أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القضية الكردية - عبدالله اوجلان - الدفاع عن شعب الفصل الثاني آ- اللب التاريخي للقيم المشاعية والديمقراطية في المجتمع 2















المزيد.....


الدفاع عن شعب الفصل الثاني آ- اللب التاريخي للقيم المشاعية والديمقراطية في المجتمع 2


عبدالله اوجلان

الحوار المتمدن-العدد: 1084 - 2005 / 1 / 20 - 10:10
المحور: القضية الكردية
    


تجسدت صدارة قوة السلطة القتالية داخل بنية الدولة، في بداياتها، على شكل الملوك الآلهة والأباطرة. وبتكاثفها يفقد الديموس، العضو الشعبي، ثقله. يُذكَر اسم سارغون، ذي الأصل العموري، في المجتمع السومري كأول إمبراطور عرفه التاريخ وشهد بسط نفوذه الممتد حتى داخل المناطق الجبلية بكل شهية ونهم. وكأنه رمز للالتزام في صمت الموت. وتفتح هذه المرحلة المبتدئة في أعوام 1350ق.م الباب أمام كل الإمبراطوريات التي ستحذو حذوها. فكل جديدة منها توسِّع حدود سابقتها. وإذا كان كلكامش رمز بداية المَلَكيات، فسارغون هو أب الأباطرة. إذن، والحال هذه، سيكون تقييم كل موقف مناهض لهذه المرحلة المتعاظمة على حساب النظام المشاعي، بأنه تراكم ديمقراطي؛ أمراً في محله. فتَحَمُّل المجموعات الإثنية كل الصعاب، وكفاحها ضد المجاعة والأمراض الفتاكة والاعتداءات، ونجاحها في العيش في أجواف البراري والجبال والأدغال؛ إنما هو ديمقراطي عظيم باسم البشرية. فلو لم تكن هذه المقاومات، مَن ذا الذي كان سيصون غنى الثقافة وتعدديتها؟ ولو لم تكن هذه الآثار الخالدة من تلك المقاومات على مر آلاف السنين، كيف كنا سنستطيع خلق الفنون الشعبية؟ كيف كنا سنؤمِّن الآلاف من وسائل الإنتاج، المؤسسات الاجتماعية، الكرامة والعزة، الشغف بالحرية، وتعاضد البشر وتكاتفهم؟
لدى مرورنا من السلالة الأكاديمية إلى السلالات ذات الأصول البابلية والآشورية، نجد أن قوة الإمبراطورية تزايدت أكثر. كل واحدة منها تصعِّد من مستوى الخنوع والذل، وكأنها تريد تحطيم الرقم القياسي فيه. وتسرد بكل فخر واعتزاز كيف بنت القلاع والأسوار من هياكل البشر. إذا لم ندوِّن كافة الأزمنة التي قضتها المجموعات الشعبية في أعماق الجبال والأدغال والصحاري إزاء أسفار الإبادة تلك، والتي لا تأبه بأية حدود، في صفحات تاريخ الديمقراطية؛ فباسم من سندوِّنها إذن؟ وإلا، أسنتجاهلها ونعتبرها منفية؟ وهل سيجد التاريخ معناه هكذا؟ وحتى إذا وجده, أسيذهب أبعد من معاني الظلم والتَنَمُّر والغصب والسلب؟ حتى مقاومة عشيرة صغيرة الحجم، فإذا ما حاولنا كم غدت موضوعاً للملاحم والبطولات، فسندرك عندئذ، وبشكل أفضل، القيمة الديمقراطية للإثنية. إذا ما قُيِّم الإنسان الإثني بمنوال صحيح وفقاً للفرد "الحر" – حسب الزعم – الذي خلقته الرأسمالية وأفرغته من محتواه؛ فسنجد أنه يشكل قوة ديمقراطية تضاهي ما لدى الأخير بأضعاف مضاعفة.
