أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - طلعت رضوان - شواطىء العدل والحرية عند رمسيس لبيب















المزيد.....


شواطىء العدل والحرية عند رمسيس لبيب


طلعت رضوان

الحوار المتمدن-العدد: 3687 - 2012 / 4 / 3 - 10:36
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


بدأ الأديب رمسيس لبيب (4/8/1938- 16/11/2007) نشر قصصه القصيرة منذ الستينات. وبعدها توالت أعماله الإبداعية فى مجالىْ القصة القصيرة والرواية. فأصدر ست روايات وأربع مجموعات قصصية ضمهم مجلد واحد هو ( ملاح الشواطىء البعيدة) وكل كتبه طبعها على نفقته الخاصة. وبعد الوفاة أصرّت زوجته السيدة الفاضلة (إستر) وأبناؤه على جمع كل أعماله الروائية والقصصية ، وبعد مراجعة وتدقيق من الناقد الكبير د . سيد البحراوى صدر مجلدان يضمان هذه الأعمال الإبداعية البديعة وعلى نفقة الأسرة ، كما كان يفعل الأديب الراحل .

اللغة الفنية :
ـــــــــــــــــ
أهم ملمح فى إبداعه اللغة الفنية . لغة حريصة على إضفاء الحس الشاعرى لشخصياته : فى الحزن والفرح ، فى نشوة الشموخ والكبرياء ، وفى مرارة الذل والانكسار ، حتى وصفه للطبيعة والكائنات الحية والجماد لا يخلو من تلك الشاعرية . فالبطل فى قصة ( دفء الأيام المنسية ) يمر بحالة اغتراب وجودى فيفقد القدرة على تذكر بيته . لذلك تبدأ القصة ( وهى على لسان البطل ) وهو جالس على عتبة بيت غريب . والبرد إبر تنغرس فى لحمه . وإذْ يشعر بالبرد يقول (( الركية تتقد داخلى )) و ((السماء بلعتْ نجومها )) و ((الشمس تنزف )) ولأنّ البطل لا يرتاح لشخص الطبيب وتشخيصه لحالته ، فإنّ (( بسمته تسيل على معطفه الأبيض وترشح على نظارته )) وقصة ( الحب فوق مستطيل الضوء الشاحب ) تبدأ بوصف الصراع بين الضوء والظلمة ومن سيفوز . ونقرأ أنّ ((مسحوق الضوء ينتشر)) وعندما تبهت الظلمة وتشف (( تولد الظلال )) والكاتب يستعير الأوصاف الشائعة ليضعها فى سياقات مختلفة ، حسب الحالة النفسية والعقلية لكل شخصية . فإذا كان البشر هم الذين يستخدمون ( الوشوشة ) فإننا نجد أنّ الليل له وشوشاته . وإذا كانت الزقزقة صفة لأصوات العصافير فهى هنا للتهامس . وحفيف الشجر يكون لصوت القبل . والبطل فى قصة (الأعمى والكلاب المسعورة) عندما تكون حالته النفسية مع البهجة والتفاؤل بالمستقبل ، فإنه يرى الكلمات على شفاه الأطفال وهى (( تستحم فى دفء الشمس )) وعندما يرى حادثة قتل فى الترام دون أدنى مقاومة من الركاب ، يتوجّه لقسم الشرطة للابلاغ عن الحادثة ، فيرى المبنى ((متشحًا بالصمت . يبدو كرخام القبور)) والشرطى يبدو كالدمية. وإزاء السلبية فإنّ قسم الشرطة ((صُنع من أيادى غير بشرية .. أيادى تُعادى النبض والرقص والنور )) وتستمر الحالة الشعورية للبطل ، عندما تسود السلبية واللامبالاة التى عبّر عنها الكاتب تعبيرًا رمزيًا ، حيث قسم الشرطة يخلو من البشر المسئولين عن أمن المجتمع ، ثم تتصاعد الحالة الشعورية للبطل عندما يرى خمسة رجال ، فيود أنْ يحكى لهم عن الدماء التى رآها فيراهم ((يُضاجعون الاسترخاء . ويهيمون فى الأنفاس المخدرة ويُقهقهون فى كسل )) وعندما توسّل إليهم (( نظرتْ إليه عيون محنطة)) ولأنّ القصة إدانة للقبح ، فإنّ البطل فى نهايتها يُشاهد ((العناكب والزهور الذابلة فى مستنقع العفن)) .
