المال لديها.
والمشكلة الثانية: هي مشكلة لحاجة إلى الديون، أي إننا نلمس هنا المشكلة الجوهرية فلماذا نحتاج إلى الاستدانة؟ هذا يرتبط بطبيعة السياسات الاقتصادية المتبعة، التي تهدر الدخل المحلي، دون أن تسعى لإتباع السياسات التي تعيد مراكمته، ومن ثم تزيد من هذه المراكمة. والسبب أن الاقتصاد يختصر إلى تجارة، أي إلى استيراد السلع، وبيعها في السوق المحلي، ومن ثم تصدير الربح إلى البنوك الخارجية. أي إنه ليست هناك دورة رأسمال محلية، بل إن هذه الدورة تمر بالمركز الرأسمالي. أما الصناعة التي هي من أهم مقومات التقدم، والتسريع في مراكمة الدخل القومي، فإن الاهتمام بها مازال هامشياً، وشكلياً في أغلب الأحوال. وأما الزراعة وهي المصدر الوحيد لإطعام شعب ينمو بوتائر سريعة فقد تدمرت، وغدونا نستورد المنتجات الزراعية.
والمشكلة أن المطلوب حل القضية الجوهرية، التي تؤدي إلى الحاجة إلى الاستدانة، أي مشكلة البنية الاقتصادية، الملحقة، التابعة للإمبريالية، والتي لا تنتج سوى الفقر، والمزيد من الفقر. أما قضية الديون فاعتقد أن حلها واضح، وهو إلغاء الديون، ولعلنا في ذلك نعوض عن جزء يسير مما نهب.
3ـ مشكلة التقدم، مشكلة تطوير الاقتصاد:
إذن باتت مشكلة الاقتصاد، مشكلة ملة، تفرض نفسها كل لحظة، وتستدعي أن تناقش في العلن، وتطرق في التصريحات المختلفة من قبل المعنيين بالاقتصاد، وغير المعنيين به. ولعل التفاقم السريع للمشكلة، بعد انخفاض أسعار النفط، هو الذي أعلى من أهميتها وأولاها هذا الحد من الاهتمام.
لكن المشكلة مطروحة منذ زمن. إنها مشكلة تقدم البلدان المتخلفة، وتطورها. وإذا كان هناك من اهتم بالتطور الشكلي أكثر مما اهتم بتحديد الطريق الذي يسمح بتجاوز فعلي لها، فقد كانت المشكلة تختصر، وأعتقد أنها أصبحت أعقد من أن تحلّها اختيارات شكلية، أو خطوات جزئية. لهذا غدت المشكلة همّاً حقيقاً، لكنها غدت تحتاج إلى الحلول الصحيحة، إلى الاختيارات الممكنة والضرورية، التي تسمح بتجاوزها.
إن بداية المشكلة كانت حينما تقدمت أوروبا الرأسمالية، خلال القرون الخمسة الماضية وتقهقر وضعنا نحن، تخلّفنا، انهارت كل البنية التي أسست الحضارة العربية، وعبّرت عن قمة التطور الحضاري العالمي في ذلك الوقت. ولقد أدَّت هذه العملية إلى أن تستطيع البنية المتقدمة هزيمة البنية المتخلفة، وإلحاقها بها. وبالتالي التحكم في سياق حركتها. ولما كانت الرأسمالية تحتاج إلى المواد الأولية(الزراعية، ثم الطبيعية) وإلى الأسواق من أجل تصريف بضاعتها، حتى الرأسمالي منه، لهذا نمت في الوطن العربي، قطاعات اقتصادية معينة، وهي القطاعات المسماة ـ أو المتعارف على أنها ـ هامشية، في الوقت الذي فشلت كل المحاولات التي اتجهت من أجل تطوير الصناعة، أو تحديث الزراعة. لقد نشطت التجارة، في هذا الوضع، فكانت تجارة تعتمد الاستيراد أساساً لها. ولما كان نمو الدخل القومي محدوداً بسبب غياب القطاعات المنتجة التي تؤسس لدخل قومي حقيقي، فقد أصبحت العلمية الاقتصادية، تعني استيراد السلع، وتصدير رأس المال، وبالتالي تعني انتشار النمط الاستهلاكي، المعتمد على هدر المستورد وتحويل القسم الأكبر من الدخل القومي للخارج ـ للشركات صانعة السلع ـ وهو ما يعني في التحليل الأخير، تدمير المجتمع ونهب ثرواته.
لهذا عاشت الدول أزمات حقيقة، لأن مداخيلها لا تشكل أساساً لميزانية ممكنة، خصوصاً مع ازدياد دور الدولة، وتوسع نشاطاتها، مما كان يعني حاجة الدولة إلى الاستدانة لتغطية العجز. كما أن بنية المجتمع غير المنتجة، تفرض إفقار الناس، لأنها تبقي المداخيل محدودة، بينما ترتفع أسعار السلع، بسبب ارتباط سعرها بالبلد المنتج. لهذا، ونتيجة لذلك، تنتشر مظاهر التضخم وارتفاع الأسعار، وعجز الميزان التجاري، وعجز الميزانية.
وفي هذا الوضع تصبح مشكلة التقدم، مشكلة حادة أيضاً. فكيف يمكن مواجهة عجز الميزان التجاري، وميزانية الدولة، والتقليل من التضخم، والسيطرة على ارتفاع الأسعار؟
والحل النظري ـ المنطقي، هو تأسيس بنية محلية منتجة، أي تطوير الصناعة، والزراعة، تصنيع السلعة، وإنتاج ما يحتاجه الوطن من السلع الغذائية. لأن ذلك يحقق أكثر من قضية مهمة.
فأولاً: توجد مراكمة لرأس المال، وبالتالي تسارع نمو الدخل القومي. لأن هذه العملية، عملية إنتاجية، توظف العمال، ورأس المال من أجل مراكمة الرأسمال.
وثانياً يقلل من الحاجة إلى الاستيراد، وبالتالي يحد من عجز الميزان التجاري. هذا إضافة إلى أنه يسمح بزيادة التصدير.
وثالثاً: يسمح بزيادة دخل الدولة، لأن زيادة الإنتاج ترتبط بزيادة الضرائب والرسوم المستحقة لها.
ورابعاً: يحد من تأثير ظواهر التضخم وارتفاع الأسعار العالمية. وفي كل الأحوال يسمح بعلاج أكثر من مشكلة ظاهرة. وهذه صيغة معروفة للتطور، ولتجاوز المشكلات من النوع التي يشهدها بلد متخلف. لكن هذا الوضوح في الصيغة يطرح سؤالاً يبدو ساذجاً إلى أبعد الحدود، فما دام الأمر بهذه السهولة، فلماذا لا يُطبق؟
لاشك أن هذا الحل، شكل مجرد للتطور، أي شكل تقني، أخذت به الرأسمالية وأخذت به الاشتراكية. إنها الصيغة المجرّدة للتطور، لكن قضية التطور، قضية ليست ممكنة التجريد، لأنه ترتبط بمصلحة الذين يعملون على تحقيقها، ولأنَّها تخضع للظروف العامة، وتحديداً للسيطرة العالمية للرأسمالية التي تحاول رسم العالم على صورتها ومثالها (لكن بالمعنى المشوَّه) حيث تسعى من أجل تكييف كل القدرات العالمية، من أجل تحقيق رفاه فئة قليلة، وضمان تحقيقها تطوراً مضطرداً في مستوى المعيشة. مما يجعل المنافسة الحرة المبدأ الذي يقوم عليه الاقتصاد الحر، (أي الاقتصاد البرجوازي) تطيح بكل المحاولات الجديدة من أجل التطور الصناعي، أو الزراعي، سواء بسبب المنافسة الحرة بين شركة تنتج فيضاً هائلاً من السلع، وأخرى تنتج كمية محدودة، بسبب أنها شركة مبتدئة، أو لأن الشركة التي تنتج كمية محدودة، بسبب أنها شركة مبتدئة، أن لأنّ الشركة التي تنتج هذا الفيض قادرة على تخفيض سعر السلعة، بما لا تستطيع الشركة الحديثة فعله، أو بسبب أنَّ «سر» الصناعة الحديثة، تمتلكه الشركات الرأسمالية العالمية، التي لا تسمح له أن يتسرب إلى البلدان المتخلفة، أو بسبب الضغط الذي تستخدمه الشركات الإمبريالية، من خلال دولها (وبالتالي جيوشها) ضد كل قوة تفكر بالتطور. ولكن أيضاً بسبب التخلف، وقلة المهارة، التي تقلّل من القدرة، ومن مسألة إتقان السلعة. ويمكن أن نضيف أن السيطرة العالمية للرأسمالية، وفي إطار قدرتها على التحكم بالتطور في البلدان المتخلفة، وبسبب فيض الإنتاج لديها، سمحت أن تكون مراكمة رأس المال، حين تشغيلها في التجارة، أكثر منها، حين تشغيلها في الصناعة أو الزراعة، مما يدفع أصحاب رؤوس الأموال للاتجاه إلى القطاع الذي يحقق أرباحاً أكثر، ويوفر استقراراً مؤكداً.
لهذا ساد القطاع التجاري على القطاعات المنتجة، و تدمّرت كل محاولات التطور الصناعي ـ الزراعي. وهذا يوضح أنَّ إمكانيات التطور في ظل المنافسة الحرة في إطار السوق الرأسمالي، لا تنتج سوى بنية استهلاكية ـ تجارية، وفئات طفيلية كمبرادورية. مما يفرض القول إن التطور يحتاج إلى إلغاء مبدأ المنافسة الحرة، أي إلى منع منافسة السلع الرأسمالية للسلع المحلية، ولقد تحقق ذلك من خلال دور الدولة الاقتصادي، لأنه وضع صوراً، وأوجد إمكانيات تطور داخلي بعيداً عن مؤثرات السيطرة الإمبريالية.
إن سيطرة الشركات الاحتكارية المتعددة الجنسية، لا تسمح بتحقيق أي تطور، لأنها تريد عالماً متخلفاً، تابعاً، تحقق هي الأرباح من خلال استغلاله وفق ما يخدم المراكز الرأسمالية، وبالتالي فالتطور يفترض القطع مع السوق الرأسمالية العالمية، يفترض إلغاء التبعية، لكي يكون ممكناً تطوير صناعة قومية وزراعة تفي باحتياجات الوطن العربي على الأقل.
وقطع العلاقة مع السوق الرأسمالية، يفترض أن تلعب طبقات معينة الدور القيادي، لأنه يفترض أن تكون لها مصلحة في إنهاء العلاقة. وهذه الطبقات ليست الطبقات المعنية بالملكية الخاصة، والرأسمال الخاص، لأنها تسعى من أجل تحقيق التراكم الرأسمالي، بالتالي تحتاج إلى «السوق الحرة» الأمر الذي يفرض ربط العلاقة بالسوق الرأسمالي وليس قطعها.
وبالتالي فإن خيار التطور، لا يفرض فقط بناء المجتمع الصناعي، ولكن أيضاً، إلغاء الاضطهاد الطبقي. وهذه خاصية التطور منذ غدت الرأسمالية نظاماً عالمياً، ومنذ أن تطورت الرأسمالية إلى إمبريالية.





2






















النصوص الواردة لاحقاً، تمثِّل مواقف تركز على حتمية حدوث الانتفاضات في الوطن العربي، وتكشف أسبابها، كما تشير إلى نواقصها، وبالتالي تدعو إلى دور ثوري جديد. وكتبت أعوام 84 ـ 85 86، في فترات حدوث تلك الانتفاضات (تونس يناير 1984، المغرب يناير 1984، السودان نيسان 1985، مصر 1986).
1 ـ دور الجماهير

لاشك أن الحدث السياسي يصنع في منطقة المشرق العربي، وتحديداً في فلسطين والمنطقة المحيطة بها، ولذلك فهي تستحوذ على الاهتمام الإعلامي عموماً. ولاشك أيضاً أن قضايا المشرق العربي هامة، وحساسة، وأساسية بالنسبة للجماهير العربية.
لكنها ليست الأحداث الوحيدة على أي حال.
فالوطن كله يعيش أحداثاً جساماً، ويضمر على مخاضات هامة، تنفجر هنا، أو تبرز هناك.
وإذا كان الحدث الفلسطيني ظل بارزاً طيلة السنوات الماضية، فإن حدثين كاللذين جريا في تونس والمغرب مؤخراً، يبرزان مكنونات الجماهير العربية كلها، ويعطيان مؤشراً على قضايا هامة أخرى تجري في هذا الوطن العربي الكبير. فلقد اندفعت الجماهير فجأة، تعبر عن غضب تاريخي طويل، في الشوارع. وهذان الحدثان لم يكونا الأولين، بل جاءا ضمن سلسلة متتالية، بدأت في 18 و19 كانون الثاني 1977 في مصر، ثم في 26 يناير في 1978 تونس، ثم في 21 يونيو 1981 في المغرب، ثم في 1983 في السودان.. ثم في 29/12/ 83 ـ 7/1/1984 في تونس ثم بعدها بحوالي أسبوع في المغرب.
وإذا كان الصراع ضد الكيان الصهيوني كقوة احتلال خارجية، يأخذ طابعاً سياسياً في المشرق العربي، بهدف تحرير الأرض، فإن الصراع في الجانب الآخر يأخذ طابعاً اقتصادياً مطلبياً، ولاشك أن هناك ترابطاً وثيقاً بين الصراعين، لأن قوة الاحتلال الصهيوني هي جزء من قوة الإمبريالية العالمية، التي تربط مختلف الدول المتأخرة لكن النضال السياسي يتراجع بسبب ضعف الحركة الوطنية أساساً، في ظل هجوم شامل للإمبريالية الأميركية والكيان الصهيوني والقوى الرجعية، بينما وفي ظل الظروف نفسها يتسع دور الجماهير العربية، ويزداد دورها في النضال.
وهذا ما يجعل لفت النظر للتحرّكات الجماهيرية ضرورياً.
فبينما تزيد الإمبريالية من سيطرتها وتوسع في دور الكيان الصهيوني، لتحول الوطن كله إلى «مستعمرة» لها وفق أشكال ومضامين جديدة. نجدها توجد ظروفاً جديدة للنضال الجماهيري. لأنها كلما زادت من سيطرتها، وزادت من تحكم أدواتها، كلما زادت في نهب الوطن اقتصادياً، وبالتالي زادت من فقر الجماهير الشعبية، لأنها تخضعها للقانون الرأسمالي الأساسي، القائم على الحصول على أقصى ربح، وهي تقوم بذلك من خلال شكلين هما:
1ـ استغلال الشركات الاحتكارية، والبنوك الدولية لقوة العمل المحلية.
2ـ صادرات السلع الهائلة التي يستوعبها الوطن.
يتم كل ذلك ضمن سياسة اقتصادية تفرضها الإمبريالية، وتقوم على أساس تخريب القوى المنتجة في مجالات الزراعة والصناعة تحديداً، ليبقى السوق مستورداً لك السلع تقريباً، مما يؤدي على عجز في موازنات «الدول» ويدفعها إلى طلب المساعدات والاقتراض من جهة، وإلى زيادة الضرائب على الجماهير الفقيرة من جهة أخرى، لأن الناتج القومي يبقى محدوداً ضمن السياسة الاقتصادية هذه، ولأن الضرائب لا تفرض على الفئات المستغلة والناهبة.
وكل ذلك يدفع فئات متزايدة من الجماهير إلى أن تعيش حد الفقر المتعارف عليه، ومثال مصر واضح في هذا المجال حيث إن التقديرات تشير إلى أن نسبة 37% من السكان تعيش تحت مستوى الفقر. يترافق كل ذلك مع ارتباط السوق المحلي بالسوق العالمي، وبالتالي استجلاب ظواهر الأزمة الرأسمالية مع سلعها، ومنها الارتفاع المستمر في أسعار السلع، والتضخم.
وتأتي سياسات الحكومات، والهادفة أساساً إلى محاولة تقليص العجز في الموازنات العامة، سواء عن طريق زيادة الضرائب، أو عن طريق رفع الدعم عن السلع الأساسية أو عن بعضها «كالخبز والأرز والسكر والشاي...» لتفجر أزمة شاملة، تدفع الجماهير إلى أن تعبر عن سخطها ونقمتها بمظاهرات عارمة.
وما حدث في تونس والمغرب أخيراً هو انتفاضة جماهيرية شاملة، فجرتها قرارات الحكومة برفع سعر الخبز وبعض المواد الأخرى. وهو السبب نفسه الذي أدى إلى كل الانتفاضات الأخرى في مصر والسودان وتونس والمغرب في السابق. ويبدو أن تزايد السيطرة الإمبريالية سوف يزيدها عنفاً واتساعاً. لأن الجماهير المهزومة سياسياً تزداد فقراً، وتضيق سبل العيش أمامها، مع تراجع فرص العمل، وتزايد قسوته.
وإذا كانت وطأة الحدث السياسي في المشرق العربي، سوف تبقى كبيرة، وتحظى باهتمام واسع، فإن صيحات الجماهير يجب أن تحظى باهتمام تستحقه، فهي أساس الحدث السياسي.