الطاقة الديمقراطية الكامنة الحقة هي في المجتمعات الشرقية. من الجوهري المعرفة يقيناً أن الطاقة الديمقراطية الكامنة للمجتمع الغربي الهاضم لثقافة السلطة القتالية حتى رمقه الأخير، محدودة النطاق للغاية. والديمقراطية الموجودة فيه، ليست سوى غطاء تتدثر به الدولة التي تطغى عليها الطبقة البورجوازية المكبَّلة بألف غل وغل. وبسبب طرازات الحياة والنظريات المبتدَعة بغرض ازدراء مجتمعاتنا واستصغارنا إياها، بتنا لا نرى طاقة الديمقراطية العملاقة الكامنة في كل إنسان من أبناء شعوبنا الشرقية.
ينعت السومريون بذاتهم الحوريين – الشعب الأصلي ذي الجذور الآرية التي يتأتى منها شعبنا – بـ"الكورتيون = Kurti". كلمة "كور = Kur" وتعني "الجبل", و"تي = ti" ضمير متصل يدل على الانتساب. أي "شعب الجبل" (أو الجبليون). إنهم في وضعية المقاومة منذ نشوء الدولة السومرية. أما الكوتيون، الكاسيتيون، والنائيريون، فهي الأسماء المختلفة المطلقة عليهم. تقاوم الدويلتان الأورارتية والميدية بأسمى آيات البسالة التي عرفها التاريخ، إزاء أباطرة الآشوريين. إن التغلب على هذه الإمبراطورية الأعتى في التاريخ، والإطاحة بها بعد حروب المقاومة التي دامت ثلاثة قرون بحالها؛ ترك أثره كعيد تحتفي به كل الشعوب، بما فيها الشعب الآشوري أيضاً. فإذا لم ندوِّن هذه المقاومة في ثقافة الديمقراطية، أين سندونها إذن؟ إن كلمة "ميديا" المذكورة في مقولات "ثيسيوس" المنتمي إلى أثينا، إنما هي في حقيقتها ذكرى تلك المقاومة. ولا يمكن لديمقراطية أثينا، المبجَّل بها كثيراً في التاريخ، أن تتكلم عن "ميديا" المشؤومة هباء وعبثاً. فعندما شهد أبناء أثينا الديمقراطية، كانوا يَعتَبرون القرب من الميديين ضماناً أساسياً لهم. وأكثر المواضيع المتداوَلة في تاريخ هيرودوت هو الميديون.
يجب التبيان بكل صراحة أن الميديين قدموا أهم مساهماتهم في تاريخ الديمقراطية، والتي ربما لم تُكتَشَف حتى الآن، بنقلهم ثقافة المقاومة العظمى لشعوب الشرق الأوسط إلى أثينا. لم يُقِم الإسكندر المقدوني علاقات القرابة سدى مع الشعوب الميدية. إنه يدرك جيداً مكانتها في التاريخ الهيليني، ويتخذ منها قدوة. والإسكندر إمبراطور مشهور بكسحه للحضارة الشرقية كالأسطوانة الساحقة. ولكنه بالمقابل يعرف كيف يتأثر من هذه الثقافة ليعيش بكل فخر واعتزاز. وقد قدمت التركيبة الثقافية الغربية – الشرقية الجديدة، التي كوَّنها، أعظم مساهمة للديانة المسيحية، التي بدورها قدمت أعظم مساهماتها للحضارة الغربية. وهذا ما مؤداه أن قنوات الإمبراطورية لا تخدم قوة السلطة القتالية فحسب، بل تتسرب ثقافات مقاومات الشعوب أيضاً من هذه القنوات. إنها تكتب تاريخ ديمقراطية الشعوب.
ربما كانت الإمبراطورية الرومانية الممثل الأقوى والأكثر تعزيزاً لثقافة السلطة القتالية. حيث أبرزت أعنف الأباطرة وأظلمهم، ونظمَت أفظع أشكال القتل إزاء البشرية، من قبيل الصَّلب، الإطعام لقمة سائغة للأسد كي يمزق فريسته. ولكن، أَوَليست ثقافة الشرق الديمقراطية هي التي ابتدأت بحركاتها الإنسانية العظيمة وبحركات الفقراء إزاء هذه القوة؟ أوَليس سيدنا عيسى بذاته مَن ابتدأ بحلقة نقطة الصفر لميلاد تقاليد النبوة؟ إذن، والحال هذه، لا يمكننا إهمال تقاليد النبوة بجانبها الديمقراطي أيضاً.