وإذا كان التثاؤب صفة بشرية ، فإنّ الكاتب يجعل (( المياه تتثاءب فى كسل عند السيقان الجافة)) وحتى عندما يرى البطل حبات الترمس فى الماء فإنّ (( سطحها الراكد لا يتحرك )) وهو وصف يتسق مع حالة البطل فى قصة ( حدث فى منتصف الليل ) الذى ينتهى به إحساسه العميق باليأس من الواقع الاجتماعى إلى الانتحار. وإذا كانت المياه تتثاءب فى القصة السابقة ، فإنّ أشعة شمس الصباح الباكر أيضًا تتثاءب فى بداية قصة ( الأبيض الهادىء ) وهو وصف لصيق برسالة القصة التى تبدأ برجل نائم فى غيبوبة الموت على الرصيف أمام أحد المستشفيات ، ومع ذلك لا أحد يهتم بأمره ، رغم كثرة المُتردّدين على المستشفى . وتنتهى القصة بأنْ يوضع هذا الرجل فى صندوق زبالة بواسطة كناس الحى .
وفى قصة ( مدينة المدن والحارس العجوز ) مدينة لايدخلها إلاّ المؤمنون بسياستها ولذلك فهى محرّمة على ( واسع العينيْن ) وعلى ( واسع الفم ) وهذه القصة المنشورة عام 69 بالغة الدلالة على استخدام الرمز. لفضح بطش السلطة التى تستبعد كل من لديه ملكة الرأى والرؤية ، فإنّ سياسة البطش أدّت إلى حرق المدينة . ومع ذلك تستمر آلية الإقصاء . إذْ أنّ الحارس يرفض دخول المغضوب عليهم الطامحين للعدل ، كى يساهموا فى إطفاء الحريق . وكان الكاتب موفقًا وهو يبدأ بحالة شعورية للراوى مفعمة بالأمل . وفى النهاية تكون حالته الشعورية مغايرة تمامًا لحالته الأولى ، فى البداية يقول الراوى مُنتشيًا (( يا حبيبتى .. إذا رأيتِ عينىّ فى مراتع الأحلام تنكفىء ، وكلمات الشوق على شفتىّ تختنق فلا تتعجبى ، رحلتى كانت غريبة . حلمتُ بالرياح الهوج تفتح الأبواب الموصدة ، وأغنيتنا القديمة تطير تُشيّد المدن ، فحملتُ زاد مسافر فقير وأعطيتُ وجهى للشروق )) أما النهاية حيث حريق المدينة ، وحيث رفض الدخول للمساعدة فى إطفاء الحريق ، فإنّ الحالة الشعورية للراوى تكون على النقيض ، فيقول (( مدينتى ياحبيبتى لفظت الأنفاس . والسور ما عاد يضم قبابًا أو مآذن . أصبح سورًا للخراب ، ومن يومها لا أرى غير الدخان ، ولا أشم سوى الحريـــق ، فاعذرينى يا حبيبتى إذا رأيتِ عينىّ فى مراتع الأحلام تنكفىء ، وكلمات الشوق على شفتىّ تختنـــق )) .