2ـ درس انتفاضة تونس...

شهدت تونس مع لأسام الأخيرة من العام الماضي، وبداية هذا العام انتفاضة شاملة، عمت كل البلاد. وهي انتفاضة في سلسلة انتفاضات بدأت أواسط السبعينات، (مصر 1977، تونس 1978، المغرب 1981، السودان 1983)، ويبدو أنها سوف تستمر، وأسبابها اقتصادية أساساً، وهي بحق ثورات الخبز، حيث تزايدت الفئات الاجتماعية التي تعيش تحت مستوى الفقر في وطننا العربي الكبير.
إن الإمبريالية تنهب وطننا مباشرة أو عبر الشركات المتعددة الجنسيات، كما تنبهه الفئات الكمبرادورية المرتبطة بالإمبريالية، وتلجأ الفئات الحاكمة، إضافة إلى ما تنبهه لحسابها، إلى تمويل أجهزتها ودوائرها الفاسدة و الباذخة من قوت الشعب، فترفع أسعار الموارد الأساسية، وتزيد الضرائب والرسوم المباشرة وغير المباشرة، كما يقوم البنك الدولي، بمطالبة هذه الدول برفع الدعم عن كل المواد الضرورية، وزيادة أسعارها، ليخلق الأجواء المناسبة «لتوظيف» أمواله ومساعداته، ولفتح المجال أمام شركات النهب العالمية المتعددة الجنسيات.
إن الجماهير الشعبية تسير نحو الفقر المدقع، لكي يثري الأثرياء، وتزيد الفئات الاحتكارية العالمية ملياراتها، ولكي تستخدمها في صناعة أجهزة الدمار والقمع...
وتونس أحد المواقع التي تمتصها الشركات المتعددة الجنسيات، وتثري الفئات الكمبرادورية فيها، على حساب الجماهير الشعبية الكادحة.
لقد اتسمت الانتفاضة بعفويتها، وهي السمة العامة لكل الانتفاضات في الوطن العربي، وهذا يدلل على مدى انسحاق الجماهير، وعلى اندفاعها للدفاع عن وجودها. وإذا كان الطابع الاقتصادي المطلبي هو الغالب عليها، فلأن الجماهير الشعبية تفتقد قيادتها، أداتها في النضال السياسي، القوة السياسية التي تبث الوعي السياسي فيها، وتدفعها لخوض معمعان النضال الثوري، عبر فهم مشاكلها الاقتصادية.
إن الوطن العربي بحاجة للقوى السياسية القادرة على الدفاع عن الجماهير الشعبية، وقيادة هذه الجماهير لخوض معمعان النضال السياسي القادر على إسقاط الأنظمة الرجعية، ومواجهة الإمبريالية، أداة الشركات المتعددة الجنسيات، والسعي لإقامة نظام ديمقراطي شعبي موحد. وهذه قضية مطروحة على المناضلين الثوريين...
إن انتفاضة تونس تؤكد ما أكدته الانتفاضات السابقة في مصر وتونس والمغرب والسودان، إن الجماهير مهيأة للثورة. إنها تقاتل تهز الأنظمة، وإنها تخوض معمعان النضال.
ومثلت الانتفاضة الجديدة خطوة متقدمة بشمولها وعنفها، رغم غياب القوى المنظمة أو شبه المنظمة.
الجماهير مهيأة للثورة..
والجماهير تخوض معمعان النضال..
هذا هو درس انتفاضة تونس.

3ـ بعد تونس...
جاء دور المغرب...
انتفضت الجماهير الشعبية، ولم تمض أيام معدودة على انتفاضة تونس، والوطن كله يعيش حالة مخاض عسيرة، وإذا كانت الانتفاضة بدأت في تونس بداية هذا العام، وانتقلت للمغرب، فإن مسبباتها قائمة في أكثر من بلد عربي، فإضافة لتونس والمغرب، هناك مصر والسودان، والأردن.
والسبب واضح جليّ، فكلما ازدادت السيطرة الإمبريالية، ازداد النهب، وكأن الإمبريالية تقوم اليوم بالدور الذي كانت تقوم به البرجوازية الأوروبية أواسط القرن الماضي: زيادة فقر الفقراء. أليس قانونها واحداً، زيادة تراكم رأس المال، أي زيادة الربح؟
وانتفاضة المغرب اليوم، أخذت سمات انتفاضة تونس التي حدثت بالأمس القريب. حيث شملت المدن الأساسية، ومناطق واسعة من الريف، وقامت بها الجماهير الشعبية، دون أن تلعب القوى السياسية دوراً مباشراً، حتى الكونفدرالية الديمقراطية للشغل التي قادت انتفاضة 21 حزيران 1981، لم تلعب دوراً مباشراً. كما أنها نتجت عن زيادة أسعار السلع الأساسية. وانتهت بنفس الطريقة: تراجع النظام عن خطواته.
و لربما تحصل انتفاضات في مصر أو السودان لتأخذ نفس السمات. فالأزمة تشكل كل الوطن، وتؤشر إلى أن الإمبريالية، وعلى رأسها الإمبريالية الأمريكية، غدت ليس قوة احتلال خارجي فقط، بل وقوة استغلال داخلي، توظف قدراتها السياسية والمعنوية، وقواها العسكرية، كما توظّف أدواتها في الوطن العربي (الكيان الصهيوني والأنظمة الرجعية العربية) لكي تنهب خيرات الوطن، وتزيد من فقر الجماهير، لتزيد من تراكم رأسمالها. لذلك فالفقراء يزدادون فقراً، والقلة المرتبطة بالإمبريالية تزداد غنى، والوطن يقاد نحو التفتت والخراب.
والمغرب جزء من هذا الوطن، ولذلك فالجماهير الشعبية فيه تسير نحو الفقر المدقع، والقلة تثري. ومن يراقب الوضع يرى ظواهر عديدة تدلّ على ذلك، منها انتشار ظاهرة السكن في المقابر، البغاء، والهروب عن العائلة بسبب العجز عن إعالتها، العجز عن تسديد أسعار الكراء و...الخ. ورغم ذلك يلجأ النظام إلى إفقار الفقراء، فيخفض العملة، وتخفيض فرص العمل، وتقليص الدعم الحكومي للسلع الأساسية، وزيادة الرسوم على المنتوجات والخدمات، وإحداث رسم على السفر، وعلى امتحانات البكالوريا، وزيادة ضريبة «التضامن الوطني»، وغيرها، وغيرها...
ولذلك تخوض الجماهير معمعان النضال، دفاعاً عن حياتها ووجودها، وضد القلة المستغلة، وتصب جام غضبها على مظاهر الثراء (السيارات الفارهة، المتاجر الضخمة و...)، وتهز الوضع كله، مطالبة بأن تعيش، أن تعيش فقط.
وما أكدته الانتفاضة يتمثل في جرأة الجماهير رغم القمع الذي تعرضت له، والقتلى الذين سقطوا، لقد هبّت للدفاع عن وجودها، فلم يرهبها إطلاق الرصاص، ولا السجون، لقد سقط عنصر الخوف لديها، ولم تعد تأبه لكل أجهزة القمع. كما أن تزامنها مع انتفاضة تونس له دلالته الكبيرة، لأنه يؤكد أن الأزمة واحدة، وأن النضالات مترابطة، وأن تحرك الجماهير في موقع يحفزّها في موقع آخر، وأن تصديها لسلطة معيّنة يعطيها الجرأة للتصدي لسلطة أخرى. ثم إنها تدلل على مدى انسحاق الجماهير، وبالتالي تبلور الصراع، وتحدد أقطابه، وبالتالي أيضاً بداية نشاط الجماهير الثوري على طريق إسقاط القلة المستغلة، وتحقيق الحريات الديمقراطية الحقة.
إن الوضع يسير باتجاه تعمّق الأزمة لأن الإمبريالية تزيد من سيطرتها، وبالتالي نهبها، ولأن القلة المستغلة تزيد من استغلالها، ولأن هذه الدول كلها في أزمة، لذلك تلجأ إلى زيادة الضرائب والرسوم، وتفتح الأسواق مشاعاً للنهب الإمبريالي. ولذلك فإن دور الجماهير سوف يزداد، ولسوف يشمل قطاعات واسعة، ترى أنها لم تعد قادرة على العيش، كما أن أزمة الفئات المستغلة سوف تتعمّق، كذلك أزمة «الدول». وبالتالي فإن تجربة الجماهير سوف تغتني، وأساليب نضالها سوف تتطور، من النضال السلبي الساعي لتحطيم مظاهر الثراء، إلى السعي لإسقاط الفئات المستغلة، ومن المظاهرات العفوية، إلى النشاط الثوري المنظم، ومن المظاهرات السلمية، إلى مواجهة عنف الأنظمة بالعنف الثوري، وأن التجربة سوف تخلق القوى القادرة على قيادة الجماهير، وعلى تعبئتها وتطوير وعيها.
ولقد أبرزت انتفاضة المغرب، كما أبرزت انتفاضة تونس، ضعف دور القوى السياسية، وضعف علاقتها بالجماهير، وهذه مشكلة أساسية، «تسقط» القوى السياسية، وتحريم الجماهير من طلائعها.
ولذلك تبقى المهمة الملحة هي بلورة القوى السياسية القادرة على لعب دور ثوري، وقيادة الجماهير على طريق تحقيق أهدافها. وإذا كانت الأزمة شاملة، فإن الحاجة لقوى تطرح القضية القومية بكل أبعادها السياسية والطبقية، قضية ملحة، لكي تستطيع مواجهة الإمبريالية، ناهبة الوطن، والمسيطرة عليه و الداعمة لقوى القمع والاستغلال.
والدرس الأساسي اليوم أيضاً، هو أن الجماهير مستعدة للنضال، مهيأة له، وأن تزايد السيطرة الإمبريالية، يزيد من دورها الثوري، لا العكس.
بعد تونس، جاء دور المعرب...
وبعد المغرب سوف يأتي دور بقعة أخرى، فالوطن يعيش أزمة مستعصية الحل، وحلّها لا يكون إلا بانتفاضة الجماهير، بتنظيمها، وتوحيد قواها...


4ـ وبعد انتفاضة المغرب...
هل يأتي دور مصر؟..
أعلنت جريدة الأهالي لسان حال حزب التجمع الوطني الوحدوي التقدمي في مصر، أن الحكومة اتخذت قراراً سرياً يوم 7/12/83 بإلغاء الدعم عن «كافة السلع والخدمات». وكان مشروع الخطة الخمسية قد اعتمد مبلغ 2000 مليون جنيه. (الدولار = 120 قرش).

ومن المعروف أن انتفاضة 18/9 يناير (كانون الثاني) 1977، حدثت بعد رفع الدعم عن بعض السلع الذي كان يبلغ 270 مليون جنيه، مع زيادة في الأسعار بلغت 500 مليون جنيه.
وسوف يبدأ تطبيق القرار تدريجياً، بعد إنتهاء انتخابات مجلس الشعب. وسوف يؤدي إلى ارتفاع أسعار الخبز، وكافة المواد التموينية الأساسية، والبنزين والكهرباء والملابس الشعبية. فهل يفجّر القرار أزمة جديدة، ويقود إلى انتفاضة عارمة؟!
إن إلغاء الدعم، وهو السبب الأساسي لانتفاضة 18 و19 كانون الثاني 1977، وانتفاضة 26 كانون الثاني، وأول كانون الثاني 1984 في تونس، و21 حزيران 1981، و17 كانون الثاني 1984 في المغرب، سوف يضيف أعباء جديدة على الفئات الفقيرة، ومن المعروف أن هناك 37% من السكان يعيشون تحت مستوى الفقر.
إن النظام المصري مضطر لإلغاء الدعم لسببين، الأول: طلب البنك الدولي الذي يقدم القروض والمساعدات الهامة. والثاني العجز المتزايد في الموازنة. وهذا يعني زيادة فقر الفقراء. ولذلك فإن الإنتفاضات قادمة.


5ـ القروض كحل لأزمة الفقر

بعد شهرين من أحداث تونس، وشهر ونصف من أحداث المغرب، لازالت آثار الإنتفاضة الجماهيرية واضحة. وهي واضحة على أصعدة ثلاثة، على العيد الديمقراطي: حيث اعتقل أكثر من 120 شخصاً في المغرب، وعدد لم يحدد في تونس.ولقد عمد النظام المغربي، لمحاكمة المعتقلين، وأصدر أحاكاً قاسية على عدد منهم، وصلت إلى خمس سنوات مع غرامات مالية كبيرة. والمعتقلون ينتمي معظمهم لأحزاب المعارضة، الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، منظمة العمل الديمقراطي الشعبي، حزب التقدم والاشتراكية... كما عمد النظام إلى إغلاق أربعة مجلات فكرية وأدبية، وإلى توقيف جريدة البيان عن الصدور، وهي الجريدة الناطقة باسم حزب التقدم والاشتراكية، وإلى مراقبة بقية صحف المعارضة «أنوال» والاتحاد الاشتراكي».
وفي تونس أقدم النظام على شق الاتحاد العام التونسي للشعب، بتشكيل اتحاد مواز.
وعلى الصعيد الاقتصادي، لم يتراجع النظام التونسي عن رفع أسعار المواد الأساسية حيث قرّر زيادة الأسعار بين 10 إلى 15%، وكان قبلاً رفعها بنسبة 140%.
أما على صعيد الدعم الخارجي، فلقد نشطت المفاوضات الاقتصادية مع الخارج، فزار وزير التعاون والتنمية الفرنسي تونس ووقع ثلاث اتفاقات اقتصادية تهدف إلى تقديم مساعدة غذائية ومالية قيمتها 560 مليون فرنك، منها 40 مليون فرنك لشراء 40 ألف طن من القمح، و400 مليون فرنك كقرض بشروط ميسرة لشراء مواد غذائية من فرنسا، و120 مليون فرنك كقرض لصالح ميزان المدفوعات.
وزار كاتب الدولة للزراعة الأمريكي جون بلوك المغرب، ووقع اتفاقاً لكي تمول أمريكا مشتريات المغرب من الحبوب الأمريكية لهذه السنة، والمبلغ هو 35 مليون دولار، لشراء 1.78 مليون قنطار من القمح. كما أن الولايات المتحدة سوف تقدم قرضاً للمغرب قيمته 344 مليون دولار.
وهذا يوضح أن الأسباب التي قادت إلى انتفاضات تونس المغرب لازالت قائمة، لأن سياسات الأنظمة لازالت كما هي لم تتغير، والقائمة على الاقتراض الخارجي، وتحقيق عجز الموازنات على حساب الجماهير الشعبية ثم حين تعبر الجماهير عن سخطها، وتزيد الأنظمة من قمعها، وتضيق من الحريات المحدودة الممنوحة.
الأزمة باقية، وسياسات معالجتها تزيدها استفحالاً، لذلك فالانتفاضات قادمة...