بينما نشط المجتمع البدوي كقوة هجوم ودفاع خارجية بالأغلب تجاه قوة السلطة القتالية، لعبت القوة التي يمكننا تسميتها بتقاليد النبوة والرهبانية دورها في خدمة قناة تطلعات الفقراء للمقاومة من الداخل. إنها حركة ذات طابع طبقي. تُعَد هذه التقاليد التي ترجع في مصدرها إلى الثقافة الشرق أوسطية، أنها برزت من المجتمع السومري – مرة أخرى – مثلما هي حال الكثير من البدايات الأخرى. يمكننا مصادفة الآثار المتعلقة بسيدنا آدم، النبي الأول، وطرده من الجنة، في الثقافة السومرية. بالمقدور التخمين أن رفض كل من آدم وزوجته حواء الأمتثالَ التام لنظام العبودية، تسبب في طردهم من الجنة (أي من طراز حياة المجتمع الفوقي للدولة). ولربما كان ذلك سرداً شبه ميثولوجي معتمداً على حرية الفرد. وبما أن تناقضاتهما علنية مع النظام القائم آنذاك، فكأنهما مهّدا السبيل لتطورٍ من قبيل ظهور سلالة مقاوِمة ومتصدية، من خلال طردهما. ووضعيتهما أدنى إلى المزارعين الأحرار وأرباب الحِرَفيين. وسيكون من المنوِّر أكثر تقييم الشريحة الوسطى غير العبدة في المدينة، كأساس طبقي لهذه التقاليد.
أما النبي الثاني العظيم نوح، فقد برهن على حِرَفيته ببنائه السفينة. فإنشاء السفينة بكل تلك التجهيزات والمعدات في الطوفان، يشيد إلى قوة المهن اليدوية. فقول الإله أنكي له: "الطوفان آتٍ، أعددْ سفينتك بما يؤمِّن الحياة الجديدة"، وقيامه بذلك خِفيةً عن بقية الآلهة الآخرين؛ يسلط الضوء على السمات الطبقية. إذ من الطبيعي أن يكون الحِرَفيون، الذين يلعبون دوراً مصيرياً كنقل السفن، في صدارة الشرائح التي تتميز بمستوى علاقات مهمة – دون غيرها – مع الشريحة الإدارية. ولربما كانت حكاية الطوفان تعبِّر عن الهجرة إلى ديار أخرى – مثلما هي حال آدم – بعد اندلاع حركة تمرد مشابهة على سخط الإداريين. يقال بأن سفينة نوح حطّت على سفوح جبل جودي. وكلمة "جودي Cudi" تعني في الكردية "وجد المكان". وهذا ما يستذكرنا بدوره بعمليات النزوح من ميزوبوتاميا السفلى نحو الشمال للاستيطان فيه، لأسباب مختلفة، مثلما نشاهد حدوث ذلك بكثرة وقتذاك.
لقد شُيِّدَت أنظمة المدن السومرية بكثرة على الضفاف العليا لنهرَي دجلة والفرات في أعوام الألفين (2000ق.م) قبل الميلاد. ومن أهم المراكز آنذاك كانت أورفا. وأورفا اسم هام من بين أسماء المدن السومرية البارزة، مثل أوروك وأور. وهي تعني ككلمة "الاستيطان في التلال". وكأن أورفا، والمناطق المجاورة لها، كانت مركزاً لتقاليد النبوة. ومن هنا نفهم أن الضائقين ذرعاً بمدن الضفاف السفلى لنهرَي دجلة والفرات، والمتمردين هناك، والمتطلعين إلى الحرية والعدالة؛ وجَّهوا مراكزهم نحو أورفا. ثمة الكثير من المراكز الثقافية الشبيهة لها في التاريخ. أما بابل، الإسكندرية، وأنطاكية، فهي مراكز ظهرت في وقت لاحق.