وفى قصة (العين الثالثة) يستخدم الكاتب الرمز ليُسقطه على الواقع ، والرمز هنا فى بحث البطل عن ( عين ثالثة ) يرى أنها من خصوصياته وفقدتْ منه . والرمز فى هذه القصة يوحى بأكثر من معنى ، فهو المعادل الموضوعى للبحث عن الحقيقة . وربما الرغبة فى استرداد الحق كما فى الأسطورة التى نسجها خيال جدودنا عن صراع حورس لاسترداد عينه ثم تقديمها لأبيه أوزير. وربما البحث عن الجذور، حيث يلجأ البطل إلى تمثال رمسيس ويُحدّثه عن عينه المفقودة. وربما التمرد على الجذور فى لحظة يأس عندما لم يجد إجابة عند التمثال ((فنظر إلى الفرعون بغيظ . ألقى حجرًا عليه)) يوحى الرمز بكل هذه المعانى ، ويترك الكاتب للقارىء حرية استخلاص المعنى العام لدلالة البحث عن الجذور. وهو البحث الذى شغل كثيرين بعد عارهزيمة بؤونة / يونيو67 ( تاريخ كتابة القصة 69 ) يقول البطل فى نهايتها ((بحثتُ عن أولادى فوجدتهم قطعًا من العجين الرخو. بلا أفواه وبلا عيون 0 فتّشتُ عن أحبائى فرأيتهم على أسفلت الطريق يُهدهدون على بطونهم فئرانًا متخــــمة)) فى هذه القصة نجد أنّ اللغة المستخدمة لصيقة بالشخصية التى تُعانى مرارة العجز ، وتعانى محنة البحث عن ( عين ثالثة ) تهديه طريق الخلاص ، من ذلك عندما يصف البطل حالته النفسية والعقلية ، فيقول (( خبتْ فى عقلى النجوم . وقلبى أوشك أنْ يكون فحمة هامدة . جريتُ إلى الحقول ، فجابهتنى جماجم نخرة وعيون تأكلها الديدان . أطبقتْ علىّ الظلمة فتشبّثتُ بالكلمات . حدّقتُ فى جوف الحروف ، فلم أجد إلاّ الخواء )) والأشجار تتحول إلى أفاعى ، والمياه تزيد الإحساس بالعطش بدلا من الارتواء .


وفى عام 71 يكتب قصة ( الكمان والعازف العجوز ) وفيها نبوءة الانهيار ، حيث يسود الفن الهابط ويتدنى الحس الجمالى ، وتكون ( الطبلة ) هى المطلوبة ويكون الكمان محل سخرية ، فيشنق الفنان نفسه . ولكن تلميذه الشاب يواصل رحلة الفن الأصيل . ويزداد الأمل عندما يبزغ لهذا الشاب صبى صغير يطلب منه أنْ يُعلمه العزف على الكمان ، فى إشارة دالة على تواصل الأجيال ، نحو تحقيق فن يُخاطب العقل والوجدان ، وليس ( فن ) مخاطبة الغرائز ، واللغة فى هذه القصة تتراوح من حالة إلى أخرى . فالعازف العجوز ، قبل أنْ يُصاب باليأس (( يُعانق الكمان فتخفق الأنغام خفقا رقيقا حانيًا . الخفقات تنساب فى إيقاع راقص . الأنغام وقع خطى رشيقة عذراء فى المروج الرحبة . تصعد الروابى وتهبط السفوح . تتفتح البراعم وتوقظ الطيور فى أعشاشها . الورود تتعانق . الطيور تُزقزق وتطير لتغتسل فى قلب الصباح . الخفق يتقارب ، يتجمع فى موجات . تُتابع الموجات انطلاقها ثم تذوب فى لحن سيّال نقى . يطفو اللحن . يرف على وجه المروج . يتراقص فرحًا فى مهرجان النور)) ولكن عندما ينصرف الناس عن سماع الموسيقى الراقية ، فإنّ الفنان العجوز ينظر إلى البيوت فيراها (( كتلا قاتمة ، صماء ، مغمضة العيون ، بيوت جهمة ممسوحة الملامح )) أما الشاب الذى تتلمذ على يد العازف العجوز ، فقد آمن برسالته ، وعقد العزم على تحقيق حلم أستاذه ، فيقول (( أحلم بأنْ تلتف الجموع حولى ، وتشرئب العيون وتولد البسمات نقية )) وهذا الشاب تنتابه لحظات يأس مثلما حدث مع أستاذه ، عندما يطلب منه الناس ألحانًا غير الألحان التى يُبدعها وجدانــــه ، فى هذه اللحظة يُفكر فى الهجرة والبحث عن مدينة أخرى (( لكن قلبى لا يُطاوعنى . فأنغامى من صنع ليل هذه المدينة ، كما كان يقول العجوز بحق . بودى أنْ أكون وفيًا لأنغامى ، للأنغام التى غسلتنى وروتْ ظمئى )) فى هذه القصة لضم الكاتب الخيال بالواقع . فالقارىء لها لا يستطيع أنْ يفصل بين بطلها والشيخ إمام عيسى . فالأمل واحد والبؤس واحد . وكان رمسيس لبيب صديقًا لصيقًا بالشيخ إمام ، يستضيفه فى بيته لعدة أسابيع ، خاصة أثناء مطاردة المباحث للفنان الضرير .