6ـ البعد العربي في الانتفاضة السودانية
ما هي دلالات الانتفاضة السودانية عربياً؟
هل مثلت حدثاً معزولاً عن سباق التطور العام في الوطن العربي؟ لقد جرت مناقشة ما حدث في السودان من منطلق داخلي محض، ولم يجر التطرق لعلاقتها بسياق التطور العربي العام وهذا ما عزز كونها حدثاً معزولاً. لاشك أن الذي حدث جاء نتيجة أزمة عميقة. عصفت بالمجتمع السوداني، إلى الحد الذي جعل بقاء جعفر النميري مستحيلاً، ولهذا جرت إزاحته. وكانت المطالب الشعبية واضحة إلى الحد الذي كان مستحيلاً إبقاء البنية السياسية التي أوجدها النميري، ولهذا أطيح به، ووافق «الإنقلابيون» على عودة الحكم المدني، والسماح بالنشاط السياسي، لكن لاشك أيضاً أن ما جرى مرتبط بسياق حركة المجتمع العربي عموماً.
فالهام في الانتفاضة السودانية أنها تأتي في إطار الإنفجارات التي تعيشها «الدول» العربية الواحدة بعد الأخرى، وخصوصاً «الدول» العربية في إفريقيا، وهي دورة بدأت في مصر عام 1977 وامتدت إلى تونس عام 1978، ثم السودان عام 1979 والمغرب عام 1981 والسودان عام 1983 وتونس وبداية عام 1984 ثم المغرب ومصر عام 1984 والسودان في أوائل عام 1985 وربما تعود إلى مصر وتونس والمغرب وقد تصيب الجزائر. ولكن قد تمتد إلى المشرق العربي أيضاً رغم تأثير «الدولارات النفطية» من جهة، و الصراعات السياسية التي تغطي الصراع الاجتماعي وتحديداً الصراع مع الكيان الصهيوني، من جهة ثانية ثم الصراعات الطائفية و الاثنية من جهة ثالثة، فالأوضاع الاقتصادية متأزمة في أكثر من دولة من «دول» المشرق العربي.
وأسباب هذه الإنفجارات واحدة. وربما كانت غير واضحة لبعض القطاعات الشعبية، لكنها واضحة عند الدراسة الدقيقة للأوضاع الاقتصادية الاجتماعية التي تعيشها هذه «الدول».
فقد ارتبطت بتزايد السيطرة الإمبريالية الأميركية وازدياد حدة التبعية للسوق الإمبريالية، من جهة، وتنامي شره الفئة الطفيلية الحاكمة من جهة أخرى. مما سرّع في انهيار الاقتصاد المحلي عموماً وحوّل البلد إلى سوق مستورد للسلع الأجنبية بأسعارها الدولية المرتفعة، فتناقض الدخل المحلي، وهرب جزء هام منه إلى الخارج، بسبب أرباح الشركات متعددة الجنسيات من جهة، وعجز الميزان التجاري لمصلحة الاستيراد من جهة أخرى. ولهذا يزداد فقر الفقراء وتنعم قلة بجزء هام من الناتج المحلي، يصل إلى أكثر من نصفه، وتنهب الشركات متعددة الجنسيات ما يحلو لها، فلا يكون هناك مناص من الانفجار لأن الجماهير لا تستطيع العيش وفق الوضع الذي كانت عليه حيث يؤدي النهب العيش وفق الوضع الذي كانت عليه حيث يؤدي النهب الاقتصادي إلى مستوى يجعل فئات اجتماعية واسعة تعيش دون مستوى الفقر المتعارف عليه، فلا تستطيع الحصول على ضروريات الحياة.
ومن يدرس الأرقام الاقتصادية الرسمية وليس الأرقام الحقيقة فقط، يلاحظ عمق الأزمة، والسودان مثل واضح في هذه المجال. حيث بلغت الديون المترتبة عليه تسعة مليارات دولار. مما رفع عب خدمة الدين مقارناً بصادرات البلاد من السلع والخدمات من 12% عام 1973 إلى 100% عام 1983 حسب تقديرات البنك الدولي كما تراجعت الصادرات بين عامي 72 و73 وعامي 81 و1982 بنسبة 50% بسب تقلص حجم صادرات السودان من القطن عام 82/83 إلى حوالي 15% فقط من حجمها قبل عشر سنوات بينما تراجعت قيمة الواردات بنسبة 8% فقط من حجمها قبل عشر سنوات بينما تراجعت قيمة الواردات بنسبة 8% فقط وبلغت 1.3 مليار دولار «82، 83» كما تراجع نمو الكتلة النقدية ولم تنخفض نسبة التضخم إلا بشكل محدود. ولقد بلغ متوسط معدل النمو السنوي دخل الفرد 0.4% وكان متوسط معدل النمو السنوي للناتج المحلي الإجمالي 6.3% والتضخم 15.2% وأدى هذا النمو إلى تزايد حالات الفقر المدقع خصوصاً مع موجات الجفاف التي أصابت السودان، مما أدى إلى حدوث مجاعة هددت حياة 11.5 مليون شخص أي أكثر من نصف سكان السودان «عدد السكان 20.3 مليون شخص عام 1983».
وحالة بعض الدول العربية الأخرى ليس أحسن حالاً وقد تكون أكثر سوءاً.
ولهذا لا تستطيع الجماهير العيش، فتهتز عروض، ويسقط رؤساء، وإن كان التغيير لا يؤدي إلى حل جذري للأزمة ولذلك أسبابه، وأولها غياب القوى السياسية الثورية القادرة على توظيف انتفاضات الجماهير و تحرّكاتها، و انفجاراتها العنيفة لمصلحة حل جذري ينهي الفئة الحاكمة ويسقط كل أفكارها وخطها ورموزها، وخطها الاقتصادي، ويقيم سلطة ثورية جديدة.
إن ازدياد الإرتباط بالإمبريالية الأميركية، يؤدي إلى تزايد النهب الاقتصادي مما يزيد من فقر الجماهير الشعبية ومن سحقها، إلى الحد الذي لا تعود تستطيع البقاء خامدة هامدة، قانعة بقدرها ومصيرها.
وإذا كانت الانتفاضات متفرقة الآن، تجري مرة في مصر، وأخرى في تونس، أو المغرب أو السودان، فإن تزايد النهب الإمبريالي سوف يؤدي إلى أن يحدث ترابط معين بين انتفاضة وأخرى وأن وحدة «الهم» ووحدة الظرف المعاشي سوف توحد هموم الفقراء العرب. ولهذا ليس مستغرباً أن تحدث انتفاضة في قطر تؤدي إلى انتفاضات في أقطار أخرى. وعندها لن يكون مصير الأنظمة الحاكمة سهلاً، ولن يكون التغيير المحدود ممكناً.
إن الوطن العربي يسير نحو الإنفجار، ولن تفيد النصائح الأميركية في منع ذلك، كما لن تفيد كل الصراعات الهامشية التي تفجرها الولايات المتحدة وعملاؤها. فما دامت الشركات الاحتكارية متعددة الجنسيات تسعى للنهب فإنها تستثير جماهير واسعة ضدها، هذا هو قانون الرأسمالية الأساسي، هذه الرأسمالية التي توجد حفار قبرها.
لكن، ولكي تستطيع الجماهير العربية تحقيق أهدافها الثورية، ولكي توحد نشاطها الثوري، وتطور الصراع من انتفاضات عفوية ـ مؤقتة إلى ثورة شاملة، من الضروري السؤال عن دور القوى الثورية، الأحزاب المعبرة عن مطامح هذه الجماهير ولهذا من الضروري أن نولي الحركة السياسية اهتماماً يمكننا من تكوين قوة قادرة على أن تلعب دوراً ريادياً. فالثورة بحاجة للاستراتيجية والقوة القادرة على تحقيقها وهذا هو ما ينقصنا بالضبط.
إن الوطن العربي مقبل على نهضة جديدة، وعلينا أن نعد القوى القادرة على تحويل الانتفاضات إلى ثورة شاملة، تسقط كل القوى التي تحاول شدنا إلى الوراء، وتحدث التغيير المطلوب لتحقيق وحدة الوطن العربي وتحرره، من خلال هزيمة الإمبريالية الأميركية أساساً، وأدواتها الرئيسية والثانوية وعلى رأسها الكيان الصهيوني وكل القوى الرجعية الحاكمة والمعدة للحكم وغير الحاكمة.


7ـ حالة الإفقار المطلق هي سبب الانتفاضة
والأزمة هي في الحركة السياسة.
ماذا تعني الانتفاضة التي حدثت في مصر؟ وما هي المعاني التي تطرحها؟ ولماذا انتهت دون تحقيق شيء ملموس؟
لاشك أن مصر عاشت أحداثاً كبيرة، خلال السنوات العشر الماضية، هزت أركان السلطة، وطرحت عدداً من الأسئلة الهامة، فلماذا تخوض الجماهير معمعان النضال الثوري ضد النظام، ولماذا تفشل في تحقيق أهدافها؟ فقد خاضت الجماهير في مصر، نضالاً بطولياً، في 18 و19 يناير من عام 1977، شمل مختلف القطاعات، وأربك النظام، ثم شهدت في عام 1984 انتفاضة كفر الدوار، الانتفاضة العمالية التي طالبت بتحسين أوضاع الطبقة العاملة. وهي اليوم تشهد انتفاضة جهاز الأمن المركزي، وحسب معلومات وزير الداخلية، فإن سبعة عشر ألفاً من المجندين شارك في الانتفاضة. هذا إضافة لوسائل الاحتجاج المختلفة، التي ظهرت في الأوساط المختلفة.
إن هذه الصورة تطرح سؤالاً محدداً، وهو لماذا تحدث هذه الانتفاضات و التحرّكات؟ ولماذا بهذا الشكل العنيف؟ إن حدوث هذه الانتفاضات و التحرّكات يظهر أن هناك ظروفاً تجعل من كل مشكلة جديدة، مهما كانت صغيرة، شرارة تؤدي إلى حدوث انفجار كبير. وغالباً ما كان السبب المباشر، هو رفع الدعم عن السلع، وبالتالي زيادة أسعار بعض المواد الأساسية، وخصوصاً الخبز، ولاشك أن الحدث الآني المباشر، الذي يؤدي إلى الانفجار، ليس كل شيء، بل إنه «النقطة» التي توجد حالة انتقال من وضع إلى وضع.
فما هو الوضع الذي يجعل الحدث الصغير العابر، حدثاً كبيراً، ويجعل الشرارة، تحدث الإنفجار؟
إن مصر تعيش أكثر من مشكلة معقدة، منها مشكلة النظام السياسي، توجهاته الخارجية، حيث تشعر فئات متزايدة من الجماهير بالحاجة للتحرر السياسي العام، أي بالحاجة لنظام ديمقراطي، وليس لواجهة ديمقراطية، هدفها امتصاص غضبة الجماهير، كما هو حاصل الآن، كما تشعر بعبء العلاقة التي أقامها النظام مع الكيان الصهيوني، في إطار اتفاقيات كمب ديفيد. وكذلك بعبء علاقة التبعية للولايات المتحدة. لكن المشكلة الأكثر عمقاً، التي تؤثر على الأقسام الواسعة من الجماهير هي الأزمة الاقتصادية التي تعيشها مصر، الناتجة عن خيار الفئات الحاكمة، الذي كرس انفتاح مصر، لنهب الشركات الاحتكارية العالمية، من خلال سياسة «ليبرالية» تنطلق من إضعاف دور الدولة الاقتصادي، لمصلحة القطاع الخاص، مما فاقم من فقر الجماهير، إلى حد كبير.
وجاء فقر الجماهير المتزايد، من عدد من العوامل الهامة، منها تحيز السلطة لكبار الرأسماليين والتجار، خصوصاً بسبب وجود هيكل ضريبي متحيز ضد الفئات محدودة الدخل (د. جنات السمالوطي، بحث مقدم للمؤتمر العاشر للاقتصاديين المصريين، الأهرام الاقتصادي، العدد 880، 25/12/85، ص32). ولكن من خلال الحفاظ على مستوى الأجور، دون تحقيق زيادة تواكب ارتفاع الأسعار. فقد ازدادت إيرادات الدولة من الضرائب من 499 مليون جنيه سنة 1974 إلى 3227 مليون جنيه سنة 1979، أي بنسبة 647%، وازدادت أسعار المواد الغذائية عام 1981 قياسياً إلى عام 1975، بنسبة 224%، وعام 1982 قياساً إلى نفس العام بنسبة 256% وعام 1983 بنسبة 305.7%، والوقود والإضاءة بنسبة 133% سنة 1981 و140% سنة 1982، والملابس والأقمشة بنسبة 226% سنة 1981، و257% سنة 1982، والمسكن ومستلزماته، بنسبة 107% سنة 1981، و107% سنة 1982.
أدى هذا الوضع إلى تزايد حالة الإفقار المطلق التي تعيشها قطاعات واسعة من الجماهير، خصوصاً أن التضخم الذي بلغ نسباً مرتفعة، بسبب انعكاس حالة التضخم العالمية، وأساساً بسبب عجز الميزانية في الدولة، هذا العجز الذي يدفع الفئات الحاكمة إلى تغطيته من خلال طبع العملة دون رصيد، مما غير من سعر الجنيه مقابل الدولار من 40 قرشاً للدولار الواحد، إلى 170 قرشاً. إن التضخم أدى إلى تناقض القيمة الفعلية للأجور.
وإذا كانت الإحصاءات العالمية، تقول أن نصيب الفرد من الناتج المحلي، بلغت 643 دولار سنة 1980، و766 دولار سنة 1982، و858 دولار سنة 1984. فإن الدراسات الجادة تشير إلى غير ذلك، بل إنها تظهر عمق المأساة. فإن 44% من الأسر تحصل على 20% من الناتج المحلي، وإذا أردنا توضيح ذلك بالأرقام، فإن متوسط دخل الفرد يبلغ 224 جنيه سنوياً، على أساس أن الناتج الإجمالي لسنة 82/83 هو 22562 مليون جنيه، ثم إن أدنى 57% من الأسر تحصل على 32% من الناتج، أي أن متوسط دخل الفرد، هو 276 جنيه، وأن أدنى 71% من الأسر تحصل على 46% من الناتج، أي أن متوسط دخل الفرد، هو 318 جنيه.
إن 44% من الأسر، يلغ الدخل الشهري فيها 93.5 جنيه، و13% من الأسر يبلغ الدخل الشهري فيها 189 جنيه، و14% من الأسر، 202 جنيه، على أساس أن الأسرة مكونة من خمسة أشخاص فقط، مع أن عدد أفراد الأسر الشعبية أكثر من ذلك.
ويخلق هذا الوضع حالة من الفقر، تجعل الجماهير الشعبية، تقصر مصروفها على الحاجات الضرورية، التي تحتاجها لتتمكن من تجديد حياتها. ويصبح كل اختلال في الأسعار، أو تدهور في سعر الجنيه، عبثاً، لا يمكن تحمله، فتأتي أحداث معينة، مثل تخفيض الدعم عن السلع، وبالتالي ارتفاع أسعارها، لتنقل قطاعات واسعة من الجماهير، وبنسب مختلفة من حالة القدرة على العيش، التي تسمح بتجديد الحياة فقط، أي دون رفاه، إلى عدم القدرة على ذلك، أي إلى وضع هو أشبه بالموت. وعندها يكون الاحتجاج الصاخب مسألة طبيعية، تقوم بها الجماهير، من دون حساب لعواقبها.
وإذا كانت الأحداث التي قام بها المجندون في الأمن المركزي، ناتجة عن قضية أخرى، وهي قضية تمديد الخدمة لمدة عام، فإن الذي هيأ لذلك، هو الوضع الاقتصادي ذاته، الذي جعل المتظاهرين، يرددون هتافات ضد السياسات الاقتصادية والمعيشية للدولة، وأن يهاجموا مخازن الأغذية، وأن يرفعوا الشعارات حول الأوضاع الاقتصادية المتردية، وحول النقص في المواد الغذائية (السفير 28/2/86). لكن انعكاس الأزمة أصاب هذه المرة، قوّات الأمن المركزي، كما أصاب في المرة السابقة، عمال كفر الدوار، لهذا بقيت الأحداث موضعية، ولم تشمل الجماهير المصرية كلها، وهذه نقطة من نقاط ضعفها.
إن الظروف الاقتصادية في مصر، تنذر بانفجارات كبيرة، لأن حالة الفقر المطلق بلغت ذروتها، بفعل سياسية النهب التي تتبعها الشركات الاحتكارية العمالية، والفئات الحاكمة التي ترتبط بها، وتنفذ سياساتها، والتي تمررها من خلال البنك الدولي. وهذه الظروف هي التي جعلت النظام يتلكأ في رفع الدعم عن السلع، ثم يرفعها تدريجياً، وبأشكال ملتوية، رغم المطالبة المتكررة من قبل البنك الدولي.
باختصار، لقد قادت السياسة الاقتصادية التي بدأها السادات، والمسماة بسياسة الانفتاح الاقتصادي إلى إفقار الجماهير، وها هي الجماهير ترد على الحالة التي وصلت إليها.
لكن النتيجة كانت في الماضي ولازالت، هي الفشل، فلماذا الفشل؟
إن الجواب يتعلق بقدرة الحركة السياسية، لأن الجماهير بحاجة دائماً للقوة التي تحدد لها الأهداف العامة للنضال، والتي تقودها نحو الانتصار. فلا تكفي الغضبة ضد الفقر، ولا المطالبة بتحسين الأوضاع المعاشية، بل المطلوب، لتحقيق ذلك، تغيير السياسة الاقتصادية كلها، وبالتالي تغيير الفئات الحاكمة. وهذا هو دور الحركة السياسية، فما هي أزمتها؟ هذا ما يحتاج إلى جواب، لكن يمكن التأكيد، أن الوضع الذي تعيشه مصر، يحتاج إلى قوى من نمط جديد قوي مكافحة، تخوض معمعان النضال ولا تحسب حساب المكاسب الخاصة، بل يكون هدفها الأساسي تحقيق التغيير الذي يخرج الجماهير من أزمة الجوع والفقر، ويضعها على أعتاب مرحلة جديدة.