كان مركز الرأسمالية سابقاً باريس ولندن، واليوم هو نيويورك. وثمة احتمال كبير بأن أورفا كانت مركزاً تنويرياً شبيهاً في بدايات أعوام 2000ق.م على وجه التخمين. فمثال المعبد الأول المكتَشَف في "ديباكلي تبه Dibeklitepe"، والمشيَّد في 11000ق.م، يقع في منطقة مجاورة لأورفا. والتقاليد المهيمنة فيها حالياً تتناسب ومسارَ التاريخ هذا. كما وقد لعبت دوراً مركزياً للثقافة الهيلينية والصابيين في القرن الثالث قبل الميلاد (300ق.م)، وللمسيحية في أعوام (100م). لقد كانت أورفا مهد الكثير الكثير من الأنبياء، وعلى رأسهم سيدنا أيوب وسيدنا إدريس، اللذان لا يزالان يُعتَبَران قوة يُعتقَد بها في أورفا. وتعبير "مدينة الأنبياء" بصددها هو تعبير صائب.
حكاية انطلاقة سيدنا إبراهيم، الذي يُخمَّن أنه عاش في أعوام 1700ق.م، أكثر تنويراً. فتحطيمه لأوثان مجمع الملوك – الآلهة النماردة والآشوريين والبابليين، يشير إلى شروعه بثورة ذهنية. أما معاقبته الصارمة برميه في النار، تعكس لنا وضعية التمرد كعادة تاريخية. وبحركته هذه يُضطر إلى التوجه صوب بلاد كنعان – أراضي إسرائيل ولبنان اليوم – كحركة هجرة ثانية كبرى. ويقدم مساهمات هامة لتقاليد النبوة في مرحلة حياته العصيبة بين أيدي الكنعانيين. ويبدي الجرأة والإدراك الكافي لوضع لَبنات مفهوم الدين التوحيدي المجرد.
وسيدنا أيوب أيضاً، السابق لسيدنا إبراهيم، يعد ممثلاً تاريخياً في ثقافة المقاومة والتصدي. حيث يعلن عن اعتراضه التاريخي علانية تجاه نمرود، ولأول مرة، بقوله ما مفاده "إنكم تجوِّعون البشر". موقف كهذا هو الأول من نوعه تجاه الملوك الآلهة، ويستلزم جرأة عظمى. أما الرد على فعلته هذه، فكان اهتراؤه في غياهب السجن حتى يعشعش الدود في جسده. ومع ذلك يتحمل كتمثال الصبر. وممارسته هذه تفضي إلى نبوته.
إذا ما وضعنا نصب أعيننا مكانة ثورة الدين التوحيدي في حضارتنا الراهنة، سندرك على نحو أفضل أهمية التفسير الصحيح لتقاليد سيدنا إبراهيم، الذي يتسم بسمة أخرى، ألا وهي مهارته في تكوين التعبير المزيج للثقافتين الآرية والساميّة. فعيش سيدنا إبراهيم في كلا الوسطين يمَكِّننا من تفسير خاصيته المختلطة هذه كتركيبة جديدة. إنها تركيبة تُشرِع الأبواب أمام الخلاقية، تماماً كالتركيبة الشرقية – الغربية. تتجسد الخاصية الثالثة المهمة لقوة سيدنا إبراهيم في تمثيله أول سلطة إنسان كرسول للإله، تجاه نظام الملوك الآلهة، سواء السومريين – نمرود – منهم أو المصريين – فرعون – على السواء. إن خيار سيدنا إبراهيم هو انطلاقة عظمى وبدليل عظيم، في مرحلة تاريخية شهدت العبودية بأغور أشكالها، مثلما شهدت نشوء التطلعات الأولى إلى الحرية. وكونه رد على الطموحات الجذرية للبشرية، مهَّدَ السبيل لحركية اجتماعية، هي الأهم من نوعها في التاريخ. فمهما أبدت الجماعات الإثنية مقاومات باسلة إزاء كلا النظامين من الخارج، إلا إن وجود مقاومة داخلية في الحركات الاجتماعية أيضاً يتسم بخصائص بالغة الأهمية وفائقة الحل.
إن التمرد على قوة المَلك الإله، والحكم على البشر باستحالة أن يصيروا آلهة؛ هو حقاً ثورة اجتماعية عظمى. فنظام العبودية بذلك يتلقى الضربة من أقوى دعائمة الأيديولوجية. فالحث على التفكير بالملوك الآلهة كبشر عاديين، يعني المآل لحدوث أكبر الشروخات والتصدعات في البنية الميثولوجية السومرية والمصرية. وهذا ما يعني بدوره تشكُّل التيار الاجتماعي المسمى بالدين "التوحيدي" ذي الإله الواحد. ليس مصادفة أبداً الإصرار على البدء بالحلقة من آدم. إنه بذلك يبرهن على أن هذه التقاليد جذرية ومتسلسلة، والأنبياء العظام هم محطاتها التاريخية. تماماً كأنبياء الماركسية والليبرالية.