وإذا كانت نبوءة القصة فى انهيار الذائقة الفنية ، وإذا كانت القصة زرعتْ الأمل فى جيليْن (الشاب والصبى) فإنّ الواقع صرع الخيال وهزمه ، إذْ ساد ( الفن ) الهابط ، ولم يعد للفن الأصيل من يُدافع عنه ويتبناه .
فى قصة ( الحصار فى صندوق مغلق ) من مجموعة ( الطرق على الباب الرمادى ) يتعرّض البطل للمطاردة من كائن مجهول الهوية ، يراه مثل (( كتلة سوداء خرساء )) وتستمر المطاردة أينما ذهب . ولأنّ البطل يمتلك قلبًا جسورًا ، نجده فى نهاية القصة يُقرّر (( لابد أنْ أقاتله . شددتُ أعصابى واستجمعتُ بقية قواى ، وضممتُ قبضتى واندفعتُ إليه )) لذلك كان الكاتب موفقا عندما افتتح القصة بلغة فنية لصيقة بالشخصية ، تقترب من لغة الشعر المنثور ، يقول البطل (( فاضتْ أنهار الدفء بصدرى . فأعدتُ قراءة القصيدة . رأيتُ الهواء الآسن فى قاع الصمت يرتجف . يجن . يتحوّل إلى ريح مكتسحة . عاصفة . والأمواج الوادعة تصطخب وتتحدى الشواطىء . وسيوف البرق تضوى وتطعن الظلمة . أطلقتُ قلبى فى البروق والرعود . رقصتُ مع النساء والرجال فى المطر . وأسرعتُ عاريُا إلى الشمس فى مهرجان الشفق . وددتُ أنْ أخلع ملابسى وأستحم بضوء القمر)) .

وقصة (الفرح) تأخذ شكل المقاطع . وكل مقطع يحمل عنوانًا . وكل عنوان يؤدى إلى العنوان التالى . فإذا كانت القصة تحمل اسم ( الفرح ) فإنّ المقطع الأول يحمل اسم (الكشف) والمقطع الثانى يحمل اسم ( اللقاء ) أما المقطع الثالث فهو ( التوحد ) والكاتب يتدرج من مقطع إلى آخر فى فضاء رحب يدور حول العلاقات الإنسانية وأهمية تعميقها بين البشر. ولذلك تكون النهاية هى تعانق الرجال (( فى قلب الحقول التى بدأت تصحو . وتحت سماء عميقة الزرقة ينتشر فيها الضوء الزاحف من الشرق )) وإذا كانت هذه هى النهاية فى المقطع الأخير ( التوحد ) فكان من الطبيعى أنْ تكون اللغة فى المقطع الأول ( الكشف ) هكذا (( يشيع الضوء فى البحر الرمادى . تكبر مروحة الزرقة فى البحر)) ويمشى البطل ((فى الخلاء الرحب . تسبح عيناه وتستحمان فى النور)) .