8ـ مصر
الواقع يشير إلى انتفاضة قادمة
مصر تنتظر انفجاراً جديداً(*). هذا ما تشير إليه الأوضاع العامة التي تعيشها، فمنذ ابتدأت سياسة الانفتاح التي كانت تعني التحاق الطبقة الحاكمة بالنظام الإمبريالية، وتبعيتها له، والأزمة الاقتصادية آخذة في التفاقم. لقد أدت سياسات الطبقة الحاكمة في المجال الاقتصادي أولاً، إلى تفاقم الصراع الطبقي، حيث ازداد غنى أقلية ضئيلة هي الطبقة الحاكمة التي تشير كل الإحصاءات على أنها لا تتجاوز الـ5% من عدد السكان، بينما تفاقم فقر الأغلبية، وغد تعيش في حالة صعبة، حيث أصبح أي قرار من قبل السلطة الحاكمة، بشأن رفع أسعار السلع والخدمات يعني لها الكثير، لأنه قد يؤدي إلى دمارها، لهذا أخذت ترقب السياسات الحكومية كما أخذت تظهر احتجاجاتها بأشكال مختلفة، خصوصاً وأن زيادات الأسعار غير مرتبطة بزيادة في الأجور,
هذا الوضع هو الذي جعل الجماهير المصرية، تقوم بانتفاضات متتالية منذ يناير 1977، كما جعل الطبقة العاملة المصرية تطور من نضالاتها، طيلة السنوات الأربع الماضية، فتقوم بعدد كبير من الإضرابات، والاحتجاجات.
ومصر، بعد ذلك، تنتظر انفجاراً جديداً. لأن الأزمة العامة باتت تتعمق، حيث تسارع نهب الطبقة الحاكمة، كما أدت التبعية للنظام الإمبريالي، إلى اتساع مشكلات مصر الاقتصادية. فإذا كان النهب الإمبريالي، الذي يمارس من خلال الشركات الاحتكارية، يسرق جزءاً هاماً من الناتج المحلي، وبالتالي يؤدي إلى خروج جزء كبير من الرأسمال المحلي إلى المركز الإمبريالي، فإن غدت وسيلة أخرى لتعميق التبعية، وتسارع نهب هذه الشركات الاحتكارية للناتج المحلي، وبالتالي إلى تفاقم حالة الفقر التي تعيشها الجماهير. ولاشك أن الأشهر القادمة تحمل مفاجآت كثيرة، لأن البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وهما المصدر الأساسي لمديونية مصر، يضغطان من أجل أن ترفع الحكومة الدعم عن كل السلع، لكي يسود القانون الرأسمالي تماماً، وهو القاضي بأن يصبح سعر السلعة، حسب «كلفتها» في البلد المنتج، بغض النظر عن فارق الدخل بين هذا البلد، والبلد المستهلك. أما الطبقة الحاكمة، وصندوق النقد الدولي، فترة من الزمن. لكن الطبقة الحاكمة لا تستطيع إلا أن تتكيف مع متطلبات النظام الإمبريالي، مادامت اختارت الارتباط به، لهذا، ورغم «اعتراضاتها» ومطالبتها بالتريث، وسعيها من أجل تأجيل رفع الدعم عن السلع، فقد أخذت ترفع السلع بشكل تدريجي، كي لا تتكرر تجربة 18 و19 يناير 1977. لكن الأمور بلغت مرحلة حاسمة، لأن ديون مصر فاقت أي تصور، حيث بلغت، حسب بعض الإحصاءات، حوالي 50 مليار دولار.
ومن المفترض أن تسدد السلطة مبلغ 4 مليارات دولار، يحين، موعد تسديدها في شهر تموز 1988. لكنها تسعى من أجل إعادة جدولتها.
وفي هذا الإطار أصبحت مسألة زيادات الأسعار محققة، فقد ارتفعت أسعار الأدوية والأجهزة الكهربائية، بنسبة 25%، وأسعار النقل بنسبة 20ـ 30%، كما ارتفع سعر البنزين، الأمر الذي سينعكس على مجالات أخرى، ومن المتوقع ارتفاع أسعار السجائر، المياه الغازية، ومواد البناء والأهم أن الاتفاقات مع البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، تفرض رفع الدعم عن الخبز، في فترة قريبة، ارتبطت ببداية الخطة الحكومية الجديدة.
لقد أصبحت مسألة رفع الدعم عن كل السلع، وتركها لسعر السوق، مسألة محققة. ومهما كانت نسبة زيادة الأجور، التي قد تلجأ إليها السلطة، فإن قدرة الجماهير على التحمل باتت معدومة، مما يعني قرب حدوث انفجار كبير. ولاشك أن تطور النشاط الجماهيري خلال السنوات الثلاث الماضية، وعمق الأزمة الاقتصادية يؤشران على مدى عظم الانفجار، في عصر، هو عصر الانتفاضات الجماهيرية.


