العنصر الذي فتح سبيلاً منهاجياً آخر في هذه التقاليد هو سيدنا موسى. فسيدنا موسى، الذي عاش في أعوام 1300ق.م، وتمتد شجرة نسبه إلى سيدنا إبراهيم، يحقق انطلاقته في مصر بريادته لتمرد مشابه. فاستخدامه القبيلة العبرية التابعة للفرعون بعبودية تامة، وتجرؤه على التمرد بها، بعد تعرفه على الثقافة المصرية؛ يشير إلى أنه شخصية قيادية ذات دعائم اجتماعية وتحررية. له صلات قرابة مع تقاليد القبيلة العبرية. ودين القبيلة مغاير لدين مصر. ورغم ما يقال بأن سيدنا موسى أعلن الفرعون أخناتون كأعظم آله، وأنه تأثر بشبة الإله الواحد؛ إلا إنه في الأساس رسخ ركائز تقاليد ديانة سيدنا إبراهيم. فالكتاب المقدس يشير إلى مسيرته في صحراء سيناء الشهيرة، وتأثره بالجبل الناري (البركاني)، وإلى موقفه تجاه الوثنية، وتعاليمه العشر (الأوامر العشرة). إن سيدنا موسى يخوض الصراع الأكبر للدين الجديد، مجسَّداً في القبيلة العبرية. وهذه الحرب الأيديولوجية ستنقذ القبيلة العبرية من التبعثر، وستوصلها إلى "الأراضي المقدسة" الموعودة. هذا التصلب الأيديولوجي يُعتبَر أحد أهم الخطوات المخطوة في التاريخ العبري. وثقافة الدين العبري التي خطت خطوات مشابهة لتلك حتى يومنا الراهن، تشيد بالمثال الضارب للنظر في تأثير الأقلية على الأكثرية.
لا يمكن جعل حركة النبوة مُلكاً للعبريين وحِكراً عليهم فحسب، ذلك أن هذه التقاليد تلعب دورها على الصعيد الكوني (العالمي) مع سيدنا عيسى الأقرب إلى الآراميين، ومع سيدنا محمد (ص) المنتمي إلى العرب.
بإيجاز، إن حركة النبوة المتطورة كتقاليد اجتماعية داخلية تجاه قوة السلطة القتالية، هي أقرب في موضعها إلى الموقف الديمقراطي، سواء في التاريخ البشري عموماً، أو في النظام التاريخي للمجتمع الشرق أوسطي على وجه التخصيص. وإذا ما أضفنا إليها بُعد الفقر والعَوَز، فإنها عندئذ تكاد تمثل أول حركة "اجتماعية ديمقراطية" في التاريخ. وفي الحقيقة، يمكن إقامة تشابه بين الأسس الطبقية لأولئك الأنبياء (الطبقة الوسطى: الحِرَفيّ، التاجر، المزارع، القبيلة) من جهة، وبين الحركات الاجتماعية الديمقراطية الراهنة من جهة أخرى. ويمكننا التقدم بهذا التشابه أكثر. فكيفما أن الاجتماعيين الديمقراطيين – ورغم تمرينهم للنظام قليلاً – لم ينجوا من أن يكونوا قوة احتياطية للنظام القائم، فالاجتماعية الديمقراطية للأنبياء أيضاً، لم تنجُ من التمحور حول أنظمة المجتمع الطبقي المشيدة، ومن تأسيس نموذج مشابه لها، عاجلاً أم آجلاً. فالنظام الذي أسفروا عنه تجاه عبودية العصور القديمة القاسية، هو إقطاعية العصور الوسطى. لا شك في أن سبيلهم لم تكن بحثاً واعياً ومقصوداً عن النظام الإقطاعي، حيث طالبوا ونادوا بالسلام والعدالة للبشرية جمعاء. ولكن القوة المحوِّلة (التحويلية) الكبرى للنظام المهيمن، لم تسنح بأن تكون دولة الأنبياء الإلهية أيضاً مختلفة كثيراً عن نظامها هي الأصلي.