المبالغة فى اللغة الوصفية الشاعرية :
رغم أهمية اللغة الوصفية الشاعرية وقيمتها الجمالية ، خاصة عندما تكون لصيقة بالشخصية المأزومة وجدانيًا وعاطفيًا ، والمُنشغلة بالأسئلة الكبرى عن فلسفة الوجود والعدل الاجتماعى ، فإنّ هذه اللغة تُشكل عبئًا على الإبداع عندما تطغى المبالغة على الإيجاز . ويذهب ظنى أنّ الأديب الجليل الراحل رمسيس لبيب – فى معظم قصصه ورواياته – عندما يجلس ليُبدع يكون مشحونًا بمتعة صياغة فقرات كاملة ينحت فها مفردات حالة أبطاله الشعورية ، مثله مثل السباح الماهر الذى تُسيطر عليه متعة واحدة هى السباحة إلى أبعد المسافات ، غير ملتزم وغير مهتم بقانون السباحة وقانون البحر وأمواجه . وعندما يعود إلى الشاطىء يكون مُجهدًا لأنه بذل مجهودًا أضعاف أضعاف المطلوب .
البطل فى قصة ( الطفل وعيون الليل ) متهم بعشقه للرقص وللغناء وصناعة الجسور ، فلا ينكر التهمة ويرد (( سأصنع دومًا جسورًا من الخفقات ومن ذوب القلوب . وستبقى كلماتى زهورًا تتفتح فى النور . أنا صديق الأغانى والبسمات . صديق الطيور والقمم الشماء والكائنات التى تُشرق بسماتها دومًا )) ولأنّ عدوه يريد أنْ يسلبه طفله ، فإنه يُردّد (( أنا أتهم عيون الجرزان المُتلصصة والعيون التى تخنق الأطفال فى شفاه الرجال وعيونهم )) هذا المعنى البسيط العميق والذى يُشكل الخط الرئيسى ( كلمة الرئيسى صحيحة لغويًا وأقرب إلى الصواب من كلمة " الرئيس " ) فى القـصة ، أضعفه الإسهاب فى الأسلوب الوصفى الشاعرى الذى يحتل أغلب كلمات القصة التى شغلتْ خمس صفحات من القطع الكبير. وهكذا فى معظم مجموعاته القصصية ، وفى بعض رواياتـــه .
الغموض الفنى :
الملمح السابق يقودنا إلى ملمح آخر هو ( الغموض الفنى ) وأرى أنّ ثمة علاقة وثيقة تربط بين الاثنين ، فالغموض الفنى كى يؤدى وظيفته الجمالية لابد له من مفاتيح ( فنية ) توحى وتومىء وتُضيىء وتومض للقارىء ببعض الضوء الذى يُساعده على فهم المغزى المُستغلق عليه . وبدون هذه المفاتيح ( أى فك شفرات الغموض ) فإنّ الغموض الفنى يؤثر بالسلب على عملية التلقى والتفاعل مع العمل الإبداعى ، وبالتالى ينزلق سريعًا من وجدان المُتلقى ولا يترك أثرًا ، ثم تأتى المبالغة فى اللغة الوصفية الشاعرية لتُضاعف من الاستغلاق ، خاصة وأنّ مثلها مثل الحمل الزائد . هذا الغموض الفنى نجده فى قصة ( الخلاء ) حيث لا نعثر على أية مفاتيح تفك شفرة المغزى من الصراع بين الطبيعة والجماد ، أو تفك شفرة انتصار الطبيعة على الجماد ، أو تفك شفرة ذلك البناء الشامخ المعزول عن المدينة والمتعالى فى كبرياء ، أو حل شفرة النهاية فى ذلك الطلل الخرب الوحيد المفقوء العيون . وفى قصة ( المرايا ) نجد البطل يُعانى من اختلاف وجهه مع اختلاف المرآة . ففى بيت صديقه رأى تجاعيد خفيفة حول الفم . وفى بيت ابنته الصغرى بدا وجهه أكثر حيوية ونضارة ، ولكن فى نفس اليوم رأى وجهه فى مرآة بيت ابنته الكبرى شاحبًا . وهكذا يظل البطل مُنشغلا بالتغيرات التى تحدث فى وجهه من مرآة لأخرى ، وفى لحظة يأس يُحطم كل المرايا ، ثم يعود ليشترى غيرها . هذا الرمز العميق الذى ابتدعه الكاتب ( تغير الوجه مع تغير المرايا ) يظل مغلقا ، ولا يُقدّم الكاتب أية مفاتيح لحل شفرة الرمز. وهكذا فى الكثير من القصص .