3
النهب الإمبريالي يؤدي إلى حالة الإفقار المطلق
مثال السودان
ما جرى في السودان مؤخراً، يؤشر إلى قضية هامة. فالانتفاضة الشعبية التي هزت نظام نميري وأدت إلى حدوث انقلاب عسكري، حاول (ويحاول) امتصاص غضبة الجماهير، هذه الانتفاضة تؤشر إلى أزمة مستحكمة في المجتمع السوداني، لكنها تشير أيضاً إلى قضية تعيشها جماهير الوطن العربي في العديد من الدول القائمة، وهي مسألة إفقار الجماهير.. هذا تحدث بشكل دوري عادة، إلى أن تخرج الجماهير الشعبية عن حالة ركود عاشتها سنوات، لتهز أنظمة ترسخت، وبدت مستقرة، ولتطرح مسألة السلطة الحاكمة ونهجها على بساط البحث.
إن سقوط النميري جاء بفعل انتفاضة شعبية عارمة، حركتها أزمة اقتصادية عميقة، تخمرت خلال أكثر من خمسة عشر عاماً، هي فترة حكم النميري، وهي الفترة التي طبق فيها سياساته القائمة على أساس «الانفتاح الاقتصادي»، والاعتماد على مساعدات وقروض البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، والولايات المتحدة. هذه السياسات قادت إلى أن يقف السودان «على عتبة منعطف اقتصادي دقيق» حسب تعبير تقرير البنك الدولي.
والقضية الأهم في هذا المجال، أن حالة السودان ليست فريدة، ولا مختلفة عن معظم الدول العربية، بل إنها مثال لأكثر من دولة عربية أساسية، منها مصر، تونس، المغرب، وموريتانيا وربما الجزائر والأردن واليمن الشمالي، وقد تطال كل الدول العربية غير النفطية ونصف النفطية. من هنا كان ضروريا معالجة جوهر المشكلة، ما هو جوهر المشكلة؟ يمكننا تلخيصها في مسألتين هما: بطء النمو الداخلي، أو قد يكون الأدق الحديث عن انعدام النمو، بسبب تحويل المجتمع من مجتمع ينتج السلع الضرورية لمعيشة الجماهير، إلى مجتمع مستهلك، أي باختصار محدودية الدخل المجلي، ومحدودية نموه. والمسألة الأخرى هي النهب الإمبريالي الذي يؤدي إلى خروج جزء هام من الدخل المحلي إلى المراكز الإمبريالية عبر قنوات مختلفة، منها اختلال الميزان التجاري لمصلحة الواردات، وفتح البلد لاستثمارات رؤوس الأموال الأجنبية والشركات متعددة الجنسية. أيضاً من خلال تهريب الفئات الطفيلية الحاكمة لثرواتها التي نهبتها.
وبذلك يتزايد عدد السكان بشكل متسارع ـ وهي سمة النمو السكاني في الوطن العربي، حيث يتضاعف عدد السكان كل ربع قرن تقريباً ـ بينما لا ينمو الدخل المحلي بما يوفر مستوى معيشة موازٍ لما كان قبل سنة أو عشر. وتزيد من حدة المشكلة تزايد وتيرة التبعية للسوق الامبريالي، وتزايد شره الفئات الحاكمة، فتستحوذ على جزء هام من الدخل المحلي، مما يفرض تناقص حصة السكان من الدخل المحلي، تناقصاً متسارعاً، يؤدي حتماً على إفقار الجماهير، إفقاراً مطلقاً، يصل إلى حد الموت جوعاً. عندها لا يكون ممكناً بقاء الجماهير راكدة، خانعة، لأنها لم تعد تستطيع العيش.
هذا ما حدث في مصر عام 1977، وتونس عام 1978، والسودان عام 1979، والمغرب عام 1981، والسودان عام 1983، ثم تونس والمغرب ومصر عام 1984، ومن ثم السودان عام 1985.
ولعل الوضع ينذر بانفجارات جديدة، في تونس والمغرب، ومصر، وأيضاً الجزائر، وربما الأردن. وبوادر ذلك واضحة في تونس والجزائر.
والمشكلة في ذلك هي السياسة التي يتبعها النظام الحاكم، خصوصاً في المجال الاقتصادي. فمثلاً أكد تقرير البنك الدولي أن مشكلة السودان نابعة من ـ التوجه غير المناسب ـ لسياسة البلاد الاقتصادية. والكلام صحيح بشكل مجرد، فالمشكلة فعلاً في التوجه غير المناسب في المجال الاقتصادي، النابع من مصلحة الفئات الحاكمة، هذه الفئات التي اغتنت فجأة، بسبب الدور الذي لعبته في العملية الاقتصادية، حيث عملت بالسمسرة والرشوة. ولهذا شجعت الاستيراد، لأنه مجال السمسرة والرشوة، وضربت كل تطور إنتاجي محلي، ففتحت البلاد مشاعاً لنهبها، وأساساً لنهب الشركات الاحتكارية متعددة الجنسيات. هذه الشركات التي تنهب دون حساب، ودون أن تحسب حساباً لفقر الجماهير، أو لمصيرها.
إن سيطرة فئة تسعى لأن تكوّن ثروة كبيرة يدفعها إلى تكييف الاقتصاد المحلي، بما يخدم هذا الهدف. ولما كانت ليست من البرجوازية القادرة على بناء اقتصاد يحقق لها أرباحاً، فإنها تلجأ إلى أن تكون وسيطة، تعمل في تسويق السلع المنتجة من قبل الشركات متعددة الجنسية، لكي تقتص عمولة ـ أو سمسرة ـ لكي تنهب الجماهير الشعبية، من خلال بيع السلع بالسوق المحلي ـ وغالباً في السوق السوداء ـ بأسعار مرتفعة، لهذا تستفيد من سيطرتها على جهاز الدولة، لإصدار قوانين تدعم الاستيراد سواء الصناعات التي بنيت خلال قرن من الزمان، وهي صناعات ثانوية في كل الأحوال، أو الريف كمنتج للمواد الزراعية الأساسية.
إن هذه العملية تؤدي إلى حدوث عملية معقدة تطيح بالدخل المحلي العام، وبالتالي بنصيب الفرد منه.
فأولاً: تؤدي السياسة الاقتصادية التي تتبعها هذه الفئة، إلى تناقص نمو الدخل المحلي، تناقصاً شديداً، وحتى إلى تناقص قيمته، أي إلى نمو سلبي في قيمة الدخل المحلي.
وثانياً: نهب الشركات متعددة الجنسيات، من خلال بيع سلعها بأسعار مرتفعة في السوق المحلي، مما يؤدي إلى خروج جزء عام من الدخل المحلي، من خلال العجز في الميزان التجاري، كما من خلال الأرباح التي تحققها هذه الشركات، من الامتيازات التي تحصل عليها لعملها في الوطن.
وثالثاً: النهب الذي تمارسه الفئات الحاكمة من خلال التحكم بأسعار السلع، وبيعها بأسعار باهظة.
ورابعاً: نهب الدولة ـ السلطة الحاكمة ـ المفروض من خلال الضرائب على الأموال والأفراد والسل.
لهذا يبقى جزء ضئيل من الدخل المحلي، الذي هو ضئيل بالأصل، يوزع على الأغلبية الساحقة من الجماهير الشعبية، مما يجعلها، مع تزايد النهب الإمبريالي، والنهب المحلي، غير قادرة على العيش، حتى تصل فئات واسعة منها إلى ما دون مستوى الفقر العالمي ودونه بكثير.
والسودان مثل على كل ذلك.
فقد كان الدخل المحلي العام 1981، يساوي 7994 مليون دولار، حسب التقرير الاقتصادي العربي الموحد لعام 1981، الصادر عن جامعة الدول العربية. والميزان التجاري لعام 1984، حيث بلغت الواردات 1.3 مليار دولار، والصادرات 732 مليون دولا، بلغت فوائده نسبة 100% مقارنة مع صادرات السلع والخدمات. وإيرادات الدولة لعام 1981، بلغت 1889 مليون دولار. وكذلك توزيع الدخل لعام 69، حيث حصل إلى 20% على 48.1% من الدخل. فإذا أجرينا حساباً، على ضوء ما تقدم، لدراسة ما يبقى من الدخل المحلي، تستفيد منه الجماهير الشعبية وصلنا إلى تحديد حالة الإفقار المطلق التي تحدثنا عنها. ورغم أن الأرقام مأخوذة من سنوات مختلفة، إلا أن ما جعلنا نفعل ذلك، هو نقص الأرقام للسنوات الأخيرة رغم أن التغييرات فيها سلبية. بمعنى أن إيرادات الدولة زادت بسبب حاجة الدولة للإنفاق المتزايد، وأن الانقسام الطبقي من خلال ارتفاع تفاوت الدخل ازداد حدة، حيث من المؤكد أن الـ20% ذات الدخل الأعلى حصلت على أكثر من 48.1% من إجمالي الدخل المحلي، بينما لم يزد الدخل المحلي الإجمالي إلا بشكل محدود، وربما تناقص (وهو الاحتمال الأغلب على ضوء دراسة نمو الدخل في السنوات العشر السابقة).
ولقد عمدنا إلى استخدام هذه الأبواب (إيرادات الدولة، الميزان التجاري، توزيع الدخل...) لكي نعرف حجم الباقي من الدخل المحلي، الذي تستفيد منه الجماهير الشعبية لأن إيرادات الدولة تؤخذ من الرسوم والضرائب، التي تفرض على الجماهير الشعبية عموماً، بينما تتهرب الفئات الكمبرادورية والموسرة من دفعها، وكذلك تؤخذ من القطاع العام إذا كان يربح، وإنتاجه يحسم من ضمن الدخل القومي عادة. أم العجز في الميزان التجاري، فيعتبر (هروب) جزء من الدخل المحلي للخارج. ولقد استثنينا حجم أرباح الشركات في البلد، لعدم توفر الأرقام.
ومما يزيد من المشكلة أن نفقات الدولة تزيد عن إيراداتها وتصل إلى 2826 عام 1981، أي 34.1 بالمئة من الدخل المحلي الإجمالي، إضافة إلى أن خدمة الدين العام تساوي مجمل الصادرات.
إن التدقيق في الأرقام السابقة يوضح، أن فروقاً طبقية واسعة تنخر بنية المجتمع، وإذا كنا لا نستطيع الحصول على أرقام دقيقة، نتيجة غياب الدراسات حول توزيع الدخل في الوقت الراهن، فإن دراسة ذلك على ضوء نسب عام 1969 توضح الإشكالية، حيث إن متوسط دخل 80% من السكان تبلغ 270 دولار سنوياً، بينما هي بالنسبة لـ 20% الأغنى 1012 دولار سنوياً.
في نفس الوقت الذي تعالج فيه الدولة أزماتها المتمثلة بنقص مداخيلها، بزيادة الضرائب بشكل متصاعد، فيلتهم جزءاً مهماً من دخل الفرد هذا. ثم لابد من الإشارة إلى الارتفاع المتزايد في أسعار السلع المستوردة، والخاضعة لتقلبات السوق العالمي، ولانخفاض أسعار العملة المحلية أمام الدولار. مما يجعل حركة تزايد الأجور أدنى بكثير من حركة أسعار السلع والخدمات، والضرائب.
إن كل ذلك يخلق آلية تؤدي إلى تزايد الفقر، رغم المساعدات التي تتلقاها السودان، وكل الدول الفقيرة، هذه المساعدات التي تستفيد منها الفئة الحاكمة فقط.
ولهذا يزداد فقر الفقراء، وتنعم قلة بجزء هام من الناتج المحلي، وتنهب الشركات متعددة الجنسيات ما يحلو لها، فلا يكون هناك مناص من الانفجار، لأن الجماهير لا تستطيع العيش وفق الوضع الذي كانت عليه، حيث يصل النهب الإمبريالي إلى مستوى يجعل فئات اجتماعية واسعة دون مستوى الفقر المتعارف عليه، فلا تستطيع الحصول على ضروريات الحياة. وعندها لا يعود ممكناً بقاء الجماهير خامدة هامدة، قانعة بقدرها ومصيرها.
إن حالة الإفقار المطلق تؤدي بالضرورة إلى انفجارات واسعة، تهز عروشاً وتطيح بأنظمة، وإذا كانت الانفجارات التي حدثت في العديد من الدول، لم تؤد إلى تحقيق التغير الجذري، فقد أشرت إلى عمق الأزمة من جهة، وأكسبت الجماهير خبرات نضالية كبيرة من جهة ثانية، وهي من جهة ثالثة أشرت إلى غياب القوى السياسية الفاعلة، الطليعية والمناضلة.
إن الأوضاع في الدول العربية تسير نحو الانفجار، كلما تعمقت التبعية للإمبريالية الأميركية، وكلما فتحت أبواب الوطن مشاعاً لنهب الشركات متعددة الجنسيات.
ولهذا فإن حالة الانفجار التي تعيشها الدول العربية المختلفة، تشير من جهة إلى تعمق التبعية، ليس في دولة بعينها فقط، بل في معظم الدول الفقيرة (وهي التسمية التي تطلق على الدول غير النفطية في الوطن العربي). لكنها تشير من جهة أخرى، إلى قضية هامة ثانية، لأن تعمق التبعية في الوطن العربي عموماً، أي في دوله المختلفة، يخلق ظروفاً متشابهة، وأوضاعاً متقاربة، لأن السمة الأساسية العامة لكل دولة، سوف تكون حالة الافقار المطلق التي تعيشها الجماهير، مما يولد رابطاً جديداً، يشعر الجماهير العربية عموماً بوحدة الهموم، أي بوحدة الأزمة. مما يشير إلى أن الانفجارات المحدودة ـ الموضعية ـ التي تحصل اليوم في منطقة بعينها، قد تصبح انفجاراً شاملاً، في أكثر من دولة، لتتأسس حركة جماهيرية عربية، واسعة. وعندها يكون من الصعب الوصول إلى حلول جزئية محدودة، تؤدي إلى «تنفيس» الانفجارات.
إن الوطن العربي مقبل على انفجار شامل، بفعل قانون التبعية للإمبريالية، أي بفعل قانون النهب الإمبريالي.
وفي هذا الوضع يصبح من الضروري الحديث عن الحركة السياسية العربية، لأن نجاح الثورات، بحاجة ليس إلى انفجارات جماهيرية فقط، بل إلى قوى سياسية واضحة الأهداف، قادرة على تحديد التكتيك الصحيح، وأساساً قادرة على الاندماج بحركة الجماهير ودفعها إلى غاياتها المطلوبة.
ما هو دور الحركة السياسية؟ هذا ما نحن بحاجة للإجابة عليه..

المثال العربي

ناقشنا في الفقرة السابقة مثال السودان لإظهار حالة الإفقار المطلق التي يسببها النهب الإمبريالي ونهب «الدولة» والفئة الحاكمة في «الدول» العربية. لكن مثال السودان ليس غريباً عن الوضع العربي عموماً، وتحديداً الدول العربية غير النفطية كلها. وإذا كانت هذه الحالة برزت في عدد محدد من الدول، مثل مصرن تونس،المغرب، والسودان، فهي مرشحة أن تظهر في دول كالجزائر والأردن وغيرها، أي لدى الكتلة الرئيسية في الوطن العربي، حيث تشكل أغلبية من ناحية عدد السكان، كما تشكل الكتلة المؤثرة في السمار العربي عموماً. ولهذا فإن قانون الإفقار المطلق ينطبق على الوطن العربي بشكل عام.
إن حالة النهب هذه تؤدي إلى حالة انفجار دوري، فهي تدفع الجماهير إلى الخروج عن حالة «اللامبالاة»، وقبول الأمر الواقع، و«اختراع» المفاهيم التي تكرس سيطرة فئة وتجبرها وسطوتها، تدفعها إلى أحداث انتفاضة عارمة تهز عروش، وتسقط أنظمة إن السيطرة الإمبريالية من جهة وهي تؤدي إلى خروج جزء هام من الدخل القومي إلى المراكز الإمبريالية، وبالتالي إلى تناقص الدخل القومي إلى نسبة السكان، والسياسات التي تتبعها الفئات الحاكمة من جهة أخرى، تؤديان إلى نهب جزء كبير من الدخل القومي، مما يؤدي إلى بطء نمو الدخل القومي أو في حالات عديدة نموه السلبي، وبالتالي يؤدي إلى تناقص دخل الفرد، أو عدم نموه يما يوازي الأسعار (أسعار السلع والخدمات. فيصبح وضع الجماهير أكثر سوءاً في كل عام، ويجعلها تعيش مستويات من الفقر مذهلة، تصل إلى حد الجوع.
مشكلة نهب الدخل القومي:
إن المشكلة الأولى التي يعاني منها الاقتصاد العربي، هي مسألة نهب الدخل القومي، من خلال أقنية مختلفة منها النهب الإمبريالي المتأتي من خلال الميزان التجاري، الذي يؤدي إلى ذهاب جزء هام من الدخل إلى الخارج، مما يحرم الاستفادة منه في تطوير الاقتصاد. وتبلغ نسبة العجز فيالميزان التجاري للسلع والخدمات إلى الدخل القومي للبلدان العربية الفقيرة للسنوات 79 و80 و81، كما يلي: 30%، 28%، 37% على التوالي. حيث كان العجز 22.825 مليار، 25.441 مليار و35.545 مليار دولار للسنوات ذاتها، وهي نسبة كبيرة ويبدو أنها في تزايد مستمر.
وإذا أخذنا الدول التي شهدت انتفاضات كبيرة، نجد وضعها يزداد سوءاً لأن الجماهير تعيش حالة من الفقر الشديد، تنذر بانتفاضات قادمة.
يبلغ الدخل المحلي لتونس 8084.2 مليون دولار (عام 1981)، يفقد منه 16% بسبب عجز الميزان التجاري البالغ 1264.3 مليون دولار، وتنهب الدولة 28.2% من خلال الضرائب والرسوم المختلفة (أي 2278.3 مليون دولار) ويحصل الـ20% الأغنى على 55.5%ـ أي 4486.7 مليون دولار. أس أنه يفقد 99.7% منه. لا يستثمر منها إلا جزء محدود جداً. رغم ذلك فإن نسبة نمو الدخل القومي هي 8.4% لسنوات 79 ـ 80، لكن هذا النمو شكلي، لأنه يتركز على نمو قطاعات الخدمات فقط، وتراجع الزراعة والصناعة، وإن كان وضع تونس أحسن حالاً من البلدان الأخرى في مجال النمو الصناعي.
ويبلغ الدخل المحلي لمصر 26382.9 مليون دولار (عام 1981)، يفقد منه 4% بسبب عجز الميزان التجاري البالغ 1043.4 مليون، وتنهب الدولة 43% من خلال الضرائب والرسوم المختلفة (أي 11270.7 مليون)، ويحصل الـ20% الأغنى على نسبة لا تقل عن 60 % من الدخل (والرقم تقديري، قياساً على أنه كان عام 64، 48.4%). أي 15800 مليون دولار، أي أنه يفقد 107% منه. وتبلغ نسبة النمو 7.9%، وتتركز أساساً في قطاع الخدمات، لأن قطاعي الزراعة والصناعة يعانيان من تراجع كبير.
ويبلغ الدخل الحلي للمغرب 15085.7 مليون دولار (1981)، يفقد 10.5% بسبب عجز الميزان التجاري البالغ 1579.2 مليون، وتنهب الدولة 52% منه أي 3752.7 مليون، ويحصل الـ20% الأغنى على 65.1%، أي 9820.8 مليون دولار. أي أنه يفقد كل الدخل تقريباً. أما نسبة نمو الدخل فتبلغ 4.8% وتتركز في قطاع الخدمات أيضاً.
وهذا الوضع ليس غريباً لأن الفئات الحاكمة تهتم بمراكمة ثروتها، لا تطوير المجتمع، حيث تبلغ نسبة تكوين رأس المال الثابت الخاص والعام إلى الدخل القومي في البلدان العربية الفقيرة للأعوام 79، 80، 81 على التوالي 23%، 25%، و28% وهي تذهب إلى قضايا تتعلق بالخدمات بشكل عام بينما بلغت نسبة الاستهلاك العام والخاص إلى الدخل القومي لنفس الأعوام، 80%، 86.2%، و87.7% على التوالي.
مشكلة الدخل الفردي:
إن المشكلة الأولى تقود إلى مشكلة أخرى، وهي انخفاض دخل الفرد وأحياناً النمو السلبي فيه (مثل السودان حيث كانت نسبة نمو الدخل الفردي عام 1982 ، 0.4%).
فوضع مصر ليس أحسن حالاً من السودان، حيث يبلغ دخل الفرد حسب الإحصاءات الرسمية. وحسب التقسيم البسيط (أي تقسيم الناتج المحلي على عدد السكان، دون أخذ التقسيم الطبقي بعين الاعتبار) ومبلغ 580 دولار عام 1982. وهو ينمو بنسبة 3.6%، بينما تتجاوز نسبة نمو التضخم ذلك كثيراً، وهي 15% لنفس العام. كذلك تتجاوز نسبة زيادة الأسعار للسلع والخدمات ذلك أيضاً إلى نسبة نمو السكان. لكن إذا حاولنا دراسة دخل الفرد، انطلاقاً من أخذ الانقسام الطبقي بعين الاعتبار، سوف نصل إلى رقم آخر، والمشكلة في هذا المجال عدم توفر الأرقام التي تشير إلى الفروقات الطبقية، لذلك تم القياس على إحصاء عام 1965، حيث تحصل الـ20% الأغنى على 48.4%ـ فإذا عرفنا أن سنوات الانفتاح أدت إلى تزايد الهوة الطبقية، تزايداً كبيراً. وإذا قسنا وضع الدول «المنفتحة» سابقاً، قدرنا أن الـ20% الأغنى تحصل على 60% من الدخل. فيكون دخل الـ80% من السكان والبالغ 34.6 مليون، 305 دولار فقط. كما بلغت نسبة حصة الفرد من الرسوم والضرائب التي تفرضها الدولة 325 دولار.
أما وضع تونس فيعاني من نفس المشكلة،. إن دخل الفرد حسب الاحصاءات الرسمية، والتقسيم البسيط، يساوي 1310 دولار عام 1982، وكانت نسبة نموه للفترة بين 60 ـ 1982، تساوي 4.7%، وهي نسبة متدنية، قياساً بمعدل تزايد التضخم والأسعار، ونمو السكان. لكن النسبة الحقيقة لدخل الفرد بلغت 692 دولار، وعلى اعتقاد أنها لم تزد كثيراً، بسبب استقرار الوضع. بينما كانت حصة الفرد من الرسوم والضرائب 440 دولار.
وكذلك المغرب، حيث بلغ دخل الفرد حسب الإحصاءات الرسمية، والتقسيم البسيط 900 دولار، وكانت نسبة نموه للفترة بين 60 1982، تساوي 2.6%، لكن الدخل الحقيقي للفرد يساوي 314 دولار، على أساس أن الـ20% الأغنى تحصل على 56.1% حسب إحصاء سنة 1965، أما حصة الفرد من الرسوم والضرائب فتساوي 224 دولار.
لذلك، ورغم النمو المحدود للدخل الفردي. بسبب نمو الخدمات أصلاً، والنمو المحدود في بعض القطاعات الأخرى، إلا أن ارتفاع نسبة التضخم وأسعار السلع والخدمات بوتيرة عالية، والتزايد السكاني الكبير، يضعف القدرة الشرائية للناس، ويقود إلى حالة إفقار شديد، تصل إلى حد المجاعة أحياناً.
وما يفاقم المشكلة، تزايد العجز في الميزان التجاري بسبب نمط الإنتاج السائد، الذي تكرسه الفئات الحاكمة، والقائم على تهميش الزراعة والصناعة، وتنمية قطاع الخدمات، وأساساً الاعتماد على استيراد السلع والخدمات من جهة، ثم بسبب حاجة الدولة إلى النهب نتيجة تزايد مصروفاتها من جهة ثانية، وثالثاً، بسبب شره الفئات البرجوازية وسعيها للربح.