إن لفظ الثيولوجيا (اللاهوت) المفتقر للسرد السوسيولوجي لا يسلط الضوء على الحقيقة المجتمعية لمؤسسة النبوة التي أثرت في التاريخ البشري أكثر من غيرها، رغم استحواذه على شمولية (مجموع الآثار) كبرى بين يديه. فإلى جانب التعبير عن لغة تلك المرحلة وذهنيتها، إذا لم يُترجَم ذلك إلى واقعنا الراهن، فإنه لن يذهب أبعد من كونه سرداً استظهارياً مزعجاً ومخمِداً للعقول. في الحقيقة، يحظى التعريف الصحيح للمؤسسة المتخذة من الجانب الاجتماعي والتحرري الفردي والعادل أساساً لها إزاء العبودية الغائرة في القِدَم (antik) في سومر ومصر؛ يحظى بأهمية قصوى. حيث أنها تعكس النضالات الاجتماعية الكبرى للشعوب، بمظهر الدين الذي يشكل البنية الذهنية لتلك الحقبة. النبوة هي أول مؤسسة اجتماعية قيادية كبرى. فقيام الأنبياء بتركيب المصطلحات والأفكار (القوالب الذهنية العامة الدارجة والمهيمنة على وجهة النظر العالمية في تلك الأزمان) التي استخدموها، ليحققوا وثباتهم نحو مرحلة أرقى؛ إنما يفيد باكتسابهم النبوة. وبقدر انقطاعهم عن الميثولوجيا والدين العبودي الرسمي، أدوا دوراً اجتماعياً وتحررياً. لا شك أنه – مثلما شوهد بكثرة في كل مرحلة – وكما حصلت الانقطاعات الراديكالية عن النظام السائد، فالوفاق أيضاً معه أمر وارد.
ما هو منتَظَر من التاريخ السوسيولوجي للدين، هو تحليل كل نبي – المهمون منهم – ضمن الوسط الثقافي للمرحلة التي عاش فيها، وبالأخص بجوانبه الذهنية والسلطوية والاجتماعية والاقتصادية. وسيكتسب سرد التاريخ بموجب ذلك تكاملاً مهماً. فإخراج هذا التاريخ من كونه مجرد حكايات عن السلطنة والبطولة (نهب الغنائم)، سيفضي إلى كتابة تاريخ أكثر واقعية، ذي أبعاد اجتماعية وشعبية وإثنية. وبهذا الشكل ستكتسب الجدالات الدائرة حول العلمانية في راهننا معناها. علاوة على أنه من الواجب الإدراك الحسَن لمسألة: فيمَ خدَم مئات الآلاف من الكوادر والميزانيات.
ستستمر مرحلة مشابهة في فاعليتها في إمبراطورية روما. فالتيارات الدينية ذات التوعية الاجتماعية في الداخل، والحركات البدوية ذات النوعية الإثنية في الخارج، ستحيط بقوة السلطة القتالية المعروفة بأنها الأعظم تكاثفاً حتى تلك المرحلة من التاريخ، وستحاصرها منذ نشوئها (50ق.م - 0م). والمسيحية، في مراحل نشوئها وتطورها، هي حركة حزب مؤلف من الفقراء (القبيلة، العائلة وغيرها من الاتحادات النَّسَبية)، ويتسم بالكونية من كافة الزوايا، بقدر روما على الأقل. إنه أول حزب كوني للفقراء، ذي نوعية اجتماعية. وكيفما استنفرت روما جناحها الخفي بشكل أعظمي، كقوة عظمى للسلطة القتالية في تلك المرحلة، فإن الديانة المسيحية أيضاً حذت حذوها في استنفارها حركة الفقراء. وسنشهد تكاثفاً طبقياً شبيهاً في المرحلة الرأسمالية أيضاً. فبنية الدولة الأكثر قمعاً واستعماراً، وبنى الكادحين الأكثر متانة وتماسكاً، ليستا إلا امتداداً للثنائية الدياليكتيكية.