الصراع بين الجمال والقبح :
للأديب رمسيس لبيب رسالة يدور حولها كل إبداعه ، هى تعميق الاحساس بالصراع بين القبح والجمال . وهذا المستوى عالجه فى أكثر من قصة للتأكيد على أنّ القهر الاجتماعى يولد العنف . انشغل الأديب الكبير رمسيس لبيب بمقاومة كل أشكال القبح ، لتعميق الإحساس بالجمال : القبح فى سلوكيات البشر ، فى الاعتداء على حق الغير، فى القتل وإهدار الدم . فى البلادة وإهدار الوقت . فى كل ما يؤخر الرقى ويعيق تطور الإنسان إلى حياة أكثر بهجة وجمالا . أما المستوى الثانى فهو قبح سلطة الحكم الباطشة ، حيث يعالج الكاتب فى قصص ( الجنون ) ، ( فرحة الحدائق الصغيرة ) ، (عيون الحب ) ، ( الأسود والرمادى والأبيض ) ، ( ممنوعات ) معاناة المعتقلين السياسيين وماتعرّضوا له من تعذيب نفسى وبدنى ، وهى الخبرة التى أجادها الضباط فى معتقلات عبدالناصر، حيث تم تدريبهم فى أمريكا كما كتب المناضل الشيوعى د. فخرى لبيب الذى ذكر أنّ النظام الناصرى ((استباح ما لم يجرؤ الاستعمار على استباحته ، زمن أنْ كان الحكم للعدو الأجنبى . وأنّ التعذيب بلغ آفاقًا تجاوزتْ ما وصلتْ إليه المعتقلات النازية)) ( مرجع سابق فى الفصل السابق ) عن هذه المرحلة صاغ رمسيس لبيب أكثرمن قصة بعد خروجه من المعتقل فى 7/11/64 فى آخر دفعة من الشيوعيين المفرج عنهم بعد اعتقال معظمهم فى شهرطوبة / يناير59 . ركز الكاتب على أهم اختبار يتعرّض له المناضل : هل يختار استمرار الاعتقال والتعذيب والحرمان من الأولاد والزوجة والأصدقاء ، أم يخرج ؟ والثمن بسيط : ورقة يكتب فيها استنكاره لمبادئه وإدانتها مع تعهد بعدم العمل بالسياسة. وكانت لغة الضباط من كلمتيْن : وقع وأخرج . وتكون المعاناة أشد قسوة إذا وصل خطاب من الزوجة تقول فيها إنها باعتْ أثاث البيت ولم يبق إلاّ أنْ تبيع نفسها ( أى تتاجر بجسدها ) أو خطاب من الأولاد يُهدّدون فيه بالانتحار إنْ لم يُوقع ويخرج . البعض أدرك المخطط وأنّ هذه الخطابات مكتوبة بمعرفة ضباط المباحث . والبعض بلع الطعم وانهار. وفى الحالتيْن ماذا يفعل الإنسان إزاء هذا الاختبار؟
تُعالج هذه القصص نوعًا آخر من التعذيب النفسى ، وهو إجبار المعتقل بالاعتراف على زملائه فيُفرج عنه. فهل يخون زملاءه مقابل حريته الشخصية ؟ أم ينحاز لقيم العدل ؟ جسّد الكاتب التوتر الذى يعتمل داخل الوجدان . ودراما تحول الإنسان فى لحظة ضعف بشرى مشروع . اللحظة التى يختلف فيها البشر مهما اتفقتْ معتقداتهم السياسية وآراؤهم الفكرية إلخ . لحظة التوقيع ظلتْ تطارد المناضل فى صحوه ومنامه. فى عيون زوجته وأولاده. لحظة تحوّلتْ إلى سياط بعد الافراج . وتكون المعاناة أشد قسوة إذا اكتشف أنه كان ضحية خداع الضباط الذين أوهموه أنّ زملاءه اعترفوا عليه. فى حين أنّ أحدًا لم ينطق بحرف ، كما أخبره المخبر العجوز فى قصة (عيون الحب) .