النهب الإمبريالي
يؤدي إلى حالة الإفقار المطلق
(مهام الحركة السياسية)
تكتسب الحركة السياسية طابعها، من الظروف التي تولد فيها، والوضع الذي تعيش فيه، وتحدد مهماتها على ضوء الظروف العينية التي يعيشها الوطن الذي تولد فيه، والجماهير التي تدافع عنها. هذا إذا أرادت أن تتحوّل إلى حركة ثورية جذرية.
ولقد ولّدت ظروف النضال ضد الاستعمار القديم الحركة الوطنية العربية منذ بداية هذا القرن. فاصطبغت بصيغة محددة، تقوم على أساس رد الفعل ضد سياسات وممارسات القوى الخارجية، وحين انهار الاستعمار القديم، وتمكنت بعض القوى الوطنية من الوصول إلى السلطة، عجزت عن تحقيق الشعارات التي رفعتها في ميدان البناء الداخلي، وعلى صعيد الوحدة العربية. ولكن التحولاّت التي حدثت خلال السنوات الثلاثين الماضية، وأساسها ضرب بقايا الإقطاع والبرجوازية التقليدية في البلدان التي سيطرت فيها قوى وطنية من جهة، وتزايد دور الدولارات النفطية من جهة أخرى، أوجدت وضعاً طبقيا جديداً، يتسم بـ«الميوعة»، حيث عملت القوى الوطنية على أساس «إلغاء الفوارق الطبقية»، و«وحدة قوى الشعب العامل»، فلم تتبلور فروقات طبقية واسعة، رغم أنها لم تختف، فقد كانت تحصل الـ20% الأغنى في مصر، سنة 1965، على 48% من الدخل المحلي، و48.1% في السودان سنة 1969. أما النفط فقد أثّر في البنية الطبقية لكل الدول النفطية، وانعكس تأثيره على الدول الأخرى من خلال المساعدات والقروض، وتوظيف رؤوس الأموال.
لكن الوضع تغير مع التحولات السياسية اليمينية التي حدثت منذ عام 1970، والذي قاد إلى تزايد التبعية للإمبريالية سياسياً واقتصادياً، وهو ما تحدثنا عنه سابقاً.
إن سياسة النهب الإمبريالي، التي أوجدت حالة الإفقار المطلق، أدت إلى إحداث فرز طبقي جديد، اتسم بالاستقطاب الحاد، فالـ 20% الأغنى تحصل على ما يقرب من ثلثي الدخل المحلي، أما الـ80% فتحصل على ما يقرب من الثلث ولهذا عاشت الجماهير في البلدان العربية الفقيرة (أي غير النفطية) حالة من الفقر الشديد، وصل أحياناً إلى حدّ الجوع، بينما عاشت فئات قليلة حياة مترفة.
لقد ولّد هذا الانقسام، وقادت هذه الحالة، إلى انتعاش الحركة الجماهيرية، واندفاعها في نشاط محموم، إلى تحوّل ركودها الطويل إلى انتفاضة عارمة، تحدث دورياً، وكلما ازدادت حالة الفقر، بسبب تعم التبعية (وهذا خيار مرتبط بسياسات الفئات الحاكمة الاقتصادية، وما دامت حاكمة، فإن التبعية تتعمق وتزداد مفاعيلها الداخلية)، كلما تزايدت الإنتفاضة، واتسعت وازداد تأثيرها.
في هذا الوضع، أي وضع تزايد النشاط الجماهيري. ما هو وضع الحركة السياسية الراهنة؟ وما هو المطلوب من القوى الثورية؟
وضع الحركة السياسية
تنتصر الثورة حينما تتحد الحركة السياسية بحركة الجماهير الثورية، ولا يتم ذلك إلى حينما تتبنى الحركة السياسية أهداف الجماهير، وتدافع عنها.
ولقد اتسمت الحركة السياسية العربية في السنوات الأخيرة بأحد سمتين الأولى: الإصلاحية، والثانية: الطفولية والانقلابية والتآمرية. وهذه وتلك أبعد الحركة عن الجماهير إلى حدٍّ كبير. لأن الاتجاه الإصلاحي يركز على «ضرورة اقناع» الفئات الحاكمة بتحقيق مطالب محددة، لا تكون ثورية في جوهرها، ولهذا تقيم علاقاتها الأساسية مع هذه الفئات، وقد تتحالف معها في بعض الأحيان. أما القوى الطفولية (الانقلابية والتآمرية)، فإنها تعتقد أن التغير يتم بتصفية الفئات الحاكمة، (مستخدمة أسلوب القتل، أو الإزاحة)، وهي انطلاقاً من ذلك لا تجد أن للجماهير دوراً، سوى التأييد. وهذه وتلك لا تجدان كبير دور تقوم به الجماهير، سوى «التأييد والدعم والمساندة». وهما معاً لا تطرحان قضايا الجماهير الأساسية، ولا تدافعان عنها، ولا تخوضان معاركها.
ولقد أظهرت الانتفاضة التي حدثت في مصر وتونس، والمغرب، والسودان (ويمكن استثناء الانتفاضة الأخيرة جزئياً)، أن القوى السياسية، عدى قوى محدودة، تقف على الحياد، حين يتفاقم الصراع بين الجماهير والفئات الحاكمة، وتتخذ مواقف مرتبكة مهزوزة، لكنها في جوهرها إصلاحية، فهي لا تطالب بإزالة الفئات المستغلة الحاكمة، وتأسس سلطة جديدة، تعبر عن مصالح الجماهير، بل تطالب السلطة القائمة بتحسين أوضاع الجماهير، أي تخفيف الظلم عنها وإعطائها بعض الحقوق المحدودة. وهي تأمل من النظام تحقيق ذلك.
وإذا كانت الانتفاضة الجماهيرية، لحظة زمنية، تقيم هذه الجماهير من خلالها الحركة السياسية، لأن الجماهير وهي تخوض معركة وجودها، تكون في لحظة حساسة، تستطيع من خلالها تقييم القوى المختلفة، في موقفها من الانتفاضة ذاتها، وفي دفاعها عن المطالب الجماهيرية لذلك كانت الانتفاضات المتتالية لحظات «اكتشفت» الجماهير أنها وحدها في المعركة، وأن الحركة السياسية تعيش «أحلاماً» لا تمت بصلة لـ«حلم» الجماهير، حلمها في التحرر، وإزالة الاستغلال.
لهذا نستطيع القول إن الحركة الجماهيرية تتجاوز اليوم الحركة السياسية التي نشأت منذ أكثر من ثلاث عقود، وتبرزها كقوى إصلاحية.
الحركة الجماهيرية والمهام الثورية
إن تصاعد النشاط الجماهيري الثوري، وتجاوز الجماهير لـ«خمولها» و«ركودها»، و«لا مبالاتها»، يفرض مهام جديدة، مهام ثورية محددة. إن انتصار الثورة، يعتمد على انجسام الحركة السياسية مع الحركة الجماهيرية، من خلال تبني مطالبها وأهدافها، ومن خلال النضال لتحقيقها، وهذا يتطلب خوض معاركها وقيادتها في ميادين الصراع.
إن أولى المهام التي يفرضها النشاط الثوري للجماهير. هي مهمة تبني المطالب الاقتصادية (المعاشية) فالجماهير تعيش ظروفاً قاسية، ووضعاً صعباً، إنها لا تستطيع العيش. حيث إنها لا تحصل من الماثل ما يكفي لتجديد حياتها، إنها تموت جوعاً أو تكاد وهي ترى أن هناك من يعيش حالة نعيم وترف وما دامت الحركة السياسية هي تعبير عن طبقة محددة، فإن القوى الثورية، مطالبة (وهي ثورية لأنها تعبِّر أساساً عن مصالح الجماهير الشعبية) بأن تعتبر أن من مهماتها الأساسية، أن تسعى لكي تعيش الجماهير حياة كريمة، من خلال إزالة الاستغلال الطبقي الواقع على كاهلها، وتحسين ظروف معيشتها، بما يجعلها قادرة على العيش، وعلى التمتع بهذه الحياة.
وهنا يجب أن نميز بين خطين، الأول يطالب بتحسين أوضاعها عن طريق استجداء عطف الفئات الحاكمة، أو محاولة «إقناعها» بذلك وهذا اتجاه إصلاحي لا يحقق النتائج المطلوبة، لأن الفئات الحاكمة، وهي فئات برجوازية (كمبرادورية، طفيلية، بيروقراطية)، تسعى لمراكمة رأسمالها وتسهيل نهب الشركات متعددة الجنسيات، وهذه السياسة تفرض عليها إفقار الجماهير لا تحسين أوضاعها، لأن إفقار الجماهير هو الطريق الوحيد الذي يراكم ثرواتها، ويرضي شره الشركات الاحتكارية. أما الخط الثاني، فيعتقد أن تحسين أوضاع الجماهير لا يتم، إلى حين تستطيع الحركة الثورية إسقاط الفئات الحاكمة، وإتباع سياسة اقتصادية مختلفة، تقوم على أساس إلغاء التبعية وتجاوز التخلف.
ولهذا فالمطلوب تبني المطالب الجماهيرية، بأفق ثوري، لا أفق إصلاحي.
وهذه القضية تطرح مهمة جوهرية، وهي قضية السلطة السياسية، فالسلطة أداة طبقة أو فئة، تسعى من خلالها لفرض سياساتها كلها، ويكون الجيش (وأجهزة المخابرات) أداة القمع التي تضمن قدرة الفئات الحاكمة على ضبط النشاط الجماهيري، وإخضاع الحركة السياسة. ولهذا فإن تحسين أوضاع الجماهير من خلال إزالة التبعية وتجاوز التأخر، يقتضي مواجهة السلطة الحاكمة، وإسقاطها، لإسقاط خياراتها السياسية والاقتصادية وتأسيس خيارات جديدة، تخدم الجماهير الشعبية خصوصاً أن النشاط الجماهيري يصطدم بقوة قمع السلطة وعنفه وهذه هي المهمة الثانية.
وإذا كانت النضالات المطلبية هي البارزة لدى الكتلة الأساسية في الوطن العربي. إلا أن ذلك يقتضي ربط النضال الاقتصادي بالنضال السياسي. والنضال المحلي بالنضال القومي. لترابط هذه الأمور ترابطاً وثيقاً.
فالنضال لتحسين أوضاع الجماهير، الذي يصطدم بهيمنة الفئات الحاكمة، وبرفضها هذه الصيرورة، يصطدم أيضاً بالسيطرة الإمبريالية، بوجهيها الاقتصادي والسياسي، وقد يصطدم أيضاً بوجهها العسكري. وهذا يقتضي النضال ضد الإمبريالية كقوة سيطرة خارجية، وضد أدواتها.
كما أن ذلك يقتضي النضال من أجل توحيد الوطن العربي. لأن النمو الاقتصادي (بمعنى إزالة التبعية وتجاوز التخلف) مستحيل دون الوحدة بسبب النقص الأساسي الذي تعانيه كل دولة من الدول القامة (الأيدي العاملة، الأرض الزراعية، رأس المال، الخبرات...)، كما بسبب الحاجة للسوق الواسع القادر على استيعاب نهضة صناعية كبيرة.
وهذه مهمة ثالثة.
يبقى الدور العملي، فالجماهير حين تخوض غمار النشاط الثوري. ترفض القوى المحايدة، أو الإصلاحية، وهي تفترض من القوى الثورية أن تلعب دوراً طليعياً. أي أن «تدخل المعركة»، تقودها في انتفاضتها، وتكون في مقدمة القوى المقاتلة وعلى هذا الموقف يتوقف انتصار الثورة.
فهل تحقق القوى الثورية العربية الثورة القومية الديمقراطية؟.
سؤال من الضروري أن تجيب عليه القوى الثورية ذاتها في المرحلة القادمة.




