لكلا التيارَين تاريخ مديد من التعرض للكبت الحاد الذي مقاوماتهما تجاه روما. يجب اعتبار النظرة إلى التاريخ على أنه حكاية إمبراطورية روما فقط، بأنها تحريف وتضليل على يد المؤرخ الرسمي، لا غير. فكما أن قوة السلطة القتالية المتراكمة كالكرة النارية والكرة الثلجية، هي مختزل التاريخ القمعي والاستعمارين فالإثنية البدوية والتيارات الاجتماعية والدينية أيضاً، هي خلاصة المشاعية، وبنفس النسبة. لم يدوَّن تاريخ الشعوب بالثقل اللازم، كواقع اجتماعي وإثني. ولربما كان الدور الأكبر لتدوين التاريخ بالسمات الطبقية المهيمنة، هو تحريف الظاهرة المجتمعية، والتغاضي عن عناصرها الأصلية. فالسبيل الأكثر قدرة على الاستيلاء على ذهن الإنسان وسلبه، هو عدم السماح بكتابة التاريخ الحقيقي، بل وتحريفه بشكل شاذ.



#عبدالله_اوجلان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الدفاع عن شعب الفصل الثاني آ- اللب التاريخي للقيم المشاعية و ...
- الدفاع عن شعب الفصل الثاني اللب التاريخي للقيم المشاعية والد ...
- الدفاع عن شعب الفصل الثاني آ - اللب التاريخي للقيم المشاعية ...
- الدفاع عن شعب الفصل الاول / ه- الدولة الراسمالية والمجتمع ال ...
- الدفاع عن الشعب الفصل الاول د- المجتمع الدولتي الاقطاعي ومجت ...
- الدفاع عن شعب الفصل الاول ج- المجتمع الدولتي وتكون المجتمع ا ...
- الدفاع عن شعب-الفصل الاول ب – المجتمع الهرمي الدولتي – ولادة ...
- الدفاع عن شعب -الفصل الاول آ – المجتمع الطبقي
- الدفاع عن شعب -الفصل الاول
- الدفاع عن شعب


المزيد.....




- واشنطن تريد -رؤية تقدم ملموس- في -الأونروا- قبل استئناف تموي ...
- مبعوث أمريكي: خطر المجاعة شديد جدا في غزة خصوصا في الشمال
- بوريل يرحب بتقرير خبراء الأمم المتحدة حول الاتهامات الإسرائي ...
- صحيفة: سلطات فنلندا تؤجل إعداد مشروع القانون حول ترحيل المها ...
- إعادة اعتقال أحد أكثر المجرمين المطلوبين في الإكوادور
- اعتقال نائب وزير الدفاع الروسي للاشتباه في تقاضيه رشوة
- مفوض الأونروا يتحدث للجزيرة عن تقرير لجنة التحقيق وأسباب است ...
- الأردن يحذر من تراجع الدعم الدولي للاجئين السوريين على أراضي ...
- إعدام مُعلمة وابنها الطبيب.. تفاصيل حكاية كتبت برصاص إسرائيل ...
- الأونروا: ما الذي سيتغير بعد تقرير الأمم المتحدة؟


المزيد.....

- سعید بارودو. حیاتي الحزبیة / ابو داستان
- العنصرية في النظرية والممارسة أو حملات مذابح الأنفال في كردس ... / كاظم حبيب
- *الحياة الحزبية السرية في كوردستان – سوريا * *1898- 2008 * / حواس محمود
- افيستا _ الكتاب المقدس للزرداشتيين_ / د. خليل عبدالرحمن
- عفرين نجمة في سماء كردستان - الجزء الأول / بير رستم
- كردستان مستعمرة أم مستعبدة دولية؟ / بير رستم
- الكرد وخارطة الصراعات الإقليمية / بير رستم
- الأحزاب الكردية والصراعات القبلية / بير رستم
- المسألة الكردية ومشروع الأمة الديمقراطية / بير رستم
- الكرد في المعادلات السياسية / بير رستم


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - القضية الكردية - عبدالله اوجلان - الدفاع عن شعب الفصل الثاني آ- اللب التاريخي للقيم المشاعية والديمقراطية في المجتمع 2