والبطل فى قصة ( فرحة الحدائق الصغيرة ) يقاوم التعذيب وهو يتساءل (( كيف يستطيع إنسان أنْ يُعذب وينهش إنسانًا لم يُسىء إليه ؟ )) وهنا يلتقى فن القصة مع فن الشعر، إذْ كتب الشاعرالكبير صلاح جاهين (( كل يوم أسمع عن فلان بيعذبوه / أسرح فى العراق والجزائر وأتوه / ما أتعجبش من اللى يطيق العذاب / وأتعجب من اللى يطيق يعذب أخوه )) .
حول هذا المحور استطاع الكاتب أنْ يُجسّد الحيرة والقلق والتوتر وكافة المشاعر التى تعتمل فى وجدان وعقل الإنسان وهو يتعرّض لهذا الاختبار العسير حتى يُحدد موقفه ويُعلن قراره ( هل يوقع على ورقة المباحث وفيها الاعتراف الصريح باستنكار أفكاره وعقيدته السياسية ، فيخرج من المعتقل ، أم يرفض التوقيع فيظل رهينة لدى جلادى عبدالناصر) إنها لحظات فارقة فى حياة أى إنسان ، لحظات المخاض : المخاض الذى منه يولد قرار الانحياز إما لمبادئه ولإنسانيته ، أو للضعف الإنسانى ( وهو ضعف مشروع ) فيختار الاستسلام لمشيئة ضباط المباحث ويخرج من المعتقل . وكان الأديب رمسيس لبيب موفقا عندما ركز على هذه الشخصية وعلى تلك اللحظات الفارقة ، اللحظات التى تحوّلتْ إلى سياط تجلد الذين وافقوا على التوقيع على ورقة المباحث ، مثلما حدث مع بطل قصة ( عيون الحب ) أما البطل فى قصة ( فرحة الحدائق الصغيرة ) فرغم أنه يعلم أنّ أساليب التعذيب (( بشعة : جلد ، كى بالنار ، خلع أظافر ، اطلاق الكلاب المتوحشة )) ورغم أنه يمر بلحظات الخوف والرعب الإنسانى ، إلاّ أنه يُقرّرعدم الاستسلام لرغبات جلاده ويرفض الاعتراف على زملائه . أما سلاح المقاومة فهو كامن داخل وجدانه النقى ، إذْ بعد أنْ مرّتْ لحظات الخوف قال لنفسه (( فليفعلوا ما يشاؤوا . سأبتسم رغم كل شىء )) وتنتهى القصة وهو يستقبل التحدى (( ها هى أقدامهم تُسرع . تقترب عجولة صارمة . ها هو المفتاح يصطك بالباب . يُزمجر فى قلبه الصدىء . الباب يُفتح . الوجوه الحجرية . العيون باردة وعدوة . خلفها السراديب المظلمة . وداعًا يا حبيبتى . وداعًا يا أمل )) ( ابنة الأديب رمسيس لبيب الكبرى اسمها أمل ، فكأنّ هذه القصة عن تجربته هو شخصيًا وهو يتقدم ليأخذ نصيبه من وليمة التعذيب فى المعتقل ) ويستمر البطل فى القصة فى مناجاة نفسه (( وداعًا يا أصدقاء . ها أنا أبتسم وأحضن فرحتى)) أى أنه بهذا الوداع يتوقع الموت ، مثلما حدث مع فريد حداد وشهدى عطيه الشافعى وأكثرمن ثمانية عشر مناضلا من الشيوعيين ماتوا من التعذيب فى معتقلات عبدالناصر ، ولكنه – أى بطل القصة – يطرد مشاعر الرعب ، لأنه سيموت ولم يتنازل عن إنسانيته ( = معتقداته ) لذلك فهو (( يحتضن فرحته ))