4
الطبقة العاملة والأزمة الاقتصادية
ولاشك أن الطبقة العاملة العربية، تعاني أكثر من غيرها من الطبقات من الأزمة الاقتصادية التي تحصل عليها، هي من أدنى الأجور، ولأن إمكانيات زيادة أجورها محدودة أكثر من غيرها، وبالتالي تتأثر بشكل أسرع في الارتفاع الهائل لأسعار السلع والخدمات، كما تنعكس كل سلبيات الأزمة الاقتصادية عليها بشكل أكبر.
ولهذا فهي معنية بتحسين ظروفها، لكنها معنية أساساً، ولأنها معنية بتحسين ظروفها ـ بتحسين الظروف العامة في المجتمع، إن معركتها الخاصة، هي معركة الوطن العامة. من هنا يأتي اهتمامها، ليس فقط بتحسين أجورها، بل وبتحقيق نهضة شاملة.
إن الطبقة العاملة العربية تعيش حالة استغلال وقهر شديدة، لأن تزايد اندماج المجتمع العربي بالسوق الإمبريالي خلال السنوات الماضية، وتزايد التبذير ونهب القلة الحاكمة، قد ساهم في انهيار البنية الإنتاجية وحوّل السوق العربي إلى سوق مستورد لك أنواع السلع والبضائع من السوق الإمبريالي، مما أوجد ارتفاعاً هائلاً في الأسعار، دون ارتفاع مناسب لمستوى الأجور.
وكان العمال العرب أوّل المتضررين من كل ذلك، حيث إن مستوى دخلهم يمثل أدنى مستوى بين مختلف الطبقات بشكل عام
والطبقة العاملة لذلك تعاني أشد أنواع الاستغلال ممثلة في القضايا التالية:
1ـ تدني الدخل تدنياً كبيراً مما يوجد نمطاً استغلالياً شديداً.
2ـ اللجوء إلى العمل أكثر من ستة عشر ساعة، أي العمل في ظروف قاسية. إن تدني مستوى الدخل يدفع الطبقة العاملة إلى العمل في «وظيفتين»، دون أن تحقق ذلك تحسناً معقولاً في مستوى المعيشة.
3ـ تعقد أزمة السكن والمواصلات تعقيداً كبيراً زاد من أزمة الطبقة العاملة وساهم في سوء وضعها إلى حدّ كبير.
4ـ افتقار الظروف الصحية المناسبة، رغم القوانين التي أصدرتها الأنظمة بخصوص الضمان الصحي.
وهي لذلك تعيش حالة من الفقر المدقع، وتعاني أزمة شديدة. ولذلك نمت مدن «التنك» حول المدن الأساسية، وتوسعت الضواحي، وزاد عدد العاطلين عن العمل.
والطبقة العاملة العربية تعاني كذلك من أزمة الديمقراطية التي يعيشها الوطن كله، وكان نصيبها كبيراً، حيث ألغيت حقوقها الأساسية في معظم الأقطار، حقوق الإضراب والتظاهر، والتنظيم، وتحوّلت نقاباتها في العديد من الأقطار إلى ملحق بالأنظمة، وتخدمها في كبح نشاطها وضبط حركاتها، وكشف العناصر الثورية فيها. وبذلك افتقدت أدواتها ووقفت عزلاء في الصراع الكبير ضد القوى المستغلة (بكسر الغين)، وضد الإمبريالية عامة، والأميركية خاصة، وضد الكيان الصهيوني.
لقد ضاع دورها خلال السنوات الماضية، وعاشت أزمتها دون أن تستطيع التعبير أو الفعل.
والطبقة العاملة العربية تعيش أزمة الوطن، وهي الأزمة التي تعمقت خلال السنوات الماضية، أزمة الوجود الصهيوني، وأزمة تزايد الوجود الإمبريالي الأميركي، وأزمة رسوخ الأنظمة الرجعية العربية. فعانت من كل ذلك، وعانت من التجزئة السياسية والتخلف الاقتصادي الاجتماعي، معاناة كبيرة. حيث تزايد الدور الصهيوني وتوسع الكيان الصهيوني، فاحتل أراض جديدة، وهو يتهيأ لحروب جديدة، ولتوسع جديد. وزاد التواجد الإمبريالي الأميركي المباشر وغير المباشر، العسكري والسياسي والاقتصادي، وأصبحت الولايات المتحدة القوة المقررة لمصير الوطن، والمتحكمة بخيراته، والساعية لمنع تحرره، وتقدمه. وفي ظل ذلك ازداد دور الأنظمة الرجعية العربية، واستطعت فرض سطوتها، وسيطرتها، وأنشأت من الأجهزة القمعية ما يسمح ببقائها، ويسمح لها بقمع الحركة الثورية.
ولذلك تعمقت التبعية للإمبريالية الأميركية، وازدادت الأراضي المحتلة، ولازال خطر الاحتلال قائماً.
وإذا كان تزايد الهيمنة الإمبريالية، والتوسع الصهيوني، والتسلط الرجعي يزيد من مشاكل الطبقة العاملة السياسية والاقتصادية، ويهدد وجودها ويزيدها فقراً. فإن تعمق التجزئة وبقاء التخلف يوجدان مشاكل من نوع جديد. إنهما يوجدان المشاكل التالية:
أ) مشاكل السفر والإقامة واجتياز الحدود بين الأقطار المختلفة والوقوع تحت ضغط إمكانيات الطرد والتسفير، وهي مشاكل معقدة، تزيد من استغلال الطبقة العاملة، ومن همومها ومشاكلها. إنها مشكلة الوطن المجزأ، الذي يعتبر العرب فيه أجانب.
ب ) مشاكل المنافسة نتيجة تفاوت الدخل بين قطر وآخر، مما يدفع فئات من الطبقة العاملة العربية القبول بمدخول أدنى من الفئات الأخرى. وهو ما يقود إلى التناحر، وتشجع الأنظمة ذلك لكي تحوّل الصراع من صراع بين العمال العرب والفئات المستغلة (بكسر الغين) إلى صراع داخل الطبقة الواحدة.
ج) مشاكل غياب الإطار النقابي الموحد الذي يدافع عن الطبقة العاملة العربية كلها، في مختلف أماكن عملها، بغض النظر عن «الجنسية» التي يحملها العامل.
إن الطبقة العاملة العربية تعاني من مشكلة التجزئة، أكثر من غيرها، وأصبحت الحدود السياسية عائقاً هاماً أمام تنقلها في البحث عن فرض العمل، وأصبحت «الجنسية» وسيلة لزيادة استغلالها، وإبقائها تحت طائلة الطرد وحرمان العمل. ولذلك فإنها معنية بوحدة الوطن القومية، اهتمامها بتحسين أوضاعها، وإزالة الاضطهاد والاستغلال.
ولهذا فإن الطبقة العاملة معنية بأن تلعب دوراً أساسياً، ليس على الصعيد المطلبي فقط، بل وعلى الصعيد السياسي أيضاً وأساساً. إنها معنية بقضية الوطن، بمختلف تفرعاتها (السيطرة الخارجية، التجزئة) كما هي معنية بقضية النهضة الشاملة، التي تحقق تقدم الوطن ووحدته، واستقلاله.
أما على الصعيد المطلبي فهي معنية بالنضال من أجل:
1ـ تحسين ظروفها المعاشية، وإيجاد الظروف المناسبة لها (ساعات العمل والأجر، والظروف الصحية والسكن الخ...).
2ـ إيجاد نقاباتها، أداتها في النضال المطلبي.
3ـ المساهمة في خوض معركة الوطن، معركة تحرره ووحدته، وتقدمه، والعمل على التوحد مع الفلاحين الفقراء، لخوض هذه المعركة.
4ـ خوض معركة الحريات الديمقراطية، حرية التظاهر والإضراب، وتكوين الأحزاب، والمعتقد.
والعمال العرب مدعوون لخوض معركة الوطن ومعركتهم جزء منها، فهذا هو طريقهم.
من أجل إزالة الاستغلال، وتحقيق التقدم.
وهذا لا يتحقق إلا إذا لعبت الطبقة العاملة العربية، دوراً طليعياً في النضال، من أجل هزيمة الإمبريالية، وتصفية الكيان الصهيوني، من أجل الاستقلال الاقتصادي، وتصفية الطبقة المستغلة ـ الحاكمة، ومن أجل تحقيق الوحدة القومية العربية. إن الطبقة العاملة العربية معنية بأن تكون قوة الصدام الأساسية وقوة التغيير الحقيقية، من أجل تحقيق الثورة القومية الديمقراطية، وتهيئة الظروف من أجل الانتقال إلى الاشتراكية.
أيها العمال العرب، الحرب حربكم وعليكم خوضها.










طريق الانتفاضة

إذن الانتفاضة ضرورة، لأن الظروف الواقعية تجعلها كذلك. إن تفاقم حالة الإفقار، نتيجة السياسة الطبقية التي تمارس في ظل سيادة نظام التبعية، تفرض حدوث الانتفاضة، ولهذا من الضروري فهم تطور النشاط الجماهيري، وتلمس الآفاق التي يمكن أن تصل إليها.
وإذا كان تعمق التبعية، وتكريس سيطرة البرجوازية التابعة، يفرض الانتفاضات، فلابد من ملاحظة أن لا أفق واضح لها، فهي انتفاضات عفوية، تعبّر عن شعور بالرفض في لحظة معينة. وإذا كانت استفادت فئات من الطبقة المستغِلة، من هذه النقمة العارمة، من أجل إجراء تحويل شكلي يخدم فئة مستغِلة، بالضد من فئة مستغِلة أخرى، فإن الخروج من هذه الدوامة، وإزالة الاضطهاد الذي تعيشه الجماهير، يفرض إدخال عوامل جديدة، إن السمات التي تسم هذه الانتفاضات، كما أوضحنا سابقاً، هي أنها تنفجر في لحظة محددة عفوياً، دون تنظيم ودون هدف جذري. ثم إنها تعتمد وعي الجماهير، الذي يتأثر بالايديولوجيا السائدة، في الماضي، والايديولوجيا السائدة في الحاضر، مما يجعلنا نقول إنها تمتلك وعياً زائفاً لا يعبّر عن مطامحها الحقيقة، وبالتالي لا يسمح لها تأسيس دور عملي جذري، يفضي إلى تحقيق أهدافها.
وهنا تكون العوامل الجديدة، هامة للغاية، لأنه من المفترض أن تسهم في تأسيس حالة الانتقال النوعي، من الوعي الزائف إلى الوعي المطابق، من العفوية إلى التنظيم. ونحن نتكلم هنا عن الحزب السياسي القادر على تحقيق هذه النقلة النوعية، الحزب القادر على تنظيم الطبقة العاملة، والفلاحين الفقراء، وعلى تشكيل أوسع جبهة طبقية، من أجل تعميق الحركة الجماهيرية، وتحويل الانتفاضات، إلى انفجار ينهي الاستغلال، ويعيد بناء المجتمع من جديد. كيف؟ هذا ما يحتاج إلى إجابة.










ملحق:
السودان:
البرلمان بعد 17 عاماً
من الحكم العسكري
بعد فترة سبعة عشر عاماً من الحكم العسكري، عادت السودان للحكم البرلماني. وكان هذا مطلب القوى السياسية المختلفة التي عارضت نظام جعفر النميري، وأسهمت في انتفاضة 6 نيسان من عام 1985. ورغم أن الجيش هو الذي استمر في الحكم بعد إسقاط جعفر النميري، ورغم خوف بعض القوى من أن لا يفي العسكر بوعوده، التي قطعها على نفسه حين استلم زمام الأمور، وخصوصاً الوعد بإجراء انتخابات ديمقراطية، وتسليم السلطة للمدنيين، فقد نفذ المجلس العسكري الانتقالي وعده، وانتهى الحكم العسكري.
لذلك يمكن القول إن السودان يقف على أبواب مرحلة جديدة، لها سماتها، لكن يبقى التساؤل الأساسي، هو: هل تستمر التجربة، أم تنتكس كما انتكست التجارب السابقة، أعوام 53 ـ 58، و64 ـ 1969؟ وانتكاس التجارب السابقة، يزيد من أهمية البحث الجدي في آفاق التجربة الجديدة، ويطرح التساؤلات الكثيرة، حول أسباب انتكاس التجارب الماضية، وتشابه هذه التجارب مع التجربة الحالية، ومن إمكانيات نجاح التجربة الجديدة.
من المعروف أن فرز الأصوات، أظهر حصول حزب الأمة الممثل لطائفة الأنصار، على 99 مقعداً، والحزب الاتحادي الديمقراطي، الممثل لطائفة الختمية على 63 مقعداً، والجبهة الإسلامية (أي حركة الأخوان المسلمين) الممثلة للبرجوازية الطفيلية الإسلامية، ولبقايا نظام نميري، على 51 مقعداً، وأحزاب الجنوب على 27 مقعداً، والحزب الشيوعي السوداني على ثلاثة مقاعد.
والملاحظة الأولى في هذا المجال، أن نتيجة الانتخابات، لم تختلف كثيراً عن نتائج معظم الانتخابات السابقة. فقد حصل «الحزب الوطني الاتحادي» الذي أصبح إسمه الحزب الاتحادي الديقمراطي، على أغلبية المقاعد في أول انتخابات جرت في السودان. لكن انقسام الحزب، أدى إلى تفوق حزب الأمة، الذي حصل على أعلى نسبة من المقاعد في الانتخابات الثانية التي جرت عام 1958، والثالثة التي جرت عام 1965، يليه الحزب الاتحادي الديمقراطي. وهي ظاهرة بحاجة إلى الدراسة، لأنها تدل على استقرار وضع هذين الحزبين، رغم تغير الظروف، ورغم فشلها في كل مرة حكمت فيها.
لكن تغير الظروف انعكس على الجبهة الإسلامية، التي يبدو أنها استفادت خلال فترة تحالفها مع جعفر النميري، لكي تؤسس قاعدة اجتماعية، أهلتها لمضاعفة مقاعدها عشر مرات مما حصلت عليه في انتخابات عام 1965، أي من خمسة مقاعد حصلت عليها عام 1965 إلى واحد وخمسين مقعداً حصلت عليها في الانتخابات الأخيرة. وهذه نتيجة مذهلة، لأن الجبهة تحالفت مع جعفر النميري، وشاركت في سياساته المختلفة، وآخرها «تطبيق الشريعة» الإسلامية، الذي أدى إلى حدوث مآسي كبيرة. هذه السياسات التي ثارت الجماهير ضدها. لكن من الواضح أن هذه النتيجة عبرت عن سعة الفئة التي استفادت من نظام جعفر النميري، من خلال عملها في السرقة، والنهب والسوق السوداء، هذه الفئة التي ـ كما هو واضح ـ دعمت الجبهة، بسبب التحالف السابق بينهما.