إنّ المجموعات القصصية الأربع التى ضمها مجلد ( ملاح الشواطىء البعيدة ) تضعنا أمام أديب كبير. أخلص لفن القصة والرواية. أعطاه عمره وحبه وماله. وهو كاتب متميز. تمكن من وضع بصمته الخاصة وبلغة سرد خاصة. وبشخصيات يعرفها جيدًا . كره ضعفها وأحبها . فكتب فنًا قصصيًا ممتعًا ورغم ذلك فإنّ نقادًا محترفين تجاهلوه ، فى حين كتبوا عن أعمال متواضعة أو ضعيفة ، وأشادوا بأصحابها لأسباب لا تخفى على المغضوب عليهم الشامخين أمثال رمسيس لبيب ، الذى رفض السباحة فى المياه الضحلة ، وفضّل الغوص فى بحار القلق والعواصف والرياح ، باحثًا عن شواطىء الحرية والعدل وقيم الجمال مهما كانت بعيدة .
*****
E. mail : [email protected]



#طلعت_رضوان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- السفر الأخير - قصة قصيرة
- مجابهة التخلف الحضارى
- الإبداع بين الدراما والسياسة
- أوديسا التعددية الثقافية
- مباراة عصرية فى شد الحبل بين الحرية والدكتاتورية
- دستور سنة 23 وموقف الليبراليين المصريين
- قصة (بعد صلاة الجمعة) والفكر الأصولى
- إبراهيم أصلان والكتابة بلغة فن الهمس
- محجوب عمر والترانسفير الصهيونى
- نداء الحرية فى مواجهة بطش العسكر
- العلاقة بين التدين والإبداع الشعبى
- الروائى الأيرلندى جيمس جويس واليهود
- الصحافة المصرية وحجب المعلومات
- الدبلوماسية المصرية بعد يوليو52
- الآثاروالسياحة واللغة المصرية القديمة
- بورتريه لإنسان لا أعرفه
- أخناتون بين التوحيد والتفريط فى حدود الوطن
- فتاة صينية (مشهد واقعى)
- روبابيكيا ( مشهد من الحياة)
- الشروط الموضوعية لتحدى الإدارة الأمريكية


المزيد.....




- “عيد مجيد سعيد” .. موعد عيد القيامة 2024 ومظاهر احتفال المسي ...
- شاهد..المستوطنين يقتحمون الأقصى في ثالث أيام عيد -الفصح اليه ...
- الأردن يدين سماح شرطة الاحتلال الإسرائيلي للمستوطنين باقتحام ...
- طلاب يهود بجامعة كولومبيا: مظاهرات دعم فلسطين ليست معادية لل ...
- مصادر فلسطينية: أكثر من 900 مستعمر اقتحموا المسجد الأقصى في ...
- مئات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى تحت حراسة إسرائيلية مش ...
- سيبدأ تطبيقه اليوم.. الإفتاء المصرية تحسم الجدل حول التوقيت ...
- مئات المستوطنين يقتحمون باحات الأقصى في ثالث أيام عيد الفصح ...
- أوكرانيا: السلطات تتهم رجل دين رفيع المستوى بالتجسس لصالح مو ...
- “خليهم يتعلموا ويغنوا ” نزل تردد قناة طيور الجنة للأطفال وأم ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - طلعت رضوان - شواطىء العدل والحرية عند رمسيس لبيب