3 أسباب لهذه النتيجة
وانعكس تغير الظروف أيضاً على الحزب الشيوعي السوداني حيث تقلص تمثيله عن انتخابات سنة 1965، فقد حصل في هذا الانتخابات على ثلاثة مقاعد، بينما حصل عام 1965، على إحدى عشر مقعداً. هذا رغم الدور الذي لعبه ضد نظام جعفر النميري، والشهداء الذين قدمهم في هذا السبيل، وخصوصاً الأمين العام للحزب عبد الخالق محجوب، والشفيع، وآخرين.
فعن ماذا تعبر هذه النتائج إذن؟ يمكن رصد ثلاثة أسباب على أقل تقدير، نستطيع تلخيصها بالتالي:
1ـ إن طبيعة «النظام الشمولي» الذي أسسه جعفر النميري، والذي طال مختلف فئات الشعب، أدى إلى الشعور بالحاجة للديمقراطية، لكي تجد الجماهير متنفساً، حتى للتعبير عن جوعها، وليس فقط لتجاوز هذا الجوع. لهذا أنصب التأييد للحزبين الكبيرين باعتبارهما الحزبين الليبراليين الأساسيين، ولقد دلت التجارب الديمقراطية الماضية على ذلك.
2ـ لكنه يدل أيضاً على ثبات الارتباط الطائفي، وربما تعمقه، حيث دعمت كل طائفة حزبها، ودعمت الفئات المتزمتة، الجبهة الإسلامية، وهذا يدلل على استمرار التعصب الطائفي، في التحكم في اختيارات الجماهير.
3ـ كما يدل على ضعف القوى الوطنية والديمقراطية، التي لم تستطع الإسهام في أن تتجاوز الجماهير هذا التعصب الطائفي، وأن تتحلق حول الأهداف السياسية الأساسية، التي تسمح بأن يتجاوز السودان أزمته الاقتصادية والسياسية.
لكن تطرح نتائج الانتخابات تساؤلاً آخر، يتعلق بإمكانية أن تؤدي هذه النتائج إلى أن يتجاوز السودان الأزمة التي يعيشها منذ مدة طويلة، أي مشكلة التخلف والجوع، والتي تفاقمت في فترة حكم جعفر النميري؟
خيارات القوى المنتصرة
إذا كانت قضية تحقيق الديمقراطية، هدفاً طرحته انتفاضة 6 نيسان 1985، فقد كانت الهدف الأقل أهمية، لأن التفكير بالديمقراطية انطلق في التفكير بإيجاد السبل التي تفتح الآفاق لحل المشكلات الأكثر عمقاً وخصوصاً المشكلة الاقتصادية، ومشكلة الجنوب. لأن المشكلة الاقتصادية أدت إلى اتساع الفئات التي تعيش في حالة فقر مطلق، حتى شملت أغلبية السكان، وجاء الجفاف الذي حدث بداية عام 1985 ليقود إلى تشرد الآلاف. أما مشكلة الجنوب فإنها تهدد بتصاعد الصراع، مما يهدد السودان بحرب طويلة دامية، تزيد من تعمق المشكلة الاقتصادية، وتقود إلى مآس كبيرة، لا يمكن حساب نتائجها.والآن، وبعد أن أصبحت القضية الديمقراطية حقيقة واقعة (حتى ولو مؤقتاً) تنطرح المشكلتين الأخريتين، كمشكلتين تحظيان بالأولوية. فهل تستطيع الوزارة الجديدة، المشكلة من الحزبين الكبيرين، وبعض الأحزاب الصغيرة، حلهما؟
إذا انطلقنا من نتائج التجارب الماضية، التي حكمت فيها هذه الأحزاب (وخصوصاً حزبي الأمة والاتحادي الديمقراطي)، نصل إلى نتيجتين؛ أولهما أن هذه الأحزاب، تمتلك سياسات اقتصادية، تفاقم من مشاكل السودان، لأنها تعتمد على فتح آفاق النهب للقطاع الخاص، نتيجة اقتناعها بضرورة سيادة الاقتصاد الحر، وهذه السياسة، لا تسمح في جاوز التخلف، لأنها تقوم على أساس تشجيع القطاع التجاري أساساً، دون الاهتمام في القطاعين الهامين في التطور الاقتصادي، ونعني بهما القطاع الصناعي والزراعي. وبالتالي فإنها تفاقم من حالة التمايز الطبقي، فتنعم القلة المستغلة، وتفقر الكثرة المستغلة. وثانيهما أن هذه الأحزاب تميل إلى التنافر والصراع، مما يؤدي إلى مراكمة المشاكل الاقتصادية الاجتماعية والسياسية، ومن ثم استشراء الفوضى في أجهزة الدولة والبلد عموماً. وكانت هذه الحالة، هي التي تؤدي إلى حدوث الانقلاب العسكري، وتسلم الجيش للسلطة.
والآن لا يبدو أن هذه الأحزاب تمتلك سياسات غير السياسات التي مارستها في التجارب الماضية، رغم أنها تبدو حريصة على عدم مفاقمة المشاكل بينها، بهدف خلق نظام ديمقراطي مستقر.
ولعل تجاربها الماضية أقنعتها بأهمية ذلك. أما على صعيد الأزمة الاقتصادية فلا يبدو أيضاً أنها قادرة على حلها، لأنها تطرح خيارات تقوم على أساس السماح للفئات الرأسمالية بالعمل بحرية تامة، وإن كانت حاربت «الطفيلية العسكرية» التي استغلت السلطة للنهب، دون وازع، مما أضر بالفئات الرأسمالية المختلفة. وإذا كانت تستفيد من المساعدات والقروض التي سوف تحصل عليها، في تسكين الأزمة، أو مواجهة المجاعة التي خلقها الجفاف، فإنها لن تحد من نهب الفقراء، مما سوف يؤدي إلى تصاعد النضالات الجماهيرية، المطالبة بتحسين أوضاعها المعيشية، لتقف هذه القوى في الطرف المقابل للجماهير، والمناهض لها.
أما فيما يتعلق بمشكلة الجنوب، فما تطلبه الحكومة الجديدة، لا يشير إلى أن هناك إمكانية للتوصل إلى حل، لأنه تطالب حركة تحرير شعب السودان بإلقاء السلاح، قبل الوصول إلى اتفاق. ويعني هذا الشرط أن يستسلم الجنوبيون، أو يتفاقم الصراع. وتشير كل الدلائل إلى احتمالات تفاقمه، وهذا يعني نشوب حرب تهز أوضاع السودان كلها.
في إطار هذه الأوضاع، تثار الشكوك حول إمكانيات نجاح التجربة الديمقراطية، لأن مشكلة الجنوب تدفع نحو التأزم. ولأن الأزمة الاقتصادية سوف تحتل المكانة الأساسية.
وإذا كنا لا نريد استباق الأحداث، ولا الحكم على التجربة قبل الآن، خصوصاً أن اشتداد القمع في مناطق عديدة من الوطن العربي، يجعل المناضلين يرون جدوى في وجود أنظمة ديمقراطية، إلا أنه لابد أن نشير إلى أن هذه الأوضاع، سوف تدفع نحو الفوضى، إذا لم تلعب القوى الوطنية الديمقراطية السودانية دوراً في استقطاب الجماهير، وتوجيهها نحو الخيارات التي تسمح بتجاوز الجوع والتخلف. وتكون نتيجة الفوضى عادة، هي تدخل الجيش، وسيطرته على الحكم.

الانتخابات المصرية
هل هذه صيغة الديمقراطية
إن ظروف القمع جعلت المسألة الديمقراطية مطلباً ملحاً لدى فئات كبيرة من المناضلين والمثقفين، الذين رفعوا شعارات حقوق الإنسان، والحريات الديمقراطية.
من هذا المنطلق يكتسب تقييم الانتخابات المصرية أهمية معينة. فهل هي الصيغة الديمقراطية المرجوة؟ لذلك كان من الضروري دراسة الظواهر العامة التي أبرزتها هذه الانتخابات، التي هي الظواهر ذاتها التي جاءت بها كل الانتخابات السابقة.
إن دراسة تلك الظواهر، تظهر ثلاث ظواهر أساسية، جديرة بالدراسة والتدقيق، والخروج، باستنتاجات، أولها: أن النتائج الرسمية (التي أصدرتها وزارة الداخلية) تشير إلى أن نسبة الذين أدلوا بأصواتهم هي 50% من الذين يحق لهم الانتخاب، بينما تشير أحزاب المعارضة، ومنها حزب التجمع أن النسبة أقل من 15%، ألا يحق لنا الوقوف أمام هذه النسبة؟ إن تغيب هذه النسبة عن التصويت له دلالاته الهامة، التي علينا الخروج باستنتاجات تليق بها. فلماذا يتغيب 50% (حسب النتائج الرسمية) أو 85% (حسب تقديرات أحزاب المعارضة)؟ إن الإجابة لدى البعض هي غياب القيم الديمقراطية لدى الجماهير الشعبية التي لا تعرف حقوقها، وهذه جزئياً صحيحة، لكنها لا تعطي الجواب المحدد. فهل تلك الجماهير بعيدة عن الظروف العامة التي تجري فيه الانتخابات، لكي يكون هذا السبب كافياً لتفسير ظاهرة التغيب؟ أم أنها نوع من أنواع الاحتجاج السلبي؟ إنه السمة المعروفة عن كل انتخابات في البلدان المتخلفة، هو أنه يجري تزويرها، وأعتقد أن هذا الفهم شائع إلى الحد الذي يستدعي النكات اللاذعة، ولهذا تعرف الجماهير أن لا حاجة لأصواتها، لأن هناك من قد تقرر نجاحه، وهناك من يملأ الصناديق نيابة عنها، فنراها لا تولي اهتماماً بالانتخابات.
وهنا نجد أن التفسير السابق يشكل أساساً لموقفين لدى الجماهير، الموقف الأول الذي لا يرى ضرورة لاشتراكه لأن الانتخابات سوف تأخذ سياقها المعتاد، لكي تضفي الاستقرار على السلطة بمعنى أنه لا يتخذ أي موقف سواء كان سلبياً أم إيجابياً، فدولاب الحياة سائر كالمعتاد. والثاني هو الذي لا يرى أن هذا الطريق هو الطريق الذي يمكن من خلاله التعبير عن مطامح محددة، وباختصار أنه ليس طريق انتصار اختيار جديد يمثل مصالح الجماهير، وهذا يعني اتخاذ موقف سلبي يعبر عن الاحتجاج، والظروف الاقتصادية الاجتماعية العامة هي التي ترجح أي من الموقفين، وهذا ما يجعلنا نقول إن حالة الإفقار المطلق التي تعيشها الجماهير المصرية، جعلتها لا ترى في هذا الطريق طريق التغيير.
هنا يطرح سؤال بسيط، إذن ما قيمة الانتخابات؟
أما الظاهرة الثانية فهي ظاهرة التزوير التي أحاطت بالانتخابات، والتي وصلت إلى حد أن القضاء (الذي هو أهم ما في الديمقراطية المصرية) أصدر حكماً ببطلان انتخاب مائة عضو من أصل أربع مائة (أي أنه أوقف ربع النتائج) لثبوت التزوير فيها. هذا إضافة إلى كل المظاهر التي تحدثت عنها أحزاب المعارضة ذاتها، وهذا يطرح السؤال التالي:
هل من الممكن أن يسمح نظام يمارس الاضطهاد الطبقي ضد الجماهيرية الشعبية، أن ينجح ممثلي الجماهير، ويسقط ممثليه؟ لقد أظهرت الانتخابات المصرية، أن الدولة بكل قوتها كانت تدافع عن «عناصرها»، لهذا استخدمت أموال الدولة لمصلحة الحزب الوطني الحاكم، واستخدمت الشرطة، والمخابرات، باختصار كل جبروت السلطة لإنجاح «الحزب الحاكم».
وهذا يطرح السؤال حول جدوى الانتخابات؟
أما الظاهرة الثالثة فهي ظاهرة سقوط اليسار، وهذا هو ما يهمنا بالتحديد، طبعاً أن نجد الإجابة، أو جزءاً غالباً منها في الظاهرتين السابقتين، فأولاً:
إن الجماهير التي غابت عن الانتخابات هي احتياط اليسار، وثانياً
إن التزوير ينجح الموتى، فكيف لا ينجح حزب السلطة؟ ولربما كان قصور اليسار سبباً، لكنه سبب سمكن أن يؤدي إلى نجاح البعض، وليس نجاح اليسار عموماً، فمثلاً يستغرب المرء سقوط مرشح يساري، هو أبو العز الحريري، ذلك المناضل الذي كان ينجح في كل انتخابات، حتى حينما كان السادات قوياً «مُهاباً»، أو سقراط خالد محي الدين أمين عام حزب التجمع في منطقته الانتخابية، أو لطفي واكد، وهي مناطق مغلقة لهؤلاء شعبياً.
إن كل ذلك يطرح قضية جدوى اشتراك اليسار في الانتخابات.
إن هذه الظواهر الثلاث تقول إن الجماهير تستنكف عن الاشتراك، لأنها لا ترى فائدة في هذه الصيغة الديمقراطية، وأن السلطة تجدد ذاتها «ديمقراطياً»، وهي لذلك تزور وتبطش، وتسرق صناديق الاقتراع لكي تملأها رزما تنجح «الحزب الحاكم» وبالتالي يسقط اليسار، يهزم «ديمقراطياً».
هنا نجد أننا أمام أحد خيارين، الأول: أن يكون الهدف «تعميق الديمقراطية» لكي يجد اليسار موقعه في اللون السياسي في «مجلس الشعب»، لذلك يكون المطلوب، الحديث عن قصور هذا اليسار، وعن لحاجة لتعميق «الوعي» الديمقراطي لدى الجماهير كي تسهم في الانتخابات، وبالتالي لفرض دور يساري في هيئات الدولة التشريعية، والثاني: أن يجري الربط بين الديمقراطية، والمشكلات الاقتصادية الاجتماعية التي تعيشها الجماهير، من أجل الوصول إلى الإجابة على السؤال التالي: هل يؤدي الطريق الديمقراطي إلى التغيير.
وبالتالي تكون القضية، هي: ليس الإجابة على سؤال لماذا لا تكون الجماهير معنا في الطريق الديمقراطي، بل كيف نكون مع الجماهير في التعبير عن مشكلاتها؟


الفهرس
مدخل: هذه الانتفاضات.. وأزمتها........
1ـ التبعية وأزمة المجتمع العربي...
2ـ دور الجماهير...
3ـ النهب الإمبريالي يؤدي إلى حالة الإفقار المطلق...
4ـ الطبقة العاملة العربية وأزمة الاقتصاد والوطن....
5 ـ طريق الانتفاضة.....
ملحق...........



#سلامة_كيلة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- في مواجهة إقتصاد السوق
- بعد عرفات، إحتمالات قاتمة؟
- ثورة اكتوبر ، محاولة للتفكير
- ما هي الماركسية؟
- الماركسية و الاشتراكية و حرية الانتقاد
- ممكنات تجاوز الرأسمالية عودة الى ماركس
- مأزق الحركة الشيوعية العربية ملاحظات حول عوامل الإضمحلال
- مشكلات اليسار في الوطن العربي - ما العمل؟
- مشكلات مفهوم المجتمع المدني
- حول الموضوعات من أجل نقاش هادئ لمنهجية و لرؤية - مناقشة لموض ...
- هل الرأسمالية باتت - إنسانية-؟ مناقشات حول العراق
- من أجل المقاومة العراقية الشاملة- 3 - الحركة الشيوعية و مشكل ...
- من أجل المقاومة العراقية الشاملة 2 -3 المقاومة العراقية و ضر ...
- (من أجل المقاومة العراقية الشاملة(1-3 - وضع أميركا في العراق
- الخطاب -الديمقراطي- الأمريكي في -الشرق الأوسط الكبير-
- -g8-ال
- مقدمات الشمولية
- - وعد بوش- و السياسة الأميركية تجاه الصراع العربي الصهيوني
- عفوية الجماهير و دور الحركة السياسية في الوطن العربي
- دراسة الآليات التي تسمح بتحقيق المقاومة والمواجهة


المزيد.....




- الشرطة الإسرائيلية تعتقل متظاهرين خلال احتجاج في القدس للمطا ...
- الفصائل الفلسطينية بغزة تحذر من انفجار المنطقة إذا ما اجتاح ...
- تحت حراسة مشددة.. بن غفير يغادر الكنيس الكبير فى القدس وسط ه ...
- الذكرى الخمسون لثورة القرنفل في البرتغال
- حلم الديمقراطية وحلم الاشتراكية!
- استطلاع: صعود اليمين المتطرف والشعبوية يهددان مستقبل أوروبا ...
- الديمقراطية تختتم أعمال مؤتمرها الوطني العام الثامن وتعلن رؤ ...
- بيان هام صادر عن الفصائل الفلسطينية
- صواريخ إيران تكشف مسرحيات الأنظمة العربية
- انتصار جزئي لعمال الطرق والكباري


المزيد.....

- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - سلامة كيلة - عفوية الجماهير و دور الحركة الثورية في الوطن العربي